رواية حصنك الغائب الفصل الخامس عشر 15 بقلم دفنا عمر
رواية حصنك الغائب
بقلم دفنا عمر
الفصل الخامس عشر!
--------------
أطرقت رأسها بخجل وهو يقترب منها، فتنحت والدتها لتفسح له المجال، انضمت جوار أخيه " أيهم" بزاوية بعيدة!
+
وقف "رائد" قُبالتها مآخوذًا بجمال محياها وهيئتها شاعرًا گأنها "ملكة" غادرت إحدى صفحات الأساطير وحلقت بجناحيها وهبطت لعالمه لتمنحه وحده كل هذا السحر.. أما هي فما أن اقترب حتى رفعت وجهها إليه ورفرفت أهدابها لتتألق عيناها المكحلة بعشقٍ طغى على زُرقة لون " كحل" زينتها فتمتم بخفوت: مبروك! أجابت مباركته بصوتٍ رقيق خجول، فدنى ولثم جبينها برغبة لم يستطع تجاهلها،ثم جعلها تتأبط ذراعه متجهًا لسيارته المزينة بشكل أنيق، فهتف أخيه مشاكسًا وهي يمنحه غمزة ماكرة: أظن أنا ماليش لازمة دلوقت ياعريس.. وبقى معاك اللي احسن مني!
+
ابتسمت رودي بخجل، ولم يعقب رائد سوى بابتسامة بسيطة.. فاستطرد أيهم:
عموما أنا هاخد طنط ونمشي وراك لحد القاعة!
+
وبالفعل صعد رائد مع عروسه، وأيهم بصحبة والدة رودي، مطلق أبواق سيارته بشكل صاخب متتابع يوحي بالبهجة والمرح.. فانتبه السائرين حوله وأدركوا أنه عُرس لأحدهم فتطوعوا بمحبة مشاركين بأطلاق أبوق سياراتهم بنفس اللحن الصاخب ببهجة، گ تحية ومباركة وهم يضحكون ويشيرون للعروسين بتهنئة ودودة..!
_______________________
+
گعادة أي أحتفال، تمت فقراته تباعا بعد عقد القران، ورائد يحاول الاندماج ومبادلتهم التهاني الكثيرة، أما رودي فلم تفارق ثغرها الشهي الابتسامة، إلى أن أتت فقرة الرقصة الهادئة بينهما.. أحاط خصرها وقربها منه وعيناه تتشرب هيئتها الفاتنة بجرآة، وكأن غريزته القديمة المتعطشة لجنسها مازالت تفرض سيطرتها عليه وهو يطالعها گ رجل تحركت رغباته، ولأول مرة يعترف لنفسه أن اقتراح والدته لزواجه لم يكن سيء لهذا الحد.. وزوجته بتلك الرقة والجمال والحب الذي تعلنه بتملك أدهشه واعجبه وأرضاه، وهي تهمس في أذنه بنعومة:
+
أنا الليلة دي أسعد مخلوقة على الأرض يا رائد.. ولو هموت دلوقت مش عايزة حاجة من الدنيا تاني.. بعد ما امنيتي بيك اتحققت.. واوعدك ياحبيبي اني هنسيك كل حاجة تعباك.. مش هتفتكر معايا غير كل حاجة حلوة.. هنبني ذكرياتنا سوا من أول وجديد..هنتولد مع بعض وهنتعلم كل حاجة سوا وهتكون حياتنا دافية وجميلة لدرجة هتنسى انت كنت مين قبل كل تقترن أسامينا!
+
تلقى عاطفتها الصريحة تجاهه بسعادة خدرت عقله وكل ما يؤرقه عن ماضيه كما تخدر كتفه الذى مالت عليه برأسها، تاركة ذراعيه تهدهدها على أنغام محيطهما غير عابئين بأحداق الجميع المراقبة لالتحامهما برقصة ناعمة وموسيقى تثير الكثير من العواطف في نفوس منصتيها..
+
وبعد وقت انتهت رقصتهما ثم احتفالهما.. ليبدأ احتفال أخر وخاص.. هي من نظمت مراسمه..لأجله.. ولأجل ليلتهما الأولى..!
__________________________
+
لأول مرة تغفو براحة وسكينة منذ فترة طالت وهي تراقب ابن قلبها رائد.. أخيرا تحقق مطلبها وتزوج وينعم الآن بين أحضان زوجته.. لا يهم بعد ذلك ما سيحدث.. والآن أصبحت مستعدة للقاء ربها مطمئنة.. نهضت تتوضأ وتصلي لله شكرا ، أن أبلغها رجائها، وظلت تدعوا بتألف قلوبهما سويًا وسريعا.. فإن تغلغل العشق بقلبه.. ستتبدل غربته..بوطنًا وسكن يآوي روحه ويعوضه عن كل ما فقد!
_____________________
+
لا يعرف كيف انجرف معها بعاطفتها وأنوثتها التي اختلطت برغباته گ رجل كان في ماضية يستبيح كل جسد دون رحمة.. جادت عليه عروسه بسخاء مستعرضة كل ما لديها لتجذبه إليها دون خجل مدركة حقها وأجرها حين تسترضيه گ زوج..
أما هو، فتحررت طاقته الكامنة داخله ووشت عن طبيعته الماجنة الشرهة لتلك المشاعر.. انطلق مآخوذًا بسحرها متنعمًا بعناقها مجذوبًا في بحورها معافرًا بأمواجها گ خبير أعتاد الغوص منذ زمن!
_____________________
+
تعجب من صديقه الذي التقط صوره له "سيلفي" وليس من عاداته أن يفعل مثل تلك الأمور، فتمتم أحمد بفضول مازح:
هو الباشمهندس من إمتى بيحب يتصور سيلفي؟
ثم غمز بإحدي عيناه: وبعدين إيه "الكرافت" الأنيق ده، أول مرة اشوفه عليك، هو في عصفورة ولا حاجة
+
مط يزيد شفتيه بتهكم:
أنا بتاع عصافير بردو يا فاسد.. ده حد جابلي هدية وحبيت اتصور وابعتهاله.. حاشر نفسك ليه بقى!
+
_ يا راجل؟! هدية من حد؟ ماشي يا استاذ براحتك خالص، وربنا يرزقني باللي يجبلي حتى "شرابات".. ووقتها بردو هاخد سيلفي واقولك نفس الكلمة!
+
تصور سريع تجسد لذهن يزيد وهو يتخيل أحمد يبعث لإحدهن صورة لجوارب قدميه، فضحك وهو يصفق بيأس: مافيش فيك فايدة.. أنت وعابد أخويا نفس العينة.. حاجة مسخرة بصراحة!
+
أراد استغلال الفرصة لترميم ما حدث سابقًا حين لفظ هديتها وجرحها.. خاصتًا مع تلميحها الأخير له بحرية أن يتقبل هديتها أو يقذفها بعيدا كما فعل..صغيرته العنيدة مازالت غاضبة مما حدث.. ويجب أن يراضيها.. ضغط على ذر الإرسال بهاتفه مع رسالة مشاكسة لم يكن ينتويها، لكنه اشتاق استفزازها وردود افعالها الطفوليه!
+
( على فكرة لونها وحش أوي، ذوق أحمد صاحبي أحلى..بس قلت أجبر بخاطرك والبسها)
+
كانت تلوك بفمها لقيمة خبز الزعتر الذي تعلمت صنعه من صفحات النت عندما اهتز هاتفها برنين، ما أن تفقدته حتى تجعدت قسماتها بغيظ وجزت على أسنانها مبرطمة: يعني حتى محصلتش ذوق صاحبك ماشي يا ابن خالتي.. ابقي قابلني لو جبتلك حاجة تاني.. واكتفت بإرسال ايموشن غاضب
فرد بأخر ضاحك يلوح بلسانه.. فلم يطل عبوس وجهها وابتسامة فَرحة تتسرب لشفتيها بسعادة لارتدائه هديتها تلك المرة، راحت تتأمل وسامة محياه بوله وسرعان ما تلاشت بسمتها مع زفرة حزينة نبعت من داخلها لأدراكها حقيقة أنها لا تمثل بالنسبة له سوى طفلة صغيرة گ شقيقته جوري!
___________________
بعد بضعة أيام!
+
تبادل أدهم ودُرة بعض كلمات الوداع مع عائلتهم، قبل ذهابهم واستقرارهما المؤقت في القاهرة.. لتغير الأجواء حول بلقيس كما نصح طبيبها، وبعث كل ما يخص حالتها لطبيب أخر يقطن بالقرب منهم ليتابع هو حالتها بدلا منه!
.................. .
+
_حمد لله على السلامة ياعمي.. مبسوط انك اتنقلت القاهرة .. وبإذن الله تغير المكان يفيد بلقيس!
+
عاصم برجاء: ده عشمي في ربنا يا يزيد يا ابني. أنا حاسس إنها خطوة متأخرة، وكان لازم تغير مكانها من زمان.. يلا الحمد لله كله خير
+
_ ونعم بالله، كله بآوانه، وكده هتكون اقرب للشركة، وهتتابع مع طبيبها هنا.. وأنا معاك في أي حاجة حضرتك عايزني اساعدك فيها تحت امرك
+
_ تسلم يا ابني ده عشمي فيك!
_______________________
+
بعد أسبوع!
+
يراقبها باستمتاع وهي تقفز گ الطفلة وتجاري صغيرها في اللعب بالكرة بتلك الزاوية الخالية من الحديقة.. ضحكاتها تنافس براءة طفلها "مهند".. كم بدت جميلة مرحة، رغم ظروف موت زوجها وآلمها.. ولكنها تحاول منح صغيرها لحظات مبهجة گتعويض له عن عدم وجود "أبيه"
+
تذكر أنه سمع حديثها مع بلقيس وكيف عانت نفسيًا بعد موته، فبعث الله لروحها نطفة زوجها الراحل لتهديء قساوة رحيله، وگأن خالقها يؤازرها بمنحة إلهية كي تصمد وتعود لها رغبتها في الحياة بعد أن زهدت بها.!
+
_ إنت واقف كده ليه يا عابد؟!
+
أجفله صوت والدته، فالتفت إليها:
لا ابدا أنا لسه واصل من الزرعة، بس سمعت ضحك مهند، ولقيته بيلعب مع والدته، فوقفت اتابعهم من بعيد من غير ما اقاطع لعبهم، واحرج زمزم..!
+
رمقته بريبة: غريبة!
تسائل باستغراب: إيه الغريب مش فاهم!
+
عابد ابني اللي اعرفه مش حسيس وعنده ده كده! وكان زمانه راح خطف الكورة من بنت عمه ولعب هو مع مهند..!
+
استعاد عابد روحه المرحة: تقريبا يا " كيما" والله أعلم ابنك هيبتدي يعقل للأسف، ماتنسيش إني بقيت مهندس زراعي قد الدنيا، ولازم ابطل هزار شوية..!
+
ثم فاجأها بنكزة مفاجئة من أنامله لخصرها الأيمن، فانتفضت مابين رغبة في الضحك والحنق معًا هاتفة: لا واضح انك بتعقل أوي.. طمنتي الصراحة"
+
رد بمشاكسة: اعقل مع الكل إلا معاكي انتي يا "كيما" يا عسلية قلبي!
+
رمقته بغضب كاذب، وحالفها الحظ أنها تحمل طبق من الفاكهة، كانت أعدته للصغير وزمزم.. التقطت ثمرة تفاح وقذفتها بوجه، فتلقفها عابد من الهواء بكفه ، وقضم بعضها متمتما باستمتاع مستفز:
+
_ يا سلام على قلب الأم.. انا فعلا جعان جدا.. وهصبر نفسي بتفاحتك على ما تجهزوا الغدا..! وروح بقى اسلم على صاحبي الصغير " هوندا" واكل انا وهو الفاكهة دي!
+
وتركها تهز رأسها بيأس وعبوس مزيف، تلاشي وحلت ابتسامة حانية وهي تغمغم بخفوت:
ربنا ما يحرمك من الضحكة الصافية دي يا عبودي.وتفضل كده وما يصيب قلبك وجع يا بن بطني!
___________________
+
ما أن لمحت قدوم عابد، حتى توقفت سريعًا عن الركض أمام الصغير بحرج، فهتف لها بمرح: أهو عشان عارف إنك هتتكسفي وتبطلي لعب.. كنت واقف بعيد، بس ماما حضرت طبق فاكهة ليكي انتي ومهند.. فقلت لا مفر من قطع المباراة العنيفة بتاعتكم دي!
+
مازحته: اتريق اتريق.. فين المباراة دي.. ده كل الأهداف بتاعة ابني جت في وشي وفي عيني..!
+
ضحك وهو يرفع إليه مهند ويقبله: معلش بقى لازم تتحملي حماس اللاعيب الصغير لحد ما يتعلم.. ثم أعطاها طبق الفاكهة مردفا بحماس: طب اتفرجي بقى على مباراة بجد بين "الشبل والأسد!"
+
وبدأ يستعرض أمامها بعض مهاراته بتنطيط الكرة فوق أطراف أصابع قدمه بشكل ادهشها وهي تراه گ لاعب محترف يحرك الكره بمرونة استحوذت على انتباهها واتسعت عيناها تتابعه باستمتاع مبهورة، اما الصغير فتابعه وهو يضحك سعيدا باستعراض عابد أمامه وعيناة تتابع الكره مصفقًا بحماس مطلقًا ضحكات طفولية أطربت قلب زمزم وأسعدت عابد!
.....................
بعد إنتهاءه من استعراض مهاراته، هتفت زمزم:
+
إيه يابني ده.. ابو تريكة معانا ومش داريين.. أنت ثروة قومية ياعابد!
+
ضحك لانبهاراها، وتمتم بتواضع: مش للدرجادي يعني.. امال لو شوفتي يزيد اخويا.. هتنبهري بجد لأنه احرف مني بكتير.. وخدي التقيلة بقى.. اللي علمنا كرة القدم وممكن يميحنا كلنا بمهارته هو عمي عاصم نفسه.. واحنا اخدنا منه حب الكورة وشغفها ..وعايزة تستمتعي بقي.. تشوفينا اما كان يجي ماتش مهم ونتلم كلنا وبيبقي تجمع عالمي!
وواصل: صحيح بتشجعي أي فريق؟
+
هتفت ببساطة: رغم جهلي التام بكرة القدم.. بس انا أهلاوية وأفتخر.. ثم همست بمزاح: وإلا بابا يعلن عليا الحرب
قهقهة ثانيًا: طبعا يابنتي.. احنا عيلة متعصبة وماشية بمنطق اللي مش أهلاوي.. لا يدفن في المقابر المسلمين!
+
لم تتمالك نفسها من الضحك حتى أصابها السعال لجملته وهتفت بعدها:
لا ياسيدي انا في الأمان..أهلاوية وزي الفل!
+
عابد بجدية مباغتة: في سؤال عايز اسأله.. بس خايف اتصدم!
_ سؤال أيه؟ اسأل قلقتني!
+
تمتم: إنتي هندي ولا تركي؟
+
ضيقت حدقتيها ومقصده غائب عن إدراكها، مترجمة حيرتها هاتفة: نعم؟! قصدك إيه مش فاهمة؟
+
_ يعني بما إن كل البنات بقيت مغرمة مسلسلات هندي و تركي، فانتي إيه فيهم.. تركي زي جوري.. ولا هندي زي مرات عمي؟!
وواصل بمرح: ولا أجبني زي بلقيس وعمك عاصم؟!
+
هزت رأسها مطلقة همهمة مضحكة، ومازحته: طب قولي انت الأول إيه فيهم؟!
+
أجاب مزاحها: أنا "واتس آب" إن شاء الله!
+
ضحكت مرة أخرى، فابتسم لرؤيتها تضحك بتلك الأريحية، بعد أن لمس انزوائها قليلا في باديء الأمر. وسمعها تردف من بين الضحكات: أجابة غير متوقعة بصراحة.. عموما ياسيدي، أنا ولا حاجة من اللي ذكرته.. تقريبا نادر اما اتابع حاجة في " Tv"
+
ثم استطردت بحماس: عارف بقى انا بحب إيه؟!
+
_ الراديو!
+
حدجته بدهشة بعد جوابه الصائب وتسائلت:
عرفت ازاي اني بحب الراديو؟
+
تأملها ثونِ قصيرة أردف بعدها: معرفش.. بس انا بقيت اقدر احلل شخصيتك واستشف ميولك..!
+
صمتت برهة وغزاها شيء من الحرج، ثم نفضت عنها هذا الشعور قائلة: أنا فعلا بعشق الراديو ياعابد.. زي بابا بالظبط.. اتربيت على محطاته الصبح والقراءن الكريم بصوت "الشيخ عبد الباسط عبد الصمد" والبرامج الخفيفة الصباحية..وبموت في سهراته وانا بتخيل صور الممثلين في دماغي كأني شايفاهم! بتابع أغرب القضايا وبعرف أحل اغلبها واحدد الجاني من نفسي!
طغت طبيعته المرحة فقاطعها: يعني بقى عندك حس إجرامي عالي
+
ضحكت بعناب كاذب: كتر خيرك يا ابن عمي!
واستطردت: وعارف بحب إيه كمان مع الراديو؟
+
_ الروايات!
+
رفعت حاجباها بريبة تلك المرة: أكيد بابا قالك صح؟
+
ابتسم بهدوء: أبدًا والله، بس ده نتاج طبيعي يكمل الصورة التخيلية لشخصيتك، طبيعي تشغلي الراديو وتمسكي رواية تتابعيها على صوته..
+
رفعت حاحبيها ثم مازحته: لا ده انت فراستك عالية أوي انهاردة يا ابن عمي ويتخاف منك!
+
ابتسم وبادلها المزاح: أنا طول عمري نبيه واذكى أخواتي
+
ضحكت بخفوت وتابعت بشيء من الجدية:
فعلا، بحب الروايات جدا لأنها بتدخلني عالم منفصل تماما عن الواقع!
+
_ بس المهم انها مش تأثر على حياتك نفسها.. وماتكونيش إنسانة حالمة زيادة عن اللزوم.. الدنيا فيها أمور كتير محتاجة تكوني واقعية عشان تستوعبيها صح.. ! لأن ببساطة أقل أزمة نفسية مهما كانت بسيطة هتزلزلك وتحسسك إن العالم انتهى..ومواجهتك للأزمات هتكون ضعيفة. لأنك عيشتي في خيالك السهل الوردي أكتر ما اختبرتي حقائق الحياة اللي كتير بتصدمنا..! وده تحديدا عيب الشخصية دي يا زمزم!
+
شخصت عينيها وغامت مع سحابة حزن غشتها، ثم تلآلآت العبرات بمقلتيها عندما لاحت لها ذكرى زوجها الراحل " زياد" وهو يحدثها بنفس الطريقة العقلانية ويصفها بما أطلقه عابد عليها.. كما تذكرت كيف أخبرته بدلال كان يعشقه.. أنها ستظل كذلك وسيكون هو مصدر قوتها وأمانها.. مثلما كان حبيبها واستاذها بالجامعة.. سيضحى أستاذها في الحياة وكل شيء.. لكنه رحل سريعًا.. دون أن يُعلمها كيف تحيا دونه..!
+
" زمزم.. إنتي بتبكي؟!..أنا قلت حاجة زعلتك؟"
+
جففت وجهها وفركت أنفها بظهر كفها متمتمة: لا أبدا يا عابد.. أنا بس افتكرت جوزي الله يرحمه!
+
_ للدرجة دي كنتي بتحبيه؟
+
أجابت سؤاله بنبرة حزينة: وهفضل احبه.. مافيش حد هياخد مكانه في قلبي..
+
غزته مشاعر غير واضحة ولا يفهمها، وكأن شيئًا بأعماقه نفر من هذا التصريح الموشوم بوفائها النادر لزوجها.. وتسائل داخله، هل يستحق " زياد" هذا الوفاء؟ جميل أن يموت المرء ويظل محتفظًا بمكانته لدى أحبائه.. وبالأخص الزوجة.. بعد ان أصبح عالمنا يعج بنماذج مغايرة للطرفين!
+
_ عمرك حبيبت ياعابد!
+
فاجئه سؤالها وقطع سيل أفكاره، فاكتفى بهز رأسه نفيًا، فواصلت:
+
ربنا يرزقك الزوجة الصالحة. إنت انسان مميز ومليان صفات حلوة.. وأكيد تستحق زوجة تسعدك!
+
" بس المهم تكون زيك يا زمزم"
+
رمقته بحذر ممزوج بدهشتها.. فأسرع بتوضح مازح يزيل أثر جملته العفوية:
+
_ أقصد تكون عندها وفاء زيك.. مش اموت من هنا وهي تروح تتجوز بسرعة..تستنى بعد موتي سنة على الأقل عشان مشاعري گ ميت!
+
هتفت بانزعاج وضيق صادق:
بعد الشر عليك يا ابن عمي.. ماتجيبش سيرة الموت تاني أرجوك.. أتمنى تعيش عمر طويل مع اللي هتحبها وتتجوزها وهتربوا ولادكم سوا.. أنا سمعت مرة ان المفروض نتمني افضل واحسن حاجة عشان ناخدها.. ماتفكرش في الموت تاني لو سمحت!
+
ظل يطالعها بشفقة بعد أن لمس عقدتها من سيرة الموت بعد ما تعرضت له..وسمع همسها الحزين وهي تنظر لزاوية بعيدة:
_اظاهر بنت عمك بقى عندها عقدة من سيرة الموت!
+
هتف برفق نختلط بحنان فطري لشخصه: بنت عمي مؤمنة وقوية ومافيش حاجة تعقدها ابدًا
+
وواصل بإطلاق وعده الصادق:
أوعدك اني هدعي دايما بحاجات حلوة.. وهتمنى اني اعيش مع اللي احبها عمر طويل!
+
وقدرًا وقعت عيناه على الصغير مهند وهو يهرول إليه ليقبع بين قدميه ببراءة، فأكمل جملته:
+
واننا هنربي ولادنا سوا..!
___________________________
+
عبر الهاتف:
+
_صباح الخير ياعمي، أخباركم إيه طمني!
عاصم: الحمد لله يا يزيد كلنا تمام!
+
_ طيب أنا قلت اسيبكم كام يوم ترتبو أموركم ، بس حابب أعزمكم على العشا بكرة انت وطنط دُرة وبلقيس.. واهو فرصة بلقيس تغير الأجواء تماما.. وانا واثق هيعحبك المكان جدا..! هو قريب من بيتك على فكرة!
+
عاصم: خلاص يا زيدو موافق، هبلغ مرات عمك وهننتظرك..!
+
_ بأذن الله ..وصل سلامي لطنط وبلقيس!
+
_ حاضر يوصل.. في رعاية الله يا ابني!
____________________
+
في اليوم التالي!
+
مال على أذن زوجته دُرة مغمغمًا:
كويس إنك عرفتي تاخدي الجاكت من بلقيس، مكانش هيبقى مناسب ابدا تخرج بيه برة البيت!
+
_ الحمد ياعاصم قدرت اقنعها إننا لازم نسيبه عشان ممكن يضيع مننا.. ووافقت، هي بقيت تستجيب ساعات لكلامي!
_ ربنا كريم، عموما يلا عشان يزيد زمانه جه ياخدنا..!
+
أتى يزيد وتبادل معهم التحية ثم أستدار ليأخذ مقعده الأمامي خلف عجلة القيادة، وانطلق بهم لوجتهم.. " كافيه ومطعم الصحبة الطيبة"
___________________
1
أنتقى يزيد طاولة في إحدى الزوايا البعيدة نوعًا ما عن ازدحام رواد المطعم كي لا تهابهم بلقيس التي توسطت والديها مستمدة منهما الأمان!
وزعت دُرة أنظارها بانبهار حولها وهتفت:
بصراحة عاجبني الديكور أوي، حاجة. مريحة للأعصاب بجد. ولا. إيه ياعاصم؟
2
ووافقها بإيماءة: عندك حق.. رائع.. ثم وجه حديثه لابنته وهو يربت على كفها بحنان: حبيبة بابا أكيد مبسوطة هي كمان!
ابتسم يزيد وقال: الحمد لله إن ذوقي عجبكم، ولسه أما تدوقي الأصناف المميزة اللي ابتكرها صاحب المطعم وبقي متميز بيها جدا..!
+
بعد دقائق اضطر يزيد للابتعاد قليلا للرد على مكالمة هامة من إحدى عملاءه، أما عاصم فتصادف معه نفس المكالمة الهامة التي تخص عمله، فتركوا دُرة وبلقيس منتظرين قدوم الطعام!
+
لحظات وأتى شاب حاملا أطباق متعددة وراح يضعها بشكل مرتب حيث مكان كل فرد، وأثناء عمله السريع، وقعت عيناه علي وجه بلقيس التي بدت أمامه قمة الفتنة والجمال، ودون وعيه راح يتأملها بنظرات نهمة، بالوقت التي التهت دُرة بالبحث عن هاتفها داخل الحقيبة فلم تلحظ نظرات الشاب المريبة لابنتها.. توترت بلقيس وانكمشت على نفسها أكثر، وللحظ السيء، دوى بذات اللحظة صوت سقوط مجموعة صحون زجاجية من شاب أخر عند طاولة مجاورة..لتكتمل خلفية الصورة الذهنية بخيالها مع أجواء مشابهة..لصوت تهشيم الزجاج الذي تقفز منه هاربة من بين أنياب خاطفيها.. نظراتهم النهمة قبلها والتي تشبه نظرات الشاب الذي رمقها منذ لحظات، كلها خوطر تكالبت عليها..فصرخت واضعة كفيها على أذنيها، مسدلة جفنيها بقوة عل خيالاتها تتلاشى ومخاوفها تهدأ..!
+
انتفضت دُرة فور صدوح صراخها وراحت تهدئها ظنا أن صوت سقوط الزحاج المهشم هو فقط ما افزعها، كما هرول يزيد وعاصم إليها.. ولكنها ظلت مقيدة بأغلال الذكرى المؤلمة وهي تطارد ذهنها وتتجسد وكأنها حقيقة بنفس التفاصيل وهي تصرخ مستغيثة.. تئن وجعًا ورَكلات أقدامهم الصلبة تأتيها من كل صوب تجلدها..وجسدها غارقًا بدمائه مكوم بحقيبة سيارة، وأصواتهم تصدح بلهاث.. يهمهمون بانتصار رخيص لنيلها..!
+
وهنا أخترق قساوة الذكرى.. صوته!
فاهتزت الصورة التي تُقيدها، وتوقف بحلقها الصراخ! واختفت من مرآة خيالها كل أثر لهم..! ولم يبقى إلا صوته وحده يطمئنها وكأنه ينقلها بطياته لعالم أخر! جدرانه الأمان.. سماءه الدفء.. هواءه عبق مميز احتل محيطها ونفذ لرئتيها ليرسخ بها حقيقة وجوده..! هل أتى منقذها وحاميها و"حِصنُها الغائب"؟
+
_ أيه اللي بيحصل هنا بالظبط.. الأنسة بتصرخ ليه؟
+
ارتجفت أهدابها وانفرجت جفناها لتستقبل تقاسيم وجهه وهو يهدر بكلماته الحادة الشاب والأخير يدافع بلعثمة والخوف وهيبة من يحدثه تطغى عليه بقوة:
+
_ والله يا استاذ ظافر ما عملت حاجة للأنسة!
1
فواصل بذات الحزم والحدة:
_طب اتفضل على شغلك يا علاء وحسابك بعدين !
+
ثم التفت يطالع الجميع بقلق:
أسف يا بشمهندس لو اللي حصل ازعجكم.. هي حاجة مش مقصودة أكيد!
+
وبتلقائية حادت عيناه لتلك المذعورة بينهم يبحث عن شيء أصابها واستدعى صراخها الذي زلزل سلام الجميع !..فضاقت حدقتاه معتصرًا ذهنه كي يتذكر أين رآى تلك الملامح الخائفة؟! لم تطيعه الذاكرة وهو يفتش عنها بعقله، وهو يؤگد لنفسه أنه حتمًا مر عليه هذا الوجه.. هو ليس مما ينسون الوجوه سريعًا..!
+
طال شروده وعيناه تجول على محياها دون إدراك، أما هي، نظراتها أختلفت مابين ذهول واستغاثة وشوق بآنٍ واحد! لا يعرف كيف استطاع قراءة حزمة مشاعرها المتقلبة بمقلتيها..وبينما هو عالقٍ على أطراف أهدابها يتأملها دون قصد.. باغتت وأذهلت الجميع وجعلت أحداقهم تتسع لأخرها وهي تهرول نحوه باندفاع لم يترك لعقله هو نفسه مجالًا للاستيعاب، مستقبلًا اندفاعها المرتقب وهي تدور متخطية أجساد الجميع لتصل حيث يقف، ملتهمة المسافة الفاصلة في غمضة عين، فأصابت بإندفاعها المباغت اتزان جسده، وتشبثت أناملها بظهر قميصه، محتمية به گ درع تستجدي حمايته من خطرٍ لا يراه سواها..! فاهتزت أوصاله للمستها المستجدية وأكتسى وجهه ذهولًا من فعلتها التي لم يفهمها..وعيون المحيطين تحدجهم بفضول، وهي تكاد تحتضن ظهره وكفاها ترتجف بخوف استشعره وتأثر به! وأسنانها تصطك ببعضهما، وشفتيها التي صامت عن الكلمات أشهرٍ طوال، تهمس له همسة لم تصل لسواه من الحاضرين!
.....................
1
بينما أبويها مآخوذان بما تراءى لهما لفعل بلقيس العجيب، انتزع يزيد نفسه سريعًا من سطوة الدهشة، وجذبها بقسوة بعد أن تلمس تشبثها المستميت به گ طفلة عنيدة، وظافر كما هو متصلب لا يقوى على الحراك.. ولا يستطع إثناء يزيد عن قسوته التي تلمسها وهو ينزع الفتاة بعيدًا بعنوة حاملًا جسدها الهزيل گ العصفور الثائر، مغادرًا المكان بأكمله.. تحت أنظار عاصم الذي تحرر أخيرًا من اصفاد دهشته وتمتم ببعض عبارات الأسف مبررًا لظافر مرض ابنته النفسي وأنها غير واعية لما تفعل ولا تعرفه من الأساس، أما دُرة فلحقت بيزيد وأقحمت ابنتها داخل السيارة بعد أن قاومت بعناد باكي دخولها وعيناها متعلقة "بغائبها العائد".. فأوصد يزيد بابها المجاور بعد أن رفع حواجز الزجاج حتى يحجم صخب صراخها، ثم عاد لظافر معتذرا بشيء من الخشونة حيرت الأخير وكأنه يحمله ذنب شيء لا يعرفه..! واصطحب العم خارج محيطه مبتعدًا به، فتبعهم ظافر سريعًا وراقب ابتعادهم وعيناه مثبتة على تلك التي مازالت في حيز بصره باسطة كفيها على زجاج النافذة المسدل ونظرة عيناها ترسل له طلاسم معقدة بدموع صامتة.. لم تكن نظرة بقدر ما كانت استغاثة أثارت كل خلاياه حين استشعر استجدائها له! وتردد صدى همستها بعقله وهي تختبيء خلف ظهره مثيرة داخله حمية رجولية اشتعلت بلمستها التي ارجفته مثلها، ليومض بذهنه ذاك الحلم الغريب بفتاة غامضة الهيئة تلفظ نفس استغاثتها من مكان ما..!
+
رفع كفه ومسد به على جانب وجه ليهديء تلك البعثرة التي أصابته..فلمح أسوارة قميصه ممزقة ومنزوع أحدى أزرارها البيضاء! فأعاد عليه عقله لحظة تشبثها بذراعه وابن العم يجذبها عنوة.. فدنى بأنفه واستنشق اسوارته فوجد عبق يشبه عبقه هو.. يخصه دون غيره.. وهو ما اعتاد نثر عطره إلا على صدره! كيف وصل وفاح بتلك الغزارة من معصمه؟! هل تضع الفتاة عطر لا يناسب طبيعتها گ أنثى؟ والأغرب انه نفس عطره المعتاد؟!
+
ظل يراقب رحيلها لأخر بؤرة استطاع نظره الوصول إليها حتى اختفت تماماً..لكن لم تختفي حروف اسمها التي ترددت بين جنبات عقله !
+
_ بلقيس!
3
__________________________
+
حمم من نار استعرت بقلبه گ بركان يتأجج داخله بعد أن شاهد احتمائها الغريب بذاك الرجل! من أين. تعرفه؟ ولما هو تحديدًا من تلمست منه الآمان! فلا يفسر بفعلتها تلك سوى انها اعتبرته جدار آمن توارت خلفه واستجدت حمايته هو وحده" لما ليس هو؟ أليس أقرب وكان أولى لها أن تستغيث به دون غيره؟
+
_ الحمد لله نامت!
+
هكذا تمتم عاصم وهو يجلس جواره على إحدى الأرائك بتهالك محررا أذرار قميصه العلوية مستطردا:
+
_ أنا مش قادر افهم حاجة، ليه بلقيس اتصرفت كده، ماشي فهمت إن تكسير الزجاج حواليها خوفها، بس ليه تجري على الراجل وتحرجنا معاه، انا ماكنتش عارف ابررله اللي حصل ازاي ، بس قولتله ان اعصابها تعبانة شوية ومش واعية لتصرفها..! ( ظل يزيد على صمته الشارد فناداه عاصم) يزيد؟ انت مش معايا ولا إيه؟
+
تنحنح بحرج: لا معاك يا عمي بس بفكر بكلامك، انا كمان محتار!
+
تنهد الأخير: أنا مش عارف لحد امتي هتفضل في حالتها دي.. نفسيتي تعبانة أوي يا يزيد مبقيتش قادر اتحمل اسوفها كده، انا خايف يجرالي حاجة واسيب بنتي كده هشة ضعيفة تايهة في الدنيا.. بدعي ربنا مايخدش أمانته إلا اما يطمني عليها واشوفها بقيت بخير .!
+
نغزه قلبه لحديث عمه اليأس فمال بكتفيه وأمسك كفه وأردف برفق: ضاقت ولما استحكمت حلقاتها فُرجت وكنت أظنها لا تفرجُ!..منحه العم نظرة مفعمة بالحزن وعيناه مترقرقة رغما عنه! فواصل يزيد: ربنا يبارك في عمرك ياعمي وتعيش وتشوف بلقيس بخير وسعيد ومتهنية وناجحة في حياتها.. فين صبرك وإيمانك بالله.. مش دايما تقولي إن مافيش حاجة بتحصل لينا غير لغرض وحكمة؟ واننا كل ما صبرنا.. كل ما ربنا جازانا على صبرنا بفرحة تبكينا.. ليه تيأس بسرعة؟ وواصل:
+
وبعدين ليه بتنسى وجودي انا والباقيين، بلقيس حواليها الكل أوعى ياعمي تخاف عليها من الزمن والوحدة..انا موجود..وكلنا حمايتها وأمانها بعد ربنا.. وانت مش أب لبلقيس وبس.. انت أب لينا كلنا وعارف احنا بنعتبرك إيه ومش محتاح افكرك.. احنا عزوتك في الدنيا.. أوعى تنسى ده وتفتكر انك وحيد ابدًا..!
+
أطرق العم رأسه ليواري عبراته ومشاعره التي فاضت ممتنة لرزقه بابن شقيق گ يزيد!.. هو محق.. لا يجب أن يشغل عقله فافتراضات مليئة بالتشاؤم.. دائما هناك طاقة نور نستمدها من توكلنا التام على الخالق.. ثم بمن منحنا إياهم نبراثًا يضيئوا لنا عتمة الصعاب والابتلاءات بالحياة التي لا تَعد سوى أختبار صبرٍ.. يعد نفسه وعدًا ألا يرسَبُ فيه مهما طال الوقت!
______________________
+
أثناء مروره في طريق المغادرة، لمح المعطف الذي ترتديه بلقيس دائمًا وهو مغلف بغطاء شفاف، وعلى ما يبدو ان الخادمة تنوي توصيله لغرفها، فأوقفها قائلا:
+
لحظة.. هتودي الجاكت ده فين؟
أجابت الخادمة: انا استلمته من التنضيف وهطلعه غرفة ست بلقيس!
_ طب هاتيه وروحي انتي انا هوديه!
+
ثم تنحى بإحدي الزوايا الهادئة وراح يتفحصه ربما أثمر فحصه عن أي شيء "يشي" بصاحبه! وبعد ثواني من تفقده لاحظ وجود "جيب" صغير مختفي داخل مثيله بحجم أكبر.. عليه قطعة صلبة ملتصقة بخطوط من طرفيها ومثبتة بالجيب، وكانت عبارة عن حروف ما أن قراءها حتى جحظت مقلتيه وهو يردد الحروف المنقوشة بالمعدن الذهبي!
+
ظافر..؟!
__________________________
+
جالسة بفراشها تنظر لكفها المضموم، محتجزة بقوة شيئًا أقتنصته حين تشبثتب بذراعه ويزيد يجذبها رغمًا عنها..فعلقت بأناملها إحدى أزراره..بسطت كفها ببطء لتشاهد ما اغتنمته بتساؤل..هل تحلم أنها قابلته؟ لكن كيف وجزءًا من قميصه فوق كفها الآن.. هل استجاب أخيرا منقذها لندائها الخفي من قبو روحها البعيد؟! هل اخترق حدود الحلم لترسوا قدماه على أرض واقعها گ فارس الحكايات القديمة متمثلًا بذاك الشخص الذي رآته أمس؟ وهل ستراه مرة أخرى؟!
+
_ بلقيس.. إنتي صحيتي يا حبببتي!
+
لم تجيب والدتها التي دلفت إليها لتوها، فواصلت دُرة دون انتظار إجابة:
يلا ياحبيبتي قومي عشان نفطر وتاخدي علاجك!
+
هزت رأسها بإيماءة وهي تنظر لوالدتها التي لم تنتبه بعد لفعلتها المستحدثة..وعادت تسألها دون أن تنتظر أي رد فعل، فقط تحدثها كما أخبرها الطبيب: إيه رأيك ياقلب ماما نروح النادي اللي بابا اخدنا فيه الأسبوع اللي فات؟! هتصل بيه يبعت السواق يودينا..!
+
والتفتت بالفعل لتهاتف زوجها، لكن تصلب جسدها بغتة وانتفضت عروقها وجحظت عيناها التي كذبت ما رآت! وهي تستدير بعنف كاد يؤذي عنقها محدقة بابنتها التي هزت رأسها مبتسمة تطالع عيناها..!
+
اقتربت لها مآخوذة بما تراه وكررت سؤالها على ابنتها وهي تترقبها بتركيز شديد:
+
_ تحبي تروحي النادي يا بلقيس؟
+
هزت الأخيرة رأسها بقوة أكبر مع ابتسامة حانية وهي تطالع دُرة، ولم يعد الجمود يسكن عيناها.. بل أشرقت شمس الحياة بمقلتيها المغموسة بلون العسل
+
فكاد قلب دُرة أن يتوقف وهي تتلفقها بين ذراعيها لتتوسد صدرها لتسمع نبضها الصاخب.. والكلمات الجياشة تختلط بالعبرات:
+
أخيرا يانور عيني.. أخيرا استجابتي ورجع الحياة بابتسامتك الحلوة.. أخيرا هترجعي لأمك تاني..!
ثم. رفعت وجه صغيرتها وحاوطته براحتيها متمتمة بمشاعر متهدجة: وحشتيني يابنتي.. وحشني صوتك.. وحشني ضحكتك.. اتكلمي عشان خاطري.. خلي الروح تدب فيا تاني!
+
لم تستجيب بلقيس للحديث، لكن يظل رد فعلها نتيجة أثلجت صدر والدتها وأنبتت براعم الأمل بشفاء قريب.. وهرولت تحدث زوجها لتخبره بما حدث، فركض إليها وما أن رآها حتى غمرها بأحضانه الدافئة وهو يبكي..!
+
وكأنها لم تشعر به إلا الآن.. كم أشتاقت "حصن" أبيها الآمن الدافيء..هو أيضًا حصنها الحاني! وگرد فعل أخر زاد دهشتهم وسعادتهم معًا..رفعت بلقيس يدها بتردد لتحيط خصر والدها الذي يحتجزها على صدره.. وما أن شعر بيدها تحوطه، حتى تصلب جسده ووقفت أنفاسه وهو ينقل بصره بين وجه ابنته وبين ذراعها التي تعانقه.. فنظر لزوجته الباكية فرحًا.. وهلل بصوت مختنق من العبرات:
+
_ شوفتي يا دُرة بلقيس عملت إيه؟! بلقيس حضنتني، بنتي حست بيا.. حضنت أبوها..بنتي رجعتلي يادُرة! وظلا يبكيان وهما يغمراها بالقبلات الممتزجة بدموعهما.. متنقلة بين أحضانهما، وگأنهم يستقبلوها لأول مرة في عالمهم.. گأنها ما ولدت من رحم والدتها إلا الآن!
+
أما هي فلم تخمدُ لهفة أبويها ومشاعرهم الدافئة بين أحضانهما تساؤلها الخائف!
+
هل سترى منقذها مرة أخرى؟
_____________________
+