رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) الفصل الرابع والعشرين 24 بقلم عفاف شريف
بين الرفض والقدر
عريس قيد الرفض

❈-❈-❈
"أحيانًا نحتاج إلى أن نغلق أبواب الماضي بلطف، لا لأننا نريد نسيانه، بل لأننا نستحق بداية جديدة. أن تُعطي قلبك فرصة أخرى للحب هو أن تؤمن بأن الجمال يمكن أن يُزهر مجددًا، حتى في أرض ظننتها جافة."
❈-❈-❈
قلبه مريض بداء لا دواء له.
تهتز روحه وتحترق مع كل نظرة شفقة تحيط به. غصة تأبى أن تفارقه يومًا. هُدمت أحلامه دون سابق إنذار. كعود ثقاب سقط عمدًا في كومة قش، فظل يراقب روحه وهي تحترق... وبكل بساطة، ها هو يبدأ من جديد، كأن شيئًا لم يكن، تاركًا قلبه جانبًا يحترق في صمت... صمت قاتل.
كان يجلس على الفراش بعد أن انتهى من ارتداء ملابسه بصعوبة، وبعد أن استغل خروج والده للصلاة، فبدأ ببطء وحرص كي لا يؤذي نفسه.
فجراحه لا تزال تؤلمه، لكن جراح جسده فقط هي ما تؤلمه.
وقلبه
وروحه
ألا يتألمان؟
بلا، والله، يتألمان.
بداخله الكثير، يريد ولا يريد، يود الهروب ولا يود.
بداخله الكثير يود قلبه البوح به، لكن بداخله يعرف أنه لا سبيل حتى بالبوح.
فالآلامه لن تنتهي.
كيف يحرق أحلامًا كان يسقيها كنبته كل يوم؟
حتى أصبحت شجرة كبيرة، جذورها منغرزة في أعماق قلبه المتعب.
لكن يظل السؤال يُطرح: إلى متى؟
هل سيفني المتبقي من عمره في كتاب أحرقت صفحاته ولم يتبقَ سوى الرماد؟
لم يكن هذا الضعيف يومًا، بل كان دائمًا قويًا رغم دواخله.
يرفض الضعف والانحناء.
لكن معها هي.
معها سلم راياته غافلًا أنه قد تصبح يوما العدو الذي يضع الرصاصة في قلبه دون قصد.
وكيف تقصد؟
وهي لا تعلم بحبه أصلاً.
غبي هو من أضاع الأيام منتظرًا الوقت المناسب،
فصدم بسرعة الواقع وقسوة الحياة.
أهي قسوة الحياة أم تأخره الغبي؟
هذا اللوم المستمر مؤلم.
أن تلوم نفسك على شيء لم تكن تفكر حتى في حدوثه،
فحدث ووقع بثقله فوق قلبك.
مؤلم.
والأكثر إيلامًا هو أنك مجبر على التخطي.
كان شاردًا صامتًا،
ولم يَرَ نظرات مدحت المحاطة به.
يعلم أنه سيعاني كثيرًا،
لكن بداخله إيمان أن تميم أقوى من هذا،
وأن بعد كل تلك الآلام،
فرحة كبيرة ستدق أبواب قلوبهم.
لذا تنفس بعمق،
وهو يرسم ابتسامة كبيرة على وجهه.
مُصدرًا صوتًا ليثبت وجوده وهو يدلف إلى الغرفة قبل أن يقول بتوبيخ وهو يراه وقد انتهى من ارتداء ملابسه: هتفضل طول عمرك عنيد، مش هتتغير أبدًا.
طالع تميم لثوانٍ قبل أن يرسم ابتسامة واهنة قائلاً بهدوء: محبتش أتعبك، كفاية تعبك كل الأيام اللي فاتت.
دي حاجة بسيطة، وأهو لبست وخلصت.
وتابع متسائلًا: هنمشي إمتى؟
أكد له مدحت وهو يخرج هاتفه رافضًا مكالمة حسام التاسعة وهو يقول: دلوقتي إن شاء الله، بس الدكتور يجي يطمنا للمرة الأخيرة، ونتوكل على الله.
ومع آخر كلمة، دلف الطبيب مبتسمًا بهدوء،
وقضى الوقت التالي في تفقد كل شيء خاص به.
وما إن انتهى حتى تحدث قائلا بهدوء: ما شاء الله، الوضع مبشر.
دلوقتي تقدر تروح البيت، مع الحفاظ طبعًا على الراحة والأكل والأدوية، والتغيير على الجرح وكل التفاصيل اللي اتكلمنا فيها،
وأهم شيء ممنوع الإجهاد.
مش همنعك ترجع لحياتك الطبيعية،
لكن بس إدي نفسك وجسمك وقت للتعافي،
وهتبدأ ترجع تدريجيًا.
والأهم من كده المتابعات،
ولو حصل أي مضاعفات، ضروري تيجي.
وممنوع الإهمال طبعًا.
أومأ له تميم بهدوء.
وبعد عدة دقائق أخرى من التعليمات، غادر الطبيب مع التمنيات بالسلامة.
ابتسم مدحت ابتسامة كبيرة أظهرت أسنانه قائلاً بسعادة:
اللهم لك الحمد. دلوقتي نقدر نروح.
أومأ له تميم بهدوء وابتسامة صغيرة.
وما إن وضع قدمه على الأرض حتى سأله مدحت بحاجب مرتفع: هتروح بالشراب؟
نقل تميم عيناه نحو قدمه قبل أن يبتسم بتذكر،
وقبل أن يميل ليرتديه،
كان مدحت قد جثا على ركبتيه،
متناولًا الحذاء ليلبسه إياه.
سحب تميم قدمه بسرعة ورفض وهو يتمتم بغضب: قوم يا بابا بتعمل إيه؟
رفع مدحت رأسه قائلاً بهدوء: إنت محسسني إنها أول مرة.
ما أنا ياما لبستك وأنت صغير.
هز تميم رأسه برفض قائلاً بهدوء:كنت يا بابا،
أنا كبرت خلاص .
إلا أن مدحت تابع وهو يسحب قدمه بإصرار:
وما زلت، إنت ابني.
هتفضل الطفل الصغير اللي كنت بلبسه وأحميه وأعمله كل حاجة مهما كبرت.
هيفضل ابني تميم الصغير في نظري ولو عمرك سبعين .
ابتسم له تميم بتأثر وهو يسمح له في النهاية،
وما إن انتهى حتى وقف ومدَّ له يده بابتسامة.
ليتلقفها تميم بهدوء،
مستندًا عليه،
مغادرين الغرفة
والمستشفى بأكمله.
وبداخل كل منهم الكثير من الألم،
مهما اختلفت الأسباب.
لكن يظل وجودهم سويًا
نعمة لن يقدرها سوى من كاد يفقدها.
❈-❈-❈
بعد مدة، تم الانتهاء من توزيع جميع الوجبات بنجاح وراحة، ليعودوا سريعًا قبل عودة تميم.
وبالفعل، تزامن وصولهم مع إجابة أبيه عليه بعد الكثير من المكالمات، يخبره بأنهم في الطريق وعلى وشك الوصول.
دلف كل من حسام وأنس إلى المنزل، فاسرعت آلاء قائلة بهدوء: خلصتو؟
أومأ لها قائلاً: الحمد لله، كله فرح ، كانت متيسرة جدًا، والحمد لله، الدعوات كانت تشرح القلب.
اللهم تقبل يا رب.
ابتسم الجميع بسعادة، والدعاء لا يترك ألسنتهم.
والجميع يفكر
ربما إطعام الطعام راحة وخير لهم قبل أي أحد.
إطعام الطعام رزق لا يعرفه سوى من ذاق حلاوة كل خطوة من خطواته، والفرحة بتحقيق دعاء طال كثيرًا.
لذا سارعت حور بالقول:طالما الحمد لله بما أنكم خلصتو، يبقى اطلعوا اجهزوا، عقبال اونكل مدحت ما يجي،
واحنا هنجهز السفرة ونحط الأكل بحيث كل حاجة تكون جاهزة مع وصولهم إن شاء الله.
هز حسام رأسه مؤيدًا،
وهو يسارع بالصعود ليستحم بسرعة،
يتبعه أنس بعد أن اطمئن على ملك.
والمتبقي يسارع بين تجهيز المتبقي من الطعام،
والانتظار بشوق وحنين لمقابلة تميم.
وأخيرًا، بعد الكثير...
❈-❈-❈
وبالفعل، بعد نصف ساعة، كان الكل يصطف في الأسفل في انتظار وصول تميم.
حتى الصغار ملؤهم الحماس لمقابلة الخال والعم تميم،
فهو يظل المفضل للجميع
مدلل صغار، وداعم الكبار.
فكان الجميع يجلس في ترقب وتوتر،
تحديدًا آلاء التي كانت تجلس وتتحرك كل ثانية والأخرى تنظر للباب،
قبل أن تتنهد بضيق،
جالسة بجانب ملك، تشدد على يدها بابتسامة.
وما هي إلا ثوانٍ واندفع صوت آية تصيح بحماس وفرح: خالو تميم جه!
خالو تميم جه يا مامي!
التفت الجميع يطالعون الصغيرة،
قبل أن ينتفض حسام بسرعة، تتبعه آلاء،
كل منهم يركض في اتجاه الباب.
فكان حسام الأسرع والأقرب، وهو يفتح الباب،
قبل أن يقف، يناظر هذا الواقف أمامه، بجانب أبيه، يناظرونه بابتسامة سعيدة.
اهتزت ابتسامته قبل أن يندفع نحوه، يحتضنه بحرص شديد،
وهو يربت على ظهره، مقبلاً كتفه، قائلاً بصوت متحشرج، يهمس باشتياق وسعادة:
نورت بيتك يا كبير، نورت الدنيا كلها،
ألف ألف حمد لله على السلامة يا حبيبي.
ربت تميم على ظهره بحنان كبير،
قبل أن تزيحه آلاء الباكية،
وهي تلقي بنفسها بين أحضانه،
لتنفجر بعدها في بكاء عالٍ كطفلة صغيرة.
تأوه بالم وهو يشدد من احتضانه،
مراقبًا اقتراب ملك وهي تشدد على بطنها برعب،
تبكي هي الأخرى.
ناظرها بحنان وشفقة، وهو يفتح لها الذراع الآخر.
ظلت تطالعه لثوانٍ،
قبل أن تدس نفسها هي الأخرى بين أحضانه،
باكية بكاء سعيد.
وما إن ضمهما بحنان واشتياق،
حتى أغمض عيناه،
يحبس دمعه، أبيًا حتى أن يحررها.
دمعة لا يجب أن تخرج أبدًا.
❈-❈-❈
اجتماع طال كثيرًا حتى صار حقيقة ملموسة،
بعد تناول الطعام في جو أسري دافئ،
وقد حل محله في مقعده الفارغ بدونه طويلًا.
جلسوا مجتمعين
تميم الممدد على الأريكة،
والباقين بأماكن متفرقة.
أتت حور تحمل عدة أكواب، لكل منهم طلبه الخاص،
خلفها آلاء بعصائر الصغار،
ومنير يحمل الفاكهة والمقرمشات.
جلست حور بجانب زوجها، تحمل الصغير شمس الذي غفت منذ قليل،
وآلاء بجانب تميم، والذي رفضت أن يجلس غيرها بجانبه،
سوى تميم الصغير المتشبث به، نائمًا على صدره بوداعه.
وكان مدحت يجلس مقابل تميم، يضم حفيدته مريم إلى صدره.
قبل أن يقول بهدوء، والفرحة تغمر قلبه:
طول السنة بكون بعد الأيام على معاد نزول كل حد فيكم،
وبعيش أنا وتميم شهور طويلة،
بيكون البيت هادي وساكت لدرجة أني ساعات بحس إنه ميت، مفيش فيه روح.
وروحه الدافئة راحت مع صاحبتها.
ومع دخول أول حد فيكم للبيت دي،
بيكون زي الشمس اللي بتطلع على أرض ضلمة بقالها كثير أوي.
ورغم العياط والصويت والدوشة والجري والصريخ،
وده بيجري، وده بيلعب، وده بيضرب،
والي أكيد أي حد مش هيحبها،
أنا بستناها،
والبيت ده بيحيى بيها،
بعيش في دفا وانتو فيه.
كان الجميع يطالعه بعيون سعيدة متأثرة،
ليتابع قائلاً بحنان وهو ينظر نحو حسام، ثم ينقل عيناه نحو تميم الصامت: يوم ما كلمتك تيجي القاهرة،
مسمعتش منك نبرة تردد واحدة،
مفيش حتى تفكير ثانية واحدة،
وفعلاً...
وتابع وهو ينقل عيناه عليهم واحدًا تلو الآخر:
جيتوا واحدًا وراء واحد،
بدون ما تهتموا بشغل ولا أي حاجة،
بدون أي تردد.
الكل كان هنا،
جمبي،
وجنب تميم،
كنتم سند ليّا لبعض.
صمت لوهلة قبل أن يردد باشتياق:
أمكم، الله يرحمها، كانت دائمًا تقولي
ازرع حب تلاقي حب،
زرعت خير في ولادنا، هتلاقي كل خير،
وهي زرعت،
بس يمكن الحصاد كان بيظهر قدام عينها بكل لحظة،
وقدام عيني،
وأنا شايفكم جنب وسند لبعض،
إنتوا قوة بعض.
مستحيل حد يئذيكم لو إنتوا سوا،
إيد واحدة،
حب وحنان واهتمام لبعض.
النهاردة إحنا متجمعين بفرحة خروج تميم،
لكن فرحتي الأكبر،
وأنا شايفكم حواليا عشان أخوكم.
أقدر أقولكم إني مش فارق معايا أسيبلكم فلوس ولا عقارات قد إيه.
أنا عارف إني سايب الأغلى من كنوز الدنيا كلها،
سايب اللي مش هيروح بالسنين.
وصمت ليكمل: سايبكم لبعض،
ده ورثي ليكم،
إنتوا ورثي في الحياة دي.
قالها والفخر يملأ قلبه،
فرغم انشغال كل منهم بحياته،
إلا إنهم يظلوا قلب واحد.
لذا تنهد بصمت وهو يفكر
أنه والآن، قد حان موعد الرحيل.
❈-❈-❈
اقتربت ملك من والدها تضمه بقوة ليكمل هو حديثه، يضمها بحنان: وزي ما طلبت منكم تيجوا وسبتوا كل حاجة فعلاً وجيتوا، رغم انشغال كل واحد فيكم والمسؤوليات اللي وراه. أنا بطلب منكم دلوقتي كاب، ترجعوا لحياتكم اللي وقفت عشان اللي حصل.
وتابع وهو يشير إلى أبنائه وزوج ابنته ملك: كلكم وراكم شغل، والولاد وراها مدارس ودروس وتمارين، وكل واحد ليه أشغاله وحياته الخاصة اللي اتدربكت طبعًا بسبب اللي حصل. عشان كده، اللي مكسوف أو خلاص مدة وجوده بتخلص، أنا أكيد مش هقدر أخليه يخسر شغله أو يهمل في بيته عشاني.
قالها وهو يراقب عيني أمير المتهربة من عينه. إحنا بنتجمع هنا وقت ما بيكون متاح ليكم كل سنة، بنتجمع عشان أنتوا حابين ده. لكن طالما اتجمعنا في وقت مش مناسب للكل، يبقى لازم أنا اللي أقولكم ترجعوا لحياتكم.
وهيفضل البيت ده دايمًا مستنيكم، دايمًا وأبدًا.
قالها بحنان وصدق وهو يضم ملك التي ردت بحزن وهي تمسك يده قائلة: بس أنا مش عايزة أمشي وأسيبك يا بابي. أنا عايزة نقعد شوية كمان معاكم. أنتوا وحشني قوي. كمان تميم لسه راجع النهاردة. ملحقناش نقعد سوا خالص.
مسح على ظهرها بحنان قائلاً برفق: معلش يا حبيبتي عشان خاطر شغل جوزك، وكمان إن شاء الله تبقو تنزلوا على معاد الولادة، أو لو الموضوع صعب وقتها أنا هاجي إن شاء الله.
قالها وهو يشدد على يدها عندما لاحظ ارتعاش جسدها عند ذكر الولادة. صغيرته ما زالت متأثرة بما حدث لها، بل لا زالت مرتعبة من الفكرة نفسها.
كان تميم يراقب ملامح الجميع ويده تمسح على ظهر الصغير الساكن بين ذراعيه. كانت الجلسة رغم دفئها، إلا أن هناك شيئًا ينقصها، والبوح به لن يزيدهم إلا ألمًا. لذا همس بخفوت صادق والابتسامة تتشكل على وجهه قبل أن يقول: بابا عنده حق. أنا والحمد لله بقيت بخير، لكن أنا مش هقبل تتعطلوا عن شغلكم وحياتكم أكتر من كده. أنتو جيتوا عشان الحادثة اللي حصلت، ولله الحمد أنا بقيت بخير ورجعت البيت تاني. فابدأوا جهزوا نفسكم عشان ترجعوا لحياتكم، رغم أنكم هتوحشوني قوي.
قالها وهو يقبل الصغير تميم، والذي ردها له بسعادة.
تحدث حسام قائلاً بحزن: أنا الحقيقة مش حابب أسافر ولا أرجع وأسيبكم، لولا فعلاً إني مضطر أرجع عشان إجازتي بتخلص. مكنتش همشي أبدًا.
ربتت حور على يده تدعمه، فهي تعلم كم يصعب عليه بتلك المرة تحديدًا أن يغادر. ابتسم لها تميم قائلاً برفق: السنة طويلة إن شاء الله يا حسام. في أي وقت الموضوع يكون متاح ليك وتقدر تيجي وأنت مستريح من غير دربكة. خلي بالك إحنا هنا في انتظارك دايمًا. البيت ده قايم بيكم ومن غيركم ولا أي حاجة.
تبادل الجميع أطراف الحديث، ليقرروا بعدها أنه خلال عدة أيام سيغادروا واحدًا تلو الآخر. أنس وملك بعد زيادة أهله سيرحلون، وأمير ويارا غدًا سيكون يومهم الأخير. حسام وحور أيضًا سيغادرون بعد زيادة عائلتها.
والوحيدة التي لم تشارك في الحوار أو تبدي خططها كانت آلاء. كيف تخبرهم بخطة هي لم تضعها بعد؟ لن تتحدث، فليغادر الجميع اولا. لن تربك الوضع أكثر بوضعها. هي تريد أن تتخذ قرارها وحدها، ولم تكن ترى أو تردك حتي نظرات أبيها التي تلاحقها، وهو يقرر أنه قد كان وقت الحديث معها، حديث قد تأخر كثيرًا.
اكثر من اللازم.
❈-❈-❈
كان يسير دون هوادة
منذ أن تخلى عن خاتم خطبته
وهو يشعر بالحطام من حوله.
ماذا حدث؟
وكيف حدث؟
رغم الكثير من السيناريوهات داخل رأسه قبل أن يقابلها،
كانت تلك أقساها وأشدها ألمًا.
أبتَركها؟ استراح؟
لا والله، بل أحرق قلبه.
أكانت ملاكًا ليحبها كل هذا الحب؟
لا، لم تكن.
لكنها كانت بكل هذا الغباء، فقررت أن تضع النهاية بيدها
دون حتى أن تجعله يلتفت للخلف ولو للحظة لينظر نظرة وداع.
تركها دون تردد،
هو فقط حزين على حبه المسكين،
ساذجًا.
كان يظن أنها تحبه.
تلك لا تعرف الحب.
هي لم تحب سوى نفسها.
حتى أنها تحب المال أكثر بكثير.
ألم تكن تعرف أنه كان يريد أن يضع العالم تحت قدمها إن استطاع؟
ألم ترَ جهده وإرهاقه في سبيل رسم ابتسامة واحدة على وجهها؟
لماذا تم محو كل هذا بلحظة؟
لحظة واحدة
كفيلة بحرق سنوات شقائه لأجلها.
تبا لحب يكسر قلب صاحبه.
لا يريد أن يعود للمنزل،
لا يريد سوى أن يظل بمفرده.
خطبة وحب دام للكثير
انتهت بغمضة عين.
أي ألم يعيش؟
لكن هي كانت هكذا، لا تستحق من البداية.
هو فقط من كان أعمى القلب والبصيرة.
وكانت هي تتلاعب به تحت مسمى الحب.
لكن لن ينكر أنها أيضًا لم تجبره ولم تضربه على يده،
بل هو من كان يسير يدعس نفسه لأجلها.
لذا، وإن أخطأت،
فالخطأ الأكبر خطؤه بكل الأحوال.
هو من سعى لبناء منزل أساسه من الهواء.
ظن أنه بالإجابة على طلباتها والدلال يسير في الطريق الصحيح.
لكنه غفل عن أن الدلال والحب والحنان ذات مكانة مهمة.
لكن كل شيء زاد عن حده انقلب ضده.
وها هو يحصد نتيجة العطاء المفرط.
ويا ليتَه،
يا ليتَه أبكر.
فاللام الآن أصبح مضاعفًا،
ولم يجد نفسه
سوى وقدماه تقودانه إلى أكثر الأماكن احتياجًا لها في تلك اللحظة
المسجد.
انتهى من الصلاة
وظل في مكانه قليلًا قبل أن يخرج.
كان لا يعلم إلى أين يذهب.
إلى المنزل حيث أمه التي بالتأكيد علمت بالخبر
وتجلس مقهورة عليه ومنه.
في النهاية، هي لن يرضيها ما حدث.
تري داليا ابنته،
لكنها لم تراها أبدًا يومًا أمًا لها.
ابتسم ساخرًا.
كم تغاضى؟
كم تغاضى حقًا؟
مواقف اثني عشره
لا حصر لها أبدًا.
كان أعمى وغبيًا،
يستحق، يستحق هذا الألم.
فهو ألقي بنفسه في النيران مرحبًا بالدفء،
غافلًا عن احتراقه في غمرة مشاعره الهوجاء.
فكانت النتيجة
كارثية.
لن يقدر أبدًا أن يعود للمنزل الآن.
إذاً إلى أين يذهب؟
إلى شقته.
وقف يفكر والوجع يتسرب نحو أعماقه أكثر.
شقة الأحلام،
الشقة التي دعس على نفسه وروحه المنهكة من أجل بناء كل قشة بها.
تلك الشقة التي حملت الكثير والكثير من الأماني والأحلام.
الآن وفي تلك اللحظة،
لا يريد أن يذهب إليها أبدًا.
لا يريد أن يذهب، لا يريد.
كان يقف في منتصف الشارع، ينفث بعنف،
شاعِرًا بالتيه والقهر والظلم.
ظالم ومظلوم.
ظالم نفسه،
وظلمته هي بطمعها وجشع روحها.
إلى أين يذهب؟
إلى أين يريح قلبه وعقله؟
إلى أين ليبرد تلك النيران
وهو يرى حياته قد هُدمت في غمضة عين؟
أغمض عيناه
وهو يتحرك ببطء.
هناك مكان واحد فقط
حيث يثق أنه سيجد ما يحتاجه
منزل تميم،
صديق الدرب ورفيق الألم وإن تعددت.
❈-❈-❈
تسطّح على فراشه بمساعدة حسام
وهو يتأوّه بإرهاق.
لقد أجهد نفسه اليوم أكثر من اللازم.
ناولَه مدحت كوب الماء والأدوية
وجلس بجانبه يعدّل له الوسادة.
انتهى ووضع الكوب بجانبه وهو يراقب نظرات كلٍّ منهم
قبل أن يقول بهدوء: تمام، يلا روحوا ارتاحوا.
لا.
كلمة واحدة قاطعة خرجت من الاثنين،
وكل منهما يناظر الآخر بعبوس ورفض.
ليتسائل تميم بتوجس غير مطمئن من القادم:
لا، إيه بالظبط؟
تأفف مدحت مجيبًا بنزق: لا، أنا مش هروح في حتة.
أنا هفضل جنبك هنا.
قالها وهو يندس بجانبه بسرعة ويرفع الغطاء على قدمه في رفض تام قاطع للمغادرة.
ارتفع حاجب حسام بغيظ مرددًا برفض هو الآخر: حضرتك تعبان،
ولو تميم احتاج أي حاجة بالليل، أنا أحسن أكون موجود.
أنت أصلاً تعبان ولسه مخدتش الأدوية.
اتفضل يلا روح نام،
وأنا هفضل مع تميم.
هز مدحت رأسه برفض تام.
فكان تميم ينقل عينيه بعين أبيه الرافض
وحسام المصرّ
قبل أن يقول ببساطة شديدة: مين قال إن في حد هيفضل هنا أصلاً
أنا مش عايز حد معايا.
وتابع وهو يلتفت لوالده: بابا، أنت تعبان وأنا كمان،
وأنا بقيت زي الفل.
مفيش أي داعي تفضل هنا.
أنا بخير يا حبيبي.
أنت أصلاً مبتعرفش تنام غير على سريرك.
كفاية الأيام اللي فاتت وقلة النوم والتعب.
لو حابب تشوفني مرتاح، نام في أوضتك.
زمّ مدحت شفتيه قبل أن يسأله بأمل:
طيب تعالَ أنت أوضتي.
انفلتت منه ضحكة يائسة وهو يجيبه بحنان:
أنا بخير يا حبيبي، زي القط بسبع أرواح.
قالها مشيرًا لنفسه.
اقترب منه يقبّل رأسه قائلًا بحنان: العمر كله يا حبيبي،
ربنا يا رب يحفظك."
ابتسم له تميم وهو يرفع يده يقبّلها بحنان.
ومع إصراره الشديد،
غادر مدحت الغرفة،
وحسام في محله يناظره ببرود.
رفع تميم حاجبه قائلًا بهدوء: بص، أنا تعبان ومش قادر أعيد اللي قلته لأبوك تاني.
زي الشاطر كده خد بعضك وخرج بره.
وحينما قابله نظرات حسام الرافضة،
رد بتعب:يا ابني،
أوعدك وعد.
لو حسيت إني محتاج مساعدة،
هرن عليك.
وأكمل بيأس وهو يرى نظرات حسام به:
يا ابني بتبصلي كده ليه؟
ده أوضتك جنب أوضتي،
الباب في الباب.
يلا يا حسام، توكل على الله.
بس اقفل الشباك الأول عشان الجو سقع.
ظل يناظره برفض،
إلا أنه تنهد بضيق
مغلقًا النافذة
ومتممًا على كل شيء.
دثّره،
وضع الماء،
الدواء،
المسكنات،
الهاتف،
كل شيء.
كان يتأكد مرارًا وتكرارًا كأنه يؤخر مغادرته.
ولم يحب تميم أن يوبخه,
حقه ولن ينكره.
إلا أنه وقف قائلًا بحزم:أنا صاحي.
أي وقت تتعب، نادي بس عليا.
هتلاقيني في ثواني عندك.
أوعى تعاند،
واكمل بغيظ :تميم.
ابتسم له الآخر بهدوء قائلًا بتأكيد:
"وعد يا سيدي."
وبعد التأكد من كل شيء للمرة التي لم يعد يعرفها،
غادر على مضض.
وأغمض تميم عيناه براحة افتقدها كثيرًا.
وأخيرًا.
❈-❈-❈
كان يقف أمام منزل تميم، ينظر حوله بتوتر وحيرة.
ماذا يفعل؟
ماذا يفعل حقًا؟
كيف أتى، وتميم لم يخرج سوى اليوم من المستشفى؟
كيف له أن يأتي في مثل هذا الوقت؟
تبا لغبائه!
كاد يلتف بسرعة ليغادر قبل أن يراه أحد، ولكن...
في الداخل، كانت آلاء تمسك فنجان القهوة بين يديها، مارّةً بجانب البوابة، تنظر حولها بلا مبالاة.
كانت تسير بهدوء، إلا أنها توقفت فجأة، قبل أن تعود بضع خطوات للخلف، حاجباها معقودان، وشفتيها مزمومتان، تتطلع إلى شاشة كاميرا المراقبة باستغراب، قبل أن تقرب وجهها بتوجس ظاهر في ملامحها، وهي تشاهد أحمد، صديق تميم، واقفًا أمام الباب يتطلع حوله بريبة.
فتحت فمها، تنقل عينيها بين ساعة يدها وصورته في الشاشة، بتعجب حقيقي، وهي تتساءل: ماذا يفعل هنا في هذا الوقت؟
زمت شفتيها، وهي تفتح الباب ببطء، وفي نفس اللحظة، كان أحمد قد عقد العزم على المغادرة، وقبل حتى أن يتحرك خطوة واحدة، كان الباب يُفتح، وآلاء تطل من خلفه.
انتفض، ينظر لها بحرج شديد، قائلًا بتوتر: "أنا... أصلًا... كنت عايز..."
كانت واقفة تنظر له، تحاول أن تفهم ما يريد، قبل أن تهز رأسها قائلة بهدوء، محاولةً أن تساعده، وهي تشعر به يكاد يسقط من شدة إرهاق وجهه وتوتره الشديد لمجيئه في وقت متأخر هكذا: عايز تميم؟
ظل ينظر لها، قبل أن يومئ بوجهه قانطًا.
للتتابع هي : أكيد طبعًا، اتفضل.
هزّ رأسه نافيًا، لا يجد ما يقوله في هذا الموقف غير الموفق بالمرة.
تبا لغبائه! ماذا يفعل هنا حقًا؟ ماذا يفعل؟
عقدت حاجبها، قائلةً برفق، محاولةً التخفيف من حدة توتره: مفيش مشكلة خالص، اتفضل، أنا هروح أنادي عليه.
زمّ شفتيه، قائلًا بجمود: مش مشكلة، خلّيني أحسن هنا.
كانت لا تعرف ماذا تفعل، تحديدًا أن الكل في غرفته، ولا أحد سواها.
لذا، لم تجد ما تفعله سوى أن تشير له على الحديقة بابتسامة هادئة، قبل أن تقول برفق: اتفضل لو سمحت، ثواني وأشوف تميم.
وغادرت سريعًا تحت نظراته المعلقة بها بصمت، فلم يجد نفسه إلا وهو يتجه نحو الحديقة، ويلقي بنفسه على الأرجوحة، وهو يكاد يسبّ نفسه من شدة الخجل، وقد أيقن أنه أخطأ بالمجيء.
❈-❈-❈
كان قد بدأ ينام فعليًا، قبل أن يسمع طرقات خفيفة على باب غرفته.
لُوهلةٍ ظن أنه يتوهم، لكن الصوت استمر...
دقّة وتصمت... دقّة وتصمت... كأن صاحبها متردد.
رفع يده عن وجهه، لكن وقبل أن ينطق بحرف واحد، كان الباب يُفتح لشِقٍّ كبير نسبيًا، ورأس صغير يَطِلُّ ببطء شديد من خلفه، قبل أن تلتقي أعينهما، لتبتسم له بحرج بليغ قائلة بغيظ: لما انت صاحي مبتردش ليه؟
ارتفع حاجبه يطالع وقاحة كلماتها، قبل أن يهز رأسه بيأس، قائلًا بإرهاق: عايزة إيه يا آلاء؟
زمت شفتَيْها قائلة بنبرة هادئة: أحمد صاحبك تحت.
عقد تميم حاجبيه، لتُكمِل هي بنبرة ذات مغزى: واضح إنه مش كويس أبدًا.
وخلال ثانية واحدة، كان خارج فراشه منتفضًا، لا يأبه بألمه... فصديقه بحاجة إليه، وهذا كافٍ بالنسبة له.
❈-❈-❈
ساعدته آلاء فقط ليهبط السلم، قبل أن يقف، يُحيط وجنتها، ويُقبِّلها بحنان وحُب.
ابتسمت له هي، ليقول بحنان وشكر: يلا يا لولو... دورك انتهى لحد هنا، اطلعي للولاد، أنا هكمِّل من هنا.
ورغم خوفها، إلا أنها تحرَّكت بهدوء، تاركة لهم بعض الخصوصية، ليتحرك تميم بعدها بحرص نحو الحديقة.
وما إن لفح وجهه الهواء البارد، حتى ضمَّ سترته جيدًا ليحمي جسده المُتعَب، ووقف بعدها يُراقب أحمد الجالس على الأرجوحة، تتحرك به ببطء رتيب، وهو لا يشعر بأي شيء.
وكان تخمينه أنه من المؤكد أن الأمر في غاية الأهمية... والأهمية عند أحمد تتلخص في اسم واحد: داليا.
❈-❈-❈
كان يُغمض عينيه، لا يشعر بشيء، يكاد يغفو في تلك الأجواء الهادئة بعد الكثير...
قبل أن يشعر بجلوس أحدهم بجانبه.
فتح عينَيْه ليُقابله وجه تميم المُرهَق، قابله هو بنظرة اعتذار حقيقية على وجوده في هذا الوقت ومع تلك الظروف، وكان تميم أول المتحدثين، قائلًا بقلق: حصل إيه؟
وأكمل بتقرير:داليا... صح؟
ظل أحمد يُناظره بصمت، قبل أن يُعيد رأسه للخلف، ضاحكًا ضحكة ساخرة مريرة تقطر ألمًا.
فكانت إجابته لسؤال لم يُسأل حتى.
فتساءل تميم بقلق: حصل إيه؟
هزَّ أحمد رأسه قائلًا: خلاص... إحنا خلاص... الموضوع انتهى.
عقد تميم حاجبيه قائلًا بحيرة: إيه؟ ليه؟ حصل إيه يا أحمد؟ يا ابني ده الفرح كان خلاص!
قابله صمتُ الآخر، ليُكمِل ببديهية: عشان الفلوس تاني؟ مش قلتلك يا ابني خد اللي تحبه؟ يا أحمد، معقول في بينا كده؟ فلوسي وفلوسك واحدة!
مش معقول تبوَّظ جوازتك عشان حاجة متوفرة والحمد لله!
وهرجع أقولك... لو زعلان ومش حابب تكون هدية مني ليك، مع إن ده حقي عليك، يبقى اعتبرهم سَلَف يا سيدي، ووقت ما يحلها ربنا... انت عارف، إحنا واحد!
كان أحمد يُطالعُه بصمت... أهذا ما أرادته داليا؟ أن يُطالبه بالأموال؟!
أي أموال قد تُساوي علاقته بتميم؟ لا مال العالم وما فيه يجعله يخسر هذا الماثل أمامه... فكم تبقى في عمره ليصنع تميم آخر؟
واحدٌ فقط أهدته له الحياة، وسيُحافظ عليه مهما تطلَّب الأمر... فالصداقة طوق النجاة وسط بحور الحياة.
طال صمته، ولا يعلم تميم ماذا يفعل...
وقبل أن ينطق بشيء، همس أحمد بصوت حزين متألم: أنا كنت خايف من اللحظة دي... كنت بشوف نظراتك اللي بتقول سيب وامشي ، من غير ما تقول، كنت عارف إنك عارف إن دي النهاية، بس كنت ساكت عشاني، وأنا كنت بعاند... بقول لا، أنا أقدر أغيرها، حبي قادر يغيرها، حبي هيكفِّينا، حبي وحبي... بس كنت غبي... لأنه وببساطة طلع حب من طرفي بس، حب غبي ومؤلم، بيوجع صاحبه بس!
عارف لما تعافر، ويطلع عينك في حاجة، وفي الآخر تطلع مش نصيبك؟
كان يُتابع حديثه، ولم يدرِ أن تميم لوهلةٍ كان يهمس بصدق، متألمًا... متألمًا بشدة: عارف...
مين قدي هيعرف؟
إلا أنه نفض من أفكاره صورتها، قبل أن يُعيد تركيزه لأحمد، قائلًا بهدوء: انت متأكد من قرارك؟ يعني متأكد إنك مستحيل تندم؟
لأنّي لازم أقولك إن وجعك وندمك على قرار زي ده هيكون أضعاف وجعك في اللحظة دي، فلازم تكون واثق ومتأكد إنه خلاص... ده قلبك!
أومأ أحمد مؤكدًا، قائلًا بتأكيد: متأكد... أنا عمري ما كنت متأكد من حاجة قد ما أنا متأكد من القرار ده، صدقني... لما الإنسان بياخد قلم يفوَّقه، ويخلّيه يشوف الحقيقة، بيعرف إنه كان أعمى القلب والبصيرة... لكن يشاء الله إني أفوق.
كان تميم يُطالعُه بشفقة، وقلبٍ متألم بشدة، قبل أن يُربِّت على يده، قائلًا برفق: طيب... احكيلي اللي حصل.
قابله الصمت أيضًا، لذا لم يُحب أن يزيد من الضغط، وتابع بهدوء: أنا ماعرفش إيه اللي حصل، ومش حابب أضغط عليك، وقت ما تحب تحكي وتتكلم... أنا هنا في أي وقت.
أوعي للحظة تتردد تيجي أو تكلمني، مهما كان الوضع، مهما كنت تعبان أو مشغول، كل ده يتركن على جنب وقت ما تحتاجني... أنا هنا.
دائمًا... أنا دائمًا موجود، وده مش كلام يا أحمد.
قالها بصدق، وهو يشدُّه نحوه، يُحضنه بقوة...
يريد أن يحمل ألمه... وليته يستطيع.
❈-❈-❈
كانت تقف تضم معطفها الأنيق وهي تكتف يديها، تنظر من النافذة بضيق.
إلى متى سيظل الحال على ما هو عليه؟
شهرٌ تلو الآخر يمر، وهي تشاهد ما يحدث بصمت...
تأخُّرُه كل ليلة، بسببٍ أو بدون، يتأخر ولا يرد عليها، والإجابة دائمًا: مشغول، لديه الكثير من الأعمال.
حسنًا، وما الجديد؟ لطالما انشغل، لكنه لم يكن يومًا هكذا.
يكاد لا يتواجد في المنزل، يأتي متأخرًا ويرحل باكرًا، لا هي تراه ولا هي تعرف ماذا يحدث، حتى هو... حتى هو تغيّر.
هناك شيءٌ لا تفهمه.
أصبح أشد جمودًا وقسوة، يلومها دون أي وجه حق.
والليلة تتبع أخواتها ككل ليلة...
رفعت عينيها نحو الساعة، فوجدتها قد اقتربت من الثانية بعد منتصف الليل.
أيُّ عملٍ يظل حتى هذا الوقت؟ أَيظنّها غبية؟
تشعر بالمياه تسير من تحت قدميها دون أن تفهم ماذا حدث.
أين أنت يا شوكت؟
قالتها لنفسها بحيرة، وقبل أن تمسك هاتفها لتحادثه، كان باب غرفتها يُفتح ويدخل منه.
لم ينظر إليها حتى، خلع رابطة عنقه ملقيًا إياها على أحد المقاعد بإهمالٍ لم يكن من عادته أبدًا، تبعتها سترته، قبل أن يأخذ منامته المُعدَّة سابقًا والموضوعة بعناية على الفراش، متوجهًا نحو الحمام.
إلا أن صوتها الحازم أوقفه وهي تتساءل بجمود: كنت فين يا شوكت؟
نظر لها بهدوء قبل أن يجيبها ببرود: كان عندي اجتماع مهم واتأخر شوية.
ارتفع حاجبها مرددةً بسخرية: اجتماع؟ اجتماع إيه اللي يفضل للساعة اتنين بليل؟! من إمتى؟ بقالك سنين طويلة شغال، جديد الموضوع ده... غريبة يعني!
تأفف بضيق قائلًا بلا طاقة:صفية، أنا جاي تعبان، ومش وقت جدال أبدًا. كنت في شغل، الكلام انتهى.
وبالفعل، انتهى.
ودلف إلى الحمام سريعًا، خمس دقائق فقط وكان في الفراش، ليغط بعدها في نومٍ عميق، تاركًا إياها بكل برودٍ وعدم اهتمام...
تقف محلها، دون حراك، وهي تشعر بسائلٍ باردٍ يحاوط قلبها، كلسعةِ سوطٍ ضربها بقوة.
وبينما عيناها تراقبه...
"كان الجرس الأول قد دق داخلها، مُعلنًا بداية مرحلةٍ طويلةٍ من القلق... قلقُ أنثى."
❈-❈-❈
صباح يوم جديد...
هو بدايةٌ للبعض، وربما نهايةٌ لآخرين غفلوا عن أن الدنيا يومٌ لنا ويومٌ علينا.
يومٌ نزهو فيه فرحًا بمجدنا، وآخر نتجرّع فيه خيبات أفعالنا.
فصباح الخير يا أصحاب الخير، وأهلًا بيومٍ سينال فيه كلٌّ منّا ما يستحق... أو ربما ما صنعته أنفسنا.
كان يقف أمام البناية التي يقع فيها المكتب، مفكرًا...
اليوم هو اليوم الأخير في مهلة التفكير الخاصة به.
تركته يومًا واثنين وثلاثة... أيّامٌ طويلة وإن كانت قصيرة.
طويلةٌ بلياليها، بذهنٍ شارد، مفكرٍ، مرتعب، وقصيرةٌ فكل صباحٍ يطلّ عليه يخبره بحزمٍ أنها تقترب.
وها هو يقف في اليوم الآخر، اليوم المحسوم.
أخفض رأسه يستغفر ربه كثيرًا، وصوت فريدة يحاوطه وهي تدعو له صباحًا:
"ربنا يحفظك يا حبيبي..."
أخذ نفسًا عميقًا ومنهكًا، متوجهًا للداخل.
❈-❈-❈
لكن وما إن وضع قدمه بالمكتب، حتى تأكد أن هناك شيئًا خاطئًا...
المكتب فارغ، لا أحد!
وفي نهاية الممر، عند مكتبها، كانت تقف هي مستندةً عليه، تناظره بعيونٍ متفحصة، كأنها تعلم متى سيصل، فانتظرته.
لم يكن يدرك ماذا يفعل، لكن لم يكن هناك حلٌّ سوى الدخول.
لذا، أخذ نفسًا عميقًا للغاية، وهو يخطو ببطء، خطوةً تلو الأخرى، حتى وقف في منتصف غرفتها، قبل أن يتساءل بخفوتٍ متعجب:
فين الباقي؟
اتسعت ابتسامتها أكثر وأكثر، تناظره بنظرةٍ لم تغفلها عيناه أبدًا، قائلةً بتأكيد: مفيش حد هيجي النهاردة... الكل في مصالح، ومحدش هييجي. النهاردة أنا وإنت بس!
كان يقف بوجهٍ شاحب، وملامح متجمدة، قبل أن تتابع هي قائلةً بتساؤلٍ واثق: ودلوقتي... قولي قرارك يا عمر! رغم إني عارفاه.
وتابعت بضحكةٍ شامتة، مستمتعة: بس حابة أسمعه منك انت!
قالتها وهي تقترب منه بشدة، تهمس بها...
كان يراقب تحركها حوله بعينٍ جامدة، وما إن طال صمته، حتى وقفت أمامه قائلةً باستنكار:
بتفكر في إيه؟! أنا بعرض عليك اللي يتمناه غيرك... وإنت ببساطة بتفكر؟!
اسمحلي أقولك إن ده غباء منك! غيرك كان قَبِل من أول لحظة!
وتابعت بحدةٍ ونبرةٍ أعلى من المعتاد، نبرةٍ مهدِّدةٍ بشدة: دلوقتي حالًا، قولي ردّك!
كانت تناظره بعينٍ واثقة، واثقةٍ تمامًا...
لكن، وخلال ثانيةٍ واحدة فقط، تبدّل كل شيء فجأة...
وقفت هي تتساءل بداخلها: ماذا يحصل؟!
كان عمر قد بدأ يناظرها بتحدٍّ غريب، تحديدًا بعدما رفع رأسه ينظر لها نظرة...
نظرة ثقة لا تعلم من أين أتت، وابتسامة بطيئة، بطيئة للغاية بدأت بالظهور على وجهه.
كانت لحظاتٌ بطيئة تطبق على أنفاسها، لا تفهم سببها...
وظلّت حرب النظرات الصامتة قائمةً بينهما لعدة دقائق، قبل أن يحرك رأسه لليمين قليلًا، محركًا يده ليُدخلها في جيب سترته، مخرجًا شيئًا صغيرًا... صغيرًا للغاية!
لكنها لم تكن جاهلة، واستطاعت ببساطةٍ التعرّف عليه...
لم يكن سوى مسجلٍ صوتيٍّ صغير!
وفي تلك اللحظة، رفعت عينيها المتسعة تناظره بصدمة...
وكانت عيناه تناظرها بصمت...
صمتٌ كاد أن يقتلها حيّة!
❈-❈-❈
ابتلعت ريقها، تجزّ على أسنانها بقوة...
لن يجرؤ... ستدمّره... لن يجرؤ على أن يفعلها أبدًا!
كانت ترددها لنفسها بكل ثانيةٍ مرّت عليها في تلك الدقائق المرعبة، قبل أن تواجه عينيه قائلةً بهدوءٍ رغم رعبها: أفهم إيه من البتاع اللي إنت ماسكه ده؟! فاكر إنك تقدر تهددني؟! مش عايزة أصدمك، بس ممكن مخلّيكش تخرج من هنا على رجلك! إيه رأيك؟!
إلا أنه، ولم تهتز منه شعرةٌ واحدة...
وتابع النظر إليها بصمت، قبل أن يضع إصبعه على زرٍّ صغيرٍ بجانب المسجل، ضاغطًا عليه...
ليصدح بعدها صوتها... صوتها من لقاءٍ مرّ عليه بضع أيام...
بآخر حديثٍ بينهما، وهي تخبره ببساطةٍ أنها تريده... وستحصل عليه!
الكثير من الكلام... والكثير من الأدلة...
كانت تستمع، والرعب يكسو ملامحها...
فلم تجد نفسها في لحظة تهوّر منها سوى وهي تهجم عليه، تحاول انتزاع المسجل منه!
ولوهلة، انتفض هو، غير متوقعٍ ردّ الفعل في تلك اللحظة، محاولًا التمسك به.
هي تجذبه وتصرخ...
وهو يحاول التمسك به...
ليرتمي المسجل بعيدًا إثر جذبه من الطرفين...
وكانت هي أول المندفعين بشراسةٍ ومرعبة، حتى تعثّرت وسقطت أرضًا، تمد يدها بسرعة لتمسك به... لكنها لم تلحق!
ففي نفس اللحظة، كان هناك حذاءٌ أسودٌ لامعٌ للغاية قد دعس على المسجل...
رفعت رأسها بسرعةٍ وجنون، تناظر الواقف، وقد ظنّته لوهلةٍ عمر...
لكنه لم يكن!
بل كان...