رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) الفصل الخامس والعشرين 25 بقلم عفاف شريف
بين الرفض والقدر
الفصل الخامس والعشرون
❈-❈-❈
أخبرني، يا قلبي، لماذا أحببتَ وانتظرتَ؟
فلا هذا نلتَ، ولا ذاك احتضنك،
بل لم تحصد سوى الخذلان...
العشقُ لعبةُ الحياة،
ربما من نريده يصيرُ وطنًا لغيرنا،
وربما من أرادنا،
كُتب علينا أن نكسر قلبه برفضنا...
❈-❈-❈
لحظات الصدمة غريبة للوهلة الأولى.
جمود كتمثال شمع، لا يقدر على التحرك.
عيون متسعة، مصدومة، ومستنكرة، والكثير من التعابير الصادمة.
كانت عيناها تتسعان أكثر وأكثر، حتى كادت أن تخرج من محجريها، وهي تحاول أن ترفع جسدها المنتفض، حتى إنها من شدة الارتعاش لم تتحملها يدها وسقطت للخلف بوهن.
كانت تحاول التحدث، أن تُخرج الحروف من فمها المرتعش، لكنها لم تقدر حتى.
كانت في حالة لا تُحسد عليها، تحديدًا وهي تشاهد نظرات سيف.
كانت نظراته هادئة للجميع، لكن ليس لها.
لم تكن تمت للهدوء بصلة، بل كانت كعاصفة ثلجية تهدد بتجميد من يفكر حتى مجرد تفكير في الاقتراب منها.
لن تسمح... لن تسمح أبدًا!
وفعلًا، استندت على يدها المرتجفة حتى وقفت، ترتعش أطرافها، مندفعه نحو سيف، تقف خلفه كأنها تحتمي به، وهي تتمسك بملابسه بضعف، قائلةً بصوت مرتجف وقد بدأت في البكاء فعليًا:
الحقني يا سيف... الحقني!
وتابعت بارتجاف، مشيرةً لعمر الواقف يناظرها بصمت ساخر:
ده... ده كان بيحاول يتقرب مني ويتهجم عليّا!
ولما صديته ضربني... وأنا كنت... كنت بحاول أهرب.
الحمد لله... الحمد لله إنك جيت، كان زمانه عمل اللي عمله!
وانفجرت باكية، تبكي بحرقة وقوة.
كانت الغرفة في حالة سكون، لا يقطعه سوى صوت بكائها الحاد وارتجاف أنفاسها.
لم يكن مزيفًا، كان حقيقيًا، لكنه لم يكن سوى خوف... بل رعب رهيب من الواقف أمامها.
إنه سيف الدين رشدان.
زوجها... للأسف.
تزوجته، لكنها لم تحبه أبدًا، بل أحبت سلطته، نفوذه، قوته، ما قدّمه ويقدّمه لها بصدر رحب.
لكن... هي لم تحبه.
فقد كان رجلًا قاسيًا، جامدًا، لا يعرف الحب ولا يؤمن به.
تزوجها لأنها أعجبته، وأخبرها بهذا بوجهها، وبكل بساطة.
ولهذا لم تحبه... أو ربما أحبته في البداية ثم كرهته، فقررت استغلاله مثلما استغلها.
أخذت من سلطته، ماله، قوته، أخذت بنهم ورغبة في القوة، تمردت وتجبرت، وغفلت عنه في آخر فترة وأخطأت بكل غباء.
وسيف... لا يقبل الخطأ أبدًا!
ماذا تفعل الآن؟
عقلها سيتوقف، وهي تفكر بجنون
ماذا يفعل هنا؟!
لن تسمح... لن تسمح!
ستدمّر عمر، ستدمّره!
ستجعله يتجرّع الندم على ما فعله، قطرةً بعد أخرى.
من وسط بكائها، أخرجت وجهها ببطء من خلف سيف، تنظر لعمر بشرّ، وحقد، والكثير من السخط.
شرّ كبير نما بداخلها تجاهه في تلك اللحظه.
أما هو، فنظرته اختلفت.
حتى إن عينيها اهتزّتا، لا تفهم سرّ التغيّر.
كانت نظرة... نظرة استهزاء، و... شفقة!
كيف؟
لم تُكمل حتى تساؤلاتها، وهي تشعر بتحرّك سيف أخيرًا من محله، قبل أن يلتفّ لها، يناظرها بصمت دام لحظة... اثنتين... ثلاث...
والرابعة...
انتهت بصفعة قوية أسقطتها أرضًا!
وللصدق... كانت تستحق.
❈-❈-❈
كانت تُناظره بعينٍ متسعة، مصدومة، متفاجئة بصفعته، قبل أن تنطق بتلعثم:
سيف... أنا عملت إيه؟!
هو... هو... مش أنا!
انت فهمت غلط!
إلا أنه، وآخر ما توقّعته، تلك الابتسامة الباردة التي ارتسمت على وجهه.
وعمر خلفه يتذكر ما فعله منذ عدة أيام.
عودة لوقت سابق
لم يكن أمامه حل سوى أن يواجه رب عمله، سيف الدين رشدان، وفخامة الاسم تكفي ليخشاه الكثير.
فرغم عدم احتكاكه بطاقم العمل لديه، إلا أن حزمه ونفوذه يصلهم دون حاجة لقربه.
فكانت خطته كالتالي
يجب أن يحصل على دليل، وليس أي دليل، بل دليل قوي، دليل ملموس، دليل لا يقبل الشك أبدًا.
لن يُخاطر بدخول حرب دون وجود سلاح قوي بيده، وروفيدا أدخلته عنوةً إلى تلك الحرب القذرة، وها هو مضطر للمحاربة والنجاة بنفسه من هذا المستنقع الذي وقع به.
وبالفعل، اشترى أحد المسجلات الصغيرة، ودخل مكتبها يومها، وباحت هي بكل شيء.
وتلك كانت البداية...
فبعدها، وبعد رحلة طويلة من المحاولات الصعبة جدًا، استطاع أخيرًا الوصول إلى رقم سيف الشخصي.
فهو لن يُخاطر أن يقع هذا التسجيل بيد غيره، هو لا يريد سوى أن يُخرج نفسه من تلك اللعبة، لكن غير ذلك لا يريد.
تلك البلبلة يرفضها، إن أراد فعلها لفعلها منذ أيام، لكن هذا ليس هو.
وبالفعل، حادثه... وما زال يتذكر تلك المحادثة جيدًا، بالحرف الواحد
أستاذ سيف، أنا عمر... اللي شغال في مكتب المحاماة بتاع حضرتك في .....
صمتٌ من الجهة الأخرى حلَّ لثوانٍ، قبل أن يجيب بهدوء: أيوة، أهلًا عمر.
وصمت... صمت موتر.
لذا، لم يجد نفسه إلا وهو يقول بتوتر:
أنا محتاج أشوف حضرتك ضروري.
أجابه سيف بهدوء: للأسف، أنا مش في البلد حاليًا.
وتابع بنفس الهدوء: لو محتاج أي حاجة، تقدر تتكلم، أنا سامعك.
كان عمر يستمع إليه بصمت، لا يعرف ماذا يقول أو حتى كيف يُخبره، فأغمض عينيه قائلًا ببطء وحذر: في حاجة مهمة لازم أعرفهالك، لكن قبل ما أقول حرف واحد، محتاج الأمان منك.
سكوتٌ تام، تبعه قول سيف بترقب: ليك الأمان.
أخذ عمر نفسًا عميقًا، قبل أن يهمس بخفوت:
الموضوع بخصوص مدام روفيدا... مرات حضرتك.
وتابع بسرعة، شارحًا له كل شيء، فعليًا كل شيء، منذ البداية، دفعة واحدة، دون توقف أبدًا.
والصمت التام يقابله... يروي ما حدث، والصمت أيضًا يقابله، حتى انتهى.
وصمت بقنوطٍ وضيق، فأتاه صوت سيف قائلًا بصوت مرعب، مهددًا بوعيد: انت عارف...
قاطعه عمر قبل أن يُكمل، قائلًا بتأكيد:
أنا كنت مستحيل أتكلم في عرض مراتك من غير ما يكون حقيقي.
يمكن حضرتك متعاملتش معايا كثير، بس أنا مستحيل أسمح لنفسي، لا أخلاقي ولا ديني يسمحلي.
لكن الموضوع خرج عن إرادتي، ووصل لوضع سيئ جدًا، ولولا حياتي اللي هتقف وممكن تتدمر، أنا ما كنتش اتكلمت أبدًا، ولا فضحتها.
التسجيل اللي بيثبت كلامي، أنا بعته لحضرتك، وده هيثبت كل اللي قلته بالحرف.
أنا عارف إنه صعب حد يسمع ويصدق الكلام ده عن مراته، بس للأسف...
قالها بأسفٍ حقيقي...
فالخيانة خنجرٌ سام، وسيف كان ضحيته الجديدة.
عودة للوقت الحالي
كان يقف يُناظرهم بصمت.
أخبره سيف بعدها أنه سيأتي، ليرى بنفسه، ليسمع، ويعرف.
رغم أن التسجيل قطع وأغلق أبواب كل الشكوك، ورغم هذا، أتى، وها هو يسترد حقه.
استند على المكتب يُطالع ما يحدث بإرهاق، لا يعرف ماذا يفعل، ونظرات روفيدا المذهولة لا تُدهشه أبدًا، فهي وقحة رغم كل شيء.
أما سيف، فكان في وضعٍ آخر، فلم يتوقع أبدًا أن تكون روفيدا بتلك الحقارة!
منحها اسمه، سمعته، منحها كل شيء، لم يبخل يومًا.
نعم، لم يُعطِها حبًا، لكنه لم يخدعها، بل كان صريحًا وأخبرها أنه لا يُؤمن بالحب.
وبعد كل هذا، وفي النهاية، باعت كل هذا بكل جشعٍ وقرف.
كان تعوّد ألّا يثق بالنساء، لكن الخطأ كان خطأه.
لذا، فتح فمه قائلًا بتهديدٍ وشراسة، وهو يهبط لمستواها حتى كان يُقابل وجهها الباكي:
جبتي منين كل الوقاحة والغباء في إنك تفكري تخونيني يا روفيدا؟!
بجد... معقول انتي غبية أوي كده؟!
كانت ترتجف فعليًا تحت نظراته الحادة، تحاول الرجوع للخلف، متوقعة بطش يده في أي لحظة، وهي تهز رأسها برعبٍ ورهبةٍ حقيقية.
وكان يعلم ما يدور في رأسها، يكفيه نظرة عينيها لتُخبره بكل شيء.
إلا أنه، وتلك المرة، باغتها وهو يُمسك ذراعها بقوة، وهو يقف يهزها قائلًا باشمئزاز، مشيرًا إلى المكتب وعليها: شايفة كل ده؟!
كل اللي ادّتهولك برضايا، هطربقه على دماغك برضو برضايا!
قالها وهو يجرّها خلفه ببطءٍ متعمد، قبل أن يدفعها باشمئزازٍ وقرف خارج المكتب، قائلًا بتأكيدٍ واحتقار: قدامك حلٌّ من الاثنين...
يا تختفي من البلد دي، يا أخفيكي أنا!
تحبي تختاري إيه؟!
كانت تبكي، وجسدها ينتفض برعب، وهي تهز رأسها برفضٍ ورجاء، قبل أن يقول بتأكيد:
لا... لا!
ما تعيطيش... وفّري دموعك دي لبعدين، لسه الجاي أتقل!
وتابع باستهزاء، وضحكة ساخرة، شامتة:
كنتِ غبية... حفرْتي حفرة، كنتِ أول حد يقع فيها!
انتي طالق يا روفيدا!
قالها ببساطة، مُغلقًا الباب بقوة في وجهها.
ولم يكن الباب وحده ما أُغلق، بل صفحتها أيضًا... مودّعًا إياها للأبد.
❈-❈-❈
كان عمر يقف في مكانه يستغفر ربه بإرهاق حقيقي، يطالع ظهر سيف
واقفًا، شاردًا، صامتًا، يضم قبضتيه بقوة حتى ابيضّت مفاصله من شدّة الغضب .
كان غنيًّا أم فقيرًا، تظل الخيانة خيانة، مؤلمة ومُرّة كالعلقم، حتى وإن لم تظهر.
بعد عدة ثوانٍ من الصمت، تنحنح بتوتر، فالتفت له سيف يناظره بصمت، وقد كان غافلًا لوهلة عن وجوده.
استعاد جمود ملامحه بسرعة يُحسد عليها، وهو يقترب منه قائلًا بجمود: وتحذير :لو كلمة...
قاطعه عمر بسرعة وغضب مستتر: أنا مسمعتش ولا شُفت حاجة. التسجيل اتمسح خلاص، ومفيش نسخ. ولو على الشغل، اطمن، أنا مستقيل...
تقدر تطمن.
وتحرك بهدوء ليغادر، لكن صوت سيف أوقفه وهو يقول بحزم حاسم: بس أنا مقلتلكش امشي.
التفت عمر يطالعه بعدم فهم، ليتابع سيف قائلًا بهدوء: أنت هتفضل زي ما أنت، مفيش حاجة هتتغير. التغيير الوحيد أن من اللحظة دي في مدير جديد هيجي... وطبعًا ممنوع الكلام.
وتخطاه مغادرًا المكتب بصمت، فليس هو من يقطع رزق أحد.
كان ذنبه الوحيد وقوعه بين يدي امرأة حقيرة، لكن قبل أن يخرج، وقف لوهلة قائلًا بخفوت: شكرًا.
ثم غادر.
وبداخله... يُخترق.
جُرحت رجولته، لن يُنكر، فعلها الحقير ضربه في مقتل.
لكن الحب؟
والحزن؟
لا، لا.
لم يحبها يومًا، ولم يحزن لأجلها أبدًا.
منذ زمنٍ توقّف عن الحزن.
وللحقيقة، منذ زمنٍ توقّف عن الكثير.
وبالنسبة إليه، هم لا يستحقون.
وهل هناك امرأة تستحق؟
بالطبع لا.
لكن ما لا يعلمه أنه... وربما...
ربما هناك.
سيد سيف، الحب يطرق باب قلوبنا دون أي سابق إنذار، فاحذر...
ربما قريبًا سيطرق فوق رأسك...
أقصد قلبك.
ربما.
فكل شيء متوقّع في تلك الحياة.
❈-❈-❈
كانت تجلس بجانبه في السيارة، تضع يدها على بطنها، تشعر بجنينها يركل بقوة، كأنه يشعر بتوترها الشديد.
أمسك أنس يدها، يشدّ عليها بقوة دعمًا لها.
تعلم أنه لن يسمح بأي شيء أن يمسّها، لكن تظل كلمات حماتها السامّة لا تتركها.
لن تنسى أبدًا يوم لامتها فيه على خسارتها لابنها.
ارتعش جسدها بقوة، حتى إن أنس ضمّها إلى صدره، ظنًّا منه أنها تشعر بالبرد، إلا أنها كانت تتذكر...
ذكرى لا يعلمها أنس حتى، ولن يعرفها يومًا.
لن تخاطر بصنع فجوة كهذه بينه وبين أمه، لكن لن تنسى لها يوم أن طعنتها بكلمات قاسية، أقسى من خناجر سامّة.
اتهمتها بالإهمال!
أي إهمال؟
لو كان بيدها، لضحّت بعمرها لأجله.
لا أحد يعلم، ولا أحد يشعر.
هي من ذاقت كل الآلام.
هي من بكت ليل نهار على ولدها المدفون بين التراب، وتمنّت أن تلحقه في الكثير من لحظات الضعف.
لكن كان الله بها رحيمًا، فكان لها أنس... نعم الزوج، الصديق، والرفيق.
نِعم العوض.
وبعد الكثير من الألم والشوق، احتضن رحمها قطعة أخرى منه... الأغلى.
احتضنت جنينها بحب، وهي تريح رأسها على صدر أنس، ولم تعلم أن بداخله هو الآخر الكثير من المخاوف.
فلم تكن وحدها المرتعبة من تلك الزيارة، ولم يتمنَّ يومًا أن يخشى زيارة عائلته بهذه الطريقة.
❈-❈-❈
كانت تقف معه أمام باب الشقة، يمسك يدها بقوة، قبل أن يفتح الباب، وتظهر أمه التي جذبته بقوة نحو أحضانها، تحتضنه بسعادة، وهي تهمس بالكثير من العبارات المشتاقة والمرحبه .
يُبادلها إياها بصدق، فهي أمه.
لا تفهم أن لا مَلك ولا غيرها قد تحتل مكانتها، فحب الأم في مكانة مختلفة تمامًا عن حب الزوجة.
يا ليتها تفهم هذا، لكانت أراحت نفسها على الأقل، ويداوي هو نفسه بنفسه.
ضمّها إلى صدره بعد أن تملصت مَلك من بين يديه، سامحًا له بالفرصة الكاملة لاحتضانه.
كانت تقف بجانبه بتوتر وخجل، ما زال يأتيها حينما تزور عائلة أنس، لكن ما إن سمعت صوت حماها الغالي حتى اتسعت ابتسامتها، وهي تسمعه يقول بمشاكسة: يعني هو إنت بس اللي وحشك يا أمل؟!
أوعي، عايز أحضنه!"
قالها وهو يزيحها قليلًا، ليلقي أنس نفسه بين أحضان أبيه مشتاقًا للغاية، قبل أن يقول بسعادة: وحشتني يا حَج... وحشتني أوي!
ضمه أنس باشتياق، وهو يراقب بطرف عينيه مَلك، التي انكمشت قليلًا وهي تستقبل نظرات حماتها غير المريحة بالمرة.
كانت تناظرها بتأفف فعلي، كأنها لا تريدها أن تأتي، فقط ابنها!
ألم تكن هي من تصنع الخلافات لحضورها؟
لِمَ تلك المقابلة والنظرات الآن؟
وظل الصمت يحيط بهم، حتى قالت بجفاء متعمد: إيه، مش ناوية تسلّمي عليا، ولا مستنية أبدأ أنا؟!
ابتلعت ريقها، مقتربة منها، تقبّلها برِقة، قبل أن تقترب من حماها، الذي هلّل سعيدًا، وفرحًا بقدومها، مرددًا بسعادة: أهلًا أهلًا بالغالية وأم الغالي!"
وتابع مشاكسًا: غالي، صح؟"
ابتسمت بخجل، قائلة بعد معرفة: لسه معرفناش، يا أونكل والله ...
ربّت على حجابها قائلًا برفق وتأكيد: كل اللي يجيبه ربنا كويس، يا حبيبتي.
ربنا يقومك بالسلامة اهم حاجه.
وأكمل، وهو يمسك بيدها دالف للداخل :
تعالي، تعالي، واحكيلي أخباركم.
قالها، وأنس يتبعهم إلى الداخل بابتسامة سعيدة، وأمل خلفهم متأففة... فقد أتت من تحظى بكل الاهتمام.
❈-❈-❈
ما أن دخلت حتى وجدت سلسبيل، شقيقة أنس الصغرى، في استقبالها بسعادة وهي تحمل ابنها الصغير.
الحقيقة، الجميع يعاملها أحسن معاملة، لن تنكر ذلك أبدًا.
وبعد السلامات والتحيات، علمت أن تقي وتمنى، كلٌّ منهما منشغلة للأسف ولم تستطع الحضور، لتخبرها سلسبيل أنها ستوصل لهما التحية والسلام.
أشار رمضان لابنته قائلًا بهدوء: "
قومي هاتي العصير لمرات أخوكي، يلا يا سوسو، عقبال ما أمك تخلص الغدا.
ثم تابع وهو يلتفت لزوجته متسائلًا بهدوء: الغدا قدامه قد إيه يا أمل؟
كانت تناظره بجمود قبل أن ترد: على النار.
دار الحديث بينهم بهدوء، فكان الجميع يتشارك الحوار، فيما عدا شخص واحد... أمل، حماتها.
وفي العادة، الهدوء نعمة، أما هنا، فهو الهدوء ما قبل العاصفة.
فنظراتها كانت باكثر من كافية
❈-❈-❈
وبعد بعض الوقت، أعلنت أمل عن الانتهاء من تحضير الطعام، وبالفعل تحركت ملك تتبع سلسبيل لتساعدهم بلباقة ، بعد أن حمل أنس صغيرها ليداعبه.
وما إن خطت قدمها إلى المطبخ حتى تأففت حماتها بصوت عالٍ.
توترت لوهلة، لا تعرف ماذا تفعل.
إذا ظلت في مكانها بالخارج، ستتحدث، وحينما دلفت لتساعدهم، تأففت.
لذا همست بخفوت: تحبوا أساعدكم في حاجة يا طنط ؟
أعطتها حماتها طبق الخضروات مشيرة لتقطيعه بحاجب مرتفع ووجة جامد ، وبالفعل، وقفت في صمت تفعل ما تريده منها.
حتى أنها صرفت سلسبيل للخارج لتلقي عليها المتبقي من الأعمال.
وللصدق، لم تعترض.
هو يوم، فليمُر فقط.
رغم أنها تشعر بالعكس.
❈-❈-❈
في منزل والدي حور
تحرّك حسام من محله بعد أن استأذن من حماه ليرد على مكالمة والده.
فهم منذ الصباح في منزل والدي حور، كما أرادت أن تحظى بالكثير من الوقت معهم، وبالفعل لم يردها خائبة.
وتجهّزوا منذ الصباح، آتين محمّلين بالفطور وكل ما لذَّ وطاب لهم لأجل حبيبته الغالية.
كانت حور تراقبه وهو يحمل الصغيرة شمس، المتشبثة به، قبل أن تستمع إلى صوت أمها يطلب منها المجيء، فتحركت بسرعة لتلبي ندائها.
دلفت إلى المطبخ، تفقّدت الأواني بفضول، قائلة بسعادة: وحشني أكلك أوي أوي يا ماما.
قالتها وهي تلتقط إحدى أصابع المحشو الساخنة، وهي تتأوه بسعادة واشتياق، قبل أن توقفها أمها قائلة بهدوء: عاملة إيه مع جوزك؟
ابتسمت لها حور بسعادة قائلة بتأكيد:
الحمد لله يا ماما، كله بخير. حسام شايلني جوه عينه أنا وشمس، ربنا يباركلي فيه يا رب. طمّنيني عنكم، وعن مرفت.
وتابعت بفضول: قلتيلي إن في عريس جاي، اتفقتوا خلاص ولا إيه؟ معرفتش أسألها.
ضمّت أمها شفتيها بضيق قائلة بهمّ:
عيني عليها، بختها مايل. أنا معرفش يا ربي إيه اللي بيحصل مع البِت دي، أنا قلت إن حد عمل لها حاجة، محدّش مصدّق!
قطّبت حور حاجبيها بقلق قائلة بخوف:
حصل إيه؟ هو مشي ولا إيه؟
هزّت أمها رأسها نفيًا قبل أن تقول بتأكيد:
لا، بس هيمشي.
"ليه؟!" قالتها حور بتساؤل وقلق.
نظرت أمها خلفها قبل أن تقول بخفوت:
طالب نجيب كل حاجة بالنص، وانتي عارفة الدنيا. وكل حاجة طالبها ماركات، والدنيا مزنّقة معايا، والوضع مش سامح، والعريس هيضيع يا حور، وأختك حالها واقف، ومحدّش بيجي، والكل بيتشرّط عشان حالها، وأنا عايزة أطمن عليها قبل ما أموت.
ترقرقت عينا حور، وهي تكاد تبكي حزنًا على شقيقتها، قبل أن ترفع يدها نحو أذنها، تخلع القرط الخاص بها قائلة بتأكيد: خدي الحلق بتاعي، ده بابا اللي كان جايبه، أهو أي فلوس تسند.
نظرتها أمها بغيظ قائلة باستنكار: وده يجيب إيه ولا إيه؟! بقولك نص العفش، ده ولا حاجة.
انتفضت حور إثر صيحتها، لتتدارك أمها نفسها وهي تتنهد بضيق، قبل أن تقول بصوت خافت: يا حور، ده ميعملش حاجة خالص، إحنا عايزين فلوس كتير أوي، أنا كل ما أفكر أحس هيحصلي حاجة.
هزّت حور رأسها بعدم فهم قائلة بحيرة:
ما انتي عارفة يا ماما، أنا لو معايا والله هديكي من غير ما تطلبي حتى، أنا فكرت أطلب من حسام، بس أنا عارفة إنك مش هتقبلي حاجة زي دي وهترفضي.
تأفّفت أمها مجيبة بتأكيد: طبعًا، انتي عايزة يزلّنا ويعايرك ويقول أهلك مش لاقيين؟ انتي عبيطة؟! انتي لو طلبتي منه جنيه هيقلّ منك، وكل مشكلة هيفكّرك إنه إدّى أهلك فلوس. انتي مش عارفة طبع الرجالة والمعايرة؟
أنا أكيد مقبلش إنه يعرف حاجة، ولا هسمحلك تقولي له."
"بس..."
قالتها بهدوء، ليزداد انعقاد حاجبي حور بتوجّس، خائفة من القادم.
وقد كان.
❈-❈-❈
"إيه؟!"
قالتها حور بصدمة وذهول، وهي تستمع إلى حديث أمها، التي كرّرت بهدوء وصوت منخفض، حرصًا على عدم وصوله للخارج، دون أي خجل، قائلة بتأكيد: زي ما سمعتي، انتي قبل كده قلتِلي إن جوزك مش بيصرف حاجة من اللي بيبعتها أبوه، وبيشلها كلها زي ما هي، جزء في البنك، بس كمان في جزء في البيت عشان لو حصل حاجة، صح؟
قالتها بتشدد.
أغمضت حور عينيها، تلعن نفسها، فهي قالتها مرة في خضم دفاعها في أحد النقاشات عن حسام، وأنه يعتمد على نفسه، وأموال والده ملاقاة في الخزانة إن أرادها، سيحيا ملكًا لا يحتاج للعمل.
أفاقت من شرودها على صوت أمها التي تابعت بتأكيد:إحنا محتاجين يا حور، سلفة، فترة، وزي ما هتخديها، زي ما هترجعيها، من غير ما يحس ولا يعرف.
هزّت حور رأسها برفض قاطع
تكاد تصرخ
"لا، لا، لن أفعل!"
لتقول بسرعة ووجه احمر من شده الانفعال: أنا لو قلت لحسام هيدهالي من غير ما يسأل، مش لازم أقول إنها ليكم، أنا بس لو طلبت مش هيبخل عليا أبدًا، أما من وراه... انتي عايزاني أسرق جوزي؟!
شهقت أمها باستنكار وهي تستمع إلى ما تقوله، قبل أن تهمس بتوبيخ: سرقة إيه يا خايبة؟! هي في سرقة بين الراجل ومراته؟! ده جوزك، أبو بنتك، ودي فلوسكم، يعني مش هيحصل حاجة لما تاخدي، وبعدين ترجعي، كأنك ماخدتيش. هيحصل إيه يعني؟!
بُصي يا حور، أنا مش هسمحلك تبوظي جوازة أختك عشان الخيابة دي! أول ما ترجعي، تاخدي الفلوس وتبعتيهالي، وأنا على طول هجمعهم وابعتهالك، ولا من شاف ولا من دري. ولو حسام عرف حاجة، أقسم بالله لا انتي بنتي، ولا أعرفك، ويحرم عليكي تقفي في غسلي لو مت!
كانت حور تهزّ رأسها برعب ورفض، ودموعها تسبقها دون وعي، تكاد تنهار، مفكرة...
ماذا ستفعل؟!
ولم تدرِ بوقوف حسام خارجًا، وقد استمع لحديثهما بالصدفة، ليقف محله متسمرًا، وهو يتجرّع مرارة الصديد كأنه علقم يحترق في حلقه.
❈-❈-❈
غسلت وجهها عدة مرات قبل أن تخرج من المطبخ، بعد نوبة بكاء طويلة، تشعر بعقلها على وشك التوقف.
تكاد تنهار، ماذا تطلب منها أمها؟!
أن تسرقه... زوجها... حبيبها... وأب ابنتها!
لكن ماذا تفعل؟ أتخبره؟ أتُصارحه؟ أم ترفض وتغلق هذا الباب؟ ماذا تفعل؟
خرجت من المطبخ، شاعرة بالإعياء، ليقابلها وجه حسام المراقب لها بصمت، يحمل الصغيرة شمس وقد غفت بين ذراعيه.
تساءلت بتوتر، وعيناه تلاحقها :فين بابا؟
أزاح عينه عنها قائلًا بهدوء: دخل الأوضة، قال هيريّح شوية لحد ما الغدا يجهز.
أومأت له بصمت، قبل أن تجلس بجانبه، تحمل الصغيرة وتضمها إلى صدرها كأنها تحتمي بها.
وكان في تلك اللحظة يراقبها... هل ستخبره؟!
هل تشاركه ما يحدث معها؟
أيخبرها أنه سمعها؟
قالها بداخله وهو يراقبها، إلا أنه يرفض، يرفض ببساطة أن يظل دائمًا هو المبادر بتلك الطريقة.
ماذا لو لم يستمع لهما؟ ماذا كان ليحدث حينها؟
هو لا يقبل أبدًا أن تفشي سرًّا خاصًّا بأهلها، لا يريد أصلًا، لكن لماذا لا تطلب منه ببساطة؟
كان يراقب ضمّها للصغيرة، كأنها تحتمي بها، ويتمنى أن تحتمي به هو.
فمتى خذلها ليخذلها الآن؟
وبداخله، يدعو مرارًا وتكرارًا أن تخذل ظنونه تلك المرة.
❈-❈-❈
لم تعرف حتى كيف وصلت إلى شقتها.
كانت تدلف إلى الشقة متعثرةً في اللا شيء، تكاد تسقط أرضًا، شاعرةً بإعياء شديد.
دفعت الباب بعنف، لكنه بالكاد أُغلق خلفها، لكنها لم تهتم.
ألقت بنفسها على أقرب مقعد لها وهي تبكي بقوة.
ماذا حدث؟ وكيف حدث أصلًا؟
كانت عيناها تطلق شرارًا وجنونًا رغم قهرها.
كيف سمحت له أن يُوقعها في فخّه بكل غباء؟
تبًا! تبًا!
وقفت تشعر بالجنون، تشعر بالمكان يضيق حولها حتى بات ضيقًا خانقًا.
شهقت شهقةً حادة، ثم فجأة... وكأنها لم تعد تحتمل أو حتى تطيق نفسها، فلم تجد نفسها سوى وهي تدفع بيدها بكل ما كان على الطاولة، ملقيةً إياه أرضًا.
فتطاير وتناثر على الأرض، متحطمًا للكثير.
كانت تمسك بأي شيء تطالعه يدها وتلقيه بقوة، تحطم هذا وتكسر ذاك.
شهقت شهقةً عنيفة وهي ترفع يدها، تلقي بأول شيء كان في متناول يدها تجاه المرآة الكبيرة في منتصف الغرفة، فتحطم الزجاج وتحول إلى شظايا تناثرت بكل مكان.
وقفت بعدها تناظر انعكاسها المشوه في وجه لم تعد تعرفه.
كيف وصلت إلى هنا؟ وكيف أصبحت بهذا الشكل؟
رفعت يدها نحو شعرها تشده بقوة، تكاد تنتزعه من شدة الجنون، وهي تلتفت حولها، قبل أن تضع يدها على وجهها تبكي بعنف.
لم تعلم كم ظلت هكذا، قبل أن تسمع صوت خطوات رتيبة جعلتها تنتفض، تزيل يدها، تلتف بسرعة وتنظر خلفها.
ثم تصنّمت في محلها وهي ترى من يقف خلفها.
كان سيف الدين... زوجها السابق.
❈-❈-❈
توقفت أنفاسها، وصوت بكائها، وكل شيء.
كل شيء توقف، وهو يقف يطالعها بصمت... صمت قاتل مرعب.
قبل أن يتحرك، يقترب منها، يرفع ملفًا كبيرًا كان بيده، مخرجًا الأوراق من داخله، ملقيًا إياها بإهمال أرضًا، ملوحًا بها أمامها.
في عينيها نظرات تيه وعدم فهم، ثم في ثوانٍ معدودة، نثر الأوراق، لتتطاير من حولها، تهبط ببطء شديد حتى وقعت أرضًا.
صمتٌ مشحون بتوتر ونفاد صبر، قبل أن يتحرك، يلتف حولها، قائلًا ببساطة:
"تزوير أدلة... قضايا شرف... سرقة... مخدرات... أممم... رشاوي... تلاعب بالقانون..."
ثم صمت، واقفًا خلفها، قبل أن يميل ليهمس لها بخفوت: تحبي أكمل؟
اهتز جسدها بقوة، مرتجفًا برعب، قبل أن يكمل حركته، متابعًا بسخرية:
مش عارف أقولك إيه... مفيش حاجة واحدة وسخة ما عملتيهاش!
ما شاء الله عليكي... دايسة في كله!
قالها باستهزاء، وتابع باحتقار حقيقي: رغم إني اديتك كل حاجة... بس مش بقولك كنتي غبية؟
وزي ما اديتك كل ده... يبقى يوم ما تعضي الإيد اللي اتمدتلك... تخسري كل ده!
وأخرج من جيب سترته عدة أوراق مطوية وقلم، مقتربًا منها قائلًا بأمر: امضي!
كانت تتحرك للخلف، تهز رأسها نفيًا ورفضًا تامًا، إلا أنه لم يهتز منه حتى شعرة واحدة، متابعًا بأمر:هتمضي... يا بالذوق... يا...
وصمت.
والـ"يا" الأخرى لها الكثير من السيناريوهات، وبالطبع لا تريدها.
ومن الرعب والخوف، ورغم قهرها، وقعت بذلٍّ.
لكنه لم يغادر، وظل في محله.
كان يتطلع إلى الشقة، ثم وقفت عيناه عندها هي، يطالعها بنظرات غامضة، قبل أن يلتف ليغادر.
وقبل أن يخرج، وقف وصدح صوته قائلًا بهدوء:
"أنا خدت منك كل اللي اديتهولِك... لأنه حقي.
لكن... في حقوق ناس كتير لسه متعلقة.
ناس مظلومة... ناس اتداس عليها قهر وظلم... ودول كمان لازم حقهم يرجع.
ورفع يده ينظر إلى الساعة، قائلًا بتأكيد: البوليس جاي في الطريق.
وتابع منبهًا: ما تحاوليش تهربي، لأني وقتها هجيبك، والعقاب هيكون مني ليكي... هدية معتبرة... تناسب قيمتك.
وغادر، تاركًا إياها تسقط أرضًا في محلها بانهيار، وصوت بكائها يصدح في كل مكان.
قبل أن تحيد عيناها بضياعٍ وتيه نحو الزجاج المتناثر بكل مكان، لتظل تنقل عينيها بين قطع الزجاج المحددة وبين الأوراق حولها، في انهيار صامت قاتل، كأنها سقطت في حفرتها السوداء.
طوال سنوات، أتقنت لعبتها بخبرةٍ باردة، تختبئ خلف أوراق القانون، تتحدث بنبرة واثقة، وتمعن في تجميل الظلم حتى بدا كحق.
لكن حين جاء يومها، لم يكن هناك ملفٌ تتلاعب به، ولا ثغرةٌ تختبئ خلفها.
نظرت حولها، تبحث عن مخرج كما فعلت دائمًا، لكن الأبواب كانت مغلقة، تمامًا كما أغلقتها على غيرها.
وحده صدى الأحكام التي زوّرتها، والحقوق التي سلبتها، كان يرن في أذنيها...
كان يرن في أذنيها، يذكّرها أن العدالة وإن تأخرت... لا تضيع.
فإن أخفت الأدلة عن قاضي الأرض، أتخفيها عن قاضي السماء؟
أحمقُ من يرى الدنيا آخر همه، فبعد فوات الأوان... لا يعود الزمان.
❈-❈-❈
عاد لمنزله بقلب متعب رغم سعادته، لكنه حزين.
لم يكن يتمنى أن يفضح ستر شخص بتلك الصورة، لكن ماذا كان بفاعل؟
يخضع أم يهرب؟
ما كان ليفعل؟
لا هو بذاك الخاضع، ولا هو بضعيف.
أن يعود كل شيء لوضعه الطبيعي لهو الراحة الكبرى بالنسبة له، لكن أيضًا يظل حزنه على ما حدث يعكر صفو فرحته بالهدوء والراحة، وأخيرًا بحياته.
دلف للمنزل يحمل بين يديه العديد من طلبات المنزل الناقصة، وما إن رفع رأسه لينادي على فريدة، مشتاقًا إليها، حتى تجمد في مكانه وهو يرى أمامه عمته وابنتها سلمى يجلسان وينظران له بهدوء، وفريدة تجلس على مقعد منفصل، وعلى وجهها علامات التوتر والضيق، والتي ما إن رأته حتى انتفضت تسرع نحوه، تأخذ الحقائب قائلة من بين أسنانها: برن عليك مش بترد ليه؟
وأشارت بعينها نحو عمته وابنتها قائلة بغيظ: بقالهم نص ساعة بيسألوا عنك.
وتابعت باشتعال: وحشتهم!
ثم حملت الحقائب مسرعة إلى المطبخ، تاركة إياه خلفها يهز رأسه يائسًا وهو يرى بدايات يوم مليء بالنكد والغم، إلا أنه تفاءل خيرًا وهو يتجه نحوهما قائلًا بابتسامة وترحيب:
أهلًا عمتي، وحشاني.
قالها وهو يميل ليقبل رأسها، إلا أنها نظرت إلى الجهة الأخرى بصمت وعتاب واضح.
نظر نحو سلمى التي ناظرته بابتسامة صفراء، قائلًا بتوبيخ: إزاي تنزليها يا سلمى وهي تعبانة؟ الدكتور منبه إن الإجهاد غلط عليها، تقومي تجيبيها لحد هنا؟
وتابع متسائلًا بقلق، جالسًا بجانب عمته: أنتِ كويسة؟ وشك تعبان أوي.
إلا أنها لم ترد، وأتاه الرد من سلمى التي قالت بملل: هي اللي أصرت، أنا رفضت كتير، بس هي قالت طالما مش عايز تيجي، هي هتروح.
وتابعت بخبث: أصل واضح إن مراتك خدتك منا!
حدجها بنظرات غاضبة قبل أن يقول بتشدد: اسمها فريدة، ومالهاش دخل! أنا كنت مضغوط في الشغل وعندي شوية مشاكل، وكنت ناوي أنا وفريدة نيجي يوم الإجازة إن شاء الله.
والتفت لعمته يمسك يدها مقبلًا إياها مرددًا باعتذار: سامحيني يا حبيبتي، انشغلت عنك غصب عني.
انتشلت يدها من بين يديه بغضب، قائلة بغيظ: والله؟ عايز تاكل عقلي بكلمتين؟
اخص عليك يا عمر، هِنت عليك؟ كل ده متجيش تطل عليّا؟
وكل اللي بتعمله مكالمة تليفون؟ اخص، فعلًا الجواز غيرك!
تلاقيها هي اللي منعـاك تيجي!
كان يناظرها بضيق من ذكر اسم فريدة في كل حوار يخص تأخيره أو تقصيره، وهي ذاتها منذ يومين أصرت عليه أن يذهب ليراها، لكنها اشترطت أن تكون عمته بمفردها.
فأتت عمته وسلمى بقلب منزله... ما الحل الآن؟ هم هنا وهي بالداخل!
إلا أنه أخذ نفسًا عميقًا وهو يمسك يدها مرة أخرى، قائلًا بحنان وتأكيد: محدش يقدر يمنعني عنك يا عمتي، محدش أبدًا.
أنتِ عارفة إنك أمي اللي كبرتني وربتني، وأنا مستحيل أنساكِ.
بس الدنيا مكنتش أحسن حاجة، والله كنت جاي آخر الأسبوع أنا وفريدة، بس يلا من حظي الحلو إنك نورتي بيتي أخيرًا وجيتي.
وأكمل كطفل صغير: شفتي بيت ابنك؟
لم تستطع أن تقسو عليه أكثر من هذا، هو ابنها، ولدها البِكر وإن لم تلده.
عمر سيظل ابنها الأغلى.
وبالفعل نقلت عيناها نحو الشقة بتفحص وفخر، قبل أن تقترب منه مقبلة رأسه قائلة بحنان:حلوة أوي يا ابني، ربنا يبارك لك فيها ويحفظك ويرزقك من حيث لا تحتسب يا رب.
ابتسم لها بسعادة وهو يضمها إلى صدره، تحت نظرات سلمى الغيورة والواضحة للأعمى.
❈-❈-❈
استأذن منهم قائلًا برفق: مستحيل تمشوا غير لما تتغدوا معانا.
مصمصت سلمى شفتيها بتهكم قائلة بسخرية: غدا إيه؟ دي المحروسة مراتك بقالها ساعة جوه، تقريبًا نامت! حتى مقدمتش غير العصير والفاكهه!
شكلها بخيلة أوي.
كاد أن يوبخها بشدة، إلا أن عمته تطوعت وهي تَلْكُزها قائلة بهدوء: بس اسكتي!
وتابعت بتنهيدة: روح لمراتك يا ابني، عشان نمشي قبل الليل ما يليل.
تنهد بضيق متوجهًا للداخل بسرعة، ليرى أين اختفت فريدة، داعيًا من الله أن يمر اليوم على خير... فقد يمر.
❈-❈-❈
دلف سريعًا إلى المطبخ ليجدها تقف تقطع الخضروات بصمت وجمود.
اقترب منها ملامسًا يدها بنعومة، لتنظر له بصمت، ليسارع بالقول: صدقيني مكنتش أعرف.
أومأت له قائلة بتصديق: عارفة، بس أنا مش حابة اللي حصل ده يا عمر.
عمتك وبنتها فعلًا كانوا قاعدين بينظروا عليا، أنا مش فاهمة في إيه؟
أنا حقيقي اتخضيت لما فتحت الباب لاقيتهم في وشي، وبنت عمتك بتزعق وتقول لي: وسّعي، شيلي معانا!
بجد أحرجت أوي، خاصة إني مكنتش مستعدة.
وأسرعت بالقول قبل أن يساء فهمها: أكيد طبعًا ينوروا في أي وقت، بس يعني...
افرض أنا كنت تحت لأي سبب، كان الوضع هيكون إيه؟
أنا يدوب كنت لسه داخلة البيت قبلها، فـ يعني لو كنت اتأخرت كان هيحصل إيه؟
قالتها بحيرة.
مد ذراعيه ليحاوطها بحنان ورفق قبل أن يقول بهدوء: متزعليش يا ديدا، أنا هتصرف، بس عشان خاطري، مشّي اليوم.
أومأت له بصمت، هامسة بخفوت: أنا عملت السلطة، وكنت طلبت سمك ورز وكل الحاجات اللي بتحبها...
بيحبوها، صح؟
قالتها بتوجس.
أومأ لها مؤكدًا، لتتسع ابتسامتها براحة، وكاد أن يميل ليقبل وجنتها، إلا أن صوت صراخ آتٍ من الخارج جعلهما ينتفضان مسرعين للخارج.
وما إن وصلا حتى اتسعت عينا فريدة وهي ترى سلمى تقف على الأريكة تصرخ خوفًا من لوزة، التي انتفضت هي الأخرى مرتعبة من صوت الصراخ.
أمسكت عمته الحقيبة لتلقيها عليها لتبتعد، إلا أن فريدة اندفعت بسرعة صارخة برعب وخوف على لوزة وصغارها: لا، أوعي!
وبالفعل، تلقت هي الحقيبة على ظهرها وهي تحتضن لوزة.
تأوهت بألم، تمسد ظهرها بيد، وعلى لوزة بالأخرى، قبل أن تندفع قائلة بغضب:
إنتي إزاي تعملي كده؟! افرضي كان حصلها حاجة؟! ده حيوان بري وحامل!"
قالتها وهي تضم لوزة بقوة.
حدجها عمر بنظرات صارمة
قبل أن تصيح سلمى بعصبية هي الأخرى: الشنطة فاضية، مفيهاش حاجة! كفاية تمثيل، وثم إنتي إزاي تجيبي قطة أصلاً؟ إحنا مبنحبش... مشيها فورًا!
اتسعت عينا فريدة من وقاحتها، وقبل أن ترد، زعق عمر فيها قائلًا بحزم: بس يا سلمى!
وأشار لفريدة بهدوء: دخّليها لو سمحتي يا فريدة الأوضة، معلش.
كانت تناظره بغضب، قبل أن تتوجه سريعًا للغرفة لتضع لوزة، ووقف هو يطالع عمته وسلمى بتعب.
يبدو أن من الصعب أن يمر يومه بهدوء، قبل أن ينظر لعمته بحزن، لكن ماذا يقول؟ في النهاية هي في بيته. إلا أنه لم يستطع منع نفسه من توبيخ سلمى، قائلًا بحزم:
آخر مرة هقولك يا سلمى... فريدة مراتي خط أحمر! إنتي إزاي تكلميها كده أصلاً؟ ده بيتها زي ما هو بيتي، وزي ما مستحيل أسمح لها تقلل منك، مش من حقك تعملي كده! صوتك ميعلاش لو سمحتي
والقطة دي بتاعتها، وأنا موافق على وجودها، فعيب يا سلمى اللي بتعمليه ده، عيب أوي! ومتنسيش احترامها من احترامي!"
قالها بحزم.
❈-❈-❈
وضعت لوزة على الفراش، وهي تلاحظ سكونها غير المعتاد أبدًا.
رأتها تتجه بهدوء لتجلس وتنام بصمت. أيُمكن أن تكون تأذت؟ هكذا فكرت بقلق وهي تقترب منها لتفحصها، قبل أن تقرّب وجهها تدقق النظر باستغراب.
هناك تغيّر فيها.
هل هذا من أعراض الحمل؟
هي لا تعلم، فلم ترب قطة من قبل. فكرت بهدوء، حتى إنها رأتها اليوم تحفر في الأرض وتتنقل حول المكان بشكل غير معتاد.
كادت أن تمسك هاتفها لتبحث عن السبب، إلا أن دخول عمر الغرفة أوقفها، وهو يقترب منها متسائلًا بهدوء: إنتي كويسة؟
أومأت له بصمت، قائلة بخفوت: بس اتخضّيت.
وتابعت بضيق: يلا خلينا نخرج، عيب يفضلوا لوحدهم.
وبالفعل، تركوا لوزة لتنام، وتوجهوا للخارج مغلقة الباب خلفها. يكفيها ما حدث.
❈-❈-❈
جهزت فريدة طاولة الطعام، ووضعت السلطة والماء والعصير، قبل أن تستمع إلى صوت الجرس معلنًا عن وصول الطعام.
وبالفعل، فتح عمر الباب متناولًا من عامل التوصيل الأكياس، وهو يضع يده في جيبه مخرجًا المبلغ المطلوب وآخر صغير لصبي التوصيل.
أغلق الباب بعدها ملتفتًا لفريدة ليساعدها في تفريغ الحقائب، تحت نظرات عمته وابنتها المستاءتين للغاية.
رفعت عمته حاجبها بضيق وهي تشاهد مساعدته لها.
أَقَطَّعت يديها بدل أن تخبره أن يرتاح!
تجعله يساعدها وقد عاد لتوّه من العمل! ألا يكفيها أنها تُضيّع أمواله في الطعام الخارجي؟
هي لم ترضَ عن تلك الزيجة من البداية.
بماذا قصّرت معه فتيات المنطقة؟ على الأقل منهم ، لا غرباء كتلك!
أفاقت من شرودها على صوت عمر قائلًا بحنان:
يلا يا حبيبتي، الأكل جهز، تعالي.
قالها وهو يساعدها من جهة، وسلمى من الأخرى، يكادان يحملانها عن الأرض حتى جلست على المقعد، وابنتها بجانبها، وعمر وفريدة بالجانب الآخر.
وضع أمامها سمكة كبيرة مشيرًا لها بالبدء، إلا أنها لم تبدأ، قائلة بتساؤل وهي تنظر لفريدة:
سمك مشوي جاهز هو محدّش علّمك لما حماتك تيجي تزورك أول مرة، لازم تعملي أحسن حاجة؟ مش تجيبي جاهز وتغرّمي جوزك!
شحبت ملامح فريدة وهي تستمتع الي توبيخها المبطن ، إلا أنها رفضت الصمت أو الخضوع، قبل أن ترفع رأسها قائلة بقوة:
اعذريني، لكن أنا مكنتش أعرف إن حضرتك جاية، أكيد لو عندي علم كنت عملت حاجات كتير. وبرضو السمك ده من مكان نظيف، وعمر بيحب ياكل عنده. اتفضلي، أكيد هيعجبك.
قالتها بلباقة، وهي تمسك ملعقة الأرز تضعها في فمها بغيظ، تحت نظرات عمته.
زفر عمر بيأس، قبل أن ينظر لعمته بحزن على ما تفعله.
لذا، أمسكت هي أيضًا الملعقة وبدأت في الأكل، وتبعتها ابنتها، ومرت الجلسة بهدوء أكثر مما يجب، لتقرر بعدها عمته المغادرة بإصرار، قائلة بحزم: يوم الخميس عندي إن شاء الله.
أومأ لها عمر بهدوء، وهو يتحرك ليطلب سيارة أجرة، مفكرًا في كيفية نزولها أصلًا.
وبالفعل، بعد نصف ساعة، كان يحملها هو والحارس على مقعد لتهبط الدرج ببطء وصعوبة.
يحمد الله أنه بالطابق الأول.
تبعتها ابنتها، وغادروا نحو منزلها، وفريدة تقف في النافذة تراقب مغادرتهم بصمت.
❈-❈-❈
وبعد رحلة الهبوط، تبعتها رحلة صعود لشقتها، ليقطب عمر حاجبه قائلًا باستغراب وتعب وهو يدقق النظر في الجدران :
هي العلامات اللي في الحيطان دي كبرت، ولا أنا بيتهيأ لي يا عمتي؟
هزّت عمته رأسها بعدم معرفة، قائلة بوهن بعد أن وضعوها على الأريكة: والله يا ابني معرف... البيت بقي خربان خالص
كان يقف يضع يده في خصره، يطالع تشققات الجدران، والتصدعات في السقف، وسقوط الجبس بشكل متكرر أكثر من الطبيعي.
كل شيء زاد عن الطبيعي.
كان يطالع المنزل بضيق، حتى قالت عمته بتذكر: آه صح، نسيت أقولك، في تسريب في المطبخ، معرفش جه منين!
أومأ لها قائلًا بتأكيد: إن شاء الله هجيب حد يشوفه، عيوني ليكي."
ابتسمت له بسعادة، لتصيح سلمى بقرف:
بس بسرعة يا عمر، عشان بجد منظر السقف بقى وحش أوي!
أومأ لها بصمت وهو يقف ليغادر، وقبل أن يخرج من الشقة، أسرعت سلمى خلفه قائلة بخفوت: آه صح، نسيت أقولك... عايزة مصاريف الترم الثاني والكورس اللي قلتلك عليه!"
توترت ملامحه متسائلًا بترقب: كام؟
فتحت فمها تخبره الرقم بكل بساطة:
"عايزة .... وكمان ..."
كانت عيناه تتسعان وهو يفكر بيأس وذعر. كم إنه راتب شهرين! من أين له بهذا المبلغ في هذا الوقت؟ وإن قدر على توفيره، فبالتأكيد سيُقصّر في منزله.
ما العمل؟
كان يفكر بشرود قبل أن يتساءل:آخر معاد لدفعها إمتى؟
أجابته سريعًا: يوم .....
اتسعت عيناه وهو يقول بصدمة:
إمتى؟ يعني بعد أسبوع؟ طب ما قولتيليش ليه؟ مش كان زماني عامل حسابي؟! إنتِ مش هتبطلي إهمال كده؟!
شحبت ملامحها ودمعت عيناها بحزن من توبيخه لها. فأغمض هو عينيه مستغفرًا ربه... ماذا يفعل؟
سلمي هي وصية زوج عمته رحمه الله ذاك الرجل الذي لم يبخل عليه يومًا بقرش، لا هو ولا عمته. بل نحتوا الصخور ليصبح كما أصبح الآن. كيف له أن يكسر بخاطرها؟
هي تستحق مثلما هو استحق. كيف له أن يكون بهذا الشكل الحقير؟
لذا، ابتسم بإرهاق قائلًا باعتذار: سامحيني يا سلمي، أنا بس انفعلت غصب عني. إن شاء الله الفلوس هتكون جاهزة في معادها.
ابتسمت من وسط دموعها، فودعها مغادرًا المنزل، شاعرًا بالهموم تزداد فوق كاهله حتى كادت أن تزهق روحه.
❈-❈-❈
كانت تجلس في مكانها تراقب نوم لوزة، تشعر بداخها بالكثير من التشوش.
عمة عمر لم تحبها، ويتضح هذا كوضوح الشمس، ولا حاجة للكثير من الذكاء. تحمد الله أنها بعيدة عنهم، يكفيها مشاكل وخلافات.
كانت تتصفح الهاتف بملل قبل أن يقع أمام عينيها إعلان عمل يطلب مهندسين للعمل.
اتسعت عيناها وهي تراه، في إحدى الشركات المشهورة أيضًا!
كان إصبعها ينقر على الشاشة بتوتر، قبل أن تراسلهم لتعرف التفاصيل، شاعرة بالتوتر الشديد وهي تمسك خصلة من خصلاتها، تلاعبها بشرود، مفكرة ماذا تفعل؟
أتُحدث عمر مرة أخرى؟ لكن ماذا لو رفض مجددًا؟
هي لم تعد تريد تلك الفجوات بينهما، تريد الهدوء والسكينة في علاقتهما. فـعمر يظل زوجها، وهي تحبه، وبالتأكيد لا ترضى أن يظلا من خلاف إلى خلاف هكذا.
لكنها بحاجة للعمل، ليس للحاجة المادية، بل لأنها تريد الخروج، تريد ممارسة مهنتها، تريد أن ترى ثمار شقائها لسنوات وسنوات...
ألا تستحق بعد كل هذا؟
سألت نفسها بخوف.
وبعد الكثير من التفكير، كانت الإجابة تتردد في عقلها
بلا تستحق... وأكثر!
❈-❈-❈
دلف إلى الشقة، يحرك رأسه بإرهاق شديد، قبل أن يلقي بنفسه على الأريكة قائلًا بصوت عالٍ: فريدة، أنا جيت!
تحرك بنزق، وغير راحة، يُخرج ما جلس فوقه بالخطأ، قبل أن تتسع عيناه بشدة وهو يناظر ما يمسك بين يديه
كان
كان قميصًا ورديًّا صغيرًا، مخصصًا للأطفال!
ظل يطالعه بعدم فهم، أقرب إلى الذهول، وهو يرى أيضًا
جوارب صغيرة.
كانت صغيرة ناعمة للغاية
رفع عينيه المتسعة نحو فريدة القادمة نحوه، تطالعه بابتسامة مشرقة. حاول مرارًا وتكرارًا أن يفتح فمه، أن يخرج الكلمات
حتى استطاع أخيرًا أن يقول بصدمة وذهول :
"فريدة... إنتِ حامل؟!"
❈-❈-❈