رواية عزف السواقي الفصل الثاني عشر 12 بقلم عائشة حسين
الــــثــانـي عـــشــــر
+
♡رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا♡
1
«من يُحيي روحًا يُزرع له في القلب حُبًا، ويُذر له العشق في سنبله كل سنين العمر.»
+
*نبت على جبينه عرق وهمي كأن نيران الماضي اشتعلت بجسده اللحظة، فارتفعت كفه لمسحه مرتبكًا بإنفعال واضح سيطر عليه ورحّب بثبات ظاهري «اهلا بيك يا ابني»
هز رؤوف رأسه بابتسامة مُريبة أقلق مضجع الأمان بقلب مرتضى الذي تعمق النظر؛ ليستشف من ملامحه إجابة سؤاله لكنه لم يفلح في معرفة شيء، تُرى هل هي صدفة أم بتخطيط؟ هل هذا الرجل الذي أمامه يتذكره؟
سأله بتلعثم «تعرف بنتي منين؟»
أجاب رؤوف بابتسامة متشفية وهو يسبر أغواره بنظراته «بتشتغل عندي في المكتب»
دلّك مرتضى رقبته بكفه في شرود قطعه رؤوف بسؤاله الغريب المتسرع بنظر مرتضى«موافج ولا إيه؟»
احتار مرتضى وتمنى الخلاص وانزياح الغمة، ضغط صدره محاولًا لملمة ذرات الشجاعة التي تبخرت لكن هيهات..ثم قال بشك «بنتي صغيرة وأنا معرفش رأيها لسه »
نهض رؤوف فجأة، تحرك وتحركت معه نظرات مرتضى في ارتعاب، سلّط رؤوف نظراته بقوة ورماهم في بئر عينا مرتضى منتظرًا ما تخرج به.. ابتسم رؤوف وتنهد قائلًا «المهم موافجتك يا حمايا»
أجابه مرتضى «هنفكر ونبلغك»
نهض مرتضى مضطربًا مهزوز النظرات في إشارة لإنتهاء المقابلة فهجم عليه رؤوف فاقدًا آخر ذرة صبر، أمسكه من تلابيبه فارتعب مرتضى ومال متفاجئًا من صرخة رؤوف «هو أنت هيبجالك رأي كمان؟»
تظاهر مرتضى بالجهل «في إيه يا ابني؟»
سخر منه رؤوف وهو يقبض على عنقه يحيطه بأنامله «ابنك؟ فاكرني ناسي يا مرتضي؟»
تابع رؤوف الضغط على عنقه بقوة وعينا مرتضى تجحظ وأنفاسه تستنجد «السنين عدّت عليك أنت فنسيت الي كان ، لكن احنا الأيام هي الي نسيتنا ، عدت وغيرت أشكالنا وغفلت عن جلوبنا ...»
حرّك رؤوف أنامله قليلًا فالتقط مرتضى نفسًا عميقًا،مرّ الماضي قبيح الوجه كريه الرائحة في ذهنه فانقبضت ملامحه بألم عميق زاد من ضغطه فزادت معه استغاثة مرتضى وحركة ذراعيه المستنجدة.
سيطر رؤوف على انفعاله، تركه لاهثًا فابتعد مرتضى يشهق سالبًا الهواء مدلكاً عنقه بقوة، رمقه رؤوف بسخرية قائلًا«متجلجش دي حاجة بسيطة لسه الي جاي تجيل وواعر»
صرخ مرتضى وهو يتجه ناحية الباب مستنجدًا «أنت مجنون اطلع بره أنا معرفكش»
طقطق رؤوف عنقه قائلًا ببرود وهو ينهشه بأنياب نظراته الشرسة «الواد الي ضربته عايش يا مرتضى وكبر واهو جدامك و مش فاكر غيرك ومش حافظ غير اسمك ومش هيسيبك»
فتح مرتضى الباب وطرده «بره أنت مجنون أنا هبلغ عنك واد مين وزفت مين»
قهقه رؤوف قائلًا بغطرسة«الحكومة مش هتحميك مني يا مرتضى» قفز رؤوف فجأة متخطيًا الكرسي ووقف أمامه قائلًا ببسمة هادئة تناقض شراسة نظراته «خلي بتك تجهز أنا مستعجل»
مال وهمس في وجهه مستفزًا له «بصراحة حلوة مش شبهك خالص»
انتصب رؤوف عائدًا لشراسته يهدده «استعد يا مرتضى هخليك تشوف النجوم فعز الضهر»
فجأة دون سابق إنذار فوق عتبة المنزل وقفت صفوة متفاجئة تنقّل نظراتها بين والدها المذعور ورؤوف الهاديء، ابتلعت ريقها وتعجبت بقلق «استاذ رؤوف»
أجابها رؤوف بابتسامة مستمتعة «ازيك يا صفوة»
ردت إليه ترحيبه بقلق ورهبة فقال رؤوف وهو ينظر لوالدها بتحدي «جهزي نفسك عشان كتب كتابنا الأسبوع ده»
اتسعت عيناها في صدمة وارتدت للخلف خطوة تكتم شهقتها تخفي ذهولها خلف نظرات مستنجدة بوالدها الذي صرخ برؤوف «امشي من هنا»
ودّعه رؤوف بضحكة باردة «ماشي يا حمايا هنتجابل في النيابة »
ارتجف مرتضى وزاغت نظراته، بلل جوفه ونظر لرؤوف باستفسار، فقال رؤوف باستمتاع «هبهرك»
ارتدى رؤوف نظّارته بغرور وغادر فسحب مرتضى ابنته للداخل وضرب الباب بقدمه، هزها صارخًا فيها «تعرفي الراجل دا منين؟»
أجابت صفوة برعب «بشتغل عنده»
صفعها مرتضى صارخًا «بتشتغلي من ورايا جبتيلي المصايب لغاية عندي ربنا ياخدك يا شيخة»
ارتجفت صفوة مُكبلة بالمفاجأة والذهول، وضعت كفها المرتعش مكان الصفعة والدموع تصطف في عينيها الجميلة، بررت بصوتٍ متهدج «حصل إيه؟ يادوب ماليش يومين يا بابا الراجل دا ماله بيك؟»
ووقف ينظر إليها بتمعن، يلهث بإنفعال وجنون، نظراته تجلد وتمزق دون أن يقترب، لا يملك إجابة على سؤالها الذي وقف أمامه الآن يبارزه، طاعنًا له بالخديعة والمكر،قال بتلعثم «دا دا بني آدم مش طبيعي.... ومجنون »
أكدت صفوة وهي تكتم شهقات بكائها في صدرها فتحرقه «أيوة مش طبيعي»
أمسكها مرتضى من ذراعيها وهزها صارخًا «عملّك حاجة؟»
تساقطت دموعها من هول الموقف ومعاناتها، هي أضعف وأرق من أن تتحمل كل هذا دون غزل ووالدتها، تاهت في دروبها وتلعثمت في قولها الذي خرج مُمزقًا يشبه تماسكها اللحظة «آه.. لاه.. معرفش.. أول مرة شوفته اتخض لما قولتله اسمي» دفعها مرتضى بعنف مزمجرًا داعيًا «منك لله»
سقطت متأوهة بوجع في القلب، ترجوه الهدوء معتذرة عن خطأ لا تعرفه وصواب يركض متخفيًا فلا تدركه «اهدا يا بابا أنا آسفة»
دار في الصالة يضرب كفًا بكف تارة ويضغط رأسه تارة، فنهضت متعكزة على وهنها تمسح دموعها معتذرة الآف المرات، وضعت كفها المرتعش على كتفه فنفضها في قهر جعلها تنكمش تاركةً لدموعها المسترسلة التوسل،صرخ فيها بغضب «حصلي أمك عند ستك يلا ومتجيش غير لما أشوف ابن الكلب دا ناوي على إيه»
هزت رأسها دون كلمة، ملامحها تنطق بخوفها وتوشي بحزنها وجزعها.
رنين الجرس جعل الأحداق تهتز وتهرع في فزع تملّك منهم، توقف مفكرًا قبل أن يندفع ناحية الباب في غضب مقسمًا أن ينال منه.
فتح الباب فتفاجأ بمن يسأله في جدية هزت الأبدان «أنت مرتضى...»
أجاب وصفوة تنكمش خلفه في ترقب مرير، فقال الشرطي بلهجة جافة «مطلوب القبض عليك»
سأله بتوتر «خير يا فندم؟»
أجابه الشرطي بحدّة أخرست مرتضى وجعلته يتقبل هزائمه بالتسليم «هناك هتعرف»
جلس رؤوف بين أخوته صامتًا شارد الذهن يسبح وحده في ظلام أفكاره نظراته مسلّطة على رباطٍ يلفه بإحكام حول كفه المرتعش لاعنًا خيانتها في هذا الوقت، الوقت الذي يحتاجها فيه أكثر قوةً وصلابة وتماسك، همس طاهر ليونس مستفسرًا «مال رؤوف؟»
أجابه يونس بنفس الحيرة والقلق «مش عارف»
تحركا في الشقة والقلق يتابعهما كظل يسير خلفهما ثم يغزو الروح من مكامن ضعفها ويتخذ القلب المُحبّ مسكنًا.
بينما تمدد رؤوف يفرد كفه أمام نظراته ويديرها متأملًا فيها متذكرًا الماضي وما آل إليه الحال.
«فــــــــلاش بــاك»
جلس رؤوف بصحبة عمه داخل سيارة النقل مبتهجًا يقول بحماس «خدني معاك كل مرة يا عمي حامد»
ابتسم حامد وأجابه برفق «خطر عليك الطريج يا ولدي رايح جاي»
جادله رؤوف بعبوس ورفض «ما أنت بتروح أنا عايز أجي معاك أونّسك»
نظر إليه حامد نظرة جانبية سريعة غمرت الصغير بالحنان والدفء ثم أجابه بابتسامة واسعة «جدك هيخاف عليك من السفر»
قال رؤوف بثقة مفرطة «متجلجش حكلّمه وهيوافج جدي مبيرفضليش طلب»
نبهه حامد وحذره «أوعى يا رؤوف تجوله على سرنا مش عايزه يغضب»
ابتسم رؤوف وقال مطمئنًا بشجاعة «متخافش يا عمي بس توعدني توديني أشوفها لما تيجي»
ابتهج حامد وأجابه بحبور «حاضر» ثم تابع بأمل وهو ينظر للطريق أمامه «نفسي تربيها على يدك عشان لما تكبر تتجوزها»
ضحك رؤوف بفرحة وأجاب بثقة «حتى لو مربتهاش هتجوزها يا عم متخافش وعد مني ليك »
ابتسم حامد بلطف ثم قال بحكمة علمتها له السنون «اتعلم متكترش وعودك، الوعد التزام يا ولدي وعشان مش كل الوعود تحتاج نوفى بيها ولا كل الناس تستاهل»
هز رؤوف رأسه كما الفاهم المدرك ما يقوله عمه فصمت حامد متنهدًا قبل أن يضغط زر تسجيل السيارة وينطلق المغني يشدو بالسيرة الهلالية ليردد معه رؤوف وعمه بتناغم وفرحة وانسجام.
بعد قليل أغلق حامد المذياع واستأذن رؤوف «هنزل المغلق يا رؤوف أجيب حاجة قبل ما نروّح خليك هِنا ومتنزلش الهوا بارد يا ولدي»
أومأ رؤوف واسترخى متدثرًا بعباءة جده التي يأخذها عمه دائما في سفره لتقيه برد الشتاء القارس.. لم يدر أنه غفى إلا حينما فتح عيناه باحثًا عن عمه
نظر لساعة معصم عمه الموضوعة جانبًا فشعر بالقلق من تأخره، نظر للمكان بدقة فوجد النار تندلع من أحدى نوافذه، انتفض راميًا العباءة وفتح الباب قافزًا للأرض يهتف بخوف «عمي حامد»
اقتحم المكان المخصص لبيع الغلال بجميع أنواعها مناديًا مفتشًا، لا يهاب النار ولا يخشى لسعاتها، كل ما يشغله هو عمه وإنقاذه بأي طريقة الآن.. سعل بشدة من الدخان الكثيف الذي يأتي هاربًا من الحجرة المشتعلة.. فجأة خرج حامد ممسكًا بتلابيب مرتضى يعنفه ويزجره، يضربه بقسوة ويلعنه بحدّة وغضب، نادى رؤوف الذي يصفي رؤيته بضرباتٍ للهواء بكفه تزيح الدخان ليرى بوضوح «عمي»
صاح حامد والنار تفرش المكان ومرتضى يتشبث به دون تخلي «روّح يا رؤوف امشي يا ولدي بسرعة»
أحكم مرتضى قبضتيه على عنق حامد حتى جحظت عيناه، فاندفع رؤوف صارخًا باسمه في جزع، أمسك بملابس مرتضى الذي دفعه بقدمه في قوة جعلته يسقط أرضًا، استطاع حامد نفض ذراعي مرتضى بعد ركله ووقف يلتقط أنفاسه بصعوبة ويسعل وقد ضاق صدره من الدخان وآثار أنامل مرتضى.
وقف رؤوف يسعل راكلا الدخان بكفه الضارب في الهواء، التقط مرتضى الذي تلبسه شيطان اللحظة ومنحه القوة حجرًا وضرب به رأس رؤوف الذي أمسك به ثانيةً في إصرار أغضبه، انحبست باقي صرخة رؤوف بحنجرته وسقط فاقدًا للوعي مدرجًا بدماء غزيرة، صرخ باسمه حامد الذي أمسك بمرتضى متسائلًا «ليه كِده حرام عليك»
اشتدت النيران بغرفة المكتب فزحزح مرتضى جسد حامد الذي بدأ يغيب عن الوعي مش شدة السعال لكونه مريضًا بالربو، دفعه بقوة للنيران وآخر ما سمعه كان تساؤل حامد المحاط بصرخات ألمه «ليه يا صاحبي»
لملم مرتضى الأموال الواقعة والأوراق وخرج راكضًا مطمئنًا شريكًا للنيران في إثمها، هو يقتل وهي تلعق من خلفه الآثار...
عــــــــودة للــــــــــواقــــــع
8
نهض رؤوف يضرب سطح الأريكة بقبضته في قوة نابعة من قلبه المثقل بالألم.
توقف طاهر عما يفعل خائفًا،ثم ترك ما بيده وهرع إلى أخيه يسأله بلهفة «مالك يا أخوي»
رمشت أهداب رؤوف فوق ملامح أخيه مستعيدًا نفسه من الماضي، فرك شعر ذقنه ثم قال «مش جولت نازل قنا جاعد ليه؟»
أجابه طاهر ونظراته القلقة لا تفارقه تتمسك بأطياف من ملامح أخيه المُعكرة بالحزن «حاضر هنزل بس بكره»
قال رؤوف بحدّة وهو يقلّب كفه أمام نظراته الفاقدة للحياة مستعيدًا تأثير الكراهية «لاه احجز وامشي النهاردة» أسقط كفه جواره كما العمر وهو يتنهد، ثم رفع نظراته الحزينة وصاح «يونس وأنت كمان انزل قنا»
جاء يونس وجلس قائلًا في رفض «لاه»
هتف رؤوف بعصبية انسابت في عقله وأشعلت حواسه «أنا بجول انزل»
أجابه يونس بهدوء محاولًا امتصاص غضبه «لاه معايا شغل»
نهض رؤوف صارخًا بغضب يتوغل في نفسه ويسقط رايات هدوئه وحكمته «خد أجازة أمك بجالها كتير مشفتكش»
هتف طاهر برفق وحنو كعادته «اهدأ يا أخوي»
نظر إليه رؤوف طويلًا ثم نزع نظراته وجردها من الحيرة قائلًا «اسمعوا الكلام مرة واحدة»
تأفف يونس قائلًا «اسمعنا أنت مرة واحكيلنا مالك فيك إيه؟»
فرك رؤوف جبهته وقد بدأ الصداع في مهاجمته بشراسة، أغمض عينيه وسحب من الهواء الكثير ثم قال مرتبكًا متعثرًا في الألم الراكض في دمائه الفائرة «مفيش...»
انسحب بعدما فتح عينيه ورأى نظراتهما مسلّطة عليه بترقب وتساؤل، هرب بحزنه يلملم أنقاض الماضي المتهدم فوق رأسه، يدفن الحقد والكراهية في قبور الصمت مقدسًا المراعاة لأخويه مشفقًا عليهما مما يعانيه وينتظره وما سيخوضه، هي حربه وحده لن يقحمهما فيها... تأوه بعذاب وهو يضغط فوق صدغيه متوعدًا «أنساك كيف يا مرتضى ، وأسيبك كيف؟»
دار في الحجرة بألم يشتد كلما سحبته أيادي الماضي السوداء لعالمها المظلم العفن برطوبة الغدر، تذكر كربته وكلمات جده ووصيته بألا يترك هذا الخائن الذي طعنهم في الظهر بخسة وندالة، أن يثأر لغيبوبته في المشفى ومرضه الذي مازالت آثاره عالقه بجسده وينتقم لعمه المغدور به... تناول دوائه بكفٍ مرتعش مهزوز وأعصاب تفرط في الانسياب، سقطت الحبوب فجثى على ركبتيه صائحاً وطعنة الغدر تخترق الصدر وتمزقه «مرتضى يا كلب» تناول حبوبه وجلس بعدها ينتظر تأثيرها، حين يقوده الماضي أسيرًا مُكبل بأغلال الغضب والألم تصبح نجاته في حبة دواء صغيرة تجعله يضحك من فرط الحسرة.
ألقى بجسده على الأرض الباردة وضباب اللاوعي يتكاثف حوله، دوامة بيضاء تدور حوله منتظرة أن تلتهم جسده، تابعها بنصف وعي حتى التهمت جسده فسقط من علوٍ يتنفس بسرعة كبيرة عاجزًا عن تناول شربةً ماءً من الراحة حتى ظهرت هي أمامه تضم كفيها لبعضهما وتقترب تنظر للماء بكفيها ولوجهه، حتى وصلت إليه وانحنت على ركبتيها هامسةً «اشرب»
بقيّ على حاله، جسده مخدر وعينيه تطوف على ملامحها في دهشة وحيرة فابتسمت وشجعته وهي تقرّب أحفانها من فمه «اشرب هترتاح»
صمت برفض وتجمد بحيرة قطعتها بقولها «جاية مخصوص عشان تشرب وترتاح، اشرب يا رؤوف اشرب»
احنى رأسه لكفيها مسحورًا بهمسها مأخوذًا بابتسامتها، ارتشف من كفيها الماء حتى انتهى فرفع رأسه لاهثًا، ابتسمت قائلة تمنحه القوة والشجاعة «افتكر دايمًا اني جيت عشانك»
*****
حررت هدى صغيرها بعدما وزّعت القبلات على وجهه الصغير فضحك باستمتاع وعانقها في شكر وامتنان قبل أن ينطلق راكضًا للعب في الساحة أمام منزل والدها، تنهدت برضا و حاوطته بسور دعائها وهي تفرش له نظراتها الدافئة ليخطو فوقها بأمان حتى
لوّح لها ففعلت له ضاحكة ثم دخلت المنزل مناديةً وهي تفتح الباب الحديدي على مصراعيه.
أثناء بحثها عن والديها اصطدمت بجسد رجولي ضخم جعلها تشهق متفاجئة، متراجعة خطوتين مستكشفة لهذا الجسد و لهوية صاحب العطر النفاذ الذي سيطر على حواسها بإنزعاج، وقف مكانه ساحبًا المنشفة من فوق رأسه ليعرف هو أيضًا هوية صاحبة الجسد الغض.
ابتسم منتظرًا أن تدرك هويته، تقافزت نظراتها فوق ملامحه بشك قطع حباله إجابة آيات التي جاءت من خلفهما «علاء يا هدى مش فكراه؟»
جاءت نبرة آيات تحمل الكثير من السخرية والاستنكار، سقطت نظرات هدى أرضًا وهي تهتف بضيق تسلل كشعاع لصدرها «ازيك يا علاء حمدالله على السلامة»
وقفت آيات جواره عاقدة الساعدين بملامح كلها ألغاز، طافت نظرات علاء فوق ملامح الأخرى وانطلقت بجرأة لجسدها الممشوق قبل أن ينطق «أنتِ هدى»
عبست في اختناق ، ابتسمت له آيات وأجابت بحماس «شوفت بجا؟»
دار حولها مصفرًا بإعجاب تخللته الوقاحة وهو يقول «إحنا احلوينا خالص واتغيرنا»
رفعت نظراتها الحادة تنهره «احترم نفسك»
استنكر قولها بعبث «احترم نفسي؟ أنتِ مش فكراني ولا إيه؟»
تخطتهما بنظرة ساخرة وصمت أراق دم غروره على عتبات الحرج، صعدت للأعلى مناديةً على والدتها فالتفت علاء لآيات قائلا «هدى اتغيرت خالص»
ضمت شفتيها قليلًا بتفكير قبل أن تُجيبه ببسمة متهكمة «خالص خالص»
استدار في صمت يربط بحبال التذكر الماضي بالحاضر، عاقدًا في ذهنه مقارنة بين صورتين، حين أدرك أن الصغيرة السمراء التي كانت تلاحقه قديمًا نزحت لموطن الجمال وتوجت فيه ملكة ابتسم هامسًا «Nice»
اتسعت ابتسامة آيات وقد راقها ما يحدث وشعرت فيه بالمتعة المنتظرة واللهفة المترقبة لمعرفة القادم من أحداث ستصنعها بنفسها لتستمتع.
سألها علاء «مش هتفطروني؟»
أجابت آيات «هتفطر طبعًا أمي هتخلي هدى تعمله»
جلس علاء فوق أقرب أريكة منتظرًا بلهفة، صعدت آيات للأعلى من جديد
وصلت للمطبخ حيث تقف هدى منهمكة وقالت «معجول مفتكرتيش علاء»
أجابت هدى بلا مبالاة تكتم داخلها حنقًا يتضخم كوحش من طريقة أختها «عادي السنين بتنسي»
ضحكت آيات ضحكة قصيرة مستفزة ختمت بها قولها وهي تراقب بدقة انفعالات هدى «أنتِ أكتر واحدة كنتي متعلجة بيه زمان»
قالت هدى بحدّة «أهو جولتي زمان »
قالت آيات «اعمليله فطور ونزليه»
أجابت هدى بعصبية وهي تعود لعملها «تعالي أنتِ اعملي أنا مباخدش أوامر منك »
مال فم آيات بابتسامة خبيثة أزعجت طمأنينة هدى وطردتها من مخبئها الآمن في القلب «ماشي»
قالتها آيات وخرجت من المطبخ فتوقفت هدى عما تفعل زافرة بضيق قبل أن تفتح صنبور المياه وتغسل كفيها مقررة المغادرة.
هبطت درجات السلّم فوجدته واقفًا في آخره متألقًا بابتسامة، هتفت بحدة «أنت واجف كده ليه؟»
سألها بهدوء وهو يتفحصها «وأنتِ متضايقة كدا ليه بس يا هدهد؟»
سيطرت على توترها البالغ عنان الثبات المدمر للقوة وقالت من بين أسنانها بغضب «مش متضايقة ولا حاجة بس حضرتك أنا متجوزة ومخلفة »
دخل طفلها المنزل ضاحكًا فاستدار علاء حين أشرق وجهها وانفكت عقدة عبوسها، تابع الصغير حتى وصل إليهما قائلا«ماما»
انتشلته بسرعة رافعة له معانقة بإبتهاج لرؤيته فسأل علاء بدهشة «دا ابنك»
أجابت بهزة رأس وهي تولي اهتمامها للصغير وتركيزها لنظراته الدافئة بعدما توسمت فيه روح أبيه «أيوة»
نظر إليه علاء طويلًا ثم قال «مش شبهك»
أجابت بابتسامة واسعة وشغف عانق حروف اسم زوجها الذي نطقته بفخر«شبه مؤمن بالضبط»
رفع حاجبه قائلًا «اها»
سأل الصغير باهتمام «أنت مين؟»
مدّ علاء كفه منتظرًا كف الصغير بمرح «أنا علاء»
سأل الصغير والدته بفطنة «أجوله خالي ولا عمي؟»
أجاب علاء بسرعة ونظراته تتوّج الواقفة أمامه متحيرة بتاج الإعجاب «لا أنا لا أخو بابا ولا أخو ماما قولي علاء وبس»
انتظر الصغير ردّ والدته كأن كلمات علاء لا تعنيه مجرد ثرثرة فارغة فأجابت هي بابتسامة «خالك يا عبدالله»
ابتسم الصغير ووضع كفه الصغيرة بكف علاء مُرحبًا «ازيك يا خالي»
تظاهر علاء بالعبوس والرفض وهو يسحبه ليحمله قائلًا «لا علاء»
منحته له هدى متجنبة أي تلامس بينهما بعدما دحض رفضها بنظرته الصارمة، تحرك بالصغير تجاه المندرة الذي يقطن فيها منذ آتى وهو يهتف لهدى الواقفة خلفه «اعمليلي فطار معلش يا هدى»
عادت للأعلى مقيدة بالحرج تسأل والدتها وتستشريها فيما ستصنع فوجدت آيات بحجرتها تضمد جروح وجهها، ذمت شفتيها بحزن أثر السلامة فاستوطن القلب رافضًا الظهور حتى لا تنال توبيخًا من آيات أو كلمات حادة مجردة من المودة..
تنهدت متوجعة القلب لأجلها كلما تأوهت أو ندت عنها آهة محمومة بالألم
كتمت حزنها وصرّته في الجوارح ثم ابتعدت للمطبخ تحاول صنع الفطور لهذا المتطفل الوقح وسؤال واحد يتحدى أفكارها ويعاند «ما الذي آتى بابن عمتها بعد كل تلك الأعوام؟»
***
فـــــي الـــقــاهرة
جلس في الحجرة منتظرًا مجيء غريمه، يطرق بأنامله السمراء فوق المكتب في تعجل واضح وقلة صبر، حتى فُتح الباب وفتحت معه أبواب الجحيم ودخل الشيطان متهاديًا بكبرياء يحتفظ به كتحفة قديمة، حين لمحه مرتضى سأله ببرود «جاي ليه؟»
ابتسم رؤوف ولم يجبه ظل واجمًا يمرر نظراته الداكنة على جسده وملامحه بصبر وتأني أذهب برود الآخر، انفعل مرتضى بعدما رُفِع الستار عن الماضي وظهر للعيان مغطى بأتربة الأيام وغبار المآسي.
وضع رؤوف ساقًا فوق الأخرى وقال بتشفي هازئًا « كان نفسى أجبلك عيش وحلاوة بس أنا اتعلمت وحفظت الدرس إذا أكرمت اللئيم تمرّد»
هتف مرتضى مستعرًا بالقهر «يبقى أنت السبب في الي أنا فيه؟»
قهقه رؤوف قائلًا «صح النوم يا مرتضى دا دي البداية»
صاح مرتضى «عايز إيه يا واد الحفناوي»
ابتسم رؤوف مُجيبًا عليه ببرود«كني السنين خلتك تخترف يا مرتضى، جول مش عايز إيه؟»
نهض رؤوف متخصرًا ودار حوله مُعددًا «عايز الفلوس الي سرجتها وتمن الغلّة الي حرجتها وعمي وضربتي وقهرة الغاليين»
توقف عن دورانه أمامه وزعق فجأة وهو يمسك بتلابيبه هازًا له «أجول تاني ولا كفاية؟»
قال مرتضى بابتسامة خبيثة وبرود «معنديش حاجة»
هزه رؤوف مُهددًا «مش هتطلع غير على جثتي تلت قضايا والبقية تأتي ومفيش محامي هيجدر يطلّعك»
ارتبك مرتضى وسُحق بروده، انحسرت ابتسامته وتلألأ الخوف ليهرب من بين الضلوع عبر نوافذ العينين،دفعه رؤوف بقوة قائلًا «عايز فلوسك ومحلاتك وبتك وعمرك وهاخدهم»
قالها بانتصار وتشفي قبل أن يشير للأوراق الموضوعة فوق الطاولة الصغيرة «هتمضي ولا نستنى شوية؟»
صرَّح مرتضى بالكراهية في نظرات صوّبها تجاه رؤوف الذي ابتسم مستهينًا، وقال «سيب صفوة وخد الي عايزه»
سخر رؤوف بفظاظة «دي صفوة أولهم» صمت ينظر لعينيه بقوة ثم قال بضحكة متغزلة في كسرة الأخر وحسرته «عجباني صفوة يا مرتضى»
امتعض مرتضى وثار هدوئه، تدفق الغضب من نظراته فضم قبضته واقترب ضاربًا رؤوف بغتة ، تصلّب رؤوف ضاحكًا يدلّك موضع اللكمة قائلًا «ماشي يا حمايا»
ختم قوله بلكمة أقوى سحقت قوة مرتضى، انحنى مرتضى مترنحًا يقاوم الألم فسحبه رؤوف من ملابسه وهزه قائلًا «قاوح وماله الحساب يجمع وأنا بحب الفواتير الكبيرة»
ركله رؤوف فانحنى متألمًا فاستغل رؤوف ذلك وضرب بمرفقه على ظهره فسقط أرضًا متأوهًا، وضع رؤوف قدمه فوق رأسه وانحنى هازئًا «حكم السن بجا»
تشفى مستمتعًا بتأوهاته ثم تركه وعاد لكرسيه في هدوء، بينما نهض مرتضى ووقف مكانه يمسح الدماء عن أنفه.
طُرق الباب في إعلان واضح لإنتهاء الزيارة فلملم رؤوف أوراقه وخرج قائلًا «هجيلك بكره»
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فـي الـيــــوم الــتــــالـــــي
+
دخل مرتضى الحجرة فنهضت صفوة راكضة لأحضانه باكية، حاوطها مرتضى بذراعيه ضامًا لها بحنو محاولًا تهدأتها «خلاص يا بابا اهدي»
سألته وهي تبتعد عن أحضانه قليلًا ليتثنى لها رؤيته والاطمئنان عليه «أنت كويس يا بابا»
ربت على رأسها قائلًا بحنو «أيوة اطمني»
جلسا فوق الأريكة وهي تستفسر بصوت متقطع «الراجل ده عايز منك إيه يا بابا وبيعمل كده ليه؟»
تنهد مرتضى قائلًا بحزن «مواضيع قديمة وهتخلص بس أنتِ لازم تمشي سافري لأمك يا صفوة»
مسحت دموعها بظاهر كفها مستفسرة «هو هيتجوزني بجد؟»
أجاب مرتضى بحيرة «مش عارف بس أنا عايزك متكلميش غزل ولا تحكيلها حاجة كفاية الي هي فيه»
هزت رأسها بالموافقة فتابع برضا «متشليش همي سافري بعيد وأنا هعرف أخلّص نفسي وأجي وراكم»
صارحته والدموع تتجمع من جديد في عينيها الواسعة «أنا خايفة يا بابا، أنا حاسة إنه ممشي ناس ورايا»
القلق والاستنكار عصف به فعبس قائلًا «معقول؟»
هزت رأسها مؤكدة بخوف جلي «أيوة يا بابا»
ضرب مرتضى فوق ركبته غاضبًا لاعنًا ليسلّط نظراته على وجه المذعورة من جديد قائلًا بيأسٍ وإحباط «لو ملقيناش حل يا صفوة عندك استعداد تتجوزيه وتخلصيني من الي أنا فيه ده؟»
صمتت مبتلعة شهقاتها مُفكرة متحجرة النظرة لدقائق قطعتها بوعدها المغمور بحنانها «أنا أعمل أي حاجة عشانك يا حبيبي، لو جوازي هيحل المشكلة معنديش مانع»
ابتسم مرتضى واقترب يربت بحنان فوق كفها شاكرًا معتذرًا عن أفعاله السابقة «ربنا يخليكِ ليا وميحرمنيش منك أنتِ وأختك، متزعليش مني يا صفوة على الي عملته»
ابتسمت بحزن قائلة «ويخليك لينا يا حبيبي أنا مش زعلانة »
شرد مرتضى قائلًا بغيظ «كله من ابن....»
نهضت صفوة مودعة له فنهض وضمها مؤكدًا عليها «متجبيش سيرة لأمك ولا لأختك يا حبيبتي علشان الأمور متتأزمش أكتر وبإذن الله ربنا يحلها»
أومأت برأسها في طاعة وغادرت مُفكرة في الأمر و في الطريق قررت الذهاب لهذا الرجل الذي قلب حياتها فجأة لتتوسله أو ربما تحكي لصديقتهما لمياء بما حدث منه قد تجد عندها حلًا أو مساندة ..
وفي المصعد وقفت مرتجفة القلب تدعو الله أن تمرّ المحنة بسلام وأن تنجح فيما تنتويه... في المصعد دخل شخصًا تعرفه جيدًا التقت نظراتهما فابتسم وبادر بالسلام «ازيك يا آنسة صفوة»
منحته ابتسامة مهزوزة وأجابت «ازيك يا أستاذ طاهر»
أجاب برضا وهو يخفض بصره في أدب «الحمدلله بخير طمنيني عنك وعن البشمهندسة»
+
أجابت بحياء لوّن وجهها «الحمدلله»
وقف المصعد فخرجا معًا ودخلا معًا مما جعله يستفسر «محتاجة حاجة؟»
قالت وهي تنظر حولها باحثة عن لمياء «كنت جاية لواحدة صاحبتي هنا»
خطر لها بأمل أن تستفسر عن مجيئه «أنت تعرف حد هِنا»
ابتسم قائلًا «أيوة صاحب المكان»
اتسعت عينيها بدهشة وقد وجدت في قوله زورقًا يمكنها صعوده للنجاة «أنت تعرفه»
أجاب طاهر بابتسامة واسعة «دا حبيبي»
تألقت نظراتها باللهفة والأمل، فطاهر الوحيد الذي يمكنها أن تحكي له بأريحية دون خوف أو حذر كما أنها لن تشك في أنه سيساعدها ويقف جوارها مُعينًا لها... لو كانت غزل مكانها لفعلت واستنجدت به فهي تثق به ثقة عمياء.. فلتغامر ربما بعثه الله لها لينجيها من هذا الكرب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فــــــــي قــــــــنــــــــا
+
«حين أبصرتك وجَبَت لقلبي جنة العشق.»
2
*أيقظه عبود من سباته العميق قائلًا وهو يهز جسده ليفيق «جوم يا حامد»
نهض حامد مستفسرًا بتثاؤب «في ايه يا عبود؟»
نهض عبود بهمة ً عالية ونشاط وفير يهمس بسره الخطير «الغريبة جات..»
ظنه حامد يهذي كعادته فعاد للتمدد قائلًا «طيب نام دلوك والصبح نشوف الغريب والجريب وكله»
صرخ به عبود في حنق «جوم يا حامد متتأخرش»
ثم شجعه بضحكة رائقة يمنيه بالقادم«مصباح العتمة يا حامد ونوارة الجلب»
جلس حامد في صبر، يسأله بهدوء كاتمًا غيظه «فينها ومين دي بس؟ يا بوي على الحِزن التجيل سببني أنام»
تحرك عبود خطوتين بعيدًا مُحمسًا له «جوم يا حامد آن الأوان جلبك يزوره الفرح جوم يلا»
نهض حامد متأففًا، لف شاله على رأسه ووجهه كعادته وانطلق جواره قائلًا وهو يكتم تثاؤبه «ياريتني مشيتك أول الليل وارتحت منك»
هرول عبود أمامه بفرحة قائلًا «يلا يلا»
ضرب حامد كفًا بكف في يأسٍ وضيق حتى انتفض حامد قائلًا «حادثة استر يارب»
قال عبود وهو يهرول أمامه «فتش على الغريبة يا حامد بينهم» تجاهله حامد وسارع بالاتصال بالنجدة وطلب المساعدة..
وبعد مدة كان عبود يجلس باكيًا يسأل «فينها راحت أنا شوفتها بتركب»
ربت حامد على كتفه بحنو قائلًا وهو يجلس جواره «غريبة ايه بس يا راجل يا طيب»
لم يتوقف عبود عن البكاء كالطفل وهو يقول متوسلًا «دوّر عليها»
امتثل له حامد بصبر، بحث وفتّش في المكان ليرضيه حتى اصطدم قدمه بجسد، اتسعت عيناه بصدمه وانحنى موجها نور هاتفه ، ابتلع ريقه مذهولًا قبل أن ينادي «تعالى يا عبود اهي»
#انتهى
مراجعة: منة أحمد
+

