رواية خارج اسوار القلب الفصل الثلاثون 30 بقلم صابرين الديب
الفصل الثلاثون
___________
كانت قلوب الجميع تلهج بالدعاء والدموع متحجرة في عيون الرجال في حين تبكي النساء في صمت, نُقل (أدهم) لغرفة العناية المركزة على محفة تتبعه عائلته, كان يبدو وكأنما فقد كل دمائه شاحبا ساكنا والضمادات تحيط بصدره بعناية, (جمانة) كانت هي الأقرب إليه ولا زالت تحمل طفلتها وهي تسير خلفهم وهم يدفعونه, أدخلوه غرفة العناية ثم نقلوه على سريره ومنعوهم من الدخول, خرج الطبيب بعدها لتتعلق به كل العيون, ثم اتجهوا إليه, قال بهدوء :
- دلوقتي هو في فترة حرجة, قدامنا 48 ساعة نقدر نطمن بعدها بإذن الله .
ثم تركهم وانصرف, تركت (جمانة) ابنتها لشقيقتها ثم وقفت أمام نافذة الغرفة الزجاجية الكبيرة تتطلع إليه في لوعة وحزن والدموع لا زالت تحفر أنفاق ألم على وجنتيها, كان قلبها كسيرا وهي تدعو الله أن يحفظه لها وتعد بأن تكون له نعم الزوجة, اقترب منها (آدم) ووقف إلى جوارها يتأمل أخيه الراقد أمامهم في غيبوبته ثم همس بصوت حزين :
- إن شاء الله هيبقى بخير .
التفتت إليه والحزن يغمر حروفها في نهره حتى أغرقها وعادت تردد :
- أنا جرحته قبل ما يمشي وحسسته إنه ماكانش أمين وإنه خلف وعده ليا بحمايتي, وجعته أوي وراح عشان يرجع لي بنتي وكانت حياته هي التمن .
شعر بحزنه يتضاعف ثم قال بخفوت :
- هو أكيد عارف إنك ماتقصديش تزعليه ومقدر إحساسك كان عامل إزاي وقتها .
عادت تنظر لزوجها وتقول بصوت دامع متقطع :
- ده اللي واجعني أكتر, لو كان قسي أو زعلني او حتى زعل مني عمل أي حاجة كنت سكت, لكن كان حنون أوي وكنت بأجرحه وألاقيه بيوعدني إنه مش هيخذلني وهيرجعها لحضني تاني مهما كان التمن .
ثم عادت تبكي بصوت مسموع وهي تكمل :
- وكان التمن حياته, ليه ؟ ليه بيوجعني ؟ ليه هو كده ؟ ليه حبني وقرب مني ؟ ليه دافع عني ؟ انا مش عاوزة حاجة غير إنه يبقى كويس حتى لو هيبعد وخلاص, يرجع لأهله ولمامته اللي قلبها مكسور عليه بسببي, بس يبقى كويس .
لم يجد (آدم) مايقوله ليواسيها به فهو الآخر يبكي قلبه في جزع, أخيه الوحيد والذي كان كظله, علمه كل مايعرفه ودوما ما ساندا بعضهما البعض, هاهو أمامه جريح, ضعيف قد تنتهي حياته في أي لحظة .
سمعوا صوت خطوات تقترب منهم ليجدوا الطبيب قد عاد, قال لهم بحزم :
- ماينفعش يا جماعة تفضلوا هنا, اتفضلوا في الاستراحة ده بالاضافة إن وقت الزيارة انتهى من بدري احنا داخلين ع الفجر لازم تمشوا .
التفت إليه الكل واقتربت منه (جمانة) بسرعة وهي تقول من بين دموعها :
- إزاي وقت زيارة ما ينفعش ما أقدرش اسيبه وأمشي .
نظر إليها ولدموعها لحظة شعر خلالها بالشفقة فقال هدوء :
- ممكن مرافق واحد بس هيفضل في الأوضة اللي هيتنقل لها بعدين إن شاء الله .
هتفت (جمانة) ووالدته في نفس الوقت :
- أنا هافضل .
ثم تطلعتا لبعضهما البعض لحظة, كانت نظرة الزوجة خلالها كسيرة خنوع والأم حزينة غاضبة, لم تستطع (جمانة) النطق, فأمه المكلومة هي الأحق بالبقاء إلى جواره, عادت تقول في انكسار :
- طيب خلاص انا هاستنى برا في العربية .
نظرت لها الأم في دهشة, لما تراجعت ؟ كان يمكنها أن تصر على البقاء إلى جواره, أن تكون الأقرب, لكنها تركت لها تلك الفرصة ؟ شعرت بشيء من الامتنان لها ولكن صمتت ولم تقل شيئا, سمعت (جمانة) ترجو الطبيب في حزن :
- لو سمحت يا دكتور ممكن أشوفه, عاوزة أكلمه, لو حتى دقيقة واحدة ؟
نظر إليها الطبيب في دهشة ثم قال بلهجة قاطعة :
- لا طبعا ما ينفعش, غرفة العناية ممنوع دخولها لغير الأطباء والممرضين .
عادت تستجديه :
- دقيقة واحدة بس يا دكتور, أطمن عليه من قريب وهاطلع على طول, أرجوك .
عاد يهز رأسه نفيا في حزم وهو يقول :
- يافندم ما ينفعش الموضوع مش محل نقاش .
عادت تبكي بشدة فرق قلبه لها لكنه لم يتراجع عن موقفه, أتت (لمياء) لتقف إلى جوارها وهي تقول للطبيب :
- يادكتور من فضلك, هي بس دقيقة واحدة, ولو في حاجة معينة مطلوب منها تعملها, تلبس حاجة أو تعقيم بس من فضلك دقيقة واحدة, ده جوزها .
تردد للحظة تطلعت إليه هي فيها بأمل ثم قال بسرعة :
- طيب دقيقة واحدة بس, اتفضلي معايا لحظة .
نبض قلبها بقوة وتبعته بسرعة ثم عادت معه وهي تحمل ما يشبه الكيس وتستعد لارتدائه في قدميها, وقف الطبيب أمام الباب والكل يتطلع إليه ثم قال في حزم وهو يفتحه سامحا لها بالدخول :
- دقيقة واحدة .
دخلت هي بتردد, كان الطبيب واقفا على الباب إلى جواره (آدم) و (لمياء) أما أبويه وشقيقته فكانوا يتابعون ما يحدث من النافذة وأمه تشعر بالحسرة, لما لم تطلب هي الأخرى أن تدخل إلى صغيرها أيضا !, وقفت أمامه (جمانة) في صمت, تتطلع إلى وجهه وعينيه المغمضتين في حزن, كان يغمرها بحنانه وتقتلها نظراته عشقا, لما لا تفتحهما حبيبي وتنظر إلي ؟, اقتربت أكثر ثم مدت يدها تتحسس شعره وانحنت تطبع قبلة على جبينه انعقد لها حاجبا الطبيب في ضيق, أمسكت كفه وقبلتها هي الأخرى واقتربت أكثر لتهمس في أذنه بكل العشق والحزن المختزنين بداخلها :
- أدهم, حبيبي, أنا آسفة, ياريت كنت انا اللي اخدت الرصاصة مش إنت, ماتزعلش مني انا عارفة إني جرحتك, بس برده عارفة قد ايه إنت بتحبني ومش هتزعل مني, وكمان هتفوق وترجع لي مش كده ؟
انهمرت دموعها وهي تكمل :
- حبيبي عشان خاطري افتح عينيك وبص لي, زي ما أنا متعودة, وحشتني نظراتك ووحشني كلامك, وحشني صوتك وإنت بتنادي اسمي, عشان خاطري فوق وارجع لي, أنا آسفة , آسفة , أنا السبب, أنا اللي ..........
قاطع حديثها الباكي الجهاز المتصل بقلبه معلنا توقفه عن النبض بأزيز متصل كاد يوقف قلبها هي الأخرى, كان الذعر يملأ ملامحها وهي تنظر إليه والطبيب يندفع نحوه بسرعة ويستدعي الممرضات, صرخت فجأة :
- أدهم لااااااااااااا, أدهم .
وانهمرت دموعها كشلال يصهر قلبها, رأت التوتر على ملامح الجميع ووالدته تصرخ في انهيار والذعر يملأ ملامح أخيه وأبيه, تراجعت للخلف في جزع وهي تتطلع لما يحدث في بلاهة, كان الطبيب يصرخ في الممرضات وهن يسرعن بتجهيز جهاز الصدمات, رأته يضعه فوق يصدره ويهتف :
- Clear
لينتفض جسد حبيبها في عنف ويبقى الأزيز على اتصاله, ثم يصرخ الطبيب مرة أخرى في ممرضاته ويضع الجهاز فوق جسده ثانية بنفس الهتاف ويعود لينتفض مرة ثانية فثالثة, رأتهم يحقنونه بشيء ما ويعودون لتنشيط قلبه مرة أخرى فينتفض أمامها لتشعر بلوعة تكاد تعتصر قلبها, سمعت الأزيز المتقطع مرة اخرى معلنا عودة قلبه للنبض, ثم وكأنما استنزف الخوف والحزن وبقايا الألم وإرهاق الأيام الماضية كل طاقتها فانهارت أرضا فاقدة الوعي تصاحبها صرخة شقيقتها باسمها في حين أسرعت إليها ممرضة لتحاول إفاقتها, ضعفها مع حزنها اشترك في فقدانها لوعيها لفترة من الوقت, احتاجت بعض المحاليل والمقويات التي أوصى بها الطبيب لها واستقرت في غرفة ليست ببعيدة عن حبيبها.
مرت تلك الليلة كأنها دهر, الكل في انتظار والحبيبة الكسيرة فاقدة لوعيها منهكة وقلبها يئن, كانت شقيقتها إلى جوارها بعدما أعادت الطفلة للمنزل مع والدتها, والدتها التي لم تصدق ماحدث وانهارت بالبكاء هي الأخرى, بكاءا على رجل دفع حياته ثمنا وفداءا لمن يحب وكمدا على ابنتها التي لا تكتمل فرحتها إلا وتقطعها الدموع مرة أخرى, في الصباح التالي أفاقت (جمانة), أتى الطبيب ليطمئن عليها, أمرها بالراحة لفترة وأوصى لها بأدوية جديدة, بعد خروجه هتفت في شقيقتها :
- أدهم عامل ايه يا لميا ؟
ربتت (لمياء) على كفها برفق وهي تجيب :
- ماتقلقيش هو الحمد لله لحد دلوقتي كويس والحالة مستقرة .
كشفت الغطاء وحاولت النهوض وقالت :
- عاوزة أشوفه .
حاولت شقيقتها إعادته لسريرها وهي تهتف :
- لا لا جمانة ما ينفعش إنت تعبانة جدا مش هينفع تروحي تقفي هناك هيغمى عليكي تاني .
لم تهتم لما تقول وعادت تحاول النهوض وقالت في حزم على الرغم من الإعياء البادي على وجهها :
- لا لازم أشوفه .
وقفت على الأرض وفي الثوان التالية كان الدوار يكتنفها وشعرت برأسها تكاد تقع من فوق كتفيها فأسرعت (لمياء) إلى جوارها تساندها, أخذت نفسا عميقا وقالت :
- يلا نروح له .
ثم سارت ببطء حتى وصلت لغرفة العناية, وجدت والدته هناك مع (آدم) لم تستطع النظر في وجهها في حين وقف (آدم) واتجه نحوهما بسرعة وهو يقول :
- جمانة إنت بتعملي ايه ماكانش المفروض تيجي دلوقتي إنت تعبانة .
التفتت إليه و ردت في حزن :
- تعبانة ايه بس يا دكتور آدم, مش أكتر منه, عاوزة أطمن عليه, الدكتور قال حاجة ؟
هز رأسه نفيا وأجاب :
- لسه على نفس الوضع .
وقفت أمام النافذة تنظر إليه في صمت, بدأت دموعها تنساب على وجنتيها مرة أخرى بذات الصمت, وعاد الألم يغلف قلبها مفتتا ضلوعها وممزقا إياه لأشلاء, كانت إلى جوارها شقيقتها والقلق ينهشها من كل صوب, على الاثنين, سمعت فجأة صوت حازم يهتف بنوع من السعادة :
- أستاذة لميا ؟
التفتت للصوت لتجد شخصا بالزي الرسمي يتجه إليها وعلى شفتيه ابتسامة واسعة بادلته إياها بهدوء, كان (آدم) وزوجة أبيه يتطلعان إليه في دهشة وهو يقترب من المرأتين حتى وقف أمامهما وقال :
- إزيك عاملة ايه ؟ من زمان مش بنشوفك ؟ القضايا خلصت ولا ايه ؟
ابتسمت في خجل وأجابت :
- لا والله يا سيادة المقدم القضايا موجودة بس على حسب, مش عندك بقى .
حافظ على ابتسامته وتطلع لخجلها بحنان ثم التفت لشقيقتها الباكية في تساؤل أجابت عنه بدون أن يطرحه :
- أختي جمانة, جوزها مضروب بالرصاص امبارح .
رفع حاجبيه في دهشة وهتف :
- أدهم الحسيني ؟
أومأت برأسها إيجابا وهي تسأله :
- أيوة, حضرتك اللي ماسك القضية ؟
أجاب :
- أيوة, أنا كنت لسه جاي أطمن على حالته عشان أعرف هنقدر نستجوبه إمتى, إحنا قبضنا على كمال إمبارح طبعا وواحد اسمه عويس, عويس ده كان مصاب أول مافاق اعترف مباشرة ودل على واحد تاني اسمه فتحي, للأسف مات أثناء القبض عليه, قاوم وحاول يهرب وضرب نار ع القوة اللي راحت تجيبه فضربوا هما كمان اتصاب وعلى مااتنقل المستشفى كان مات, لقوا عنده نص مليون جنيه, غالبا من فلوس الفدية لأنها كانت ناقصة في الشنط اللي مع كمال .
ثم تنهد لحظة وأكمل :
- لقينا عنده مسدس لسه الطب الشرعي هيحدد إذا هو اللي خرجت منه الرصاصة اللي انضرب بيها المجني عليه ولا لا .
أومأت برأسها إيجابا في صمت, حينما جاء (آدم) ليقف إلى جوارها متسائلا :
- في ايه يا أستاذة لميا ؟
أجابت بسرعة :
- ده المقدم حمزة اللي ماسك قضية أدهم .
مد (حمزة) يده إليه وصافحه قائلا بود :
- أهلا يافندم .
ابتسم (آدم) ابتسامة باهتة وهو يصافحه وقال :
- أنا آدم أخو أدهم .
عاد يقول :
- أخبار الأستاذ أدهم ايه ؟ نقدر نستجوبه إمتى ؟
عقد (آدم) حاجبيه وهو يتساءل :
- تستجوبه ؟ ليه ؟
ابتسم الرجل في حين أجابت (لمياء) موضحة :
- عادي يادكتور آدم, عشان نعرف منه اللي حصل بالظبط, هو طرف في الموضوع فده طبيعي .
نظر إليها للحظة ثم عاد يتساءل :
- بس هو دلوقتي في غيبوبة, إنتو مسكتوا حد تاني ؟
أجاب الضابط :
- أيوة بس للاسف اتصاب ومات, ماقدرناش نستجوبه ونعرف اللي حصل .
قالت (جمانة) فجأة :
- هو كمال هيتعدم ؟
نظروا إليها جميعا وإلى البؤس المرسوم على ملامحها, وأجابت شقيقتها :
- لسه يا جمانة, الموضوع ده مش وقت الكلام فيه, لسه قضية وشهود وتحقيقات ومحكمة وحكم, كل ده بياخد وقت .
بكت وهي تهتف :
- والرصاصة اللي كانت هتموته ليه ماخدتش وقت ؟ وبنتي اللي كانت هتضيع مني, ليه في ثانية واحدة بس كانت هتضيع ؟ يعني ايه كل ده ؟ بتدوا المجرمين فرصة يفلتوا .
اقتربت منها وقالت وهي تربت على كتفيها :
- ماتخافيش يا جمانة, أكيد هياخد جزاءه إن شاء الله, المهم أدهم يقوم بالسلامة .
صمتوا للحظات قال بعدها (جمزة) مخاطبا (لمياء) بابتسامة حانية :
- طيب يا أستاذتنا, أنا هاطمن من الدكتور على الحالة وأعرف التفاصيل, ابقي زورينا بقى عندنا قضايا من اللي بتحبيها كتير .
بادلته ابتسامته وظلت تتطلع إليه وهو يلتفت مغادرا, وعينا (آدم) معلقتين بعينيها وهو يتساءل عن سر الطريقة التي يحدثها بها الرجل هكذا وكأنهما أقارب وهي أيضا تتبسط معه بهذا الشكل, استغرب تفكيره في هذا الأمر فسألها :
- هو حضرتك تعرفي المقدم ده من زمان ؟
أومأت برأسها وهي تجيب :
- أيوة, المقدم حمزة من الناس القليلة اللي تقدر تتعامل معاها في أقسام الشرطة بهدوء واحترام وسهولة كمان .
هز رأسه هو الآخر وقال في اقتضاب :
- آها .
بعد قليل عاد الضابط وبصحبته شاب في العقد الثالث من العمر, نحيف يرتدي منظارا طبيا يبدو عليه التوتر والخجل, التفتوا إليه جميعا ورحبت به (لمياء) مرة أخرى وهي تتطلع للشاب المصاحب له في تساؤل أجاب هو عنه :
- ده دكتور زياد, اللي نقل الأستاذ أدهم المستشفى .
على الفور امتلأت العيون بالامتنان وبدأوا جميعا يثنون عليه ويشكرونه, عاد الضابط يقول :
- دكتور زياد كان ماشي مع اتنين اصحابه بالعربية ولمحوا فجأة عربية بتطلع قدامهم بسرعة وعربية تانية واقفة جنب الطريق ع الرمل وابوابها مفتوحة ومنورة, نزلوا يشوفوا في ايه لقوا الأستاذ أدهم جنبها من الناحية البعيدة عن الطريق, دكتور زياد فحصه بسرعة وكلم والده دكتور أحمد السعيد الجراح اللي أكيد كلكم تعرفوه بلغ أقرب مستشفى لمكان الحادث وبعتوا اسعاف مجهزة, كان له الفضل بعد ربنا سبحانه إن يوقفوا النزيف بس طبعا الشغل كمل هنا مع دكتور أحمد بنفسه .
ظلوا يشكرونه مرة أخرى و(جمانة) تتطلع إليه بامتنان شديد, تقبل الشاب امتنانهم في هدوء يشوبه بعض الخجل, ثم تركهم وانصرف, بعد انصرافهم قال (حمزة) مخاطبا الجميع :
- الدكتور أحمد طمني وقال لي في خلال ساعات بإذن الله هيتنقل غرفة عادية .
ثم التفت لـ (لمياء) وقال :
- من فضلك يا أستاذة لميا لما الدكتور يطمنكم ويسمح بالكلام وكده ابقي كلميني , وأنا هاكون على اتصال إن شاء الله.
عقد (آدم) حاجبيه في ضيق مفاجئ في حين قالت هي بهدوء :
- أكيد يا سيادة المقدم .
أومأ برأسه محييا الجميع ثم خرج من المكان, تابعه (آدم) بعينيه للحظة ثم عاد يلتفت إليها فوجدها قد عادت إلى جوار شقيقتها فابتسم, أخرج هاتفه واتصل بالمنزل ليطمئن على صغيره والذي طلب من مربيته البقاء معه في هذين اليومين وقرر أن يذهب ليأتي به لأن السيدة ترغب في الرحيل .
مر نصف اليوم وأحضر (آدم) ابنه وأتت والدة (جمانة) للاطمئنان على زوج ابنتها, وللمفاجأة كانت (فريدة) تقابلهم بصمت دون غضب أو كلمات جارحة, بدت مكسورة حزينة جل همها أن يعود لها ابنها سالما, ثم مر اليوم كله بأمان, في اليوم التالي نقل (أدهم) لغرفة عادية والقلوب لازالت تدعو وتتضرع لله أن يتمم شفاؤه على خير .
وفي تلك الغرفة اجتمعت الأم مع زوجة ابنها التي رفضتها, كانت تتطلع إليها وإلى الحزن الموشوم به وجهها, إلى النظرة الكسيرة في عينيها وآهات الوجع التي تخرج من صدرها حزنا عليه, كانت ترى أنها ربما أخطأت في حقها, ربما هي فعلا من تصلح لابنها حتى وإن كانت حياته ستكون ثمنا لحبها وقربه منها, استغربت كثيرا لما يحبها (أدهم) لهذه الدرجة ؟ أن يضحي بحياته ويذهب ليعيد إليها صغيرتها غير عابئ بما قد يحدث له, أن يتلقى رصاصة قاتلة فقط من أجل ابتسامتها وراحتها وسعادتها, ترى كيف سيتصرف عندما يستيقظ ؟ هل سيظل على حبه لها ؟ أم ستترك الرصاصة أثرا لا يبرأ كانت هي سببا فيه ؟
سألتها فجأة :
- خايفة عليه ؟
رفعت (جمانة) عينيها إليها في صمت, لم تتفاجأ, كانت تنتظر حديث السيدة إليها وربما جرح قلبها أكثر, لم تجد جوابا, بما تجيبها حقا وما كلمة خوف بالنسبة لما تشعر به ؟, دمعت عيناها مرة أخرى وهمست :
- أنا بأموت كل ما أبص له, وأحس إني كنت السبب في اللي حصل له, مش هأقولك إني مش غلطانة , كلنا غلطنا عشان سيبناه يروح لوحده, بس لو بإيدي كنت رحت مكانه وأخدت الرصاصة بداله و هو يبقى كويس .
صمتت السيدة, هي تحبه بالتأكيد, لِم تكون على هذه الحال إن لم تكن تحبه ؟ في خمسة أيام أصابها الضعف والهزال وغارت عينيها في وجهها وحُفت بالهالات السوداء, حتى ابنتها لم تلتصق بها كما توقعت بل تركتها لوالدتها وشقيقتها, قامت من مكانها واتجهت نحوها و(جمانة) تنظر إليها في قلق, اقتربت أكثر ثم وقفت أمامها والعيون تتبادل حديثا غير مفهوم, فجأة ضمت رأسها لصدرها وربتت عليها في رفق أصابها بالذهول, وقالت في حنان :
- ربنا يقومه بالسلامة عشان يشوف بتحبيه قد ايه .
دمعت عينا (جمانة) وشاركتها دموعها الأم وهما تتضرعان لله أن يشفيه ويتمم عليه عافيته, سمعتا همسا مفاجئا به قدر ضئيل من المرح يقول :
- خيانة .
انتفضتا في عنف واستدارت المرأتان تجاه الراقد على السرير لتجدا العينان المجهدتان تتطلعان إليهما بحنان بدا غريبا على وجهه الشاحب وابتسامة طفيفة تتسلل إلى شفتيه, فقدت كلاهما القدرة على النطق وهو ينظر إليهما محاولا إبقاء جفنيه مفتوحين, هبت (جمانة) واقفة واتجهت إليه بسرعة تتطلع إلى وجهه وعينيه التي تحوطانها بالدفء, كانت تتأمل ملامحه بكل تفصيلة فيها, عيناها تجولان في وجهه وتستقران عند عينيه, نعم هي لم تخطئ, هو مستيقظ ويداعبهما أيضا, لقد عاد .
__________________________
مرت عدة أيام و (أدهم) في تحسن مستمر, عاد له تورد وجهه وروحه المرحة ودعاباته التي افتقدها الجميع, كانت تبدو عليه سعادة جمة لما لمسه من رضا والدته عن زوجته والتقارب الحاصل بينهما, كان يداعب أمه ويقول :
- لو كنت أعرف إن الرصاصة هتخليكي تقربي من جمانة كنت أخدتها من زمان .
وتغضب هي فيداعبها مرة أخرى حتى ترضى, و(جمانة) الحبيبة قل كلامها كثيرا فقط كانت تتابعه بعينيها وابتسامة حنون على شفتيها تحمل قدرا هائلا من السعادة , لقد عاد حبيبها, بروحه وحبه وحنانه وقلبه الذي يتسع للجميع, استيقظ على دعابة لم تدري وقتها أتضحك أم تبكي أم تصرخ من فرحتها, وهو لاحظ صمتها, أقلقه لكنه دوما كان يحاول جذبها من منطقة السكون تلك, وهي أحيانا تستجيب وأحيانا لا, كانت تشعر به قلقا وتحاول طمأنته لكن قهرا تعود لصمتها و تتأمله في حب كان هو المسيطر على خلاياها .
في يوم اطمأن الطبيب على جرحه وسأله عن عدة أشياء وأوصاه بأشياء أخرى ثم تركه وانصرف, كانت (جمانة) بجواره فابتسم لها وأمسك كفها وهمس :
- وحشتيني .
ابتسمت هي الأخرى وظهر عشقها له جليا في عينيها ثم بادلته همسا بهمس :
- إنت أكتر .
تنهد في حب وسألها :
- هنروح بيتنا إمتى ؟
أجابت :
- مش عارفة الدكتور لسه ماقررش .
تأفف وقال بلهجة حالمة :
- بأقولك وحشتيني وعاوز اروح تقولي لي دكتور ؟
ضحكت فنظر إليها بغيظ وهتف :
- على فكرة مش وقت ضحكتك دي خالص, خلي بالك يعني دي رصاصة قريبة من القلب ودم وكده.
شعرت بالخجل وقالت :
- خلاص من غير ضحك .
ابتسم وقال :
- أيوة كده, ايه مفيش انسانية ؟
عادت تضحك من جديد فتظاهر بالغضب قائلا :
- لا إنت بتستهبلي بقى ؟ أكيد إنت قاصدة ؟
كتمت ضحكتها بصعوبة وتطلعت إليه بحب جعله يقول :
- يعني نقول امنعوا الضحك تبصي لي كده, إنت عاوزة ايه بالظبط ؟
سحبت يدها من يده ووقفت هاتفة :
- يوووه خلاص انا هاخرج برا.
أمسك يدها مرة اخرى بسرعة وهتف :
- لا لا خلاص, خليكي, أمري لله .
ابتسمت وجلست إلى جوراه مرة أخرى, في هذه الأثناء كانت (لمياء) قد أتت للاطمئنان عليه فلمحتهما يتشاكسان من نافذة الغرفة فوقفت على مسافة تتطلع إليهما في سعادة, كانت تضيء وجهها, وعلى مسافة منها هي وقف (آدم) ينظر لوجهها السعيد في صمت, شعر بنوع من الخجل فخفض عينيه أرضا ووجد قلبه يدق بطريقة غريبة, تلك المرأة الحنون التي تعتبر نفسها أما ثانية لشقيقتها, لم يرى مثلها من قبل, دق قلبه مرة أخرى فاتجه نحوها وقال بخفوت :
- إزيك يا مدام لميا .
انتبهت على صوته فجأة وشعرت بالحرج, لابد أنه لمحها تنظر لشقيقتها وزوجها, ابتسمت في حرج و ردت :
- الحمد لله إزي حضرتك يا دكتور آدم ؟
ابتسم هو الآخر وقال :
- الحمد لله تمام .
ثم أشار لصغيره الواقف إلى جواره وقال :
- يوسف صمم ييجي يشوف عمه النهاردة .
نظرت للصغير بحنان وربتت على رأسه برفق وقالت :
- إزيك يايوسف ؟ عامل ايه في المدرسة ؟
ابتسم لها (يوسف) فنبض قلبها بدفقة حنان مفاجئة جعلت ابتسامتها تتسع وأجاب هو بخجل :
- الحمد لله .
ربتت على رأسه مرة أخرى ورفعت رأسها لوالده قائلة في حنان :
- يوسف هادي وخجول أوي .
ربت على رأس ابنه هو الآخر وقال :
- أيوة, مفيش اختلاط كتير يادوب المدرسة بس وحتى هناك برده بيقولوا عليه خجول وانطوائي .
عادت تنظر إليه مرة أخرى وفتحت فمها لتقول شيئا لولا أن سمعت من خلفها صوت مرح يقول :
- أستاذة لميا, مساء الخير .
التفتت لمصدر الصوت في هدوء ومثلها فعل (آدم) لكنه عقد حاجبيه عندما وجده المقدم (حمزة), قالت (لمياء) :
- أهلا يا سيادة المقدم .
ابتسم ونقل بصره لـ (آدم) ثم هز رأسه محييا وقال :
- إزي حضرتك ؟ أستاذ آدم مش كده ؟
أومأ (آدم) برأسه وبدا عليه بعض الضيق وهو يقول :
- أيوة, إزي حضرتك يا فندم ؟
أجاب بهدوء :
- الحمد لله تمام, ها المصاب بتاعنا أخباره ايه ؟ انا جيت لما كلمتيني فورا أهو .
أجابت :
- الحمد لله بقى أحسن, حضرتك تقدر كمان تسأل دكتور أحمد عنه وتشوف إذا ينفع ولا لا .
تطلع إليه مع زوجته من خلف زجاج النافذة لثوان وهما يتشاكسان تارة ويتضاحكان تارة ويتهامسان تارة أخرى ثم ابتسم فجأة وسأل :
- طيب هو فاضي ؟ اكلمه بشكل ودي كده لحد مانعمل المحضر ؟
عقد (آدم) حاجبيه في ضيق من جرأته وشعرت هي بالحرج, قال (آدم) في حزم :
- ثواني هابلغه بوجود حضرتك .
ترك (يوسف) مع (لمياء) واتجه بخطوات سريعة لغرفة (أدهم) ثم طرق بابها ودخل ليخبر أخيه بوجود الضابط, خرج وخلفه خرجت (جمانة) ودخل إليه (حمزة) بابتسامة هادئة.
جلسا سويا مايقرب من نصف ساعة, ترك بعدها (حمزة) الغرفة وهو يشد على يد (أدهم) ويتمنى له تمام الشفاء, وقفت (جمانة) مع شقيقتها والضابط ليسألها هي الأخرى عدة أسئلة في حين دخل (آدم) لأخيه وابتسامة رائعة على وجهه تاركا طفله ممسكا بيد (لمياء), بادله (أدهم) ابتسامته وقال :
- أدوم واحشني ياكبير .
ضحك (آدم) وهو يقبل رأسه وقال بمرح :
- تصدق إنت أكتر , ماشفتكش من امبارح يابني, وبعدين ارحمني بقى وقوم الشركة كلها فوق دماغي .
رد (أدهم) ضاحكا :
- عاوزني اقوم واروح الشغل كمان, دي رصاصة يابني, هانام فيها شهرين تلاتة اربعة, وأعمل فيها شهريار, وبعض الناس كده هتبقى شهرزاد وتحكي لي قصة كل يوم .
ضحك (آدم) مرة أخرى وهتف :
- ده استغلال بقى ؟
رد (أدهم) :
- طبعا, حد يلاقي فرصة للاستغلال ويقول لا !
هز رأسه في تعجب, ثم رسم الجدية على ملامحه وقال وهو ينظر للخارج للحظة :
- عاوزك في موضوع مهم .
نظر إليه (أدهم) باهتمام وسأله :
- خير ؟
اقترب منه أكثر وقال بلهجة غريبة كأنه يتوقع خطرا فبدا مضحكا :
- أنا طالب القرب منك