اخر الروايات

رواية عزف السواقي الفصل الرابع عشر 14 بقلم عائشة حسين

رواية عزف السواقي الفصل الرابع عشر 14 بقلم عائشة حسين 


                                    

*الرابع عشر*


+



♡أرهف السمع فلربما عزف السواقي أنين ومياهها دموع العاشقين. ♡


2



*فتحت عينيها على صوت إذاعة القرآن الكريم المنطلقة في المكان تمزق الصمت وتملأ سكونه بالصخب المحبب المريح للنفس ، اعتدلت جالسة تنظر لساعة الحائط المُعلّقة باهتمام فلم يكن الوقت مبكرًا أو متأخرًا عما اعتادت،بل مناسبًا لها هي تشبههم في تلك العادة.. 

زقزقة العصافير تآلفت مع صوت المذياع فصنعا مزيجًا رائعًا وفريدًا جعلها تسترخي مكانها منتظرة قدوم أحدٌ ليساعدها،  بعد قليل عزمت على المحاولة بنفسها فتحركت نافضة الدثار بعيدًا، تتعكز على حافة الفراش وأعمدته لتقف، حين نجحت ضحكت وصفقت مشجعة نفسها « براڤو يلا» 

لمحها من خلف الستارة الشفافة تحاول السير ببطء فأشاح مبتسمًا وتحرّك بسرعة غاضًا بصره وقلبه حتى لا تراه أو تغلبه اللهفة فيتأمل، نادى صغيره الذى لبى وطلب منه بلطفٍ «الغريبة صحيت روح ساعدها يلا» 

أشتعلت نظرات الصغير بالحماس وأضاء وجهه بالهمّة والعزم، ركض دون انتظار وبلهفة مسروقة من بضعة مشاعر تترسب داخل قلبه،وقف أمام حجرتها وطرق مستأذنًا بأدب استحق ابتسامتها اللذيذة «يا غريبة صحيتي أساعدك؟» 

عادت أدراجها ثانيةً لن تفوّت على نفسها الفوز بصحبة الصغير ولا احتضان أنامله لأناملها، ستطيل طريق السير لتنعم بحديثه الذي لا يُملّ وتستمتع بضحكته التي تشبه وعود الأحبة.. احتارت كيف تجيبه؟  واحتارت أكثر لما صوتها ينحبس؟ وحروفها تتبعثر؟ 

زفر الصغير بملل وحزن وصلها فتجولت عيناها بسرعة في المكان باحثة عن منفذ 

ألقت كوبًا من الاستانلس أرضًا فدفع قاسم الباب بعدما نطق «بعد اذنك يا غريبة» 

ابتسمت ورفرف قلبها بجناحي البهجة طار بها في فضاء جميل حين نطق برزانة وأدب، دخل متهاديًا يحييها «صباح الخير» 

هزت رأسها بابتسامة متألقة فجلس جوارها قائلًا «بجيتي كويسة؟» 

هزت رأسها بنظرات ممتنة فقال وهو يفرد كفه «تعالي يلا اتوضي وصلي عشان نفطر» 

وضعت كفها فوق كفه وسارت معه ببطء حتى باب الحجرة، استقبلت أم جمال ظهورها مهللة بفرحة «يا صلاة النبي» 

ثم أخذتها منه وساعدتها.. 

بعد قليل كانت تجلس متربعة وأمامها صينية صغيرة فوقها طبق، أوضح قاسم وهو يضع طبقه جوار طبقها مستئذنًا «ينفع أكل معاكي» 

هزت رأسها فوضعه وتربع أمامها مُصرّحًا «بحب البليلة جوي، وبحب الي بيعملها أبوي» 

حركت ملعقتها في الطبق بتفكير، تتأمل حبات القمح كأن كل واحدة تخبرها عنه وتحكي لها قصته، تابع قاسم بمرح «دوجيها هتحبيها جوي أنا متأكد» 

أومأت وتناولت أول ملعقة ، فقال قاسم ممثلًا ما يقول «أبوي بيجول أول ما نحطها نغمض عنينا ونحس بطعمها وحلاوته» فعلت مثلما قال ومضغت متلذذة مستمتعة تصدر همهمات راضية أضحكت قاسم ووالده الذي استمع برضا وهو يمرّ من تحت النافذة. وقع بين نظراتهما اتفاق على سباق يقام بينهما على مَن ينهي طبقه. أنهى قاسم طبقه أولًا بسرعة وضحكاته تسرق من الأيام فرحة وتعانق الأمل.. 

أنهت هي جزءًا من طبقها فقال قاسم «مش عجبتك؟» 

أبعدت الأطباق وضمته دون كلمة ودون حديث، بعاطفة شديدة صادقة غمرته فاسترخى داخل أحضانها رغم دهشته بادلها عناقها شاكرًا.. 

تركته بعدما لثمت جبينه، فقال بصدق «أنا حبيتك جوي يا غريبة» 

ابتسمت تمنحه نفس القول في نظرة جميلة فنهض من مكانه وسحب لها الدواء من فوق الكومود البسيط وأعطاه لها قائلًا «اشربي علشان متتعبيش وتخفي» 

امتثلت بطاعة وبعدها تمددت في إرهاق احتل جسدها، تركها قاسم مودعًا وغادر مُغلقًا خلفه.  

****

استيقظت ظهرًا برغبة شديدة في الحديث ومعرفتهما عن قرب، تريد مجاراة الصغير واللعب معه...جربت الحديث مرات وأجلت حنجرتها من رواسب الألم والخوف كثيرًا حتى رضيت  ، خرجت متعكزة حتى وصلت لكليم مفروش أرضًا جوار تماضر  جلست فوقه منتظرة بلهفة دخول قاسم لتفاجئه، انشغلت بترقبها حتى نسيت إلقاء السلام على الخالة أو ربما احتفظت بأول نطقٍ وعودة لعمل أحبالها الصوتية له وحده ، لم يخيّب الصغير ظنها ولم يتأخر على لهفتها، دخل منزعج الملامح منطفيء البهجة وسراج الروح. 

فأمسكت به جدته حين شعرت به متسائلة في عبوس وهي تتحسس قسماته «مالك يا قاسم؟» 

أجابها بإستياء واضح وضيق ونظراته تنخفض أرضًا في يأس«أبوي» 

سألته الجدة بإهتمام وشفتيها تتسع في شبه ابتسامة،بينما تتابع الغريبة بصمت وترقب «ماله يا واد مزعلك ليه؟» 

قال بتأفف واضح وإنزعاج وهو يجلس جوارها في إحباط «كل حكاويه الأيام دي يا أما الأمير بيموت يا بيسيب الأميرة» رقّت لرؤيته عابسًا حزينًا فتخلت عن صمتها بسرعة وهمست متسائلة بحنان «وأنت عايز ايه؟» 

توهجت نظراته مشدوهًا بصوتها الرقيق الناعم،اقترب يحملق فيها بدهشة وسعادة بعدما سرقته من أحزانه بتلك المفاجأة«بتتكلمي؟» 

ضحكت بنعومة على رد فعله  ثم أجابته بمرح وسعادة «أيوة» 

اندفع ناحيتها يخبرها ببهجة خاصة  «فكرتك خرسة» 

ضحكت مرة أخرى برقة وأجابته «لا أنا بتكلم» 

هتف الصغير بضحكة طفولية جذابة وهو يخبرها ببراءة «صوتك جميل» 

قرصت خده قائلة «أنت الي جميل أووي» 

جاورها فوق الأرض البسيطة فوضعت كفها فوق خصلاته وسألته بحنان بالغ «مقولتليش كنت عايز نهاية الحدوتة إيه؟» 

أجاب بأمل «الأمير يتجوز الأميرة ويخلفوا ويعيشوا فتبات ونبات» 

اتسعت ابتسامتها وعرضت عليه بمرح طفولي «خلاص أنا هحكيلك حدوته أحلى وهتعجبك» 

عقد ذراعيه أمام صدره وقال بغطرسة «ماشي جولي يلا وهشوف» 

بدأت تسرد له بصوتها الساحر وابتسامتها اللذيذة فظل مشدوهًا يستمع، مسحورًا برقتها وجمال كلماتها حتى انتهت وسألته عن رأيه فأجابها بإعجاب شديد  «حلوة جوي والله هطلع أحكيها له وأغيظه بيها» 

هتفت توصيه قبل أن يختفي من أمامها بحماسه  «قولّه الغريبة بتقولك متموتش الأمير، مفيش أميرة من غير أمير ولو مات الأمير مفيش حكاية»

هز قاسم رأسه واندفع للخارج مناديًا«يا أبوي» 

توقف حامد عما يفعله من رمي البذور وسأله ونظراته تتقدمه في ركضه إليه «خبر ايه يا قاسم» 

وقف قاسم أمامه قائلًا بسعادة وفخر «الغريبة طلعت بتتكلم» 

ابتسم حامد وعاد لما يفعله قائلًا«طيب الحمدلله» 

سار قاسم خلفه قائلًا بانتصار«وعارف جالتلي ايه؟» 

تلك المرة توقف كما أنفاسه التي حبسها وسأله باهتمام «جالت إيه؟» 

قال قاسم فخورًا بما نال «حكتلي حكاية حلوة جوي» 

اتسعت ابتسامة حامد بعدما تنهد برضا وسأله وهو يعاود السير ناثرًا بذوره «وإيه كمان» 

قال قاسم «جالتلي جول لأبوك الغريبة بتجولك متموتش الأمير، مفيش أميرة من غير أمير ولو مات الأمير مفيش حكاية» 

ضحك حامد وواصل العمل قائلًا مُجاريًا له «زين والله» 

ركض قاسم عائدًا فالتفت له أبوه يسأل «رايح فين تعالى ساعدني» 

قال قاسم «هجعد جار الغريبة ساعد نفسك» 

عاد حامد للعمل مغمغمًا بغيظ «يخربيتك يا عبود خفيت فين تاجي تلحجني» 

عاد قاسم فوجدها تعكزت وعادت للحجرة، فتح الباب الذي كان مواربًا فشهقت متفاجئة، تراجع خائفًا يعتذر بقلق وأسف شديد «أنا آسف والله مجصدش» 

لملمت خصلاتها الكستنائية للأعلى وهي تهمس بحزن «تعالى متخافش» 

وقف صامتًا متصلب الجسد، نظراته تمرّ عليها ببطء مُربك لها، نادته تحرره من انفعالاته جميعها «تعالى يا قاسم» 

تحرك ناحيتها صامتًا مبهوتًا عينيه تنضح حزنًا وتأثرًا مما رأى ولمح دون دثار ومراعاة.. سألته بقلق نفذ من أعماق قلبها الآن «خوفت مني يا قاسم» زينت قولها بابتسامة مهتزة متصدعة كجدران رضاها الآن وهي ترى الصغير في حالة غريبة بعدما رأى حروقها التي كانت تحرص على تخبأتها عنه هو خصيصًا. 

هز رأسه برفض ولم ينطق فتنهدت وأشاحت دامعة وهي تُعيد الحجاب من جديد بربطة محكمة لا تتيح للناظر رؤية كربتها. 

خرج قاسم من الحجرة مطأطأ الرأس وأغلق خلفه، ترك البيت كله واستنجد ببيت قلبه وجدرانه الدافئة، لمعلمه وطبيبه، جلس حامد أسفل النافذة كما تعوّد يذكر الله ويدندن بما طرأ على ذهنه واعتنقه لسانه، توقف عن الدندنة حين جلس قاسم جواره كئيبًا، سأله منتبهًا له بقلق «مالك يا قاسم» 

غمغم قاسم وهو يمسح عينيه من الدموع«شوفت الغريبة» 

لم يفهم قوله ولم يعي تفسيره لكن قلبه انتفض وهزّ كيانه، أحاطه واستفسر فأوضح قاسم بحزن «شوفت الحرق» 

سأله حامد وهو يتنهد فهو رآه حين عاد بها ومسح لها وجهها وحين جاء الطبيب  «وجولتلها إيه؟» 

رفع نظراته لأبيه وحكى له ما حدث، لم يلمه أو يرهق قلبه بعتاب لن يُجدي بل ابتسم قائلًا «طيب بتبكي ليه» 

قال قاسم ببراءة «عشان صعبت عليا» 

عبس حامد قليلا ثم وجهه بلطف «هترجعلها يا قاسم ومش هتقولها صعبتي علي دي خالص هتعمل الي هجولك عليه يا بابا وبس» 

أومأ قاسم موافقًا فأملى عليه والده ما سيفعله وبعدها مازحه وشاكسه بطلب آخر أخجله كثيراً فرفض ببراءة 

«لاه اتكسف» 

ضربه حامد على مؤخرة رأسه ممتعضًا متأففًا «طيب يا خايب اتكسف هقوم أبوسها أنا» 

ضحك قاسم مستفسرًا «هو ينفع؟» 

وبخه حامد بضيق «أبو الي جابوا أبوك بعلم فبجرة أنا كل دِه؟ ينفع إيه يا واد ؟» 

ظهر عبود من خلفه يهرول كعادته ذاكرًا الله بصوت مسموع فصاح عليه حامد «تعالى يا بتاع الورايط تعالى حرقة أبو الي جابوا أبوك أنت التاني » 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*الياسمين يعرج من صوتها لقلبه فيزهر*

بعد ثلاثة أيام 

برحيله تصبح الجدران باردة مهما تدثرت ترتعش وتنكمش فاركة كفيها تحت الغطاء، فينصحها قاسم بالتدثر بعباءة والده لأنها تنشر الدفء سريعًا في الجسد وتغمره به، نصيحة بسيطة وعفوية تخجلها كثيرًا فترفض وتعطيها له بمحبة خالصة، غير أنها تخجل ترغب في أن يستأثر قاسم بكل الدفء ولا يتنازل لأجلها أو يتضرر بعطائه المفرط. 

غاب والده ثلاثة أيام حين جاء، جلس كعادته تحت النافذة يدندن وينشد ويحاور رأفة ويمنح محبته لقاسم، بمجيئه أصبحت الحجرة دافئة لا تعرف كيف وحيرها هذا الأمر هل تمتص الجدران الدفء من صوته فتغمرها به، أم حكاياته هي التي تشغلها عن البرد والعالم فتشرد فيها وتستمع باهتمام يدهشها هي فتنسى البرد وهويتها ومن تكون والحياة، تشعر أن الدنيا قذفتها لهذا العالم لتنال المحبة وتطيّب جراح القلب وتريها جانبًا آخر لا تعرفه وأناس تشعر أنها تنتمي إليهم لا تعرف كيف، لكنها تحسّ بأنها جزءًا منهم انفصل وعاد.. يأتي قاسم يساعدها لتصلي، ينبهها ألا تترك صلاتها ولا تنسى، يخاصمها إن تأخرت في أدائها ويعبس بغير رضا سرعان ما يزول حين تعتذر وتطلب مساعدته. 

يجلس جوارها ويحكي عن والده بفخر وحماس وإعجاب تمتليء به نظراته حين ينطق، كأنه حبيب الحديث عنه يطفيء لهفة الشوق ويسكت أنين القلب المغرم  . 

فجأة انقطع التيار الكهربائي واشتدت الظلمة فدخل قاسم يحمل شمعة قائلًا «جيت عشان متخافيش» 

اتسعت ابتسامتها بمحبة تتجذر في القلب وتنمو في الروح، أفسحت له ليجلس ففعل بعد أن وضع الشمعة فوق الكومود.. 

ناداه والده بصوتٍ رخيم «قاسم» 

قفز الصغير في لهفة مُلبيًا فقال والده والقلق يعانق أحرفه «هاتلي الشال يا بابا» 

سأله قاسم باهتمام «رايح فين يا أبوي الدنيا بتشتي» 

فرك حامد كفيه قائلًا بقلق لا يتركه يهنأ ويكدر نبرته بالخوف «عبود مجاش زي عوايده والدنيا بردت وبتمطر بره» 

قطبت مندهشة هل يوجد فردًا في هذه العائلة لم يظهر ولم تعرفه؟ من يكون عبود الذي عناه  بهذا القلق وخصه بهذا الاهتمام؟ 

ركض قاسم للداخل واحتمت هي بالظلام وتدثرت به، مطمئنة لم تنتبه أنه حين انشغلت سرق نظرة اطمئنان خاطفة جلبت الابتسام لقلبه وعاد للخلف متقهقرًا منتظرًا قاسم، لاعنًا هذا الشعور الذي ينمو داخله ولا يستطيع السيطرة عليه وتحجيمه بالشدة، فابتسامتها وحديثها الجذاب الرقيق يفك كل قيوده ويبعثره كذرات تطير في الهواء..عاد قاسم بالشال والعباءة قائلا بحزم طفولي «خدها عشان البرد وعشان عبود» 

انشغلت تماضر محدثة نفسها «هيكون غار فين المكفي دلوك في البرد» 

مسح حامد على رأس صغيره وأخذهما دون جدال وخرج يبحث ويفتش عن الغائب بخوف يختبيء بين الضلوع لا يفارق ولا يترك مستحلًا أرضه، مرة يهدأ ويترك لنفسه بعض الحرية ومرة يثور يتأجج معيثًا في كيانه الفساد والخراب.. 

زاحمت تلك الغريبة القلق والخوف أخذت نصيبها من أفكاره وإرثها من القلب بسرعة مخيفة تشغله .. 

طرق الأبواب ونادى، غاص في الوحل وجاب الشوارع بحثًا حتى وجده يجلس تحت تعريشة بائعة الخضار ينتفض.. ابتسم برضا وجلس جواره يقتسم معه العباءة حتى يهدأ المطر ويعودان..«جلجتني عليك جاعد هِنا ليه؟» 

أجابه عبود كأنه لم يسمعه يهذي في عالمه الخاص وهو ينظر للمطر المتساقط «المطر بيغسل حتى الروح يا حامد، أنا بحب المطر» 

فرك حامد كفيه ببعضهما مبتسمًا ينظر مثله للسماء يعرج بنظراته لأبعد نقطة متمنيًا اختراقها ليصل همسه ودعائه. 

شجعه عبود الذي خفت صوته بوهن «ادعي يا حامد هتوصل» 

دعا بما في نفسه فقال عبود برفض واعتراض كأنه سمع دعواته  وفتش فيها ولم يجد ما يرضيه «متخافش ولا تتكسف ادعي بيها يا حامد ربك للجلوب جابر ومنجي» 

صمت حامد بخجل من تعري نفسه فتأوه عبود وقال «مين للجلب غيرها يا حامد؟  هي منه وليه؟  من طينتك ومن ضلعك بتكملك وتكملها» 

نهض حامد قائلًا  بمزاح «يلا جوم وكفياك حديت هتوديني فداهية» 

نهض مع عبود يقتسمان العباءة فوق رؤوسهما، يسيران تحت نقاط السماء مبتهلين حامد يدعي وهو يهتف «حبيبي يارب» 

وصلا فطرق حامد الباب مستأذنًا، أغلق قاسم عليها الباب جيدًا وركض ليستقبلهما بعدما ارتاحت نفسه بمجيئهما.. 

أجلس حامد عبود ودثره بالعباءة ونهض ليصنع لهم جميعًا مشروبًا دافئًا.. 

بعد قليل منح كوبًا مما صنعه لقاسم وقال له «وديه جوه» 

تحركت تماضر من مكانها تسأل «كت فين يا حزين» أشاح عبود ممتعضًا «مالكيش صالح» لوّحت بيدها وغادرت متعكزت على عصاها حتى دخلت الحجرة تتحسس طريقها حتى وصلت لمكان جوار الفراش مفروش جلست فوقه وقالت لقاسم الذي فتح لها الباب  «يلا أجعد مع أبوك بره» أغلق قاسم الباب بالمفتاح كما أوصاه والده وعاد ،وما وصاه بفعلها إلا لتطمئن ولا تقلق بوجود الكثير معها في نفس المنزل على غير العادة 

قال عبود وهو يأخذ كوب الشاي من يد حامد «عايز فايش» 

منحه حامد طبقًا مملوءًا بما طلب وجلس جواره وبينهما قاسم يستأثر بدفئهما معًا، قال عبود وبقايا الطعام تتناثر من فمه «عايز جلابية جديدة وشال وجزمة يا حامد» 

مازحه حامد قائلًا «ليه هتموت؟» ضحك قاسم بينما قال عبود بجدية «لاه هدسهم لما أموت» 

تأثر حامد بقوله لكنه أخفى تأثيره به ومازحه «لاه لما تموت» 

تجاهل عبود الحوار وبدأ آخر بهذيان شابه السخط والغضب «واد عمران نطّ على بيت حسين عشان يصور البت، بيضايجها ويبكيها  يا حامد بيجول إنه غني؟» 

ترك الكوب والفايش ونظر لعيني حامد نظرة ثاقبة متوهجة وقال بنبرة مهيبة «الله هو الغني» 

ضم حامد شفتيه واللعنة داخله تريد أحرف عبود لتكتمل وتحرق العالم، يكبح غضبًا لا حد له اللحظة وهو يسأله «شوفته» 

أمسك عبود بالكوب ثانيةً وقال «شوفته وجال إني كداب ومخبول، وجال إنه كبير واد كبير...» وضع عبود الكوب أرضًا بعصبية شديدة فتناثر الشاي، وقال «الله كبير واسع» ثم خفتت نبرته وقال بانكسار يزينه العطف «البت غلبانة وطيبة وبتديني حلاوة يا حامد» 

تعجبت ازدادت دهشتها أضعافًا مما تسمع، واهتمام حامد هذا بكلام مجذوب وأخذه على محمل الجد، صبره عليه وحلمه و مناقشته بجدية والمزاح معه، بل كيف لهذا المنزل الصغير أن يؤويه ويحمل بين جدرانه متسعًا له ولحديثه ولقلبه،بل أن يضحى ملجأً وملاذًا أمنًا واستغاثة فورية، بالله في أي بقعة من الأرض لفظتها الحياة ؟ ربما هي على حدود الزمان والمكان في بقعة غير كل بقاع الأرض. 

اقترح عبود عندما سكنت معدته عن العواء وضُخ الدفء في أوردته «غنيلي الأغنية الي بحبها يا حامد» 

قالها وتمدد مكانه فقال حامد وهو ينهضه «دفيت خلاص  جوم أغسلك وشك وايديك وأمسح راسك» 

رفض عبود بضجر وانكمش فاقترب حامد وسحبه راكلًا اعتراضه «جوم بلا لاه» 

جلس من جديد في غضب وضجر يهدده كما الأطفال «مش هدعيلك» 

ضحك حامد وهو يقرّب المياه الدافئة منه ليقوم بعمله «متدعيش» 

ساعد قاسم والده و ألبساه ملابس نظيفة كانت له داخل حقيبة معُلقة على الحائط  للطوارىء، انتهيا من العمل فعاد ليتمدد من جديد، افترش حامد له ولصغيره ركنًا دافئًا، سحبه لأحضانه وضمه متدثرًا ليطلب عبود مرة أخرة بإصرار «غني يا حامد الأغنية الي بحبها» 

وافق حامد على مضض مبتسمًا وبدأ في الإنشاد بصوتٍ جميل والمطر يعزف لحنًا شجيًا بالخارج يتحرك متّبعًا نوتة موسيقية إلهية تتضافر مع نغمة صوته وجمال كلماته، ضحكت ضحكة خافتة مستمتعة وهي تتمدد متدثرة في طمأنينة وصوته يحرسها، تسمتع باهتمام وتردد معه بخفوت... ابتسمت تماضر وصوت الغريبة يصلها واضحًا وضحكتها الناعمة تزين تلك اللحظات الجميلة، دعت لها وتمددت هي الأخرى... تثاءب حامد فتثاءبت هي مبتسمة وسقطت بعدها في النوم العميق. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فــي الـــصـباح

جلست جوار أم جمال المنشغلة قائلة بنظرات تركض خلف أنامل أم جمال التي تعمل بحرفية وحماس «حلو أووي إيه دا بقى؟» 

ابتسمت أم جمال بنضارة وأحمرت خدودها تلقائيًا بمسحة جمال رائعة،أجابت وهي تفرد ما تغزله بينهما «دِه شال للحريم» 

مررت الغريبة كفها عليه مُصرّحة باعجابها «جميل أووي تسلم إيدك» 

ربتت أم جمال على كتفها قائلة بضحكة تتألق في محياها الجميل وتزيده بهاءً «تسلمي يا حبيبتي والله أنتِ الي جميلة» 

تابعت أم جمال الغزل ونظرات الأخرى تتابع اتقانها وسرعة أدائها في انبهار وإعجاب ثم وصفت لها ما تراءى لها في نفسها وتخيلته مبتسمة «هيبقى جميل لو الورود دي حمرا بورق أخضر وكان الشال على شكل مثلث» 

ابتسمت أم جمال موضحة لها بحنو «هِنا مش هيلبسوا أحمر وهما خارجين» 

أوضحت الغريبة «ممكن في البيت هيكون لذيذ»

طرق قاسم مناديًا يستأذن قبل أن يدخل فتحركت متلهفة لرؤيته، تعانق نظراتها الباب في شغف منتظرة دخوله، أذنت له هي بسرعة خوفًا من تباطؤ أم جمال في الإجابة يؤخره ذلك عن الدخول ففعلت هي «تعالى يا قاسم» 

حياها بابتسامته الرزينة قبل أن يجلس جوارها ويسأل «ازيك يا غريبة» 

أجابت وعينيها تضمه بنظرة خاصة عوضًا عن حضن حقيقي «الحمدلله يا قاسم» 

وضع قاسم حقيبة ورقية أمامها قائلًا بعدما أعاد تنبيه والده على ذهنه وتذكر تحذيره «خدي دي هدية مني» 

سألت بلهفة طفولية «ليا أنا» 

ضحك قاسم على تعبيرها مؤكدًا «أيوة» 

سارعت باكتشافها دون خجل أو حرج كأنها منهم وهم منها لا فاصل زمني حرمها من الترعرع بينهم ولا حائط يفصل أرواحهم، وجدت حجابات كثيرة وإسدالين صلاة ومسبحتين رقميتين» 

قال قاسم وهو يشير للمسبحة الرقمية بأنامله «هنتسابق» 

نظرت إليه طويلًا دامعة ثم طلبت بتوسل ملأ كلماتها «ممكن أحضنك» 

هرش قاسم فروته خجلًا قبل أن يوافق لها على طلبها «ماشي» 

ضمته بقوة مقبلة رأسه شاكرةً له «شكرًا كتير يا قاسم أنت أجمل ولد أنا قابلته» 

ابتعد قاسم عنها رافعًا نظراته إليها يقول «وأنتِ يا غريبة» 

فاجأته بقولها «جولي غزل اسمي غزل» 

ضحك قاسم قائلًا ببهجة «بتتكلمي زينا» 

خبأت ضحكتها خلف أناملها وقالت بمرح «ايه رأيك تعلمني؟» 

قطب قاسم بتفكيرعميق بريء أضحكها قبل أن يوافق بغرور لطيف مُحبب «ماشي يارب بس تتعلمي زين» 

سمحت لضحكتها بالتحرر من القيود وأن تنفلت حتى تصل للذي يجلس بالخارج مستمعًا لحوارهما وهمس 


3




                    


                

لا تَسألِ اليَومَ عَمّا كابدت كَبدي

                 لَيتَ الفِراقَ وَلَيتَ الحُبَّ ما خُلِقا


+



ما باِختياريَ ذُقتُ الحبَّ ثانيةً


+



                وَإِنّما جارَتِ الأَقدارُ فاتّفَقا


+



وَكنتُ في كَلَفي الداعي إِلى تَلَفي


+



                 مِثلَ الفراشِ أَحَبَّ النارَ فَاِحتَرَقا


+



يا مَن تَجَلّى إِلى سرّي فَصيّرني


+



                 دَكّاً وَهزَّ فُؤادي عِندَما صعقا


+



اِنظُر إِليَّ فَإِنَّ النَفس قَد تَلِفت


+



                      وَارفُق عَليَّ فإنَّ الرُوحَ قَد زهِقا


+



أبو البقاء الرندي


+



همست بشيء فوافق قاسم فورًا ونهض أولًا يمد لها ذراعه«يلا» 

نهضت فسألتها أم جمال وهي تترك مابيدها «رايحه فين أساعدك» 

رفض قاسم «لاه أنا هساعدها» 

تحركا ناحية الباب وقفت خلف عتبته الأسمنتية العالية وخرج قاسم ووقف بينها وبين والده الجالس فوق الأريكة الخشبية، اقتسم المسافة لينال أكبر حظ من قربهما معًا «أبوي الغريبة عايزه تكلمك» 

انتفض من استرخائه وهدوئه أعطاها ظهره وقال مُرحبًا «يا مُرحب أأمري» 

ابتلعت ريقها وقالت بخجل وتوتر شديد من هذا الذي يعطيها ظهره متحدثًا بادب وحروف تقطر هيبة «كنت عايزة أشكرك» 

ابتسامته شملت وجهه كله وقال «لا شكر على واجب» 

قالت رغمًا عنها «عايزة أمشي» 

رفض قائلًا متمسكًا بمبرره «لاه لما تخفي وتبجي زينة، الدكتور جال أسبوعين» 

استنكرت بحرج وعفوية لطيفة «يااه هقعد كل دا هنا؟» 

قال مُرحبًا لا يجد غضاضة في الأمر «وإيه المشكلة؟» ثم انتبه حين استندت على دلفة الباب بتعب صرخت لأجله مفاصل الباب وقال بعفوية  «ساعدها يا قاسم»تعجبت بشدة من مراعاته وشعوره، وقفت مبهوتة تهرب كلماتها وحججها منها من بين أنامل أفكارها، ستخبره أنها لا تريد الرحيل بل تريد البقاء هنا أبد الدهر.. أمسك قاسم بها مانحًا لها كتفه كقوة تستند عليها ودعمًا يبارز ضعفها... وضعت كفها على كتفه وتابعت بتشت تكمل سلسلة اندهاشها «مسألتنيش أنا مين، دخلتني بيتك وأكرمتني ومهتمتش» 

أجاب ووهو يفرد كفه فوق قلبه مهدئًا من دقاته الثائرة التي تغزل حبًا مبهرًا  بأنامل صوتها الرقيق«مش مهم أي حاجة المهم تبجي بخير» قالت بحرج «أنا مش من هِنا وكنت جاية....» قاطعها قائلًا بعدما أحس بتوترها من نبرتها واهتزاز حروفها «متشليش هم حاجة لما تخفي وقتها لو حابة تحكي هسمع منك كل الي عايزه تجوليه»

ثم رفع ذراعه وقال بسرعة منهيًا الحديث «ادخلي مع قاسم واطمني» 

تحرك مبتعدًا في إشارة واضحة لأن ترحل وغادر فعادت هي للداخل واجمة بإحباط لا تعرف سببه و ضيقًا لا تعرف مصدره. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في اليوم التالي عصرًا

عاتبه قاسم وهو ينظر للعصفور برأفة «رجعه عشه يا أبوي؟»

نظر له حامد بحنان طاغي وهو يضمه بكفه شاردًا في ما لا يعرفه سواه «لاه مش دلوك» 

سأله الصغير بحاجبين التصقا حيرة ً وضيق «أمال متى؟» 

أجاب حامد ونظراته تهرب للنافذة وتدقها بلهفة «لما نداوي جناحه المكسور ويعرفنا ونعرفه» 

سأل الصغير بفضول وأنامله تتحرك فوق العصفور بحنو ورقة «وليه يعرفنا ونعرفه؟» 

قال حامد بتنهيدة وهو يبتسم «عشان يرجعلنا ومينسناش لما يطير تاني»

لم يقتنع الصغير وتابع السؤال «ولما يطير كيف هيرجع ويعرفنا؟» 

همس حامد بأمنية «جلبه هيدله علينا والروح للروح مرسال » 

قال الصغير ببلاهة وهو يحك خصلاته «مفهمتش حاجة» 

ضحك حامد وضربه خلف رأسه ممازحًا «واه وأنت من متى بتفهم يا أبو مخ تخين» 

قال الصغير ونظراته تتوسله ببراءة وطفولية «بجولك إيه يا أبوي؟» 

أجابه حامد وهو يتابع العصفور الجريح بنظراته «ما تتجوز الغريبة» 

انتبه له حامد بكامل وعيه المسلوب، نظر إليه بإمعان قبل أن يسأله بدهشة عظيمة «ليه أتجوز الغريبة؟» 

حكّ الصغير فروته قائلًا بخجل «عبود بيجول لايجة عليك يا أبوي ولو اتجوزتها مش هتمشي من هِنا وأنا مش عايزها تمشي» 

قالها الصغير بحزن وبؤس فربت حامد فوق رأسه بلطف مُقدرًا شعوره وكلماته خارج المنطق، قبل أن يمازحه «اتجوزها عشانك؟» 

صارحه الصغير بجرأة «وعشانك برضك، أنت مش هتزعل لما تمشي؟» 

ضم حامد رأس الصغير لصدره بصمت وهو يخبره بيقين وصدق نبع من إحساسه وشعوره «متخفش هتمشي وترجع قدرها تكون بينا ووسطنا» 

همس بما لم يفرج عنه ولم يتعدى كونه همسًا لنفسه «جدري تاخد جلبي معاها لغاية ما ترد تاني» 

بعد قليل وحين اكتفى من نقاش والده دخل بوجه حزين وعبوس يفطر القلب، عيناه تنزف دموعًا ليس لها هوية وقلبها ينزف لأجله حزنًا بهوية المحبة الخالصة، يطأطأ رأسه منكسرًا فتنكسر في عينيها الدنيا وبهجتها، تلملمها بين أناملها راكلة..تخطاهم للحجرة، جلس منكمشًا في ركنٍ قصي عن الأنظار، يفرغ همه في دموع ونهنهات حطمتها فنهضت متعكزة رافضة المساعدة قلبها يحملها ومحبة الصغير عكازًا، جلست جواره مُقلدة له بعدما سحبت الغطاء وألقته عليهما، ثم ضمت رأسه لصدرها تحميه أولًا من شظايا ما سينطق به، وتُلقي له مجدافًا من اهتمام  لينجو من ظلمات حزنه، همست متأثرة بمعاناته «مالك يا قاسم زعلان ليه وبتعيط» 

رفع رأسه وعينيه الغارقة في بركة دموع قائلًا «عايز أزور أمي وأبوي مش راضي» 

بهتت ملامحها وسقطت أوراق ثباتها بعدما هبت رياح المفاجآة  «تزورها؟ هي مامتك فين؟» طأطأ رأسه بانكسار وحزن ونطق وكل بؤس العالم في أحرفه«عند ربنا يا غريبة » انهار صمودها الواهي الذي تدّعيه، جرفه التيار ليسبح في مياه الضعف، تحررت من بقايا قوتها ، ضمته تشاركه الحزن والبكاء مكتفية بربتات حانية على ظهره وقبلات حنان تنثرها على رأسه وهي تهمس «الله يرحمها» 

صارحها والبكاء عالق بصوته الطفولي «عايز أزورها وأكلمها مش بيوافج» 

تماسكت لأجله، مسحت دموعها مستدعية كل قوتها أمام الضعف، مشهرةً سلاح الحب في وجهه لينهزم، حبها للصغير يتضاعف وينمو، يتكاثر ليقتحم خلاياها فتتشبع روحها به لا تعرف كيف ولا لما لكنه يتغلغل داخلها متسلقًا كشجرة لبلاب... مسحت دموعه بكفيها واستفسرت بابتسامة قدمتها كحلوى لذيذة تجذبه بها من ضياعه وتسد بها جوع مشاعره، مدّت كف قلبها ليقبض عليه حتى تعيده من أرض الحزن والكآبة لواحة السعادة «بابا بيقول إيه لما تطلب؟» 

قال ببراءة و شهقاته القصيرة تخرج من بين الكلمات ببصمة الفقد «مش عارف، مرة مش فاضي ومرة مينفعش يوديني» 

مسحت على رأسه مهونة عليه «متزعلش مش محتاج تروح ادعيلها واتصدق وهيوصلها» 

هز رأسه بصمتٍ عاجز فقالت بحزنٍ عتقته السنون في قلبها «عارف إن أنا كمان ماما ماتت وأنا أدك؟  وكبرت من غيرها وكنت لوحدي فكل حياتي» 

سألها ببراءة منسجمًا مع قصتها متفاعلًا بجوارحه مع همسها ومنشغلاً به «وأبوكي فين؟» 

أوضحت له بابتسامة سعيدة بتوقفه عن البكاء«موجود بس مش زي باباك» 

عبس مستفهمًا بحيرة «يعني إيه؟» 

قالت مبتسمة وهي تضمه بحنان «أبوك بيحبك وبيهتم بيك وبيعلمك ربنا عوضك بيه متزعلوش ولا تزعل منه ويلا ندعي لأمهاتنا» 

ابتسم مبتعدًا عن أحضانها يخبرها بعفوية «أنا حبيتك يا غريبة متمشيش وتسبيني» 

ضمته مرة أخرى بقوة صامتةً عاجزة عن منحه وعدًا لن توفيّ به. 

**

فــــــــي الـــــقــــاهــرة

صعد يونس السلّم ببطء وتعب غير عادته، فتح باب شقته وهمّ بالدخول لكن ندائها أوقفه مكانه وجعله يستدير مستفسرًا عن السبب «أيوة يا دكتورة» 

تقدمت في خجل،وقالت وهي تمدّ له كفها برزمة أموال معتذرة عن تأخرها في سداد الإيجار «اتفضل الإيجار» 

نظر للأموال بإقتضاب وفكر شارداً  قبل أن يعطس ويعتدل قائلًا «رؤوف مش جاعد؟» 

سألته بحرج من مدّ كفها له طويلًا وهو لا يهتم «يعني إيه؟» 

تأوه يونس من تعب صدره وأجاب «رؤوف الي بيستلم مش أنا لما ييجي اديهاله» 

عرضت عليه بخجل «عادي ممكن تديهاله» 

ابتسم هازًا رأسه يخبرها بمزاح «لاه مش ممكن احنا اخوات أيوة بس مش كل حاجة عادي  » 

أعادت كفها الممدودة بحرج شابهُ الغيظ قبل أن توضح باستياء «أنا اتأخرت عليكم ومش هينفع استنى كمان» 

استدار يونس لشقته قائلًا بحماقة «لاه اطمني أخويا باني العمارة لله وللوطن فمش مشكلة لو مجبتيش حتى» 

اسود وجهها في حزن ودهشة من كلماته التي أصابت قلبها العليل في موضع قتل, وأصابت كبرياؤها بحمى الهوان والذل. 

صمتت مبتلعة الإهانة وتراجعت خطوة ثم رمت له الأموال أرضًا قائلة بغضب خالطه بعض المرارة «الفلوس أهي حضرتك خدها أو لا» غادرت لشقتها بسرعة قبل أن يلتقطها ويناديها بعصبية وغضب من حماقتها وطريقتها... أغلقت الباب وبقيت خلفه تلتقط الأسى  مع الأنفاس. 

نظر للأموال لاعنًا يتوعدها ولم ينتبه لكلماته هو، بل رجب الذي جاء ووقف على الدرج يتطلع إليهما بحذر انتبه ووعى ما حدث... دخل يونس وخلفه رجب، قال يونس بحماقة وهو يضع حقيبته «الدكتورة الزفتة  بترميلي الفلوس بشحت منها أنا» 

حكّ رجب فروته وقال بحذر شديد قارئًا ما خُفي عن يونس «ما أنت عايرتها يا بشمهندس» 

زوى يونس ما بين عينيه وسأله «عايرتها كيف يعني» 

تردد رجب قليلًا ثم قال بسرعة «مش جولتلها بانيين العمارة لله يعني مسكنها صدجة» ضرب يونس جبهته بفهم وإدراك قائلًا «أوبا» 

هز رجب رأسه باستحسان فنهض يونس قائلًا بمرح «بس الله أكبر عليك يارجب بقيت تفهم، اللهم صلي عالنبي خلي مرتك تبخرك» استند بمرفقه على كتف رجب وقال «كنت خلاص اقتنعت دماغك فيها طبق مهلبية أو بطة محمرة مش مخ أبدًا» 

سأله رجب ونظراته تسقط فوق حقيبة يونس المنتفخة كدليل على وجود شيئًا بها «جايب إيه معاك؟» 

سأله يونس مدعيًا الغباء «فين؟» 

أشار رجب برأسه للحقيبة موضحًا «فشنطتك» 

ابتسم يونس وقال وهو يضيق عينيه فوق وجه رجب «همك على بطنك، تعالى والله لتجاسمني يا رجب» 

خطا يونس ناحية حقيبته ورجب يراقبه بحماس ممنيًا نفسه بغداء دسم، قال يونس وهو يخرج حقيبة بلاستيكية سوداء من حقيبته «اجفل الباب عشان البِسس» 

أغلق رجب الباب قائلا «شكلها كفتة  أنا شامم ريحتها» 

ابتسم يونس بتهكم قبل أن ينهض بالحقيبة البلاستيكية ويقترب من رجب مُخرجًا دوائه «على الحلوة والمرة يا رجب» 

انتفض رجب مستنكرًا «حقن لاه يا بوي» 

أشهرها يونس في وجهه متهكمًا من قوله ساخرًا «وشامم ريحة الكفتة؟ لاه يا رجب دِه عقلك الباطل وتهيؤات» 

ركض رجب في الشقة قائلا «بخاف من الحقن يا بشمهندز» ويونس خلفه يسخر من قوله «هعملّك واحدة هوا هتاخدها وتموت مش هتتعذب»  

ولول رجب «كان مالي يا أبوي أنا بيك» 

قال يونس وهو يخلّص الإبرة من غطائها ويرميه «جولتلك بطنك هتوديك المهالك» 

ركض رجب ناحية الباب فتحه وخرج منه ثم أغلقه، استراح يونس لاهثًا ،  أعاد الدواء لمكانه وتمدد متأوهًا مُفكرًا بجدية فيما حدث. 

بعد قليل كان يطرق باب شقتها، فتحت مندهشة من قدومه سألته عن السبب فقال أنّ أموالها ناقصة وأنها أموال خاصة والعمارة ليست سبيلًا ولا وقف خيري.. وعليها الدفع في الميعاد.. وقفت مبهوتة أول الأمر، تحملق فيه بعدم استيعاب، أولًا توترت قائلة «كاملة أنا متأكدة» ثم صمتت بحزن فليس لديها أموال لسد العجز، راقب ملامحها الحزينة وحيرتها بإشفاق قبل أن يعيد الأموال أمامها ويعلن «خلاص كاملة» قالها بابتسامة واسعة قابلتها هي بتنهيدة وبعدما غادر واختلت بنفسها أدركت أن هذا المغرور الغبي يعتذر بطريقته الخاصة عما قاله، ويغيره بأكثر المواقف حماقة في العالم... ضحكت من قلبها على فعلته لا تصدق الحل الذي اهتدى إليه ليرضيها والطريقة التي تؤكد أنه مهندس ولا يستحق غيره لقبًا ومهنة. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فـــــي منزل آيــــــــات 

جلس علاء جوار خاله قائلًا بخبث«بقولك يا خالي كنت عايز اشترى فدان أرض» 

انتبه الرجل باهتمام نظر له علاء بظفر فهاهي شبكته تمتلىء وبداية مبشرة لصيدٍ وفير. تعجب خاله وقال بلهفة «واه فدان بحاله» ابتسمت عينا علاء بمكر وهو يتأمل حال خاله وملامحه التي تبدلت وقال «أمال يا خال وعايز بيت كمان كبير» 

تهلل الرجل وقال باندفاع «ليه هِنا؟  » 

أجابه علاء بمكر خمّره في أفكاره ليالٍ «عشان لما أسافر أنت تمسك كل حاجة يا خالي، أنا عايز يبقالي بيت وأرض مكونش ضيف» 

ابتسم الرجل وقال بإستحسان ورضا «عين العقل يا واد أختي» 

قال علاء وهو يقلب كوب الشاي خاصته ويشرب منه متلذذًا «شوفلي حاجة قريبة» 

من بين أسنانه قال خاله بحقدٍ وكراهية «واد الحفناوي ممخليش كل الي يبيع يشتري منه معارفش جايب الفلوس دي كلها منين» 

سأله علاء «عملت معاه إيه فموضوع آيات» 

تعاظم غيظه وحنقه  وقال «بيجول الي تطلبه تاخده ومش عايزها تاني» 

تنهد علاء قائلًا «ما تحاول يا خال تعمل قعدة صلح؟» 

قال بغيظ بلغ عنان السماء «أجول إيه وبتي هي السبب؟  أعمل جعدة كيف وهي الغلطانة وياريتها ندمانة وعايزة ترجع» 

اقترح علاء عليه بحيلة «سيبلي أنا الموضوع دا يا خالي وأنا هظبطهولك» 

حملق فيه الرجل قائلًا «صُح»

أكد علاء بثقة كبيرة «هتشوف» 

رحل خاله لعمله وبقيّ هو مكانه يفكر أجّل الحديث عن هدى حتى يحل موضوع آيات ويعيدها لزوجها ليرتفع رصيده عند خاله وبعدها سيحرك خاله كيف يشاء. 

نهض واقفًا صعد للأعلى وكان أول مرة منذ جاء يفعلها، وصله صوت أغاني شعبية فابتسم لمزاجية آيات، وصل للصالة الواسعة ما بين الحجرات ونادى «آيات» 

وقف منتظرًا الإجابه بفارغ صبر لكنها تأخرت فتحرك متتبعًا الصوت، وصل لحجرة جوار المطبخ ووقف مأخوذًا بتلك التي تتمايل على نغمات الأغنية وهي تصنع المخبوزات بحرفية، ترقص مع حركات يدها مرددة خلف  المغني، تنثر الدقيق حولها وتضحك بعبث مجنون لذيذ، خصلاتها معقوصة بطريقة جميلة، تترك بعض الخصلات تتناثر حول وجهها فتمنحها جمالًا فريدًا ودلالًا لا يليق بسواها. 

أما عباءتها البسيطة قصة أخرى وكأنها أعادتها جديدة وفريدة بهذا الجسد الرشيق المنحوت، ظل مكانه مشدوهًا يغتنم من اللحظة حتى استدارات فجأة ورأته واقفًا خلفها، شهقت بقوة وهي تتراجع للخلف ممسكة بمقدمة ثوبها المفتوحة تعتصره بأناملها تلقائيًا وجسدها كله يرتجف من نظراته التي تعريها اللحظة وتنهشها بأنياب الوقاحة. 

#انتهى_الفصل 


4




الخامس عشر من هنا 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close