اخر الروايات

رواية سارية في البلاط الملكي الفصل الثاني والعشرين 22 بقلم هدير مجدي

رواية سارية في البلاط الملكي الفصل الثاني والعشرين 22 بقلم هدير مجدي 

الفصل الثاني والعشرون


عندما يتم القدر

تُغشى عين الحكمة.

وعندما يُكشف المستور

تُفتح عين الندم


غضب شياطين الإنس والجان لا يقارن مثقال ذرة من غضبه الذي اعتمر صدره..

قسمات وجهه الجامدة إلا من اتساع فتحتي أنفه بين الحين الآخر انبأتها أن القادم أسوأ، فقد خدشت جسد الأسد بأظافرها، ولم تلقِ بالًا إلى سعيره الذي تأجج في مقلتيه!

حفرت قبرها بيدها ولن تستطيع النطق ببنت شفة!

فلتتلقى عقابها بصمت ورحابة صدر حتى تمر رياح جحيمه بسلام!

دفعها لداخل جناحه وأغلق الباب بقوة، أولاها ظهره للحظات حتى يسيطر على غضبه.. كانت خلفه تتطلع له بتوتر، تفرك كفيها ولا تجرؤ على الإقدام نحوه ولا التحدث بكلمة.

انتفض قلبها عندما استدار يطالعها بنظراته الغامضة التي تكرهها لأنها تفشل في معرفة ما يدور في خلده!

تحرك تجاه الأريكة دون قطع التواصل البصري بينهما حتى جلس يستند على الوسائد خلفه وجانبه يحك ذقنه بأنامله، ثم قال بهدوء:

-"أسمعكِ عزيزتي.. ما الذي تودين قوله؟!"

أغلقت عينيها وضغطت على شفتيها بقوة تقول بغضب مصطنع ينم عن توترها وأنفاس متسارعة :

-"نيار لا تتعامل معي بتلك النبرة.. تعلم أنني أمقتها"

لم يتحرك قيد أنملة ولم يتحدث بشيء، بل ظل يرمقها بصمت أصابها باليأس والخوف يأكل جنباتها.

تهدل كتفاها وشرعت في سردها لما حدث بدايةً من رؤيتها لسارية تهم بالذهاب، وأمر الترياق حتى أمر كهرمان لوزيره أن يأتي به وتركهما تعودان.. لكنها لم تخبره بأمر محاولة اعتدائه على سارية!

صمتت تتطلع له من أسفل أهدابها تراه بنفس وضعيته لم يتحرك!

نظراته سوداء ثابتة!

ملامحه جامدة غامضة!

ابتلعت لعابها بصعوبة وخطت خطوة نحوه بشجاعتها أعادتها خطوتين للخلف بانتفاضة عندما وجدته ينهض فجأة وبدأ بالاقتراب منها، راقبته بحذر حتى وقف أمامها ورفع كفه يأخذ خصلة بين أنامله وقال برقة لا تتناسب مع الموقف :


-"وجدتِ سارية تهم بالذهاب وبدلًا عن منعها أو إخباري بالأمر، قررتما من أنفسكن الذهاب إلى هناك..."

تفرقت شفتاها تهم بالحديث لكنه أكمل فابتلعت كلماتها :

-"ذهبتما إلى قصر أكبر أعدائي ولم يأتِ في مخيلتكما أن يمسكما بسوء؟

حسنًا دعكِ من كل ذلك!"

نظر لها بأعين مظلمة وهمس بفحيح لأول مرة ترى هذا الجانب منه.. هذا هو نيار الذي يهابه الجميع :

-"زوجتي تخرج دون علمي، وليس إلى أي مكان بل إلى مملكة أخرى متناسية أن لها زوج"

هزت رأسها برفض ودب الحزن على ملامحها النادمة، فتركها فجأة يتجه نحو إبريق الشراب وملأ كأسه يكمل :

-"أخبريني ماذا أفعل لو كنتِ مكاني؟

أخبريني كملكة ما هو الحكم العادل الذي ستتخذينه؟"

نظر لها بسخرية يتجرع من الشراب وأشار لها مكملًا :

-"فأنا ملك لا أبخس من قدر ملكتي وأستشيرها في قراراتي"

علمت أنها جرحته، كرامته دُميت بشدة فرفعت كفيها أمامها قائلة بلهفة :

-"لا نيار الأمر ليس كذلك أقسم لك، أنت تعلم سارية طالما الأمر يتعلق بإلياس فلا شيء يستطيع إيقافها"

اقتربت منه ووضعت كفها فوق وجنته ماسحة عليه بإبهامها تتطلع لعينه بحب جم وأكملت :

-"أقسم كنت في حيرة من أمري بين الذهاب معها لحمايتها وبين منعها وإخبارك"

أنزل كفها من فوق وجهه ودفع الكأس بقوة على الأرض ليرتطم بها صارخًا بغضب :

-"فقررتِ الذهاب إلى هناك دون إخباري أليس كذلك!"

هتفت بانفعال ناظرة له بقوة :

-"وهل كنت ستقبل إذا أخبرتك؟

بالطبع لا هذا مستحيل"

جذبها من مرفقها بعنف وهمس من بين أسنانه وقد ظهر اللون الأحمر في عينيه من غضبه :

-"وبالرغم من معرفتك بهذا المستحيل ألقيتِ به عرض الحائط!"

نظرت له بقوة وهتفت من بين أسنانها متحررة من قبضته :

-"وماذا كنت ستفعل إذا أخبرتك أن إنقاذ أخيك يقبع بين يدي أكبر أعدائكما؟

هل كنت ستشن الحرب عليه أم كنت ستراسله بهدوء حتى يبعث العلاج؟!"

التفتت له بانفعال لتلتف خصلاتها حول رقبتها تغطي نصف وجهها، وأشارت له بسبابتها هاتفة :

-"بالطبع لا، ولو فعلت لن يوافق لأنه مثلما قال..

من تسبب بالداء لا يعطي الدواء"

صمتت بأنفاس لاهثة تعض على لسانها مما قالته عندما رأته يستدير لها بأعين متسعة من المفاجأة يقترب منها متسائلًا :

-"هو السبب فيما حدث لأخي؟"

ابتلعت بصعوبة وقالت :

-"ليس تمامًا لكن هناك من طلب منه هذا السم لأن مملكته هي الوحيدة التي تصنعه"


تسارعت أنفاسه بغضب واشتدت قبضته بجانبه وكاد أن يلتفت ليذهب فأمسكته من كتفيه ووقفت في طريقه هاتفة بخوف من ردة فعله :

-"لا لن تخرج من هنا، فأصغر قرار ستأخذه شن الحرب عليه.. لذلك تعقل نيار وفكر قليلًا ، فكر في أخيك الذي استعاد وعيه لتوه"

تطلع إليها بملامح جامدة وهمس بغموض :

-"أبتعدي عن طريقي ليان"

وقفت أمام الباب واضعة ذراعيها على حافتيه تهز رأسها بقوة وهتفت دون وعي خوفًا مما سيحدث :

-"لا لن تذهب.. لقد ضقت ذرعًا من هذا الكهرمان، فأنا لم أرفض الزواج منه حتى يظهر مرة أخرى يفسد زواجي منك ويفتح الأبواب لاحتمالية إصابتك بأذى!"

صمتت واضعة كفيها فوق فمها وعيناها اتسعت بذعر لما نطقت به.. فبدلًا عن محاولة كبح غضبه حررت الوحش الكامن بداخله.

اقترب منها ببطء شديد وحاجبين معقودين حتى رفع ذراعيه حولها يستند بهما على الباب خلفها وهمس بجانب أذنها :

-"كهرمان أراد الزواج منكِ من قبل؟

ماذا هناك أيضًا لم تخبريني به؟!"

عضت على شفتيها وأغمضت عينيها بشدة قبل أن تشهق بعلو عند شعورها بيده أمسكت بخصرها بقوة كأنها تخترقه فلم يهتم بألمها، هامسًا بوحشية من بين أسنانه :

-"كنتِ تقفين أمام رجل رغب بكِ زوجة!

أراد التقرب منكِ في يوم!

فيمَ كنتِ تفكرين ليان؟"

قاطعت حديثه هذه المرة بشفتيها التي ألصقتها بخاصته بقوة جعلته يصمت تمتص غضبه وثورته، تمتص غيرته التي بدأت تتمكن منه.

أرادت أن يهدأ، أن يشعر أنها لم تحب غيره.

نظرت له تحيط عنقه بذراع تتمسك بكتفه باليد الأخرى وهتفت بنبرة تملكية يسمعها منها لأول مرة :

-"إياك نيار.. إياك أن تشك لحظة بحبي لك، فلو كنت للحظة فكرت في هذا الشخص لما كنت الآن زوجتك"

شعرت بقوة قبضته على خصرها أكثر لكنها تجاهلتها وأكملت :

-"أنت أول حب لي والأخير، لم ولن أفكر في شخص غيرك طوال حياتي.. هل تعلم ما سبب رفضي للزواج منه؟!"

طالعها بتساؤل لتجيب :

-"أنت السبب"

أومأت برأسها عندما وجدت الدهشة ترتسم على ملامحه تكمل بابتسامة :

-"نعم أنت.. منذ أن سمعت عنك أحببتك، الغموض المحيط بك كان يستفزني..

كيف لملك عادل ومغوار مثلك تهابه الممالك كلها ليس خوفًا بل احترامًا أن يكتفه قانون مثل هذا يستطيع إلغاءه بسهولة؟!

أحببتك وقررت خوض التحدي وانتصرت"

نظر لها بصمت لبعض الوقت تسارعت فيه دقات قلبها في انتظار ردة فعله، ثم رفع كفه ممسكًا بيدها يفصل العناق ويبعدها عنه باشتعال في نظرات عينيه ثم قال بنبرة ساكنة تناقضه :

-"قبلتك لن تمحي خطأك، لن أنسى أنك خرجت دون أذني، و أنك أخفيتِ خبر تقدمه لخطبتك"

اقترب منها ببرودة أنفاسه مكملًا :

-"أنا لا يعنيني كهرمان، بل لا يحرك في أنملة..

الحقيقة الكاملة أنك زوجتي و ملكتي أنا، و حاليًا في غرفتي في قصري بين يداي..

لا يعنيني ما فعله البتة، بل كسرني و جرحني خروجك أنتِ عن طوعي و تخبئة أسرارك"

كادت أن تتحدث لكنه أزاحها ببطء من أمام الباب وقال بحدة وهو يفتحه ليخرج موليًا إياها ظهره :

-"ستظلين هنا لن تخرجي إلا بإذني"

أمسك مقبض الباب ودار لها برأسه فقط ناظرًا لها ببرود :

-"ولن أقربك بتاتًا"

سقطت بجسدها جالسة على الأريكة خلفها وعيناها تتطلع بالباب الذي صفعه بقوة خلفه، صدرها يعلو ويهبط بأنفاس عالية تكبح رغبتها في البكاء بسبب ما آل إليه الأمر.

أما هو فقد وقف خلف الباب للحظات يحدق في الفراغ ويفكر :

-"علام تنوي يا كهرمان؟

تركك لهما تعودان إلى المملكة دون المساس بهما خلفه أمر عظيم تخطط له!"




نام متوعكًا وفي الصباح سألته كيف أصبحت؟

أجابها أصبحت أحبك أكثر من الأمس.


مضجعًا في فراشه عار الصدر، يستند بظهره على الوسائد وهي جالسة أمامه يشعر بتغيير بها سواء في ملامح وجهها الذي يعتقد أنه ازداد وزنه قليلًا بالإضافة إلى جسدها، لكنها زيادة أرضته كثيرًا!

يشعر أن هناك شيء يحدث معها من توتر حدقتيها التي لم ترفعها لعينيه حتى الآن.

أكملت ربط جذعه بضمادة جديدة وقالت بابتسامة وهي ترفع الإناء تنوي الذهاب :

-"هكذا أصبح كل شيء على ما يرام..

سأطلب من الخادم تجهيز فطورك"

أمسكها من رسغها يمنعها من النهوض لتنظر له بدهشة تحاول عدم التفكير في حديث نيار حتى يستعيد عافيته بالكامل وستخبره بكل شيء، قربها منه قائلًا :

-"ساريتي ما الأمر؟

ما الذي يحدث معك؟"

ابتسمت بزيف مربتة على كفه وقالت مطمئنة :

-"لا تقلق لا يوجد شيء، كل ما في الأمر أن ما حدث لا أستطيع إخراجه من مخيلتي"

أحاط وجهها بين كفيه بحنان يحاول أن يطمئنها، وكاد أن يتحدث لولا دخول جاد المفاجئ كعادته دومًا، فطالعه إلياس بذهول قبل أن يهتف به:

-"أقسم سأقتلك يومًا ما"

لم يجبه جاد بل رمقه بنظرة لامبالية ووجه حديثه إلى سارية الواقفة بجانب الفراش وقرر إثارة غيظه:

-"كيف حالك ساريتي؟"

كتمت ضحكاتها بصعوبة تضع قبضتها أسفل فمها وقالت :

-"أنا بخير جاد.. وأنت؟"

تولى إلياس الإجابة بدلًا منه بنبرة غيورة يشوبها التهديد :

-"لن يكون بخير إذا استمر هكذا"

طالعته بأعين متسعة بذهول، وجاد خلفها رافعًا حاجبه بإغاظة ثم توجه له يساعده على النهوض وارتداء عباءته الملكية :

-"حسنًا أيها الغيور، تخلَ عن غيرتك قليلًا وأنهض معي.. هناك ما أريد منك رؤيته"

نظر له بتساؤل عما يقصده، فربط عباءته بإحكام وسار به نحو شرفته وسارية خلفهما لا تفهم ماذا يحدث!

خرج ثلاثتهم إلى الشرفة لتتسع عينيه مما رأى.. الساحة الرئيسية لقصره ممتلئة برعيته من رجال ونساء، أطفال وشيوخ حتى خارج بوابته الكبرى على امتداد واسع من مرمى بصره، والذين هللوا بالهتاف والدعاء عندما خرج إليهم سالمًا على قدمه بجوار وزيره وزوجته.. تطلع إلى جاد بصدمة ممزوجة بالسعادة ليربت على كتفه :

-"مجرد أن انتشر خبر إفاقتك وعافيتك في المملكة حتى وجدناهم على باب القصر مطالبين بالاطمئنان عليك"

ابتسم بفخر لشعبه ورعيته ورفع يده لهم يحييهم، فتقدم كبير الشيوخ على مقدمتهم وقال بصوت جوهري :

-" أدام الله عافيتك يا مولاي، اليوم عيد بالنسبة لنا احتفالًا أنك بخير وسلام"

ابتسم أكثر وقال بصوت حاول أن يصل لهم :

-"لولا دعواتكم ما كنت لأصبح بخير"

شعر بقبضة سارية الرافضة لفكرة أن مكروه يصيبه على كفه فابتسم دون أن ينظر إليها لكنه قربها منه وأكمل :

-"لا شيء أحب عندي أكثر من حبكم لي، قدرني الله على عدم خيبة أملكم فيّ"

حياهم مرة أخرى واعتذر منهم أن يرتاح فدلف إلى جناحه مرة أخرى، ليخرج جاد بعدما أرسل له نيار يريده في أمر ما، فالتفتت سارية إلى زوجها وأحاطته فجأة هامسة له :

-"أنا فخورة بك.. وسأبقى شاكرة على زواجي منك"


ابتسم لها دون حديث وضمها أكثر إليه تاركًا ضمته تخبرها بما تود سماعه.

صوتها يختصر المسافة

ونظرتها تختصر الحياة

ابتسامتها كقطعة الحلوى بعد مرار كبير

ورقتها كملمس زهرة فوق جرح غائر

حبها كالدعاء بداخله

وقلبه بالعشق يغلفها


يتناقش مع أحد الجنود في أمر ما حتى وقعت عيناه عليها آتية من الحديقة ممسكة بسلة مليئة بالزهور والأعشاب الخضراء، أشار للجندي بالذهاب وتقدم منها يقف أمامها يعيق حركتها.. فمنذ أن أتوا إلى هنا وأصبح لا يراها إلا نادرًا ولم يتحدث معها كأنها تعاقبه.

رفعت نظرها إليه بصمت والتفتت تنوي الذهاب فأعاق حركتها مرة أخرى ناظرًا إليها بإغاظة لتقول بسخرية :

-"هذه الحركات لا تليق بك"

كتم ضحكته حتى لا يزيد من غضبها وأجاب مشاغبًا:

-"إذا كنتِ ستتعاملين معي كوزير فلا يصح أن تتركيه وتذهبي دون أن يسمح لكِ"

اقترب منها واضعًا كفيه على ذراعيها بحنان يهبط إلى أذنها هامسًا:

-"أما إذا كنتِ تتعاملين معي كجاد فقط، فأنا لا أترك فتاتي تذهب حانقة"

رفعت رأسها له بضعف وضمت السلة أكثر إلى أحضانها كمن تستمد منها القوة وقالت بنبرة حزينة:

-"أشعر بالضعف جاد، أشعر بشيء ينقصني ولا أجد الراحة بدونه.. أنت تظن أنني غاضبة لمجيئي إلى هنا؟!"

هزت رأسها بالنفي وتابعت بابتسامة مليئة بالشجن :

-"بالطبع لا.. فأنا لم أكن لأستطيع الاستغناء عن سارية، ولا عدم وجودك معي"

انخفض صوتها بخجل ليبتسم بعشق مقربًا إياها منه هامسًا :

-"هل ظننتِ للحظة أنني كنت سأتركك؟

تحلمين عزيزتي، فأنا لست ممن يتخلى عن شيء أصبح جزءً منه"

تنهدت بخجل مشيحة برأسها بعيدًا عن نظراته ليعديها إليه مرة أخرى وأكمل عنها الشيء الذي يحزنها :

-"لكنكِ هناك تشعرين أنكِ قريبة من أبيكِ صحيح؟"

اتسعت عيناها بصدمة من قراءته لما يدور في عقلها، لكنها أومأت برأسه موافقة على ما قاله فابتسم بجاذبية وربت على وجنتيها قائلًا :

-"لا تحزني وأتركِ الأمر لي.. والآن أخبريني لمن تلك الزهور والأعشاب؟!"

أجابته بابتسامة تتلمس البتلات بأطراف أناملها :

-"إنها للملك إلياس، أمرت سارية بوضعهم في مسبحه الخاص لأن لهم القدرة على استرخاء الجسد خاصةً بعد مكوثه في الفراش هذه المدة"

أومأ بتفهم ليقاطعه الحارس يهمس له بشيء جعله يبتسم بارتياح ناظرًا إلى وسام الواقفة لا تفهم شيئًا مما يحدث، انصرف الحارس وتوجه بحديثه إليها مشيرًا إلى السلة :

-"حسنًا عزيزتي أذهبي لإعطاء هذه إلى سارية وأنا سأراكِ لاحقًا"

انصرف دون الاستماع إليها ترمقه بتعجب قبل أن تهز رأسها بلامبالاة وتتجه إلى الداخل.

مر الوقت وكانت مع سارية في الحرمليك برفقة ليان ورقية، جاءت إحدى الخادمات وهمست في أذن سارية :

-"مولاتي.. الوزير جاد يخبرك أن ما اتفقتما عليه قد تم"

ابتسمت وأشارت لها بالانصراف ثم تحدث إلى وسام قائلة :

-"عزيزتي هناك شيء أرسلت في طلبه وأمرت الخدم بوضعه في جناحي، فهل تحققتِ من الأمر؟!"

ابتسمت لها وانصرفت تتابعها نظرات رقية التي هتفت :

-"ما الذي يحدث هنا؟!"

قوست شفتيها بلامبالاة تتلاعب بخصلاتها وعيناها تحوم في المكان قائلة :

-"شيء لن يفيدك ولن يضرك يا جلالة الملكة، فالأفضل أن تريحي عقلك من التفكير قليلًا"

أخفضت ليان رأسها إلى أعمالها اليدوية تخفي ضحكاتها التي تكتمها بصعوبة خاصةً بعد ملامح رقية الإجرامية وكأنها ستنقض عليها في أي لحظة لتتخلص منها.

اتجهت وسام في طريقها للجناح لكن يد ظهرت من الظلام تحيط خصرها والأخرى وضعت على فمها تمنع صراخها، اتسعت عيناها بذعر قبل أن يأتيها صوته هامسًا في أذنها :

-"لا تخافي إنه أنا.. أهدأي"

أزاح يده عن فمها وتمسك بخصرها أكثر عندما وجدها تتحرك بعنف للإفلات منه هاتفة بغضب وحنق:

-"ألن تكف عن إثارة رعبي؟

لا أفهم ما متعتك في جذبي هكذا فجأة؟!"

ضحك باستمتاع يحكم السيطرة على حركتها لتستكين متسمعة لهمسه :

-"لا أستطيع وصفها لكِ.. لكن هذا ليس ما جئت بكِ لأجله ، تعالي"

جذبها من كفها خلفه تسأله عن وجهتهما لكنه أشار لها بالصمت، فسارت خلفه بهدوء حتى توقفا أمام القاعة الخاصة بالضيوف، أدارها تجاه الباب يقول :

-"الآن ستفهمين كل شيء"

فُتح الباب ودفعها برفق للداخل فالتفتت له بجبين متغضن ليشير بكفه لها بالذهاب.

رأت رجلًا جالسًا يرتكز بمرفقيه على قدميه يخفض رأسه الذي انتشر الشيب فيه بالكامل.. شعرت بدقات قلبها تتسارع كلما اقتربت منه بخطوات بطيئة، تقبض على ثوبها بقوة وتوتر.

شعر بخطوات أحدهم ليرفع رأسه إليه فتسمرت في مكانها، صدرها يعلو ويهبط من المفاجأة.

أبيها.. هو أبيها!

نعم مازالت تتذكر ملامحه جيدًا رغم السنوات لكنها لم تغب عنها للحظة.

نهض بتثاقل متأملًا الفتاة التي وقفت أمامه، قلبه يعصف به ودموعه الدافئة تبلل وجنتيه.

اقترب منها وعيناه تمشطها من أعلاها لأسفلها يملأها برؤيتها التي غابت عنه طوال تلك السنوات.. وقف أمامها ورفع يده المرتعشة يحيط وجهها هابطًا إلى ذراعيها دون أن يلمسها، فضمت قبضتيها إلى فمها تكتم شهقات ترجوها أن تخرج باشتياق تسمعه يهمس :

-"وسام ...!!"

إن أخطأت العين بعد السنوات التي مرت، فالقلب خير دليل!

انغلاق عينيها ودموعها الهابطة على وجهها كانت أبلغ إجابة على سؤاله، ليعيد همسه غير مصدق أنها أمامه :

-"وسام.. ابنتي"

أومأت برأسها عدة مرات غير قادرة على الحديث، ظنت أنه سيجذبها إلى أحضانه لكنها تفاجئت به يجثو على ركبتيه أمامها يبكي بشكل يقطع طيات القلب، شهقت بذهول من فعلته وجلست أمامه هاتفة ويدها تمتد لوجهه :

-"أبي ماذا تفعل؟!"

ابتعد بوجهه عنها يهز رأسه برفض، وملامحه تُكتسى بالندم والأسف يقول :

-"لا.. أنا لا أستحق هذا، لا أستحق حتى لمسك بل لا أستحق أن أسمع هذه الكلمة منكِ"

نظرت له بصدمة وعدم استيعاب لما يقوله تهز رأسها باعتراض ورفض لكنه أكمل :

-"الأب الذي لا يستطيع حماية ابنته ومحاربة الجميع حتى لا تؤخذ منه، لا يستحق أن يطلق عليه أب!

الرجل الذي يلقي بها إلى هذا المصير ولم يحمِ حياتها، لا يحق له النظر في وجهها مرة أخرى، بل لا يستحق الحياة"

شهقت بعلو وبكائها يرتفع مما يعيشه، فألقت نفسها بين ذراعيه تحيط عنقه بقوة وكأنها خائفة أن يتسرب من أمامها، ثم رفعت وجهها من أحضانه تميل به و تستميله.. تنفذ خطوط الدمع من عينيها ممسكة بوجهه بين كفيها الصغيرتين تخبره :

-"أبي لا تقل هذا.. أرجوك لا تفكر هكذا يكفيني رؤيتك، والله تكفيني"

نظرت إلى ملامحه باشتياق تضم وجهه بين كفيها تقبل كل جزء به هامسة بصوت محشرج :

-"اشتقت لك أبي.. والله اشتقت"

قبل وجنتيها بقوة وطبع قبلة طويلة على جبينها يبث لها اعتذاره عما مضى ثم ضمها بقوة هاتفًا :

-"قلب أبيكِ.. اشتقت لكِ يا عمري"

في إحدى الزوايا المظلمة، يقف يتأملها بهدوء تعب كثيرًا حتى يتحلى به أمام بكائها، وسيطر على نفسه حتى لا يندفع نحوهما يضمها كي تهدأ مقنعًا عقله أنهما يحتاجان أن يكونا بمفردهما في هذا الوقت.

شعر بيد فوق كتفه ليجدها سارية تقف بجانبه تمسح دموعها التي هبطت جراء لقائهما، همست له بامتنان :

-"أنت تعلم أنه بجلبك لأبيها أعدت الجزء المفقود من روحها"

أومأ يعيد النظر إلى معشوقته التي استكانت في أحضان أبيها لا تريد تركه ، ثم التفت إليها يراها تعيد البكاء فتنهد بيأس من تلك المشاعر لدى الإناث وجذبها إليه يربت على رأسها بحنو لتقول بمزاح :

-"أتعلم لو رآك إلياس هكذا سوف يقتلك، فلن تهنأ بحبيبتك ولا بشبابك حتى"

ضحك بخفوت يجيبها بلامبالاة :

-"يفعل ما يريده لكن الآن أختي بحاجة إليّ"

بعد قليل كانت قابعة بأحضان أبيها تستمع إليه يخبرها بذهاب جاد إليه والإتيان به إلى هنا حتى يجمعهما، فرحته الشديدة عندما علم أنه سيراها ثانيةً.. ابتسمت بعشق فاق حدوده لهذا الرجل الذي تمكن من قلبها انتبهت لأبيها الذي قال :

-"هذا الشاب رأيت بعينيه حبًا لن أبالغ لو قلت أنه يفوق حبي لكِ"

أحاطت خصره ودفنت وجهها في صدره بخجل قبل أن يأتيها صوت حبيبها :

-"حبي لها لو وزنت جبال الأرض، وجُمعت قطرات مياه الكون لن تكفي ما يحمله قلبي لها"








نهاية الشيء أفضل من استمراره بشكل باهت

عاقبة التعجيل بالاعتراف أهون من ألم تأجيله

أهون من العيش في قوقعة الذنب، التأنيب، الخوف، وصوت الضمير الذي لا ينفك عن إثارة تحسّرك!!

الذكاء أن تنتهز الفرصة قبل أن يأتي آخر ويعبث بالأمر على طريقته الخاصة..

حينها الكلمات ستهرب

الأعذار ستختفي

وفرصة الدفاع ستتبخر

وحدهما الغضب والبُعد سيكونان سيدا الموقف!!


جالسًا برفقة أخيه وجاد بعدما استعاد عافيته يتناقشون في أمور المملكتين، قطع اجتماعهم دخول أحد الحراس يحمل رسالة ملفوفة في يده وتوجه بها إليه ينحني أمامه قائلًا باحترام :

-"مولاي، هذه الرسالة وصلت لجلالتك"

أومأ بموافقة وأمره بقرائتها لكن الحارس اعترض بهدوء :

-"عذرًا مولاي، لكن الرسول الذي أُرسل بها أخبرني أنها خاصة لابد أن تقرأها بنفسك"

عقد حاجبيه بدهشة ونهض يأخذها من يده وأمره بالانصراف، فضها وشرع يقرأها :

-"الملك العظيم إلياس..

بعد تحياتي إليك أود أن أعبر عن امتناني لشفائك مما لحق بك..

أنت تدين لي بالشكر لأنني السبب في هذا الشفاء، فعلاج السم الذي أُصبت به لا يصنع إلا في مملكتي.. أنت تعلم أنه من المستحيل أن أفعل شيئًا لصالحك إلياس، لكن حقيقةً لم أشأ أن أرد زوجتك خائبة الآمال عندما آتتني ترجو المساعدة.

لنا لقاء عما قريب.... ( الملك كهرمان )"

أعاد قراءة الرسالة أكثر من مرة خاصةً السطر الذي يخص زوجته بأعين غامضة وملامح غير مقروءة، تنفس ببطء ونيران الغضب ترتفع في صدره حتى شعر بها في حلقه، عيناه تحدق في الفراغ وقد اتسعت حدقتيها بحدة.

جعد الرسالة في يده يقبض عليها بغضب حتى أبيضت مفاصله يزمجر بعنف :

-"كهــرمان"

اتجه مندفعًا للخارج دون أن يلتفت لأخيه وجاد اللذان تطلعا لبعضهما بدهشة، لكن نيار شعر أن هذه الرسالة تخص ما حدث مع سارية وزوجته منذ أيام.

دلف إلى الحرمليك باندفاع فوقف الجميع احترامًا له وتعلقت به أنظار الجميع، لكنه لم يلتفت لهم وحال بنظراته فلم يجدها ووجد وسام فقط، سألها عنها فأخبرته أنها برفقة والدها، أمرها أن تخبرها باللحاق به في جناحه في الحال ثم التفت في طريقه تاركًا إياها تتطلع لغضبه بدهشة ولسان حالها عما حدث!


جالسة بجانب أبيها على مسافة منه تطالعه بجانب عينيها بتردد وقلق بعد أن سردت له ما فعلته لتأتي بالعلاج.

لأول مرة خائفة من ردة فعله فهو صامت يتطلع بمسبحته يتابع تساقط حباتها برتابة مستغفرًا ربه بتكرار، فركت يدها للمرة التي لا تعرف عددها وشفتها كانت تُدمى من شدة ضغط أسنانها عليها، فالتفتت له بجسدها وهتفت بقلة حيلة :

-"أبي لا تصمت هكذا وأخبرني ماذا أفعل وكيف سأخبره؟!"

تطلع إليها في صمت لكن نظراته تحمل من الغضب والغيظ ما يجعلها تنكمش في نفسها قلقة، تعلم أن صمته يخفي غضب وثورة لو أخرجهما لن تتحمل، نهض من مكانه يوليها ظهره وقال بنبرة أظهرت غضبه :

-"لا أعلم أين كان عقلك وأنتِ تذهبين إلى عدو زوجك؟

منذ متى وأنتِ تقررين في أمر مهم دون الرجوع إلى أحد؟"

أغمضت عينيها بشدة ممسكة برأسها بين يدها وتنحني للأسفل ثم رفعتها له بضعف، وقالت بنبرة رجاء لعله يفهم لماذا فعلت هذا :

-"أبي أرجوك أفهمني، أنا لم أفكر سوى بسلامته فقط ..."


اشتعلت عيناه من جدالها وإنها لم تفهم خطورة ما فعلته، فقاطعها برفع يده أمامها هاتفًا بحزم بصوته الرخيم :

-"وهل بذهابك لكهرمان ضمنتِ سلامته؟

منذ متى وأنتِ بهذا العقل حتى تقنعي نفسك أنه سيعطيكِ العلاج؟!"

صمت يهز رأسه بيأس من أفعالها، كان يظن أنه بزواجها سيحد من عنفوانها لكنه يزداد!

نهضت تقف أمامه تفرك كفيها بتوتر ورأسها يدور في كل جانب، تمسح على جبينها وتعود تفرك يدها مرة أخرى قائلة بدموع تساقطت على وجهها :


-"أبي.. أنا أعلم أن لا أحد سيتفهمني غيرك، حتى إلياس أنا قلقة من ردة فعله، لكن لم يكن هناك حل غير هذا..

زوجي كان على شفا حفرة من الموت وعلاجه بين يدي هذا الشخص، لو لم أخاطر كان أبسط ما سيحدث غضب نيار"

أمسكت بيده بين كفيها وشهقاتها ترتفع بخفوت، ثم رفعت رأسها بنظرة رجاء وضعف وهزت رأسها ببكاء :

-"لن يكون الضحية أحدًا سوى زوجي، لم أستطع الجلوس وأراه يموت، يكفيني أنني حاولت"

تنهد ينظر لها مطولًا قبل أن يضمها بين ذراعيه، يعطيها الطمأنينة والقوة التي تحتاجها، مسح على خصلاتها بحنان وصمت لبعض الوقت قبل أن يقول بقلة حيلة لا يدري ماذا يجب أن يفعل بالتحديد :

-"أنا أتفهمك يا قلب أبيكِ، إن فعلتِ أقل من هذا لن تكوني ابنتي.. لست أنتِ من تجلس بضعف خاصة وأنتِ تعلمين الحل، كل ما قلته نابع من قلقي عليكِ"

شددت من احتضانه تدفن نفسها أكثر بين يديه قبل أن تقول بقلق :

-"تعتقد ماذا سيفعل إلياس عندما أخبره؟!"

أجابها من أعلى رأسها ويده ترتب خصلاتها وهز رأسه بعدم معرفة وقال بانفعال لم يتخلَ عنه :

-"إن أتهمك بالخيانة وقتلك بدم بارد لن أتعجب"

اتسعت عيناها بذعر وانتفضت من بين يده شاهقة، فقهقه بخفوت لتنظر له بغيظ، جذبها له برفق وسألها بهدوء وابتسامة يتأملها بالكامل :

-"لا يا عزيزتي هو لن يفعل هذا أنا أمازحك.. لكن أعتقد أن هناك شيء آخر تودين إخبار الشيخ الكبير به صحيح؟!"

تطلعت له بابتسامة وأحاطت عنقه بذراع والآخر مسحت به على كتفه وذراعه ثم قالت بهمس :

-"نعم.. أنت ستصبح جدًا عما قريب يا بدر الدين"

نظر لها بصمت وبدأت عيناه تترقرق بالدمعات، أحاط وجهها بين يديه وابتسم بحنان يطبع قبلة طويلة على جبينها أغلقت لها عينها بتأثر وحب ثم ضمها إليه أكثر، مفكرًا أن طفلته ستصبح أُمًا عما قريب..

صغيرته المسئولة منه هو فقط، طفلته وحده ستصبح لها طفل صغير وستدلف إلى عالم الأمومة، ربت على رأسها قائلًا :

-"أحاطك الله برعايته هذه الفترة حتى يأتي الصغير بسلام"

مسحت على ظهره هامسة :

-"هو محظوظ لأنك جده يا بدر الدين"

طرق الباب ودلفت وسام علامات القلق بادية على وجهها وتقدمت منها تخبرها :

-"سارية الملك إلياس يريدك في جناحه في الحال"

نظرت لأبيها بقلق وإلى وسام بتساؤل لكن يده المشجعة على ظهرها جعلتها تتنهد بعمق لكن قلبها يدوي بقلق وخوف مما هي مقبلة عليه.

اتجهت للخارج قاصدة جناحه، في حين نظر إلى وسام متسائلًا :

-"ما الأمر.. لما أنتِ قلقة يا ابنتي؟!"

-"لا أعرف عماه.. لكن ملامحه وهو يبحث عنها لا تنم على الخير، فلقد كان في أوج غضبه"

نظر ناحية الباب بغموض يومئ برأسه فلقد شعر أنه علم بالأخير، فأخذ يدعو أن يوهب ابنته الركيزة والذكاء كي تستطيع حل هذه المشكلة.


دلفت إلى الجناح تحول بنظراتها الخائفة تبحث عنه، يدها دون وعي منها انتقلت إلى بطنها تحيطه كأنها تستمد القوة من جنينها.. بحثت عنه لكنها لم تجده فنظرت في شرفته فلم يكن فيها.

تغضن جبينها بدهشة قبل أن تقع عيناها على الورقة المثبتة بمحبرة بها ريشة كبيرة فتناولتها تقرأ محتواها..

ما كادت تنهيها حتى شهقت واضعة يدها على فمها واتسعت عيناها برعب تدور برأسها بهستيرية تبحث عنه حتى جاءها صوته الهادئ من خلفها :

-"أعتقد أنكِ علمتِ لماذا طلبت إحضارك!"


وجدته يرتكز بظهره على الحائط المجاور لغرفة مسبحه وهالة من الغضب تشعر بها تخرج من جسده ونظراته، رمقت الرسالة بيدها ترمش بأهدابها بذهول وأعادت نظرها إليه، تقدمت خطوة تبتلع لعابها بصعوبة :

-"إلياس أنا..."

صمتت لا تعرف من أين تبدأ فسمعت قهقهة ساخرة وابتسامة جانبية ظهرت من بين الظلام بثت الخوف أكثر بداخلها :

-"أكملي أنتِ ماذا؟"

أغمضت عينيها تعض على شفتيها ثم أعادت النظر إليه، رفعت الرسالة أمامها قائلة بثقة تحاول التشبث بها كي تستطيع إقناعه وامتصاص غضبه :


-"سواء الرسالة أُرسلت أم لا، كنت على وشك المجيء والتحدث معك بشأن ما فعلته.. لم أتوقع أقل من هذا من شخص حقير مثله"

ضحكة ساخرة صدرت منه وهو يتقدم منها قائلًا يرفع إحدى حاجبيه :

-"أنتِ تعلمين أنه حقير أليس كذلك؟"

ضيقت عينيها بحذر فوقف أمامها واضعًا ذراعيه خلف ظهره، ينظر لها من أعلاه وغضبه على شفا حفرة من الخروج ساقطًا على رأسها لكنه يسيطر عليه بصعوبة وأكمل ساخرًا :

-"هلا أخبرتني لماذا تذهبين لشخص.. حقير؟!"

قال جملته كل كلمة على حدى باستهزاء، كرهت سخريته لكنها ابتلعتها بصبر وتحدثت بهدوء :

-"كما أخبرك في رسالته، أنا لم أكن هناك أتنزه بل كي أحضر هذا الدواء لشفائك"

رفع سبابته أمام وجهها وبدأ غضبه يظهر في نبرته التي ارتفعت هاتفًا من بين أسنانه :

-"لا تختبري صبري سارية، فأنا لدي أفضل الأطباء كانوا سيجدون أكثر من طريقة لإنقاذي"

وتيرة صوتها ارتفعت وانتشر اللون الأحمر في وجهها والانفعال في نبرتها، ترمش بأهدابها ترمقه بنظرات مشتعلة :

-"طبيبك من أخبرني أن لا سبيل في إنقاذك سوى هذا الxxxx، أخبرني أن هذا السم لم تأتِ النبتة بتأثيرها معه بل علاجه الوحيد في هذه المملكة"

أمسكها من كتفها بقوة حتى كادت أصابعه أن تخترق جلدها وجذبها إليه صارخًا يحرر غضبه والنيران اشتعلت به عندما علم بما فعلته:

-"متى ستكفين عن تهورك الذي سيؤدي بحياتك يومًا؟

هل كنتِ ستشعرين بالراحة عندما يرفض ما ذهبتِ من أجله؟

هل كنتِ ستشعرين بالسعادة عندما يعتقلك بقصره ويحقق ما يسعى إليه؟"

تسارعت أنفاسها بخوف أن يكون علم بما فعله معها هناك وأنه السبب بما حدث معه، ابتلعت بصعوبة وقالت بهتاف وصوت مختنق :

-"لا لم أكن لأشعر بالراحة إلياس.. لكنني أيضًا لم أكن لأكتفي بمراقبتك تموت أمامي"

تركها واندفع للخلف يمرر أصابعه بخصلاته بانفعال ممسكًا بنهايتها وعضلة فكه تنقبض بقوة بجانب وجهه، أكملت بصوت خافت :

-"لم يكن في تفكيري غير إنقاذك إلياس"

نظر لها بحدة وعيناه سكن اللون الأحمر البياض حول حدقتيها فأصبحتا مرعبتين وهتف بها :

-"وما الفائدة من محاولتك لإنقاذي إن كان رفض ولم يتركك تعودين؟"

انتفضت في مكانها بسبب صراخه وتطلعت له بصمت تحاول الهدوء والسيطرة على انفعالاتها حتى لا يتعقد الأمر أكثر، رفعت يدها تعيد خصلاتها للخلف بتفكير لكنها تسمرت تراه يوليها ظهره قائلًا :

-"لو أعلم أن إنقاذ حياتي يكمن بين يدي هذا الحقير كنت سأتمنى الموت على أن يكون له فضل عليّ"

إلى هنا وكفى!

ماذا يظن نفسه حتى يتحدث هكذا؟

تفعل كل هذا من أجله..

تلقي بنفسها إلى التهلكة لإنقاذه وهو يتمنى الموت بكل بساطة لأن يعتقد أن كهرمان أصبح له الفضل عليه؟!

أدارته من مرفقه بغضب فتطلع لها ببرود وعيناه تهبط على يدها الممسكة به ليتصاعد غضبها منه وهتفت به بهستيرية :

-"حقًا تتمنى الموت على أن يكون السبب في إنقاذك؟"

صدح صوتها أكثر وغضب قوي :

-"أنت الآن لا تفكر إلا في نفسك ومظهرك أمامه لدرجة أن تتمنى الموت ولم تفكر بي؟


لم تفكر في حياتي إن حدث لك شيئًا..

لم تزوجتني إذن إن كنت تقارن حياتك به؟!"

اشتعلت عيناه بغضب من حديثها، فالغبية لم تتفهم خوفه عليها لمجرد تخيله أنه كان في يده أن يتسبب بالأذى لها، يعلم أنه يرغب بها منذ حديثهما سويًا يوم الاحتفال.

جذبها من خلف عنقها ووضع كفه الآخر على فمها يكتم حديثها وسيل كلماتها التي لا فائدة منها غير أنها تزيد من غضبه.

صمتا يتطلعان في أعين بعضهما بغضب.. اشتعال.. غيظ، ثم همس بحدة :


-"يومًا ما سأطعم لكِ لسانك، لن أجيبك على سبب زواجي منكِ لأنه أكثر ما تعرفينه..

لكن أخبريني أنتِ ما فائدة حياتي لو فعل لكِ شيئًا؟

لماذا لم تخبري نيار أو جاد بما قاله الطبيب بدلًا عن الذهاب بنفسك؟"

أنزلت كفه من فوق فمها لكنها لم تبتعد بل رفعت رأسها تجيبه بنبرة ساخرة تضرب بسبابتها على صدره :

-"أنت تقول هذا!

هل تريد إقناعي أن جاد أو أخيك كانوا سيرسلون له الهدايا والمراسيل حتى يحن قلبه ويعطيهم الدواء؟!


أنت أكثر من يعلم مجرد أن يعلما أنه يتورط بما حدث لك بأي شكل من الأشكال لن يتهاونا في الأمر"

هتف بقوة يهز برأسه بيأس وجذبها من مرفقيها حتى التصقت به :

-"أيتها الغبية مهما وصل العداء بين مملكتين يوجد عدة طرق للوصول لما تريدين دون استخدام القوة كما تعتقدين!

أنا لي أعين في مملكة كهرمان، بمجرد وصول الخبر لهم كان الترياق سيصل إلى هنا بأسرع مما تتخيلين"

دفعت يده بقسوة من عليها، واشتعلت عيناها تنظر له قبل أن تهتف بلوعة تشيح بيدها تحاول إيصال السبب الذي دفعها لفعل هذا التهور والذي لا يستطيع رؤيته في خوض غضبه :

-"أنا لا أعلم كل هذا، أنا لا أعلم غير أن زوجي أصيب بسهم مسموم ولم تُجدِ محاولات الطبيب في إنقاذه!

لا أعرف غير أن الطبيب أخبرني أن الترياق المعالج يوجد في تلك المملكة ولا أمل في شفائك إلا به!"

صمتت تنظر له وصدرها يعلو ويهبط من لهاثها ووجهها اكتسى باللون الأحمر، رأى اشتعال زرقتها وخضرتها ازدادت قتامة ثم اقتربت بوجهها منه وأكملت بهمس حاد :

-"لا أيها الملك الأمر ليس بهذه البساطة أتعلم لماذا؟!"

طالعها بنظرات متسائلة لتجيبه :

-"لأنه مثلما قال من تسبب في الداء لا يعطي الدواء!

هو السبب فيما حدث لك فإنه سيفعل المستحيل حتى لا تصل الأيدي إلى ذلك الدواء، ولهذا كان مصدر تصنيعه هناك في قصره حيث لا أحد يصل له غيره"

وقف أمامها مكتفًا ذراعيه خلف ظهره مشددًا على قبضته بقوة حتى ابيضت أنامله وحدقتيه قد ازدادتا قتامة وقد ثبت نظره على الفراغ أمامه، يفكر فيما حدث!

السهم كان المقصود به هو وليس سارية!

لقد كان كهرمان ذكيًا في حركته، أراد التخلص منه ويحصل عليها!

هدفه كان هي وليس قتله، هو أكثر من يعلم تفكير كهرمان جيدًا.

انتبه لها عندما تحدثت مرة أخرى بيأس تضع كفيها على صدره تنظر بعينين متسعتين مليئتين بالرجاء والبراءة المغلفة بالتيه :

-"لم أفكر بشيء سواك، وأن كلما تأخر الوقت ازداد الخطر على حياتك، لم أشعر بشيء سوى أنني أتجه إلى هناك، كنت سأذهب بمفردي لولا ليان التي رأتني وأصرت على المجيء معي!"

مال برأسه يتطلع لها وقال بصوت خافت :

-"بدون حماية وبدون أحد معكما!


لم تفكري فيمَ سيحدث لي، لوالدك، للجميع لو حدث لكما شيء؟"

نظر لأسفل واقترب بوجهه منها حتى وصل إلى أذنها هامسًا بنبرة صوتها تشتعل بالغيرة والغيظ :

-"أتعلمين أنه وقف أمامي يوم زواجي يعدد في صفاتك وجمالك!

يفكر فيكِ كامرأة يرغبها.. أتستطيعين استنتاج السبب وراء فعلته الآن؟"

أغمضت عينيها بقوة، تعلم ما يتحدث عنه، فلقد أخبرها بنفسه حتى كادت أن تزهق روحه، فضغطت على شفتيها بأسنانها تمنع كلماتها من إخباره بمحاولته اعتدائه عليها حتى لا يجن جنونه أكثر ، ليكمل همسه بغموض أسود :

-"أتشعرين بما أشعر به سارية؟

شعور المكوث في الفراش مسموم وزوجتي في قصر عدوي دون حماية ولا أمان..

أن يصيبك أذى أو يمسك بشيء وأنا لا أستطيع إنقاذك!

أن رجلًا آخر يحاول قتلي فقط ليصل لزوجتي!

شعور أنني لا أدري بما يحدث حولي وعاجز عن حمايتك من كهرمان، أمي، ومن يريدون أذيتك"

تمسكت بملابسه أعلى صدره تهز رأسها بنفي مما يقوله وتركت العنان لدموعها تتساقط وقد بدأ دوار طفيف يلوح في رأسها لكنها تغلبت عليه وهمست من بين أنفاسها الثقيلة :

-"لا إلياس أرجوك أفهمني، أنت أكثر من يعرف أنني لم أكن سأمكث هكذا وأراك تعاني، ليس أنا من تنكمش في نفسها تاركة للآخرين تولية أمور من يخصها، وأنت زوجي إلياس..

أقسم أنني لم أفكر سوى بسلامتك، أنت لم تعلم حالتي كيف كانت وأنا أراك هكذا"

حال بنظراته على وجهها بصمت وغموض فلم تقطع التواصل بينهما وبادلته النظرات لكنها كانت مترجية التفهم، السماح، الغفران.

قال بصوت بارد ولهجة لا رجعة فيها :

-"أنا أتفهمك سارية، لكن هذا لا يشفع عندي ما أشعر به جراء ما فعلتيه.. عنفوانك وعدم تفكيرك في العواقب يجب كبحه لأنه سيؤدي بكِ إلى مهالك لا حصر لها"

رفع رأسه بشموخ ينظر لها من أعلاه نظرات فارغة في ظاهرها لكنها استطاعت قراءة الانكسار وخيبة الألم خلفهما :

-"ستظلين هنا حدودك شرفتك وباب جناحك فقط ، خروجك لن يكون إلا بإذني بوجود حراسة معك!"

شعرت أن الدوار يزداد فأصبحت الرؤية مشوشة أمامها بشدة، تسمع صوته كأنه يأتي من مكان بعيد يصل لها ضعيفًا، تنفست بعمق وهزت رأسها بقوة تشدد قبضتها على ملابسه أكثر تحاول السيطرة على بقعة الظلام التي تريد سحبها إليها.


عقد حاجبيه بدهشة لحالتها قبل أن تتسع عينيه يشعر بجسدها يهوي بين ذراعيه فاقدة وعيها.. ضمها بذراعه وربت بقلق على وجنتها يهتف باسمها :

-"سارية.. سارية ماذا حدث؟!"

كانت برحلتها في الظلام فلم تستمع له، حملها برفق يضعها فوق الفراش بهدوء، واندفع تجاه الباب حتى يأمر حارسه ليأتي بالطبيب لكن وجه بدر الدين كان أول من طالعه عندما فتح الباب، فتقدم والدها منه بقلق من ملامح وجهه يسأله :

-"ما الأمر بني؟

ما الذي حدث.. هل سارية بخير؟!"

أخبره بفقدانها المفاجئ للوعي لينطلق للداخل كي يراها قائلًا له :

-"لا داعٍ للطبيب أغلق الباب وألحق بي"

جلس بجانب ابنته يعيد خصلاتها للخلف يتحسس جبينها ونبضها، وعلى الجانب الآخر إلياس جالسًا ممسكًا بيدها بقوة يطالعها بأعين قلقة، يعلم أنه قسى عليها لكن ما فعلته ليس هينًا في حق نفسها وفي حقه.

نظر لبدر الدين الذي كان يحكم الغطاء حولها ونهض من جانبها يتنهد براحة مبتسمًا، نهض إلياس يقف أمامه بحيرة يسأله :

-"عماه ما الأمر أنا لم أفهم شيئًا!

هي فاقدة للوعي، لماذا منعتني من إحضار الطبيب؟"

اتسعت ابتسامة بدر الدين وربت على كتفه يطمئنه وقال بهدوء :

-"أطمئن بني هي بخير، كل ما في الأمر أن الانفعال لم تتحمله في حالتها تلك فسقطت فاقدة الوعي لكنها على ما يرام"

عقد حاجبه بدهشة يهز رأسه بعدم فهم يقول :

-"لا أفهم.. ما بها حالتها؟"

ضحك وشد على كتفه أكثر يحيل نظراته بينه وبين ابنته النائمة :

-"هذه الفتاة لا فائدة فيها..

زوجتك تحمل في أحشائها ابنك يا بني، ولابد أن الإغماء بسبب انفعالها من النقاش فلم تتحمل"

تطلع إلياس إليها بأعين متسعة وملامح مظلمة غير مصدق لما سمعه.. حامل!

حبيبته تحمل بداخلها قطعة منه زرعها بحبه لها وعشقه اللامحدود!

لا يعلم أيفرح بهذا الخبر لأنه يرى ناريته حامل بطفله أم يغضب لأنها أخفت عنه هذا؟

تنهد بقوة واستغفر ربه في نفسه حتى لا يجعل الشيطان يسيطر على أفكاره أكثر.. انتبه إلى بدر الدين الذي لاحظ اشتعال عينيه عندما سمع بالخبر فعلم الأفكار التي لاحت في مخيلته فقال بهدوء :

-"أعلم أنك في حيرة من أمرك، تفرح أم تغضب؟

لكن هل كنت ستسعد إذا استغلت الأمر حتى تشغل تفكيرك عما حدث؟"

كاد أن يجيبه لكنه استمر بحديثه :

-"ليس من طبع ابنتي الهروب وما أنا متأكد منه أنها كانت ستخبرك ما إن أنهيتما الحديث في ذهابها إلى كهرمان..

أنا لن أتحدث في هذا الأمر لأنه يخصكما، مطمئن لأنني أعلم أنك لن تظلم ابنتي وإنها تستحق أن تعاقب، وفي عقابك ستترفق بها"

تنهد إلياس بقوة وزفر الهواء دفعة واحدة، ثم نظر إليه يومئ له بتفهم واطمئنان أن هذا ما سيفعله، ليبتسم الشيخ يضمه إليه بسعادة هامسًا له :

-"مبارك لك بني.. جعله الله من الذرية الصالحة وأعانك الله عليها"

ابتسم يربت على كتفه هامسًا له بدوره :

-"بارك الله في عمرك عماه، لكن لا أريدها أن تعرف أنني علمت بالأمر"

أومأ متفهمًا ثم خرج وتركه معها، فتقدم إلياس من الفراش يجلس بجانبها واضعًا كفه على رأسها والآخر فوق بطنها يلتمسها بحنان وابتسامة شقت فمه، ثم هبط إلى جبينها يقبله واستند بجبينه عليه هامسًا :

-"أحبك أيتها النارية، وعلى قدر الحب يكون العتاب والغضب..

سعادتي تفوقت على غضبي ، لكن لابد من موقف حازم حتى تعلمي أن حياتك لم تصبح ملكك ، وتفكري بكل خطوة بعد الآن"


انتهى الفصل



الثالث والعشرين من هنا 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close