اخر الروايات

رواية حصنك الغائب الفصل الحادي عشر 11 بقلم دفنا عمر

رواية حصنك الغائب الفصل الحادي عشر 11 بقلم دفنا عمر



                                    
الفصل الحادي عشر! 
____________

+


تطالع وجهها بالمرآة "بتيه"..عيناها مسلطة على خصلات شعرها السوداء! خصلات حملت لها ذكرى سيئة ومضت لتوها بثنايا العقل لتُفزعها، فترتجف مخبئة وجهها بين كفيها گدرع يحجب عنها طيف الذكرى، وأحدهم يلوي حزمة من شعرها الطويل ويبرمه حول كفه ويجذبها إليه بعنف وآخر يحاول نزع كنزتها لتتمزق بين يده وثالث يحاول استباحتها بيديه وهي تقاوم الجميع گ آلة دفاع! 

+


انكمشت بذاتها أكثر وضمت أجفانها بقوة وراحت تهز رأسها بعنف علها تطرد تلك الصور البشعة التي تدفقت لذهنها وأزعجت سكون عالمها.. ثم فتحت عيناها مرة أخرى وبنظرة تقطر كرهًا راحت ترمق نفس خصلاتها السوداء.. وبدون وعي ألتقطت ذاك المقص الصغير الموضوع فوق زجاج طاولة الزينة، ووجهت نصليه للخصلات وراحت تبترها بجمود فتتساقط فوق ركبتيها.. ثم انزلق أرضًا لتملأ محيط دائرة مقعدها الصغير.. وكلما سقط شعرها، كلما تسللت إليها راحة غريبة.. وكأنها تتخلص من حمل ثقيل فوق رأسها.. يجب أن تصير بشعة ودميمة.. نعم .. لن تترك مجالًا لجمالها أن يتنفس بعد الأن..! سيموت كما ماتت روحها تمامًا..!
…………………………………… .

+


عاصم:  بلقيس فين يا دُرة؟
تمتمت:  في أوضتها، فضلت معاها لحد ما نامت، وقلت اعملها أكله بتحبها عشان تاكل! 

+


بدا عليه الأرهاق وهو يردف:  طب أنا هطلع انام جمبها شوية لحد ما تخلصي وابقي صحينا..! 

+


_ ماشي ياحبيبي.. هسيبكم ساعة واصحيكم للغدا..! 

+


صعد إليها، مشتاقًا لضمها لصدره، فرغم انه عاد لممارسة أعماله، إلا أن عقله دائما معها.. وصل لغرفتها وما أن عبر داخلها، حتى اتسعت عيناه بذهول والأرض حول ابنته غارقة بخصلات شعرها المبتور، وهي جالسة بعين تائهة أما المرآة تقصه بوعي غائب!  فركض تجاهها سريعًا وهو يلفظ إسمها بفزع نازعًا المقص من يدها، ثم ضمها باكيًا ولا يفهم سببًا لتصرفها الغريب.. وعلى أثر صراخه أتت دُرة لتأخذ نصيبها من الصدمة والبكاء وهي تضم ابنتها بنحيب متسائلة عن سبب ما حدث وكيف.. ولكن لا إجابات! فقط الجمود هو ما يتجسد على ملامحها الباردة، رغم رؤيتها أنهيار والديها في المرآه..!
_______________________

+


" بلقيس بتحمل جمالها سبب اللي حصلها"

+


انتبهت جميع حواس " عاصم" وهو يستمتع لطبيب ابنته الذي واصل استرساله: 

+


يعني تصرفها مبرر جدًا نفسيًا يا سيد عاصم.. الحادث اللي اتعرضتله خلاها على يقين تام إن جمالها سبب رئيسي في الحادث، وعقلها رسخ جواها إنها لو اتخلصت من أسباب جمالها هتكون في أمان،وبعيد عن أي عيون تطمع فيها وتأذيها تاني!  فطبيعي تكره أي حاجة تظهرها جميلة وأول حاجة فكرت تتخلص منها، شعرها اللي بدونه هتكون دميمة وتحقق هدفها

+


أطرق رأسه بحزن شديد على ماتعانيه صغيرته، وتمتم: فهمت السبب، بس انا دلوقت خايف تأذي نفسها بأي شكل أو تفكر تنتحر مثلا أعمل إيه عشان احميها من افكارها يا دكتور..! 

+



          

                
عدل عويناته وأردف: مش وارد أبدًا إنها تأذي نفسها بشكل مباشر بفكرة انتحار..هي بس بتحاول تطمس جمالها نفسه، سواء بقص شعرها.. أو خدش بشرتها بضوافرها زي ما حصل قبل كده.. أهم حاجة يبقى في رقابة عليها طول الوقت..ويكون في حذر أنها تلاقي أي أداه حادة تساعدها  زي المقص وغيره..!

+


أطرق رأسه ببؤس : ماشي يادكتور.. ربنا يفك الكرب ويشفيها.. وترجعلي تاني.. بنتي وحشتني أوي وهي بتكلمني.. وهي بتضحك.. وهي بتستناني كل يوم بالليل ارجع وتجري عليا زي الأطفال تقولي يلا يا بابا الفيلم هيبتدي.. كنا كل العالم بتاعها وهي فرحتنا في الدنيا..! 

+


وجد الطبيب نقطة تستحق التوضيح فتمتم: 
هي دي المشكلة ياسيد عاصم.. مع كل تقديري وتعاطفي مع مشاعرك، بس عشان أما بلقيس تخف تتعاملوا معاها بأسس صح! 

+


بدا على الأخير الأهتمام: 
مش فاهم، واحنا كنا بنعامل بنتنا غلط؟!

+


_ مش غلط مقصود طبعا.. بس انتم خليتوا كل العالم بتاعها هو انتم الأتنين وبس.. حطيته سياج من المحاذير المطعمة بالخوف انها تتمرد وتبعد عن مداركم.. بس هي كبرت.. وشافت ازاي اقرانها عندهم حرية أكتر بكتير منها..حبت تجرب أول تجاربها من وراكم.. كانت ممكن تكلمكم وتقول انا عايزة مساحة من الحرية.. بس خوفكم وقفها..!
وواصل:  أمان ولادنا اننا أولا نربيهم على الدين الصح، نغرز جواهم الخوف من ربنا مش مننا.. نطلق صراحهم اما يشد عودهم مادام اتحصنوا بالفهم الجيد لكل شيء.. نديهم ثقة كاملة عشان يحسوا بقيمتهم.. مش نحوطهم بالقيود اللي في ظاهرها حرية كدابة.. حركتها من مكان لمكان كانت بسيارة وسائق.. في ناس هيكون الأمر ده ليها رفاهية.. لكن ناس تانية هتحسه قيد وخنقة.. هل فكرتم في ده مرة؟ أكاد أجزم إن مكانش لها صداقات كتير، لأن هي عارفة انها مش هتكون معاهم بحريتها.. وواثق إن في مرة حصل من بلقيس انفجار وأعلنت رفضها للحصار ده گ إنذار محدش فيكم أدركه! 

+


مر بعقل عاصم بالفعل ثورة ابنته حين رفضوا أن تذهب برحلة تبع جامعتها.. ومرة أخرى خاصمت والدتها حين رفضت ذهابها عيد الميلاد..ابنته كانت تعد انطوائية ليس لديها صديقات غير واحدة فقط بالجامعة..الآن أدرك كم ساهموا بما وصلت إليه ابنتهما.. فدمعت عيناه وهو يغمغم:  يعني غلطنا أما خوفنا عليها زيادة؟ 

+


أراد الطبيب منحه كلمات الأمل لرؤية عذابه فواصل: 

+


من قلت انه غير مقصود..وأسف لو ألمتك بس كان لازم اوضحلك نقاط الخطر اللي كانت في التعامل معاها.. وعموما  فترة وهتعدي بإذن الله يا سيد عاصم، الحادث مش سهل عليها ولازم أثاروا تاخد وقتها حتى لو طولت شوية.. أنت أهم حاجة تعرفني أي تطور يحصل معاها، لأن أي تصرف منها هيكون له دلالة نفسية هتساعدني في طريقة علاجها. وفي النهاية.. ومهما اجتهدنا گ أطباء، الشفا دايما في ايد ربنا ومعجزاته لا تنتهي، ومافيش أخلص وأصدق منك انت ووالدتها في الدعاء.. ربنا يعافيها ليكم وترجع زي الأول وإحسن..! 
_______________________

+



        

          

                
رائحة "قهوة" شهية عبئت محيطها، مع نسمات هذا الصباح، فالتفتت لتجد " كريمة" حاملة صينية مزخرفة. وابتسامة بشوشة. تزين. ثغرها وهي تتمتم مع اقترابها من طاولة دُرة، بزاوية ما في حديقة منزلها: 

+


_ أنا قلت أجي اشرب معاكي القهوة الصبح..واطمن على بلقيس، وجبت جوري معايا..! 
هتفت جوري بمرح:  مع إني مش بصحى دلوقت بسهولة ياطنط، بس انا كمان عايزة اشوف بلقيس! 

+


ابتسمت دُرة لهما بامتنان شديد: أنا مش عارفة اودي جمايلك فين. يا كريمة!  وقفتك جمبي مش هنساها طول عمري.. فعلا الأصيل بيبان معدنه في الشدة! 
ثم التفتت لجوري بحب خالص:  ومايحرمنيش من وش القمر ده على الصبح!  فين البوسة بتاعة طنط دُرة! 
اقتربت جوري بدلال: بوسة وحضن كمان، وبعد عناق دافيء راقبته " كريمة" بابتسامة راضية، تسائلت جوري:  هي بلقيس لسه نايمة؟!
_ أيوة باحبيبتي، انتي عارفة علاجها بيخليها تنام كتير.. بس قربت تصحى هي وعاصم! 

+


" عاصم خلاص صحي.. صباح الخير"

+


التفتوا جميعهم مرددين التحية:  صباح النور! 
جوري: إيه الشياكة والأناقة دي.. والله برنس ياعمو..!

+


قرص وجنتها وتمتم:  بطلي بكش يابنت أدهم! 
واستطرد: مش عوايدك تصحي بدري كده يا روح عمو! 

+


_ صحيت مخصوص عشان افطر مع بلقيس.. واقضي معاها اليوم.. معلش بقى هكبس على نفسكم انهاردة! 

+


ابتسم لها:  بالعكس ياحبيبتي، ياريت حتى تبقي مع مرات عمك وبلقيس على ما اجي بالليل! 

+


هتفت كريمة: والله هتريحوني منها طول النهار! 
رفعت جوري حاجبيها:  كده يا كيما، بتبعيني؟! ماشي بكرة اتجوز واقعد في بيتي، وتقوليلي تعالي اقعدي معايا، اقولك مش فاصية! 

+


نكزت رأسها:  بلا خيبة، خلصي جامعتك الأول وبعدها فكري في الجواز ياهبلة..! 

+


تابعت دُرة مع عاصم دعابتهما، وضوى بعقلهما نفس الحنين لمزاح بلقيس معهما، حين كانت تشاكس ابيها، وتتدلل عليها، فدمعت عين " دُرة" دون أن تدري وشوقها لابنتها يفطر قلبها.. متى تعود لها.. متى تعود ضحكتها ومزاحها، حتى تذمرها المحبب لأمر لا يعجبها أشتاقته..!  ولأن زوجها يشاطرها نفس حنينها بذات اللحظة، ربت على ظهرها برفق، فمنحته ابتسامة دامعة، وأومأت برأسها انها بخير! 

+


أدركت " كريمة" شعورهما حين نظرت لهما، وألمها قلبها، فهتفت داعمة:  صدقوني بلقيس هتخف وترجع احسن من الأول.. طول ما انت ودُرة ياعاصم بتدعولها أكيد ربنا هيساعدها.. بس الصبر.. وكلنا اهو حواليكم.. والله قلبي بيقولي قريب أوي الغمة دي هتنزاح وتبقى ذكري هننساها.. بس قولوا يارب! 
………………………… 

+


تنحت جوري مع بلقيس في إحدى الزوايا بالحديقة، والأخيرة جالسة بذات الصمت مسلطة أنظارها أمامها على نقطة غير واضحة، وگعادتها بدت شاردة،  

+



        
          

                
جوري:   صباح الخير يابلقيس! 
ظلت الأخيرة على جمودها، فواصلت جوري:  
انا لو كلمتك هتفهميني؟ بلقيس انا عايزة اعتذرلك لأني كنت بعيدة عنك.. واخر مرة كلمتك وحش وزعلتك.. وانا اللي كنت غلطانة.. عايزاكي تصدقي اني زعلانة عشانك بجد، وبترجاكي ترجعي تاني. عمي ومامتك حالتهم بقيت صعبة، ارجعي واحنا كلنا معاكي.. مهما كان اللي حصلك هتنسيه وسطينا حبيبتي!  صمتت تطالع وجهها الجامد وعيناها الغائمة، فواصلت: تعرفي إن عطر زعلانة عشانك! هي مش بتكرهك على فكرة، بس هي عصبية. شوية لو قربتي منها هتحبيها، وهي كمان هتحبك انا متأكدة.. ارجعي وانا هقربكم لبعض عشان تعرفي إنك مش لوحدك وعندك اخوات كتير.( ورغم دفء حديث جوري، لم. تستجيب بلقيس، لكن مسامعها تتلقى كل حرف يقال دون تجاوب يُذكر) ..فواصلت جوري ثرثرتها: 

+


انا هقضي معاكي اليوم كله، ماما ماصدقت تتخلص مني.. اصلها بتقول عني رغاية.. بس هي ظالماني.. انا بس بحب اتكلم مع اللي بحبهم.. تفتكري يابلقيس انا رغاية؟ عموما بابا بيحبني كده، وساعات يقولي، (تعالي ارغي جمبي ياجوري لحد ما انام انتي احسن من الراديو) وضحكت مردفة:هي تريقة من بابا بس انا بعديها لدومي عشان بحبه، أعمل إيه مقدرش ازعل منه! 

+


ظلت جوري تثرثر مع ابنة العم، أملًا أن تتجاوب معها كما نصحهم طبيبها، ولم تدري عن تلك التي تراقبها واستمعت لكل حديثها ودموعها تسيل بصمت، مرددة داخلها:  يارب.. اشفيلي بنتي.. رجعهالي تاني.. يارب ارحم قلب أم بتتقطع على ضناها.. مين غيرك يحس بيا يا رحيم! 

+


وتركتهما وراحت تتوضأ وتصلي وتدعوا بتضرع..!

+


_____________________________

+


بعد مرور عام وبضعة أشهر! 

+


يزيد: إيه أخبار شغل المجمع السكني يا أحمد، عايزين نسلمه في معاده بدون أي تأخير.. إحنا الحمد لله ابتدينا في كسب ثقة العملاء وتكوين سمعة معقولة جدا.. والمواعيد وجودة الشغل مهمة في المرحلة دي..! 

+


أحمد وهو يرتشف بعضًا من قهوته: 
لا ماتقلقش خالص، المهندس نادر متابع والحقيقة بيشتغل بمنتهى الضمير وكل حاجة مطابقة للمواصفات ومش بيفوت حاجة إلا اما يتأكد منها..! والشغل ماشي بالسرعة والجودة المطلوبة الحمد لله.. وواثق  المجمع ده هيدعم أسمنا أكتر، وهتتفتح لينا أفاق أوسع فيما بعد! 

+


يزيد بإيماءة:  بإذن الله.. ده عشمنا في ربنا..! 

+


_ هو ياسين فين مش موجود في مكتبه؟
_ واخد أجازة اليوم، ورجع المنصورة عشان يطمن على خالتي كانت تعبانة شوية، وهيكون هنا بكرة الصبح في معاده! 
_ ألف سلامة عليها، بس بصراحة ياسين اندمج في الشغل بسرعة وعاجبني، دماغه حلوة أوي في شغله! 

+


يزيد بفخر:  ياسين زكي وشاطر.. هو وعطر هيكون ليهم بصمة كبيرة هنا..!

+


_ هي بقيت في سنة كام. دلوقت! 
_ هي كده خلصت اعدادي وأولى وهتدخل تانية هندسة! 
_ حلو جدا، أول ما تتخصص في سنة تالتة تيجي تدرب معانا..!
_ بس اما تعرف تقنع خالتي بقى، لأني عرفت انها مش حابة تنزلها القاهرة لوحدها..! 
_ لوحدها ازاي يا ابني، أخوها ياسين معانا، وابن خالتها(  أنت طبعا) معاها، وقلت مرة إن جدها وجدتها وعمتها هنا بالقاهرة.. فين لوحدها دي؟

+



        
          

                
ضحك يزيد:  معلش خالتي متعلقة بيها زيادة، الصغيرة وأخر العنقود بقى! عموما اما نيجي لوقتها أكيد في حل! 
وواصل متعجبًا: بس تخيل يا أحمد أنا ماشوفتش عطر من إمتى؟! 
أشار له الأخير بالمواصلة، فتمتم يزيد:  من وقت نجاحها في ثانوي..!
_ ياه.. وليه كده، ما انت بتروح المنصورة ماشوفتهاش هناك ليه؟
_ انا بصراحة كنت زعلان منها في حاجة وفضلت فترة مش بسأل عليها أصلا، كمان في بداية شغلنا  كل تركيزي فيه وازاي نقف على رجلنا.. وبعدها كل اما اجي اتصل ماتردش، أزور خالتي مش بلاقيها، وكأنها بانكر نفسها مني! 
_ واضح كده إنها زعلانة منك جدا ؟
_ أنا ماعملتش حاجة تزعلها.. بالعكس انا اللي كنت زعلان ومع كده نسيت والله.. عطر غالية عندي ومهما حصل هغفرلها..! 
إحمد بحيرة:  والله ما عارف.. عموما مسيرك هتكلمها وتبقي تسألها براحتك.. طيب جوري وعابد أخوك أخبارهم أيه، هيشتغلوا معانا بردو ولا إيه؟

+


_ لالا عابد بعيد عن مجالنا، هو خلص جيشه ومركز دلوقت في المزرعة وشايل مسؤليتها ومتابع الأراضي مع بابا..! وجوري بقى في تالتة تجارة أنجلش، وفيما بعد هتمسك الأدارة المالية هناك مع عابد لأنه مالوش في الحسابات نهائي! وكمان أمي مستحيييل هتخليها تنزل تشتغل معايا.. لازم تكون قصاد عينها..! 

+


أحمد بأيماءة:  ربنا يوفقهم إن شاء الله..وواقل بحذر: وبنت عمك!  حالتها اتحسنت؟
نقشت فوق ملامحه مسحة حزن وهو يستدير إلى النافذة يطالع خارجها:  تحسن بسيط جدا، وبردو مش بتتكلم..!
_ طولت أوي، كل ده بسبب حادث تصادم؟ 
صمت برهة قبل أن يجيبه بذهن شارد:  محدش يعرف هي واجهت إيه بالظبط وليه بتحارب إنها ترجع لطبيعتها، اللي فهمته من طبيبها إن هي اللي عازلة نفسها..! 
_ حالتها غريبة ومطولة خصوصا ان حادث التصادم ما يتسببش في كل ده! 
التفت يزيد: أنت عارف الأمراض النفسية غير العضوية، التحسن فيها بيكون طفيف وبياخد وقت.. وواصل نافضًا عنه عبء هذا الحزن لأجلها:  يلا بقي بطل رغي وارجع على مكتبك ورانا شغل كتير! 

+


تمتم أحمد بإرهاق:  شغل إيه!  مش هنتغدى؟ أنا جوعت ومش قادر اركز.. أنت مش جوعت؟

+


_ عادي مش أوي، هخلص مراجعة الملفات اللي في أيدي واطلب لينا دليفري! 

+


أعترض أحمد مردفًا: ودليفري ليه يعني، قوم معايا هعزمك على غدوة حلوة! 

+


يزيد معترضًا: أحمد أحنا مش فاضين نروح في حتة في شغل كتير ورانا.. خلينا نطلب أي حاجة هنا

+


_ يا ابني مش هنبعد كتير نص ساعة بالعربية هنكون في كافية " صُحبة طيبة" عارفه؟ 

+


يزيد وهو يبحث بذاكرته عن ذاك الإسم: 
أه عارفه، أنت قولت قبل كده إنه صديق ابن عمك صح؟ أومأ أحمد بالتأكيد، فواصل يزيد:  بس ده مغلق بقالو فترة تقريبا ، وأصلا بيقدم مشروبات بس! 

+


احمد:  ده لأنه كان بيعمل تعديلات، ضم مساحة كبيرة وعمل مطعم بنفس الإسم بيطل على الشارع الرئيس من الناحية التانية، وصمم ديكوراته على الطراز الدمشقي! 
_ اشمعنى الدمشقي يعني؟

+



        
          

                
_ معرفش، يجوز متأثر بيها لسبب ما، المهم إنه بقى تحفة فنية يا يزيد، لدرجة إني سألت عن المهندس اللي صممه وقلت ممكن أضمه لشركتنا.. بجد الأجواء هناك هتفصلك عن العالم..واضح انه اتصرف عليه كتير وانا جربت أصنافه الجديدة، لازم تشوف وتجرب بنفسك! وأنا متأكد القعدة هناك هتجدد نشاطك وهنرجع نواصل الشغل بتركيز أكبر!  

+


يزيد وهو يغلف إحدى الملفات: 
_ بص هو أنا مش جعان.. بس حقيقي كلامك شوقني جدا.. يلا بينا، وساعة. بالكتير ونرجع! 

+


……………….. 
في المطعم! 

+


يزيد بانبهار: بصراحة يا احمد ليك حق تصمم تجبني هنا.. وكلامك مافيهوش أي مبالغة الديكور فظيع.. بقولك إيه شوفلي المهندس اللي عمله هينفعنا جدا في شغلنا.. 

+


أحمد وهو يلوك قطعة لحم:  مش قولتلك، أنا فعلا كلمته لقيته شغال في شركة ما.. بس انا مش هسيبه، هجدد عليه عرضي وبإذن الله يشتغل معانا..! 
وواصل:  المهم الأكل كمان إيه رأيك فيه؟

+


يزيد بإعجاب:  لا ده موال تاني يا أحمد.. شكل صاحب المطعم والكافيه دارس وحابب مجاله، مش مجرد مشروع للربح وبس، كل حاجة بتتقدم بحب واهتمام شديد! 

+


_ ده حقيقي، وعلى فكرة شكل هيكون له مصلحة مع عمك عاصم! 
يزيد بتساؤل:  مصلحة إزاي؟

+


_ لأنه طلب مني توصية  انه يقابل عنك ويتعاقد مع شركته، لأنه سمع عن جودة منتجاتكم وانها طبيعية ومضمونة.. وانا قولتله اني هكلمك ترتب معاد معاه! 

+


يزيد باهتمام:  مافيش أي مشكلة، هكون مبسوط لو لينا لمسة في الإبداع ده.. خلاص هكلم عمي واعرفك! 

+


أحمد بعد أن فرغ من طعامه:  
تمام.. وانا كمان عندي اقتراح حلو أوي هيفيدنا ..!
_ إيه هو؟

+


_ بما إننا بقى عندنا عدد من العمال والمهندسين والمحاسبين والحمد لله الدايرة بتوسع كل شوية، إيه رأيك نعمل مطعم صغير في المساحة في في الدور الأرضي للشركة، أنا تقريبا رسمتها في دماغي وفاضل التنفيذ، هيكون فيها الساعة البريك، منها توفير للوقت، وميزة لينا في الشركة! وبما إني عارف صاحب المطعم، هتفق معاه يظبطلنا يوميا عدد الوجبات اللي هحددها بسعر معقول طبعا، ودي لعبتي، هاخد منه أقل سعر ممكن، وأهو تبقى المصلحة مشتركة والفايدة تعُم علينا سوا.. إيه رأيك؟

+



        
          

                
يزيد وهو يدرس الاقتراح بعقله: 
والله يا احمد هي فكرة كويسة جدا.. خلاص اتكل على الله، واتولى انت الموضوع ده كله، بس مش هوصيك التكاليف تكون مختصرة قد ماتقدر! 

+


أحمد بمزاح:  لا تقلق يا صديقي وكن مطمئن! 
يزيد:  طب يلا يا استاذ الساعة خلصت خلينا نشوف شغلنا..! 

+


احمد بمشاكسة:  خليك شوية مستعجل ليه، المكان يفتح النفس"

+


تتبع يزيد اتجاه نظر صديقه، فوجده يطالع إحدى العاملات وهي تقدم أوردر لطاولة مجاورة، فتمتم: 
فهمت ليه نفسك مفتوحة يا ابو عين زايغة! 

+


_ طب بذمتك.. الخدمة هنا مش حلوة ومألوظة وتفتح الشهية  وتخليك تتغدى وتطبق تسبيل للعشا كمان؟!

+


ضحك يزيد مصفقًا: أنت مهندس فاسد على فكرة.. أحترم نفسك ماتبصش على حد، ويلا عشان نرجع الشركة نشوف اللي ورانا وخلي التسبيل بعدين..! 

+


_ ماشي ياقاطع الأرزاق يا مؤدب! بس لعلمك يعني، البنت اللي في الترابيزة اللي على اليمين جمب صاحبتها المحجبة، عينها عليك من وقت ما دخلت! 

+


استدار يزيد ليجد بالفعل فتاتين إحداهما محجبة والأخرى عاقصة شعره گ "زيل حصان" ينفلت على جانبي وجهها بعض الخصلات الرقيقة وتبدو ملامحها طفولية نوعًا ما، ترمقه بالفعل وما أن التقيت أعينهما حتى خجلت وأسبلت جفناها لأسفل سريعًا..!

+


فعاد ينظر لرفيقه متهكما:  ودي هتبصلي على أيه بقى حضرتك.. عادي مجرد بصة عادية! 

+


أحمد وهو يجز على أسنانه:  يزيد!  أنا عندي مرارة واحدة وأنت هتفقعهالي أقسم بالله، البت عنيها هتنطق بإعجابها بيك.. وبعدين انت ناسي النيو لوك اللي انت عملته! 

+


يزيد باستنكار ممتزج ببعض السخرية:  نيو إيه يا اخويا؟ هو تظبيط الدقن وتغير تصفيفة شعري وفرده  عشان يتعدل شوية والبدلتين اللي بقيت البسهم عشان بس اقابل العملاء بمظهر يليق بشركتنا.. ابقى عملت نيو لوك؟؟ أمال لو حطيت لينزز بقى وضربت اصفر في شعري هتقول أيه! 

+


_ واللي قلته ده شوية.. يا ابني انت كنت محتاج مجرد رتوش تظهرك، وخصوصا اما عملت عملية الليزك في عينك واستغنيت عن نضارة جدي اللي كنت لابسها.. ده انت بنفسك فضلت تحكيلي عن انبهار عابد ووالدتك واختك ووالدك اما شافوك وقتها وانت بتزورهم! 
_ وقلتلك كمان انهم بالغوا جدا.. واني شايف التغير في المعقول ومايستاهلش الأنبهار ده.. كأني حسين فهمي! 

+


غمز أحمد بإحدى عيناه وهو يشاكسه: في البنات بتحب النماذج الخشنة وانت بقيت نسخة من الود  بطل زهرة الثالوث زيدوا..! 

+




                
نهض يزيد وهو يغمغم: ثالوث؟ طب خليك قاعد ضيع اليوم في الهبد اللي بتقوله وانا راجع الشركة وسايبك! 

+


وغارده سريعا فلحقه أحمد مهرولًا بعد أن وضع نقود تكفي فاتورة ما تناولاه.. ولم ينسى أن يلقي نظرة أخيرة على تلك الرقيقة التي سلطت ناظريها على ظهر يزيد وهو يغادر أمامها غير مهتم بحديث عيناها الخفي! فتمتم أحمد داخله(  طول عمرك فقري ياصاحبي البت زي اللوز)
______________________

+


كلية الهندسة! 

+


_ أنسة عطر! 

+


أستدرت تتبين من يناديها متمتمة:  أفندم! 
دنى شاب وسيم الطلة يرمقها باهتمام:  الحقيقة انا كنت عايز اتكلم معاكي شوية لو مش يضايقك، هنشرب حاجة في الكافيتريا ومش هعطلك. كتير! 

+


أجابت بجدية:  أسفة مش بقعد مع حد معرفوش! 
_ بس انا زميلك في نفس الدفعة! 
_ ده مش هيفرق في حاجة.. وتقدر تقول اللي انت عايزه دلوقت لأن مافيش فرصة ولا وسيلة تانية تكلمني بيها..! 

+


تلفت يمن يسار ببعض التوتر، وكم تمنى أن يحظي برفقتها بشكل أكثر خصوصية، وبعيدا عن المارين حولهما، لكن لا بأس! 

+


حمحم قبل أن يقول: بصراحة وبدون لف ودوران.. أنا معجب بيكي جدا.. معجب حتى باسمك.. وبأدبك وجديتك.. وذكائك.. استحوزتي على تفكيري بشكل كبير وغريب.. عشان كده ..أنا يشرفني إني أطلب إيدك لو موافقة مبدئيًا على خطوبة نتعرف بيها بالأصول وتحت أنظار أهالينا..وانا واثق إنك هتبهريني أكتر! 

+


لم. تصادف مثل هذا الموقف من قبل! لم تسمع أحدهم يُثني عليها بهذا القدر من المشاعر، أو يمدحها أحدًا بكل تلك الصفات؟  كيف تتصرف؟ هل ترد؟ وماذا تقول؟ أم تجري من أمامه كفتاة خجولة؟ 

+


وبتوقيت خاطيء.. خاطيء تمامًا..عبر طيفه لخيالها وهي تتصوره يُسمعها  مثل هذا المدح، وتنضح حروفه بتلك المشاعر.. تبًا لقلب لا تلفظ دقاته سوى بأسمه هو.. " يزيد"..!
بينما هي شاردة بمرور طيفه، عبر لسمعها همس الآخر

+


_ آدم! 

+


صمتت تتطالعه فواصل تعريفه عن نفسه، بعد أن أغراه صمتها:  إسمي آدم عبد الله!  عيلتي معروفة في المنصورة.. و…………… ..

+


لم تمهله ليكمل، فمجرد أن عاد إدراكها من شرود قصير، تركته دون كلمة واحدة غير عابئة بذهوله وهو يراقب رحيلها.. وبعد لحظات ابتسم ظنًا منه أنه خجلا لا أكثر.. وأخذ قرارًا بالمحاولة مرة أخرى! فتلك الفواحة گ أسمها.. تستحق! 
_______________________________

+



        
          

                
_ طب وعملتي إيه أما قالك كده؟!

+


تمتمت جوري بفضول بعد أن قصت عليها عطر ما حدث من. زميل الجامعة، وواصلت الأخيرة! 

+


_ مانطقتش بكلمة.. گأني بطة بلدي وحياتك! ولقيتني بمشي من قصاده وحمدت. ربنا إني ما وقعتش كان زمان شكلي عار قدامه! 

+


ضحكت  جوري مصفقة: أنا أصلا متخيلة شكلك.. أكيد كنتي هبلة أوي، بس لو كنتي قدرتي تتكلمي، كنتي هتردي عليه بإيه ياعطر؟
أجابت بحزم:  الرفض جوابي طبعًا، أنا مافيش في دماغي غير دراستي بس يا جوري، وبعدين جواز إيه دلوقت أصلا لسه بدري جدا.. اما اتخرح واشتغل كمان! 

+


جوري: طب على سيرة الشغل، أنتي عايزة تشتغلي مع ياسين في شركة يزيد أما تخلصي؟ 

+


هتفت بحيرة:  مش عارفة، ياسين بيحمسني اشتغل معاه عشان أكون تحت رعايته واحقق ذاتي بنفس الوقت، وبابا مش معترض وقالي لو قررت فعلا وروحت مع ياسين وقتها هسكن مع جدي وجدتي، وهاجي طبعا المنصورة يومين في الأسبوع.. بس ماما مجرد السيرة بتخليها تقلب لكتلة عصبية ورفض شديد للفكرة، هي عايزاني جمبها..! 

+


جوري بغموض:  أنا بسألك انتي عايزة إيه عطر، مش عن رغبات اللي حواليكي!  

+


رمفتها بشرود وغمغمت:  لو على رغبتي فأنا…… .

+


لم تكمل، فاستحثتها جوري للمواصلة: إنتي أيه؟

+


تنهدت وهتفت بعد برهة گنوع من المراوغة: 

+


_أنا جعانة! 
_ نعم ياختي؟ دي إجابتك لسؤالي! 
عطر وهي تجذبها للسير:  سيبك من الموضوع ده، أما يجي آوانه هتعرفي، ويلا بجد عشان جعانة فعلا! 

+


هزت جوري رأسها بامتعاض:  مفجوعة! 
______________
بإحدى المطاعم القريبة! 

+


مدت جوري هاتفها لتصبح شاشته بمجال بصر عطر مردفة بحماس:  شوفتي أخويا يزيد بعد ما غير شكله شوية بقى وسيم ازاي! 

+


خفقات قوية عبر عنها ذاك القلب الثائر بين جنباتها، ومحياه يطل عليها بشكله الجديد.. هي لم تري به يومًا قبح.. فعين القلب لا ترى سوى الجمال.. لكن رغم ذلك خطفها وسامته التي برزت بتلك الرتوش المستحدثة، أصبحت نظرته أكثر ثقة.. وابتسامته البسيطة حملت جاذبية طاغية.. رحماك يا الله!  سيظل الشوق يلاحقني..شوق لن يرتوي حتى بصورة تعلو شاشة الهاتف! 

+


_ إييييه فين. روحتي ياعطر! 

+


نفضت عنها حنينها وهتفت قبل أن تضع بعض الطعام بفمها:  عادي كنت بشوف التغير فين بالظبط.. هو معدلتش كتير علي فكرة.. شعره ودقنه بس.. وبصراحة البدلة لايقة عليه أوي.. وواضح انه بقى يلعب شوية رياضة عشان شكل جسمه اتغير!  

+


جوري:  أيوة قالي فعلا أحمد صاحبه بيخليه يروح معاه الجيم، بس بيلعب بسيط، مش زي عابد طبعا اللي روحه في الرياضة والسباحة! 
أومأت برأسها دون حديث، فواصلت جوري: 

+



        
          

                
تفتكري ياجوري لو آبيه يزيد كان مهتم بنفسه من البداية، كانت بلقيس هتسيبه؟

+


ضايقها ذكر بلقيس رغم تعاطفها معها بعد الحادث، ولكن يظل اسمها يسبب لها غصة داخلها، فهتفت:  بصي يا جوري.. بلقيس ماحبتش يزيد، ومهما اهتم بنفسه كانت مش هتلتفت له.. اللي بيحب حد عمره مابيشوفه وحش.. الحب له مراية خاصة بتجمل أي عيب وتخليه ميزة في نظر الحبيب!  

+


جوري بنظرة ثاقبة وهي تحاول النبش بخفايا صديقتها علها تشاركها أسرارها: 
يعني لو انتي مكانها كنتي هتشوفي آبيه يزيد أجمل شاب في الدنيا.. ؟

+


صمتت تبتلع غصة أخرى.. وهل رآته يومًا إلا فارسًا جميلًا..؟!  لكنها وبمهارة صارت تتقنها مع ابنة الخالة: 

+


انا مابشوفش حد جميل إلا بابا وياسين اخويا..! 

+


استنكرت جوري بعفوية: ياسين مين ده اللي جميل؟

+


عطر ملتقطة سكينة السلطة أمامها وهتفت بتحذير : بتقولى حاجة ياجوري، مش عاجبك أخويا؟

+


تلفتت جوري حولها:  على فكرة إحنا حوالينا ناس مش في أوضتنا..! 

+


_ طب ماتقولي لنفسك

+


جوري:  خلاص.. ياسين جميل

+


______________________________

+


عبر الهاتف! 

+


_ مش ناوي ترجع بقى يا محمد؟ كفاية غربة بقى محتاحينك وسطينا..! 
أوجسته نبرة شقيقه الأكبر " أدهم" فتسائل: 
صوتك ماله يا أدهم، ليه المرة دي بتلح اني انزل؟ في حاجة معرفهاش يااخويا؟

+


دائما ما يشفق عليه گغريب حين يعلم ما يحزنه، ألا تكفي غربته، فتمتم بعد أن أجلى صوته قدر المستطاع:  مافيش حاجة، انت بس واحشني يا محمد، أنا أخر مرة شوفتك انت وعيالك من 8 سنين
كفاية وارجع خلينا نعوض اللي فات وعيالك يعرفوا عيلتهم اكتر.. أنا ماشوفتش زمزم من وهي 13 سنة ومحمود كان 11 ..!
_ حاضر يا أدهم، من غير ماتقول انا ناوي والله السنة الجاية هنزل يكون محمود خلص اللي فاضل من دراسته! 

+


_ ربنا يقرب البعيد يا حبيبي ونتقابل على خير! 
__________

+


في أوكرانيا..! 

+



وجدته شاردًا، فدنت لتجلس أمامه منادية، لم يجيبها، نكزته بخفة فأُجفل من نكزتها، وعاد له أدراكه وتمتم: أسف ياعبير، كنت شارد! 

+



        
          

                
تسائلت بقلق: من وقت مكالمتك مع أخوك أدهم وانت بان عليك الهم.. هو قالك حاجة تقلق لا سمح الله؟

+


أردف:  طلب مني أنهي غربتي لحد كده وانزل أنا وانتي والولاد.. مش مطمن هو وعاصم صوتهم متغير

+


أنتقل إليها قلقه، ولكن وارته هاتفة: عادي يا محمد.. أكيد عشان اشتاقوا ليك..وبعدين أدهم مش أول مرة يقولك انزل.. هو بالذات كتير طلب ده منك! 

+


همس ببعض الشرود:  بس المرة دي ماكانش طلب ياعبير.. كان تقريبا أمر! ده غير إن عاصم نفسه قالقني عليه بيكلمني قليل وباختصار وصوته متغير، وكل اما اطلب بلقيس يقولي أي سبب لإنشغالها.. في حاجة غريبة في اخواتي مش مريحاني! 

+


ربتت على كفه: ماتقلقش يا محمد خير بإذن الله، وبعدين انت أصلا كنت ناوي بالفعل على نزولنا كلنا بعد ما ينهي محمود من باقي كورساته! كام شهر وهنكون وسطيهم، احنا خلاص  اكتفينا من الغربة.. وآن الآوان لولادنا يعيشوا بين عيلتهم الكبيرة بدال ماهما هنا لوحدهم..!
ثم أكتسب صوتها نبرة حزن:  خصوصا عشان بنتنا زمزم.. هي كمان محتاجة دفء أهلها عشان ترجع لطبيعتها.. وتنسى اللي حصل! 

+


جاء دوره لمواساتها، فضمها إليه ولثم مقدمة رأسها: 

+


كل حاجة هتبقى بخير ياعبير أوعدك.. وانا من دلوقت هصفي كل ارتباطاتي بالتدريج وأمور شغلي وهرتب نزولنا لمصر بشكل نهائي، وهنرجع بلدنا ونعيش فيها اللي باقي من عمرنا ونعوض غيابنا سنين عن أهالينا..! 

+


ثم قال بشيء من المرح، ليزيل أثر حزنها على زمزم: 

+


وعلى سبيل السعادة.. أخيرا هنقضي مع الولاد رمضان الجاي في مصر مع أهلنا خليهم بقى يعيشوا طقوسه على حق.. مصر أحسن بلد بتحتفل بالشهر الكريم وبالعيد.. وكل مناسبة فيها ليها طعم مختلف! 

+


انتقل إليها بهجة حديثه، فهتفت بحماس:  أخيرا.. أنا بتخيل من دلوقت ازاي هنسهر كلنا سهرات جميلة ودافية.. أنت مع أدهم وعاصم واستاذ ناجي صاحبك القديم.. وولادنا يندمجوا مع ولاد عمهم..وانا ودُرة وكريمة ونولعها نميمة، مع اننا لسه هنتعرف تقريبا، بس أكيد ده مش هياخد وقت..ثم هتفت برجاء يطمئنها:  أكيد يامحمد وقتها زمزم هتنسي وتكون بخير، وهتبدأ حياتها من جديد.. مش كده؟

1


أجابها بأيماءة داعمة:  طبعا.. وماتنسيش، دراستها في علم النبات هيخليها تشارك في الشغل مع عمها عاصم اللي هي متأثرة بيه وتخصصت في نفس دراسته..إنتي عارفة أنا شاركت اخواتي في كل حاجة، وكنت حريص إن لما ننزل نستقر في يوم، اكون عملت ليهم مستقبل هناك.. حتى خليت عاصم بنالي فيلا صغيرة قريبة منهم.. عشان نكون كلنا في نفس المكان.. بس فاضل فيها تشطيبات أخيرة.. عاصم رفض يعملها، وقال لما ننزل انتم تختاروها بذوقكم الألوان والديكورات وتختاروا الغرف اللي تناسب كل واحد، وفورا هتتشطب كل حاجة واحنا هناك..! 

+



        
          

                
_ بأذن الله كله هيبقي تمام..!
_______________________

+


اللون الأبيض، يُجسد لنا دائمًا معنى النقاء والسلام.. إلا تلك الحالة.. حين تغدو الذاكرة بيضاء بلا رصيد من الذكريات، طُمس بطياتها كل تاريخ.. كل موقف.. وانمحت قائمة الأشخاص، ليضحى صاحبها يحبو گ طفل  يحيا أيامه الأولى، لا يعلم عن ماضيه شيء
سوى ما يخبره به المحيطين حوله! ومجبر هو على منحهم ثقته الكاملة..وإلا غرق بغربة حاضره دون مؤنس يعينه على ما يشعر به من وحدة وضياع!  

+


  أمتدت يدٍ حنونة تربت على كتفه لتنتشله من وسط  أفكاره المشوشة! يبحث عن ذاته الضائعة وسط خلايا عقله، وأسئلته لا تنتهي..من هو؟ من كان فيما مضى؟! ملاكًا كما تخبره والدته؟! أم شيطان له باع في قساوة القلب والطباع؟؟

+


_ أنت صحيت يا رائد! صباح الخير! 

+


ألتفت لوالدته التي ولجت إليه لتوقظه.. فتمتم بفتور :  صباح الخير! 

+


أردفت بحنان:  صباح النور ياحبيبي.. تعالى الفطار جاهز.. واخوك مستنيك عشان تفطر معاه..! 

+


_ ماليش نفس! 

+


هكذا أجابها باقتضاب، فاقتربت منه حتى صارت أمام ناظريه: 

+


مالك يا يا ابني.. ليهه شايل الهم على طول.. أحمد ربنا إنك بخير.. لولا الراجل ابن الحلال اللي انقذك أما كنت مرمي على الأرض وسايح في دمك وعرف هويتك من بطاقتك وقدر يوصلنا..قولي كان حصل أيه فيا يا ابني؟! ده انت لما كنت غايب ومعرفش طريقك كنت هموت.. بس انت أهو رجعت! 

+


ابتسم بتهكم:  رجعت؟ بس انا لسه مارجعتش! 
ثم نظر لعيناها ونبرته بدت ضائعة
_ رجعت مش فاكر حاجة، ولا فاكرك، ولا فاكر اخويا اللي بتقولي عنه.. دماغي ممسوحة ومش عارف نفسي.. إيه حصلي ووصلني لكده؟! أذيت حد؟ طب هو مين؟ ولا أنا اللي كنت ضحية لغيري؟! 

+


قلبها يتمزق لتخبطه وضياعه! فلذة كبدها لا يعرفها.. لا يعرف أحدًا ولا يتذكر شيء..! ولكن سيظل الأمر بالنسبة لها أفضل مئات المرات من إن لم تعثر عليه! 
تمتمت وهي وتربت على كتفه: 
كل حاجة هترجع زي ما كانت يا رائد، الدكتور بيقول ده وضع مؤقت وانك هتستعيد ذاكرتك تاني في أي وقت.. أصبر يا ابني، وأديك وسطينا.. مع أمك الي بتحبك وتخاف عليك، واخوك اللي بقى ينزل عشان خاطرك ويسيب اشغاله وأسرته في البلد اللي هو فيها عشان يطمن عليك.. حاول تتأقلم يا ابني عشان ترتاح.. وصدقني هتفرج قلبي بيقولي كده! 

+


التزم الصمت كعادته ولم يعلق على أخر عبارتها، تاركًا صخب تساؤلاته التي لا تنتهي بتلابيب عقله. وذهب حيث يجلس شقيقه ليتناول إفطاره ومن بعدها ودوائه الذي لم يعطي أي نتيحة تذكر حتى الآن! 

+


________________________

+


_ عامل إيه يا رائد، نمت كويس؟

+


نظر له بنظرة خاوية إلا من بعض التهكم المستتر وتمتم:  أنا تقريبا أفضل حاجة بعرف اعملها دلوقت إني بنام يا " أيهم"..!
تنهد الأخير بضيق لحال شقيقه، وغمغم: 
ماينفعش استسلامك ده يا رائد.. لازم تتحرك شوية وتاخد خطوة إجابية في حياتك..لازم تتعامل مع فقدان ذاكرتك بمرونة أكتر.. مش أخر العالم يعني، ابدأ شغلك أو تعالى معايا استراليا واشتغل ..المهم ما تفضلش كده بالركود ده.. الذاكرة هترجعلك في أي وقت.. لكن عمرك ده اللي بيضيع هترجعه ازاي؟! 

+


أكثر ما يؤجج حنقه ويشعل غضبه.. الاستهانة بحالته
هو ضائع، تائهة.. كيف التأقلم والكوبيس المفزعة تصاحب كل غفواته لتُزيد حول ماضيه الغموض، هل فقدان الإنسان هويته وتاريخه وتفاصيل أكثر من عشرون عام شيء بسيط ويجوز معه التأقلم والمرونة؟ هو حتى لا يعلم كيف كانت إحلامه وماذا كان ينوي بحياته أن يكون! 

+


_ تعالى معايا يا رائد وانا هساعدك وهكون معاك لحد ما تقف على رجلك وتحقق ذاتك في شغل يناسبك.. انت على فكرة  اتخصصت في نظم ومعلومات يعني مجال شغلك واسع وهتكون مميز، وانا ممكن اوفرلك فرصة في شركة كبيرة هناك، وقتها هتملى وقتك ومش هتفضى تفكر في اللي انت فيه ده..! 

+


" أنا مش موافقة أبني يسافر لأي مكان يا أيهم! "

+


انتبها سويا لدلوف والدتهما وهي تبدي اعتراضها على اقتراح أيهم بسفر رائد، فأردف الأول: 
_ يا ماما انا مش فاهم ليه متمسكة بهنا، لينا مين قوليلي، الحياة هناك افضل بكتير، وانا كده مشتت لأن دايما بالي معاكم خصوصا بحالة رائد..!

+


صاحت تجادلته ببعض الغضب:  إن كنت انت خلاص يا أيهم مبقاش ليك انتماء لبلدك ومكتفي بعيلتك اللي عملتها هناك، فأنا مقدرش اعيش بعيد عن بيتي وعن المنصورة اللي اتولدت فيها واتجوزت وجبتكم فيها وابوكم مدفون فيها، وأنا كمان هندفن فيها..! 

+


حاول امتصاص غضبها:  يا أمي افهميني انا مقصدش كده.. بس انا هسافر وقلقان عشانكم، وانتي عارفة اني مضطر لكده، انا مقدرش اضحي باللي عملته هناك وبمكانتي،انا ومراتي، هنا عمرنا ما كنا هنقدر نحقق حاجة، وولادي واخدين على عيشيتهم هناك.. انما انتي المفروض تكوني مبسوطة اننا نتجمع في مكان واحد أيًا كان هيبقى فين، ورائد كده كده مش فارق معاه حاجة لأنه ناسي كل شيء.. إيه المشكلة بقى لو ابتدي واتأقلم هناك؟ 
واصلت الجدال بحدة:  وهو عشان مش فاكر حاجة نغربه عن بلده ونحطه في مكان غريب، مش كفاية الغربة اللي جواه؟ ماتخدعش نفسك يا أيهم انت كل اللي يهمك مصلحتك وان شغلك وحياتك ماتتأثرش.. لو مش عايز تنزل تاني خلاص براحتك يا ابني مش همنعك، لكن اوعي تفكر ترسم حياتنا علي كيفك ومزاجك وظروفك! 

+


_ بسسسس.. كفاية انتم الأتنين.. كفااااية.. محدش يفكر مكاني ولا يقرر حاجة عني ولا يقول اعمل إيه واروح فين.. انا مش لعبة في ايدكم.. انا ليا إرادة ورأي حتى لو دماغي اتمسحت بس انا هسمح لحد يتحكم ويرسم حياتي.. ابعدوا عني.. محدش يدخل في أموري بعد كده! 

+


اتسعت حدقتيهما بدهشة وهما يتلقيان ثورة رائد، ولم يدركا كم تآذى من شعور أنه أصبح شخص لا يملك لنفسه إرادة أو قرار.. ومع أخر كلماته تصاعد انهياره وهو يقذف ما تطاله يداه بغضب هادر مع تلك النوبة الثائرة التي تُجهد روحه وتخطِف أنفاسه اللاهثة لينتهي به الحال بمحقن وريدي يُسكن هياجه وينظم خفقات قلبه، ويسقط ثانيًا بنومة أخرى في ظاهرها الهدوء..ليعبر بلحظات داخل سراديب عقله الباطن المزدحم بصور بشعة تتراقص أمامه تفزعه وترسم الآلم على محياه المتعرق بقطرات ملتهبة بحرارة أفكاره، وأصوات صراخ عالية تصدح لا يتذكر لمن تكون!..لتزداد طلاسمه تشابك وتعقيد،، وومضات آثامه الماضية تهاجم عالمه المظلم وتضيئه ليبصر أسواط من نار لا تترك به سوى علامات دامية لا تبصرها عينه، ولكن يدركها ضميره الذي يحاول معاقبته!  ..
_________________________

2



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close