رواية عزف السواقي الفصل السادس عشر 16 بقلم عائشة حسين
الــســـــادس عــشــــــر
+
"وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا "
2
انتهى منها فجلس بعيدًا يتأملها، انكمشت تضم ركبتيها لصدرها باكية بحرقة لا تعرف أي من جسدها تستر ولا تملك طاقة للنهوض وستر نفسها، خائرة القوى فاقدة للروح، كل مافيها متهدم تعوي فيه ذئاب الخوف وتسكنه أشباح الضياع، هي الآن خارج جسدها روحها تطوف خارجه تجلس أمامه كما الأطلال، تنظر لانتهاكها بحسرة وتبكي غير مسيطرة على ألمها متمنيةً لو استطاعت الروح أن تمد ذراعها للمساندة لكنها شاخت وهرمت بالوجع وما عادت تقدر حتى على السير وكل ما يمكنها فعله أن تترك الجسد متبرئة منه وتبكيه…
نظراته شخصت بضياع وتوهة، لملمت جسدها بنظرة نادمة وأسف نطقه لسانه الثقيل بإدمانه «أنا آسف يا فيروز»
غطت وجهها وتركته يهذي، مرة يبكي ومرة يعتذر.. يقبّل رأسها وهي خارج حدود الزمن روحها تقف متضرعة أن يرحمها الله من العذاب وتعبر البوابة الفاصلة بين الموت والحياة لعالم آخر.. وكل ما يثبت أنها حيّة بوعيها أنّاتها الخافتة وتوجعاتها.
لم يحصل على استجابة منها فمسح أنفه ونهض مفتشًا عن أموال، بعثر الشقة حتى وجد حقيبتها مزقها من تعجله حتى عثر على ما يريد، تمنت منعه، إيقافه فتلك آخر نقود تمتلكها.. لكنها منفصلة عن العالم تتابع من بعيد ولا تستطيع العودة، روحها ترفض الدخول للجسد من جديد وإنعاشه ليقاوم.. استسلمت وهي تنظر إليه كقطة، سحب ملاءة ورماها فوق جسدها ورحل..
نظرة الشفقة الأخيرة بعينيه التي ألقاها عليها أعادت للجسد قوته، فصرخت بقوة مُجنّدة احبالها الصوتية لصفّ الألم مطالبةً منها الثأر… ظلت مكانها ساعة، اثنان وربما ثلاث تئن وحدها في قبرها الذي حفرته الروح، تتوجع متقلبة… لا تُجيب نداء رجب ولا تسمع صوت جرسٍ في عالمها الخاص..
زحفت بجسدها حتى وصلت للحائط، استندت بظهرها عليه شاكية طالبة العون والمساعدة ولم يبخل الجدار كان سندًا مالت عليه واستمع لشهقاتها بصمت يشاركها المعاناة ويسمع ممتصًا أنينها في جوفه ساترًا ضعفها.
بعد قليل تعكزت عليه حتى وصلت للمرحاض جلست تحت المياه تنتفض فإن غُسل الجسد من آثاره من يغسل الروح من آثامه ، روحها التي أضحت كهفًا مهجورًا تسكنه هوام المشاعر المؤذية، يخشاه الناس وتخشى هي لدغات ساكنيه.
أغلقت المياه ونهضت تجر ساقيها جرًا، سحبت المنشفة وتلحفت بها ثم خرجت، دخلت حجرتها، أبدلت ملابسها وتكومت فوق الفِراش متدثرة تفكر في منفذ ومخرج لها.
منذ لمح يونس الشاب بهيئته الغريبة والمريبة يخرج من شقتها وهو يدور في شقته كالثور، يسب ويلعن في غضب، يذهب ويرن الجرس ليستفسر عما رآه لكنها لاتُجيب، يرسل لها رجب فيعود خائبًا..
رجب الذي رأى مثله الشاب يخرج مُعدلًا ملابسه بما يوحي بشيء مشين أثار في نفسه التقزز.
قال يونس بغضب «جولها تمشي من هِنا»
صمت رجب بتفكير ثم قال «نسألها الأول يا بشمهندز ونسمع منها»
ركل يونس طاولة صغيرة أمامه وقال بغضب لا يلومه عليه رجب فهو يعرفهم جيدًا لن يقبلوا بوضعٍ كهذا هنا «نسمع إيه وتجول إيه؟ هي تمشي ولو الواد دِه جه تاني اتصل بيا»
فجأة فتحت الباب وخطت ناحية شقته بجمود، انتفض متحفزًا خرج لها وأسئلته معلّقة بطرف لسانه وقف أمامها لم يستطع تخطي هيئتها التي أفزعته لوهلة ولا دموعها المتجمدة التي مسحتها فورًا وقال متلعثمًا من هول ما رآه اللحظة «أنتِ يا دكتورة مين الراجل الي جالك دِه؟»
تجاهلت أو لم تسمع قالت «عايزة الأستاذ رؤوف»
صاح بحنق وغيظ من لا مبالاتها ودموعها التي تهبط من عينيها بسرعة مفزعة كأنما لا تشعر بها «كلميني أنا»
كررت كلماتها وهي تمسح خديها وأنفها بعنف موجع «عايزة أشوفه أو أكلمه ضروري»
كرر يونس سؤاله وهو يلكم الباب بقبضته في غضب «أنتِ يا بني آدمه ما تر…»
صرخت في وجهه مستنفذة ومستهلكة، دفعتها في وجهه ليصمت ويكف «جوزي.. جوزي.. ممنوع جوزي يجيلي»
بهتت ملامحه، أغلق فمه وتراجع خطوه مصدومًا يحملق فيها بعدم استيعاب، لكنه سرعان ما تماسك وقال «تمام بس لو هيجي تاني امشي معاه»
استنكرت بحدة «ليه بقا ممنوع؟»
رمقها بنظرة مستخفة مستهينة قبل أن يلكمها بصراحته «عشان جوزك تقريبًا مدمن يا مدام»
ابتسمت باستخفاف فهو مدمن بالفعل لما تقريبًا، قالت وهي تشيح ملتقطةً أنفاسها ماسحةً دموعها بكل عنف «تمام كلامي مع الأستاذ رؤوف هو الي سكني وهو الي يتكلم معايا وأنا دلوقت عايزه أوصلّه»
بصق يونس نظرات الغضب والسخرية في وجهها وهو يضرب الباب بقبضته مما أرجفها فانكمشت بنظرة متوسلة جعلته ينسحب للداخل تاركًا لرجب قيادة الأمر… رجب الذي طمأنها وقال بشفقة «حاضر هكلمه وأجوله إنك عيزاه»
أظهرت ضعفها وحاجتها متحررة من ثقل الإدّعاء «بسرعة يا عم رجب الله يكرمك» توسلته بهزيمة مما جعله يطمئنها بلطف «متجلجيش والله حالًا وهخليه يرد عليكي»
أومأت بصمت منسحبة لشقتها فقال بلطف «هبعتلك أم حامد تونسك»
أخر ما رأى منها قبل أن تغلق الباب كانت نظرة امتنان عميقة.
*********
♡فـــــــي قـــنـــا♡
جاءها قاسم يركض ممسكًا بكيسًا بلاستيكيًا ثقيل الوزن، دخل المنزل بلهفة وحماس عانق أحرفه «غزل... يا غزل»
خرجت من الحجرة مُلبية ندائه في لهفة مماثلة «أيوة يا قاسم»
جلس لاهثًا فجاورته تضمه وتمسح على رأسه برفقٍ وحنو حتى يهدأ وتعود أنفاسه لمعدلها الطبيعي، لكن حماسه غلبه فقال دون صبر و بصوت متقطع «جبتلك طَفْل»
عبست مستفسرة «يعني إيه؟»
مزق قاسم الكيس البلاستيكي كاشفًا عن كنزه الثمين قائلًا «مش عارف عندكم إيه بس اسمه عندنا كِده»
نهض بسرعة وخرج لوالده حيث يقف بعيدًا يوزّع السماد في أرضه،ناداه مستفسرًا «يا أبوي الغريبة بتجولك يعني إيه طَفْل»
ابتسمت غزل التي كانت تستمع لما يُقال ببهجة خاصة، أجابه حامد بنبرة رائقة «يعني عجينة الفخار يا قاسم» عاد إليها قائلًا بنفس لمعة العينين الشغوفة يخبرها «عجينة الفخار»
شمّرت وأمسكت بها قائلة «فهمت جبتها منين بقا وإزاي شيلت دا كله لوحدك؟»
أجابها وهو يتجه ناحية حوض المياه ليملأ زجاجة فارغة «أنا وأبوي روحنا الفخورة»
هزت رأسها وتأففت منزعجة «يوه يعني إيه فخورة؟»
عاد إليها حاملًا زجاجة المياه قاطعته تلك المرة تماضر وخرجت عن صمتها واصفة لها بابتسامة حنون «الجبل الي بيعملوا فيه الزيار والقلل والعلاوي والبُكَل»
تنهدت بيأس وهي تعاود السؤال «يعني إيه علاوي»
عاد حامد وجلس مكانه ملثمًا رأسه، استمع لحوارهم فتدخل فيه مازحًا «يعني أنتِ عرفتي البُكَل فبتسألي عن الباقي؟»
ضحك فشاركته الضحك برقة وقالت «لا بس أهو بحاول قولي أنت بقا يا أبو قاسم»
تنهّد ممسكًا بقلبه كعادته وقال بنبرة تحبها ويستخدمها حين يقصّ على قاسم الحكايا والأساطير، سحبها رويدًا لدفء صوته فاستمعت بإنصاتٍ واستمتاع «الفخورة دِه مكان جنب الجبل ساكن فيه الحريفة الي بيصنعوا الأواني الفخارية بأشكالها المختلفة والمتعددة الي أكيد شوفتيها»
هتفت ببساطة وتلقائية وعينيها تلمع بالحماس «واوووو»
ضحك حامد ضحكة خافتة فحثته برقة «ها وبعدين كمّل»
استعذب الحديث معها فتابع «بيشكلوها وبيحرجوها بعدين في التنّور»
صمتت فقال قاسم محفزًا لها «يلا نعمل أشكال يا غزل»
سألته وهي تعجن بيديها في بساطة «هعمل إيه فكر معايا»
قال قاسم «هعمل حصالة وجمل»
ابتسمت قائلة بنبرة عميقة «هعمل بيت زي بيتكم يا قاسم وأخده معايا»
هتف حامد بكلماته التي لا تفهمها لكنها تترك أثرًا عميقًا في نفسها« بيتنا ميتعملش زيه ولا يتاخد يا غريبة الي عايز بيتنا يمد جذوره فيه»
قالت بإحباط ظنًا من أنه لم يسمعها «ودي أعملها ازاي دي»
تحدثت تماضر تلك المرة قائلة « تدي الأمان والي تملكيه منه تحفظيه جذورك تتمد »
تجاهلت غزل قول السيدة واعتبرته لغزًا كالعادة وواصلت صُنع مجسمات مع قاسم.
في المساء انقطع التيار الكهربائي فخرجوا جميعًا أمام المنزل، جلسوا يتسامرون منتظرين عودته… يصنع لهم حامد أكواب الشاي ويمررها عليهم،
تأخر التيار الكهربائي الليلة فتمددت تماضر أمام عتبة الباب من الداخل وعبود في الخارج
وبقيّ هو وهي وقاسم منتظرين
روحها تدنو من روحه رغم المسافة الفاصلة، الهواء الطازج يرسل له أنفاسها فطرأ عليه أن يسألها،يمد حبل الوصال ويستمع لها «صليتي يا غريبة»
ضحكت ضحكة خافتة وصلته فتعكر مزاجه مندهشًا منها، واختنق بتأويل فعلتها، تبدلت نبرته وجف زهر الرقة فيها «بتضحكي ليه»
فطنت لضيقه فوضحت بلطف كأنما تربت على مزاجه المشاغب دائمًا وتحتويه «بضحك علشان مستغربة، هو في حد هنا مش هيصلي»
سألها وقد سكن ضيقه في موضع بعيد عن نفسه «ليه؟ بنجبرك؟ مكنتيش بتصلي جبل سابج»
تنفست تعبق رئتيها من الهواء موضحة له «كنت بصلي ومش بصلي، من يوم جيت هنا فهمت إن الصلاة للروح دواء، وأنها حب مش فرض ومن غيرها ميزان النفس يختل، حسيت إني مكنتش محتاجة غير أصلي بروحي وقلبي زي جسمي»
هتف بفرحة تركت أثرًا في نبرته «ريحتيني يا غريبة، واطمنت عليكي»
سألته بحيرة اجتاحت نفسها من كلماته «ريحتك؟ واطمنت؟»
فسّر قائلا ببهجة «شوفت جلبك خوفت عليه من الدنيا ودعيتلك يحفظه، والصلاة يا غريبة هتحفظ جلبك»
قالت مبتسمة يلفح بشرتها الهواء «هنا دوقت طعم تاني للعبادة»
قال بلهجة جادة «عارفة هنا إيه يا غريبة»
سألته بإهتمام وجوع لكلماته وتلقي العلم منه «هنا نص الروح التايه يسكن، هنا نصي ونصك الحلو النضيف الي الدنيا مجدرتش عليه ولا يدها طالته،أياكِ تحسبينا ملايكة مبنغلطش ولا معصومين أحنا بنازع بخيرنا شرنا وهنفضل بشر فهمتيني؟ »
أومأت كأنما يراها وهمست بإبتسامة رائقة «فهمتك»
قال بصدق متمنيًا ذلك من كل قلبه «يارب صُح يا غريبة»
همست بما في قلبها ويضيّق عليها ثوب راحتها ورضاها «خايفة لما أمشي نصي التاني يغلب»
ابتسم قائلًا «متخافيش كل حي بيرجع لأصله وأنتِ أصلك زين»
سألته بإهتمام «وأنت نصك التاني بيغلبك؟»
أجاب بفطنه «بيغلب ساعات بس جيتك هِنا هتجدرني عليه العمر»
صاحت بدهشة امتزجت بفرحتها «أنا؟»
قال بغموض«جيتك هدمت حيطان عشت العمر ابنيها، كنك سيل جيه وغرّق الروح وغيّر معالمها ، لو جابلتي نصي التاني فيوم يا غريبة فكريه »
سألته ومازالت في غموض وسحر الليلة وكلماته «بأيه.؟»
أجابها برقة «بإن أجمل عبادة للجلب الرضا »سرى بينهما صمت طويل قطعته بعدما حمحمت برقة «طيب بعد إذنك عايزة أمشي بكرة»
عاتبها بلطف «جوام كِده زهجتي منينا؟»
ابتسمت مُصححة له مقدرة لطفه معها «لا أبدًا أنا حاسة إني تقلت عليكم كتير وطولت هِنا خالص»
لامها بحنان «مين جال؟ بعدين ليكِ كام يوم يعني؟»
أجابته متعجبة من سؤاله «ياااه ليا كتير أسبوعين»
شاكسها بمرح لا يخلو من صدق شعوره« غريبة حسيتهم يومين بينلي محتاج درس في الحساب » ضحك بعدها ضحكة دقت لها طبول قلبها فقالت متأثرة بكلماته «يمكن درس في معرفة الوقت»
ابتسم شارحًا لها بحكمة «كل وجت وله حساب، وجتنا مع الي بنحبهم غير وجتنا مع الي بنكرههم وقتنا واحنا مستنين حاجة بنحبها غير وقت فراق الغاليين كل احساس جوانا له ساعة حسابها غير ودقايقها بنبض من روحنا، وكل حي بيدخل حياتنا له زمنه يا يطول يا يجصر حسب احساس الجلب بيه»
أغمضت عينيها متأثرة بهمسه وكلماته التي تجذبها له وتدهشها، إنها تتخم به اللحظة، روحها مليئة به وبهمسه الرائع وكلماته الجميلة.
همست تؤكد قوله «صح زي ما في ناس أرواحها بوصلة لأقدارنا الجميلة »
أعجبه الوصف والتشبيه فقال «صُح يا غريبة»
صححت له القول تودّ سماع اسمها بنبرته اللحظة في فضول«غزل»
شاكسها مدعيًا الجهل متظاهرًا بالغباء في مكر « مش فاهم دِه اسم ولا صفة»
نهضت مندهشة تؤكد بذهول «دا اسمي قصدي قولي غزل مش غريبة»
قالتها وغادرت في خجل فضحك ضحكة خافتة ونظر للسماء واضعًا كفه موضع قلبه النابض بقوة هامسًا بوله «كنك قصيدة وكل ما فيكِ أبيات غزل»
***********
ذهب حامد إلى بيت رأفة وطرق مناديًا «يا رأفة»
خرج والدها مُجيبًا حين رأى حامد اندفع ناحيته بلهفة مُرحبًا بهذه الزيارة، مدّ كفه فقبض حامد عليها بمودة وربت على ظهره المحني بحنو مقدرًا له ذلك الترحاب والبشاشة..
دخل حامد المنزل البسيط مجليًا حنجرته بحمحمة منبهًا سكان المنزل لدخوله بأدب «يارب يا ساتر»
دخل به الرجل حجرة بسيطة نظيفة ومرتبة، أجلسه وجلس جواره بعدما نادى «الشاي يا بت»
قال حامد «مالوش لزمة أنا جاي اطمن على رأفة»
جلس الرجل جواره مُرحبًا به سعيدًا بقدومه «دا أنت نورتنا والله»
ضرب حامد على صدره شاكرًا له استقباله وكلماته «الله يخليك يا راجل يا طيب البيت منور باصحابه طمني على رأفة مبشوفهاش بجالي كام يوم »
تنهد الرجل بحزن وقال بحسرة وانكسار «وجعت ودراعها اتكسر»
انقبضت ملامح حامد بضيق وقال متأسفًا «لاحول ولاقوة إلا بالله وهي كويسة؟»
أجاب والدها بحزن «بخير الحمدلله»
تأمله حامد بحزن نحيفًا قصير القامة محني الظهر بشقاء، يظهرعلى وجهه البؤس وبعينيه الغائرة ترقد التعاسة ، ويحفر الشقاء على كفيه أخاديدًا وحُفر. ربت حامد على كتفه متأثرًا بحاله وقال «عايز أشوف رأفة»
نادت زوجته فخرج الرجل وأخذ كوبي الشاي منها قدّم واحدًا لحامد فارتشف منه وأثنى عليه حتى لا يشعر الرجل بقليل ما قدّم بل يرفع من شأن ضيافته البسيطة له باستحسانه لمذاقه..
غادر الرجل مستأذنًا له حتى يأتيه برأفة التي انتفضت من على فراشها البسيط حين سمعت ما قاله والدها، ركضت في لهفة لا تنتظر والدها… دخلت الحجرة قائلة بلهفة ومودة لا تشوبها شائبة من رياء «عمي حامد»
اتسعت ابتسامته حين رآها على عتبة الحجرة تلهث، وقف مستقبلًا لها يبادلها المودة بأكثر منها «ازيك يا بابا ألف سلامة عليكي»
اندفعت ناحيته حين انحنى وفتح ذراعيه في دعوة، عانقته شاكرةً فقبّل رأسها قائلًا بأسف «شفاكِ الله وعافاكِ يا بابا»
ابتعدت قائلة «الله يسلمك ياعم حامد»
جلس وأجلسها جواره يمسح على رأسها قائلًا «غبتي عليا ومبجتيش تاجي الحلقة فجيت اطمن عليكي»
قالت بفهم ممتنة له رغم صغر سنها «كتر خيرك يا عم حامد»
سألها باهتمام وهو ينظر لذراعها بأسف
«عاملة إيه؟ وكيف وقعتي؟»
نظرت للباب ولذراعها بتردد قبل أن ترفع نظراتها إليه مُعترفة «موقعتش يا عم حامد»
قطب حامد بشك وقلق مستفسرًا «امال إيه؟»
نظرت للباب تطمئن لعدم مجيء والدها وقالت «كنت سارحة زي كل يوم يا عم حامد والواد موسى أبو رمضان دخل فيا بالمتوسيكل ووقعني وضحّك عليا العيال» زفر حامد مسيطرًا على غضبه مما سمع وقال بهدوء «ليه مجولتيش لأبوكي؟»
أخفضت رأسها وقالت بحرج وحكمة وهبها لها الشقاء رغم صغر سنها «خوفت يتشاكل مع أبوي ولا يعمل فيه حاجة الواد دِه مش زين يا عم ومحدش جادر عليه»
ضمها مُخفيًا حزنه والأسى مما سمعه للتو، حجب عنها شفقته بستائرصُنعت من ابتسامة حنون مراعية وقال «ربك كبير يا بابا سبيها لعمك حامد بعون الله يجدر عليه وعلى أبوه طالما معاه الحق»
قالت رافضة تدخّله «خليك بعيد يا عمي حامد هما بيكرهوك هِنا كلهم»
أخفضت بصرها محرجة معتذرة فمسح على رأسها مطمئنًا لها ببسمته الهادئة الواثقة «أبو الي جابهم كلهم والله ما أسيب حقك خليكي أنتِ وأبوكي بعيد ومتتكلميش وشوفي عمك حامد هيعمل فيه إيه أنا مقدرته وكدّه»
دخل والد رأفة معتذرًا عن تأخره فابتسم حامد ونهض مستأذنًا أمسك الرجل المسن بذراعه رافضًا «والله لتجعد تتعشى معانا»
شكره حامد بلطف ومراعاة لشعوره «الله يخليك واكل متأخر والله يا راجل يا طيب»
رفض الرجل ولم يستجيب لحجته «خليك معانا والله دا احنا زارنا النبي»
شاركت رأفة بلهفة «خليك يا عمي حامد اتعشى معانا»
غمزها حامد واعدًا «هاجي واتعشى بس بعدين»
رحل حامد رغم استياء والد رأفة وحزنه لأنه لم يقبل عزومته، عاد حامد للمنزل وجلس أمامه بصمت مدبرًا أمره يخطط لاصطياد فريسته..
نادته تماضر فدخل محمحمًا مناديًا قاسم ليفسح له الطريق، فهم قاسم مقصده وأغلق الباب على غزل ثم أذن لوالده بالدخول، جلس حامد أمامها في طاعة مقبلًا كفها بحنو، فدعت له وبعدها سألته«متعرفش الخاتم أبو فُص أحمر فين يا حامد؟»
قطب حامد مندهشًا من سؤالها وقال «لاه يا خالة بس هو كان مكانه زي ما بتحطيه»
قالت تماضر بتعجب شديد تشاركه حيرتها في الأمر «لا مجاعدش دخلت دورت عليه لجيت الكيس فاضي»
ثم أخرجته من جيب جلبابها الأسود قائلة «اهو يا ولدي»
صمت حامد يتأمل الكيس القماشي الفارغ بدهشة قائلًا « مش عارف والله»
وجّه سؤاله لقاسم «مشفتوش يا قاسم»
أجاب قاسم بصدق متبرئًا من الأمر كله«لاه أنا مبفتحش ضرفة جدتي خالص»
قال حامد ببعض القلق الذي اعتراه اللحظة«خير بإذن الله تلاجي اتنتر هِنا ولا هِنا لما تاجي الصبح أم جمال تدوّر عليه »
تنهدت تماضر قائلة بإحباط «دورت يا ولدي كتير ملجيتهوش جولت يمكن معاك»
قال حامد بإنشغال «لاه يا خالة ربنا يرد ضالتك»
جلس معهما قليلًا منشغل البال ثم غادر متعللًا بعمل مفاجيء واعدًا لهم بالعودة صباحًا بعدما وصى قاسم بغلق الباب جيدًا وعدم الخروج من المنزل.
انشغلت غزل بما سمعت، ذبلت ابتسامتها وسقطت من فوق فروع الثقة، الجميع تبرأ من سبب اختفاء خاتم الخالة ولم يبقَ غيرها؟ هل سيوجهون لها اتهامًا بسرقته؟ وإن لم يفعلوا، وهذا ما تتأكد منه لكن الشك من ناحيتها سينهشهم، تمددت فوق الفِراش بصمت تتقلب عليه مُفكرة تستمع لقاسم بنصف وعي وتحدثه بفكر ناقص حتى نام..
فقررت أن تغادر قبل أن ترى الشك في نظراتهم أو تتشوه المودة الموصولة بينهم، لن تتحمل اتهامًا لا يُنطق وحرج ستسببه لهم إن صمتوا متغاضين سترحل بما نالت من عطف واضعة الأيام التي قضتها في خزانة أسرارها وصندوق ذكرياتها الثمين.
سحبت حقيبتها الصغيرة ووقفت أمام قاسم متأملة بحنو قبل أن تنحني مقبلة خده وترحل متسللة، فتحت الباب ببطء ثم أخرجت حقيبتها ونفسها بعدها أغلقت الباب خلفها بهدوء، وقفت قليلًا مترددة تخشى الرحيل وتهاب الموقف
قلبها ينبض بقوة رافضًا أن تترك قاسم دون وداع حار ، لكن ماذا عليها أن تفعل..؟ تنهدت باستسلام بعدما ودعت المنزل بنظراتها وسحبت حقيبتها خلفها توقفت مرتعدة على صوته الساخر «لاه متودعيش لسه»
وقف لها في الظلام حائلًا مانعًا عاقد الذراعين في هدوء وصبر، شهقت متفاجئة به،وبحصاره تراجعت خطوة مرتبكة
«كنت عارف هتعمليها وإن دماغك هتودي وتجيب فرجعت ووجفت مستني مخيبتيش ظني فيكِ يا غريبة»
أجابت بتلعثم وتوتر « أنا......بس...
هتف بحدة غير راضيًا عن فعلتها « ارجعي على البيت يا بت الناس دِه مش وجت تتسحبي فيه زي الحرامية ولا أنتِ » كان يقصد القول ليعلمها أن تنبأ بفعلتها وأسبابها
أوضحت رافضة الإستجابة لأوامره «لأ همشي..»
قال بحدّة غلبته«لاه ؟»
تركت حقيبتها وقالت بصدق « أنا مخدتش خاتم الخالة»
قال بتفهم مدثرًا لها بحنانه «عارف وعارف إنك هتفكري كِده فرجعت تاني»
قالت بصراحة شديدة «خوفت تتهموني أو تشكوا فيا أنا عايزة الحلو الي بينا يفضل فقررت أمشي»
ابتسم من خلف لثامه مُثنيًا مُعجبًا «صريحة أنتِ يا غريبة»
ابتلعت ريقها وقالت «أكتر حاجة بكرهها الكدب وأكتر حاجة بحبها الصراحة»
ابتسم قائلًا «طيب وأنا صريح معاكي أنا مشكيتش فيكِ خالص والخالة متأكد برضو منها»
رفعت نظراتها لاعنة الظلام الذي يحجب عنها عيناه اللحظة كما يحجب اللثام ملامحه «ليه»
مازحها قائلًا بلطف «تصدقي معرفش لما أعرف هجولك أكيد»
ابتسمت تجاريه في مزاحة «طيب لو مكنتش موجودة لما تعرف»
قال برقة «هبعتلك مرسال»
ضحكت ضحكة خافتة سلبت لُبه فاشار له معاتبًا «ارجعي يلا قاسم لو كان صحي ملجكيش كان هيزعل بالخصوص لإني موصيه عليكي يرضيكي يزعل؟»
ضحكت بنعومة قائلة وهي تسير ناحية المنزل تاركةً حقيبتها التي حملها هو «لا ميرضنيش»
دخلت فوضع الحقيبة على عتبة المنزل مستفسرًا «مجولتليش جاية لبيت الحفناوي ليه يا غريبة»
أجابته بعدما فكرت وترددت «جاية لطاهر»
سأل بفضول « ليه؟» حمحم مدركًا خطأه وقال مبررًا اندفاعه «في حاجة نخدمك فيها؟»
تنهدت قائلة «مظلمة عند رؤوف الحفناوي وطاهر بس الي يقدر يساعدني لإنه يعرفه»
ردد بدهشة وفضول شديد«زعّلك فإيه رؤوف الحفناوي عشان تيجي لطاهر يتوسطلك عنده؟»
صمتت محتفظة بالرد لنفسها في حرج ثم بررت صمتها معتذرة متهربة منه «موضوع، بعد إذنك هروح أنام»
ودعها متفهمًا موصيًا لها «اجفلي الباب وراكي زين»
همست بطاعة «حاضر»
غادر كما جاء، رحل مُقلبًا كلماتها فوق موقد الفضول.
***************
جاء علاء حاملًا الحقائب الكثيرة المليئة بالطعام والهدايا، لن يتركها حتى تهدأ وتنسى ما حدث، سيطرق على حديدها وهو ساخن ليحصل على انفعال منها يثير الشكوك حين تراه، استقبله مؤمن ببعض الدهشة والإعتراض لكنه استقبله بترحاب وأدخله
جلس علاء مفتشًا بنظراته المكان متأملًا ما حوله من بساطة ثم قال وهو يعود بنظراته لمؤمن الذي ضاق بتلك الزيارة والنظرات «من ساعة ما رجعت مجيتش زورتكم ولا مرة فقولت أجي أزوركم وأطمن على هدى بقالها يومين مجاتش»
امتقع وجه مؤمن من القول المرفق بنظرة دوت في عقله كدوي الرصاص وسقطت في قلبه كحجرًا ثقيلًا... لكنه رحّب به بشجاعة من أقبل على الموت بعدما حاصرته المصائب وتبرأت منه الدنيا «نورت»
قال علاء بابتسامة ماكرة ونظرة حاقدة لا تفتأ تذكر ما رأته منها والتهمه بجوع ثم هام يبحث «بنورك... أمال فين أم عبدالله وعبدالله»
تلاعب مؤمن بعكازه قبل أن يخبره بكراهية بدأت التسلل مع الأنفاس «نايمة»
لكن صوتها وسؤالها كشف كذبه «مؤمن فينك مين بره»
أجاب وهو ينظر لعينا علاء بثبات «عندنا ضيف يا أم عبدالله تعالي»
تهيأت مرتدية الملابس المناسبة ورمت فوق رأسها خمارًا كبيرًا واسعًا غطى نصف جسدها وخرجت تستقبل ضيوفها، ما إن رأته أمامها بابتسامته الباردة ونظراته البغيضة حتى ارتجفت وانحسرت ابتسامتها قبل أن يلملم باقيها القلق، قالت بخفوت كمن أُجبر على القول دون حيلة «أهلًا وسهلًا»
نهض مادًا كفه ينظر إليها بوقاحة مفتشًا عما رآها أمس منها، نظرت لزوجها في حيرة قبل أن تحسمها وتجلس قائلة بابتسامة باردة «مبسلمش»
أعاد كفه هازًا رأسه متظاهرًا بالثبات وداخله يغلي، ابتسامته المتألقة تعدها بالمزيد من الرد، تجاهلتها وجلست جوار زوجها ملتصقة به غير العادة.. سأل علاء وهو ينظر لساق مؤمن بشفقة كاذبة
«بتابع يا مؤمن عند دكتور ولا إيه؟»
أجاب مؤمن وهو يطرق الأرض بعكازه شاهرًا بوجهه ابتسامة مجاملة «أيوة الحمدلله»
سأله علاء وهو يجاهد حتى لا ينظر إليها «طيب وإيه آخر التطورات في العلاج؟»
زفرت هدى بملل جذب انتباه زوجها وقالت بنفاذ صبر ليقصر علاء في القول «تشرب إيه يا علاء؟»
تصنع الشفقة بملامحه والمراعاة وسارع قائلًا «مفيش داعي أكلفكم والله أنا صاحب بيت مش ضيف»
رمقته هدى بنظرة مستهجنة وهي تنهض في عزم قائلة «لا اطمن عندنا كل حاجة أنت بس اطلب»
حكّ علاء لحيته مخبئًا ابتسامته الخبيثة وقال والنظرات بينهما سجالا «ما أنتِ عارفة أنا بحب الشاي خفيف»
وجِم مؤمن بحزن فسارعت قائلة «مين جال إني عارفة بيتهيألك»
ابتسم علاء والمشاكسة تروقه قال ببرود مستفزًا «طيب أنا بيتهيألي إنك بتعملي شاي حلو ومظبوط ضايفيني بيه بقا»
خرجت تكتم زفرة حارقة أطلقتها ما إن وطأت أرض مطبخها، بعد قليل عادت بالشاي ووضعته وهو يعرض على زوجها «لو تحب هات الإشاعات والتقارير أعرضهم على دكاترة ونشوف رأيهم»
قالت هدى بحدة واضحة «مؤمن متابع مع دكتور كبير وماشي على نظام معين واحنا مرتاحين معاه شكرًا ليك»
جلست جوار زوجها فقال علاء وهو ينهض «تمام بس لو احتجتوا حاجة متتكسفوش»
أشاحت متجاهلة قوله مستهينة بعرضه السخي المقدم على طبقٍ قذر، فتطوّع مؤمن بالرد «شكرًا ليك يا علاء»
ودعته بزفرات كثيرة مستاءة فتوقف مقررًا إيذائها، نظر لعيني مؤمن بتهكم ثم مال وهمس لها بملامح مرسومة بإنزعاج كاذب وندم مصطنع ،همس حرص أن لا يصل لمؤمن حتى يسألها فيما بعد «عارف إنك زعلانة مني متزعليش من الي حصل امبارح مفيهاش حاجة يا هدهد ما أنا ياما شوفتك وأنتِ صغيرة ولا نسيتي»
حافظت على ثباتها كاتمة شهقاتها مشهرة في وجهه نظرات حادة تطعن.. هز لها حاجبه علامة الاستمتاع والتلذذ برد فعلها وغادر بعدما رفع كفه وقال «مع السلامة يا أبو عبد الله»
وقفت مكانها متصلبة لا تستطيع الحراك، لو استدارت لسألها زوجها ولو ظلت مكانها للاحظ ما يحدث وحينها لا تعرف ماذا ستقول له، هل يمكنها البوح بما قيل وحدث؟ يكفيه معاناته الخفية عنها والتي يحتفظ بها لنفسه لكنها تقرأها في سطور نظراته، يكفيه عذابه الداخلي وقلة الحيلة التي وشم نفسه بها فلا ينقصه عجزًا وهمًّا آخر... طرقات الباب أنقذتها فاندفعت ترحب بالقادم الذي أنقذها، حين رأته تهللت وضحكت ضحكة خافتة وهي تستقبله بحفاوة «أستاذ رؤوف يا مرحب»
انكشفت غُمة مؤمن حين نظرت إليه زوجته وأنبأته «الأستاذ رؤوف يا مؤمن»
سُرّ رؤوف بذلك الترحاب وتلك المقابلة فغض بصره وسلّم «ازيك يا أم عبدالله وأخبار مؤمن وعبدالله إيه؟»
أدخلته هدى حيث يجلس زوجها الذي تبدل حاله وتحول عبوسه لابتسامة واسعة.
عاد علاء لمنزل خاله يهز رأسه طربًا واستمتاعًا بما حققه اليوم من نصر وإن كان صغير، جلس بالقرب من آيات قائلًا «عاملة ايه؟»
أجابت بقهر وهي تنظر لذراعها المضمدة «زفت» فتح علاء هاتفه وأشهره في وجهها مستفسرًا «دا رؤوف جوزك»
نظرت إلى شاشة الهاتف نظرة غائمة بالحقد وهي تؤكد بامتعاض ونفور «هو زفت شوفته فين؟»
أجابها «كان داخل عند هدى فشبهت عليه وصورته»
لوت فمها قائلة بضيق «هدى وجوزها بيحبوه جدًا وهو بيزورهم وبيسأل عنهم»
عاتبها علاء بسخرية «رؤوف طيب اهو أمال إيه؟»
سخرت من قوله واستنكرته «طيب؟»
ضحك علاء قائلًا «لمصلحتك الود بينه وبين هدى وجوزها يفضل موصول ومينقطعش؟»
سألته بتأفف ملول «إزاي يعني وهما الي خربوها؟»
ابتسم قائلًا «وهما برضو الي هيقدروا يصلحوها طالما رؤوف بيثق فيهم وبيعزهم»
******************
اقترب من المنزل يترنح تعبًا يكتم جرح رأسه بشاله المصبوغ بالدماء، جلس أرضًا في تعب.. خرج قاسم له كعادته لكنه فزع من رؤيته شاحبًا الدماء ترسم فوق ملامحه خريطة ألم، صرخ في انفعال وهو يطوقه في خوف «أبوي»
ضمه حامد مهدئًا له «متخافش يا قاسم مفيش حاجة؟»
تأمله قاسم وهو يمسح عن وجهه الدماء «مالك يا أبوي وإيه الدم دِه؟»
ضغط حامد جرحه وألمه حتى لا يخرج تأوهه فيثير فزع الصغير أكثر «مفيش بسيطة الحمدلله»
وقفت خلف الباب تستمع لصرخات الصغير وتساؤلاته بقلق ، تفرك أناملها بتوتر وهي تتحرك باضطراب متمنية لو تخرج وتعرف سبب الفزع المسيطر وبكاء الصغير وتلك الدماء التي يتكلم عنها.
نظرت لتماضر التي استيقظت تسأل «حامد جه؟»
أخبرتها بلهفة «أيوة بره»
نهضت تماضر متعكزة على عصاها الغليظة منادية بلهفة «حامد»
أجاب خالته بوهن لأول مرة تحسه يعانق نبرته، شعرت بالضغط الشديد من مشاعرها فهرولت للحجرة ودخلتها مغلقة خلفها نائية بنفسها عن كل شيء.
خرجت تماضر مستفسرة وهي تجلس جواره «حصل إيه؟ عملت الي فراسك برضو»
قال حامد بحدّة «من أمن العقاب أساء الأدب ياخاله»
مدّت تماضر كفها وتحسست وجهه فتركها متنهدًا يضم قاسم لصدره
هتفت تماضر بفزع «واه أنت متعور؟»
طمأنها وهي تفرك أناملها مستشعرة لزوجة الدماء في أطرافها التي تفركها الآن «بسيطة»
حثته بقلق «جوم روح للدكتور يا ولدي»
طمأنها بحنو «مفيش حاجة»
شجعه قاسم بخوف لا يترك صدره ولا نظراته المهتزة على وجه أبيه «جوم يا أبوي عشان خاطري»
ابتسم له حامد قائلًا وهو يمسح على رأس ولده «حاضر بس متخافش»
هز قاسم رأسه والخوف يقيد حروفه، نهض حامد ممسكًا بكف صغيره عازمًا على الذهاب للطبيب.
بعد قليل عاد بعدما ضمّد الطبيب جرح رأسه توقف على صوت صغير يناديه استدار فابتسم حين رأى رأفة تركض تجاهه منادية، أشار لها مشفقًا على حالها«بالراحة يا بابا» لكنها واصلت الركض حتى وصلت إليه مندفعة تجاهه، ضمته من خصره باكية فضحك حامد ضحكة خافتة معاتبًا لها بمرح «يا بت بالراحة دمايتي اتصفوا»
مسح حامد على رأسها مهدئًا حتى كفت عن البكاء وابتعدت تستفسر وهي تمسح دموعها بكفها السليمة «أنت كويس يا عم حامد»
ربت على خدها قائلًا بلطف «كويس جوي أنتِ بتبكي ليه؟»
قصّت له ما أصابها من فزع بإمضاء شهقاتها المترددة في صدرها «جالولي ضربت موسى وضربك على راسك فخوفت عليك وجيت جري»
انحنى أمامها قائلًا بثقة يطمئنها بها ويربت بها على ضعفها «متخافيش عمك شديد وربنا بيجويه في الحق»
قالت بندم وهي ترفع نظراتها لرأسه «ياريتني ما حكتلك»
عاتبها بابتسامة لطيفة حنون «أمال تحكي لمين؟»
لثم رأسها وابتعد قائلًا محيطًا كسرتها بقوة عاطفته «متخافيش يا بابا أنا كويس ورنتهولك علجة هينام يحلم بيها»
ضحكت من بين دموعها فلثم رأسها ووقف ممسكًا كفها، عاد بهما هي وقاسم للمنزل وجلس على أريكته المصنوعة من جريد النخل وبجواره رأفة مناديًا «ياخالة»
خرجت تماضر فورًا لتطمئن عليه فقال وهو ينظر لعينا رأفة المتعلقة به «شوية دم فدا لرأفة وأهو زكاة عن الصحة» ضحك فارتج قلب الأخرى التي أغلقت على نفسها منذ رحل جالسة في ركن قاسم منتظرة عطايا القدر من لقاء، وجوده من رؤية، ضحكت مثله وقد عادت روحها ترفرف متعجبة كيف يعشق الإنسان صوتًا ؟ كيف يحيا ويموت من نبرة؟ كيف للحياة أن تعتدل بكلمة وتنقلب بأخرى وكيف لروح أن تكون شمسًا تنير وتدفيء .
نهضت مبتسمة تطالع الزرع الذي تعشق من النافذة حامدةً الله على نجاته وسماعها ضحكات قاسم من جديد.
بعد قليل دخل قاسم بصحبة رأفة، التي ما إن طالعتها غزل حتى فتحت ذراعي قلبها وضمتها بعاطفة لا تنضب ومشاعر أمومة لا تنفد، تبسمت لها في ترحاب مستقبلة لها في حجرات روحها تمنحها ضيافتها من المودة الصادقة ولطف القول ورقة الفعل.
جلست بينها وبين قاسم تحاورهما وتشاكسهما، مشطت لها خصلاتها وصففتها بطريقة محببة وهي تطلق إعجابها «شعرك جميل يا رأفة»
شكرتها الصغيرة بإمتنان فقالت غزل بمحبة خالصة تسرّ القلب «ممكن اديكي هدية؟»
صمتت رأفة مترددة كعادتها فابتسمت غزل وناقشتها بلطف «احنا مش بقينا أصحاب؟»
قالت رأفة بقوة «أيوة»
قرصت غزل أنف رأفة قائلة بمشاكسة حلوة وضحكة ناعمة «يبقى عادي»
صمتت رأفة فشجعتها غزل وهونت عليها الأمر بمراعاة «أنا هديكي حاجة بحبها وأنت اديني حاجة بتحبيها»
هزت رأفة رأسها بالموافقة أخيرًا فابتهجت غزل وضمتها في حنانٍ ورقة واحتياج، ثم ابتعدت تفتح حقيبتها لتحضر لرأفة هديتها.
عادت ممسكة بمشبك شعرعلى شكل فيونكة كبيرة بيضاء لمعت لها عينا رأفة، وضعتها غزل أعلى خصلات رأفة ثم منحتها طوق بنفس اللون.. ضمتها رأفة شاكرة فأخرجت لها غزل طلاء أظافر بنفس اللون لكن رأفة تراجعت رافضة «مينفعش عشان بصلي»
ترقرقت الدموع بعيني غزل التي صمتت مرتجفة قبل أن تخبرها بتأثر «حطيه وبيتشال بسرعة متخافيش»
طبقت غزل قولها بالفعل وضعت على أنامل رأفة القلقة، وحين جفّ أزالته بسهولة.. ضحكت رأفة قائلة «دا حلو»
نهضت ممسكة به شاكرةً لها في امتنان «شكرًا يا غزل»
قالت غزل «هستناكي بكره متتأخريش»
أومأت رأفة وخرجت راحلة، لاحظ حامد التغيرات التي طرأت عليها وتصفيفة شعرها الرقيقة وزينته فابتسم وزادت بهجته.. لم يسأل لكن رأفة أخبرته بالهدية في فرحة أسعدته وامتن لقلب غزل الذي رسم البهجة على ملامح رأفة.
ودّعته ورحلت فظلّ مكانه حتى جاء عبود وجاوره في صمت.
********
فـــي الـــــقـــــاهــرة
أجاب مرتضى بصوت خشن صديء بالتعب والإرهاق «الوو مين؟»
ابتسم رؤوف وأجابه بهدوء «لحجت تنسى صوتي دا أنا حتى كنت بزورك»
امتقع وجه مرتضى وأجاب بغضب وسخط «عايز إيه يا ابن ال….»
ضحك رؤوف قائلًا «اغلط يا مرتضى كتييير متسبش فنفسك حاجة»
زفر مرتضى فتابع رؤوف «متفتكرش إنها خلصت كده، طلعتك بكفالة عشان اللعب هيحلو وعشان تجوزني يا عمي»
سخر منه مرتضى بثقة «وفين العروسة؟»
أجابه رؤوف باستمتاع «دول عروستين يا حبيبي»
ارتبك مرتضى واختل توازن أفكاره فسقطت متناثرة، صمت برهبة جعلت رؤوف يتابع «هرّبت صفوة عند أمها وأنا سبتها بمزاجي لغاية ما تطلع يا حمايا أصلي خوفت مرتي تجعد لوحدها والتانية هعرف أوصلها وأجيبها... فاكر يونس يا مرتضى بجى مهندس ويعجبك والله، هنجوزه التانية لو مش متجوزة»
سبّه مرتضى بسبّة بذيئة فصرخ رؤوف فيه قائلًا «هجطعهولك لسانك دِه»
أنهى مرتضى الاتصال وسارع بمهاتفة صفوة التي أجابت بلهفة «بابا»
سألها بقلق «غزل رجعت من سفرها؟»
ابتلعت ريقها وأجابت بتوتر «لا يا بابا»
سألها مرتضى «برن عليها مبتردش»
عضت صفوة شفتيها وصمتت مترددة مضطربة بخوف قبل أن تصارحه «أخر مرة كلمتها كانت رايحة قنا»
صرخ فيها بصدمة «قنا؟ ليه قنا..؟»
اعتذرت قائلة بأسف «كانت رايحة لواحد اسمه طاهر يعرف رؤوف فكانت عايزة تعرف سبب العداوة وتحاول تحلها»
زعق مرتضى بصوت أرجفها«ومين قال لغزل الي حصل؟ أنا مش نبهتك متحكيلهاش هي مش ناقصة»
قالت من بين شهقات بكائها واعتذاراتها «أنا آسفة يا بابا من خوفي حكتلها وهي صممت تنزل من رحلتها على قنا»
سألها بانكسار «وهي فين دلوقت؟ عند مين؟»
أجابته بحذر وصوت خافت بالكاد خرج من سيطرة ضعفها وخوفها «بقالي 15يوم معرفش عنها حاجة ولا بترد على تليفونات»
انهار أرضًا بصدمة عاجزًا عن النطق يستوعب الكارثة التي حلّت فوق رأسه وكيف سينقذ ابنته من براثن ابن الحفناوي الثائر...
قال مرتضى «قولي لأمك ترجع بيكي السعودية لغاية ما أشوف غزل مش عايز مصايب تانية»
همست بضعف خوفًا من غضبه «مش همشي غير لما أطمن على غزل»
أنهى الاتصال محترقًا بهواجسه يزأر من طعنة الغدر، يدور محطمًا ما حوله لاعنًا متوعدًا.
بمكتب رؤوف كان يستمع لأخبار رامز بهدوء « المكان الي ساكنين فيه مبقالهمش فيه فترة كبيرة، ملهمش علاقة بالجيران.. بس قالوا في بنتين..»
سأله رؤوف وهو يطرق فوق مكتبه «البنت التانية سافرت فين ومتجوزة ولا لا؟»
أجابه رامز «المعلومات البسيطة بتقول إنها مخطوبة بس دا الي قدرت أوصله »
شكره رؤوف على مجهوده قائلًا «شكرًا يا رامز تعبتك هعرف أجيب الباقي من سجلات الحكومة»
أجاب رامز بمحبة «ولا يهمك يا بوص في الخدمة» تحرك رامز للخروج لكنه توقف ضاربًا جبهته واستدار قائلًا «في واحدة بره بقالها كتير مستنية وعايزة تقابلك»
اعتدل رؤوف مستفسرًا «مين دي...؟»
أجابه رامز «معرفش بس لمياء مذنباها بره وبتحقق معاها»
تأفف رؤوف وصرفه في ضيق «خلاص دخلها»
ما إن أخبرها رامز حتى نهضت متهللة وتحركت بحماس وأمل تاركة من خلفها سؤال لمياء الفضولي «مين دي يا رامز؟»
أجابها رامز بامتعاض «مش سألتيها؟»
أجابت وهي تتابعها بنظراتها حتى دخلت «مقالتش»
هز رامز كتفه قائلًا «وأنا مقالتليش»
غادر رامز وتركها تتميز غيظًا وحنقًا.
دخلت حجرة المكتب فنهض رؤوف مستقبلًا لها بترحاب شديد «دكتورة فيروز يا أهلا وسهلا»
جلست أمام مكتبه فعاتبها بلطف وهو يغض بصره عنها «مقولتيش اسمك ليه للسكرتارية تبلغني بيه»
ابتسمت بوهن قبل أن تنزع نظارتها الشمسية وتجيبه «مفيش مشكلة»
سألها رؤوف «تحبي تشربي إيه؟»
أجابته بضعف «مش جايه أشرب أنا جايه علشان الموضوع الي كلمت حضرتك عليه»
أجابها رؤوف بهدوء وصبر «وأنا جولتلك يا دكتورة عم حضرتك عميل عندي وصاني أشوفلك شقة في مكان كويس وتكون أمان، عايزاني ازاي اتدخل فمشاكلكم العائلية وبأي صفة؟»
هتفت بحدة موضحة لها بألم وكل عظامها تئن وجعًا «مش هتتدخل أنا زبونة وجاية أرفع قضية»
وضّح لها رؤوف بهدوء « معلش أنا مبقبلش قضايا خلع.. أتمنى تحلي المشاكل بشكل ودي»
توسلته بدموع وهزيمة ساحقة «ودي إيه؟أنت مش شايف وشي؟أرجوك أنا مقدرش أثق فحد غيرك»
لانت ملامحه بأسف حقيقي فقال مشفقًا «الي أقدر أساعدك بيه إني أبعتك لحد شاطر»
نهضت مرتدية نظارتها تخفي دموعها خلفها قائلة «لا شكرًا عن إذنك»
نهض قائلًا ببعض الندم والحيرة«اقعدي بس يا دكتورة نتكلم»
قالت بعناد «لا يا اقعد و تساعدني وتجبلي حقي منه ومن ابنه يا أمشي وانسى الي طلبته من حضرتك »
صمت مطبقًا شفتيه ففهمت جوابه النهائي وغادرت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في قـــنـــــا
وقف زين أمامه صامتًا بحيرة لا يطاوعه لسانه على قول الحقيقة التي قد تهدم ما يُبنى في قلب صديقه من مشاعر، حثه حامد بنفاذ صبر «جايبني على ملا وشي ليه؟»
منحه زين حقيبة صغيرة جلدية بصمت فتناولها حامد وقلّبها بين كفيه مستفسرًا «إيه دِه»صمت زين ففتحها حامد وأخرج ما بها من أوراق وبطاقة هوية، رفعها أمام نظراته؛ ليقرأ الاسم.. توسعت عيناه على الصورة غير مصدق قبل أن يرفع نظراته لصديقه مطالبًا بتفسير وقد أربكت الصدمة أفكاره، سأله زين وكان يعرف الحقيقة وإجابة سؤاله الذي قرأ إجابته في نظرات صديقه المصدومة «هي؟»
صمت حامد وأفكاره تسافر لجهة أخرى يردد محمومًا بالمفاجآة مستنكرًا وهويتها سلاحًا صوّب لقلبه « غزل بت مرتضى؟»
رفع نظراته لصديقه يهذي «الي فبيتي دي بت مرتضى... مرتضي»
قالها وهو يترنح بعدما بعثرته الصدمة ، تحرك واستند بظهره على جذع الشجرة العتيقة يستمد من صمودها القوة وهو ينطق «الي مع ولدي دلوك وحبها وحبته بت مرتضى»
ابتلع زين ريقه وقال بصدمة مماثلة «تخيل شوفت النصيب؟»
استدار حامد يضرب بقبضته على جذع الشجرة، وضع زين كفه فوق كتفه وسأله بهدوء يناقض النظرة المتحفزة في عينيه «ناوي على إيه؟»
أغمض عينيه متنفسًا بقوة ثم فتحها وأخبره «هبعتها عند طاهر»
انتفض زين مزيحًا الستار عن غضبه المكتوم منذ رأى صديقه وقرأ في ملامحه خطوته التالية «نعم! إيه هو الي هبعتها لطاهر»
قال حامد بهدوء ونظراته تسقط من جديد فوق هويتها يتعذب ويجلد ذاته بالحقيقة لئلا يضعف «هي جاية لطاهر ولبيت الحفناوي مجدرش أمنعها»
صاح زين رافضًا هذره بغضب «لا تقدر تحكيلها وتمنعها حتى إنها ترجع لأبوها»
صاح فيه حامد بحنق والقصور التي بناها لها تتهدم «مش هحكي حاجة وهمشيها»
لم يستطع زين السيطرة على غضبه أو كبحه فانفجر فيه دون حساب «متبعتهاش بيت الحفناوي وأنت عارف الي هيحصلها هناك والأذى الي هتتعرضله هناك مش هتتحمل يابني آدم»
استدار يخبيء عن صديقه حزنه وانهياره قال بتماسك «متخصنيش وماليش دخل بيها»
استدار له زين مواجهًا له بقوة«هي ملهاش ذنب يا حامد فالي عمله أبوها خليها معاك، أنت بتقول البنت كويسة اتجوزها هنا معاك تربي قاسم»
أغمض عينيه معتصرًا وقال وهو يضغط على هويتها بين أنامله «أيام مش كافية إني أعرفها يمكن زي أبوها، مش عايز ولدي يتعلق بيها أكتر وبعدها تغدر وتسيبه»
صاح زين بغضب يصفعه بالحقيقة «هو لسه هيتعلق، ابنك ارتبط بيها وهي كمان وأنت يا حامد عايزها فمتسيبهاش»
صرخ فيه كأنما يريد أن يقحم الكلمات في عقله ليرتدع قلبه الذي ينتفض الآن بقهر «مش عايزها همشيها بنت الراجل الي جتل وحرق متلجش بمكاني ولا أرضي ولا تربي ولدي»
تنفس زين بقوة وسيطر على انفعاله قدر المستطاع ثم هتف بصبر موضحًا «ليك فحكايتي عظة يا حامد، مراتي وخالها»
صاح حامد ينفض كلمات زين عن ذهنه رافضًا أن تسيطر عليه «لاه أنا غيرك والبت دي مكانش ليها دخلة لأرضي من الأساس ولا تعفص فيها»
هز زين رأسه بإحباط ويأس قبل أن يضرب على كتف حامد مُحذرًا له «هتندم يا صاحبي وياريت وقتها تقدر تصلح»
أشاح حامد علامة عدم القبول فتابع زين «اعمل الي يريحك يا ابن الناس بس إياك تظلم حد بريء»
************
جاء بوجه غير الذي رحل به، يأكل أطراف ملامحه الهم وتمضغه الحسرة وتلوكه أنياب الفجيعة، جلس تحت النخلة بصمت مُرهق الروح خائر عزيمة الفؤاد يضع كفه على جبهته يستطلع ما حوله بنظرات خالية من الاهتمام والراحة، عبست لأجله ووصمها الحزن، تابعته والقلب يخفق بشعور جديد يتسرب لكيانها ويسري في عروقها، كأن الحزن في قلبها هي يعمّر، تمنت لو خرجت وسألته عن حاله وهمه، أو تضم رأسه لصدرها بحنو غريب وأمنية غريبة مثله، فرؤيته أثارت في قلبها مشاعر عديدة و في النفس الغرائب
عادت للأريكة صامتة تسألها العجوز بقلق «حامد مجاش؟ موعتلهوش يا بتي؟»
صمتت لا تعرف بما تُجيبها ثم قالت بصوت واهن تسرّب من قلبها المُرهق بالمشاعر «شوفته موجود بره تحت النخلة»
قالت العجوزة بوجه خالي من الملامح «وديله يابتي شربة مية على ما أطلعله»
وجدت في طلبها متنفسًا لرغبتها، وقفت تطيعها والنفس هي مَن تأمرها «حاضر يا خالة»
بكوب واسع من الألمونيوم نظيف يبرق مشتهاة للشرب منه، ملأته وخرجت وقفت خلف النخلة وهمست بصوت فقد حيويته «السلام عليكم»
اعتدل يلف شملته على وجهه كما اعتاد، خبأ ملامحه عنها وترك لعينيه منفذ للهرب
«وعليكم السلام»
عصا صوته مكسورة بالحزن، نبرته يكسوها همّ ثقيل، ودّت لو سألته عن حاله عن قلبه وعن روحه المفقوده في بلاد التيه «الخالة قالت أجبلك مية على ما تيجي»
صمت وإن كان يحتاج بعضًا من دفء عينيها، أو بردًا وسلامًا من قربها، نازع بين رغبتين لا غلبة فيها إلا لتيهه وتخبطه، تجرأت وسألته «في حاجة»
أجابها كأنما ينتظر سؤالها ويعدّ العدة له «لاه مفيش أنتِ بخير؟»
أجابت «الحمدلله»
قال بحزم وقد غلبه أمره واستحكم شتات النفس «جهزي نفسك ساعة وهتيجي عربية توصلك مكان ما تحبي»
استنكرت وكان وقع القول في نفسها مُرًا ثقيلًا «همشي»
ارتبك مما وصله وشعر به، نُكّست أعلام البهجة في روحها حدادًا على الفراق الوشيك، بصلابة همست «ممكن ورقة بعنوان المكان هِنا علشان لو فيوم حبيت أزور خالتي»
قال بترحاب «حاضر»
قالت لا تنصر من مشاعرها سوى الشوق الذي يرغب في ملء قدحه من رؤيته حتى حين، ولتصبر على الفراق «ممكن تاخد الميه علشان أروح أجهز»
حرمها الرؤية لشيئًا في نفسه صرخ فأفزعه قال بنبرة منكسرة «سبيها هاخدها»
ترددت قبل أن تتركها وتركض هاربة للمنزل، بعدما سمحت لدموعها أخيرًا بالتحرر من قيد الكبرياء وكيف لا تبكي على هذا الفراغ بقلبها والذي سيزداد اتساعه برحيلها عنه، ستبقى فارغة لا تسد الوجوه حاجتها لرؤية وجهه.
و إنَّ آلُقَلبَ لَيَطِيب بِڪثّرةِ آلُصلَآةِ علَى آلُحَبِيبِ المُصطّفَىٰ ﷺ
اكثرو من الصلاه على الحبيب المصطفى سيدنا محمدﷺ
2
#مراجعة_منة_أحمد
متبخلوش عليا برأيكم يا غاليات ♥♥♥
#انتهى
+

