رواية جارية في ثياب ملكية الفصل الخامس عشر 15 بقلم نرمين نحمد الله
********
+
الفصل الخامس عشر:
+
خرجت إكرام من غرفة عاصم التي أصرت رقية علي ألا تغادرها منذ وفاته لتلتقي بياسين الذي سألها بقلق:
_ألازالت ترفض الطعام؟!
مسحت إكرام دمعها لتقول بكبريائها المعهود:
_بلي...لقد فشلت كل محاولاتي معها....
تنهد ياسين ثم همس بحزن:
_سأحاول معها من جديد.
+
دخل الغرفة بهدوء...
ليروعه منظرها وهي تجلس علي سرير والدها....
تحتضن وسادة عاصم تدفن وجهها فيها ...وجسدها ينتفض بالبكاء....
اقترب منها ببطء ليجلس جوارها هامساً بحنان:
_رقية...
لم ترفع وجهها إليه لكن انتفاضة جسدها هدأت نوعاً فعاد يهمس:
_انظري إلي يا غاليتي.
+
رفعت وجهها إليه ببطء ...
فضم رأسها لصدره كعادته وهو يربت علي شعرها هامساً بحزن لم يفارقه حنانه المعهود:
_هل تذكرين يوم قلتِ لي أن الدعاء أفضل من هذا الانهيار.
عاد جسدها ينتفض وهي تهمس وسط دموعها:
_رغماً عني يا ياسين...لقد كان هو سندي وقوتي في هذه الدنيا ...لم يعد لي سند ...
رفع وجهها إليه وهو يهمس في عتب:
_وأنا يا رقية؟!
+
هزت رأسها في عجز وهي تهمس بشرود وكأنها لم تسمعه:
_كنت أحتاجه...كنت في طريقي إليه...كنت سأرمي همومي كلها علي صدره ثم أنساها في نفس اللحظة...كما كنت أفعل دوماً...لقد رحل في أشد أوقاتي احتياجاً إليه...
+
أغمض عينيه في ألم وهو يشعر بالعجز...
رقية الغالية تشعر بالانكسار بعد وفاة والدها...
كم يتمني لو يستطيع أن يشعرها بالأمان الذي افتقدته...
لو يكون لها سنداً كما كانت هي طوال أيامها معه..
لو يعوضها -ولو بجزء بسيط-بعض ما افتقدته من حنان العزيز الراحل...!!
+
نظر إليها عندما قامت لتقف وهي تهمس مشيرة للغرفة في ألم يمتزج بشرودها:
_هنا كان يعيش أعظم رجل عرفه عالمي...هنا كنت أجد الأمان من كل شرور الدنيا ومخاوفها...هنا كانت رقية الهاشمي القوية التي يعرفها الجميع تبكي بلا خجل علي صدره فيتفهم حزني بلا ملل ولا شكوي...هنا كان يدللني ...يمنحني الثقة ويدفعني لأكون أقوي...يمنحني دعمه وخبرته...ويرقبني بفخر وكأنني أعظم النساء...هنا كبرت أمامه يوماً بيوم وكبر معي إعجابي برجل لم يكن مجرد أب...لكنه صورة مجسدة من كل الصفات التي عشقتها في حياتي....هنا كان يعيش عاصم الهاشمي...هنا كنت أعيش أنا...
+
ثم انهارت في البكاء وهي تضع يدها علي صدرها صارخة في ألم:
_أشعر أني مت يوم مات!
+
انتفض من مكانه وهو يندفع إليها ليحتضن جسدها المنتفض بين ذراعيه وهو يهتف بقلق:
_اهدئي يا رقية...
ظلت تبكي علي صدره وهي تشعر بضعف بالغ...
لم يعد لها أحد...
لقد رحل عاصم...
وسافر بلال...
وياسين...
آه من ياسين!!!
جرح كبريائها الغائر...
ودواؤه!!!!
مرض قلبها المؤلم وشفاؤه...!!!
+
ياسين الذي لازالت تعاني مشاق طريقها الطويل معه...
وهي ليست واثقة في النهاية من نجاح مسعاها...
ليتها كانت تحارب امرأة أخري أو حب قديم...
ربما كان هذا محتملاً...
لكنها تحاربه هو نفسه!!!!
تحارب ضميره الذي يمنعه أن يستمر في الحياة وينسي التي ماتت لأجله!!!
تحارب قلبه الذي تربي بعشقها صغيراً وكبر معها يوماً بيوم !!!
تحارب ماضيه الذي يخنق حاضره ويحرمه حق الحياة!!!
تحارب،كل هذا وحدها...
نعم...الآن وحدها تماماً....!!!
+
رفع وجهها إليه وهو يهمس بحرارة:
_أقسم لكِ يا رقية...أنكِ الآن أغلي ما في حياتي...سأكون دوماً سندك وأمانك...أفتدي دمعكِ هذا بكل عمري!
2
نظرت إليه في تشتت...
رغم حرارة كلماته...
رغم الصدق الذي تنبض به حروفها...
لكن ياسين لم يذكر شيئاً عن الحب!!!
ربما تشعر بحنانه الأصيل الذي لا يتركه أبداً...
تشعر بتفهمه وعطفه مع امتنانه...
لكن يبقي الحب طريقاً آخر لن يسيرا فيه سوياً كما يبدو...!!!
==========================================================================
_أين ساري يا عمتي؟!
هتف بها حذيفة في ضيق وهو واقف أمام باب شقة فريدة التي قالت بحيرة:
_لقد سافرت يا بني...ألم تخبرك عن ذلك؟!
قست ملامحه وهو يسألها بغضب :
_أين سافرت؟!
قالت فريدة في ارتباك وهي تستشعر أن الأمور بينهما ليست علي ما يرام:
_سافرت في رحلة للاسكندرية اليوم مع زملائها في الجامعة.
كز علي أسنانه وهو يسألها:
_متي ؟!
ردت فريدة بقلق:
_لقد ذهبت للجامعة منذ عشر دقائق فقط حيث سيتجمعون هناك....لو كنت جئت مبكراً قليلاً لأدركتها.
+
أخرج هاتفه من جيبه ليتصل بها لكنها أغلقت الاتصال كعادتها منذ بضعة أيام...
بالتحديد منذ تلك الليلة التي التقت فيها بتلك الفتاة التي سممت بكلماتها الحمقاء أفكارها ...
بعدما كاد يقنعها بصدق عواطفه....
زفر بقوة وهو يقول لفريدة بحزم:
_هاتفيها أنتِ يا عمتي....
+
تناولت فريدة هاتفها لتتصل بها...
فردت ساري بهدوء:
_مرحباً يا أمي.
+
كادت فريدة ترد عليها عندما اختطف حذيفة الهاتف من يدها ليقول بحزم يختلط بالقسوة:
_عودي الآن للبيت وإلا فلا أضمن لكِ ما سأفعله!
+
أجفلت ساري عندما سمعت صوته واضطرب قلبها بعنف...
صوته الغاضب القاسي جعلها تتردد قليلاً...
ثم قالت في النهاية:
_ماذا ستفعل لو لم أعد؟!
كز علي أسنانه حتي هيئ إليها أنها سمعت صوت اصطكاكهما وهو يقول بقسوة:
_لقد جربتِ جنوني من قبل...هل تريدين اختباره هذه المرة أيضاً؟!
ازدردت ريقها بتوتر...
ثم لم تجد ما تقوله فأغلقت الاتصال...
تناولت حقيبتها واعتذرت لصديقاتها بسرعة...
ثم عادت إلي المنزل...
لتجده ينتظرها في مدخل البيت وشياطين الغضب تتقافز علي وجهه...
+
أغلقت باب البيت خلفها وتحاشت النظر إليه وهي تقول ببرود:
_ها قد عدت...ماذا تريد؟!
اندفع نحوها ليمسك ذراعها بقسوة هاتفاً:
_هل تتعمدين إثارة جنوني؟!!!
تأوهت بضعف ثم قالت بغضب :
_دع ذراعي...لا تعاملني هكذا...أنا لست جارية عندك...
هزها بعنف وهو يهتف بحدة:
_بل أنتِ كذلك...يبدو أنني أسرفت في تدليلك طوال الفترة السابقة حتي تجاوزت حدودك.
+
دمعت عيناها بقوة لكنها أخذت نفساً عميقاً لتمنع سقوطها علي وجهها....
فيما أردف هو بسخط:
_كيف تسافرين دون علمي؟! وماذا فعلت أنا لكل هذه القطيعة؟!!! أنتِ تعرفين ماضيّ الأسود كله...ووعدتكِ أن أتغير لأجلك...ماذا أفعل لكِ غير ذلك؟!
هتفت بحدة:
_لم أعد أريدك أن تفعل شيئاً...تضحيتك العظيمة بماضيك القذر لا تهمني بعد...يمكنك العودة له لو أردت.
+
قالتها وهي تنفض ذراعها من يده...
لتصعد السلم عدواً نحو شقتها...
فتحت الباب لتعدو نحو غرفتها وتغلق بابها خلفها...
ثم ارتمت علي سريرها تبكي بعنف....
+
ماذا يعرف هذا عن عذابها طيلة الأيام السابقة؟!!!
ماذا يعرف عن كلمات صديقته العابثة التي ذبحتها ذبحا؟!
ماذا يعرف عن نزيف كرامتها قبل قلبها المجروح؟!!!
+
يأتي الآن يتبجح مطالباً بحقوقه عليها؟!!!
أين كان طيلة الأيام السابقة؟!!!
ألم يتذكرها إلا الآن فقط؟!!!
+
قطعت أفكارها عندما سمعت صوت باب غرفتها يفتح بقوة...
رفعت رأسها لتجده هو....
مسحت دموعها بسرعة وهي تشيح بوجهها عنه...
+
بينما تطلع هو لدموعها بعجز وهو لا يدري ماذا يفعل؟!!!
طيلة الأيام السابقة وهو حبيس غرفته يفكر...
كيف يمكنه أن ينسيها ما سمعته تلك الليلة..؟!!!
كيف يمكنه أن يغرس فيها الثقة بحبه لها...؟!!!
كيف يسترضيها ويمنحها الأمان الذي تفتقده؟!!!
+
لكن فعلتها هذا الصباح وسفرها دون علمه أثارت جنونه...
هو حذيفة النجدي...
لا يسمح أن تعامله امرأة بهذا التجاهل والاحتقار!!!
حتي لو كانت ساري التي يحبها الآن من كل قلبه...!!
+
كان بكاؤها قد هدأ نوعاً فوقفت لتعقد ساعديها علي صدرها لتقول ببرود:
_ماذا تريد الآن؟!
ضم قبضته بقوة وهو يقول بغضب مكتوم:
_لم أعد أحتمل طريقتك هذه يا ساري...لم أعد أحتمل معاملتك لي وكأنني طفل معاقَب...
رفعت رأسها لتقول بكبرياء:
_هذا أسلوبي...وهذه طريقتي...احتمله أو....!!!
+
قطعت عبارتها دون أن تكملها...
فاقترب منها ببطء ثم ضيق عينيه وهو يسألها بحذر:
_أو ماذا؟!
+
أشاحت بوجهها دون أن ترد...
فضرب بقبضته علي الجدار جواره بقوة...
ليصطدم بصره بثوبها الوردي الذي اشتراه لها هناك في زاوية الغرفة...
ممزقاً لقطع صغيرة...!!!!
+
تحرك حتي وصل إليه ليلتقط قصاصاته هاتفاً بغضب هادر:
_لماذا فعلتِ هذا؟!
رفعت أنفها تقول بكبرياء:
_إذا كنت تخجل من مظهر "المسترجلة" التي ستتزوجها...فأنا لا أخجل...أنا أحب ملابسي ولن أغيرها.
توجه نحوها ليهتف باستنكار:
_أخجل منك؟! من وضع برأسكِ هذه الفكرة؟!
+
أشاحت بوجهها فعرف فيمَ تفكر...
لابد أنها كلمات تلك الحمقاء التي قذفتها في وجهها تلك الليلة...
+
لوح بكفه وهو يقول بغضب يائس:
_لم أعد أعرف ماذا أفعل معك!!!
التفتت إليه لتقول بتماسك خانها فيه دمعها الذي ملأ عينيها من جديد:
_ولا أنا!!! أنا مزقت ثوبك قطعة قطعة...ولو استطعت أن أفعل هذا بقلبي لفعلت!
+
كاد يرد عليها بحدة عندما حانت منه التفاتة لحاسوبها الذي كان مفتوحاً علي رسالتها لبلال...
توجه نحوه ليقرأ رسالتها إليه ثم نظر نحوها ليهتف بانفعال:
_لماذا تراسلين هذا الرجل بعد؟!
أشاحت بوجهها وهي تقول:
_كنت أعزيه في وفاة والده!
+
اندفع نحوها ليعتصر كتفيها بقبضتيه هاتفاً بقسوة:
_وطبعاً أنتِ الصدر الحنون الذي سيحتوي آلامه...أليس كذلك؟!
عقدت حاجبيها وهي تصرخ بوجهه:
_اخرس...لم يعد سوي أنت الذي يحدثني عن شرفي أنا؟!!! هل تظن الناس كلها مثلك؟!!
+
ازدادت قسوة قبضتيه علي كتفيها وهو يهتف بجنون لم يعد يستطيع السيطرة عليه:
_لقد حاولت تغيير نفسي لأجلكِ لكنكِ لا تستحقين...حسناً يا ساري...مادمتِ ترينني سيئاً علي أي حال فسأعود لما كنت عليه...من الليلة سأعاود الخروج مع رفيقاتي...
ثم اقترب من أذنها ليهمس بصوت مسموم:
_بل سأقضي الليلة مع واحدة بعينها...وأريني ماذا ستفعلين!!
3
أغمضت عينيها بقوة واسترخي جسدها المتشنج تحت قبضتيه العاصرتين لكتفيها ...
وهي تشعر باستسلام غريب...!!!!!!
انتظمت دقات قلبها فجأة بعدما وعت كلماته التي ألقاها حرفاً حرفاً!!!!
الآن يهدأ الصراع بين قلبها وعقلها الذي كان يؤرقها...!
الآن تستريح من تأرجح مشاعرها بين تصديقه وتكذيبه...!!!
1
الآن يعود حذيفة إلي قواعده سالماً...!!!
دون أطياف الحب الذي كان يدعيه...
دون دور العاشق المخلص الذي تقمصه...
دون رداء حنانه وتفهمه الذي خلعه أخيراً...
الآن يتفق قلبها وعقلها معاً...
حذيفة لم يحبني...
ولن يفعل!!!
حذيفة ليس بقادر علي الحب أصلاً!!!
ذنوب ماضيه تطوقه ولا يستطيع الفكاك منها!!!
1
لكنها لا تملك ما تفعله...
هي التي اختارته وستتحمل نتيجة اختيارها...
حتي وهو يظن أنه أجبرها علي اختياره ليلة زفاف جوري بتهديده الحقير لها...
لكن مالا يعلمه هو أنها ما كانت أبداً لتختار بلال الهاشمي أو غيره...
وجوده وحده في أي معادلة مع أي رجل كان سيحسم الأمر لصالحه!!!
+
وقف أمامها بعدما انحسرت موجة غضبه ليدهشه سكون جسدها فجأة تحت قبضتيه...
فتحت عينيها المغمضتين لتهمس بهدوء غريب:
_لن أفعل شيئاً...فافعل أنت ما شئت.
+
قالتها وهي تزيح كفيه من علي كتفيها برفق...
ثم همست وهي تثبت عينيها أمام عينيه بلهجة غريبة:
_فقط أخبرني في كل مرة تمس فيها امرأة غيري...أخبرني فحسب.
+
قالتها وهي تفكر أنها ستصنع من سم خيانته لها ترياقاً تشفي به من حبها المريض له!!!
في كل مرة سيمس فيها امرأة غيرها ستمزق من نسيج عشقه المتين قطعة ...
حتي يتساقط قطعة قطعة...
تماماً كثوبه الوردي!!!
ساعتها ستلقيه -مثل ثوبه-في زاوية قلبها ...
كخرقة بالية!!!!
1
عقد حاجبيه وهو يشعر أنه لا يفهمها...
لا يفهم طلبها الغريب،هذا...
لا يفهم سر سكونها واستسلامها بعدما كان جسدها ينافس لسانها في ثورته!!!
لا يفهم هذا الهدوء العجيب الذي سيطر عليها فجأة بعد تهديده !!!
+
لقد توقع أن تزيدها كلماته ثورة!!!!
أن يحنقها تهديده لها بخيانتها!!!
لم يتوقع أبداً سكينة هدوئها هذا!!!
+
أطرق برأسه للحظات ...
ثم غادر غرفتها بخطوات متثاقلة...
مغلقاً بابها خلفه!!
وكم من الأبواب ستغلق بينهما هذه الليلة!!
==========================================================================
1
وقفت ساري في شرفة غرفتها تنتظر مجيئه...
لقد خرج الليلة كما هددها...
منذ ساعتين...
بالتحديد...منذ مائة وعشرين دقيقة وثلاثين ثانية!!
لا عجب أنها حسبتها بهذه الدقة!!!
فكل ثانية كانت تمر عليها كانت تقتل صبرها ببطء!!!
1
تنهدت في حرارة وهي تغمض عينيها...
تتصوره وهو يلتقي إحدي رفيقاته...
ربما تلك الصهباء الفاتنة التي رأتها معه ذات مرة...
تتخيله وهو يقبل كفها ...
ثم يداعب باطنه بسبابته كما كان يفعل معها...
يعتصرها بين ذراعيه ليلقي في أذنها المزيد من همسه الساحر...
يميل علي شفتيها ما بين قبلات خفيفة كالمطر...
أو عميقة تطالب بالمزيد...!!!!
+
نهرها عقلها عن جلد الذات الذي تمارسه هذا ...
لكنها لم ترتدع...
إنها تريد أن تزيد قسوة عذابها به أكثر...
أن تحرق نفسها بنيرانه بصورة أقوي وأقوي...
حتي يتعلم قلبها درسه جيداً...
فلا يرق -بعد-ولا يلين!!!
1
فتحت عينيها عندما سمعت صوت الباب الخارجي للمنزل يفتح...
لقد عاد...!!!
تقدم نحو مدخل البيت بخطوات بطيئة...
رفع رأسه نحو شرفتها...
لتلتقي عيناهما طويلاً...
في حديث ليس كأي حديث...!!!!
قبل أن تنسحب هي لتعود لغرفتها بهدوء...
+
جلست علي طرف فراشها وهي تتطلع لباب شرفتها الذي تركته مفتوحاً لعله يعبر من شرفته إلي شرفتها كما فعل من قبل..
راهنت نفسها علي أنه سيأتي ليعترف لها بخيانته كما طلبت منه...
حذيفة العنيد لن يضيع هذه الفرصة!!!!
+
ظلت تنظر للشرفة لبضع دقائق أخري...
حتي طال انتظارها كثيراً...
مرت بها الساعة تلو الساعة...
لكنه لم يأتِ!!!
+
تمددت علي فراشها تتطلع للسقف في شرود...
تعال يا حذيفة...!
تعال أخبرني عن ليلتك...!!
تعال واذبحني بكل تفاصيلها حتي أتعلم درسي جيداً...!!!
حتي يفيق قلبي الغافل من أوهامه ويصدق حديث عقلي عنك!!!
+
سالت دموع خائنة علي وجنتيها فمسحتها بسرعة وهي تهمس بصوت مسموع:
_لم يحن بعد أوان الدموع...سنبكي طويلاً لكن ليس الآن...
+
ظلت ترددها وكأنها تهذي بها حتي غلبتها عيناها بالنوم....
لتراه في حلمها...
كأجمل ما يكون...
بطلته التي تأسرها...
بابتسامته التي تذيبها...
بهمسه الذي يعرف طريقه جيداً إلي قلبها!!!
ممسكاً بثوبه الوردي ...ليتقدم نحوها هامساً:
_إنه لكِ...أنا وهو...كلانا لكِ!!!
+
لتبتسم في سعادة وهي تلتقطه منه بلهفة...
فيتحول لون الثوب فجأة إلي الأحمر...ثم إلي الأسود...
ثم لم يعد ثوباً...لقد تحول لأفعي مخيفة برزت أنيابها...
فصرخت بقوة:
_سأمزقه يا حذيفة...سأمزقه يا حذيفة.
+
ظلت تصرخ بها تباعاً حتي انتفضت من نومها فجأة علي صوته جوارها يهمس بقلق:
_ساري...استيقظي..
+
نظرت إليه بفزع وهي لا تزال تحت تأثير الحلم...
+
فضم رأسها لصدره وهو يربت علي شعرها بصمت...
دفعته بكفها في رفق...
وهي تنظر للغرفة حولها بتشتت...
فصب لها كوباً من الماء من الدورق علي الكومود جوار سريرها...
ثم ناوله لها وهو لا يزال علي صمته...!!!
+
تناولته منه لتشرب ثم وضعته علي الكومود...
لتنهض من سريرها وتتوجه للشرفة في شرود...
أخذت نفساً عميقاً تحاول أن تملأ صدرها من نسيم الفجر...
لعله يهدئ بركان صدرها المشتعل....!!!
+
شعرت به خلفها فاستدارت إليه...
لكنها لم تقو علي رفع عينيها إليه...
حاجز خفي يرتفع بينهما الآن...
أزاح خصلات شعرها المتهدلة علي جبينها لتبدو له ملامح وجهها المكسوة بالخوف...
تأمل صمتها الذي يحكي ألف حكاية...
وينبض بشكوي تلو شكوي...
ثم همس أخيراً بعد صمته الطويل:
_بم كنتِ تحلمين؟! ما هذا الذي كنتِ ستمزقينه؟!
+
أطرقت برأسها وهي لا تدري ماذا تفعل...
تخاف أن تغمضهما فتعود إليها أحداث هذا الكابوس...
وتخاف أن تفتحهما فتراه هو!!!
تري ..أيهما أقسي يا حذيفة...
كوابيسي بك...أم واقعي معك؟!!!!
+
طال إطراقها للحظات فعلم أنها لن تجيبه...
لم ينطق بكلمة هو الآخر...
بل ظل ينظر إليها بجمود...
حتي رفعت رأسها إليه لتنظر لعينيه قائلة بثبات:
_أخبرني عن ليلتك كما اتفقنا.
+
ظل ينظر إليها بجمود للحظات طويلة مرت عليها كدهر كامل....
ثم أخرج من جيب سترته الداخلي قطعة قماش شفافة مطوية...
فردها بيديه أمام وجهها...
لم تكن سوي ثوب نوم قصير...
قصير جداً في الواقع!!!
+
ظلت تنظر إليه طويلاً في جمود يماثل جموده...
ظنت أنها ستذوب خجلاً في موقف مشابه!!!
لكن مشاعرها الآن لم تكن لتسمح برفاهية الحياء!!!!
+
قلبها الذي انزوي مكسوراً بين ضلوعها كطفل يتيم...
لم يكن يشعر الآن سوي بألم خالص...
ألم خالص نقي لا تخالطه أي مشاعر أخري!!!
+
لكنها تخطت كل هذا كعادتها بصبر تحسد عليه...
لتمد يدها ملتقطة إياه ثم سألته ببرود:
_هل يمكنني الاحتفاظ به؟!
ابتسم بسخرية قاسية ليسألها:
_لماذا؟! هل ستمزقينه هو الآخر؟!
ابتسمت هي الأخري لكن ابتسامتها كانت شاحبة رغماً عنها وهي تهمس ببرود:
_بل أعدك أن أحافظ عليه حتي أرده إليك يوماً قريباً...
+
ضيق عينيه في تساؤل...
فأطرقت برأسها ليعلم أنها لن تقول أكثر...
رفع ذقنها إليه ليقول بتحدٍ:
_حافظي عليه جيداً لأن له ذكري خاصة جداً عندي...لقد كانت ليلة مميزة!
ابتسمت ببرود وهي تهمس بسخرية:
_لا تقلق....كل احترامي لذكرياتك الخاصة!!!
1
سمعت النداء لصلاة الفجر فقالت له بهدوء عجيب علي هذا الموقف:
_ دعني الآن لأصلي...
+
قالتها وهي تهم بالدخول لغرفتها...
فأمسك ذراعها ليمنعها الحركة...
نظرت إليه بترقب...
فنظر إليها طويلاً ثم قال ببطء:
_بماذا ستدعين في صلاتك؟!
ابتسمت بسخرية وهي تهمس ببرود:
_هل تخاف أن أدعو عليك؟!
+
لم يرد عليها بل ظل ينظر إليها طويلاً...
دون كلمات...
+
فهمست أخيراً بشرود:
_قبل اليوم...كنت أدعو الله أن يهدي قلبك للخير وأن تكون لي...
اقترب منها خطوة وهو يسألها بحذر:
_واليوم؟!
نظرت لعينيه بكل ما أوتيت من قوة لتقول بحزم:
_سأظل أدعو الله أن يهدي قلبك...لكنني لم أعد أريدك...
ثم أردفت بقسوة لم يعهدها فيها:
_من اليوم...لستُ لك يا حذيفة...لستُ لك ولستَ لي!!!!!
==========================================================================
1
==========================================================================
+
وقف بدر في نافذة غرفته شارداً...
يراقب غرفة آسيا التي لا يكاد نورها يغلق ليلاً كعادتها منذ أيام...
منذ تلك الليلة التي أعلنت له فيها عن موافقتها علي الخطبة لمصطفي...!!!!
+
العم كساب أبلغ مصطفي بموافقتها...
كما أخبره عن ظروفها كاملة محاولاً تحسين الصورة بأقصي حد...
لكن العجيب أن مصطفي لم يبالِ بظروفها هذه...
بل إنه أصر علي تعجيل الزواج في أقرب وقت...
وهو ما أثار دهشة بدر وريبته...
من هو هذا الرجل الذي يقبل زواجاً بهذه الظروف ...
إلا لو....!!!!!!
+
قطعت أفكاره وازداد انعقاد حاجبيه عندما لمح مصطفي يقترب من غرفة آسيا الخارجية ليطرق بابها ...
فتحت له آسيا الباب فدفعها برفق ليدخل ويغلق الباب خلفه...
جن جنون بدر وهو يندفع خارجاً من غرفته ليتوجه إليهما بسرعة...
+
وفي غرفتها كانت آسيا جالسة بشرود كعادتها عندما سمعت طرقاً علي الباب...
ظنته ياسين الصغير أو العم كساب...
قامت لتفتح الباب عندما وجدته أمامها فقالت بدهشة:
_دكتور مصطفي!!
+
دفعها برفق ليدخل ويغلق الباب خلفه...
فازدردت ريقها بتوتر وهي تتراجع للخلف قائلة بخوف واضح:
_لا يصح أن تغلق الباب هكذا...اخرج من فضلك.
التمعت عيناه برغبة ظاهرة وهو يقول بلهفة:
_أنا لست غريباً عنك يا آسيا...أنا سأكون زوجك.
دمعت عيناها وهي تلتصق بالحائط خلفها لتقول برعب:
_اخرج حالاً وإلا صرخت وكانت فضيحة....
1
وصل بدر في هذه اللحظة...
كاد يطرق الباب بعنف عندما سمع عبارتها الأخيرة لكن شيئاً ما جعله يتوجه لنافذة غرفتها نصف المغلقة...
ليستمع لحديثهما خلسة...
عندما اقترب منها مصطفي ليقول باحتقار:
_هل تدعين الشرف الآن يا فتاة...أنا أعرف جيداً من أنت...
+
شحب وجهها بشدة وانعقد لسانها وهو يردف بحقارة:
_لقد كنت أحد المدعوين في زفاف رقية الهاشمي ...ذاك الذي أديتِ فيه رقصتك المبهرة التي ألهبت خيال الجميع...واختتمتها بذاك الحضن المؤثر لابن عمك ...العريس!!!
+
قال كلمته الأخيرة بسخرية مقيتة...
فانهمرت دموع آسيا بغزارة وهي تراه يصورها بهذه الحقارة...
لقد أخطأت يومها وكم ندمت علي خطئها هذا...
لكنها لم تتصور أن يكون عقابها بهذه البشاعة!!!!
+
اقترب منها أكثر وهو يقول بازدراء:
_دموعك البريئة هذه قد تخدع رجلاً ساذجاً مثل بدر...صاحب المزرعة الذي أوقن أنك تخططين لإيقاعه في حبائلك كما يقول جميع العاملين هنا ...
ثم أردف بخبث:
_هذا لو لم يكن نال بالفعل مراده منكِ...
+
صرخت وسط دموعها:
_اخرس...بدر أكثر شرفاً من أن تلوثه بلسانك القذر.
+
لوي مصطفي ذراعها خلفها...
فتأوهت بقوة وهو يهتف بصرامة:
_كوني مهذبة يا صغيرة...حتي لا أؤذيكِ أكثر...
+
انتحبت بقوة وهي تشعر برعب لم تتخيله في حياتها لتهمس بجزع:
_ماذا تريد مني؟!
+
نظر إليها نظرة مقيتة وهو يقول بخبث:
_أولاً أريد الزواج منكِ...هل تعلمين الثمن الذي ستدفعه عائلتك في مقابل استعادتك وتطليقك مني...
هتفت بيأس:
_أنت لا تفهم...سيقتلونني ويقتلونك معي...
ضحك بسخرية وهو يقول:
_يالقلبك الرقيق!!!
ثم أردف بقسوة:
_دعي لي أنا هذا الأمر...سنتزوج وبعدها ستطيعين أوامري حرفياً....وإلا...
+
ازدردت ريقها ببطء وهي تهمس بخوف:
_وإلا ماذا؟!
ابتسم في قسوة وهو يقول بتهديد واضح:
_وإلا سأخبر عائلتك أن ابنتهم الفاسقة تقيم علاقة غير مشروعة مع الرجل الذي هربت لأجله وتمكث عنده في مزرعته...
+
شهقت بعنف وهي تضع كفها علي شفتيها ....
هذا الوغد لو نفذ تهديده فسيعني هذا أن يصل إليها قاسم النجدي...
الذي لن يتورع ساعتها عن قتلها بدم بارد...
+
كما أنها ستكون وبالاً علي بدر...
بدر الذي لو نجا من أن يقتله قاسم النجدي...
فعلي الأقل سيفسد عالمه الذي هرب إليه من ماضيه كما أخبرتها سمية يوماً باقتضاب!!!
+
شعر مصطفي بالظفر وهو يري خوفها الواضح من تهديده فسألها بخبث:
_هل ستطيعين أوامري إذن يا صغيرة....أم ...؟!
+
ازداد انهمار الدموع علي خديها وهي تشعر بعجز رهيب...
ليتها ماتت قبل أن تعيش لحظة كهذه...
+
اقترب منها أكثر وهو يهمس بصوته البغيض:
_اسمحي لي اذن بهذا الاختبار البسيط لطاعتكِ يا صغيرة!
دفعته بقوة وهي تهتف بعجز:
_ابتعد عني.
+
عند هذه اللحظة دفع بدر شراعي النافذة ليفتحها كلياً ويقفز من خلالها للداخل...
شهقت آسيا بعنف وهي تراه في هذه اللحظة...
فيما عقد مصطفي حاجبيه بغضب...
اقترب منه بدر وعيناه مشتعلتان بغضب أسود ليقول بصوت هادر:
_هل تعرف عقوبة الاعتداء علي حرمات نسائنا أيها الوغد؟!
التفت مصطفي نحو آسيا ليقول بازدراء:
_لا تنفعل من أجلها يا سيد بدر...لو رأيت الزي الذي كانت ترتديه ليلة رأيتها راقصة في مجون ....لعلمت أية فتاة وضيعة سمحت لها بالبقاء في مزرعتك.
+
غطت آسيا وجهها بكفيها في هذه اللحظة وهي تتمني لو تنشق الأرض وتبتلعها
ماذا الذي سيظنه فيها بدر بعد ما سمعه؟!!!
+
قطعت أفكارها عندما هوي بدر بقبضته علي فك مصطفي هاتفاً:
_اخرس أيها الحقير.
+
كاد مصطفي يبادله لكمته لكن نظرة واحدة لفارق الحجم بينهما جعلته يتراجع...
ليرمقه بنظرة حاقدة...
ثم يندفع هارباً من غرفة آسيا...
ومن المزرعة كلها!!!!
+
كاد بدر يلحق به ليلقنه درساً لا ينساه شافياً غليل صدره من هذا الوقح....
لكن نظرة نحو آسيا التي كانت لا تزال تدفن رأسها بين كفيها تبكي بانهيار جعلته يتوقف مكانه للحظات...
ثم قال بجمود:
_أنا سأنتظرك بالخارج...
+
قالها وهو يغادر حجرتها ليتنشق الهواء بعمق مستشعراً هماً ثقيلاً علي صدره...
ما سمعه منذ قليل ليس هيناً...
ليس هيناً أبداً!!!!
+
رفع رأسه للسماء للحظات ثم أطرق برأسه ليهمس بحزن:
_ماذا أفعل يا سمية...بماذا كنتِ ستنصحينني في هذه الظروف؟!!!
+
تقدمت نحوه آسيا بعد دقائق عندما تمالكت بعض أنفاسها...
جلست جواره لتقول بترقب ...يمتزج بخوفها وخجلها:
_ماذا تريد يا بدر؟!
ظل صامتاً للحظات....ثم التفت نحوها ليقول بجمود:
_أنا لا أريد شيئاً...قولي أنتِ ما تريدين قوله...
أخذت نفساً عميقاً ثم همست بحزن:
_أظنني مدينة لك بتفسير ما رأيته...لكن دعني أولاً أخبرك عما لا تعرفه من حكايتي...
+
ضيق عينيه في اهتمام وهو يستمع إليها عندما همست بشرود وكأنها لم تعد تنتمي لهذا العالم:
_كنت أحب ياسين ...ابن عمي الذي حدثتك عنه يوماً...لكن جدي لم يوافق علي زواجنا...كان يريدني لابن عمي الآخر...وقضي بزواج ياسين لفتاة أخري طمعاً في نفوذ والدها...وليلة زفاف ياسين كدت أفقد عقلي..بل فقدته حقاً...كنت أشعر وكأنني جارية يقضون في أمرها دونما أي اعتبار لرأيها...وجدتني أندفع بحماقة لأرتدي ثياباً لم أرتدِها أبداً في حياتي لأتصرف تصرفاً لا أدري حتي الآن كيف جال بذهني...لكنني لم أكن في وعيي...كنت أريد الانتقام من الجميع...كنت أريد التمرد علي كل أعرافهم وتقاليدهم...
+
أطرقت برأسها وهي تردف:
_لم أشعر بنفسي وأنا أصعد المسرح لأرقص ...اشتعل غضب ياسين وقام ليصفعني ...لم أكد أبتلع صدمتي حتي فوجئت به يحتضنني لأول مرة في حياتي...أمام الجميع!!!!
عقد بدر حاجبيه بشدة....
+
فيما همست هي بمرارة :
_قد لا تصدقني وقد تظنني مجرد فتاة بلا أخلاق...لكن هذا لم يعد يهم...أنا أؤدي واجبي نحوك علي أي حال... وأخبرك بالحقيقة لعلي أفي ببعض ديني نحوك...
قال بحزم:
_أكملي.
ظلت مطرقة وهي تقول بحزن:
_عاقبني جدي علي فعلتي بأن أمرني بالذهاب لخالي ...لكن نوبة اليأس والخجل التي انتابتني بعدما انتبهت لفداحة فعلتي جعلتني أفكر في الهرب بعيداً عن كل هذه الضغوط...هيأ لي شيطاني أنني يمكنني البدء من جديد بعيداً عن جبروت جدي وتسلطه...لكنني أدركت أنني لم أحظَ سوي بسجل حافل من الحماقات والخسائر...لو كنت أعلم أنني سأعيش لحظات كالتي عايشتها منذ قليل...لما فكرت لحظة في الهرب من عائلتي...
+
قامت من مكانها لتقول دون أن تنظر إليه:
_هذه قصتي كاملة...يشهد الله أنني لم أكذب في حرف مما قلته...أنا آسفة..آسفة علي،كل شئ.
+
قالتها ثم عادت لغرفتها بخطوات سريعة...
لتغلق بابها ونافذتها وكأنها تحتمي بحصنها الصغير هذا مؤقتاً...
ثم آوت إلي فراشها لتغطي نفسها حتي رأسها وكأنها لا تريد أن تري شيئاً مما حولها...
+
كل الكلمات لن تصف مقدار الرعب الذي شعرت به منذ قليل...
ولا الخزي الذي شعرت به أمام بدر...
+
وحيدة وحيدة...
كطفل نسيه أبواه في صحراء!!!
تتخبط بين ظلمات خطايا ماضيها وحاضرها...
لتجد نفسها تفكر فجأة...
لماذا عشت أنا وماتت سمية...
أنا لا أحد يحبني ولا أحد يحتاجني...
مجرد صفر بخانة اليسار...!!!!!
+
استغفرت الله سراً...
وصوت بداخلها يدعوها...
قومي ياابنة فريدة الصابرة...
واستعيني بالله ....لن يخذلكِ أبداً...!!!
+
قامت من فراشها وتوضأت لتصلي...
بثت شكواها لخالقها في سجودها...
حتي إذا ما انتهت كانت قد وصلت لقرار...
لم تدرِ صحته من خطئه...
لكنها ارتاحت إليه!!!!
==========================================================================
+
جلست جويرية جواره يضمها لصدره بأحد ذراعيه ليقرآ سوياً كعادتهما الآن كل ليلة...
عندما أغلق الكتاب فجأة ليقول لها بصوته الذي قلما يفارقه الحزن الآن:
_يكفي هذا اليوم يا جوري!
أسندت رأسها علي كتفه تتنعم بدفء صدره ثم أمسكت كفه لتكتب:
_ماذا بك؟! تبدو حزيناً...
+
تنهد في حرارة وهو يربت علي ذراعها ...
ثم رفع رأسه للسقف في شرود...
ماذا عساه يقول لها...؟!!
كل يوم لها بجانبه هو طريق طويل من العذاب...
يتمني شفاءها...
يتمناه بكل ذرة من روحه...
لكنه كما يتمناه...يخشاه!!!
+
لقد اعتاد قربها...
خاصة بعد أيامهما القصيرة هنا...
والتي أوشكت علي الانتهاء...
كيف سيحتمل فراقها بعد هذا كله؟!!!!
+
وردت فكرة هروبها السابق علي خاطره ...
فسأل نفسه بحسرة...
تري هل ستكون لذاك الرجل الذي أحبته وكادت تهرب معه عندما يطلق هو سراحها؟!!!
بالتأكيد ستفعل...!!
+
أحس بطعم المرارة في حلقه وهو يتصورها مع رجل آخر غيره!!!
لكنه تذكر ما فعله بها ليلة زفافهما فقال لنفسه...
كفاك ما فعلته بها يا رجل...
كفاك إفساداً لحياتها...
إذا كنت تعشقها حقاً كما تزعم فأطلق سراحها لتعيش...
بدلاً من أن تموت ببطء كل يوم معك!!!
+
نظرت إليه في إشفاق....
وهي تدرك جيداً ما يعانيه...
هي أيضاً اعتادت وجوده جوارها...
بل أدمنته...!!!
حتي أنها أحياناً تتساءل...
كيف كان شكل حياتها قبله!!!!!
+
أمسكت كفه لتضغطه برفق وكأنها تناديه...
فالتفت إليها من شروده ليبتسم بضعف...
فكتبت:
_أخبرني عم يضايقك.
+
اتسعت ابتسامته الشاحبة وهو يربت علي رأسها ليقول :
_سنعود غداً لبيتنا...
هزت رأسها نفياً وأمسكت كفه تكتب:
_أريد البقاء هنا.
عادت لصوته خشونته يخفي بها مشاعره وهو يهتف:
_غداً...أول ليالي رمضان...يجب أن نكون مع العائلة!
قالها وهو يقوم من جوارها ليقف معطياً لها ظهره...
+
تنهدت في حرارة...
لم تعد تغضبها خشونته...
علي العكس...لقد صارت تتفهمها...
خشونته الظاهرة وغلظة كلماته ليست سوي غلاف قاسٍ لمشاعره الرقيقة...!!!
+
مشاعره التي يسكبها في أذنيها كنهر من عسل عندما يظنها نائمة...
عمار لا يحبها فحسب...
عمار يعشقها عشقاً لم تسمع عنه ولا في الكتب التي طالما غرقت في خيالاتها !!!!
2
قامت من مكانها لتتوجه نحوه...
وقفت قبالته تنظر إليه نظرات طويلة لم يفهمها...
تود لو تعتذر له ...
لو تشكره...
لو تخبره أنها سامحته...
أنها لم تعد تخافه...
بل إنها اعتادت وجوده وألفته...
لم تعد تقوي علي فراقه!!!!
+
طال صمتهما الصاخب الذي يفضح مشاعرهما بأكثر مما يداريها...
حتي سألها بحيرة:
هل تريدين شيئاً يا جوري؟!
+
ظلت تنظر إليه في عجز...
تتمني لو تستعيد قدرتها علي النطق حتي تحدثه بحرية...
حتي تخبره عن كل ما تشعر به نحوه...
أطرقت برأسها أخيراً ...
فسألها بحنان:
_متعَبة؟!!!! تريدين النوم؟!
+
رفعت عينيها إليه وهي تومئ برأسها...
تحتاج لنجواه المختلسة لها الآن...
لقد صارت همساته شفاء لروحها في عالمها الجديد هذا....
+
وبعدها بدقائق...
وعندما أتمت تظاهرها اليومي بالنوم...
كانت همساته تداعب أذنيها لكن بحزن بالغ هذه المرة:
_نامي يا جوريتي...نامي وقرّي عيناً...غداً نفترق...غداً تتخلصين من كل ما كرهتيه...وأفقد أنا كل ما أحببته...أشعر أن يوم فراقنا قد اقترب...ولم يكذبني يوماً شعوري بكِ...لكنني أتمني عندما يحين هذا اليوم أن تعرفي أنه في مكانٍ ما من هذا العالم...سيكون هناك رجل بعيد عنك....أحبك كحبه للحياة وربما أكثر...أحبك بكل طاقته ...لكن خانته نفسه وطباعه...وخانته قبلهما الظروف...
+
أحست بتوقف همساته فشعرت بالقلق...
عندما شعرت بسقوط دمعة ساخنة منه علي وجنتيها هي...
يا إلهي...!!!
عمار يبكيها من جديد!!!
+
خفق قلبها بعنف وهي تترقب همساته...
لم يطل صمته ليعيد همسه الحار:
_سأحرص ألا نلتقي كي لا أعيد إليكِ كل ذكري بغيضة تحملينها نحوي...لكنني أقسم لكِ بمن رزقني حبكِ منذ وعيت علي هذي الحياة أنني لن أنساكِ أبداً...
+
لم تشعر بنفسها إلا ودموعها تنساب بحرارة علي وجنتيها...
ليرتد هو مصعوقاً هامساً بتردد:
_أنتِ مستيقظة يا جوري؟
+
لم يعد هناك مفر من المواجهة...
مضي عهد التظاهر والمداراة...
بعد كل هذه المشاعر الصادقة...
ليس هناك مجال للتخفي والخداع!!!!
+
فتحت عينيها لتنهض مواجهة له بدموعها الساخنة...
فعقد حاجبيه بشدة...
ثم أشاح بوجهه عنها...
ليقوم ويترك لها الغرفة...
بل و الشاليه كله!!!!
+
وقفت وحدها خلف الباب تشعر بالارتباك والتخبط...
عمار هرب منها...
هرب من مواجهتها بمشاعره...
ولن يعيد التعبير عنها من جديد!!!
لقد فقدت حتي مناجاته التي كانت تهون عليها سجن عجزها هذا!!!
ويالها من خسارة!!!
+
أما هو فقد اندفع سائراً بلا هدف...
يركل الحصي في طريقه وهو يزفر بحرارة...
كل زفرة من صدره كانت تخرج حاملة حمماً من لهيب روحه المحترقة...
لقد سمعته هذه المرة...
لقد اكتشفت ضعفه ومشاعره نحوها...
تلك التي طالما أخفاها عنها...
لم يكن يريدها أن تعلم...
حتي يخرج من حياتها دون أن يجرح كبرياءه...
لكن...
يبدو أنها تأبي إلا أن تهيج جروحه كلها قبل أن تفترق عنه!!!!
+
ظل هائماً علي وجهه في الطرقات يخشي العودة إليها...
يخشي مواجهة عينيها تحملان نحوه سهام الشفقة أو التشفي...
هو يشعر أن يوم فراقهما قد اقترب...
وبقدر ما كان يخشي هذا ...
بقدر ما يرجوه الآن..
هذا أفضل لكليهما من هذه العلاقة المسمومة....!!!
+
عاد إليها عند الفجر...
بعدما قضت ليلتها تنتظره قلقة في غرفتهما...
وما إن رأته حتي اندفعت نحوه بسرعة....
لتقف أمامه في عجز...!!!
+
أشاح بوجهه عنها وهو يتمني لو لم تكن الآن أمامه...
لأول مرة في حياته لا يريد أن يراها...
يخشي مواجهة عينيها اللتين لا يدري...
هل سترمقانه بشفقة علي حبه اليائس...
أم بشماتة علي ألمه الذي يستحقه!!!
+
أدارت وجهه إليها لتنظر في عينيه بمشاعر خالصة...
لم تكن شفقة ولا شماتة...
لكنها كانت مزيجاً من الندم والحنان والامتنان...
والكثير من...
الحب....؟!!!
+
عقد حاجبيه وهو،يتأمل نظراتها -الغريبة-جداً علي عينه!!!
لا يصدق أنها تنظر له بهذه الطريقة...!!!!
هذه النظرات التي طالما تمناها وحلم بها...!!!
+
اقتربت منه أكثر لتمسك كفه بين كفيها وهي تتطلع لعينيه بتلك النظرات القاتلة...
فتحت شفتيها تحاول بكل عزيمتها أن تنطق...
أن تقول أي شئ...
لكنها عادت تطبقهما في يأس!!!
+
تعلقت عيناه بشفتيها اللتين طالما كتب لهما قصائد الغزل في مخيلته....
وزاد تعلقه بهما في كل يوم يراقب تحركهما لعله يسمع صوتها الساحر ينبعث منهما من جديد....
والآن يتمني لو...!!!
نزع كفه من كفيها بعنف وهو يغمض عينيه بقوة هاتفاً بغلظة:
_اتركيني الآن حالاً يا جوري.
هزت رأسها نفياً والتمعت الدموع في عينيها ...
قبض كفيه بقوة وعاد يفتح عينيه عندما فوجئ بها تدفن وجهها في صدره وهي تبكي...
+
هنا ...
لم تعد له بقية صبر أو مقاومة!!!!
ومن يلومه الآن ؟!!
وجد نفسه يعتصرها بين ذراعيه ليغيبها معه في عاطفة غامرة...
لم يعد يدري أين تذهب به قبلاته ولمساته...
كان كالمسحور يسعي خلف عاطفته بعد طول حرمانه...
كالظمآن يروي عطشه من عذب وصالها بعد طول تعلقه بسراب...
لم يعد يذكر شيئاً ولا يهتم بشئ...
سوي بتلك التي تكاد تذوب بين يديه رقة وعذوبة!!!!
1
حتي استفاق أخيراً من طوفان عاطفته...
لينظر إليها بذهول للحظات طويلة...
قبل أن يقوم من رقدته جوارها...
ليقول بخشونة:
_سأعد حقائبنا حتي نرحل من هنا.
قالها ثم انطلق خارجاً من الغرفة بسرعة وكأنه يهرب...
ابتسمت في خجل وهي تتفهم مشاعره الآن...
الآن يبدو لها عمار ككتاب مفتوح...
رفعت غطاءها علي جسدها وهي تشعر بشعور غريب...
لو لم يكن ما يتملكها الآن حباً....فماذا يكون؟!!!
لو لم يستحقه عمار بعد كل هذا الذي رأته وسمعته بل...وأحسته منه....
فمن يستحقه؟!!!
+
دفنت وجهها في وسادتها الباردة علها تهدئ من حرارته....
لتتسع ابتسامتها رويداً رويداً وهي تشعر بنفسها في عالم طالما تخيلته خلف الستائر الوردية...
عالم من الحب الذي طالما انتظرت بشائره...
لكن ابتسامتها تجمدت علي وجهها فجأة عندما تذكرت...
هذا العالم لن يدوم...!!!!
+
قاسم النجدي سيهدمه علي رأسها بمجرد أن تسترد قدرتها علي النطق...
ورغماً عنها وجدت نفسها تتمني لو تظل كما هي...
حتي لو بقيت عاجزة طوال عمرها...
حتي لا تفقده!!!
هو الآن صار أغلي عندها من كل شئ...
هو الآن حلمها الذي تعبت طويلاً حتي تفسره...
وستتعب أكثر كي تحققه!!!!
*******
انتهى الفصل
+