رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) الفصل السادس والعشرين 26 بقلم عفاف شريف
بين الرفض والقدر
الفصل السادس والعشرون
❈-❈-❈
هناك خطواتٌ نهايتها كانت واضحة منذ البداية،
نُقنع أنفسنا أن البعض يستحق فرصة،
فنمنحها لهم،
فنمنحهم أنفسنا،
فنمنحهم أعمارنا.
ضحَّت كثيرًا،
تجاوزت،
ابتلعت الألم بصمت،
أعادت بناء نفسها كلما هدموها،
وقفت رغم كل شيء،
أعطت بلا حساب،
لكن ماذا تفعل بقلبٍ يسكنه من لا يستحقه؟
ماذا تفعل بروحٍ أنهكها الانتظار؟
وبخطواتٍ كانت تعرف نهايتها جيدًا… ومع ذلك أكملت؟
الفرصة مُنحت للشخص الخطأ،
والنهاية… كانت واضحة حتى قبل أن تبدأ.
الآن…
الصفحة أُغلقت،
والباب أُغلق،
والقلب… لم يعد يسع حتى للندم.
❈-❈-❈
تسمرت محلها تطالع هَمسَتُه الخافتة
وجهه الذي ينتقل بعدة مراحل
شحوب، صمت، جمود، وأخيرا توهج
كأنه يعايش الكثير من المشاعر المتناقضة في نفس اللحظة
قبل أن يتدارك نفسه
وابتسامتة تظهر وتتسع أكثر وأكثر
وهو يرفع الملابس مشيرا إليها
متطلعا لعينها بعيون تبرق
بريق يجمع بين سعاده وخوفٍ معًا
لكن ربما سعادته طغت على كل شيء
وهو يقف
يناظرها ويمسك يدها
محتضنًا إياها يرفعها عاليا، يدور بها بسعادة غامرة
وهو يهمس ويردد بخفوت: حامل
حامل
يا ريدا
أصابها دوار ليلاحظه هو
قبل أن يجلسها ويجلس بجانبها همسًا بفرحة: مش متخيلة فرحتي
كانت تهز رأسها تحاول الكلام
قبل أن تضع يديها على يده قائلة بأسف حقيقي وقد كست ملامحها الحزن: عمر
أنت فهمت غلط
أنا...
أخفضت عيناها لوهلة
لا تود أن تقابل عيناه المتفحصة لها
وتابعت بوجه شاحب: أنا مش حامل
تقابلت عيناهما
لتلاحق اتساع عيناه والصدمة البادية على وجهه
لتكمل وهي تمسك الملابس الصغيرة قائلة بحزن وأسف: دول مش بتوع بيبي
دول بتوع لوزة
قالتها مشيرة نحوها
وتابعت توضح له: عشان الجو سقعة
كان يناظرها بوجه متجهم وقد سقطت الابتسامة عن وجهه محاولا فهم ما تقوله
وقد توقف عقله عن العمل في تلك اللحظة
وبداخله الكثير من الصراعات
الكثير
بين يريد ويخاف ويخشى من تلك الخطوة
فقد تمنى لوهلة أن تنفجر ضاحكة مخبرة إياه أنها كانت تمزح مزاحًا سخيفًا
لكنها لم تفعل
فهي لم تكن مزحة
بل حقيقة واقعية وهي ليست بحامل
كانت تراقب ملامحه وتغير تعبيراته بعين متفحصة حزينة
لم تدرك لوهلة أن يَرى الملابس حتى
ولم تدرك أيضًا أنه قد يصل تفكيره لتلك النقطة
الحمل
شددت على يده أكثر قائلة بحنان رغم حزنها على حزنه: أنا جبتهم النهاردة لما كنت بره
عشان لوزة بقت منكمشة كده على نفسها
وتقريبًا سقعانة
وازدادت قربًا منه قائلة بهدوء، مراقبة وجهه وهي تمسك بيده: أنت زعلت يا عمر؟
أنا مكنش قصدي صدقني
أنا بس كنت هلبسهم للوزة
ومكنتش أعرف إنك هتفكر كده
أنا آسفة يا حبيبي
تنهد بصمت وضيق وربما راحة
مشاعره المشتتة لم تجعله قادرًا على إعطاء أي ردة فعل في تلك اللحظة
لا يعلم لماذا استراح رغم فرحته
بين فرحة بقطعة منه ومن حبيبته قد كانت لتزين حياتهم وتجعلها أكثر استقرارًا
وبين ضيق من أنه لم يكن سوى مجرد التباس خاطئ
وبين شعور آخر
شعور الراحة
كيف له أن يشعر بلمحة راحة بداخله
حتى وإن لم يردها
للصدق
حياته مشوشة في الوقت الحالي
ضغط من كل اتجاه
منزله ومنزل عمته والمسؤوليات
ومتطلبات سلمى التي لا تنتهي
والتي يخشى أن يرفض أحدهم فيصير ناكرًا للجميل
وفعلًا وللحق يخشى المزيد من الضغوط فيضطر مجبرًا على التقصير في جهة من الجهات
بكل يوم تزداد المسؤوليات فوق عاتقه دون قدرة له على التملص أبدًا
وفكرة طفل رغم رغبته الشديدة
وحبه في زوجته والحصول على طفل منها
تجعله يشعر بالخوف
لن ينكر، هو مؤمن إيمانًا شديدًا أن كل طفل يأتي برزقه
إلا أنه يظل يخشى من أن يحيا يركض بين هنا وهناك للحصول على قوت الحياة
متغافلًا عن الكثير والكثير
لذا
فربما
ربما من رحمة الله به أن فريدة ليست بحامل
لذا جذبها نحو أحضانه بصمت
ولم تدرِ هي ماذا تفعل أو ماذا تقول
وكلما فكرت أن تتكلم
كان يربت على يدها
كأنه يريد أن يحظى ببعض الهدوء
وإن كان يريد صمتها فقد صمتت
❈-❈-❈
انتهوا من تناول الطعام، والتوتر يسود الأجواء بفضل أمل، وهي تلقي كلماتها السامة المُبطنة في الهواء كل دقيقة والأخرى، غير مهتمة بنظرات زوجها المُوبخة ولا بأي أحد، كأنها لا تفعل شيئًا.
وملك تقابل كل هذا بصمت، هي قادرة على الرد، لكنها لن تفعل.
ليس ضعفًا منها، بل احترامًا لرجل يجلب لها حقها دون حتى أن تطلب، فكيف تُحرجه وهو لم يفعلها يومًا؟
لهذا أصرت على تمرير كل ما يحدث بابتسامة صغيرة، وهي تضم صغير سلسبيل، تصب كل اهتمامها عليه بحب وحنان ولا مبالاة زادت من حقد الأخرى.
تكاد تنفجر وهي لا تقدر على إغضابها.
كانت تراقبها وهي تساعدهم في نقل الأطباق للمطبخ بإصرار رغم رفض سلسبيل وأنس، لكنها أصرت مخبرة إياهم أنها بمنزلها.
وقفت أمل تنظر نحوها مفكرة، طالما لم تجلب تلك الطريقة نتيجة، فلديها الكثير.
وبالفعل، انتظرت حتى دلفت سلسبيل لابنها الباكي، وأنس وزوجها للصلاة، وقبل أن تخرج ملك من المطبخ، قطعت طريقها تناظرها بهدوء أرسل التوجس في قلب الأخرى، لكنها لم تُبدِ أي رد فعل حتى ترى القادم.
والقادم... لم تتوقعه، وهي تسمعها تسألها بهدوء: ابن ابني عامل إيه؟
أشرقت ملامح ملك فجأة، وهي تتحسس بطنها بحنان بالغ، قائلة بحمد ورضا: الحمد لله
والفضل لله... بخير...
ربنا يحفظه وييجي بألف خير.
حرّكت أمل شفتاها قبل أن تناظرها قائلة بتأكيد: يا رب دايمًا... إحنا هنكره؟ مش كفاية اللي خسرناه؟ يا ريت تخلي بالك منه... مش عايزين يحصل زي المرة اللي فاتت.
وتابعت بتحذير: وبلاش إهمال... بسببك وبسبب إهمالك إحنا خسرنا ابننا.
كانت ملك تناظرها بعيون متسعة وقد امتلأت عينها بحزن لم يغادرها أبدًا حتي وإن مرت الأيام، قبل أن تضم جنينها متشبثة به، كأنها تطلب منه العون، قائلة بقوة وأنفاسها تعلو من شدة الغضب والحزن: اللي حصل كان قضاء وقدر... ونصيبي إن ابني يسبقني على الجنة.
لو سمحتي يا طنط... أنا مسمحلكيش.
إنتي مش هتتقهري على خسارة ابني قدّي... ومش من حقك أبدًا كل ما تشوفي وشي تقولي كلام يجرحني وتدوسي على جرحي بالطريقة دي.
ابني محدش اتوجع عليه قدّي... الخسارة كانت خسارتي.
وتابعت بقهر من ظلمها المستمر: اتقي الله...
واعرفي إنك بتظلِميني بكلامك... وإنتي بتتهمي أم إنها السبب في موت ابنها.
طول الوقت وإنتي بتلوميني على حاجة ماليش أي ذنب فيها... بأي حق؟
وتابعت بقهر وقد بدت نبرة صوتها في الارتفاع دون أن تنتبه، وعيناها قد غامت رؤيتهما بفعل دموعها: إنتي ظالمة... وأنا مش مسمحاكي.
عارفة ليه؟
لأن في الوقت اللي الكل جه يواسيني... إنتي جيتي دوستي على جرحي ودلقِتِي عليه ميّة نار... وإنتي بتتهميني إني السبب... وإني قتلت ابني.
إيه؟!
همسة خافتة مصدومة أتت من خلفهم، حيث كان أنس يقف خلفهم وقد استمع إلى كل شيء... كل شيء.
❈-❈-❈
انتهت الزيارة.
حمل هو الصغيرة شمس، وتبعته هي بصمت.
صمتٌ مربكٌ لها هي قبله.
بداخلها الكثير من المشاعر المتضاربة.
بكل دقيقة تنظر إليه.
كان يضم شمس الغافية بين يديه، ينظر من نافذة السيارة، دون أن يضمها هي الأخرى.
كان شاردًا صامتًا، وهي أيضًا، والأفكار في رأسها لا تتوقف أبدًا.
لا تدري إلى أين السبيل.
دمعت عيناها وهي تشعر برأسها على وشك الانفجار، قبل أن تبادر هي تلك المرة مقتربة لتنام على كتفه.
شعر بها تضع رأسها على كتفه، تطالبه بحقها، فلم يقدر سوى على ضمها إلى قلبه.
وبداخله الكثير من الأحاديث.
يتمنى أن تختاره، أن تسير في طريق غير هذا الذي تريده أمها.
خائف، بل مرتعب، فما أقسى الخذلان بين الأحبة.
وكم يدعو أن لا تخذله.
ودعت هي دعوة مماثلة بخوف شديد، وهي تكتم بداخلها دمعة متألمة، تخشى أن تخذله قبل نفسها.
❈-❈-❈
تسمرت أمل محلها، وهي توهم نفسها أنها لم تسمع صوت ابنها، لكن ملامح ملك والتي أكدت لها عكس ما تتمنى جعلتها غير قادرة على الحركة، وهي تدرك أخيرًا وقوف أنس خلفها، قبل أن تلتفت ببطء شديد، لتجد ابنها أنس بجانبه زوجها، الذي كان يناظرها بنظرات مستاءة موبخة، وسلسبيل بالخلف تناظر الوضع بوجه شاحب، تضم صغيرها وتبكي بعد ما استمعت لما قالته ملك.
كانت ملك تقف خلفها تبكي، ليس لأجل ما قالته فقط، بل لأجل أنس.
هي لم ترد هذا.
لم ترد أبدًا.
لهذا صمتت حتى حدث ما حدث.
لم تكن تعرف ماذا تفعل أو حتى ماذا تقول.
وقبل أن تنطق بحرف، سبقها أنس وهو يهمس بحيرة وألم: ليه؟ يعني ليه كل ده؟
كان والده يناظرها بيأس وتعب، خائف وللغاية من رد فعل ابنه والتي بدأ في الظهور فعليًا.
كم مرة تحدث معها؟
كم مرة نبهها لطريقتها مع ملك؟
لكنها كانت تسمع من أذن وتخرجه من الأخرى دون أي انتباه، أنها ستؤذي ابنهم قبل زوجته، وأنها في النهاية ابنة كبناتهم.
لكن عنادها وغبائهم هم من أوصلوهم لذلك الوضع،
لذا حاول الحديث قائلًا بصوت حاول أن يكون هادئًا محاولًا تدارك الوضع: أمل.. إيه الكلام ده؟
إنتي بتتكلمي في قضاء وقدر.. استغفري ربنا.
إلا أنها صاحت برفض: هي السبب.. هي السبب في موت حفيدنا.. ما كانت كويسة وفجأة الولد مات.. يبقى هي السبب.
شهقت ملك ودموعها لا تتوقف أبدًا، لا تقدر حتى على النطق، عن الدفاع عن اتهام باطل،
لكن هو نطق .. نطق بوجه شاحب غير مصدق، وعيناه تتابع ملك شاعرا بكل ما يجول في قلبها المنهك، قائلًا بقهر ومشهد فراق صغيره يتكرر أمامه: بس كفاية.. حرام عليكي..
إنتي بتقولي إيه؟
إزاي أصلًا تقولي كده؟
الطفل اللي بتلومِيها على موته ده.. ابني أنا كمان.
قالها بصوت خافت به الكثير من المرارة والانكسار، ليتابع وهو يرفع يده يمسح دمعة انفلتت منه:ابني اللي اتوجعت وقلبي اتحرق واتكوى بنار فراقه واتكسر مليون حتة وأنا بحطه تحت التراب قبل حتى ما أقدر آخده في حضني.
ابننا الله يرحمه توفي، مش بسبب ملك ولا بسبب إهمالها ولا إهمال أي حد.
ابننا توفي عشان ده عمره.. عمره انتهى في اللحظة دي.
لا أنا ولا انتي ولا أي حد في الكون كان يقدر يمنع شيء بين إيد ربنا.
مفكرتيش قد إيه انتي بتقهري مراتي؟
وقد إيه جاية عليها؟
وانتي في كل مرة تشوفيها أو تكلميها تقولي لها قد إيه هي مهملة، قد إيه هي أم وحشة.
مفكرتيش إن ممكن بسبب كلامك لا قدر الله يحصلها حاجة وهي حامل في حفيدك.. ابن ابنك.
وتابع بجنون: طيب سيبك منها.. خرجيها من حساباتك.. أنا.. أنا مش ابنك؟
إزاي تعملي كده مع مراتي؟
الست اللي يخصها يخصني، كرامتها من كرامتي، وحزنها من حزني، وكل اللي بتتعرض ليه كأنه ليا.. يعني كأنك بتتهميني إني اللي موت ابني.
وتابع بمرارة متطلعًا نحو ملك الباكية ووجهها الشاحب وقلبها المتهالك يروي ما تشعر به في تلك اللحظة: لدرجة إنها خبت عليا كل ده.. خبت وجعها عني.. خبت عشان متجرحنيش وعشان ميحصلش اللي هيحصل دلوقتي.. ولأنها خبت.. انتي اتماديتي.. وكل مرة بتزيدي أكثر.. بتدوسي أكثر بكل قسوة.. ناسية إنها إنسانة ليها طاقة وقدرة على التحمل.. بشر في النهاية.
لأمتى كنتي هتفضلي كده؟
يعني لو مسمعتش النهاردة.. كنتي هتفضلي تكملي؟
مشكلتك يا ماما إنك مش قادرة تعاملي ملك زي بنتك، لأنك أكيد لو شايفاها كده مستحيل تقبلي تعملي اللي عملتيه.
طول الوقت تعليقات عليها.. على كل حاجة.. شايفاها غلط في غلط.. إيه؟ مبتعملش حاجة واحدة تعجبك؟
وصمت لثواني، خافضًا رأسه يتنفس بغضب، قبل أن يرفع رأسه متسائلًا بسخرية: تقبلي حما من حموات إخواتي يعمل كده معاهم؟
أكيد لا.. ومليون لا.. يبقى اللي متقبلوش على بناتك.. متقبلوش على بنات الناس.
ملك مراتي وانتي أمي.. كل واحدة فيكم ليها مكانة خاصة.
لا حبي لملك هيقلل محبتي وتقديري واحترامي ليكي، ولا حبي ليكي هيقلل منها كزوجة.
انتي ليكي مكانة وهي في مكانة تانية.
بس انتي مش قادرة تفهمي ده.. وإن الست دي من يوم ما اتجوزتني وهي حاسة إنها غريبة وسطنا.. إنها مش مقبولة.. مرفوضة.
وكان ذنبها الوحيد إنها قبلت ووافقت عليا.. بس كفاية.
قالها بصوت حاسم وصوت أكثر حدة، وصوت أنفاسه العالية يزداد علوًا، وتابع بحزم وعيناه تواجه عين أمل: أنا مش هسمح إن مراتي تحس الإحساس ده تاني.
وأمسك يد ملك التي كانت قد اقتربت منه في خضم ما يحدث خوفًا عليه من شدة الانفعال،
وقال بحزم: أنا ابنك.. وكلامك وجزمتك على راسي من فوق.. وهجيلك وقت ما تحبي ويكون متاح ليا، بس مراتي مش هتدخل مكان هي مش مرغوبة فيه.. لأنها غالية عندي أوي.. ليكي عندي أنا وعيالي.. لكن هي.. هي.. لا.
مراتي خط أحمر.
قالها وهو يسحب ملك مغادرًا المنزل، واضعًا نهاية خطتها أمه بيدها.
❈-❈-❈
كان يجلس على فراشه بعد أن انتهى من أداء صلاته.
كان يظن أنه وبزواج أولاده ستنتهي مشاكلهم، لكن لم تكن سوى البداية.
غادر أمير، ودع حسام وملك صباحًا قبل مغادرتهم، وودعهم هم أيضًا وغادر.
يخشى عليه لن ينكر أبدًا، رغم سنه ومكانته الاجتماعية والعلمية، يظل أمير كطفل صغير يفعل ما لا يُحمد عواقبه.
لذا كان ولابد أن يتحدث معه قبل أن يغادر.
عودة لوقت سابق
كان يتحدث في الهاتف يتابع أعمال الشركة إلى حين عودته، ليقاطعه صوت طرقات الباب ودلوف أمير بعدها.
ابتسم له بهدوء وهو يغلق الهاتف، مراقبًا اقترابه قبل أن يقول بابتسامة: خلاص احنا ماشيين.
بادله مدحت الابتسامة مراقبًا ملامح ابنه المبتهجة للغاية قبل أن يقول: آه طبعًا الحماس واضح عليك والفرحة مش سيعاك.
وتابع بسخرية: إيه يا ابني كنا بنعذبك ولا إيه؟
ابتسم له أمير بحرج وهو يحك جبهته، لا يجد رد، وللحق أبيه محق.
يشعر بنفسه يُحلّق من السعادة، وأخيرًا سيعود لعمله، وأخيرًا.
قالها لنفسه يكاد يطير للمطار ليعود أسرع، إلا وأن لأبيه رأي آخر، وهو يجلس مشيرًا له على الفراش قائلًا بأمر: اقعد.
تأفف أمير بداخله يريد أن يخرج من الغرفة، فواضح أن القادم لن يعجبه أبدًا، وبالفعل جلس مضطرًا ناظرًا للأرض.
ليظل مدحت يطالعه دون أي رد فعل، حتى توجس أمير من هذا الصمت، ورفع رأسه لتقابله عيني والده المتفحصة والتي كانت تحاصره كأنها تحاول أن تستكشف دواخله.
وظلت النظرات الصامتة متبادلة بينهم حتى نطق مدحت أخيرًا قائلًا بتأكيد: أنا مش عاجبني وضعك يا أمير، مش عاجبني أبدًا.
انت يا ابني خلاص حياتك كلها بقت شغل ولا إيه؟
يا بابا..
قالها أميرًا بنزق، ليسكته مدحت بيده متابعًا بحزم: فوق لنفسك لبيتك ومراتك وعيالك، فوق عشان أنتم ماشيين انت ومراتك في الطريق الغلط، وكل اللي بقى فارق معاكم شغلكم وبس.
أنا مش هقدر أنصحها رغم إني بعتبرها زي ملك وآلاء، بس يمكن هي متتقبلش مني النصيحة، بس انت ابني وواجب عليا أنصحك وأفوقك، وأقولك فوق.. فوق لنفسك، الشغل والفلوس مش كل حاجة.
وتابع مشيرًا لنفسه: أنا أهو عندك، عملت بالفلوس إيه؟ أهي مرمية.
هتعيش قد إيه؟ سنة؟ اتنين؟ عشرة؟ عشرين؟ خمسين؟ لازم تعمل لوقت الفلوس مش هتكون كفاية.
خد بالك من عيالك، اهتم بيهم، واعملهم وقت، افصل من شغلك.
وهقولك تاني: فوق لنفسك، واعرف إن الشغل مش كل حاجة، ولو ضاع يتعوض، بس بيتك وأسرتك هم الخسارة الحقيقية، اللي لو خسرتها هيكون وجع ما بعده وجع.
كان أمير يستمع إليه بوجه جامد غاضب.
ليتنهد مدحت قائلًا بيأس: يا ابني أنا مش بقولك كده عشان أضايقك، أنا عايزك تفوق، وتعرف إن الحياة مش زفت شغل وبس، الشغل جزء من حياتنا مش حياتنا كلها، قسم وقتك جزء شغل، جزء لأهلك، جزء لنفسك، بس مش كله في اتجاه واحد.
أومأ له أمير بصمت، ليقبل يده بعدها قائلًا بهدوء: حاضر يا بابا.. حاضر.
وغادر الغرفة والبلد بأكملها.
عودة للوقت الحالي
ابتسم ساخرًا وهو يتذكر أنه من شدة انشغاله بالهاتف نسي حقيبة من الحقائب، ليحملها له منير بسرعة إلى المطار خلفهم.
وواضح وضوح الشمس أن حديثه ذهب مع الريح، وكم يتمنى أن يفيق قبل أن تأتي الرياح بما لا يشتهي أبدًا.
❈-❈-❈
طوال الطريق يضمها إلى صدره بصمت، متشبثًا بها وكأنه يستمد منها أمانًا قبل أن يمنحها إياه.
لم تخبره.. لأجله.. رضيت أن تحتضن ألم كهذا وحدها.
كم مرة بكت دون أن يضمها صدره أو يربت على قلبها المنهك.
زاد من ضمها، وما إن وصلوا حتى صعدا لغرفتهما سريعًا.
تريد هي بعض الخصوصية، بحاجة هي إليها.
وبالفعل، وما إن دلفوا الغرفة حتى طالعها قبل أن يقول بخفوت: مكنش ينفع تخبي.
رفعت وجهها لتقابلها عيناه المتألمة، قبل أن تقترب منه ترفع يدها تمس وجنته قبل أن تهمس بخفوت: عشان كده خبيت.. عشان الحزن اللي في عينك ده.. أشيله لوحدي ولا أخليك تحس بيه.
مقدرش.. وجعك بيوجعني أكثر من وجعي على نفسي يا أنس.. ازاي كنت أقول.. ازاي؟
قالتها وقد بدت كمن يكتم غصة متألمة ودموع تأبى أن تدعها تتحرر.
فلم يجد نفسه سوى وهو يضمها، يهديها الكثير من الأمان واطمئنان، كان هو أكثر حاجة إليه.
ولم تبخل هي، فظلت ليلتها تضمه بقوة، معلنة لنفسها وله أنها انتصرت في حرب دامت طويلة، حرب كان هو فارسها.
❈-❈-❈
بعد الكثير من الصمت، قررت أن تخاطر وتحادثه، وليحدث ما يحدث.
وبالفعل أعدت أكواب الشاي بأعواد النعناع، وشطائر الجبن بزيت الزيتون والزعتر، وانضمت له بعد أن شعرت به قادرًا على تقبل ما ستتفوه به.
جلست بجانبه تناظره بهدوء، قبل أن تقول وهي تراقبه بحذر وتردد، وهي تعض شفتاها بقلق من القادم: عمر كنت حابة أخد رأيك في حاجة.
رفع عينه نحوها قبل أن يبتسم قائلًا بهدوء وهو يشعر بترددها: قولي يا حبيبتي.
عمر.. أنا عايزة أشتغل.
قالتها بهدوء وعيناها تراقب وجهه وردة فعله، و بداخلها قلبها ينتفض من الخوف.
هي لا تريده أن يرفض، تريد موافقة، وستحصل عليها مهما حدث.
ليطالعها هو بيأس متنهدا بتعب، و بداخله يردد: ها قد عدنا لنفس الموضوع من جديد.
وقبل أن يفتح فمه متفوها بالرفض، كانت تضع يدها على فمه تمنعه، قائلة برفق: ممكن تسمعني؟
أنا مش فاهمة أبدًا، الطريقة دي غلط يا عمر.
إنت وعدتني نتكلم ونتناقش، يا أقنعك يا تقنعني.
أوفي بوعدك ليا.
أغمض عيناه بتعب، هو وعدها ولن يخلف وعوده من جديد.
وبالفعل ابتسمت هي براحة، قبل أن تهمس بخفوت راجي: أنا محتاجة أشتغل يا عمر.
وقبل ما تفهم إنه عشان الفلوس، أنا تعبت أوي أوي في الكلية، كنت ببذل كل طاقتي ومجهودي عشان أوصل للي أنا فيه.
كمان أنا طول اليوم بفضل قاعدة لوحدي، ومحتاجة أملأ وقتي وفراغي عشان أحس بالاستقرار أكتر.
صدقني.. أنا محتاجة الشغل ده.
يا عمر.. سيبني أحاول، والبيت مش هيتأثر أبدًا، وعد مني.
قالتها بتأكيد وهي تشدد على يده.
كان يناظرها بعين رافضة، قبل أن يقول بهدوء: يا فريدة.. الشغل مش زي ما انتي فاكرة، متعب ومرهق، وهتقابلي فيه أشكال وألوان، والحقيقة أنا مش حابب أبدًا تتعرضي لحاجة من اللي الواحد بيشوفها.
قالها مفكرًا في ما حدث مع روفيدا.
كان يناظرها بعيون خائفة حقًا، حتى أن وجهه كان قد بدأ في التعرق، فرفع يده يمسحه، إلا أنها سارعت قائلة بتأكيد: أنا شفت النهاردة إعلان طالب مهندسين، وشركة كبيرة وليها اسمها.
يعني لو ربنا أراد واتعينت فيها، أكيد مش هيكون فيها أي مشاكل طالما أنا في حالي وبعمل شغلي على أكمل وجه.
يبقى إيه اللي هيجيب مشاكل؟
سيبني أجرب يا عمر.
قالتها برجاء طفولي، وهي تجلس أمامه تناظره بعيون متسعة متحمسة، وهو يناظرها بتردد رافض.
ففي النهاية فريدة لم تتعامل مع العالم الخارجي، لا في منزل أهلها، ولا في منزله.
ويظل رعبه وخوفه يلوحون في الأفق أمام عينه.
كانت هي تراقب ملامح وجهه المفكرة، تكاد تقفز سعيدة ببدء تفكيره، ترى بداية اقتناعه.
لكن ويبدو.. ويبدو أن إقناعه كان أصعب مما تخيلت هي، فبعد ساعة كاملة من النقاش، يجاوره بعض الحدة والخوف والكثير من الأسئلة والتردد، انتهى أخيرًا بكلمة واحدة رسمت الابتسامة على ملامحها القلقة وهو يقول بهدوء متردد: خلاص.. موافق.
متردد؟ نعم.
خائف؟ نعم أيضًا.
لكن لن ينكر أنه لأجلها ولأجل وحدتها وافق، فهو لا يريد أن يراها تعيسة، هذا في المقام الأول، ولوضعهم الحالي في المقام الأخير.
ففي النهاية لا مشكلة من خوض التجربة، طالما في إطار الأمان.
صاحت بسعادة وهي تلقي بنفسها بين أحضانه، مهللة بسعادة وفرحة، انتفضت على أثرها لوزة النائمة، تناظرها بقرف وهي تصيح هي الأخرى، قبل أن تضمها فريدة بسعادة مقبلة إياها.
ورغم كل ما حدث اليوم، ترى فريدة أنها نهاية رائعة ليوم مليء بالمشاحنات.
وأسرعت تلتقط هاتفها تريه طلب الإعلان وتخبره التفاصيل، مقررة أن تذهب للمقابلة.
وبداخله هو.. خوف قد بدأ في النمو،
فالأميرة الصغيرة ستخرج للعالم الخارجي.
❈-❈-❈
يجلس على مكتبه يطالع الملفات أمامه دون أي انتباه،
ولا ذرة حتى.
بداخله الكثير من التشوش والتفكير،
الكثير من الغضب إن صح التعبير.
ما حدث لم يؤثر بقلبه،
بل مس الأهم بالنسبة إليه،
كرامته التي مستها روفيدا،
مستها بكل غباء.
محادثة عمر له كانت كعود الثقاب وقد ألقاه في كومة القش،
ليحترق ويحرقه.
لم يكن غِرًا ساذجًا ليعتمد على حديث أو دليل عمر وحده،
بل كان يحتاج للمزيد من التفاصيل.
وبالفعل خلال أيام من البحث من رجاله،
وصلته النتائج،
كانت كارثة.
يتذكر اتساع عيناه بصدمة وذهول مما يقرأه،
مفكرًا بغضب وجنون،
ما كل تلك المصائب!
مَن هو متزوج من رئيسة عصابات!
كيف كان غافلًا عن كل هذا؟
وكيف استطاعت أن تخدعه وتفعل هذا بتلك المهارة والدهاء؟
نعم كان منشغلًا،
لكن كيف فعلت كل هذا من خلف ظهره؟
ما كل هذا الظلم الذي فعلته؟
أطاح بكل ما على المكتب متذكرًا شعوره وقتها.
لم تكن المخطئة وحدها رغم كل شيء،
بل الخطأ أيضًا منه ومن تغافله بتلك الطريقة.
ضرب بيده على المكتب عدة مرات حتى ابيضت مفاصله من شدة الغضب.
لكنها كانت غبية،
ولم تعلم ما يحضره هو لها،
لأنها تستحق،
وبشدة.
طرقات على الباب أفاقته من شروده،
تبعها دخول مساعده الخاص بسرعة،
بملامح متوترة شاحبة للغاية،
كان هناك ما حدث.
وبالفعل،
كان يحاول التحدث وحينما لم يعرف،
أعطاه الهاتف بحذر،
ليأخذه منه بسرعة،
قبل أن تتسع عيناه مستقبلًا الصدمة الصاعقة،
وخبر انتحار روفيدا يظهر أمامه.
انتحرت.
قالها بهمْس خافت يحمل دهشة ثقيلة.
وكان الخبر زلزل بداخله شيء يرفض حتى أن يعترف به،
متسائلًا
أكانت ضعيفة لتلك الدرجة؟
استحقت أم لا؟
سؤال،
لا إجابة له عنده.
روفيدا،
صفحة سوداء بحياته،
وأحرقها هو،
دون لحظة تردد.
❈-❈-❈
يتسطح في مكانهم المعتاد يقلب في هاتفه بلا مبالاة،
وفريدة في المطبخ،
قبل أن تصله رسالة من أحد أصدقائه في المكتب.
كاد أن يتجاهلها للوهلة الأولى،
لكن اسم واحد جذب انتباهه بالكامل ،
فأسرع بفتحها،
وكانت الصدمة الكبرى بالنسبة له،
وهو يشاهد الخبر الاكثر انتشارا وجدلا
خبر أنتحار مديرتهم السابقة.
انتحار روفيدا.
ارتعش جسده بقوة،
شاعرًا به يتعرق دفعة واحدة وفجأة،
والسؤال المرعب يضرب رأسه بلا رحمة
هل كان السبب؟
هل بسبب كشفه لحقيقتها انتحرت؟
هل هو السبب ومن دفعها لتلك الخطوة؟
أكان ظالمًا
أم مجرد مظلوم دافع عن نفسه في حرب قذرة أبى حتى أن يلوث روحه بها؟
ووسط دوامة الأفكار،
أتت فريدة تبتسم له،
ليحاوطها سريعًا وبقوة،
بقوة أدهشتها هي،
لكنها لم تبخل عليه بالكثير من الحنان،
وبداخله هو،
كان يحتمي بها من أفكاره،
لكي لا يسقط في هذا البئر.
❈-❈-❈
وقف مدحت على باب غرفة تميم يهز رأسه بيأس وإرهاق حقيقي من هذا الولد العنيد،
حيث يجلس على الفراش تتناثر حوله الكثير من الملفات الخاصة بالعمل، يتابعها، يدرسها، يوقعها بعد أن أتى أحد العمال له بها،
وبجانب تميم الصغير يبعثر الأوراق التي يرتبها تميم ويطالعها بفضول حقيقي واهتمام هو الآخر،
وللصدمة كان تميم الكبير يحادث تميم الصغير بهدوء وعملية تامة،
يستشيره في الصفقات كأنه سيفهمه فعلًا،
والآخر متفاعل يناظره بهدوء يهز رأسه.
انفلتت منه ضحكة عابثة وهو يرى الصغير يمسك القلم يود التوقيع كخاله،
إلا أن تميم أمسكه سريعًا يمنعه،
ليعترض الآخر برفض.
وحينها تدخل مدحت ليفصل بينهم،
قائلًا بهدوء وحنان للصغير، مادًا يده ليحمله: تعالَ يا تيمو لجدو.
إلا أن الصغير رفض،
وهو يلقي بنفسه فوق خاله يطالب بالبقاء هنا.
ضمه تميم بحنان شديد،
فرغم حبه وعشقه للصغار أبناء إخوته جميعًا،
يظل تميم الأقرب لقلبه.
ابتسم مدحت وهو يراقبهم،
قبل أن يقول بعتاب واستياء: الدكتور قايل ترتاح وبلاش إجهاد،
تقوم انت تبعت تجيب الشغل هنا وتقعد تشتغل!
يا ابني حرام عليك.
إلا أن تميم ربت على يده قائلًا بهدوء: أنا بخير يا حج،
وانت رافض أروح الشركة،
وأنا عايز أشتغل،
الشغل بجد هو اللي هيخليني أخف.
ثم يعني أنا بعمل إيه؟
أنا قاعد في السرير بوقع وأتابع الشغل من هنا،
يعني مش بتعب الحمد لله،
متقلقش ،
أنا بخير وبصحة لله الحمد.
ابتسم له مدحت بحنان يحمد الله أنه بخير،
وكان تميم يراقب شروده.
غادر أمير،
سيتبعه الجميع في أي لحظة،
وسيعود المنزل فارغًا من سواهم من جديد،
إلا أن هناك شيئًا آخر.
لذا تساءل بهدوء وترقب: بابا؟
طالعه مدحت،
ليتابع تميم: في إيه؟ مالك؟
كان مدحت في حيرة من أمره،
لم يعتد أن يخفي عن تميم شيء،
هو أكثر من يفهمه،
لذا ورغم تردده إلا أنه قال بحزن والهم يملأ قلبه: حال آلاء مش عاجبني يا تميم.
ناظره تميم بصمت قبل أن يردد بقلق هو الآخر: كنت ناوي أكلمك عنها،
آلاء مش على طبيعتها أبدًا،
فيها حاجة،
بس كل ما بحاول أكلمها بتهرب،
حتى رامي مختفي،
أنا مستغرب إنه مكلمنيش ولا كلم حد فيكم،
غيابه غريب،
أنا رنيت عليه أطمن بس هو مردش،
قلت يبقى أكيد في حاجة حصلت وهي رافضة تتكلم.
أومأ له مدحت بكآبة،
فصغيرته تمر بما لا يعلم عنه شيء،
إجابة بتأكيد: أنا قلقان عليها،
حاسس بحاجة غلط بتحصل،
بس مش قادر أعرف هي إيه.
وطال الصمت بينهم،
قبل أن يقول بهدوء وغصة: أنا عايز أوصيك عليهم يا تميم،
بوصيك على إخواتك،
لو حصلي أي حاجة،
خلي بالك منهم،
حاوطهم،
أنت كبيرهم من بعدي.
انتفض تميم برعب يحاوط يده قائلًا باستنكار: انت بتقول إيه يا بابا؟
ربنا يبارك لنا فيك ويطول في عمرك،
حسك في الدنيا،
أنت كبيرهم.
إلا أن مدحت شدد على يده قائلًا بتأكيد: الدوام لله وحده،
هو أنا هعيش لكم العمر كله؟
أنا ليا يوم وهمشي من الحياة دي،
وأنا عارف إني ممكن أكون ظالم وأنا برمي عليك الحمل ده،
بس أنا واثق ومتأكد إنك قدها،
لأن قلبك شبه قلب المرحومة،
بيدي كل حب، كل حاجة حلوة،
عشان كده وصيتي ليك إخواتك،
وبالذات إخواتك البنات أمانة في رقبتك.
أنا خايف يحصلي حاجة،
وأنا مش مطمئن عليهم،
أنا من يوم ما آلاء جت وقلبي وجعني على منظرها،
كأنها بتتدبل رغم إنها بتحاول تبين العكس،
ساعات بحس بالندم إني وافقت على رامي،
يعني هو أنا كنت رافض في البداية من خوفي،
بس هو أثبت لينا العكس،
إنه شاريها، بيحبها، عايزها،
وأنا مش الأب اللي يرفض راجل عشان أقل من مستوانا المادي،
لأن كمان أنس كده،
بس لما بحطهم في مقارنة غصب عني،
بكتشف فرق كبير أوي بينهم،
على الأقل ملك جوزها راجل كويس،
بيتقي الله فيها، ويخاف عليها من الهوا الطاير،
آه مش معيشها في نفس مستوانا،
بس أنا مش فارق معايا،
هنعمل إيه براجل غني وتكون تعيسة؟
بس رامي طول الوقت بقيت حاسس إنها تعيسة معاه،
هي بتنكر،
وأنا مش لاقي دليل،
أنا دلوقتي ندمت إني وافقت على الجوازة دي،
وبفضل أفكر كتير أوي فيها وفي أولادها الأربعة.
أنا آه مأمّن مستقبل كل واحد فيكم،
بس شخصية آلاء أختك غير،
وخوفي عليها غير.
قالها بقلق شديد،
ولم يرها وهي تقف خارجًا تستند على الحائط،
تكتم بكاء لم تعد تتحمله.
❈-❈-❈
أسرعت نحو غرفتها، تحمد الله أن صغارها في غرفة الألعاب.
وقفت في منتصف الغرفة لا تعرف ماذا تفعل.
كل مخططاتها تلاشت أمام عيناها.
ماذا تفعل الآن؟
أتخبرهم بقرارها بالطلاق، ليسقط والدها حزنًا عليها؟
والدها ليس ذلك الرجل الضعيف الخائف، لكن يظل أب.
في النهاية هو أب، وخوفه عليها الأكثر من بين إخواتها.
هي امرأة في النهاية بأربع أطفال.
لم يكن خائف يومًا عليهم من الجهة المادية، بل كان الخوف الأكبر أن ينشغل الجميع وتحاوطها هي الوحدة والألم.
ماذا تفعل؟
أي طريق تسلك؟
كلاهما بهم الكثير من الألم، وكلاهما...
قاطع جنون أفكارها، طرقات الباب، تبعه دلوف والدها ينظر لها بابتسامة وحزم، يخبرها بالقادم.
وبالفعل جلس وأجلسها، يضمها إلى صدره، يمسح على خصلاتها بحنان بالغ، متسائلًا بهدوء: آلاء، فين جوزك؟
شعر بانتفاضة خفيفة تحت يديه، ليدرك أن الموضوع يحمل أكثر مما يعلمه، لذا أمسك بذراعيها يجلسها لتقابله قبل أن يتابع بقلق:
في إيه يا آلاء؟
إيه اللي بينك وبين جوزك؟
مختفي، متصلش يسأل على أخوكي؟
وإنتي متغيرة، ساكتة طول الوقت؟
في إيه بينك وبينه؟
وإيه اللي حصل عشان الوضع يوصل لهنا؟
كانت تطالعه بصمت، قبل أن تتخذ قرارها، فلا سبيل سوى هذا.
لذا قالت بهمْس خافت متألم: مفيش يا بابا، ده خلاف صغير بينا وهو مشغول للأسف،
معرفش ينزل معايا.
وأنا كنت حابة أفصل شوية، وكمان الولاد تعبنّي أوي فعشان كده تلاقيني طول الوقت مرهقة.
ناظرها مدحت بعينين قلقتين مترددتين، قائلًا باستنكار: مش لاقي وقت يتصل اتصال واحد حتى؟
أومأت له مؤكدة: للأسف في ضغط شغل جامد، أنا ساعات كتير كنت بقعد بالأيام مش بشوفه.
وكانت صادقة وساخرة.
إلا أنه تابع بإصرار: آلاء، احكيلي.. حصل إيه؟
أنا أبوكي.. معقول بتخبي عليا حزنك ووجعك؟
في حاجة.. أنا متأكد.
إلا أنها شددت على يده بابتسامة أجادت رسمها، وهي تقول بابتسامة: كله زي الفل، صدقني كله تمام.
ده حتى أنا قدمت سفري وهقول لحسام يحجز لي طيران معاهم أنا كمان.
وهرجع البيت عشان رامي لوحده.
وتابعت بصوت خافت متحشرج:
إنت متعرفش رامي بيحبني قد إيه يا بابا.. بيحبني أوي.
قالتها وقلبها يصرخ بأعلى صوت: كاذبة.. كاذبة وغبية.
أما مدحت، فكان يطالعها بتردد.
آلاء لم تعتد الكذب أبدًا.. فهل هي صادقة الآن؟
بداخله يعلم ويثق أنها حقًا متعبة، وقد أخبره تميم أنهم تلك المرة رغم أنفها وأنف زوجها سيرسلوا مساعدة خاصة لتساعدها في المنزل وأمور الصغار.
لكن آلاء لا تكذب.. هي لا تكذب أبدًا.
لذا ضمها إلى صدره بقوة، ولم يرَ تلك الدمعة الحبيسة بعينيها، وضحكة صامتة تقطر ألمًا..
ألم هي من قبلت به.
❈-❈-❈
وقفت خلف الباب تراقبه من الشِقّ الصغير،
في مكالمة تخطّت العشر دقائق، بهمس خافت ووجه هادئ.
كانت تراقبه بعين مشتعلة غاضبة،
بداخلها الكثير من المشاعر،
غاضبة، حانقة.
مع من يتحدث؟
سؤال كرّرته عشرات المرات في تلك العشر دقائق،
وهي تقف تراقبه بتلك الطريقة التي لم تظن يومًا أنها قد تفعلها.
لكن فضولها ومشاعرها الغاضبة
دفعوها إلى حيث لم ترد أبدًا.
لذا لم تجد نفسها سوى وهي تدفع الباب بهدوء، تدلف حتى وقفت أمامه.
وببساطة اختفت ابتسامته السعيدة،
وحلّ محلها جمود
وإغلاق للمكالمة،
وانشغال واهٍ.
حتى تساءلت وعيناها تتابع كل تحركاته: كنت بتكلّم مين؟
ولم يبخل عليها بالإجابة،
بل ببساطة أجابها وهو يتحرّك نحو الحمام، قائلًا بهدوء قبل أن يدلف: مكالمة شغل.
ولم يكذب.
لكن هي لم تصدّق.
ففي النهاية،
قد تملّك الشكِّ من قلبها.
كان صادقًا
وخائنًا حقيرًا.
❈-❈-❈
سارت نحو غرفة آسيا بملامح باهتة،
والكثير من الأفكار تراود عقلها،
أكثر مما تحتمل هي في تلك المرحلة.
لكن يبدو أن مشاكلها قرّرت أن تزيد واحدة،
وهي تدلف لغرفة آسيا،
وقد كانت الأخرى مسطحة على الفراش وظهرها لها،
وتتطلع في صورة ما.
صورة كبيرة مطبوعة،
وكانت لآخر شخص قد تظنه صفية.
كانت لتميم،
تميم مدحت العسلي.
❈-❈-❈
صباح الخير
رسالة صباحية بسيطة مليئة بالخير
ومع إشراقة شمس يوم جديد
تُعلن بداية صفحات جديدة
ربما مُزقت القديمة، وربما أُحرقت
لكن... هل طالتنا نيرانها؟
أم لم يحن دورنا بعد؟
ومع كل شروق شمس
يظل السؤال المُؤرق:
هل أُغلقت الصفحات القديمة؟
أم حان موعد إغلاقها... وإحراقها؟
لكننا في بعض الأحيان نغفل،
أنها ربما تحرقنا في طريقها.
ورغم كل ذلك،
تبقى الشمس تشرق،
والأيام تمضي،
والقلوب تجد ألف سبب
لتبدأ من جديد...
حتى وسط الرماد.
صباح الخير أبنائنا الكرام،
صباح الخير يا أهل الخير،
وقف تميم يضم الصغير تميم بجانب أبيه
يطالعوا مغادرة الجميع
حسام وأنس يتعاونوا لنقل الحقائب للسيارات
حور تحمل صغيرتها تقف بصمت على غير عادتها
الاء وصغارها
وأخيرا ملك التي أسرعت تضم والدها لا تريد البكاء
الجميع في صمت كئيب
رغم لحظات الفراق المؤلمة
إلا أن وفي تلك اللحظة
لم يكن صمتهم بسبب لحظة الفراق
بل كان لكل منهم سببه الخاص
حور تراقب حسام الصامت منذ أمس
وقد ظنت صمته وابتعاده بسبب مغادرتهم منزل العائلة
لكنه لم يفعلها قبلا وهذا ما قلقها أكثر
أنس شارد
والاء المبتسمة ابتسامة كاذبة
وعينا تميم لا تتركاها أبدا
هناك شئ خاطئ
حاول الحديث معها لكنها لم تقل أزيد مما أخبرت به أباها
تنهد بحزن
وقد حانت اللحظة أخيرا
لحظة الفراق
تبادلوا العناق
حسام الذي رغم همه كان حقا متأثر بتلك اللحظة
فلم يعلم كم ظل بأحضان أبيه ثم تميم
وملك التي انفجرت باكية ما أن ضمها أبيه ليودعها
وظلوا هكذا
واحد تلو الآخر
أنس حور الصغيرة شمس
وأطفال الاء
حتى حان دورها هي
وقد ظلت تؤخر نفسها حتى النهاية
كأنها تخشى من تلك الخطوة رغم كل شئ
وبالفعل ظلت في أحضان أبيها حتى شعرت أنها ستبكي
فلم تعد تتحمل كل هذا القدر من الألم
وانتقلت بعدها إلى صدر تميم
فأصبحت هي وابنها بين أحضانه
ضمها بقوة شديدة
مقبلا رأسها بحنان طاغي
كأنه يريد أن تظل هكذا لآخر العمر
فقط لتكون بخير
فقط ليراها مبتسمة مرة أخرى
وتمتعت هي بتلك اللحظات الدافئة بكل قوتها
تميم أخيها وأبيها الثاني
سندها ووتدها في تلك الحياة
كانت تكتم دموعها من شدة دفء مشاعر أخيها
وقبل أن تتحرك ليغادروا
رغم رفضها
مال تميم على أذنها يهمس بخفوت : أنا هنا أوعي تنسي أبدا
أنا جمبك
جمبك لآخر نفس في عمري
أوعي تترددي تتصلي بيا في أي وقت... أي وقت يا الاء
وإن شاء الله أول ما أقدر أسافر
هتلاقيني عندك
ولينا قعدة طويلة
قالها وهو يناظر عيناها بقوة
أومأت له بضعف وهي تحاول إيقاف دموعها التي أبت أن تظل محتبسة أكثر من هذا
وأخيرا أخرجت نفسها من بين أحضانه
وهي تسرع بحمل الصغير المتشبث به بقوة
يأبى أن يبتعد عنه
وما إن أثرت وجذبته بقوة رغم ممانعة وتشبثه بخاله
حتى انفجر باكيا وصوت صراخه يؤلم قلب الجميع أولهم تميم
الذي حاول أن يحمله مرة أخرى
إلا أنها هزت رأسها بنفي
وهي تخبئ وجهها بين أحضان الصغير الباكي
تُداري عيونها المتعبة
تحمل روحها لتغادر
نحو وطن لم يكن لها وطن
قبل أن تسارع لتصعد للسيارة
منطلقا بهم سريعا
وخلفهم تميم ومدحت يشاهدوا رحيلهم
بلقب غادر معهم
❈-❈-❈
وصلوا المطار،
وبكت مرة أخرى بين أحضان ملك وحسام حتى نضبت دموعها.
لكن قبل أن تصعد للطائرة، وقبل أن تتحرك خطوة واحدة،
كانت تمسك هاتفها وقد أرسلت رسالة تخبر بها رامي أنها عائدة مرة أخرى خلال بضع ساعات،
ليأتي دون أي تأخير، فبينهم حديث لا بد أن يدور.
وشددت على حضوره، وإلا سيحدث ما لن يحب أبدًا.
حسنًا... يستحق.
رامي لن يعيرها أي اهتمام سوى بنبرة تهديد،
وفي الحقيقة، هو بحاجة إليها.
فللبدء ببداية جديدة، يجب وضع قواعد جديدة.
صعدت الطائرة،
أجلست الصغار وقد غفوا واحدًا تلو الآخر من شدة التعب.
كانت تناظرهم بعين متفحصة،
صغارها... الأهم والأغلى.
هي ستفعل ذلك لأجلهم،
هي ستعود لذلك الرجل المسمى زوجها فقط للحفاظ على حياة مستقرة لهم.
نعم، لم يكن متواجدًا يومًا،
لكن فلتحاول...
فقط لتحاول للمرة الأخيرة،
لأجل أن يحيوا بسلام.
تنهدت بصمت وهي تستند على النافذة،
تضم الصغير تميم، والذي غفى بعد نوبة بكاء طويلة على فراق أخيها.
بكى حتى اكتفى فغفى،
وكم مزق قلبها بكاؤه.
لكن حتى هي ممزقة...
حتى هي دهست على قلبها وكرامتها وكبريائها،
دهست وبقوة دون أن تنظر لعواقب ما ستخوضه.
كانت حمقاء ساذجة لا تعلم،
هي لا تعلم أبدًا.
أخفت كل أفعال رامي لأنها تعلم أن أبيها وإخوتها لن يسمحوا لها بدقيقة أخرى مع رجل كهذا.
لا... ليس رجل،
بل مجرد ذكر.
لكن هي... لأجل صغارها،
لأجلهم...
دهست وستدهس على روحها.
هي ستحيا معه جسدًا بلا روح،
فاقدةً للحب...
للحنان...
للاهتمام...
فاقدةً لكونها امرأة تستحق،
لكونها تستحق الكثير، وهو لن يقدم سوى الخذلان.
ضمته بقوة قبل أن تغمض عينيها بإرهاق شديد لتغفو مثله،
راغبة وبشدة في الخلاص من ذلك التشوش بداخلها...
تشوش يشوه روحها ويقتلها ببطء...
❈-❈-❈
بعد عدة ساعات،
وأخيرًا هبطت الطائرة معلنة وصولهم.
كانت تسير ببطء، تضم تميم، والصغار الثلاثة في العربة نائمين ولله الحمد.
أما هي، وما إن استقرت أخيرًا بعد الإجراءات الروتينية المعتادة،
وقفت تخرج هاتفها، حيث كانت أصوات الإشعارات تصدر منه دون توقف أبدًا.
فتحته سريعًا،
لتستقر عيناها على وصول الكثير من الرسائل من رقم مجهول.
كادت أن تتجاهلها وتحظره على الفور كالعادة،
لكن لا تعلم ما الذي دفعها لرؤية ماذا أرسل لها، فامتد إصبعها سريعًا لفتح المحادثة.
قبل أن يتجمد إصبعها،
وتتجمد هي ايضا ،
قلبها يخفق بشدة، صوت أنفاسها الذي بدأ يزداد علوًا كانها تنازع للتقاطه.
حيث أمام عينيها وبين يديها،
كان قد أرسل وما زال يرسل،
صورًا.
الكثير من الصور لزوجها رامي، لكن لم يكن وحده.
بل تصحبه نساء،
الكثير.
واحدة، اثنان، ثلاثة، أربعة.
محادثات قذرة مخجلة.
شعرت بالغثيان الشديد،
وارتدت برأسها للخلف تلقائيًا غير قادرة على القراءة.
كان جسدها يرتعش قرفًا،
قبل أن تعود بعينها مجبرة إياها على التطلع،
وهي تتابع ما أرسل لها بعين مشمئزة ووجه متجهم.
واحدة تلو الأخرى،
مقاطع مصورة،
وأحدهم له يرقص مع إحدى الراقصات.
صور في أوضاع قذرة مثله.
مشاهد جمدتها،
أرسلت البرودة إلى أطرافها المرتعشة،
وهي تشعر بكل شيء يتجمد حولها.
كانها لم تعد تعي ما يدور.
وكان الزمن قد توقف،
وتميم الذي انفجر باكيًا فجأة دون أي مقدمات كانه شعر بها.
أما هي، فقد شعرت بحجر ثقيل قد وقع بقوة فوق قلبها،
فدعسه وسحقه دون أي رحمة.
ووسط كل تلك المشاعر المهينة،
لم تبكِ.
فقد جفت دموعها.
جفت وانتهت.
السابع والعشرين من هنا