رواية عزف السواقي الفصل الثالث عشر 13 بقلم عائشة حسين
الــــثــالـث عـــــشــــــر
*لأجل قلبك سبعين عذرًا من الحب *
هرول عبود ناحيته فرحًا فخورًا بانتصاره وتحقق نبؤته ومجيء من كان ينتظرها لقلب الأخر دواءً، قفز مهللًا حامدًا الله «حبيبي يارب»
ابتلع حامد ريقه الذي جفّ ووقف دون حِراك متصلبًا يتأملها على ضوء الهاتف الضعيف الذي يثأر بجزء بسيط من ملامحها أما الباقي فيدثره التراب،شجعه عبود ودفعه ناحيتها«يلا يا حامد شيلها ووديها عند تماضر»
تردد حامد قليلًا بمشاعر متداخلة وعواطف مبعثرة، وكل كلمات عبود عنها تقفز اللحظة وتتابع في ذهنه مع اعتناق عينيه لها وقد صارت حقيقة بعد ما كان يظنه هذيانًا لكنه اليوم أثبت صحة قوله فهل تغدو الغريبة أنفاسًا تتردد في الصدر.
أصدرت تأوهًا خافت مزق أفكاره وصفعه بالندم فسارع بحملها والسير بها تجاه الجسر الغربي عله يتلقى المساعدة في هذا الوقت المتأخر وبعدما انفض الجمع، لكن عبود وقف حائلًا يمنع عبوره موجهًا له متآزرًا مع صوت قلبه «وديها بيتك يا ولدي»
ازدادت دهشة حامد وارتجف خافقه مما قاله عبود الذي لأول مرة ينطق هذه الكلمة، ابتسم له عبود هازًا رأسه فضم حامد شفتيه متأثرًا بما يحدث والشجن الذي يغمره اللحظة، ثم تحرّك بسرعة ناحية المنزل وعبود خلفه يقفز طربًا، دخل المنزل بسرعة بعدما دفع الباب بقدمه ووضعها فوق الفِراش بالحجرة الوحيدة في المنزل، ثم أضاء المصباح الخافت واقترب يتأملها والتوهة تلفّه وتلقيه في داومة، جاء قاسم فاركًا عينيه يسأل «مين دي يا أبوي»
أجابه حامد وهو يتحرك في الحجرة بسرعة «غريبة يا قاسم عملت حادثة»
ملأ دلوًا بالماء الدافيء ودخل الحجرة ثم سحب قماشه بيضاء نظيفة من الخزانة واتجه ناحيتها، بلل القماشة بالماء ثم عصرها جيدًا وبعدها مررها ببطء على وجهها الملطخ بالأتربة والدماء المتجمدة، ارتعش جسدها وانكمشت فترك القماشة وسحب عباءته الصوفية ورماها فوقها مُدثرًا بعناية.. ثم عاد لتنظيف وجهها من جديد مستكشفًا بلهفة مخبأة ملامحها حافرًا على جدران قلبه ملامحها وقسمات وجهها.
اقترب قاسم يتأملها قائلًا بأسف «هنسيبها كده يا بوي رأسها بتجيب دم؟»
وضع حامد أنامله فوق حجابها متحسسًا فأصابته لزوجة الدماء، سحب كفه بسرعة ووصى قاسم قائلًا < راعيلها يا قاسم >
أطاع قاسم وجلس أرضًا ثم افترش الأرض لخالته قائلًا «خليكي جنبها يا خالة»
أومأت بصمت وجلست أرضًا ذاكرةً الله بينما خرج هو من الحجرة وأغلق خلفه جيدًا.
بعد قليل كان يدخل بالطبيب بعدما نادى خالته وأعلم قاسم بمجيئهما،دخل الطبيب وفحصها جيدًا ثم ضمد ما ظهر له من جروحها بعناية واهتمام، كتب لها الدواء وغادر بعدها.
عاد حامد ومعه الدواء نظر لكفها الموضوعة جوارها بتردد قبل أن يمسك به ويضمه في شدة ليغرس بوريدها إبرة المحلول… حين انتهى أعاد كفها جوارها ودثرها جيدًا، مُلقيًا عليها نظرة صاحبتها تنهيدة وخرج من الحجرة مُغلقًا خلفه.
تمدد مكان خالته الفارغ ناظرًا للسقف بحيرة وترقب منتظرًا إفاقته بفارغ الصبر، لم يدر أنه نام إلا حين استيقظ على أذان الفجر، تسلل للمسجد بهدوء مراعيًا للنائمين ذاكرًا الله...
في شروق الشمس جاء بعدما نفض عن قلبه همومه، نظف المكان ورتبه وبدأ في تجهيز الفطور كما تعوّد.
خرجت خالته متعكزة وخلفها قاسم متثائبًا، جلسا أرضًا فسارع بسؤالهما في لهفة مكشوفة «مفاجتش يا خالة؟ »
أجابه قاسم برفض مُحبط «لاه يا أبوي»
قالت تماضر بأسف «بتئن طول الليل يا ولدي»
أكّد قاسم قولها وأضاف «بتجول طاهر ورؤوف كمان؟ »
انتبه حامد لقوله ونطق بدهشة «طاهر ورؤوف؟»
هز قاسم رأسه يؤكد قوله ثم سأله بشك «هي تجصد عمي طاهر يا أبوي؟»
تنهد حامد بقلة حيلة وعاد لما يفعله قائلًا «مش عارف يا قاسم لما تصحى نشوف»
عاد قاسم لمكانه مُفكرًا وانشغل والده بما سمِعَ، صنع لهما الفطور ثم فتح إذاعة القرآن الكريم وجلس جوارهما ليتناول معهما الطعام بشهية مفقودة.
هتفت تماضر «شيّع لخيتك أم جمال تيجي تشوفها وتجعد جارها»
هز حامد رأسه قائلًا «حاضر»
اقترح قاسم بنشاط «هروح أنا لعمتي أجولها تعالي كلمي أبوي»
قال حامد بحزن صبغ حروفه «أنا ماشي وفطريجي هروحلها وأجولها»
عبس قاسم وتراجع عن تناول فطوره فابتسم حامد موضحًا له«رايح قنا تيجي معاي»
ابتسم قاسم وتهللت أساريره وقال وهو يرتشف من كوب اللبن خاصته بحماس وشهية «لاه هستنى الغريبة تصحى واكلمها»
تعجب حامد من لهفة ولده واهتمامه فصمت بضيق وقلق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظهرًا فتحت عينيها ببطء، نظرت حولها بتيه محاولةً التذكر، انتفضت جالسة وقد عاد إليها وعيها المسلوب، دارت نظراتها في المكان البسيط حتى وقفت فوق جسد إمرأة سمينة تتصدر باب الحجرة مبتسمة بفرحةً «صحيتي»
سكنت مكانها تتأمل المرأة التي تقترب منها باشةً، ثبتت نظراتها عليها بترقب حتى وصلت عندها وجلست على حافة الفِراش متسائلة «أنتِ بخير يا حبيبتي؟»
صمتت مُفكرة تائهة قبل أن تهز رأسها بالموافقة، فقالت السيدة بحنان وطيبة «حاسة بحاجة؟»
هزت رأسها علامة الرفض وصوتها لا يخرج من حلقها، تبدو الحروف ثقيلة تجرها لتخرج من فمها لكنها تعجز عن زحزحتها فتصمت وتهز رأسها عوضًا عن الحديث.
انكمشت بخوف تسلل إليها من نوافذ الضعف، ارتعشت مبتعدة تتطلع حولها بزعر بدأ يتحكم في انفعالاتها ويطوع ملامحها فأدركت السيدة ما يحدث بفطنة وقالت وهي تربت على ركبتها «أنتِ فأمان هِنا متخافيش يا بتي أنا أم جمال»
هزت رأسها مرة أخرى فرمقتها السيدة بشفقة مهدئة من روعها موضحة ً لها ملابسات الأمر«جبناكي هِنا عشان متتبهدليش» هزت رأسها مرةً أخرى فابتسمت السيدة بدفء ونهضت قائلة «هجبلك حاجة تاكليها»
خرجت وتركتها مكانها مرتجفة تتأمل المكان حولها وهي تمسك بالدثار محتمية به، تذكرت مجيئها والحادث وإغمائها.. تحسست رأسها فتألمت دون صوت، نظرت لملابسها المتسخة وبعثرتها فعبست بغير رضا وضيق، دخلت السيدة مرة أخرى مبتسمة تحمل صينية صغيرة وخلفها سيدة عجوز تتعكز على عصا غليظة..
قالت العجوز بحنان ما إن ولجت «حمد الله على سلامتك يا بتي»
صمتت متعذبة بثقل الحروف فابتسمت أم جمال متفهمة وقالت وهي تضع الصينية أمامها «شوية شوربة هيردوا فيكي الدموية»
ابتلعت ريقها بصمت فسألته أم جمال بقلق «حاجة بتوجعك؟»
هزت رأسها مرة أخرى دون كلمة مما زاد من قلق أم جمال التي طلبت منها «تحبي تروحي بيت الراحة»
رمشت بتفكير فدخل قاسم فرحًا يصحح لها مبتهجًا «جصدها الحمام»
هزت رأسها بالموافقة ممتنة لها بنظراتها التائهة، فاقتربت أم جمال للمساعدة ومساندتها، مدت ذراعها في دعوى لها لتتشبث بها ففعلت الأخرى دون أن تنطق، أمسكت بذراعها وتعكزت عليه ناهضة وقاسم يتابعها بفرحة وترقب، ما إن حرّكت الأخرى ساقيها واعتمدت عليها حتى سقطت فجأة مما دفع أم جمال أن تنحني قائلة بحنان «اسم الله عليكي يا حبيبتي جومي» هزت الأخرى رأسها والدموع تتساقط من عينيها بغزارة، وضعت كفها فوق ساقها وكل جوارحها تنطق بالألم..
فطنت أم جمال لمقصدها من متابعتها لها باهتمام وسألتها «رجلك فيها حاجة؟»
هزت الأخرى رأسها والدموع تنساب من عينيها الجميلة لا رادع يردعها ولا صمود يضعفها، اقترب قاسم متأثرًا يمد كفه عارضًا المساعدة بحنان «اتسندي عليا متخافيش»
تعلقت عيناها به فابتسم؛ ليطمئنها وشجعها ببراءة أعانتها على تعبها «جومي يلا»
أمسكت بكفه مسلوبة الإرادة مأخوذة بحنان عينيه الذي يأثر الفؤاد، ساعدها هو وأم جمال حتى عادت للفِراش من جديد، فدثرها قاسم بكفيه الصغيرتين وطمأنها «متخافيش هجول لأبوي يجيب الدكتور»
قالها وركض للخارج يخبر والده بما حدث.
عادت تماضر لمكانها خارج الحجرة متأسفة بينما جلست أم جمال مُطمئنة لها ببشاشة «اطمني يا حبيبتي خير، دلوك أبو قاسم يجيب الدكتور ويجي»
ما إن أبلغ قاسم والده بما حدث حتى انتفض في فزع، وسأله بلهفة غلبت قلقه «فاجت وفتحت عينيها؟» أكدّ قاسم بهزة رأس وهو يقول «رجلها وجعاها وقعت منينا يا أبوي»
ضم شفتيه متأثرًا قبل أن يسأل «هي جالت؟»
قال قاسم بخيبة «لاه يا أبوي شاورت»
هز حامد رأسه بتفهم وغادر فورًا لإحضار الطبيب.
بعد قليل كان يقف الطبيب في الحجرة وهو وقاسم وأم جمال يُلقي بتعليماته وهو يكتب الدواء «ترتاح متمشيش عليها أنا ربطتها وبإذن الله تبقى تمام»
شكرته أم جمال وخرجت معه بينما بقيّ قاسم مكانه يتأملها منتظرًا بلهفة كلماتها ، بالخارج سأل حامد عن حالها فأجابه الطبيب بينما عادت أم جمال لها مبتسمة
جلست جوارها تثرثر وهي منشغلة بالنظر للصغير المهتم،
نامت على حالها ووضعها فدثرتها أم جمال وخرجت مُغلقة خلفها هي وقاسم الذي نام أرضًا بعدما طال انتظاره لحديثها.
مـــســاءً
استيقظت خائفة ،مرتعبة من الظلام المحيط بالحجرة فانكمشت متمسكةً بالدثار محتمية به، فجأة انطلق صوته يشق الصمت وينشر الدفء فعمّت الطمأنينة روحها وهدأ خوفها، كان يناجي الله ويبتهل بصوت مرتعش يدعو بتضرع ولا يتوقف
صمت فشعرت بالحزن وعاودها الخوف من جديد، حتى سمعته مرةً أخرى يهمس «حبيبي يارب»
ارتج قلبها حين همس بدعائه «يارب اشفيها» تحيرت وتشتت أفكارها هل يقصدها هي؟ هل يدعو لها هي بكل هذا التضرع... واصل هو دون انقطاع الدعاء لها مما أثار دهشتها... مع أذان الفجر توقف وعات هي للنوم أكثر راحة وسكينة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اليوم التالي ظــــــــهـــــــرًا
استراح أسفل الحائط تحت ظل تعريشة العنب متنهدًا برضا وهو يمسح عن جبينه الأسمر حبات العرق المتلألئة، مرّت من أمامه رأفة متهادية في خطواتها مدندنة فناداها بابتسامته الواسعة ونبرته الحانية لتقترب «بت يا رأفة تعالي هِنا»
حين التفتت لترى المنادي خصته بابتسامة رائعة ترحيبية قبل أن تنطلق راكضة بحماس، تُلبي ندائه برضا «ازيك يا عم حامد؟»
أجابها بنظراته الدافئة الحنون «الحمدلله أنتِ عاملة إيه يا بابا؟»
أجابت وهي تجلس جواره متربعة «الحمدلله»
سألها وهو يربت على ظهرها بحنو «إزي أبوكي واخواتك؟»
أجابت وهي تخطط بغصن صغير مكسور فوق الأرض الترابية أمامها«كويس بخير»
سألها باهتمام « خف ضهره على الدهين الي جبتهوله ؟»
ابتسمت قائلة برضا «أيوة كويس كتر خيرك يا عم حامد»
نظر إليها حامد طويلًا في شفقة ورقة على طفولتها البائسة وسعيها في الأرض ثم تنهد موجّهًا نظراته لأرضه الزراعية حامدًا «الحمدلله»
مال وأخرج من جيبه ورقة من فئة الخمسون جنيها ومنحها لها قائلا «خدي يا بابا»
سألته قبل أن تأخذها منه «إيه دِه يا عم حامد؟»
أجابها بابتسامته الحنون وكلماته المراعية «كنت واخد منك ويكة وكزبرة ومكانش معايا فكة فاكرة»
وضعت أناملها تحت ذقنها ورفعت حاجبها محاولةً التذكر «متى دِه؟ أنت مخدتش مني حاجة حتى لسه ليك فلوس مخدتش بيها خضرة؟»
ضم حاجبيه مقلصًا المسافة بينهما في حيرة لطيفة كاذبة ومستنكرة «أنا؟ مفاكرش»
أكدت بابتسامة بريئة على حركات وجهه«لا أنا فاكرة منساش الحساب»
ثم تحرت متقافزة تهتف بحماس «أنت عارف؟ دا أنا جبت الدرجة النهائية في الرياضة»
تهللت ملامحه مثلها وتآزر قلبه معها يدق عاليًا بفرحة وابتهاج يشاركها انتصارها الصغير ويثني عليه« شاطرة يا رأفة جدعة»
سرعان من انقبضت ملامحها بهمّ وعادت لهدوئها منطفئة البهجة بظلام النفوس، حزينة القسمات «العيال جعدوا يجولولي رأفة بتاعة الكزبرة جايبة درجة كبيرة ويضحكوا»
أمسكت بحذائها الهالك من السعي ونظرت إليه قائلة ببراءة «أبو سيد جالي بجى أنتِ يا حافية تطلعي الأول»
التحم غضبه مع شفقته، تنازع الأثنان وهو يسمعها برفق مؤازرًا عاطفتها بصبر إنصاته ، وربتته التي هبطت على حزنها بردًا وسلام، قالت ببراءة وهي تنظر لقدميها «أنا مش حافية لابسة شبشب»
احتل الغضب كيانه فسيطر عليه بتعقل وأجاب وهو يمسح على خصلاتها الناعمة «لما يجولك كِده جوليله الحافي أحسن من واكل الحرام»
ضحكت رأفة بمتعة وعارضته قائلة «هيضربني»
ابتسم قائلًا في حماس «ساعتها هاجي وأكسرهولك أنا»
ضحكت قائلة «لاه الناس بيجولوا عليك مستعفي نفسك عليهم وعفش»
ابتسم لقولها بصمت بينما طأطئت هي رأسها ببعض الحرج والخجل لنطقها الكلمات، فسارعت بالتوضيح في براءة درّت حنانه «ما حد عفش وعايز رباية غيرهم»
غيّر حامد مجرى الحديث قائلًا «قاسم قالي إنك ضربتي العيال عشانه»
تبدلت ملامحها للشراسة وقالت في عصبية كأنها تستعرض عليه انفعالها وقتها وما جلب سخطها فدفعها لتفعل « زقوه وجلوله أنت كداب، وقاسم مبيكدبش، جومت نطيت من على الحمارة واديتهم علقة محترمة»
ضحك حامد بصفاء فرفرف قلب الأخرى التي كانت تضع رأسها اللحظة على الحائط وتستمع لحواره اللذيذ مع الصغيرة مستمتعة ملامحها تنير بابتسامة تضاهي جمال القمر.
عاتبها مستمتعًا بالنقاش معها «كنتي خدتيه ومشيتي وخلاص»
قالت متحفزة حانقة تلعنهم جميعًا «هما عيال ولاد كلب أصلًا أبو الي جابهم»
استنكر حامد قولها وعنفها بلطف رافضًا قولها «عيب متجوليش كِده أنتِ آنسة»
هرشت رأسها مفكرة قبل أن تسأله «الآنسة متشتمش يعني؟»
كتمت الغريبة ضحكتها بينما هتف حامد مستاءً منها في ملل من المتابعة «جومي يلا شوفي حالك»
ضربت جبهتها متأففة وهو يتابعها بنظراته حتى وقفت متخصرة تهتف «بجولك يا عم حامد أنت صُح بدأت الحلقة مع العيال؟»
أجابها وهو ينهض ساحبًا الفأس من جواره ناويًا العودة للعمل «أيوة»
توسلته برجاء طفولي بريء «ينفع تغير ميعادها الله يخليك»
عبس مستفسرًا وهو يضع كفه فوق كتفها ناظرًا لعينيها «ليه؟»
قالت متأسفة «أنا عايزة احفظ معاهم بس الوجت دِه بسرح فيه بالخضار يا عم»
مسح فوق رأسها بحنان وقال متأثرًا «دا أنا اعملك حلقة مخصوص يا رأفة، شوفي متى تكوني فاضية يا بابا وتعالي وأحفظك»
ضحكت في سعادة وقالت شاكرة «متشكرة يا عم حامد ربنا يخليك»
اقترب ملثمًا رأسها في حنان بالغ وابتعد بعدها رافعًا الفأس فوق كتفه قائلًا «حبيبي يارب»
ابتسمت تلك المستمعة بسعادة لا توصف،قلبها يرفرف بفرحة عجيبة مما سمعته الآن وهذا الحوار الرائع الذي سلب العقل وصنع في القلب الأعاجيب حتى وجدت نفسها تهمس تلقائيًا «حبيبي يارب»
عادت للتمدد من جديد مغمضة العينين في راحة ورضا كأنها ارتشفت الطمأنينة رشفًا.. تفكر في أمر هذا الغريب وحنانه وعائلته الصغيرة الجميلة
بــــــــعـــــد قلــــيـــل
نهض الصغير يفرك عينيه كعادته فأغمضت عينيها وانتظرت التالي بلهفة بالغة، اقترب قاسم الذي كان ينام أرضًا منذ أتت لحراستها والبقاء تحت أمرٍ لها، تأملها قليلًا ثم همس بإحباط «مش هتصحي بجا عايز أشوفك وأكلمك وأجعد معاكي»
تأثرت بقوله وتعجبت في ذات الوقت منه
وضع قاسم كفه الصغير فوق جبينها وقال ببراءة «أقرألك قرآن يمكن تفوجي طيب وتكلميني؟ »
ضغطت على جفنيها بقوة حتى لا يدفعها تأثرها بكلماته أن تفتح عينيها وتواجهه، فجلس بالقرب منها في إصرار وعزيمة قائلا«بصي يا غريبة أنا متأكد إني لو قرأتلك هتصحي، أبوي بيجول القرآن دوا للعليل وشفا للصدر وراحة للجلب»
قبل أن يبدأ في القراءة قال لها بعفويته الجميلة «أبوي جالي صوتي حلو زي تغريد العصافير هقرأ وجوليلي رأيك »
كتمت ابتسامتها وصبرت في استمتاع تذوب من شدة جمال الصغير ورقة قلبه ولطفه، مستمتعة لأقصى حد بهذا الجو الرائع وتلك النفوس الطاهرة الرائعة.
بدأ الصغير في التلاوة بصوت عذب جميل أراح قلبها فتركت نفسها ونفضت البؤس عن قلبها وسلمت له جوارحها تستمع بتفكير وتدبر..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مـــــســـــــــاءً
ركضت رأفة تجاهه، فتوقف مكانه في صلابة وحزم، صنع لها بجسده حائط صد احتمت به واختبأت خلفه متوسلة بلهاث «خبيني يا عم حامد أبوي عايز يضربني»
سألها وهو يمسك بكفه المتمسك به في دعم ومؤازرة لطيفة «مالك خايفة من إيه؟ ومين يجدر يكلمك؟»
قالت وهي تلتقط الأنفاس «أبوي جاي هو وأبو سيد وحالف يضربني»
قبل أن تتم قولها وتُعلِمه بما حدث كان والدها يظهر متوعدًا يهرول تجاهه مُقسمًا على ضربها وخلفه كان أبو سيد يعينه على قسمه بالتوعد والسب.. وقف حامد بينهما حائلًا يسأل بصبر يخفي خلفه شراسةً وغضب كبير «خبر ايه بس يا أبو رأفة»
حاول والدها جذبها لكنها تشبثت بحامد باكية متوسلة تطلب الحماية، فأبعد حامد كفه في تحمّل وهو يسأل بحدّة «جولي في إيه؟»
اقترب الأخر موضحًا بغيظ من دفاع حامد عنها وعدم تخليه عن حمايتها، أوضح والدها بحنق شديد «البت ضربت الراجل وشتمته»
ضم حامد شفتيه بغيظ وتماسك، فهتف أبو سيد لاعنا «جليلة رباية»
استشاط أبو رأفة غضبًا وحرقةً من الإهانات المتتابعة، واندفع يحاول ضربها لاعنًا عقلها الذي وضعها ووضعه في هذا المأزق وجعله يتحمل كل هذا، لكن حامد منعه مرة أخرى قائلًا «صغيرة متعرفش»
هتف أبو سيد بشرر وحقد «تتربى عشان متجلّش أدبها»
زجره حامد بنظراته فلم يرتدع وأشاح في لا مبالاة، فسحبها حامد من خلفه وأوقفها أمامه قائلًا «جولتي إيه؟»
نظرته الدافئة الحنون وابتسامته المتكاسلة فوق ملامحه التي تتصنع الغضب أمدتها بالراحة وغذّتها بالطمأنينة فقالت «بيجولي يا حافية جولتله أحسن من الي بياكل فبطنه نار»
استفسر حامد منها وهو يفرد ذراعه مانعًا محذرًا من أن يقترب منها أحد ويصيبها بمكروه «يعني إيه؟»
تلت عليه بهدوء «﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾.. مش ربنا بيجول الي بياكل فلوس اليتامى بياكل نار و أبو سيد كِده»
خبأ حامد ضحكته ووبخها بعدما غمزها «واه يا ملكومة مين جالك أبو سيد واكل يتامى؟ الراجل الطيب دِه وش كِده؟ عيال أخوه بيتبلوا عليه. »
هزها متظاهرًا بتعنيفها وضربها فقال أبو سيد بتحفز متشفيًا «سبهالي أنا»
تظاهر حامد قائلًا «لاه أنا هضربها لاه...»
كادت أن تضحك مما يحدث فغمز لها وتابع متظاهرًا بضربها يتصنع تعنيفها ثم استدار مقررًا «سبهالي يا أبو رأفة هعلجها على النخلة»
وقف أبو سيد مشككًا بنظراته فصرفه حامد بابتسامة خبيثة هازًئا منه«المغرب على أذان يا أبو سيد، الحق عشان تصلي بالناس»
استدار الرجل يغمغم بسخط وغضب فضمت رأفة حامد بغتةً شاكرة له لطفه وحمايته، فمسح على خصلاتها قائلًا بحنو «جولي الي عيزاه والي يكلمك أعلجهولك في النخلة، استني عليا أفضاله بس أبو سيد دِه وهمشهولك بالكلسوم الناجص دِه أبو كرش» ضحكت رأفة فلثم مقدمة رأسها ومسح دموعها مشجعًا «يلا روحي لقاسم عشان الحلقة» ركضت في حماس فاقترب حامد من والدها وربت على كتفه معاتبا «هتّبّع الراجل الناجص ده برضك وتضرب بتك عشانه؟»
شكاها الرجل مغلوبًا على أمره متأففًا من أفعالها «مغلباني وجيبالي الكلام وأنا مش ناجصه»
سحبه حامد معه تجاه بيت تماضر محاوطًا كتفيه بأريحية وتواضع قائلًا «سيبك منه راجل خرفان تعالى يا راجل نشرب كوبايتين شاي وحد الله دي عيّلة »
أمام المنزل جلس والد رأفة يشكو له ضيق الحال والمسئوليات وحامد يستمع بصبر ويهوّن عليه بمحبة وحنو، صنع له كوبًا من الشاي وناوله له وجلس جواره يستمع لشكواه ويناقشه دون كلل أو ملل.
كانت تستمع دون تصديق ربما هي في عالم غير العالم ودنيا غير دنياهم التي نشأت فيها وعرفتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جلس حامد هو وأحد الصغار قائلًا بمزاح «بص يا بطل أنا عايزك فمهمة سرية هتعمل منك بطل قومي»
انتبهت الغريبة لما يقوله وأرهفت السمع باستمتاع حقيقي وكلها شوق لمعرفة ماهي المهمة السرية التي يطلبها هذا الغريب من طفل.
ضحك حامد ضحكة قصيرة بعثرت دقاتها وقال بجدية مضخمًا من صوته ليناسب الشخص «عارف أبو سيد؟»
قال الصغير بمعرفة «أيوة عارفة»
أخرج حامد من جيب جلبابه ثلاث ورقات نقدية ومنحها له قائلًا «عايزك كل ما يدخل الجامع تسرق جزمته فكل وجت وكل يوم لغاية ما يجعد يولول زي الحريم عند الجامع»
نظر الصغير للأموال قائلًا برفض «لاه يا عم حامد مش هسرق السرقة حرام»
ضربه حامد بكفه على عنقه هازئًا «دلوك عرفت السرجة حرام؟ مكانتش حرام وأنت بسرق شباشب الناس»
هرش الصغير رأسه مُفكرًا مضطربًا من صراحة حامد «هااااا»
ابتسم حامد وتابع بنظرة لامعة «بدل ما تسرق على الفاضي خد الفلوس واسرق في الخير»
استنكر الصغير قوله «كيف دِه يعني؟ وهودي الجزم فين؟ دِه لو مسكني هيعبطني بعصايته»
ضحك حامد قائلًا «اعمل الخير وارميه في الترعة، أجصد ارميها في الترعة ياخدها صاحب النصيب»
توتر الصغير وأخفض بصره يهرش فروته مترددًا فضربه حامد مرة أخرى على عنقه مهددًا «عايز تعمل فيها شريف دلوك وعندك ضمير دا أنا حالفلك مش أنت الي سرجت شبشبي من أسبوع؟ »
رفع الصغير رأسه يبرئ نفسه بخوف من انكشاف أمره لحامد، فضربه حامد مرة أخرى ضاحكًا «مش أنا» قالها الصغير بتلعثم
فأكد حامد وهو يشده من خصلاته في مشاكسة «لاه أنت يا مقمل أنا شوفتك وتعالى بكره العصر اتسبح مع العيال في النيل خلي راسك دي تنيخ وتنضف»
أطاعه الصغير هازًا رأسه «ماشي يا عم حامد بس كفاية رجبتي ولعت من اللطش»
ضحك حامد ومنحه الأموال قائلًا «يلا غور لأمك ادهوملها على الله تاخدهم»
التقطهم الصغير من بين أنامله وقال بضجر «ا يا أبوي هديهوملها هو أنت في حاجة بتخفى عليك »
دفعه حامد بعيدًا عنه قائلًا وابتسامته لا تفارق بلا تحتضن الملامح «يلا اسرق جزمة أبو سيد وارميها وبعدها ادخل صلي جاره »
رحل الصغير راكضًا طائعًا لأمره فظل حامد مكانه يدندن بصوت خافت
“يتقاتل الضِدّان بين أضالعي
عزمُ اليقين وحيرةُ المُرتابِ“
جاءه قاسم عابسًا يمط شفتيه بضيق فاستفسر حامد مازحًا وهو يعتدل في جلسته «مالك مادد بوزك زي الأرنب ليه؟» جلس قاسم جواره مُجيبًا بإحباط ملأ كلماته ونظراته «الغريبة مش بتصحى كتير»
استنكر حامد قوله وعارضه في دهشة «وأنت عايزها تصحى ليه؟ سيبها ترتاح»
أجاب قاسم بحزن «عايزها تكلمني يا أبوي واسمع صوتها أنا حبيتها»
ابتسم حامد له قائلًا في عتاب رقيق «لحجت تحبها »
عقد قاسم ذراعيه أمام صدره وقال مبررًا ببراءة وعفوية «حاسسها طيبة وجميلة ساعات بتبتسم لما تشوفني»
ضمه حامد في عاطفة متأثرًا بكلماته ورقة مشاعره واحتياجه لوجود أمًا بحياته وقال بصوت تراكم فيه الحزن «مش بالاحساس يا قاسم ولا كل الناس تتحب»
ابتعد قاسم عن أحضانه مستفسرًا «يعني هي مش جميلة ومش طيبة»
أوضح حامد بلطف ونظراته تغمر صغيره بالحنان والمودة«لا أنا مجولتش كِده احنا لسه منعرفهاش»
سأله قاسم «يعني ايه؟ أنت جولتلي نحب نفسنا والناس ونظن خير »
ضمه حامد من جديد بصمت قائلًا بحزن «مبجيتش عارف الي بعلمهولك صح ولا غلط هينفعك ولا هيضيعك يا ولدي»
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سارت هدى جوار زوجها في الشارع الطويل الضيق، تلفّ ذراعها حول ذراعه والصغير يركض أمامهما مبتهجًا لا يحمل للدنيا همًا.
تجاري خطواته الثقيلة بجلدٍ وتعينه على الصبر بثرثرة تصرف بها ذهنه عن التفكيرالكثير والضيق، تشغل عقله بحديثها بعيدًا عن رثاء الذات والانتباه لنظرات الناس حولهما.. حتى وصلا لمنزل والدها، سلّم على والدها الذي كان يجلس أمام المنزل وجلس جواره فسألته قبل أن تدخل هي لمساعدة والدتها «عايزة حاجة يا مؤمن قبل ما ادخل لأمي؟»
هز رأسه مبتسمًا بامتنان «لاه تسلمي»
طلب والدها «اعمليلنا كوبايتين شاي وشوفي علاء»
عبست بضيق ودخلت مقررة تجاهل الأمر، في طريقها وجدت آيات جالسة ممسكةً بهاتفها تقلّب فيه بانشغال فتجاهلتها وواصلت الدخول مناديةً على والدتها، خرج علاء من المندرة الصغيرة التي أصبحت مكانه منذ آتى ووقف يتابعها بنظراته قائلًا «ازيك يا هدى»
أجابت باستياء واضح ونفور خالط ملامحها الجميلة «مرحب»
اقترب يسألها باهتمام «فين عبدالله؟»
تعجبت من سؤاله الذي جعلها ترفع نظراتها إليه باستفسار غير منطوق وتُجيب «بره مع جده وأبوه»
سأل علاء بلهفة غريبة ضايقتها «جوزك بره؟» شملته بنظره مستهينة قبل أن تُجيبه ببرود «أيوة»
قال بابتسامة تحمل عفن قلبه «لازم أطلع وأشوفه مخصوص» مرر نظراته عليها كلها بوقاحة استفزتها وهمس «من ساعة ما رجعت ونفسي أشوف جوزك والله يا هدهد» خرج فورًا وتركها تلعنه بقرف من سماجته، تركت كل شيء وجرت خلفه خوفًا من أن يرمي كلمة ثقيلة في صفاء قلب زوجها فيتعكر، أو يبصق في إناء رضاه فيسكبه أو يجرح كبريائه بكلمه تزعجه.
خرج علاء مبتسمًا بترقب وقف جوار خاله ينظر لمؤمن بتفحص مزعج قبل أن يمد كفه مُرحبًا بهدوء «ازيك يا أبو عبد الله »
نهض مؤمن مستندًا على عكازه مرحبًا به «ازيك يا علاء حمدالله على السلامة»
أجابه علاء وهو يتأمله بدهشة «الله يسلمك» خرجت هدى لاهثة فتحولت نظرات زوجها إليها باستفسار جعلها تبتسم قائلة «افتكرت مبتحبش الشاي أعملك حاجة غيره يا مؤمن»
ابتسم مؤمن قائلًا وهو يعاود الجلوس «لاه يا هدى مش ضروري»
تعثر واهتزت خطوته فاندفعت تسانده وتعينه بلهفة هامسةً «خلي بالك»
جلس يشكرها فابتسمت وابتعدت خطوتين وعلاء يتابع المشهد بنظرة ساخرة تخبيء الكثير من الغيظ فهو لم يكن يظن أن الجميلة متزوجة من عاجز مريض وأن كل هذا الحب الذي يرقى للعشق الخالص لهذا الرجل البسيط الذي لا يستطيع أن يخطو دون مساعدة، عادت هدى للداخل وصعدت للأعلى ودخل علاء شاردًا نادته آيات فاقترب منها وجلس بالقرب منها صامتًا، سألته «إيه مالك؟»
ضيّق نظراته فوق وجهها وسأل وهو يشبك كفيه أمامه ببعضهما «مستغرب إزاي خالي رمى هدى الرمية دي؟»
أوضحت آيات بهزة كتف لا مبالية «عادي مؤمن كان تمام بس من فترة عمل حادثة بعربيته وحصل الي حصل»
سألها باهتمام «هو كان بيشتغل إيه؟»
أجابته بسرعة «كان معاه مكروباص بيشتغل عليه»
استنكر قولها «نعم؟ ازاي هدى رضيت وبعد الي حصل متطلقتش ليه؟»
ضحكت آيات على قوله فسألها بغيظ «بتضحكي ليه؟»
أجابته وهي تترك هاتفها منتبهةً لكلماته «هدى بتحب جوزها خالص وراضية»
قال ببعض الضيق الذي تسلل كالدخان لصدره وخنقه«ما يمكن ملقيتش حد يساندها ولا مهتم بيها فرضيت وتقبلت وخلاص»
ابتسمت ولم تجادل بل قالت باستمتاع حقيقي «ممكن برضو إيه رأيك جرب تسندها وتجويها وشوف»
تنهد بصمت مزقه سريعًا وسألها «وأنتِ سايبه رؤوف ليه؟»
تنهدت قائلة «الحكاية طويلة»
وضع ساقًا فوق الأخرى واسترخى قائلًا«احكيلي عايز أعرف وأفهم»
ترددت قليلًا وتوترت لكنها تنهدت أخيرًا باستسلام وبدأت تحكي له ما حدث منذ زواجها..
استنكر علاء قولها واعتدل مؤنبًا لها، يوبخها «يا غبية مش بعد دا كله تسيبي كل حاجة، إيه المشكلة لما تخلفي، بالعكس رصيدك هيعلى وامتيازاتك هتزيد حتى لو اطلقتي بعدها هيكون معاكي الي يكش ويعيشك ملكة ولا عاجبك إنك ترجعي لخالي تاني» فركت جبهتها وأجابت بعصبية «مش عارفة مش عايزة أخلف منه»
أوضح علاء «من الأول مكانتش جوازة حب يا آيات كانت مصالح، مكملتهاش مصالح ليه؟ ليه جيتي في النص وعايز تمشيها بالحب والي قلبك قالك عليه؟»
قالت بحزن وضيق «مش فاهمة ومبحبوش يا علاء»
تأفف قائلًا يلومها «مين قال حبيه يا آيات أنتِ لو خلفتي كان هينشغل عنك بالولاد من غير ما ينقص من حقوقك شيء، الي راح مش هيرجع يا آيات والميتين مبيرجعوش شوفي حياتك»
ترقرت الدموع في عينيها بحزن فقال متجاهلًا عاطفتها يتحدث بعملية «فكري ازاي تصلّحي الي حصل وترجعي»
مسحت دموعها وقالت بغضب وحماقة «خلاص هيطلقني وأنا مش عايزة أرجعله يغور فداهية؟»
لوى فمه ببسمة متهكمة ثم قال «بس مطلقش يعني في فرصة»
قالت منتبهة له «جصدك إيه؟»
نهض علاء قائلًا بحسم «احسبيها كويس يا آيات وشوفي، أوزني حجم خسايرك ومكاسبك وقارني بينهم وبعدها قرري عدم طلاقك لغاية دلوقت فرصة استغليها للرجوع..»
تركها في حيرتها وشتات أفكارها تقلّب الأمور في ذهنها وتعيد كلماته مُفكرةً بجدية في الأمر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جلست حنين جوار جدتها الباكية تربت على كتفها بحنو دامعة العينين متأثرة بكلماتها التي تفطر القلب وتمزق نياطه
«خلاص يا جدة» لكنها صرخت دون وعي مُعددة كأنها لا تسمعها
«ياعود طري واتلوي، ميل ومال على الارض، امبارح كان في وسطنا، والليلة تحت الأرض "»
بكت حنين وجدتها تتابع الرثاء بالصراخ والنواح «لمام يا تراب لمام.. خدت الغالي الجدع العجبان"»
وضعت هالة كفها فوق جبينها باكية متأثرة هي الأخرى فوالدتها لا تنسى ولا يهدأ حزنها وكيف تنسى وقد مات وحيدها بعيدًا عنها بعدما غادرها بقليل وحين عاد محمولًا في نعشه حرموها حتى من رؤيته، دُفن دون أن تودعه فكان ذلك على قلبها عظيمًا، قلبها الذي يفور ويغلي بالشوق داخله فتصيح وتبكي مناديةً عليه.
«اتخطفت يا ولدي يا حبيبي، ملحجتش أشوفك يا ضنايا؟»
وقفت هالة متماسكة اقتربت من والدتها متوسلة «كفاية يا أما»
لكن السيدة واصلت مؤنبةً هالة على قولها «كيف اسكت يا حزينة اتجطعنا من بعده وبيتنا ضلّم» ضمتها هالة مواسية لها بتهدج «خلاص يا أما متعذبهوش فتربته»
صمتت السيدة عن الحديث لكن بكاؤها لم يتوقف بل نهضت وانعزلت بحجرتها تفني راحتها في البكاء مناديةً عليه.
عادت هالة لجلستها حزينة مكلومة جاورتها حنين صامتةً، بعد قليل قالت «آيات عند بيت أبوها»
صرخت هالة فيها بعصبية «متجبليش سيرتها الزفتة دي وش المصايب»
لكن حنين تابعت بحقد شديد «شكلها اطلقت» دعت عليها هالة بحرقة شديدة «منها لله ربنا ينتقم منها فضلت تزن على أخويا لغاية ما سافر وبعدها رمته واتجوزت لما مات في الغربة بحسرته»
بكت هالة بوجع مزق أحشائها فقدًا «ياريته ما سافر حتى لو مكتوبله يموت كان مات وسطنا»
ربتت حنين على كتفها مهدئة لها تشاركها الوجع والفقد والكراهية الشديدة لآيات.
**********
جلس طاهر مجاورًا والدته التي تلتصق به منذ عاد ولا تتركه، نقر فوق هاتفه مُراسلًا الأخرى فسألته سماسم باهتمام وهي ترمي نظراتها ناحية شاشة الهاتف «بتكلم مين يا ضنايا؟»
ابتسم طاهر قائلًا بشجن وهو ينقر فوق الأحرف بسرعة «البشمهندسة يا حبيبتي»
ابتسمت سماسم قائلة «مجبتهاش معاك ليه؟»
ضحك طاهر قائلًا وهو يغلق نافذة الدردشة وينتبه لها «عايزة رؤوف يعلجني على باب البيت»
ضحكت سماسم معاتبة له على قوله مدافعة عن رؤوف «رؤوف بيحبك وبيخاف عليك يا حبيبي مبيعجبوش الحال المايل ولا يرضاه عايزكم أحسن الناس»
أكد طاهر قولها بهزة رأس موافقًا على قولها مُقرّا بمنطقها ثم سألها ببشاشة «طمنيني عنك أنتِ يا أما عينك كويسة؟»
ابتسمت له قائلة بحب شديد وهي تربت على خده بحنان «من ساعة ما جيتني يا طاهر مبشتكيش منها، شوفتك دوا لكل وجع، ما بالك بالعين الي أنت نورها»
لثم طاهر ظاهر كفها في مودة وتقدير حقيقي قبل أن يضمها قائلا «ربنا يخليكِ ليا يا حبيبتي وميحرمنيش منك»
قالت بعاطفة أمومية «ولا منك يا حبيبي»
نزعت نفسها من أحضانه وسألته برفق ولين «معذب رؤوف ليه يا طاهر ومبتشتغلش معاه»
أجابها بابتسامته الحنون ونظرته الدافئة «عايز اشتغل لوحدي يا أما وأجرّب لوحدي كل حاجة مش عايز أعوّل رؤوف همي فكل حاجة بكفياه شيل هم »
عاتبته بحنو «مشتكاش ولا عمره زيك زي يونس عنده وأكتر كان لك أب وأخ وصاحب بعد موت أبوك »
قال مؤكدًا القول بامتنان يحمله للأخر «عارف والله يا أما بس أنا عايز اشتغل لوحدي الشغلة الي على هوايا وأكل من تعبي وعرقي مش هجعد العمر كله عالة عليهم»
عبست غير راضية بقوله فشاكسها بلطف «ليكِ عندي مزعلوش وأراضيه خلاص هعمل كِده بس بالي يرضيني أنا»
رفعت نظراتها حائرة فقال موضحًا «رؤوف تعب كتير خليه يرتاح ويشوف حاله»
هتفت الجدة بمصمصة «واد يا طاهر من ساعت ما جيت وأمك مرضياش حتى تجوم تعملي كوباية شاي لابده فيك كنك هتطير منها»
نهض طاهر من جوار والدته وجلس جوار جدته قائلًا بمرح «أنا أعملك الشاي بيدي يا جده» اقترب ملثما رأسها بتقدير فدعت له بمودة «ما يوجعك على حبيب يا ولدي»
سألته أرضينا باهتمام «متعرفش رؤوف ناوي يتجوز ولا لاه يا طاهر؟»
تنهد طاهر مقتسمًا معها الحيرة «معرفش يا جدة ما أنتِ عرفاه مبيتكلمش ولا يحكي»
وضعت أرضينا كفها على رأسها قائلة بحسرة «حمال يا ضنايا يكتم فجلبه ويشيل لوحده»
دعا طاهر له بمودة «ربنا يهديه ويصلح حاله» ثم قال برقة قلب «مش يمكن يرجّع آيات» دفعته أرضينًا بعيدًا عنها في استياء وهي تقول بغضب «جوم من جاري وأنت خايب زي أمك جال يرجعها»
ضحك طاهر وقال يستميلها «ليه بس يا جدة، لو عرفت غلطها وندمت يرجعها»
هتفت أرضينا بحنق شديد وغيظ من كلماته التي لم تلقى بصدرها قبولًا أو ترحيبًا «جوم من جاري كفاية عليا أمك»
نهض طاهر ضاحكًا عاد لوالدته التي كانت تتابع بابتسامة ما يحدث قائلا «بالحق يا أما خالتي تماضر بتسلم عليكي و.....» أشارت إليه والدته مقاطعة قوله تنبهه للحديث الذي سيقوله وتمنع ما سينطق به وتعرفه، انتبه طاهر مبتلعًا ريقه بتوتر قبل أن يصمت مُدركًا فداحة خطأه
#انتهى
2
مراجعة: منه أحمد
+

