رواية جارية في ثياب ملكية الفصل الثاني عشر 12 بقلم نرمين نحمد الله
*********
+
الفصل الثاني عشر
+
خرج عمار من الحمام الصغير المرفق بغرفتهما وهو يختنق ضيقاً...
حتي الماء البارد لم يخفف اشتعال براكين الغضب بصدره...
رغم أنه تأكد أنها لم تفرط في شرفها مع ذاك الوغد الذي لا يعرفه...
لكن مجرد فكرة أنها كانت ستهرب معه لتلوث اسم العائلة وشرفها تثير جنونه!!!
ألم تكفِها فعلة شقيقتها الأخري؟!!!
+
هذا بالطبع بعيداً عن حسابات قلبه الذي ذبحته بفعلتها...
والذي أقسم هو ألا يستجيب لضعفه نحوها بعد الآن ولو لحظة واحدة!!!!
+
ألقي نظرة عابرة علي الفراش لجسدها المختبئ بأكمله تحت الغطاء حتي رأسها...
كان جسدها ينتفض بقوة فعلم أنها لازالت تبكي...
منذ مزقت أذنه صرختها الوحيدة التي أطلقتها وهو لم يسمع بعدها لها صوتاً...
كانت هذه هي الاستجابة الوحيدة التي تلقاها منها هذه الليلة التي أوشكت علي الانتهاء!!
+
توجه لشرفة غرفتهما ليستنشق بعض الهواء لعله يهدأ...
لكن كل نفس كان يدخل لصدره بدا وكأنه يحمل حمماً من اللهيب...
رفع وجهه للسماء ليري القمر واضحاً...
ابتسم في سخرية وهو يفكر...
كم كان يري وجهها علي صفحة القمر قديماً...
وجهها الذي خدعته براءته وهي تخفي خلفه جرأة فاسقة!!!
استند علي سور الشرفة وهو يطرق برأسه...
من كان يصدق أن تنتهي ليلة زفافه عليها التي تمناها طوال عمره هذه النهاية؟!!!
+
دمعت عيناه وهو يتذكر الخطط التي كان يرسمها لهذه الليلة...
كيف سيحملها بين ذراعيه عندما تدخل من باب الشقة...
ليدخل معها العالم الذي حرمه هو علي أي أنثي سواها!!!!
من سوي جويرية النجدي عرفت طريقاً لقلب عمار؟!!!
ولا واحدة!!
لكنها للأسف دمرت كل شئ بفعلتها...
كل شئ...!!!
+
كم تمني لو استطاع أن يتغير من أجلها...
أن يقترب من عالمها لتعلمه كيف يمكنه أن يكسب قلبها...
كيف يكسر قناع غلظته الذي ينفرها...
ليظهر حبه العاصف لها من ورائه فيذيبها بحرارته!!!!
+
كم تمني لو يصارحها في ليلة كهذه ...
والقمر يبدو مكتملاً واضحاً في السماء...
أنها حبه الذي كبر معه يوماً بيوم...
ولحظة بلحظة!!
+
كم تمني....وتمني...
لكن...
ضاعت كل الأمنيات!!!!
+
تنهد في حرارة وهو يعود للغرفة...
ليلاحظ جسدها المستكين تحت الغطاء...
وانتظام أنفاسها الهادئة...
هل نامت؟!
اقترب منها ببطء ليرفع الغطاء عن وجهها ليروعه مظهر هذه الكدمات علي رقبتها وذراعها...
هل هو من فعل هذا؟!!!!!
+
رفع الغطاء أكثر ليري انتشار هذه الكدمات علي ما ظهر من جسدها تحت قميصها الذي ارتدته بصعوبة قبل أن تدفن جسدها تحت هذا الغطاء...
+
عقد حاجبيه بضيق وهو يشعر بالغضب من نفسه...
كيف فقد السيطرة علي انفعاله حتي فعل بها هذا؟!!!
+
كان ضميره غارقاً في تأنيبه بينما كان عقله يصر علي أن هذه الفاسقة تستحق ما حدث لها!!!!
وبينهما كان قلبه يترنح كالذبيح...
لا يصدق أن من نامت غارقة في دموعها وآلام جسدها في ليلة زفافها هي جويرية...
حبيبته الوحيدة!!!
+
اقترب من وجهها ببطء ليري جرحاً صغيراً بشفتيها ينزف ببطء...
أغمض عينيه بألم للحظات...
ثم تناول منديلاً صغيراً ليمسح به قطرات الدم برفق حتي توقفت...
لكن العجيب أنها لم تتحرك...
هل هي غارقة في النوم لهذه الدرجة؟!!
1
أعاد تغطيتها برفق...
ثم تمدد جوارها محدقاً في السقف في شرود...
حتي غلبه النوم.....
+
لم يدرِ متي استيقظ لكنه فتح عينيه ليجدها لازالت نائمة جواره...
نظر لساعة الحائط ليجد أن النهار أوشك علي الانتهاء...
هل ناما طوال هذه الفترة....؟!!
+
التفت إليها ليتأمل ملامحها المستكينة ثم جاءه خاطر مزعج...
فهزها برفق وهو،يهتف:
_جويرية ...استيقظي..
+
لم تبدُ عليها أي استجابة...
فعاد يهزها بقوة أكبر وقد تأكد هاجسه لكنها لم تستجب أيضاً...
إنها ليست نائمة...
إنها فاقدة للوعي!!
+
تناول هاتفه بسرعة ليتصل بطبيب وهو،يشعر بالذعر...
وبالطبع لن يكون ذاك الوسيم المتأنق الذي حضر المرة السابقة!!!
أكد علي الطبيب سرعة الحضور لخطورة الأمر...
ثم حاول إفاقتها بزجاجة عطرها لكنها لم تستجب...
جسدها كان مستسلماً كأنه ميت...
ولولا أنفاسها المنتظمة لظنها.... !!!!
+
انقطعت أفكاره المذعورة عندما رن جرس الباب..
هل وصل الطبيب بهذه السرعة؟ !!
قام من جوارها ليفتح الباب ليطالعه وجه فريدة المبتسمة في سعادة وهي تهتف:
_مبارك يا ولدي...لم أرد إزعاجكما منذ الصباح فأتيت الآن لأطمئن عليكما....
قال بضيق وبغلظته المعتادة:
_جويرية مغشيٌ عليها....
+
شهقت بعنف وهي تندفع نحو غرفة النوم لتحتضن جسد ابنتها الملقي بلا حراك هاتفة:
_جوري...ما بكِ يابنتي...جوري...جوري..
+
ظلت تناديها وهي تهزها لكنها لم تستجب...
فتفحصت جسدها المكدوم بلوعة وهي تقول لعمار بدهشة تحمل أطناناً من اللوم:
_لماذا يا عمار؟! ما الذي فعلته بها؟!!
أشاح بوجهه وهو يضرب الحائط بقبضته بقوة....
فهتفت فريدة بحرقة وهي تبكي:
_أمنتك علي ابنتي لتفعل بها هذا؟!!!!!
1
أطرق برأسه ولم يرد....
ماذا يعرفون هم عن خطة تلك الفاسقة التي أحبطها لها....؟!!!
لو لم يكن موجوداً لكانت الآن هربت مع ذاك السافل الذي لا يعرفه ومرغت وجوههم في الطين...
لكنه لن يفضح سرها...
لو علم قاسم النجدي بما كانت تنتويه لقتلها دون تردد....
لا رفق لدي النجدي الكبير في أمر كهذا!!!!
1
رن جرس الباب فترك فريدة للوعتها علي ابنتها ليعود بالطبيب الذي تفحصها...
ثم سألهم بحذر:
_ما الذي حدث لها بالضبط....؟!
+
نظرت فريدة لعمار بعتاب....فيما أطرق عمار،برأسه...
فهز الطبيب رأسه في تفهم....
ثم حاول إفاقتها بطرق أكثر فعالية حتي أفاقت أخيراً....
فتنهد عمار في ارتياح وهو،يشعر أن روحه ردت إليه....
+
فيما احتضنتها فريدة بقوة وهي تهتف:
_ماذا بكِ يا جوري؟! بماذا تشعرين؟!!
+
نظرت إليها جوري بضعف دون أن تنطق...
فسألها الطبيب برفق:
_كيف حالك يابنتي؟!
نظرت أمامها بشرود دون أن ترد...
فعاد يسألها :
_هل تسمعينني يا بنتي؟!
أومأت برأسها إيجاباً...
فسألها بقلق هذه المرة:
_هل يمكنكِ التحدث؟!
+
فتحت فمها لتحرك شفتيها لكن صوتها لم يظهر...
فهزت رأسها في عجز...
هتف عمار،بقلق :
_لماذا لا تتكلم؟!
انتبهت إليه جويرية ساعتها فنظرت إليه بذعر وهي تهمهم بأصوات غير مفهومة....
فانخرطت فريدة في البكاء وهي تكاد تصرخ:
_ما الذي حدث لك يابنتي؟!
1
دفنت جويرية وجهها في صدر فريدة وكأنها تحتمي فيه من عمار!!!
+
فقال الطبيب برفق:
_اهدئي يا بنتي...وحاولي أن تتكلمي...
نظرت إليه جويرية وهي تحاول التحدث لكنها لم تستطع !!!
فعادت تدفن وجهها في صدر فريدة وهي تبكي في صمت....
+
قام الطبيب من مكانه وهو يقول :
_سأكتب لها دواء مهدئاً...وآتي لها غداً....
+
غادر الغرفة بهدوء فلحقه عمار،بسرعة وهو،يغلق الباب خلفه ليسأله بلهفة قلقة:
_ماذا حدث لها؟!أنا زوجها يمكنك إطلاعي علي الحقيقة كلها...
تنهد الطبيب في ضيق وهو يقول:
_حالة من الخرس الهستيري المؤقت نتيجة صدمة نفسية عنيفة...العلاج الدوائي في هذه الحالة ليس فعالاً بما يكفي...الأهم هو الحالة النفسية للمريضة...أنا لاحظت نظراتها المتوترة نحوك...لا أريد الدخول في أمور،شخصية لكن لو كنت تعلم ما الذي أدي بها إلي هذه الحالة فستعلم بالتأكيد كيف تخرجها منها....
+
عقد عمار حاجبيه بقلق بالغ وهو يسأله:
_كم من الوقت ستستمر علي هذه الحالة؟!
هز الطبيب،رأسه ليقول بحسم:
_لا أحد يعلم...هذا أمر تقديري يخضع للظروف المحيطة...
+
غادر الطبيب المنزل بعدما كتب لها بعض الأدوية...
فيما عاد عمار لها لينظر لها في تشتت...
لا يصدق أنه تسبب لها في هذا...
رمقته فريدة بنظرة عاتبة لكنها لم تشأ تقريعه أمام جويرية...
يكفيها ما هي فيه!!!
فقال لها برجاء:
_اتركيني معها وحدنا يا عمتي....أرجوك...!!
+
تشبثت بها جويرية وهي تتحاشي النظر إليه ....
فترددت فريدة وهي تنقل بصرها بينهما ....
ثم ربتت علي كتف جويرية لتقول بحنان:
_سأذهب لأعد لكِ الطعام الذي تحبينه...يجب أن تأكلي لتستردي قوتك...
+
هزت جويرية رأسها نفياً وهي تحاول التحدث بعجز لكنها فشلت ...
فأطبقت شفتيها في قهر وهي تعود لتسند رأسها علي وسادتها مغمضة عينيها في ألم.....
ألقت عليها فريدة نظرة حزن أخيرة وهي تشعر،بقلبها يتمزق علي ابنتها العروس التي أصيبت هكذا فجأة!!
نظرت لعمار بعتاب شديد ثم تركتهما مضطرة لتخبر،قاسم النجدي بما حدث....!!!!
لعله يجيد التصرف مع حفيده الذي فعل هذا بابنتها!!!!
1
قاسم النجدي برغم قسوته وتسلطه...
لن يرضي بما حدث لجويرية...
لابد أن يأخذ لها حقها من عمار الطاغية هذا....
هل يظن أنها جارية عنده ليعاملها بهذه الطريقة؟!!!
+
هذه كانت أفكارها العاصفة وهي تتجه خارج منزلهما....
فيما كان عمار،ينظر لجويرية المغمضة العينين ثم جلس قبالتها علي طرف السرير ليهتف بانفعال:
_انظري إلي يا جوري.
+
ظلت مغمضة العينين وهي تهز رأسها نفياً...
فاقترب منها أكثر وهو يقول بقلق:
_هل أنتِ لا تستطيعين الكلام حقاً؟! أم أنكِ تدعين ذلك؟!
سالت الدموع من عينيها وهي تشعر بالقهر...
يظنها تدعي هذا العجز!!!
لا بأس!!!
لقد ظن بها أسوأ من هذا....!!
+
قبض كفه بقوة وهو يشعر بالعجز ....
دموعها تحرق،صدره...
وحالها الجديد هذا لو استمر فسيموت حياً!!!
+
ازدرد ريقه ببطء وهو يقول لها برفق غريب علي غلظته المعهودة:
_لو كنتِ تدعين هذا لتتخلصي مني...فأنا أعدكِ بشرفي بل أقسم لكِ أن أطلق سراحك للأبد لو عدتِ تتكلمين من جديد...
+
فتحت عينيها ببطء...
وهي تنظر إليه بترقب...
فتحت فمها وهي تحاول جاهدة أن تتكلم....
أمام عينيه المترقبتين...
وهو يكاد يتوسلها أن تنطق ....
بأي شئ!!!!
لكنها عادت تطبقهما وهي تهز رأسها في عجز...
+
اندفع نحوها فجأة....
ليحتضنها بقوة وقد خانته دموعه ليهتف بعنف:
_تكلمي يا جوري...تكلمي وسأخرج من حياتكِ للأبد...حتي لو مت بعدها ...لكن لا تفعلي بي هذا...لا تجعليني أعيش بذنبك عمري كله.
2
رفعت رأسها إليه وهي تتطلع لدموعه التي تراها لأول مرة تملأ عينيه ممزوجة بقلقه الواضح...
لا تصدق أنه يبكي من أجلها...
عمار يبكي!!!
نظرت إليه في ضياع وهي تشعر بالغربة في كل شئ...
هذه ليست غرفتها...
وهذا ليس،بيتها...
هذا الذي يحتضنها بقوة ويبكي لأجلها ليس عمار...
وهذه البائسة التي لا تستطيع الكلام....ليست هي...
كل هذا غريب...
هذا كابوس.......!!!!
==========================================================================
وقف زياد في شرفة منزله يشعر بهم ثقيل....
جويرية لم تأته في موعدها...
وعندما هاتفها انقطع الاتصال ثم أغلق هاتفها نهائياً...
تري ماذا حدث؟!
هل اكتشف أحد من أهلها فعلتها؟!
أم أنها هي من اختارت إتمام زواجها من ابن عمها بإرادتها...؟!!!
فقط لو يمكنه الاطمئنان عليها...
لو يعرف طريقة للاتصال بها!!!
+
دخلت عليه صفية وهي تري حاله الهائم...
فسألته بتردد:
_ماذا حدث بينك وبين هذه الفتاة؟! لماذا لم تحضرها إلي هنا منذ يومين كما كنت تقول؟!
أطرق برأسه دون أن يرد...
مزاجه الحالي لا يسمح له بالمجادلة أو التقريع...
+
اقتربت منه لتربت علي كتفه هامسة بحنان:
_أنا لست ضد سعادتك يابني...لكنني أزن الأمور بالعقل الذي تتجاهله أنت في حساباتك...الزواج ليس مجرد رجل وامرأة...الزواج تضافر عائلتين يمتزجان بنسبهما...
أخذ نفساً عميقاً وهو يرفع رأسه للسماء ثم قال بألم:
_لا داعي لكل هذا الكلام الآن...لقد انتهي الأمر.
عقدت حاجبيها في تساؤل فأشاح بوجهه وهو يهمس:
_دعيني وحدي يا أمي...أرجوكِ لا أريد التحدث عن الأمر.
+
سكتت علي مضض رغم الفضول الذي يحرقها لتعرف ماذا حدث بالضبط...
توجهت نحو باب الغرفة لتخرج...
ثم تذكرت شيئاً فالتفتت إليه لتقول بهدوء:
_ابنة عمك ستعود اليوم من لندن لتبقي معنا لبعض الوقت ....
+
ابتسم بضعف وهو يتذكر ابنة عمه التي لم يرها منذ عامين أو أكثر...
مارية ..
الغريبة الشقراء التي تبدو كدمي الأطفال في ملامحها...
والتي لا تعرف في اللغة العربية سوي بضع كلمات علي الأكثر...!!
1
تنفست صفية الصعداء عندما رأت ابتسامته التي خالطها الحنين...
كم تتمني لو يتعلق قلبه بمارية بدلاً من تلك الفتاة التي ستجلب لهم المشاكل...
ومن يدري؟!
ربما كان مجيؤها الآن في هذا التوقيت بالذات هدية من القدر ليعود ابنها لرشده ويصرف نظره عن تلك الزيجة البائسة....
+
قطعت أفكارها عندما سألها زياد بفضول:
_هل سيأتي عمي آدم معها؟!
هزت صفية رأسها نفياً وهي تقول بحيرة:
_لا...وهذا محير فعلاً...هذه هي المرة الأولي التي تأتينا فيها وحدها....
+
أومأ زياد برأسه في موافقة ثم عاد لشروده بخصوص جويرية التي لم يعد يعرف عنها شيئاً....
كم يخاف عليها بطش عائلتها...
ليته يعلم أنها وافقت علي الزواج من عمار البغيض بإرادتها ...
هذا أهون عليه من أن يكون مسها سوء بسبب فكرته الغبية التي طرحها عليها...
زفر بقوة وهو يشعر بتأنيب ضميره...
هو الذي حرضها علي هذه الفعلة ...
والآن تتحمل هي النتيجة وحدها!!!
+
أمسك هاتفه بعجز يحاول الاتصال بها دون جدوي...
فألقاه بعنف وهو يهتف بقلق:
_تري كيف أنتِ الآن يا جوري؟!!!!!
==========================================================================
عقد حمزة حاجبيه بقلق وهو يتطلع لمكتبها الخالي منها لليوم السادس علي التوالي...
مارية تتباعد عنه منذ زمن بعيد...
وعندما يحاول التحدث إليها ترد عليه ببرود لطيف...
وكأنها تخبره أنه لم يعد يعني لها شيئاً...!!
+
ودكتور آدم كذلك صار يتجنب الحديث معه...
لن ينكر أنه خذله فيما طلبه منه يوماً...
+
لقد طلب منه ألا يؤذي مارية...
لكنه آذاها...
آذاها بأكثر مما توقع للأسف...!!!
+
هو يشعر أن برودها ومزاحها المبالغ فيه مع زملائها هنا ومع المرضي طيلة الأيام السابقة ليس أكثر من صدي لبرودة روحها المتألمة...
خروجها المتكرر مع آندي الذي لم تكن تفارقه تقريباً لم يكن يعني لديه سوي وسيلتها في الهروب من جرحه لها...
لقد آذاها رجل فذهبت لتنساه مع رجل آخر!!!!
+
لكن ...ما باله يصور الأمر بهذا الغرور؟!
ألا يحتمل أن تكون مارية فعلاً لم تعد تهتم له....؟!!!
ألا يحتمل أنه لم يمثل لها أكثر من عالم غريب انبهرت بطقوسه ثم زهدتها؟!!
ألا يحتمل أن يكون آندي وعالمه الذي ألفته ونشأت عليه هو الشاطئ الذي رسا عليه قارب حيرتها في النهاية؟!!!
زفر بقوة وهو يشعر أنه لم يعد يحتمل...
مارية آدم صارت تحتل تفكيره كله...
لم يعد قادراً علي تحمل الأمر أكثر...
+
قطعت أفكاره عندما مر الدكتور آدم جواره ليلقي عليه تحية مقتضبة...
فلحقه حمزة بسرعة وهو يهتف:
_دكتور آدم...كنت أريد التحدث إليك...
+
نظر إليه دكتور آدم نظرة طويلة...
ثم قال بهدوء:
_تفضل معي في مكتبي...
دخل حمزة معه ليجلس قبالته علي كرسي المكتب...
ثم سأله بتردد:
_أين مارية؟! لم أرها منذ فترة...
+
شبك دكتور آدم أصابعه وهو يقول ببرود:
_مارية سافرت لعمها في مصر....
ارتد حمزة مصعوقاً علي ظهر كرسيه وهو يهمس:
_سافرت؟! لماذا؟!
+
تأمل دكتور آدم صدمته للحظات...
ثم قال بهدوء:
_مارية تصر منذ فترة علي دراسة اللغة العربية وحفظ القرآن...وتخطت شوطاً كبيراً في هذا الشأن...لهذا لم أندهش كثيراً عندما طلبت مني السفر لمصر...مارية تريد حسم أمرها الذي طال ترددها فيه كثيراً...أخيراً ستتمكن من اختيار أحد العالمين اللذين يجذبانها بشدة...
عقد حمزة حاجبيه وهو يسأله:
_ماذا تعني دكتور آدم؟!
عاد دكتور آدم بظهره للوراء وهو ينقر بإصبعه علي مكتبه قائلاً:
_أنت أشرت لها علي الطريق لكنك خذلتها ورفضت المضي معها فيه...لكن مارية كانت اأقوي مما توقعت أنا...لقد قررت هي أن تختار علي اقتناع...وليس لمجرد الانبهار بشخص أو بعاطفة...لهذا شقت طريقها بنفسها دون تدخل من أحد حتي مني أنا...
ثم مال بجسده للأمام وهو يقول بتقرير؛
_سفرها لمصر في هذا التوقيت ليس له عندي سوي معني واحد...مارية تريد معايشة العالم الحقيقي الذي حُرمت العيش فيه بتفاصيله...تريد أن يكون اختيارها واثقاً حتي لا تعود فيه...
+
ازدرد حمزة ريقه ببطء وهو يقول بشرود:
_لكن ماذا لو لم تعجبها الحياة في مصر...ماذا لو خذلها هذا العالم كما خذلتها أنا؟!
تنهد دكتور آدم بحرارة وهو يقول:
_هذا ما أتمني ألا يحدث...
+
استأذنه حمزة في الانصراف وهو يشعر بغربته تزداد أكثر فأكثر....
مصر الحبيبة التي حُرم منها ومن أهله ...
الآن صار يحبها أكثر ويشتاقها أكثر...
وكيف لا؟!
وهي الآن منزل محبوبته الرائعة...
مارية التي فاجأته بقوة شخصيتها...
كما بهرته من قبل بطفولتها البريئة...!!!
مارية التي كانت تهون عليه غربته هنا...
والآن زاده فراقها مشقة!!!
مارية التي يدرك الآن أكثر من أي وقت...
أنه يحبها....بجنون!!!!
==========================================================================
جلست علي سريرها شاردة...
لا تدري ماذا يحدث لها...
إنها تشعر أنها ليست هي...
تلفتت حولها في الغرفة تشعر بضياع رهيب...
لماذا لا تستطيع الكلام؟!!
ما الذي حدث لها؟!!!
وهل ستبقي هكذا طوال عمرها؟!!
+
تساؤلات كثيرة تملأ عقلها....
لكن أهمها ماذا سيحدث مع عمار؟!!
فريدة أخبرتها أن قاسم النجدي استدعاه لغرفته...
فماذا سيحدث بينهما....؟!
لن تلوم عمار لو دافع عن نفسه أمام جدها وأخبره بما كانت تنتويه من الهروب المشين...
ساعتها لن يتردد قاسم النجدي عن قتلها بنفسه...
لكن هل يفعلها عمار حقا؟!!!!
لا تظن...
عمار يبدو لها غريباً منذ علم عن خرسها هذا....
لن تنسي دموعه التي ملأت وجهه ساعتها...
ولا احتضانه الحاني لها...!!!
+
رغم ما فعله بها ليلة زفافهما لكنها الآن تشعر أنه كان معذوراً...
أي رجل مكانه يجد خطيبته تفر مع عشيقها ليلة زفافها كان سيظن بها السوء حتماً...
أغمضت عينيها في ألم وهي تشعر بالمهانة...
لقد كان القدر رحيما معها ففقدت وعيها اختياريا تلك الليلة...
لا تذكر أي تفاصيل...
حتي أنها تعجبت من هذه الكدمات علي جسدها...
لا تذكر أنه فعل بها شيئاً...
هل أصيبت بالجنون؟!
أم أن مرضها شديد الخطورة لدرجة أن أفقدها النطق والذاكرة؟!!!
+
قطعت فريدة أفكارها وهي تدخل عليها حاملة صينية الطعام...
فأشارت جويرية بإصبعها في نفي...
تنهدت فريدة في حسرة وهي تري ابنتها العروس في هذه الحالة المزرية...
تباً لك يا عمار!!
ماذا فعلت بها لتنتكس هكذا؟!!!
دخل عمار في هذه اللحظة لينظر لجويرية نظرة غريبة طويلة لم تفهمها...
ثم سأل فريدة بقلق:
_هل تناولت طعامها؟!
+
تحاملت فريدة علي نفسها لترد عليه باقتضاب قائلة:
_لا تريد.
تناول منها صينية الطعام برفق ثم قال بصوت قتله الإرهاق قتلاً:
_دعيني معها وحدنا يا عمتي...سأطعمها أنا...
+
نظرت إليه فريدة في ارتياب...
ثم نظرت لجويرية وكأنها تستأذنها...
فأطرقت جويرية برأسها...
+
غادرتهما فريدة مغلقة الباب خلفها وهي تدعو الله أن يصلح الأحوال....
تناول عمار الطبق ليجلس قبالتها علي السرير ...
نظر لعينيها طويلاً ثم تنهد تنهيدة حارة...
ود لو تحمل لها ولو ذرة من أسفه وندمه علي ما فعل بها!!!
تحركت شفتاها تريد أن تتكلم ....
لكنها لم تستطع...
فانقبض قلبه أكثر وهو يسألها بقلق:
_هل تريدين شيئاً يا جوري؟!
+
تلفتت حولها في عجز وهي لا تعرف كيف يمكنها سؤاله عما يدور بذهنها...
زفر بقوة وهو يخرج لها قلماً من جيبه ثم بسط لها كفه هامساً:
_اكتبي ما تريدين قوله...
نظرت إليه بتشتت ثم أمسكت كفه بتردد لتكتب عليه:
_ماذا حدث مع جدي؟!
+
ارتعش جسده كله وهو يشعر بها تمسك كفه والقلم يدغدغ باطنه برقة تشبهها....
فأخذ نفساً عميقاً ثم قرأ ما كتبته...
لينظر إليها قائلاً في شرود:
_خلاصك مني مرتبط بقدرتك علي الكلام...جدي عاقبني علي فعلتي بأمره لي أن أطلقكِ لكن ليس الآن خوفاً من كلام الناس...عندما تستردين عافيتك سننهي ما بيننا...ليس هذا فحسب لكنه سيقصيني عن بيت العائلة أيضاً...
+
نظرت إليه بصدمة...
قاسم النجدي عاقبه هو...!!
إذن هو لم يخبره عما كانت ستفعله....
عادت تمسك كفه لتكتب عليه:
_لماذا لم تخبره عما حدث مني...ما كان ليعاقبك لو علم عن خطيئتي...
+
قرأ ما كتبته ثم نظر لعينيها مباشرة وهو يقول في اقتضاب:
_أنتِ تعلمين ماذا كان سيفعل لو عرف...
+
أطرقت برأسها في خجل...
فرفع الطبق الذي يحمله في يده أمام وجهها وهو يقول بابتسامة مريرة حملت يأسه كله:
_كلي يا جوري...وتناولي دواءكِ...حتي تستردي عافيتكِ بسرعة...كلما تحسنتِ أسرع كلما قرب خلاصك من هذا السجن....
+
دمعت عيناها وهي تشعر بشعور غريب....
عمار ليس فظاً كما كانت تظن...
رغم كل ما فعله بها لكنه تستر عليها وتحمل العقاب وحده حتي لا يمسها هي سوء...
والآن يريدها أن تتعافي لتتركه رغم أنها تشعر أنه سيتألم لو رحلت...
هل تغير هكذا فجأة؟!
أم أنها هي التي كانت تسجنه في فكرة وضعتها هي في رأسها وأبت أن تصدق إلا هي!!!
كلهم كانوا يخبرونها أنه يحبها...
لكنها كانت تكذبهم بيقين...
والآن تشعر أنها كانت غافلة...
عمار هذا الذي يطعمها ويحنو عليها لا يمت بصلة لعمار البغيض الذي طالما كرهت مجرد النظر إليه...!!!
+
ملأ لها الملعقة بالطعام وهو يتصنع المرح ليقول:
_عندما كنتِ صغيرة ...كنت أخبركِ أن فمك الصغير لن يحتمل الملعقة كلها...فكنتِ تلتهمين طعامك عن آخره لتثبتي لي أنني مخطئ...هل سأضطر لفعل ذلك الآن؟!
ابتسمت وهي تتذكر ما يحكي عنه...
ثم فتحت فمها ببطء...
ابتسم لابتسامتها وهو يدخل الملعقة برفق في فمها.....ثم قال بشرود:
_لا تحملي هماً يا جوري...قريباً تستعيدين عافيتك وتتخلصين من عمار البغيض الذي حوّل حياتك إلي كابوس...سأثأر لكِ من نفسي...أعدكِ أن أفعل...
==========================================================================
رآها تتسحب خلسة لتصعد إلي السطح فصعد خلفها بخفة...
اختبأ خلف الباب ليراها تجلس علي الأرجوحة تبكي بحرقة...
هاقد نزلت دموعها التي حبستها طويلاً حتي لا تزيد لوعة فريدة الغالية التي يكفيها بحق ما هي فيه...
خاصة عذابها الجديد بجوري...
زاد انهمار دموعها وهي تتذكر،حال جوري البائسة...
من يصدق أن العروس الفاتنة تتحول لهذه الهيئة بعد يومين فقط من زواجها...؟!!
+
دخل بخطوات بطيئة ليجلس جوارها علي الأرجوحة فانتفضت واقفة بعنف وهي تهتف وسط دموعها:
_ما الذي تفعله هنا؟! كف عن ملاحقتي....
وقف قبالتها وهو يقول بإشفاق:
_أنا آسف لأجل جوري ...
+
ابتسمت في سخرية وهي تهتف بين دموعها:
_آسف؟! لماذا؟! أنت صورة من أخيك عمار...أنتم أولاد النجدي لعنتنا كلنا...ياسين دمر آسيا وعمار فعلها مع جوري وأنت وأنا سنكون خاتمة هذه الحكاية المريعة....
+
اقترب منها أكثر وهو يشعر بكلماتها تكويه...
ضمها إليه فظلت تضربه بقبضتيها علي صدره وهي تصرخ بجنون:
_أنا أكرهك...أكرهكم كلكم!!!
+
ظل واقفاً يحاول ضمها إليه محتملاً ضرباتها في صبر حتي تخاذل كفاها فسقط رأسها علي كتفه وهي تهمس في انهيار:
_أكرهك...
+
اعتصرها بين ذراعيه وهو يربت علي ظهرها بصمت...
لا يجد ما يقوله لها...
كل ما ذكرته صحيح...للأسف!!!
+
وكأن القدر يسخر من قاسم النجدي الذي أراد تزويج حفيداته من أولاد عمومتهن حتي يحافظوا عليهن فكانوا عليهن وبالاً وخيبة!!!
ظلت تنهنه علي كتفه لحظات طويلة لا تدري عددها ...
بينما كان هو صامتاً يحتويها دون كلمات...
تارة يربت علي رأسها...
وتارة يربت علي ظهرها...
لكنه لا يستطيع الكلام...
كل كلماته جفت علي شفتيه...
حذيفة النجدي الذي طالما أوقع الفتيات في حبائله بكلماته المعسولة....
يقف الآن أمامها عاجزاً عن النطق بأي كلمة...!!!!
+
استشعر أن بكاءها قد هدأ نوعاً فابتعد عنها قليلاً...
ليرفع ذقنها إليه متطلعاً لعينيها اللتين تكتبان سطوراً من العتاب والألم!!!
أغمض عينيه لحظة ثم فتحهما ليغرق من جديد في بحور عينيها الهائجة.....
ثم همس بصدق:
_لا أريد أن أكون لعنتك يا ساري...أريد أن أسعدكِ حقاً كما تستحقين.
+
هربت بعينيها من عينيه وهي تهمس في ألم:
_أنا أفهمك أكثر من نفسك يا حذيفة...لن تتغير...من تعوّد علي الأخذ لن يتمكن من العطاء...وأنت تلوثت بذنوب عالمك الأسود الذي لن تتخلي عنه...
ازدرد ريقه ببطء وهو يهمس :
_ربما لن أستطيع وحدي...لكنك ستكونين معي...تسندينني كي لا أقع علي ظهري من جديد...
+
نظرت إليه بحسرة وهي تهمس:
_ومن يسندني أنا يا حذيفة لو وقعت؟!
+
ضمها لصدره بقوة وهو،يهمس بألم:
_هل أنا ضعيف في نظرك إلي هذا الحد؟!
رفعت رأسها إليه وهي تهمس في أسي:
_لست ضعيفاً لكنك ....لست لي!
هزها بقوة وهو يهتف بحدة:
_من قال لكِ هذا؟! أنا أحبك ..
+
تجمد كلاهما مكانه عندما قالها!!!!
هو الذي كانت صدمته أكبر وهو لا يدري كيف نطقها...!!
حذيفة النجدي مع كل مغامراته العاطفية لم يقلها لامرأة في حياته...!!
فكيف خانه لسانه لينطق بها هكذا دون وعي!!!!
أتراه يحبها حقاً؟!!!
وكيف لا يفعل؟!!!
وهي مزيج كامل من كل محاسن النساء؟!!
حنانها ...قوتها...كبرياؤها...عاطفتها...إحساسها بغيرها...
ساري هي المرأة التي عاش يسعي إليها غافلاً عنها وهي أمام عينيه!!!
+
وأمامه كانت هي تنظر إليه بذهول...
كاذب؟!!
لا...إنه لا يكذب...
هو مصدوم مثلها...
وكأنه قالها دون وعي...
لكن...ما الذي يعنيه اعترافه هذا؟!!
حتي لو أحبها...
هي لم تعد تحبه...!!!!
+
لن تنسي له فعلته الحقيرة وإجباره لها علي الموافقة علي الزواج منه...
وحتي لو فعلت...
كيف تشعر بالأمان معه؟!!!
وهو حذيفة الذي لا يعنيه شئ سوي نفسه وملذاته!!!!
+
أفاقت من ذهولها لتحرر نفسها من ذراعيه هامسة في إعياء واضح:
_دعني يا حذيفة...لم تعد لدي طاقة لمجادلتك...
اقترب بوجهه من وجهها وهو يهمس برجاء:
_قولي فقط أنك تصدقين أنني أحبك...
+
نظرت لعينيه الصادقتين نظرة طويلة...
حملتها كل عتبها وألمها ...
لكنها اصطدمت لأول مرة بفيوض من العاطفة في مقلتيه...
من سواها يمكنه تمييزها وهي التي طالما عانت من جليد نظراته وصقيع مشاعره؟!!!
لكنها مع كل هذا لازالت لا تشعر بالأمان...
لازال طريقه معها طويلاً!!!
أحست بالتشتت والضياع...
لكنها همست في النهاية وهي تتنهد في حرارة:
_أصدقك.
+
ابتسم بسعادة في هذه اللحظة واقترب من وجهها أكثر يغمره كله بقبلات خفيفة سريعة كالفراشات...
فبدا كطفل هانئ في ليلة عيد...!!!!
ابتسمت رغماً عنها مبتعدة عن طوفان قبلاته المجنون مثله...
ثم أعطته ظهرها لتعود لشقتها...
فأمسك ذراعها وهو يواجهها بعينيه ليهمس بصدق:
_يكفيني منكِ هذا الآن فقط...وأعدكِ أن أكمل الطريق حتي يعود قلبك يخفق بحبي كالسابق....
==========================================================================
_حمداً لله علي سلامتك يابنتي.
هتفت بها صفية بالانجليزية وهي تحتضن مارية التي احتضنتها بدورها وهي تقول بالعربية:
_سلمكِ الله يا عمتي.
ارتفع حاحبا صفية في دهشة فضحك رياض وهو يقول بمرح:
_أنا تعجبت مثلك عندما استقبلتني في المطار لتفاجئني بحديثها بالعربية مثلنا...
ابتسمت مارية وهي تقول في شرود:
_بعض الحروف لازالت صعبة علي لساني...حرف الحاء أتعبني كثيراً ولا أزال لا أجيد نطقه...رغم أني تعلمت العربية خصيصاً لأجله...
+
ضحك رياض وهو يسألها في مرح:
_ولماذا حرف الحاء بالذات؟!
التفتت إليه من شرودها وهي تقول بشجن:
_حرف مميز...حاء حنان....حاء حب...حاء حنين...
+
ليكمل قلبها عبارتها بدقاته الملتهبة دون صوت...
حاء حمزة...!!!
أغمضت عينيها بقوة وهي تقاوم صورته التي احتلت تفكيرها كله...
كم اشتاقت إليه...!!!!
+
قطع رياض شرودها وهو يقول بحنان:
_ستجيدينه يابنتي كما أجدتِ بقية الحروف...فقط امكثي معنا لبعض الوقت ...لقد اشتقنا إليك....
+
خرجت عاصفة متحركة من الغرفة المجاورة...
عاصفة في صورة فتاة مراهقة اندفعت نحو مارية تحتضنها وهي تهتف بالانجليزية في صخب:
_مارية الحبيبة....افتقدتكِ يا شقراء!!!!
+
احتضنتها مارية بقوة وهي تشعر بترحيبها الصادق لتقول بالعربية:
_وأنا أيضاً يا مروة.
+
قهقهت مروة بشقاوة لذيذة وهي تقول بمرح:
_لقد تعلمتِ العربية اذن...حسناً...اصبري معنا قليلاً وسأعلمك كل الأغاني الشعبية التي أحفظها...سأجعلك "بنت بلد" علي حق!
ضحك الجميع في مرح عندما خرج زياد من غرفته ليتقدم نحوها قائلاً في مودة:
_كيف حالك يا مارية...
ابتسمت وهي تقول بحنين:
_زياد العزيز...افتقدتك يا زميل الطب...كيف حال عملك هنا؟!
ردت صفية في فخر:
_هو علي وشك السفر في بعثة لأميريكا...
رفعت مارية حاجبيها ثم قالت بحنان:
_تستحق الخير كله يا زياد...متي سيمكنك العودة؟!
هز زياد رأسه وهو يقول في شرود:
_لا أدري متي سيمكنني العودة لكنني سأحرص علي العودة في أقرب وقت.
+
قالها وهو يعنيها حقاً...
لم يبق الكثير علي سفره الذي لن يستطيع تأجيله للأسف...
لكنه سيعود في أقرب فرصة ليطمئن علي جويرية...
هو يريد فقط أن يعلم أنها بخير...
حتي لو كانت تزوجت عمار هذا...
لكن كفاه يطمئن عليها!!!
+
وردت فكرة مجنونة بخاطره فنظر لمارية بتفحص...
لتختمر الفكرة في رأسه...
نعم...مارية هي الوحيدة التي تصلح لهذه المهمة...
فقط لو تتفهمه ولا تخذله!!!
نعم...هو يثق أنها ستفعل!!
==========================================================================
وقفت مستندة علي سور الشرفة في منزل عمها...
شرفة المنزل تطل علي النيل الساحر وقت الغروب...
رغم أنها رأت الكثير من المناظر الطبيعية الخلابة في انجلترا...
لكن تبقي صورة النيل وقت الغروب بأشرعة المراكب السائرة فيه لها عبق أصيل في نفسها...!!!
+
أخذت نفساً عميقاً وهي تتذكره...
حمزة...
ابتسمت في شوق جارف وهي تري صورته مرسومة بعين خيالها علي صفحة الماء...
رغم أنه خذلها ورفض حبها ...
لكن قلبها لم يطاوعها في نسيانه...
علي العكس...
كلما اقتربت أكثر من عالم والدها العربي...
من ثقافة دينها الإسلامية...
شعرت أنها تحترمه أكثر وتقدره أكثر...!!!
+
لقد جاءت لمصر خصيصاً لتعايش هذا العالم بصدق...
لقد ملت هذا التشتت الذي عاشته طوال سنواتها السابقة...
غربتها الدائمة بين عالمين لم تشعر بالانتماء الكامل -بعد-لأحدهما...
لكنها ستقطع علي نفسها طريق حيرتها هذه قريباً...
قريباً جداً ستختار أن تكون مارية من مصر...
أو ماري من لندن!!!
+
قطع زياد أفكارها وهو يدخل إليها ليقول برفق:
_كيف حالكِ يا مارية؟
ابتسمت في سعادة وهي تتطلع لمنظر الغروب الساحر لتقول بهيام:
_سعيدة جداً معكم يا زياد...
ابتسم في حنان وهو يقول:
_اللهم دوماً!
+
ضحكت في مرح...
عندما راودتها ذكري قديمة فقالت له بتردد:
_زياد...كنت أريد منك شيئاً....
ضحك في انطلاق وهو يقول بمرح:
_يا محاسن الصدف...أنا أيضاً كنت أريد منكِ خدمة.
صافحته بحرارة وهي تقول بحماس:
_حسناً....واحدة بواحدة...
ضحك وهو يتأملها في إعجاب قائلاً:
_لم تتغيري يا مارية...نفس الطفلة المرحة في انطلاق....
تنهدت في حرارة ومسحة حزن تكسو صوتها لتقول بشرود:
_بل تغيرت...تغيرت كثيراً....
ثم أردفت بمرح لتغير الموضوع:
_قل لي ماذا تريد مني؟!
+
لوح بسبابته وهو يقول بالانجليزية بحزم يخالطه المرح:
_النساء أولاً....ألا تقولون ذلك في لندن؟!
+
ابتسمت لتقول في استسلام يخالطه الخجل:
_حسناً...كنت أريد ........."عروس المولد"!!!!!!!
ارتفع حاجباه في دهشة وهو يسألها:
_تلك الدمية البلاستيكية ؟!
هزت رأسها نفياً وهي تقول بشرود:
_لا...ذاك التمثال الذي يؤكل!
ضحك بشدة وهو يقول بتعجب:
_من أين عرفته أيتها الانجليزية؟! لقد أوشك علي الانقراض هنا...لم أعد أراه كثيراً....
+
مطت شفتيها في استياء فقال باشتياق:
_لكن هل تعلمين....أنا أيضاً اشتقت ل"حصان المولد" الذي كان يحضره لي أبي وأنا صغير...كانت أياماً جميلة...حسناً...سأقلب الدنيا حتي أجد لكِ ما تريدين...رغم أننا في شهر شعبان وهذه الأشياء ترتبط بمواسم معينة....
ابتسمت في سعادة وهي تقول:
_أنا سعيدة لأنني سأقضي شهر رمضان معكم هنا....سيكون مميزاً بالتأكيد!!!
+
أومأ برأسه إيجاباً فسألته بحنان:
_هيا ...لقد جاء دورك...ماذا تريد مني؟!
+
تنهد في حرارة ...
ثم حكي لها باقتضاب عن حكايته مع جويرية...
ارتفع حاجباها في تأثر عندما انتهي لتقول بحزن:
_يا إلهي...لا أصدق أن الفتيات هنا يتعرضن لهذا الظلم....
هز رأسه نفياً وهو يقول:
_ليس كل الفتيات ...لكن جويرية لها ظروف خاصة....
سألته باهتمام:
_ماذا تريد مني؟! سأفعل كل ما تطلبه ....
ابتسم في حنان وهو،يقول:
_لم تخيبي ظني في حنانك يا مارية...
ثم أردف بتردد:
_أريدك أن تزوريها في منزلها زاعمة أنكِ صديقتها لتعرفي أخبارها...أنا أخشي أن يكون أحد قد اكتشف خطتنا وآذاها....
أومأت برأسها إيجاباً وهي تقول بهدوء:
_حسناً...أعطني العنوان...وسأذهب إليها...
تنحنح في حرج وهو يقول ببطء:
_فقط قبل أن تذهبي لابد أن تغيري "قليلاً" من شكلك....
أمالت رأسها في تساؤل فقال موضحا:
_أنتِ تبدين أجنبية بملامحك وشعرك المكشوف وطريقة ثيابك...يمكنكِ ارتداء حجاباً وملابس مناسبة من مروة شقيقتي...حتي يكون مظهركِ أكثر إقناعاً....
ارتفع حاجباها في مرح وهي تصفق بكفها كالأطفال لتقول بالانجليزية بمرح:
_مارية آدم سترتدي حجاباً....واااااو....هذا مثير!!!!
لوح بسبابته هاتفاً:
_ها قد عدتِ للانجليزية...إياكِ أن تخطئي وتستخدمينها هناك...ستفضحين الخطة كلها....
+
ضحكت في مرح وهي تغمز بعينها هاتفة:
_لا تخش شيئاً...سأؤدي المهمة بالنجاح....
+
ضحك بدوره وهو يراقبها بشرود....
ليتها حقاً تأتي له بأخبار سارة عنها...
لو علم أنها تزوجت فسيبتعد عنها تماماً ويتمني لها السعادة....
إنه فقط يريد أن يغلق هذا الباب قبل سفره...
ويتخلص من قلقه وشعوره بالذنب نحو هذا الملاك الذي لا يستحق الظلم الواقع عليه.....
=========================================================================
جلس بدر في صالة منزله مسنداً رأسه علي ظهر مقعده في شرود...
كم مر علي وفاة سمية؟!
أسبوع؟!
أسبوعان؟!
شهر؟!
شهران؟!
ما جدوي حساب الزمن بعدها؟!!
كل الأيام بعد سمية متشابهات...!!!!
+
دمعت عيناه رغماً عنه وهو يتذكر وداعها الأخيرله....
أخذ نفساً عميقاً وهو يفكر...
لقد رحلت سمية...
وأخذت عمره كله معها...
لم تترك له سوي حطام جسد وقلب تبكيها دقاته كل ساعة!!!
+
دخل عليه العم كساب ليهز رأسه في يأس...
بدر سيقتل نفسه لو ظل علي هذا الحال!!
جلس جواره وهو يقول بحنان:
_هون عليك يابني...علي الأقل من أجل ياسين...والذي لولا آسيا الغالية التي لا تتركه لحظة لصارت حالته أكثر سوءاً منك...
+
هز بدر رأسه في موافقة...
فقال العم كساب برفق:
_أنت أهملت العمل في المزرعة...العاملون هنا صاروا يتكاسلون عن أعمالهم طالما لا توجد عليهم رقابة...وأنا صحتي لم تعد تسمح لي بالكثير من المجهود...
+
أومأ بدر برأسه إيجاباً وهو يقول بحزن:
_معك حق يا عمي...أنا أحتاج لأن أقتل نفسي في العمل...ربما يهدأ فوران عقلي هذا....
+
ربت العم كساب علي ركبته وهو يقول بحزم:
_ابدأ اذن من الآن...الطبيب البيطري الجديد يريد مقابلتك بشأن شئ ما يخص الخيل...
+
هز بدر رأسه في موافقة...
فخرج العم كساب لدقائق ...
ثم عاد ومعه الطبيب الجديد الذي تقدم ليصافح بدر قائلاً بتهذيب:
_مصطفي الشيمي...الطبيب البيطري الجديد...
قام بدر ليصافحه بقوة وهو يقول بهدوء:
_تشرفنا يا دكتور مصطفي...ماذا لديك بخصوص الخيل...؟!!
+
عدل مصطفي نظارته علي أنفه ثم اندفع يحكي له عن كل المشاكل التي تواجهه هنا...
استمع إليه بدر في اهتمام واضح ليركز معه تدريجياً...
عندما لاحظ تجمد نظرات مصطفي فجأة علي شئ ما خلف ظهر بدر....
+
التفت بدر خلفه بتلقائية ليري ما لفت نظر مصطفي إلي هذه الدرجة...
فوجدها هي...
نعم...آسيا الفاتنة!!!
زفر بضيق لم يدرِ سببه ...
هذه الفتاة تجذب الأنظار أينما حلت!!!
+
قال لها باقتضاب:
_هل تريدين شيئاً يا آسيا؟!
+
ابتسمت آسيا لتزداد ملامحها إشراقاً ثم نظرت لمصطفي بتردد وقالت بارتباك:
_سأمر عليك في وقت لاحق...
+
قام مصطفي من مكانه وهو لا يكاد يرفع عينيه من عليها ليقول لها برفق:
_تفضلي يا آنستي...أنا تقريباً أنهيت ما جئت من أجله....
ابتسمت له آسيا ببراءة...
فانصرف مودعاً لهما بعدما رمقها بنظرة متفحصة أخيرة....
1
لاحظ بدر نظراته المعجبة لها فسألها بتفحص:
_هل هي أول مرة ترين فيها دكتور مصطفي؟!
هزت رأسها وهي تقول ببراءة:
_هل يُدعي دكتور مصطفي؟!نعم إنها أول مرة أراه فيها....
+
هز رأسه بلا معني فسألته بحنان:
_كيف حالك سيد بدر؟!
ابتسم بشحوب وهو يقول :
_بخير ...الحمد لله...
عادت تقول بحنانها الطاغي:
_يجب أن تتماسك أكثر لأجل ياسين...ياسين يشعر بالاكتئاب وهو يراك بهذه الحالة خاصة بعد....
+
قطعت عبارتها بوجل وهي تخشي تأثيرها عليه...
فنظر إليها طويلاً ليقول بامتنان:
_لست أدري ماذا كنت سأفعل دونك يا آسيا؟! أنتِ ملاك حقيقي...لقد اهتممتِ بياسين طوال الفترة السابقة حق الاهتمام....كيف أشكركِ؟!
قالت بصدق مس قلبه:
_أنتم عائلتي يا سيد بدر...أنت أخي وياسين ابني...
هز رأسه في امتنان ...
فقالت في تردد:
_هل يمكنني أن أطلب منك شيئاً سيد بدر؟!
قال بصوته الذي ما عاد الحزن يفارقه تقريباً:
_ادعيني بدر فقط يا آسيا...ألم تقولي أنني سأخيكِ...
ابتسمت في خجل وهي تقول:
_حسناً ...ياسين يريد التنزه قليلاً...كنت أقترح لو نذهب به للملاهي التي في المدينة...
+
لاحظ أنها تهربت بخجل من ذكر اسمه مجرداً...
فابتسم في حنان...
رائعة هذه الفتاة ...
كم يتمني لها الخير الذي تستحقه...
تأملها بشرود وهو يتذكر وصية سمية الأخيرة...
وصيتها الوحيدة كانت آسيا!!!
+
لماذا أحبتها لهذه الدرجة؟!
ألأنها تشبهها قديماً عندما هربت من عالمها لتكون هنا معه؟!!
أم لشعورها الصادق بحبها لياسين الصغير الذي تعلق بها هو الآخر حد الجنون؟!!
أم لعلمها بظروفها الخاصة التي دفعتها للهرب والتي رفضت مصارحته بها ....
حتي في تلك الليلة التي عادت فيها آسيا معه من المدينة منهارة وهو لا يدري إلي الآن سبب انهيارها آنذاك...
+
لاحظت آسيا شروده فقالت بحنان:
_أنا أقدر شعورك ...لكن ياسين لا ذنب له...
+
انتبه لها من شروده فقال بلين:
_حسناً يا آسيا....دعينا نذهب به الليلة إلي الملاهي...
+
وبالفعل لم تنتهِ الليلة حتي ذهبا معاً بياسين الصغير إلي الملاهي ...
كان بدر يراقبه بشرود ...
يتذكر عندما اصطحبتهما سمية هنا...
تناول هاتفه من جيبه ليستخرج صورها معهما...
دمعت عيناه وهو يأخذ نفساً عميقاً....
كم افتقدها تلك الغالية!!!
لو كان العمر يُشترَي لاشتري عمرها بكل ما يملك!!!!
+
راقبت آسيا شروده بتفهم وحنان...
لقد عايشت جرحه هذا من قبل...
كم هو قاسٍ فراق الحبيب!!!
كم يذكرها حزنه علي سمية بحرقة قلبها علي ياسين...
جرحهما تقريباً واحد...!!!
+
التفت إليها من شروده ليلمح نظراتها المتفهمة...
التقت عيناهما في حديث طويل...
ممزوج بشعور خاص...
لا...ليس حباً...
لكنه شعور متبادل...
إعجاب وتفهم وامتنان...
كل منهما يري في صاحبه طوق نجاة أهداه له القدر...
لكنه يخاف التعلق به أكثر!!!!
+
قطع ياسين الصغير حوار عينيهما العجيب هذا عندما اندفع نحوهما ليقول بمرح طفولي:
_شكراً يا آسيا...شكراً يا أبي...أنا سعيد جداً....
ربت بدر علي رأسه وهو يقول بحنان:
_هل اكتفيت من اللعب؟! يمكننا العودة الآن؟!
أومأ الصغير برأسه إيجاباً...
فحمله بدر علي كتفه وهو يقبله في حنان...
+
عادا بعدها إلي المزرعة ليودعها بدر عند باب غرفتها الخارجية قائلاً بامتنان:
_شكراً يا آسيا...شكراً علي كل شئ!!!
ابتسمت له برقة وهي تفتح باب غرفتها ثم تغلقه في رفق خلفها...
ظل واقفاً مكانه للحظات خلف باب غرفتها المغلق...
ثم توجه بخطي بطيئة لمنزله...
غافلاً عن عيني مصطفي اللتين كانتا تراقبانهما منذ وصلا إلي المزرعة....
+
انتهى الفصل
+