اخر الروايات

رواية جمر الجليد الجزء الثاني الفصل السادس عشر 16 بقلم شروق مصطفي

رواية جمر الجليد الجزء الثاني الفصل السادس عشر 16 بقلم شروق مصطفي


وأنصهر الجليد
كانت مي تجلس في المكان المخصص للاستقبال بالمركز الطبي الذي يعمل به شقيقها، وإلى جانبها صديقتها أمل، التي لم تكف عن جرّها في الأحاديث. لكن شيئًا ما بداخلها حثّها للنظر إلى نفس المكان الذي يجلس فيه ذلك الشخص، وكأن قلبها تعرّف عليه قبل أن تدركه عيناها. أحست بقوة تعصف بكيانها، وأخذ قلبها ينبض بشدة، فاستجابت لهُ، واتجهت أنظارها نحوه. وضعت يدها تلقائيًا على صدرها، محاولة تهدئة دقات قلبها المتسارعة، وأقنعت نفسها بأنه مجرد وهم، ليس حقيقة.

لكنها توقفت فجأة، تتأكد مما رأت، إنه حقيقي، يقف أمامها، لم يفصل بينهما سوى هذا المكتب وبعض مقاعد الانتظار. لم تصدق شعورها بالفرح لرؤيته بعد كل هذه المدة. فقد علمت بمقابلته لشقيقها ومدى صدقه، لكنها لا تعلم إن كان عليها أن تفرح لرؤيته أم تحزن لهجره المفاجئ لها، دون عتاب، دون محاولات للصلح، كأنها لم تكن يومًا في حياته.

تاهت في أفكارها، وازدادت نظراتها شرودًا عندما رأته يبتسم لها. في عينيه بريق غريب لم تفهمه، ومرت بينهما لحظة فقط قبل أن يمتلئ المكان بالمرضى، ويتكدس الصالة بأجساد كثيرة حجبت الرؤية بينهما فجأة.

حمد الله أنها لم ترَ الدمعة التي فرت من عينيه قبل أن يغادر سريعًا، قبل أن يُكشف أمره...

بحثت عنه بعينيها، رفعت رأسها محاولة العثور عليه، لكن دون فائدة. لم تجده، ولكنها لمحته من الخلف وهو يغادر المكان. اكتسى الحزن ملامح وجهها، وانعزلت عن كل ما حولها. لم تنتبه لأي سؤال موجه لها من قِبَل المرضى، حتى اضطرت صديقتها أمل إلى الحلول محلها في الاستقبال لحين انتهاء الزحام.

نظرت أمل إليها بتعجب وقالت:
— مالِك تايهة كده؟ إنتي كويسة؟ وشّك مخطوف، في حاجة حصلت؟

أفاقت مي من شرودها وقالت بتوهان:
— ها؟ لا، أبدًا، مفيش... حسيت بشوية صداع بس.

أمل لم تصمت، بل واصلت ثرثرتها المعتادة:
— شُفتي المِز مشي مع الزحمة؟ مقعدش كتير المرة دي! مع إنه كل يوم بييجي يقعد ساعتين تلاتة! بس عليه جوز عيون... يا لهوي عليه! أنا حاسة بــ... لا، مش إحساس، ده هو نفس الشخص اللي كان ماشي ورانا يوم ما قلت لك إن في حد بيتبعنا؟ ولا...

شعرت مي بالغيرة تنهش قلبها، فقطعت حديثها بغضب وقالت بصوت مرتفع قليلًا:
— ممكن نركز في شغلنا؟ وبطلي كلام عنه!

نظرت لها أمل باستنكار وقالت:
— أنا غلطانة إني بفضفض معاكِ شوية!

لكنها لم تصمت طويلًا، وسرعان ما انتقلت إلى موضوع آخر، وهي تتفحص خاتمها:
— إلا قولي لي، خطيبك، مش ملاحظة إنه مش بيكلمك؟ إنتو متخاصمين ولا إيه؟ ده حتى ولا مرة جالك وروحتوا سوا! غريبة أوي، مش بتوحشوا بعض؟! ده أنا ومحمد لما كنا مخطوبين، يا سلام! أحلى أيام! وقت الخطوبة أصلًا كنا بنتكلم كل ساعتين، ولولا الشغل كان ممكن يبقى كل نص ساعة! غير إننا كنا بنخرج مرة في الأسبوع على قد ظروفنا، وكان يستناني برا بالساعات لكن بعد الجواز؟! ولا مرة! لو كلمني، يقول لي: "إيه، وصلتي؟ طيب، سلام!" ما يكملش دقيقة حتى...

بينما كانت مي منشغلة بإنهاء عملها، لم تكن تتوقع أن تدخل في هذا الحوار مع أمل، التي بدأت تتحدث معها بعفوية عن علاقتها بخطيبها. كلمات أمل أصابتها في مقتل، فقد كانت تحاول جاهدة إقناع نفسها أن كل شيء على ما يرام، لكنها لم تستطع إنكار الحقيقة التي تواجهها كل يوم.

حينما سألتها أمل عن علاقتها بخطيبها، شعرت مي بارتباك مفاجئ، ثم حاولت أن تتدارك الأمر قائلة بتلعثم:
— ها؟ لا، أبدًا... أصل هو مسافر، وبنتكلم في البيت لما أرجع... آه، بيكلمني كل يوم.

أمل، وقد شعرت ببعض التردد في صوت مي، ابتسمت وهي تحاول طمأنتها:
— طيب كويس، فكرتكم متخاصمين. أنا ومحمد لما كنا بنتخاصم، كان لما يصالحني بيجبلي الشوكولاتات اللي بحبها والورد وكل الحاجات الحلوة، بس بعد الجواز؟ لا شوكولاتات ولا حتى وردة أشمها!

ضحكت مي على حديث أمل، محاولة نسيان ما يشغل بالها، وقالت بمزاح:
— مشكلة يا بنتي والله! كده هتخليني أغير رأيي وماتجوزش طالما كل حاجة بتتغير كده!

أمل ابتسمت بحب، وردّت بدعاء صادق:
— ربنا يباركلكم في حياتكم ويرزقكم الخلف الصالح، يا رب.

— آمين، يا رب، وما يحرمنيش منك. بس بجد، في حاجات بتتغير. قبل الجواز، مفيش مسؤوليات، لكن بعده الأولوية بتكون لفتح البيت وتحمل المسؤولية، بس في النهاية كله بيهون لما بتحسي بالأمان مع اللي بتحبيه.

تنهدت أمل وأكملت بنبرة حالمة:
— بصي، طول ما في مودة وحب وتفاهم، مش هتحسي بأي اختلاف، وحتى لو حسيتي، يكفي إنك تلاقي طبطبة أو كلمة "تسلم إيديكي"، دي عندي بالدنيا. والحق يُقال، حتى لو زعلنا، عمره ما بيعدي علينا يوم واحنا متخاصمين. هو عودني على كده، بيقولي إن لو نمنا زعلانين، الملائكة بتلعن الزوجة قبل ما تنام. لازم نتصالح مهما كان الخلاف. محمد علّمني حاجات كتير، ربنا يباركلي فيه.

ابتسمت مي متأثرة بكلام أمل:
— يا رب، انتي طيبة أوي يا أمل، وتستاهلي كل خير، الطيبون للطيبات فعلًا. يلا بقى، أشوفك وانتي ماسكة تلات عيال، هتعملي إيه؟

ضحكت أمل وهي تمازحها:
— أضحكي لما نشوفك انتي كمان!

لكن مي شردت قليلًا، ثم نطقت بتردد:
— ربنا يسهل...

ثم تابعت بعد لحظة صمت:
— أمل، كنت عاوزة أسألك عن حاجة.

— اسألي، يا حبيبتي.

— الشخص اللي بيجي يقعد هنا بقاله قد إيه بيجي؟ ويمشي لوحده ولا مع حد؟

أمل فكرت قليلًا ثم أجابت:
— بقاله تلات أيام، والنهارده اليوم الرابع. أول يوم ما خدتش بالي، بس اليومين اللي فاتوا لاحظته، كان بيمشي قبل ما نخرج، وحسيت إن في حد ماشي ورانا يومها. والغريب إنه جاي النهارده بدري عن كل مرة!

مي، وهي تحاول فهم الأمر:
— طيب... يعني بيقعد ليه؟

— هو أنا أعرف منين؟!

قاطعتها مي بحزم:
— طيب، يلا نخلص اللي ورانا بسرعة ونقفل الحجوزات قبل ما يبدأ الشفت التاني.

بعد فترة، انتهت مي من دوامها، لكنها فوجئت بأخيها هيثم يأتي ليأخذها معه، وأخبرها بألا تغادر حتى يرحلا سويًا.

غمزت أمل ممازحة:
— أيوه بقى! لقيتلك توصيلة النهاردة وهتسيبني؟

ابتسمت مي وردّت:
— شكله جاي يشوف ماما النهارده، بس غريبة! هيسيب مراته لوحدها؟ ما علينا، خلينا نقفل الحجوزات ونمشي.

وبعد قليل، استقلت السيارة مع هيثم، لكن سرعان ما لاحظت أنه غير مسار الطريق، فتحدثت بدهشة:
— احنا رايحين فين؟ ده مش طريق البيت ولا بيتك!

نظر لها هيثم بهدوء وابتسامة خفيفة على شفتيه، ثم قال:
— حابب أتكلم معاكي، ممكن نقعد في مكان؟

تنهدت مي، وقد بدأت تشعر بما ينوي الحديث عنه:
— كنت كلمتني في البيت، مفيش داعي لأي مكان.

ظل صامتًا حتى وصل إلى وجهته، ثم توقف في ساحة الانتظار. وقبل أن يترجل من السيارة، ناداها:
— مي...

التفتت إليه، وهي تحثه على التحدث:
— عاوز تقول إيه، يا هيثم؟ سمعاك.

تردد هيثم قبل أن يترجل من السيارة، ثم تحدث بجدية وهو ينظر إليها: مي، انتي بنتي قبل ما تكوني أختي الصغيرة. الأب مستحيل يشوف الوحش ويقربه من بنته، بالعكس، لو شوفتِ الخطر قريب منك، أنا بنفسي هقف قصاده وأمنعه من الاقتراب. اللي عايز أوصلهولِك يا مي..."

توقف فجأة وأخرج هاتفه عندما تلقى مكالمة، ثم رد بسرعة: أه، تمام، ماشي، مع السلامة.

أغلق الهاتف ونظر إلى مي بابتسامة خفيفة: يلا نكمل جوه، الجو هنا بقى حر أوي.

كان هناك شعور غامض بداخلها يخبرها أن شيئًا ما سيحدث، لكنها لم تستطع تحديده. استجابت لذلك الشعور بصمت، وترجلت معه من السيارة ودخلا إلى الكافيه...

---

في المنزل، عند عودة وليد دخل مرهقًا بعد يوم عمل طويل، بالكاد أغلق الباب حتى وقفت همسة أمامه بغضب واضح: اتأخرت ليه دا كله؟!

نظر إليها وليد بدهشة، لم يكن يفهم سبب تغير تصرفاتها في الأيام الأخيرة.

وليد باندهاش: يا بنتي، أنا جاي في ميعادي كل يوم!

همسة بذهول واندفاع: بنتك كمان؟! آه، دلوقتي بقت بنتك عشان تخنت كام كيلو! مبقتش أعجبك، صح؟!

حاول وليد أن يجاريها، لقد لاحظ أنها تحولت من الهدوء إلى العصبية المفاجئة هذه الأيام.

بنبرة هادئة محاولًا التهدئة: الله يهديكي، مالك اليومين دول؟ بقيتي بتحبي النكد زي عينيكي!

رفعت حاجبها بسخرية: الله يهديني كمان؟ ليه؟! شايفني بشد في شعري؟ واي نكد ده اللي بتتكلم عنه؟ شايفني ماشية في الشارع بقول 'شكل للبيع' مثلًا؟!

نفد صبره وقرر إنهاء النقاش بسرعة:

وليد بتعب: اخلصي بقى، أنا تعبان وعاوز أنام بجد!

تغير تعبير وجهها فجأة وهي تشم رائحة عطره باشمئزاز.: اف! إيه الريحة دي؟ متحطوش تاني! وحشة أوي!

ثم لاحظت ما كان يحمله في يده، فجأة أمسكت به بعفوية وسحبت الأكياس منه.

همسة بحماس طفولي: إيه ده؟! هات كده، جايبلنا إيه معاك؟ أنا جعانة أوي!

ضحك وليد قليلًا وهو يراقب تغير مزاجها السريع، ثم قالت بحماس:
تعالِ بقى نأكل الأول، وبعدين ننام، لأني حاسة إني عاوزة أنام! مش بنام خالص!

نظر إليها وليد بذهول ساخر:
وليد: "لا والله؟! مش بتنامي خالص؟! أمال مين اللي سيبتها نايمة من الساعة تسعة الصبح، والساعة دلوقتي خمسة العصر؟! والمفاجأة بقى إني كلمتك الساعة تلاتة، رديتي وانتي نايمة، وشكلك أصلاً لسه صاحية!

ضحكت وهي تحاول تغيير الموضوع:
انت مركز معايا أوي ليه كده؟!

اقترب منها فجأة وجذبها بجانبه، وضع كفه بحركة دائرية حول بطنها وابتسم برقة:

وليد: لا كده النونو هيطلع كسلان أوي زي مامته!

تأملت كلامه للحظة ثم قالت بإحساس غريب:
مش عارفة بقى، بحس إني منمتش، وعاوزة أنام كتير! مش بشبع من النوم أصلاً!

ابتسم لها وليد بحنان وسحب مقعدًا وأجلسها برفق، ثم بدأ يفتح الأكياس بينما يتحدث:
وليد: "طيب، يلا نأكل، الأكل سخن وهيعجبِك. السمك اللي بتحبيه، طلبته مخصوص عشانك!

فجأة، وضعت يدها على فمها تلقائيًا، وملامح وجهها تغيرت، ثم ركضت مسرعة إلى المرحاض.

تابعها وليد بسرعة وقلق، وهو يهتف:
هزت رأسها فقط حتى خارت قواها وبدأ جسدها بالاسترخاء، لكنه أمسكها من خصرها قبل أن تسقط، وحملها برفق ثم وضعها في غرفتهم على الفراش. وجدها تُصب عرقًا، فأسرع إلى الخارج وجلب لها عصيرًا طازجًا، ثم ناولها بعضه حتى فتحت عينيها. تحدث وليد بقلق:

— "بقيتي كويسة؟ إيه اللي حصل؟ مش كنتي جعانة؟ وسمك اللي بتحبيه إيه اللي حصل؟"

همست همسة بتعب بدا واضحًا عليها:

— "مش مستحملة ريحته… قلبت معدتي بجد، شيله من بره مش طيقاه بجد."

ثم أدارت وجهها للجهة الأخرى مضيفة بصوت ضعيف:

— "ومش طايقة برفانك كمان…"

نهض الآخر من أمامها متحدثًا:


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close