رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) الفصل الحادي والعشرين 21 بقلم عفاف شريف
عريس قيد الرفض


Amr Alaa
Snow Bell
رحل الحبيب وترك خلفه حكاياتٍ لم تكتمل، وأحلامًا باتت كالغبار تتلاشى مع أول نسمة ريح. كيف لقلبٍ أحب بصدق أن يتجاهل هذا الفراغ؟ كل زاوية تحمل ذكرى، وكل لحظة تحمل وجعًا. ليست الخسارة في الفراق فقط، بل في محاولتي أن أعيش بعده وكأن شيئًا لم يكن.
ورغم الحزن، أؤمن أن الأيام تعلمنا كيف نعيد ترتيب نبضاتنا، وكيف نلملم أشلاء أرواحنا. فالحب يبقى درسًا، حتى إن لم يكتمل.
تميم مدحت العسلي
❈-❈-❈
في بعض الأحيان، يكون الصمت أبلغ تعبير عن أوجاع لا تسعها الكلمات.
صمت متألم، يتكسر صداه في أعماق روحك، حيث تنكسر الأحلام بصمت، وتخبو الآمال دون ضجيج.
صمت صامت، كأنه ظلٌ يرافقك، يخفي انكسارك حتى عن نفسك، كأنك تخشى الاعتراف به كي لا يزداد وجعه.
تختار الروح أن تتوارى خلف ستار من الهدوء، بينما في الداخل عاصفة هوجاء، لا تهدأ، لا تتوقف، لكنها تظل حبيسة بين الضلوع.
بغرفة تميم
كان حسام يساعده في تعديل وضعية الوسادة برفق، قبل أن يستند عليها تميم بتعب، والإرهاق بادٍ على وجهه، رغم تحسن حالته الصحية إلى حدٍّ كبير، يحمد الله عليه في كل لحظة.
إلا أن حسام يثق أن ما بداخله ينعكس عليه بشكل قوي. تميم يتألم ولا يتكلم، بداخله صرخة متألمة لن يخرجها مهما حاولوا،
لا لأنه لا يعرفه، بل لأنه يعرفه حق المعرفة. يعلم أن الألم سيظل له وحده،
مغلقًا عليه ألف بابٍ وباب.
تنهد بضيق وهو يطالع صمت تميم التام.
كان هناك حيث يريد أن يكون،
لا هنا في أرض الواقع... أرض الآلام. لذا، اقترب منه، جلس بالمقعد بجانبه، قائلًا بهدوء:
تميم، انت كويس؟
لم يرد عليه لوهلة، وظن أنه لم يسمعه، لكنه في النهاية التفت، ناظرًا إليه، وربّت على يده قائلًا بعد عدة لحظات: الحمد لله يا حبيبي.
ثم تابع بضيق: حسام، أنا قلت لك امبارح روح، وكنت رافض تمامًا قاعدتك هنا،
بس انت أصريت. بس أظن كفاية...
يلا يا حبيبي روح البيت، ارتاح،
أنا كويس والحمد لله.
الممرضين هنا عاملين اللي عليهم وزيادة، ومحدش سايبني، يعني وجودك تعب ليك وخلاص. أنا بخير يا حسام، وكده كده أصلًا هنام وارتاح، فهتقعد لوحدك.
وتابع بحزم، مشيرًا إلى الباب: يلا توكل على الله من غير مطرود.
هز حسام رأسه نافيًا، إلا أن تميم شدد على يده، قائلًا بإصرار: والله لتروح يا حسام! بجد، أنا بخير والحمد لله.
انت كمان محتاج ترتاح وتنام كويس.
واكمل بتساول : بقالك قد إيه مشوفتش مراتك وبنتك؟
روح يلا...
وأصلًا شوية وهتلاقي جيش التتار جه طابق عليَّ نفسي!
قالها مازحًا، مشيرًا إلى إخوته وأبيه، إلا أن حسام لم يجاريه في المزاح، وبقي محافظًا على ضيق ملامحه، وبداخله يتساءل:
إلى متى الصمت والتجاهل يا تميم؟
لماذا لا تشاركني هذه المرة ما في قلبك؟
هذه المرة مختلفة، وليست ككل مرة. يريد أن يحمل عنه ولو قليلًا،
يريد أن يزيح تلك الهموم. لذا، شدد على يده هو هذه المرة، قائلًا بخفوت: تميم، انت محتاج تتكلم، محتاج تخرج اللي جواك وفي قلبك.
احكيلي، قول كل اللي وجعك، أنا هنا وفي ضهرك، أنا أخوك.
لو أنا موقفتش جنبك، مين هيقف؟
فضفض عشان ترتاح.
تميم أنا عارف إن اللي حصل مكنش سهل، مش سهل أبدًا، بالعكس... صعب.
أنا يمكن مقدرش أبدًا أحس بوجعك، بس عارف قد إيه قلبك اتوجع.
مش هين تعترف بده كراجل، بس وجع القلب مبيفرقش بين راجل وست، هو بس... وجع.
ثم تابع بيأس: خلاص يا تميم
فر......
وقبل أن يكمل، رفع تميم يده ليوقفه، قائلًا بحزم خافت، كأنه ينتزعه انتزاعًا من حلقه، كأشواك تمزقه شر تمزيق: لا يا حسام...
لا مينفعش.
من النهاردة اسمها ميتذكرش تاني يا حسام!
صمت لوهلة، قبل أن يتابع بخفوت واهن، بصوت ظهر فيه شيء من القهر، أو ربما الخذلان والحزن: الإنسانة دي... إنسانة متجوزة، على اسم راجل تاني،
وليها بيت وأسرة. مينفعش نتكلم عنها،
لا بحلو ولا بوحش، ولا سيرتها تتجاب من النهارده، ولا تكون مجال كلامي ولا كلامكم.
قالها بإصرار، ثم تابع بصدق:
كانت، وهتفضل ليها مني كل الاحترام.
اللي كان... بقى ماضي. ماضي اتقفل واتردم بالتراب.
أنا بعتبر اللي حصل كان نصيب، وأكيد ربنا له حكمة في كل ده، لكن لا هي نصيبي، ولا أنا نصيبها. يمكن كانت تجربة كان لازم أمر بيها، ومكنتش من حقي، كانت حق غيري.
الست دي صفحة واتقفلت...
اتقفلت خلاص يا حسام.
أرجوك، مش حابب أتكلم ولا أسمع كلام تاني في الموضوع ده، على الأقل احترامًا للوضع الجديد.
وصمت. ثم همس، كأنه يهمس لنفسه:
"الوضع أنها بقت ست متجوزة..."
وبداخله، أدرك أخيرًا أن بعض الصفحات، مهما تشبث بها القلب، ومهما نزفت وجعًا حتى جفّت روحه، لا بد أن تُطوى. فمضى في طريقه، يجر خلفه ظلًا من خيبة، وقلبًا أنهكته المعارك حتى بات خرابًا. لكنه أيقن بعد أن فقد كل شيء، أن بعض الخسارات تميت أكثر مما تنقذ، لكنها تتركنا أحياء رغمًا عنّا.
❈-❈-❈
كانت تحظى بنومٍ عميقٍ مُتعبٍ،
إلا أنه لم يدم طويلاً.
وهي تستفيق على كفٍّ صغيرٍ سقط على وجهها في صفعةٍ أحدثت صوتًا عاليًا،
مرحبًا بها في بداية يومٍ جديد.
فتحت عينيها تنظر حولها بفزعٍ وصدمةٍ،
وقبل أن تستوعب، كانت تنال الكفّ الآخر.
أمسكت يده بسرعةٍ، وهي تفتح عينيها تناظره بذهولٍ،
والآخر يناظرها بهدوءٍ وابتسامةٍ شريرة.
رفعت حاجبها تتمتم بضيقٍ ووجهٍ غاضبٍ مُتعبٍ ومرهقٍ: كده تضرب ماما؟
عيب تضرب ماما،
تميم نوتي.
قالتها بصوتٍ أعلى قليلاً من صوتها العالي،
لينتفض الآخر ينظر لوجهها المخيف بعيونٍ متسعةٍ،
وهي توبّخه بشدةٍ،
وهو لم يفعل شيئًا.
قبل أن تنقلب شفتاه وينفجر في بكاءٍ عنيفٍ.
اتسعت عيناها بدهشةٍ،
وهي تراه يُمثّل المثل بدقةٍ:
"ضربني وبكى، سبقني واشتكى."
فعلاً هي المخطئة،
إلا أنها لم تقدر على تحمل بكائه لأكثر من عدة ثوانٍ.
وهي تستقيم، تجلس، تحمله وتضمه لصدرها،
قائلةً برفقٍ وهي تهدئه بحبٍ وحنانٍ: "خلاص أنا آسفة،
آسفين يا سيدي،
بس بس يا روح قلب ماما،
بس يا روحي.
قالتها وهي تمسّد على ظهره،
تهدئه. وحينما لم يتوقف،
تابعت بفظاظةٍ وسخريةٍ: "خلاص بقى يا تيمو، متبقاش قليل الأدب،
يعني بتضربني وعايزني أسقفلك،
وأقولك برافو كمال يا حبيبي،
إيه الجيل المهبب ده؟
لكن بكائه كان يزداد.
وبعد وصل دلالٍ استمر لمدة عشر دقائق كاملة، وافق على السكوت أخيرًا.
وكاد أن يصفي عينها بعد ست ثوانٍ من الصلح،
إلا أنها أمسكَت يده مُقبّلةً إياها، قائلةً بتعبٍ ويأسٍ:
"أبوس رجل أمك، كفاية،
كفاية وشي اتهري ضرب."
وكأنه يفهم حديثها، فأطلق ضحكةً سعيدةً،
وهو يميل إليها ليقبلها.
فابتسمت له،
تمنحه وجهها بهدوءٍ.
فكانت تستحق ما حدث بعدها،
وهي تنال عضةً قويةً من فمه الصغير،
قابضةً على أنفها كاللص.
حسنًا، هي تستحق،
هي الغبية التي تظن أن هذا الكائن الصغير
سيقبلها.
خلصت أنفها برفقٍ من بين أسنانه،
قائلةً بتساؤلٍ وهي تمسّد أنفها بالألم:
أين باقي الصغار إذن؟
وقفت بكسلٍ بعد أن وضعته على الفراش،
تحرك رأسها يمينًا ويسارًا بتعبٍ،
والصداع لا يتركها أبدًا منذ عدة أيام.
قبل أن تتوجه للخزانة، تخرج ملابسَ نظيفةً وحجابًا.
ف انس بالمنزل معهم،
ولحسن الحظ أن أباها
وفر لكل غرفةٍ حمامًا خاصًا
ليمنحهم المزيد من الخصوصية،
تحديدًا لأيام تجمعهم.
راقبت تميم المتجه ببطءٍ نحو حافة الفراش،
ليلقي بنفسه من عليه،
مرحبًا بالأرض ليحتضنها بكل حب.
أسرعت تلتقطه وهي تعض وجنته، قائلةً بهدوءٍ ومشاغبةٍ: يا حبيبي، يا حبيبي،
نطت التنين المجنح ده مش صح ابدا،
هتقع تاخد الأرض بالحضن،
وتتكسر زي البسكوت،
اتقي الله،
اتقي الله فيا.
قالتها وهي تضعه في كرسيه الصغير المتحرك ليلعب إلى حين خروجها،
وكانت تتابع تحركاته بدقةٍ من شق الباب.
فتميم الصغير
كتلة كوارثٍ متنقلةٍ،
لا يجب أن تغفل عيناها عنه ولا دقيقةً واحده حتى.
وفعلاً، وقبل أن تكمل ارتداء ملابسها،
سمعت صوت شيءٍ يسقط أرضًا بقوة.
اتسعت عيناها برعبٍ،
وهي تركض للخارج،
وبرأسها ألف سيناريو مرعبٍ.
قبل أن تقف تستند على الباب،
تضع يدها على صدرها المرتعب،
وهي تراه سليمًا ولله الحمد.
إلا أنه أسقط صفَّ زجاجات عطرها
بعد أن جذب غطاء طاولة الزينة.
هزت رأسها بيأسٍ،
وهي تتوجه نحوه تحمله،
وتجلسه على الفراش.
لتكمل ارتداء ملابسها بيأسٍ.
حسنًا، لا أمل في بعض الخصوصية،
فهي أم،
وتلك الكلمة لم تعد موجودة في قاموسها.
❈-❈-❈
خرجت من الغرفة تحمل تميم،
ليقابلها مدحت، وقد كان لتوّه خارجًا من غرفته بعد أن صلّى الظهر.
هلّل بسعادة وهو يقترب منها، يحمل تميم، يقبّله بحب،
والآخر يصفّق سعيدًا بجَدّه الحبيب.
ولم ينسَها بكل تأكيد،
بل طبع قبلة حنونة على إحدى وجنتيها، قائلًا بحنان: صباح الخير يا لولو.
ابتسمت له، تعيد له قبلته ولكن على يده، مردّدةً بخفوت: صباح النور يا حبيبي.
وتابعت متسائلة: الولاد فين يا بابا؟ صحيت ملقتش حد في الأوضة.
أجابها بهدوء وهو يلاعب تميم: تحت، البنات صحيو الصبح وخدوا عز ونزلوا، وأنا قلتلهم يسيبوكي نايمة، وهم قاعدين تحت مع حور وملك.
أوْمَأت له برفق،
وتساءلت بهدوء، متابعةً ملاطفته لتميم: إحنا هنروح لتميم إمتى المستشفى؟
أجابها برفق وهو يمسح على خصلات الصغير:
أنا كنت لسه هنزل أكلم حسام، لما كلمته من شوية مردش، فقلت أكيد لسه نايم، قلت بقى شوية وأكلمه تاني، وننزل نروح، ولما يرد إن شاء الله نتحرك، وهو ييجي يرتاح شوية هنا.
أوْمَأت له بهدوء، قبل أن تَتَأَبَّط ذراعه، ليهبطوا للأسفل حيث الجميع.
❈-❈-❈
كان أنس يقف في الحديقة يحادث أمه،
زفر بضيق مستمعًا لتوبيخها الحاد له،
قبل أن يرد بهدوء: ممكن تستهدي بالله؟ إيه اللي حصل لكل ده يعني؟
كل ده عشان قلتلك اديني بس كام يوم،
وأنا إن شاء الله هجيبلك ملك وآجي! يا ماما، الوضع هنا مش أحسن حاجة، هروح أقولها إيه؟
سيبي أخوكي المرمى في المستشفى وتعالي زوري أمي؟
أنا والله لولا الوضع كنت جيت، ومستحيل أتأخر عليكي، بس صعب، صعب أوي، إزاي عايزاني أعمل كده؟
أطبق فمه بتعب وهو يمسح وجهه،
مُبعِدًا الهاتف عن أذنه،
وهو يسمعها تصيح به قائلةً بعصبية: وفيها إيه لما تيجي؟ هي الزيارة بتاعتي تقيلة أوي كده على قلب السنيورة؟ بدل ما هي اللي تقولك تعالي نروح لمامتك، بتقويك عليا، وبتخليك تعصي كلامي! أخوها فاق وبقى زي الحصان، إيه؟ هتغيرله ولا إيه؟ ما هي مرزوعة عندك! بص يا حسام، أقسم بالله…
قاطع قسمها قائلًا بتعب: يا ماما، لو سمحتي، بلاش حلفان، عشان إنتي كده بتجبريني أكسره، هو أنا اللي بطلبه كتير؟ كام يوم بس، كام يوم، وأنا أوعدك هنيجي.
وكالعادة، أغلقت الخط في وجهه.
وضع الهاتف في جيب بنطاله، شاعرًا بالضيق.
ماذا يفعل؟
حقًا، ماذا يفعل؟
أمه لا تفهم،
لا تفهم أنه هو ابنها ،
هو فقط من يجب أن يطيعها،
لا زوجته.
تنهد بتعب، وهو يلتفت ليعود للداخل،
إلا أن وقوف ملك خلفه
جمّده مكانه.
تنهد بضيق وهو يرى ملامحها، والتي تنبئ بكل تأكيد أنها استمعت لحديثه.
اقتربت منه، تضع رأسها على صدره، قائلةً برفق: مش مشكلة، حقها يا أنس تشوفك، وتشوفني، كمان طنط ليها حق علينا. مش مشكلة يا حبيبي، حصل خير، نروح بكره أو بعده نزورها، متزعلش نفسك، كله هيتحل إن شاء الله.
قالتها بحنان، وهي تمسح وجهه برِقّة.
ابتسم لها بحنان، وهو يزيد من ضمّها بحب.
مهما كان حزينًا،
تظل هي صاحبة القدرة على حلّ أي مشكلة،
القادرة على رسم الابتسامة على شفتَيه،
مهما كانت،
مهما كانت.
❈-❈-❈
تحركت ببطئ تسير بهدوء نحو المصعد، شاعرةً بجسدها يرتجف فعليًا.
ضمت الباقة لصدرها أكثر، شاعرةً بالتوتر والرعب،
وسؤال واحد يتردد في عقلها منذ قررت الحضور، يتردد مرارًا وتكرارًا:
ماذا تفعل هنا؟ ماذا تفعل هنا؟"
لكن الإجابة بداخلها، حتى وإن لم ترد الإفصاح عنها. هي تريد أن تطمئن على تميم.
هذا الصديق كان يومًا نعم العون لها، كان خير من دعمها، كان من شعر بحزنها، ساندها.
فلترد جزءًا ولو صغيرًا من هذا الدين، ولتراه بخير وتطمئن، وسترحل، ستغلق تلك الصفحة للأبد.
فلتُلتفت لحياتها، لتصلح ما فسد بها.
قالتها لنفسها بابتسامة، قبل أن تقف أمام المصعد.
ولم تلتفت تنظر خلفها لتري خروج حسام من المصعد الآخر، ليخرج هو وتدخل هي.
وبكل هدوء، أخذت نفسًا عميقًا، داعيةً الله أن يمر اليوم بخير، فقط لينتهي هذا اليوم بخير.
❈-❈-❈
أغمض عيناه أخيرًا شاعِرًا بالراحة برحيل حسام.
حضرت الممرضة وتأكدت من أن كل شيء على ما يرام.
أغلق له حسام الستائر، إلا من فتحات بسيطة لضوء خافت كما يحب ، وغادر.
بعد الكثير من الأسئلة والخوف أن يتركه،
لكن مع إصرار، رَضخ أخيرًا.
وكم ارتاح هو.
لا أحد يفهم.
هو لا يشعر بالضيق بسببه ولا بسببهم.
بل لا يريد أن يرى نظراتهم له.
لا يريد شفقة، لا يريد عطفًا.
لا يريد أي من هذا.
فقط يريد وقتًا.
وقتًا ليتعافى، ليتقبل، ليتحمل.
وقتًا ليكون قادرًا على أن يكون بخير.
يريدهم حوله كما كانوا دائمًا، لكن دون ذالك الحزن عليه.
حزنهم عليه يمزقه، ويفطر قلبه.
هو عاش عمرًا كان الداعم لهم، ويريد أن يظل هكذا دائمًا.
لكل منهم مشاكله الخاصة، لا يحب أن يكون عبئًا جديدًا فوق أعبائهم.
قادر هو على التحمل ولا يحملهم.
يريد عائلته دون تلك المشاعر التي تؤلمه قبل أن تؤلمهم، وهو يكفيه الألم.
فليكتفِ بهذا القدر.
أراح رأسه بتعب ووهن، وهو يستعد فعليًا للنوم.
أصبح كثير النوم، يعلم.
هو يهرب من الواقع، لكن إلى متى؟
بنومك ستنسى عشقها، ستنسى حبًّا نما بداخلك يومًا بعد آخر، حتى صار كحديقة مليئة بالورد، تنتظر أن تطل عليها شمسها.
والآن، أحرقت الحديقة، وغابت الشمس، حتى صارت رمادًا.
قطعة السكر، ل فقد قطعة السكر،
ولم يشعر بعدها بشيء.
فقد غطَّ في نوم عميق، نوم متعب ووهن.
ولم يكن يعلم،
ولو كان يعلم ، لسهر الليالي في انتظارها.
❈-❈-❈
كانت واقفة أمام غرفته،
ولم تدري كم ظلت واقفة في مكانها متخشبة في تلك اللحظة،
إلا أنها ضمت باقة الورود إلى صدرها بتوتر،
قبل أن تأخذ نفسًا عميقًا،
وبعدها ترتفع برفق،
تطرق الباب بهدوء شديد،
مرة تلو أخرى.
وحينما لم يأتي أي رد،
اخفضت يدها تنظر حولها بحيرة،
فلم تجد ما تفعل سوى أنها رفعت يدها ،
تمسك المقبض بتردد،
فتحته بحذر شديد.
كانت تفتح الباب بخجل وتوتر،
إلا أن فتحته بالكامل،
ووقفت على باب الغرفة، متسمرة في مكانها،
وهي تنظر في نهاية الغرفة حيث الفراش،
وتميم يرقد فوقه.
لم تكن ملامحه واضحة،
فالضوء كان شاحبًا،
تراه لكن ليس بدقة.
ترددت قليلاً وهي تشاهد الغرفة الفارغة إلا من سواه.
خطت خطوات بطيئة داخل الغرفة،
خطوة تلو أخرى،
حتى وصلت إليه.
تطلعت إلى وجهه المملوء بالكدمات،
شاحبًا، متعبًا، واهنًا.
كان غير ما كان عليه.
أهذا هو نفس الشاب الذي رأته أول مرة؟
لم تدري كم ظلت تناظره بحزن،
مفكرة كيف وصل إلى تلك الحالة.
حسبي الله ونعم الوكيل،
حسبي الله ونعم الوكيل،
ربنا ينتقم منهم.
رددتها بحزن شديد عليه.
ولم تعرف ماذا تفعل.
لن توقظه بكل تأكيد،
هي فقط جاءت لتطمئن عليه،
وقد اطمأنت.
وكان هذا باكثر من كافي.
نظرت إلى باقة الورد بحيرة،
فلم تجد نفسها إلا وهي تضعها بجانب فراشه برقة،
وألقت عليه نظرة أخيرة،
قبل أن تلتفت مغادرة الغرفة.
لكن وقبل أن تخرج،
التفتت تنظر إليه لعدة ثوانٍ،
قبل أن تهمس بخفوت صادق:
"في حفظ الله يا تميم."
وغادرت.
وبين الوعي ولا وعي،
كان هو يرى طيفها،
وكالكثير من الأحلام،
أتت اليوم أيضًا،
ولم يكن يعلم أنها لم تكن أحد أحلامه،
بل كانت أحدهم وقد تحولت إلى حقيقة.
❈-❈-❈
دلفت ملك بحانبها أنس يحتضن يدها بحنان، ليجدوا الجميع جالسين مع بعضهم البعض، إلا آلاء وحور.
ابتسمت ملك لأنس قائلة برفق: روح اقعد معاهم أنت يا حبيبي، هروح أنا أساعد آلاء وحور في تحضير الفطار، عشان عيب أوي، من امبارح مابعملش معاهم حاجة خالص.
أومأ لها بحنان، متوجهاً حيث الجميع، ودلفت هي سريعًا إلى المطبخ لتساعدهم.
التفت أمير، الذي كان يراقب ما حدث، ونظر إلى يارا بضيق، وهي تتابع هاتفها بهدوء، مفكرًا بانزعاج: إخوته وزوجة حسام في المطبخ، وزوجته هو، بدل أن تدلف لهم لتساعدهم، تجلس بجانبه؟
مال عليها وهمس لها بحزم وتشديد: ادخلي ساعدي إخواتي في الفطار، إنتِ قاعدة وسطنا ليه؟
نظرت له برفض، وقبل أن تصيح به، شدّ على يدها قائلاً بتأكيد: مش هنتخانق هنا، منظرك وحش أوي وإنتِ قاعدة مرتاحة زي الملكة، والكل جوه بيحضر الفطار ويخدم عليكي، قومي اتفضلي!
ملك الحامل التعبانة دخلت، وآلاء اللي معاها أربع عيال برضو دخلت، وحور من امبارح شايلة الليلة! خلينا نخلص بقى من الكام يوم دول، واتفضلي ادخلي... يلا!
قالها بإصرار، فهزّت ساقها بغضب شديد وهي تكزّ على أسنانها، قبل أن تنتفض واقفةً، تلحقهم إلى المطبخ، تكاد أن تحطّمه فوق رأسه الأحمق.
ولم يلاحظ أيٌّ منهم نظرات مدحت الملاحِقة لهم، يراقب كل شيء بصمت... صمت لن يدوم طويلًا.
❈-❈-❈
دلفت لتجدهم يتبادلون أطراف الحديث، وما إن رأوها، حتى بادرت آلاء قائلة بابتسامة:
وحشاني يا يارا!
ابتسمت لها بجمود، وهي تتساءل بضيق:
محتاجين أي حاجة أساعدكم فيها؟
هزّت حور رأسها نافية، قائلة بتأكيد: لا يا حبيبتي تسلمي كل حاجة خلصت الحمد لله، أصلًا المعظَم جِه جاهز.
وتابعت مشيرة إلى الأطباق:
الفول كله جِه متحوّج، حتى الطعمية جابوها متحمّرة، يدوب سخّنتها، والبتنجان، والمخلل... يدوب أنا سلقت البيض، وحمّرت البطاطس، وحطيت الجبنة والخضار.
نظرت ملك إلى الأطباق بجوع، قائلة بشِهية مفتوحة وهي تشمّشم: أمم... يالهوي على ريحة الفول! ريحته حلوة أوي!
وتساءلت: حطّيتي زيت حار يا حور؟
أومأت لها حور، وتابعت بتأكيد: وخلطة كمان! الحقيقة، الفول اللي عم منير جابه طعمه حلو أوي، ومضبوط ما شاء الله بطريقة فظيعة! تسلم إيد اللي عمله حقيقي.
❈-❈-❈
بعد عشر دقائق تمامًا، كان الطعام جاهزًا على الطاولة.
وقف أنس يفرك كفيه بحماس، قائلاً بسعادة وهو ينظر إلى الأطباق الشعبية باشتياق:
يا الله! قد إيه الفطار ده وحشني!
وجلس سريعًا، يمسك قرص طعمية، يلتهمه بسعادة، قبل أن يبدأ الجميع بعدها، مستمتعين بالطعام.
لكن كان الاستمتاع الأكبر بوجودهم حول بعضهم البعض.
كان مدحت يراقب اجتماعهم بروح سعيدة مرتاحة... كم اشتاق إلى جمعتهم!
وجودهم على مائدة الإفطار في حد ذاته يُدخِل السكينة على قلبه المتعب، إلا أنه يوقن أن بداخل كل منهم أمرًا لا يعرفه بعد.
نقل عينيه، بداية من أمير ويارا، التي تأكل لقيمات معدودة وهي صامتة جامدة، حتى الصغار، في صمت وهدوء على غير المعتاد.
حتى ملك، الساهِمة رغم تفاعلها، وحور، التي تطعم الصغيرة بهدوء، بخلاف روحها المرحة.
وأخيرًا... آلاء.
تلك التي لم تعد كما غادرته يومًا ما.
يثق أن بداخل كل منهم بئرًا غامضًا تحوطه الأشواك، وواضح أنها كثيرة وقاسية.
واتضح له أن المشوار سيكون أطول مما يريد... طويل وملئ بالكثير، أكثر مما يظن حتى.
والآن... حان الوقت ليعيد كل شيء إلى نِصابه الحقيقي، كما كان عليه.
فقط... عليه أن يفهم ماذا يحدث من خلف ظهره.
❈-❈-❈
بعد بعض الوقت، خرجت آلاء من المطبخ تحمل بين يديها أكواب الشاي بالنعناع لهم جميعًا، إلا أمير، فقد أعدّت له فنجان قهوة كما طلب منها.
وضعته، وعادت للداخل تجلب الحليب بالشوكولاتة والفواكه للصغار.
وجلست، والصغار حولها، آية تريها رسمتها، وأيلا تحذو حذو شقيقتها، وعزّ "المخرّب" يساعد تميم على التخريب هنا وهناك.
أما مريم ومراد، فكانا جالسين بهدوء، إلا أن آلاء قرّبتهما منها ليشاركا الصغار، وفعلاً، بعد قليل، اندمجوا جميعًا.
ليردف مدحت بتقرير :حسام اتصل، بيقول تميم عايز يروح.
وتابع قائلًا:
ــ أمير، اطلع جهّز شنطة هدوم لأخوك عشان آخدها وأروح.
قطّبت آلاء حاجبها، وقبل أن ترد، تساءلت ملك: تروح؟ قصدك نروح؟
هزّ رأسه نافيًا، قائلاً بتأكيد: لأ، هروح لوحدي، إنتِ هتفضّلي هنا لأنك تعبانه، وحسام هيجي يقعد مع مراته وبنته شوية وينام.
وأشار لآلاء قائلًا:وإنتِ... عيالك محتاجينك.
وتابع بسخرية: وأستاذ أمير مشغول، مش حابين نشغله أكتر.
نظر أمير لوالده بإحراج، لكنه صمت، لا يجد ما يقول.
ليكمل مدحت، قائلًا بحزم وتأكيد: أنا بس اللي هروح.
ومال على أمير، قائلاً بهدوء: لو مراتك مش مرتاحة هنا، خدها وروح شقتك، ما تقعدهاش غصب عنها.
نظر له أمير بصمت...
هو لا يريد أن يذهب إلى منزله، ولا يريد أن يظل هنا...
هو يريد أن يرحل.
وكان مدحت يعلم.
لكنه... لن يقول.
❈-❈-❈
وطبعًا تهرّب أمير من تحضير حقيبة ملابس تميم، والحجة أنه مشغول، ولم يهتم هو.
بل صعد لغرفة ابنة الغالي، حضر حقيبة سريعة بها كل ما يخصه، إلى أن قاطعه دخول آلاء الغرفة، وقد ارتدت ملابسها كلها. ناظرها بيأس وقبل أن ينهرها، قالت بإصرار: هاجي معاك بس أطمن عليه، وأروح وعد مش هطول ولا هتعبه.
صدقني أنا محتاجة ده، أوعدك. أوعدك مش هزعجه ولا هضايقه.
وتابعت بتأكيد:حور قالتلي لو عايزة روحي، وهي هتاخد بالها من الولاد. أنا بس هاخد تميم عشان هيخرب الدنيا، ومش هيرضى يخرجني من البيت أصلاً.
أنا عارفة إني جيت عليها، بس حقيقي محتاجة أشوف تميم.
وكمان يا بابا، اللي ما تتسمي دي، بيني وبينك، خايفة العقربة المسلولة دي تروح.
أنت مشفتش تميم كان عامل إزاي؟ أنا معرفش دي صدفة ولا إيه، بس صدقني أنا مش مرتاحة أبدًا.
الموضوع غريب أوي يا بابا، وأنا مش حابة تميم بسبب واحدة ملهاش لازمة. يفضل مضايق.
زفر مدحت بضيق، لن ينكر. هو نفسه يخشى من ظهور آسيا مرة أخرى، هو لا يريدها أبدًا.
لا يريدها أن تقترب من ابنه. لذا وافق مضطرا،
فهو بحاجة لمن يبعد تلك الفتاة عن تميم.
وآلاء تبدو الخيار الأنسب لتلك المهمة.
لذا حمل الحقيبة وغادر، تتبعه آلاء،
وبقلب كل منهما غصّة لا يعلمها الآخر.
❈-❈-❈
كان بين اليقظة والنوم، يشعر بشيء يجذبه للاستيقاظ، إلا أنه لم يكن قادرًا على ذلك. عبير الورود اخترق روحه قبل أنفه ليفتح عيناه ببطء شديد. ينظر حوله بصمت، قبل أن يلتفت ببطء لتقابل عيناه باقة ورد بدعية الجمال.
كانت تنبض برقة استثنائية، كأنها نُسجت من خيوط الصباح الهادئ وهمسات النسيم الرقيق. تفيض بتلاتها الوردية بلونها الخجول، أشبه بحمرة وجنتي فتاة بريئة حين يغمرها الإعجاب. يحيط بها الدانتيل الأبيض في نعومة كأنه سحابة من الحرير تحنو عليها، فتزيدها بهاءً ورُقيًّا.
أما اللآلئ المتشابكة بين الأزهار، فهي كقطرات ندى تناثرت بحذر على خدود الورود، تمنحها لمسة من الفخامة دون أن تفقدها بساطتها الساحرة. وبين البتلات، تتخلل الأوراق الخضراء كنبضٍ هادئ يذكّر بأن هذا الجمال لا يزال حيًّا، نابضًا بالمشاعر الدافئة.
ليست مجرد زهور، بل قصيدة من الرقة والجمال، تُلامس القلب قبل أن تلامس اليد.
وبها عبير يجذبه، يخبره بالكثير من الأسرار، يهمس بها.
لكن من احضرها
قاطع تأمله للباقة والتساؤل بداخله ،
دخول أباه وآلاء تحمل بين أحضانه تميم الصغير. اقتربت منه سريعًا بعد أن وضعت تميم بين يدي أبيها.
تقترب منه تقبله عدة قبلات، وهي تحتضنه بقوة.
خرجت من بين أحضانه وهي تشدد على يده بدعم صامت.
أما هو فقد كان يناظر الصغير الذي كان ينتظر دوره بلهفة واشتياق، محاولًا التملص من بين يدي جده.
وحينما لم يسمح له، انفجر في بكاء شديد.
اقتربت منه آلاء سريعًا تحتضنه، إلا أنه ظل يشير نحوه هو.
ابتسم بخفوت، يرفع يده لتضعه آلاء بين أحضانه.
ضمه وقبل وجنته بحب وحنان، والصغير يهلل سعيدًا للغاية، فتميم يظل المفضل لديه.
ضمه أكثر وهو يلاعبه، يسأله عن حاله، والصغير يتجاوب معه كأنه يفهم.
قبل أن يضع وجنته على صدره بارتياح.
دمعت عيناه، آلاء فرحًا وحزنًا وهي تشاهدهم معًا.
سعيدة بعلاقتهم، وحزينة لطفل لن يحيا علاقة كتلك مع أبيه أبدًا.
أب لا يستحق هذا اللقب.
ولم تلاحظ حزن عيني أبيها وهو يشاهدهم بقلب مفطور.
فكم تمنى أن يراه يحمل قطعة منه هو، ابن تميم.
وكم كانت أمنية بعيدة في تلك اللحظة.
❈-❈-❈
هبطت فريدة من سيارة الأجرة بعيدًا قليلًا عن منزلها، مقررة شراء بعض الأشياء للمنزل.
طلبت الغداء من الخارج اليوم، ولأنها تعرف حب عمر للسمك، قررت أن يكون سمكً.
وأحضرت للوزة واحدة صغيرة.
فتلك المرة لن يسامحها عمر، وسيلقي بها هي ولوزة خارج المنزل إن تطلب الأمر.
وأيضًا اشترت صنف الحلوى المفضلة لعمر، والفواكه، حتى المشروب.
الحقيقة قررت أن يكون اليوم خاصًا بعمر.
كل ما يحبه ويفضله.
ستحاول.
لا تعلم كم عدد مرات المحاوله حتي الآن
، لكن ستحاول.
ماذا ستفعل؟
تلك العلاقة يجب أن تنجح.
هي تحبه وهو يحبها، لكنهم بحاجة للوصول لنقطة تواصل، لا تجاهل وعناد.
هم بحاجة أن يفهم كل منهم الآخر.
أن محاولاتهم لأجل بعضهم، تصب في النهاية نحو نجاح علاقتهم.
لن تنكر، هي تخطئ، لكن ستحاول.
وستجعله يحاول.
هم بحاجة فقط للقليل من التفاهم.
هي مرة وهو مرة، وستسير المركب كما تريد إن شاء الله.
والآن فلتعد قبل عودة عمر، فامامها الكثير لتحضير ليلة سعيدة، ليلة صلحهم.
❈-❈-❈
نقلت آلاء نظراتها نحو باقة الورد بحاجبين منعقدين،
وقالت باستغراب وهي تقترب منها :مين جاب الورد ده هنا؟
وتابعت بضيق وتساؤل: هي؟
نظر تميم لباقة الورد بهدوء، وما إن أمسكتها حتى تلقى بها في سلة المهملات كليلة أمس.
أوقفها تميم، قائلا بهدوء ورفض: لا، سيبيها، مش منها.
وتابع بيقين غريب: أنا متأكد.
قالها وهو يتلمس بتلات الورد بحنان، حنان لا يعرف حتى هو سببه.
❈-❈-❈
وضعت المفتاح بالباب، تدفعه برفق وبيدها العديد من الحقائب.
أدخلتها، وضعتها على الأرض، وأغلقت الباب بدفعه صغيرة من قدمها.
قبل أن تلتفت، تصرخ بفزع وعيني عمر الواقف خلفها تقابلها، متفاجئة من وجوده.
قبل أن تضحك بتوتر قائلة بهمس:
"خضتني، الله يسامحك أنت ج...."
وقبل أن تكمل، قاطعها قائلًا بصوت جامد حازم: "كنتي فين؟"