اخر الروايات

رواية سارية في البلاط الملكي الفصل الحادي والعشرين 21 بقلم هدير مجدي

رواية سارية في البلاط الملكي الفصل الحادي والعشرين 21 بقلم هدير مجدي 

الفصل الحادي والعشرون


لا تقف كثيرًا على الأطلال بكل يأس

خاصةً إن كانت الخفافيش قد سكنتها

وغربان اليأس أقامت بيوتها بها وأصحبت محطتها.

ابحث عن صوت عصفور يتسلل وراء الأفُق يرسم بهجتها!

ابحث عن قبس من نور وسط سرداب حالك فكان منارتها!



امتطت سارية مهرتها وبجانبها نيار يمتطي جواده بعد أن أمر الحراس بعدم إتباعهما، تومئ أنها جاهزة ، ثم انحنت لأذن مهرتها هامسة :

-"مهرتي أريدك لكي ننقذه.. هيا أريني ما لديك يا صديقتي"

ركلتها بقدمها ليسرعا الاثنان إلى الخارج باتجاه البحيرة، فهي الليلة الثالثة في ليالي البدر وفرصتها الأخيرة كي تأتي بهذا النبات قبل أن يختفي.

تركض بأقصى ما لديها ، وبين الحين والآخر تحث مهرتها على الركض والتحمل ، حتى وصلت إلى البحيرة لتهبط بسرعة وهبط نيار هو الآخر.

نزعت القلنسوة من فوق رأسها واندفعت تبحث عنه فأوقفها هاتفًا بتعجب وعيناه تحوم في المكان بغرابة :

-"ماذا نفعل هنا يا سارية؟!"

أشارت إلى ضفاف البحيرة هاتفة بلهفة وعينيها تحول بين عينيه والبحيرة :

-"كنا هنا عندما أصيب، أخبرني أن في ليلة البدر يخرج نبات على ضفافها فيه القدرة على شفاء السموم"

ثم انخفض صوتها بتهدج :

-"هذه آخر فرصة لدينا كي ننقذه"

هتف باطمئنان وهو يتخطاها نحو البحيرة :

-"اهدأي إن كان أخبرك بهذا فهو محق، هيا نبحث عنه"

ذهبا للبحث عنه فأخذا وقتًا طويلًا، ظلت تدور حول نفسها ولم تجده فكل ما على الضفة ما هي إلا حشائش صغيرة، يئست بشدة وسقطت على ركبتيها واضعة كفيها فوق فخذيها ثم رفعت رأسها للسماء تهمس :

-"ساعدنا يا الله، لم أعد أحتمل هذا العذاب"

انتبهت على صراخ نيار باسمها لتنهض مسرعة باتجاهه تراه ممسكًا بيده نبات غريب الشكل عبارة عن فرع رفيع به عدة فروع صغيرة منتهية بما يشبه الجعبة مليئة بحبيبات صغيرة حمراء.

نظرت له بدهشة ثم ما لبست ابتسمت بسعادة لينهضا بعدها يأخذان كمية كبيرة معهما ثم استعدا لطريق العودة.. هتفت له :

-"هيا نيار علينا أن نسرع"

التفتت أمامها فتسمرت وهي ترى مجموعة من الملثمين برداء أسود يقطعون عليهما الطريق، صهل الخيلان عاليًا وسارية تجذب لجام مهرتها بقوة وكذلك نيار ليقفا على ساقهما الخلفية ويلتفا حول نفسهما، نظرت إلى نيار بدهشة ليهتف بقوة إلى هؤلاء الملثمين :

-"من أنتم؟

ولمَ تقفون هكذا؟!"

لم يجبه أي منهم بل انقضوا عليهما بخيولهما فجذبت لجام مهرتها مرة أخرى تعود للخلف ونيار استل سيفه وبدأ بمحاربة كل من يقترب منه.

قفزت من فوقها واستلت خنجرها ليقترب منها شخص يلوح بالسيف فابتعدت عنه ثم نحرته.. اقترب منها آخر فقفزت بحركة بهلوانية قبل أن ينالها سيفه، ثم انتبهت لصوت نيار باسمها وإلقاءه بسيف إليها، التقطته تضرب من أمامها بقوة في صدره.

استمر القتال حتى انتهوا من الجميع، منهم من مات ومنهم من فر هاربًا، فاقترب منها يضع سيفه مكانه يبتسم بمكر وحفاوة :

-"لم يبخل بدر الدين على ابنته"

ابتسمت بفخر تنظر ليدها التي أصيبت بجرح، فنزع عمامته وقام بربط يدها بها، ثم نادت على مهرتها لتأتي و تعود سريعًا إلى القصر.

وصلا إلى القصر وأسرعت بقوة إلى جناحه، دلفت إلى غرفته وأمرت الطبيب أن يأتي بكوب من الحليب، رفضت أن يقوم غيرها بذلك عندما أخبرها كيفية استعماله، لتقوم بإذابة الحبوب فيه ورفعت رأسه بيدها تسقيه الكوب بروية.

ما هي إلا لحظات حتى قام بالسعال بقوة يفرغ كل ما في معدته وعودته للنوم مرة أخرى فنظرت إلى الطبيب بقلق فطمئنها مبتسمًا :

-"هذا يعني أن السم بدأ يتوقف لا تقلقي"

ناولها إناء مليء بخلطة حمراء :

-"ضعي هذه على الجرح مولاتي.. فقد قمت بطحن حبوب النبات مع مجموعة من الأعشاب والأدوية"

رفعت الضمادة ثم أخذت كمية على أصبعها وبدأت تضعها على الجرح، راقبت تعبيرات وجهه التي تشنجت قليلًا فوضعت كفها على كتفه تربت عليه ، حتى انتهت فبللت ضمادة أخرى بالسائل معالج ثم ربطتها حول كتفه.

كان نيار يراقب كل هذا وقلبه يدعو أن يجعل الشفاء قريب، بجانبه والدته تنظر لها بحقد تكاد تقتلها.. لو كانت النظرات تحرق لكانت سارية الآن جثة هامدة.

صدح صوتها لكبير الأطباء :

-"اذهب لترتاح فأنا سأظل بجانبه حتى الصباح"

كان صوت رقية هو المجيب لها تقابلها :

-"نتركك كي تقتليه هذه المرة صحيح"

قبل أن ترد عليها كان صوت نيار صدح بغضب :

-"أمي كفي عن هذا الحديث"

انكمشت للخلف ورعشة خوف دبت فيها، قبل أن تندفع من الغرفة بأكملها فأكمل :

-"هيا جميعًا.. سيبقى معه الطبيب الآخر"

ثم التفت لها مكملًا بهدوء :

-"سارية.. عليكِ أن ترتاحي"

خرج الجميع من الغرفة لتتقدم ليان منها تحيطها بذراعيها بابتسامة حنونة على ثغرها وقادتها إلى غرفتها، فقالت تجلسها ممسكة بيدها التي تربطها بوشاح زوجها :

-"أريني ماذا حدث لكِ؟"

نزعت الرباط ترى جرحها فعالجته وقامت بربطه، لتجدها تنظر لها وهمست كطفلة :

-"سيصبح بخير يا ليان صحيح؟!"

ضمتها إليها مربتة على كتفها وهمست لها تطمئنها :

-"إن كنتِ مؤمنة أنه سيكون على ما يرام فسيصبح كذلك"

قادتها إلى فراشها بعد أن بدلت ثيابها ، لتنام من التعب وما واجهته في هذا اليوم.

خرجت تتجه نحو جناحهما فرأته يقف برفقة جاد، على وجهه التعب والارهاق الشديد فدق قلبها بشفقة على حاله وحزن على ما يراه!

كلما أراد صنع السعادة بينه وبين أخيه يحدث شيئًا يفصلهما عن بعضهما!

لماذا القدر يقف بين هذين الاثنين؟

لماذا كل هذا الحزن وهو لا يستحق سوى السعادة؟

تنهدت باستغفار وتقدمت منهما بثقة تطلب من جاد أن يذهب ليرتاح، ثم قالت بصوت أنثوي حنون :

-"حبيبي"

نظر لها يتأملها، تلك القوية الهادئة!

معجب جدًا بهذا الهدوء والعقل، الذي يتحول عند غضبها فتصبح كأنثى الأسد في شراستها وثورتها.

وقفت أمامه تتأمل أثار التعب تحت عينيه الحمراء من قلة النوم فمدت كفها له قائلة :

-"تعالى.. عليك أن ترتاح حتى تستطيع أن تواصل"

نظر لها من أسفل عينيه وابتسم على كلمتها، ثم وضع كفه في كفها فهو بحاجة حقيقية للراحة كي يستطيع أن يفكر في كل شيء.. ضغط على كفها دون أن يتحرك لتنظر له بتمعن قبل أن تضع كفها الآخر فوق قبضتهما وتقول :

-"سيكون بخير ، أطمئن ليس بعد أن عدتما يدًا واحدةً تتفرقا من جديد، ليس عدلًا.. هيا حبيبي هيا"

أومأ برأسه يتحرك معها وقال :

-"أنتِ على حق.. سيكون بخير إن شاء الله"

★★★★★

الحياة ليست وردية بأكملها

لكنها ليست سوداء أيضًا

الحياة كعروس الماريونيت

تتلاعب بها يد المجهول

والمجهول لا يومئ عبثًا

ولا يعرف المزاح

المجهول هو القدر

ولغة القدر مميتة


انتفضت من فراشها بسبب طرق عنيف على باب جناحها فاستقامت ترى إحدى الخادمات تدلف بقلق، فمسدت وجهها بكفيها تزيح أثر النعاس من عينيها ثم انتبهت لها، رأت التوتر يبدو عليها فسألتها بحذر :

-"ما الأمر؟"

-"كبير الأطباء يريد رؤيتك في الحال مولاتي"

تسارعت نبضات قلبها وازدادت وتيرة أنفاسها، جذبت عباءتها الملكية من فوق الأريكة رابطة طرفيها تخفى رداء النوم أسفلها، وأسرعت إلى حيث ينتظرها في قاعة الاجتماعات لتدلف إلى الداخل باندفاع وقلق يسبقها تساؤلها يفصل بينها وبينه حجاب :

-"ما الأمر؟

هل الملك بخير؟

أرجوك لا تخبرني بغير ذلك أرجوك!"

تنهد الطبيب بقوة واضعًا كفيه فوق بعضهما يحاول أن ينمق كلماته حتى لا يخيفها أكثر، فقال برزانة :

-"السهم الذي تلقاه جلالة الملك كان مسممًا بسُم شديد لم يستطع هذا النبات أن يفعل معه أي مفعول بالرغم أنه شديد القوة"

وضعت كفيها فوق شفتيها برعب دب في أوصالها ، ودارت حول نفسها تفرك يدها بتوتر وقلق قائلة كأنها تحدث نفسها :

-"كيف لم يأتِ الدواء بمفعوله؟

لا لا إلياس سيكون بخير.. ليس مجرد سهم لعين يمكنه إضعافه بهذا الشكل لا ، لابد أن هناك حل بالتأكيد!

الله لم يخلق داء في هذا الكون إلا وله دواء"

هتف من الستار بصوت دب أملًا بداخلها :

-"الدواء موجود مولاتي"

لاحظ استدارة جسدها بلهفة تحثه على إكمال حديثه ، فأكمل بتردد:

-"لكن الدواء لا يوجد إلا في مكان واحد فقط"

عقدت حاجبيها بتساؤل ليجيبها بعد أن ابتلع لعابه :

-"هذا السم موجود في مملكة القمر.. مملكة الملك كهرمان ، والدواء ينبت في أرض الداء.

xxxx هذا السم هناك يا مولاتي لكن الإتيان به أمر مستحيل"

اتسعت حدقتاها وازدادت حركة صدرها ارتفاعًا وهبوطًا من تسارع أنفاسها، تعلم جيدًا العداء والكره الذي يحمله كهرمان لإلياس، فلقد حدثها عنه من قبل!

صمتت طويلًا قبل أن تلتفت إلى الطبيب بهدوء غامض أثار ريبته قائلة :

-"حسنًا أتركني الآن وأبقَ بجانب الملك.. أفعل ما بوسعك ليبقى على قيد الحياة حتى أرى حلًا لهذا الأمر"

انحنى طواعية يعود خطوتين للخلف ، ثم تركها وذهب.

تقدمت بخطوات ثقيلة تجر قدميها جرًا تصعد الدرج المكون من ثلاث درجات حتى وصلت إلى كرسي إلياس القابع في المنتصف لتجلس عليه رافعة رأسها لأعلى مستندة إلى الخلف وأناملها تطرق على حافته برتابة مفكرة في حل، حتى همست لنفسها بقلة حيلة :

-"يا الله لما القدر هكذا؟!

علاج زوجي في يد عدوه الذي أتته الفرصة على طبق من ذهب ليؤذيه"

هزت رأسها بيأس مغمضة العينين وقلبها يدعو قبل لسانها :

-"اللهم لا راد لقضائك، ولا سخط على بلائك!

ألهمنا جميل صبرك.. فلا عون إلا بك ولا ملجأ إلا إليك إنك أرحم الراحمين يا الله"

ظلت على حالها تكرر هذا الدعاء كثيرًا لساعات طويلة حتى هدأت نبضات قلبها، كان الغروب قد اقترب.. ففتحت عينيها فجأة وقد اتخذت قرارها، لن يردعها رادع على إنقاذ زوجها مهما كانت النتائج.

خرجت من القاعة وتقدمت نحو جناحها فقابلتها وسام التي كادت أن تتحدث لكن سبقتها سارية آمرة إياها بجمود :

-"وسام لا أريد أن أرى أحد، لا أريد أن أتحدث مع أحد حتى أخرج بنفسي من الجناح"

نظرت لها بدهشة وكادت أن تدلف خلفها هاتفة :

-"لكن سارية..!!"

لم تكمل حديثها حتى أغلقت الجناح من الداخل ، فنظرت إلى الباب المغلق بدهشة ليجذبها صوت جاد من خلفها :

-"أتركيها وسام هي بحاجة لهذه العزلة.. هيا بنا لا تقلقي عليها"

ذهبت معه وقلبها قلق على صديقتها.

في الداخل خلعت عباءتها، وأخرجت ثوب بسيط وفوقه قلنسوتها السوداء ثم توجهت إلى باب صغير لا يرى يبدو كأنه جزء من الحائط، دفعته إلى الجانب فظهر أمامها سرداب سري نهايته إلى الحديقة الخلفية من القصر القريبة من ساحة الخيول.. التقطت إحدى المشاعل وتقدمت تخطو بحذر داخله بعد أن أغلقت الباب خلفها.

خرجت إلى الحديقة وتقدمت تجاه مهرتها بحذر شديد حتى لا يلتفت إليها أحد من الحراس تمسد على رقبتها حتى لا تصدر صوت تثير به الانتباه من حولها.. أخرجتها بهدوء وسارت بها بعد أن أخذت سياجها.. أنهت تجهيزها هامسة :

-"أمامنا طريق طويل مهرتي، طريق طويل لا أعلم نتيجته لكن زوجي يستحق تلك المخاطرة..

أريد أن نصل إلى حدود المملكة قبل بزوغ الفجر"

كادت أن تصعد على ظهرها لكن استوقفها صوت أتى من خلفها :

-"كنت أعلم بأنكِ ستفعلين هذا"

تسمر جسدها مكانه والتفتت بقوة لترى ليان واقفة تكتف ذراعيها ونظرات الغضب تلوح في عينيها.

أصابتها الصدمة من عثورها عليها هنا.. لتسألها بدهشة :

-"كيف علمتِ أنني هنا؟!"

تقدمت منها بحزم تجيبها :

-"لقد قابلت الطبيب في طريقي وأخبرني بما أخبرك به، ولقد أمرته بعدم إخبار نيار أي شيء حتى أتحدث معك أولًا.. وكما توقعت عندما أخبرتني وسام بطلبك عدم رغبتك في رؤيتك لأحد علمت أنكِ تنوين فعل شيء"

أمسكتها من عضديها تهزها بنوع من القوة هامسة بحدة حتى لا يصل صوتهما إلى الحراس :

-"أخبريني ماذا يوجد بداخل هذا الرأس؟

عقل أم قطعة حجارة لا تستطيع التفكير؟

تريدين الذهاب إلى مملكة كهرمان بقدمك يا سارية؟!

هل تظنين أنكِ ستخرجين من قصره مرة أخرى؟!"

كان جسدها يهتز لكن ليس بفعل حركة ليان لكن بسبب بكائها الذي انفجر فجأة، فاندهشت الأخرى تضمها إليها تحاول تهدئتها تستمع إلى همسها :

-"أخبريني هل لديكِ حل آخر؟

زوجي بين الحياة والموت ودواءه في يد هذا الشخص، فماذا عليّ أن أفعل؟

أخبر نيار حتى تقام حرب لن تكون نتيجتها سوى هلاك إلياس"

أفلتت نفسها من أحضانها وهزت رأسها بعنفوان :

-"لا ليان لا ، سأذهب ولن يستطيع أحد ردعي"

ضغطت ليان على فكيها بقوة تعلم أن معها كل الحق، لو علم نيار بالأمر سيقيم حرب ليأتي به وبالتالي كهرمان سيعاند ولن يعطه إليه، لن تكون هناك فرصة غير هذه لينتقم من إلياس لحقده الشديد منه.. رفعت رأسها بعد تفكير عميق وقررت :

-"حسنًا استسلم.. معكِ كل الحق سارية، سأجعلكِ تذهبين لكن سأذهب برفقتك"

اتسعت عيني الأخرى وهزت رأسها رافضة، لكنها رفعت سبابتها أمامها مشيرة إليها بالصمت :

-"إما أن نذهب سويًا أو لن يذهب أيًا مننا ولتقام حربًا لا يهم.. لكن ذهاب هناك بمفردك لن يحدث"

ثم ابتسمت بسخرية تتقدم تأتي بخيلها هي الأخرى قائلة :

-"في كل الأحوال سيعلم الجميع بذهابنا إلى هناك ، لنعود أحياء على الأقل ونموت بيد أزواجنا أفضل من الموت على يد هذا الحقير"

★★★★★★

الشيء الذي يزداد عن حده

تكون عواقبه أكثر من غنائمه!

فالحياة إما مغامرة جريئة أو لا شيء

غير عادلة بالمرة لهذا علينا اغتنام نصيبنا بقانون الغاب

وإلا سنجد أنفسنا تحت أقدامها تدهسنا بسخرية!


قطعا نصف المسافة وهما تركضان بأقصى سرعة، لكن فجأة عارضت سارية طريق ليان بالوقوف أمامها مما جعل خيلها يقف على قدميه الخلفيتين فقط وتعالى صهيله يدور حول نفسه، فهتفت بتعجب من فعلتها وتوسعت عيناها :

-"ويحك يا فتاة هل جننتِ؟

ما الذي تفعلينه؟!"

تنهدت سارية بقلة حيلة تهز رأسها يمينًا ويسارًا برفض :

-"أرجوكِ ليان مازلنا في منتصف الطريق وحتمًا سيكتشفون اختفائنا في وقت قريب، لذلك عودي إلى القصر.. لا أريد أن أكون سبب في إثارة المشاكل بينك وبين نيار"

زفرت بحنق ناظرة لها بأعين غاضبة وقبضتها تشتد على لجام الخيل ، تقول من بين أسنانها :

-"معكِ حق اجتزنا نصف الطريق، وهذا إن دل على شيء فهو أن لا مجال للعودة"

صمتت برهة قبل أن تكمل بسخرية ويأس :

-"أما بالنسبة لزوجي.. فأنا لا أريد التفكير في ردة فعله إلا في طريق العودة حتى لا أقتل نفسي أهون مما سيفعله بنا"

كادت أن تتحدث لكن سبقتها بجذب اللجام وتدور بالخيل للجانب منطلقة في الطريق هاتفة :

-"هيا علينا الاستمرار حتى نصل في الصباح"

رفعت سارية رأسها للسماء وأغمضت عينيها يدعو قلبها أن يمر ما هن مقبلتان عليه بسلام ، ثم دارت بمهرتها تلتحق بالأخرى التي اندفعت راكضة.

وصلتا إلى مشارف المملكة، وانطلقتا في طريقهما نحو القصر الملكي بعدما سألوا عن طريق الوصول إليه.

وقفتا أمام البوابة الكبيرة لمدخل القصر فتجمع الجنود والحراس مشكلين حاجزًا بشريًا عند سماعهم وقع أقدام الخيل تحسبًا لأي هجوم.

نظرت سارية إلى القصر تشعر بانقباض في القلب وعدم الراحة في هذا المكان، فالتفتت إلى ليان التي شاركتها نفس المشاعر والقلق، سمعت الجندي يهتف بخشونة :

-"من أنتن وماذا تفعلان هنا؟!"

أجابت سارية بهدوء :

-"نريد مقابلة الملك كهرمان"

نظر الجندي لصديقة بابتسامة سخرية لمطلبها قبل أن يعيد النظر إليها قائلًا :

-"ومن أخبرك أنه باستطاعتك مقابلة الملك وقتما يحلو لكِ؟"

لم تستطع ليان السيطرة على أعصابها أكثر، فلم تتمالك نفسها وهبطت من فوق الخيل متقدمة من الحارس باندفاع جحظت عيني سارية له ، وأعين تقدح شذرًا تهمس بحدة :

-"أذهب إلى ملكك وأخبره أن الملكة ليان والملكة سارية هنا تريدان لقاءه.. هيا في الحال"

اضطرب الرجل في وقفته ليستنتج من نبرتها وهيئتها أنها لا تمزح، فأمر الجميع بفتح البوابة سامحًا لهن بالدخول ، في حين انطلق يخبر الوزير بأمرهن.

استقبلهن بصدمة بالغة من وجودهن هنا بدون حراسة ولا علم مسبق بشيء من المفاجأة ، وتقدمهما حيث قاعة الزوار حتى يعطي علم للملك بحضورهن.

أسرع إلى جناح كهرمان ودلف دون الانتظار حتى يأذن له، حال نظره في أرجاء المكان حتى وجده قابع خلف مكتبه وفي يده أحد الخناجر المتيم بتصنيعها، انحنى أمامه ليبادر كهرمان بسؤاله :

-"ما الأمر؟

ألم أخبرك أنني لا أريد إزعاج من أحد؟"

تلعثم الوزير في حديثه وتوتر في وقفته فضيق كهرمان بين عينيه يلتقط هذا التوتر الغارق به ، فرفع رأسه عن الخنجر الذي بيده وحك ذقنه بأنامله قبل أن يقول بتروي :

-"أخبرني ماذا خلف هذا التوتر المسيطر عليك؟"

ثم ضحك بمكر وأعاد النظر لما في يده وقال بسخرية :

-"لا تخبرني أن إلياس عاد لوعيه!"

هز الوزير رأسه بالنفي وعينيه مثبتة عليه ثم نطق أخيرًا :

-"لا سيدي لكن زوجته والملكة ليان في انتظار جلالتك في قاعة الزوار"

تيبست أنامله على الخنجر وتسمرت نظراته في نقطة في الفراغ.. صمت للحظات يستوعب بها ما قاله وزيره قبل أن يستقيم مندفعًا نحوه باحثًا في وجهه عن أي ذرة مزاح ، لكن كل ما قابله هو الجدية الكاملة.

سارية هنا في قصره؟

آتته بنفسها!

رفع حاجبه بدهشة وتعجب من أمرها قبل أن يندفع تجاه الباب يرى هاتين الضيفتين في زيارتهن المستحيلة له.

وفي الأسفل كانت تحول بنظراتها في القاعة حتى وقعت عيناها على الكوبرا القابعة على رأس الكرسي الخاص به، تأملتها بصمت وجمود قبل أن تبتسم بسخرية تهمس لنفسها :

-"يحق له أن يضعها فوق رأسه"

أرهفت السمع من خلف ظهرها فنظرت ليان إلى الباب الذي فُتح ودلف منه بغطرسته وعباءته الملكية السوداء، متخليًا عن عمامته ليقف متصنمًا أمام وجه ليان.

وقف الاثنان في مواجهة بعضهما يعودان لذكرى حدثت في الماضي في هذا المكان تحديدًا..

تقف أمامه بكامل عنفوانها وقوتها تخبره :

-"لا أقبل الزواج منك كهرمان، فأنا لن أتزوج من شخص يفعل كل ما حرمه الله.. لن أكون زوجة شخص يجير على أراضي الغير دون وجه حق"

اقتربت منه بنظرات متحدية عكس رقتها المعروفة عنها، فهو ظنها ضعيفة يسهل السيطرة عليها وأنها ستوافق بكل سهولة على الزواج منه، لكنه أخطأ عندما استهان بذكائها :

-"لن أكون زوجة شخص كل غرضه من هذا الزواج المصلحة فقط"

استفاق واقترب منها بابتسامة ساخرة قائلًا :

-"يا اللهي!

كم الأيام قصيرة لتقفي هنا مرة أخرى أيتها الملكة!"

أحال نظراته إلى المولية له ظهرها تتأمل كرسيه واتسعت ابتسامته الجانبية قائلًا :

-"وهذه المرة معكِ هدية لي"

استدارت سارية بهدوء تتأمل هيئته الضخمة ووقفته المهيبة حتى وصلت إلى عينيه تقرأ فيهما المكر والدهاء، وشيء آخر جعل دقات قلبها تتسارع مؤكدة أن هذا الأمر يتعلق بها.. هي!

تقدم إلى كرسيه وجلس عليه بروعنة مستندًا بذراعيه على ساعديه واضعًا يده أسفل ذقنه ، يشملهن بنظراته قبل أن يقول مشيرًا لهم بالجلوس :

-"تفضلن ، وأخبراني ما سر الزيارة غير المتوقعة؟"

لم تجلس أيًا منهن ، لكن تقدمت سارية خطوة للأمام قائلة :

-"أنا هنا لست بصفتي ملكة، لكن زوجة يرقد زوجها في الفراش بفعل سهم مسموم وعلاجه موجود هنا"

راقبها بأعين ماكرة من أعلى رأسها لأخمص قدميها وسبابته يحك بها شفته السفلى، لاحظ أنها تشدد من إمساك يدها بالأخرى أمام منها فعلم أنها تحاول التحكم بأعصابها، فاشتدت نظراته وقاحةً، ليأتيه صوت ليان من خلفها ساخرة تحوم حول نفسها تتطلع للقاعة التي لم تتغير :

-"ما رأيك بتوفير نظراتك الوقحة لإحدى عاهراتك وتتصرف كملك وقور لقليل من الوقت فقط؟!"

احتدت نظراته عليها وكاد أن يجيبها لكن صوت سارية الهادئ صدح ممسكة بساعدها حتى تهدأ :

-"لقد جئت إلى هنا ليس لإهانة أحد ولكن جئت لأنقذ زوجي"

أعاد نظره إليها قبل أن يقول بلامبالاة :

-"ولماذا سأعطي الxxxx لكما؟

فهل يمكنني إضاعة فرصة كهذه؟"

قال كلمته الأخيرة باستهزاء قبل أن ينهض ينوي رفض مطلبهما :

-"من يتسبب بالداء لا يعطي الدواء"

رفعت سارية عينيها بصدمة من حديثه الصريح أنه هو من تسبب بذلك.. هذا يعني أن المقصود كان إلياس وليست هي؟

كيف لم تفكر بهذا والطبيب يخبرها أن الدواء هنا؟

كيف لم يأتِ بتفكيرها أن يكون المتسبب هو أشد عدو له؟

التقط صدمتها بضحكة عالية عندما فطن أنها بدأت تستوعب ما حدث ليقول :

-"لكن أيمكنك تخمين السبب الأساسي خلف ذلك؟

لم أكن أنا الشخص الذي فكر في الأمر ، فالخطة الأساسية كانت قتلك أنتِ أيتها الملكة، لكن عندما فكرت قولت لماذا لا أتخلص من إلياس وأحصل على مبتغاي؟"

عقدت حاجبها بعدم فهم وتبادلت النظرات مع ليان تتساءل بحذر :

-"مبتغاك!"

اقترب منها بخطوات بطيئة تثير الريبة حتى وقف على بعد خطوتين منها ، وحال بنظره عليها وابتسامة جانبية تحمل جميع معاني المكر والخبث كمن يعطيها جوابها، فاتسعت عينيها بصدمة لتعلم أنها دخلت إلى عرين الأسد بقدمها!

رفعت كفها بنية صفعه هاتفة من بين أسنانها بغضب تلبسها :

-"أيها الحقير الجبان.. أمثالك لم يرتقوا لمكانة الإنسان حتى"

أمسك معصمها يديرها أمامه فاصطدم ظهرها بصدره يحيطها بذراعيه محكمًا إمساكها، وعينيه تقدح شذرًا.. كادت ليان أن تخطو حتى تساعدها لكن الجنود الذين ظهروا من العدم محيطين بها عرقلوا خطواتها، فنظرت لكهرمان المبتسم لها بثورة تسمعه يأمرهم :

-"خذوا الملكة لأفضل جناح في القصر ، أحسنوا معاملتها فمكانتها لدي كبيرة"

قادها الجنود إلى الخارج بقوة تحاول الإفلات منهما والوصول إليه، فهي علمت من نظراته أن غايته سارية.

كالعصفورة الصغيرة وقعت بين فكيّ نسر مفترس، ترفرف بجناحيها القصيرين وزقزقتها الضعيفة لم تتجاوز حدود جوفها، تحاول جرحه بمخالبها القصيرة فيقابلها بسخرية بأن تفعل كل ما بوسعها فلن تسلم منه.

يلقيها باستخفاف يشهر عليها من علو بضخامته وشراسته!!

فماذا تفعل تلك الضعيفة التي أوقعها قدرها اللعين مع شراسة نسر جارح مثله؟

غبية.. لو فكرت قليلًا لن تقدم في حياتها على الوقوف أمامه!!


حاولت أن تفلت من قبضته لكنه أحسن تثبيتها يهمس في أذنها :

-"ماذا أفعل؟

فمنذ أن وقعت عيني عليكِ ولم تغيبي عن تفكيري لحظات، فلا تلوميني عندما أستغل أي شيء في سبيل الحصول على ما أريد"

ارتفع صدرها وهبط بانفعال وثورة من ملامسته لها، همسه، أنفاسه.. كل شيء يثير غثيانها فهمست من بين أسنانها ولم تفنك عن محاولة الفكاك منه :

-"أتعلم أنك شخص مثير للغثيان!

لست إلا جبان خسيس يأخذ أسهل الطرق وأحقرها للتخلص من منافسه، لأنه واثق تمام الثقة أنه لن يتغلب عليه بالطرق الشريفة"

دارت برأسها ناظرةً له بأعين ساخرة لكنها تقدح قوة واشتعال جعل خضارها وزرقتها يتوهجا وأكملت :

-"أنت لم ترتقِ حتى تقف ندًا لشخص كزوجي"

ابتسم ابتسامته الجانبية بغموض وخبث يتأمل القوة التي تفوهت بها هذه الكلمات التي قللت من شأنه ، وضع ذراعيه حول بطنها يشد على خصرها، ويده الأخرى شعرت بها تتسلل لأعلى ظهرها، شهقة عالية صدرت منها عندما جذب خصلاتها للخلف بقوة ليميل ظهرها ويصبح وجهها مقابلًا لوجهه الجامد، اقترب منها بتريث حتى لفحت أنفاسه صفحة وجهها فاشمأزت تعابيرها تسمعه :

-"لم يخلق بعد من يقف بوجهي.. لم يجرؤ أحد من قبل على التحدث معي بوقاحة مثلما فعلتِ ، فقبل أن يفعلها تكون روحه رُفعت إلى بارئها في ذات اللحظة"

اشتد سواد عينيه بنوع من الدهشة عندما رأى ابتسامتها الساخرة قبل أن تتحول إلى قهقهة خافتة وقالت بنبرة متحدية ونظرات قوية:

-"كاذب.. أنت كاذب لعين وأضعف مما تتخيل.

فالقوي ليس ببطشه، لا يتبع الأساليب الحقيرة للحصول على ما يريد، بل يواجه ببسالة أنت بعيد كل البعد عنها"

قالت جملتها الأخيرة بصوت أشبه بالصراخ ونبرة مقللة من شأنه أكثر.. لم تدرِ ما حدث بعدها غير أنها وجدت نفسها مستلقية على إحدى الأرائك الواسعة في القاعة جاثمًا فوقها مكبلًا يدها بقبضته فوق رأسها ، ووضع ركبته إلى جانبيها مكبلًا ساقيها حتى يمنع أي محاولة للحركة.

نظرت له بأعين واسعة وقد ملأها الذعر والصدمة خاصةً عندما لاحظت السواد يغطي نظراته، وملامحه الغامضة لا تبشر بخير، تسارعت وتيرة أنفاسها وخفق قلبها بقوة تفيق من صدمتها وجسدها يتحرك بعنفوان تحاول الإفلات من قبضته، فوضع كفه على التجويف بين عظمتي ترقوتها مثبتًا إياها أكثر وهبط بوجهه إليها هامسًا بغموض :

-"أتيتِ إلى هنا بقدمكِ ، أتيتِ إلى عدو زوجك الوحيد دون حراسة ولا حماية وتجرأتِ على التواقح معي"

اشتدت حدة نبراته وضيق عينيه لتراه بهيئة حيّة لعينة :

-"تجرأتِ على نعتي بالجبان وعديم الرجولة!

سأجعل لمخيلتك الواسعة حرية التخيل بما سأفعله بكِ..

سأجعلكِ تندمين على المجيء إلى هنا"

اتسعت عيناها بذعر وشهقت بصوت أقرب للصراخ تسمع صوت تمزق مقدمة ثوبها دافنًا رأسه في عنقها يمتصه بقوة ويده تتلمس جسدها بقذارة، تحركت أسفله بعنف تبتعد برأسها حتى تزيحه عنها صارخة بقوة ممتلئة بالخوف :

-"أيها اللعين اتركني"

ابتسم بخبث يرفع برأسه واستند بجبهته فوق خاصتها يلمس شفتيها بإبهامه، ثم همس بتفكير مصطنع :

-"ماذا سيكون رد فعل إلياس إذا علم أنكِ بين يدي؟!"

ضغط بجسده على جسدها أسفله وأكمل :

-"جسدكِ أسفلي.. أتلمس خصلاتك وأتحسس شفتيكِ الحمراء!"

هبط بيده إلى فكها فعنقها نزولًا إلى جيدها حتى وصل إلى خصرها بلمسات أشعلت جسدها من الاشمئزاز وجعلته يرتعش من النفور فأكمل بنبرة شيطانية :

-"ماذا إذا علم أنني لمست كل جزء من جسدك المثير ، وتذوقت بشفاهي العرق النابض في عنقك؟"

وضع شفتيه فوق عرقها لتزمجر بنفور ورعب، ورأسها تبتعد عن رأسه فرفع فمه إلى أذنها وقال بقسوة من حسن حظها أنها لن ترها في عينيه التي أصبحت كالجحيم في سواده :

-"لن يعلم أتعرفين لماذا؟

لأنه طريح الفراش لا حول له ولا قوة.. لم يتبقَ إلا بضعة أيام ويلفظ أنفاسه الأخيرة بعد أن يتمكن السم من كامل جسده ولن تقوى أشد العقاقير في العالم على إنقاذه"

أخطأ عندما استفز غضبها بالسخرية من زوجها!

الأحمق لو فكر قليلًا قبل التفوه بهذا الحديث لراجع نفسه ألف مرة ، فالمرأة التي خطت برضاها أرضه كي تنقذه بداخلها نيران لو تركت لها العنان لازداد الجحيم سوادًا!

إلى هنا وكفى!

لم تتحمل حديثه أكثر فانتفض جسدها بقوة وعنف تحاول التخلص من تكبيله حتى نجحت من تحرير يدها من قبضته ، وسحبت خنجرها الذي كانت تربطه في فخذها تحسبًا لأي غدر ، تدخله بقوة في كتفه.

زمجر بقوة من الألم وتشنج جسده يرفعه عنها فاستغلت الفرصة وقلبت الأوضاع ليصير أسفلها وهي جالسة فوقه واضعة خنجرها على عنقه وصدرها يعلو ويهبط من لهاثها.

في نفس اللحظة دلفت ليان إلى القاعة بعد أن تمكنت من الإفلات من الحارسين بسحب السيف من جعبة أحدهما وضربهما فوق رأسهما ليسقطا فاقدي الوعي.

تسمرت في مكانها من الصدمة ترى هذا المشهد!

لاحظت تمزق ثياب سارية لتفطن إلى ما كان ينوي فصرخت به بغضب وثورة :

-"أيها الخسيس عديم المروءة!

أردت التعدي عليها واتبعت أساليبك القذرة!"

قاطعتها سارية بحزم :

-"كفى ليان كفى"

ثم عادت بنظرها إلى كهرمان تهمس بصوت غريب عليها كأنه يخرج من أعماق بئر حالك :

-"لقد تجرأت على ذكر زوجي بعدم احترام والتقليل من شأنه.. بل وأنت السبب فيما حدث له!

تجرأت على لمسي ولم يجرؤ أحد على فعلها من قبل!

تجرأت على التعدي على ما ليس لك"

حال بنظره بينها وبين خنجرها ليقلب عينيه بسخرية قائلًا :

-"ما الذي ستتمكنين من فعله بذلك الخنجر؟

فأنتِ بعد كل شيء امرأة.. كائن ضعيف لا يقوى على فعل شيء غير الثرثرة و ....."

صمت فجأة عينيه تتسع بصدمة عندما شعر بنصله يتحرك ببطء على جلده وخط من الدماء هبط من أسفله على عنقه ليعرف أنه تسببت بجرحه ، رفع نظراته إلى عينيها يصطدم بنظراتها الباردة وكأنها لم تقدم على محاولة ذبحه ، لتتوقف وضغطت أكثر قائلة :

-"هذه المرأة وقفت بمنتصف النهار وكادت أن تنحر عنق جندي لإقدامه على أخذ فتاة لا تمت لها بصلة!

هذه الفتاة وقفت بوجه أقوى ملكين ووجهت لهما الاتهامات ظنًا أنهما السبب في اختفاء صديقتها"

غصة شعرت بها في حلقها عندما تذكرت مارية لكنها تحكمت بها واقتربت برأسها منه هامسة بحدة وقسوة بنبرة مشابهة لنبرته :

-"سأترك لمخيلتك الواسعة حرية التخيل بما يمكن لتلك المرأة أن تفعله كي تنقذ زوجها"

صرخت ليان كي تعيدها لرشدها ، فلو تركتها لغضبها تقسم أنه سيكون أخر يوم في عمره :

-"سارية تحكمي بغضبك أرجوك.. أعلم أنه يستحق كل ما تفعليه لكن لا تجعليه يفقدك رشدك"

لم تستمع إلى أي مما تقوله بل صرخت بقوة في وجهه :

-"أقسم إن لم تعطني الدواء سأفصل عنقك عن جسدك، وأنا أعلم أن مملكتك كلها ستسعد بهذا الأمر"

هتف إلى وزيره يأمره بالدخول يعلم أنه خلف الباب كعادته.. فدلف لتجحظ عينه لمرأى ملكه بهذا الوضع، كاد أن يقترب فهتفت به سارية بغضب :

-"حاول أن تفعلها ورأس ملكك ستكون أسفل قدمك"

عقد الوزير حاجبيه بصدمة منها، يعلم أن كهرمان ليس بالملك الضعيف لتسيطر عليه فتاة بحجمها الضئيل هذا، فبحركة واحدة منه يستطيع أن ينهي حياتها.. فإلى ماذا يخطط ملكه؟

انتبه إلى صوته يأمره بهدوء :

-"اذهب إلى الحكيم وأخبره أن يأتي بالxxxx المضاد للسم الذي صنعه مؤخراً"

أومأ ليخرج مسرعًا ويعود بعد القليل من الوقت وبحوزته الترياق في زجاجة متوسطة الحجم ، تناولتها ليان من يده قبل أن تعيد انتباهها إلى سارية قائلة بصوت مروض وكأنها تحادث طفل صغير :

-"سارية لقد حصلنا على ما جئنا من أجله، هيا لنعود للمملكة.. أنهضي دعينا نذهب"

تطلعت سارية إلى كهرمان يبادلها نظراتها بغموض مخيف قبل أن تنهض من فوقه بحركة سريعة تقف بجانبها ومازالت ترمقه بنظراتها حتى همست بنبرة تهديدية ورأس شامخة :

-"تذكر جيدًا ما تفوهت به، لأن زوجي سيجعلك تتمنى الرحمة ولن تنال سوى العذاب"

أخذت يد ليان وانطلقت تجاه الخارج لكن صوته الهادئ استوقفها لتوليه ظهرها تستمع له :

-"تذكري أنكِ خرجتِ من هنا حية فقط لسبب ما في نفسي..

فانتظرا مفاجأة كبيرة مني قريبًا وخاصة أنتِ ليان"

نظرت له ليان نظرات ساخطة على هذا الحديث لكن انتفض داخلها ما إن رأت المكر والغموض يملأن نظراته، لتجذبها سارية للخارج حتى خرجا إلى الساحة وامتطت كل منهما خيلها، فدارت بمهرتها تنظر للقصر نظرة أخيرة ترى كهرمان يقف بشموخ ويديه خلف ظهره يبتسم ابتسامته الجانبية لها ، فركلت مهرتها وانطلقت الفتاتان في رحلة عودتهما للجنوب مرة أخرى يسابقان الرياح للعودة سريعًا.

★★★★★★

لا شيء يشبه شيء

ولا أحد يحل محل آخر

أشيائنا المفضلة إن ضاعت لن نجد لها بديلًا

فما يذهب لا يعود!


جالسة على سجادتها تصلي وتبتهل، تتذكر أول أمس عند عودتهما من مملكة كهرمان بحوزة العلاج، أعطته للحكيم ليسرع في إعطاءه إلى إلياس، ومنذ ذلك الحين قابعة في غرفتها تصلي وتدعو.

تارة تقنع حالها أن ما فعلته كان لابد منه لإنقاذه، والأخرى تضربها في مقتل أنه لو علم إلياس لن تستطيع مجابهة غضبه!

تحمد الله أن نيار وجاد انشغلا في أمور المملكة والحكم للسيطرة على الأوضاع ولم ينتبها لاختفائهما!

تشكره أن والدها يتجول في أنحاء المملكة يرى أمورها بعد أن طلب إلياس منه أن يتولى أمور القضاء فلم يعلم ما فعلته!

حتى وسام لم تعلم شيء عن رحلتها فقد ظنت أنها تحتاج لخلوة وقد أعطتها لها!

وبالرغم من كل هذا..

صوت ضميرها لا يرحمها أنها أعطت لكهرمان الفرصة أن يمسك عنقها بين قبضته.

سمعت صوت الجواري بالخارج يركضن، فاستقامت بحاجبين معقودين حتى وجدت وسام تندفع لغرفتها وصدرها يعلو ويهبط من لهاثها الشديد ممسكة ضلفتي الباب بيديها فاقتربت خطوة منها تسمعها تقول بصوت متقطع :

-"استعاد وعيه.. إلياس.. استفاق من غيبوبته"

أنفاسها تسارعت.. نظراتها تسمرت على وسام التي أومأت برأسها كمن تؤكد لها أن ما سمعته صحيح، فأمسكت ذيل ثوبها وأسرعت إلى الخارج تتبعها صديقتها.

تيبست قدماها أمام باب الجناح لا تقوى على المضي قدمًا، وجدت يد وسام تمسد ذراعيها وتحثها على الدخول فهزت رأسها بلا قبل أن تسمع صوته الضعيف يصلها من الداخل لتغمض عينيها وتستند على الحائط بجوار الباب :

-"أين سارية؟!"

أجابه نيار :

-"أمرت وسام أن تخبرها بأمر إفاقتك، ستجدها أمامك في الحال"

أغمضت عينيها بقوة تستمع لصوت الحكيم :

-"بفضلها جلالتك تم شفائك.. فلولا هذا النبات الذي أتت به لما كنت معنا أطال الله عمرك"

لم يخبره بأمر الxxxx كما أمرته حتى يستعيد عافيته وستخبره بنفسها، وإن سأله أحد يخبره أنه بفضل النبات فقط .

عقد إلياس حاجبيه بدهشة يفكر أي نبات الذي يتحدث عنه الحكيم، فتذكر حديثه لها عن أمر البحيرة وكاد أن يتحدث فوجد وسام تدلف إلى الغرفة تنحني باحترام :

-"مولاتي بالخارج لكنها ترفض الدخول"

نظر لها بدهشة ثم ما لبس أن هز رأسه بيأس يهمس لنفسه :

-"الجبانة"

أشار لنيار كي يقترب منه وهمس له بتعب وصوت يكاد يُسمع من الألم :

-"أخرج الجميع من هنا، وأخبر تلك الجبانة بالمثول أمامي في التو واللحظة"

ابتسم نيار بمكر ثم أمر الجميع بإخلاء الغرفة بعد أن اطمأن الطبيب على جرحه، وخرج آخر شخص يدور بعينه في المكان ليجدها بجانب الباب تستند برأسها وظهرها إلى الحائط مغمضة عينيها بقوة، فنظر لهيئتها بدهشة ووقف أمامها :

-"سارية!"

نظرت له بأعين شاردة ليكمل يشير للغرفة :

-"إلياس يريدك أمامه الآن"

نظرت إلى داخل الغرفة للحظات دون حراك، لتتفاجأ بيده أمسكت ساعدها برفق يقودها إلى الغرفة وقبل أن يأمر الحراس بإغلاق الباب همس لها :

-"كوني قوية فهو يريدك وبحاجة إليكِ ليس بصفته الملك لكن كزوجك ، فلقد استجاب الله لدعائك.. هيا"

دفعها برفق للداخل فنظرت إلى الباب المغلق قبل أن تلتفت لمن ينام بنصف جلسة على الفراش وجذعه العلوي عاري تحيطه ضمادة كبيرة تلتف حول كتفه الأيسر وجزء من صدره يستند برأسه للخلف.

اقتربت منه بهدوء تقف بجانب الفراش تنظر إلى جرحه لينتبه لها، فهبط بنظره عليها من أعلى رأسها حتى قدمها يتأكد أنها بخير ثم صدح همسه :

-"أنتِ على ما يرام أليس كذلك؟!"

أومأت برأسها دون أن تنبس بكلمة ، ليشير لها بالجلوس بجانبه على الفراش فأطاعته وجلست تتأمله تتأكد أنه بخير فسألها يميل برأسه جانبًا :

-"كيف وصلت إلى القصر؟!"

نظرت أخيرًا لعينيه تشعر بنظراته القوية وقد عادت من جديد تخترقها من خلف خصلاته الهابطة على جبهته، لتزدرد ريقها وبدأت بسرد إعادتها إياه إلى القصر.. وجدته ينظر لها وإلى هيئتها التي توحي لأي شخص بضعفها وأنها لن تقدر على حمل قطة وقال بتعجب ومشاكسة :

-"أنتِ استطعتِ حملي إلى مهرتك وجئتِ بي إلى هنا؟!"

اشتعل الغيظ في مقلتيها تنظر له بأعين متسعة وهمست من بين أسنانها تقترب برأسها من وجهه :

-"أحذر أيها الملك أنت تبخس من قدري وقدر مهرتي"

ضحك بتعب وارتفعت يده يضعها فوق ضماته من ألم جرحه نتيجة لاهتزازه، فأصابها القلق ووضعت يدها المجروحة فوق يده :

-"ترفق إلياس.. لا تهتز حتى لا يؤلمك"

أمسك كفها يعقد بين حاجبيه بصدمة، فرفع نظراته إلى عينيها التي تضعها في الأسفل يسألها :

-"ما هذا سارية؟!"

أجابته تعيد خصلاتها للخلف دون النظر إليه :

-"لقد جرحت نفسي بالسكين"

ضغط على كفها حتى كادت أن تسمع صوت عظامها، فحاولت أن تفلت كفها من قبضته ليجذبها إليه واضعًا يده الأخرى خلف عنقها يثبته وأسند جبهته إلى جبهته فاستندت بكفها الآخر فوق صدره، يهمس أمام وجهها بغضب يضغط على فكيه حتى برزت عظامه على خديه وصوت اصطكاك أسنانه وصل لها:

-"أخبرتك لا يستطيع أحد قراءتك بقدري، فلا تكذبي يا سارية.. عيناكِ تفضحك وبشدة"

نظرت إلى عينيه لا تستطيع قطع هذا التواصل وانفرجت شفتاها قليلًا تخرج أنفاسها بتثاقل..

لا تعلم ما سر هذا الاستسلام الذي أصابها منذ أن أصيب؟

تتذكر استلقائه دون حول ولا قوة، شاحب.. ضعيف.. مجروح!

تتذكر انتفاضة جسده القوية وارتجافه من أثر السم كمن به مسّ!

والآن يجلس أمامها ينظر لها بعينيه التي تحتضنها بنظراتها في حنان لا تتمنى غيره!

على الرغم من الألم البادي على وجهه لكن قوته وهالته لم تنقص!

تعلقت الدموع بأهدابها!

ترفع كفها تتلمس وجنته ونظراتها تحوم على سائر وجهه تتأكد أنه أصبح بخير..

هو من سرق الروح وخطف القلب، اشتاقت إليه اشتياق النجوم للقمر في آخر ليالِ الشهر!

اشتاقت لنبرات صوته، لسماع حروف اسمها وهي ترقص بين شفتيه للقبها المفضل منه "ناريته"

اشتاقت لدفء حضنه وسماع دقات قلبه!

تحولت نظراته من الغضب إلى أشد سوادًا من فعل المشاعر التي ثارت بداخله من نظراتها وأنفاسها التي تلفح صفحة وجهه، ويدها فوق صدره جعلت عضلاته تتشنج أسفلها بفعل الدفء الذي يتسلل إليه.. ليهمس أمام وجهها يقربها منه ببحة خافتة ارتعشت لها أوصالها حبًا :

-"ستفقدينني صوابي يومًا يا ابنة بدر الدين، نظراتك وحدها كفيلة بتأجيج نيران العشق في صدري، تجعلني أوشك على نسفك بين ذراعيّ"

جذبها فسقطت فوق صدره يكتم شهقتها بين شفتيه يضع يده التي كانت ممسكة بكفها على عنقها فوق عرقها النابض بعنفوان كأنه سيخرج من ضغط الدماء، تشبث بها يبثها كل ما بداخله من غضب وشوق ومشاعر عشق يكنه لها، كل ما يفكر فيه أنها زوجته بين يده لن يتخلى عنها مهما حدث.

يعشق نظراتها الصامتة التي تُشرق كالشمس من عينيها، تسرد حديثها لا تستطيع أبجدية الحروف صياغته!

تذوب ملامحه بين ثنايا جفونها الغائرة، يعشق كل شيء بها خوفها، ناريتها، قوتها، رقتها، ابتسامتها، دمعتك!

حتى طريقة جلستها، خطوتها يعشقها!

وكل ما يكرهه هو مفارقتها ، دموعها، ضعفها إن بثتّه لغيره!

قلبه بدونها عقيم لا ينجب الحب

ومشاعره مع غيرها لا تنبت سوى الشوك


فجأة هتف بألم يدفن وجهه في عنقها عندما أمسكت كتفه المصاب ضاغطة عليه دون وعي.

شهقت بلهفة ولمست عنقه بكفيها ترفع رأسه إليه وهمست :

-"آسفة.. آسفة لم انتبه أعتذر.. إلياس أقسم لم أقصد لمس جرحك"

نظر إلى عينيها بوجه تثور فيه المشاعر وأنفاسه لاهثة شديدة الحرارة، يتأمل عيناها وأسند جبهته لخاصتها وعاد يسألها :

-"ما الذي جرحك يا نارية؟"

أغمضت عينيها بقوة ثم فتحتها تنظر لأسفل ومازالت يدها تحيط عنقه ثم رفعت أنظارها إليه وبدأت تسرد له رحلتها إلى البحيرة، لكنها لم تخبره عن مهاجمة أحد لها هي ونيار.. ولم تخبره عن ذهابها إلى كهرمان، تنتظر حتى يستعيد عافيته ثم ستخبره بكل شيء.

حرك رأسه بيأس منها مغمضًا عينيه قبل أن يهمس:

-"رأسك كالصخر، طالما وضعتِ شيئًا به تفعلينه غير عابئة بالنتائج"

أجابته بنوع من الغيظ وشفتيها أصبحت خط رفيع قبل أن تعض على السفلى للتحكم بغيظها :

-"هل كان هناك حلًا آخر؟

الطبيب قال أن جسدك يرفض العلاج الذي يعطيه لك والسم ينتشر فيه.. هل كنت سأقف مكتوفة الأيدي وأراك تموت وأنا أستطيع إنقاذك؟!"

نظر لها بغموض ورفع يده يتلمس وجنتها بظاهر يده :

-"هل فعلتِ ذلك لشعورك بالذنب ورأسك اليابس يصور لكِ أنكِ السبب فيما حدث؟!"

أجابته بغضب تغرس أظافرها في كتفه كمن تنفث عن غضبها :

-"وهل ترى ابنة بدر الدين في حاجة لتفعل شيئًا فقط لشعورها بالذنب؟!"

ليفاجئها بسؤاله يقبض على خصرها ونبرة أشبه بالهمس :

-"لماذا فعلتِ إذن يا نارية؟!"

اتسعت عيناها بقوة تنتقل بين عينيه بحدقتيها بغموض تجذب عنقه إليها وهمست بغضب خاص به وتضغط بقوة على كتفه السليم حتى تركت أظافرها علامات فوقه :

-"اللعنة عليك يا ابن تقي الدين وعلى ما تثيره في مشاعري من غضب وغيظ.. أنا أحبك وسأموت إن حدث لك مكروه، سأفعل ما بوسعي حتى أحافظ عليك مثلما تفعل وكل ما يهمك كيف ذهبت للغابة؟"

دفعت كتفه بغيظ تنهض من جانبه ، فتركها بدوره ودفن وجهه في الوسادة يكتم ضحكته المستمتعة والتي ترك لها العنان عندما سمع صوتها يهتف من خلفه :

-"قبل اللقاء بك كنت أخرج في الليل إلى الغابة لأرفه عن نفسي وقابلت الكثير من الحيوانات المفترسة ولم أعبأ بها، وأنت ...."

قطعت حديثها تضغط على فكيها بغيظ وطرقت بقدمها على الأرض بطفولية لتتجه نحو الباب تفتحه تخرج مندفعة صافعة إياه بقوة خلفها.

خرجت تثرثر بسبب استفزازه لها حتى رأت ليان واقفة في الشرفة الواسعة المؤدية إلى الحرمليك والمطلة على مساحة واسعة خضراء من المملكة يطل من خلفها المحيط، فاتجهت لها ملاحظة توترها تقف بجانبها لتتساءل :

-"ما بكِ ليان؟

فيمَ تفكرين؟"

تنهيدة عالية صدرت منها تستدير لها وقد لاح القلق والتوتر في عينيها قبل أن ينتقل لنبرة صوتها المهزوزة، وحركة كفيها اللذان تفركهما أمامها :

-"أنا قلقة سارية.. لم أندم على ما فعلناه، لكن عندما تلتقي عيني بعين نيار أشعر بعدم الراحة والتوتر لأنني أخفي عنه شيئًا"

عبست سارية وتقوست شفتيها بندم، ثم وضعت كفها فوق كتفها هامسة باعتذار :

-"أنا آسفة ليان.. كان عليّ منعك ورفض مجيئك معي بأي طريقة حتى لا تحدث مشاكل بينك وبين نيار، فهو لن يمررها مرور الكرام...."

قاطعتها بضربة غاضبة على جانب رأسها تقف أمامها هاتفة بشراسة :

-"أمجنونة أنتِ؟

كيف جاء في مخيلتك أنني كنت لأسمح بالإقدام على فعل هذا بمفردك؟

أخبرتك أنني لم أندم للحظة في الذهاب معك لمملكة كهرمان"

كادت سارية أن تتحدث لكنها توقفت فجأة وعيناها اتسعت برعب وقلق لم تنتبه له الأخرى وأكملت حديثها :

-"هل لكِ أن تخبريني ماذا كنتِ ستفعلين عندما فقدتِ وعيك ونحن عائدتان واكتشافنا خبر حملك؟!"

شهقت وتسارعت أنفاسها وعينيها تتسع أكتر بذعر تتذكر رحلة عودتهما..

شعرت بالدوار فوق مهرتها لتحاول التماسك فقد شارفوا على الوصول لحدود المملكة، لكن اشتد الدوار في رأسها تضع يدها فوق جبينها تدلكه قبل أن تهتف باسم ليان التي توقفت مسرعة وهبطت من فوق خيلها تركض إليها.

تلقفت جسدها قبل أن يصطدم بالأرض لينتفض قلبها خوفًا ، وظلت تدور برأسها علها تجد أحد يساعدها، فكان الله رحيم بهما لتجد ذلك الكوخ، فنظرت إلى سارية التي كانت تنظر لها بتيه وقالت :

-"تحاملي على ذراعي وانهضي معي.. هناك كوخ قريب من هنا سنجد به من يساعدنا هيا"

استندت عليها ووصلتا إليه بصعوبة، دقت الباب لتخرج سيدة عجوز عاث الزمن بملامح وجهها يظهر عليها علامات الكبر، لكن هناك شيء بها يشعرك بالهدوء.

تطلعت إليهما بصمت وكادت ليان أن تتحدث فأسكتتها بإشارة منها وأدخلتهما للمنزل، أجلست سارية التي ألقت برأسها على كتفها، فقالت العجوز برتابة :

-"يبدو أنكما آتيتان من مسافة بعيدة، فعلامات التعب بادية على وجهيكما"

أومأت ليان برأسها وأخبرتها بدوار رفيقتها، فتقدمت منهما تتفحصها بخبرة اكتسبتها من سنوات عمرها، لتبتسم بهدوء تنهض محضرة شرابًا دافئًا يزيح الدوار عنها، فسألتها عن حالتها وهي تراها بدأت تتحسن.

سألت العجوز سارية بضعة أسئلة تستشف منها على أمر تشك به وهي تجيبها بسلاسة وصدق.. فقالت بنفس ابتسامتها تربت على يديها :

-"يبدو أن ولي العهد لملك الجنوب سوف يأتي قريبًا"

تطلعت الفتاتان لها بصدمة من معرفتها بهما، فضحكت بهدوء تقول :

-"من لا يعرف زوجة الملك إلياس وما فعلته، فوصفك وخاصةً عينيكِ النادرتين يجعلون من لم يروكِ مطلقًا يعرفونك"

ثم تطلعت إلى ليان قائلة :

-"ومن لا يعرف الملكة التي كانت كالحصان الأسود في لعبة الشطرنج..

السبب وراء إلغاء الملك لقانون الجاريات"

ابتسمت الفتاتان وقد كانت سارية استعادت وعيها بالكامل، تدمع عينيها بسعادة بالغة تضع كفها فوق بطنها هامسة :

-"هنا يوجد ابن إلياس وحفيد بدر الدين!"

ربتت السيدة على كتفها بابتسامتها لكنها قالت بتحذير غامض :

-"نعم يا ابنتي.. لكن عليكِ إخفاء الأمر، فلو علم أحد ستكونان في خطر كبير ولا أحد يعلم هل ستنجون منه أم لا؟!"

عقدت سارية حاجبيها بدهشة متطلعة لليان بعدم فهم وتساءلت :

-"لمَ تتحدثين بصيغة المثنى؟

لم أفهمك"

نظرت إلى ليان وقالت بغموض :

-"لا تقلقي عما قريب سيأتي ولي العهد الآخر"

★★★★★

هزت رأسها بإفاقة من الذكرى، ونظرت إلى ليان لتصمت لكنها لم تنتبه لها تكمل :

-"مجرد التفكير بما كان سيحدث لو لم أكن معك، وإذا لم أراكِ وأنتِ تتسللين لمهرتك وقد اتخذتِ قرارك باندفاع كعادتك ....."

-"فقررتِ مشاركتها في هذا الاندفاع والذهاب بمفردكما إلى مملكته دون حراسة.. دون حماية.. ودون علم أحد، أليس كذلك؟!"

اتسعت عينيها بذعر ترمق سارية التي طالعتها بأسف وأومأت لها أن الصوت صوته.. فتوقفت أنفاسها بصدرها وتيبس جسدها من الخوف تستدير ببطء فرأته واقفًا بشموخ يضم ذراعيه خلف ظهره وملامحه يغطيها الغموض.. لولا حركة فكه علامة على كبح غضبه لكانت أجزمت أنه استحال لقطعة صخر خاصةً أنه قد تخلى عن عمامته، فهبطت خصلاته على جبهته وعباءته تتطاير بفعل الهواء أعطته هالة بثت الرهبة في جسد كلتيهما.

ابتلعت بصعوبة وتطلعت لسارية من فوق كتفها ترى التوتر في عينيها، فزمت شفتيها بيأس واقتربت منه بثقل تحاول التحدث :

-"نيار.. دعني أشرح لك..."

جذبها بقوة وقد ازداد ضغط فكيه بغضب، فخرجت شهقتان في ذات اللحظة.. ليان علمت أنه لن يمررها مرور الكرام، وسارية ازداد قلقها على ما سيفعله بها، لتهتف بذعر وذراعها يمتد أمامها في محاولة تهدئته :

-"نيار أرجوك هذا ليس خطؤها، بل هو ..."

قاطعها بصوت هادئ جعلها تتمنى لو صرخ بغضب أهون من النبرة التي تثير الرعب :

-"سارية بدلًا من محاولة التفسير لي، وفري وقتك للتفكير في مبرر قوي تخبريه لإلياس عندما يعلم أن زوجته ذهبت إلى عدوه بقدمها وبدون حماية"

لينظر بسخرية إلى ليان بابتسامة ساخرة :

-"سأكون رقيقًا في ردة فعلي مقارنةً به"

تيبست قدمها في موضعها ولم تقل شيئًا تراه يجر ليان خلفه بغضب يخرجان من الشرفة، وكأنها استوعبت مخاطر ما فعلته!

شهقت برعب واضعة كفيها فوق شفتيها ولسان حالها يدعو لإلياس أن يتفهمها.

انتـــهى الفصـــل



الثاني والعشرين من هنا 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close