اخر الروايات

رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) الفصل الثاني والعشرين 22 بقلم عفاف شريف

رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) الفصل الثاني والعشرين 22 بقلم عفاف شريف


 عريس قيد الرفض

بين الرفض والقدر 🦋
❈-❈-❈
هناك شيء في الداخل، حركة خفية لا يراها أحد، لكنها تُشعر صاحبها بثقلها. كأن هناك طريقين، كلاهما مألوف، لكن أيهما ينبغي سلكه؟ لا إجابة واضحة، فقط ذلك الإحساس الذي يتردد بين الإقدام والتراجع، بين ما يبدو صحيحًا وما يبدو مرغوبًا.
الأمر ليس صخبًا، بل همسًا متكررًا، فكرة تعود كلما ظن أنها اختفت. ربما هو اختبار، أو مجرد لحظة عابرة، لكنها تترك أثرًا، كحجر صغير يحرك سطح الماء الهادئ.
تميم مدحت العسلي
بقلمي عفاف شريف 🦋
❈-❈-❈
أجفلت وهي تعقد حاجبها بشدة، مستمعةً إلى نبرة صوته العالية، وظلت تناظره لعدة ثوانٍ، قبل أن تجيبه بهدوء وبساطة، وهي تتحرك قليلًا تجاهه: كنت في المستشفى.
وتابعت: زيارة لتميم، ابن أونكل مدحت، شريك بابا، لأنه عمل حادثة ومحجوز بقاله كذا يوم.
صمت لوهلة قبل أن يسألها بصوت خافت، خطير: تميم ده نفسه اللي قابلناه في الشركة بتاعة باباكي؟
أوْمَأَتْ له ببطء، ولم تتوقع الآتي أبدًا...
ابتداءً من ارتفاع حاجبه أكثر، ووجهه الذي ازداد تجهمًا واحمرارًا، كأنه على وشك الانفجار، وهو يقترب منها مرددًا بحزم وصوت أعلى: بتقولي إيه؟!
وتابع بصراخ: إنتِ اتجننتي يا فريدة؟
أكيد اتجننتي! لأن دي مستحيل أبدًا تكون تصرفات واحدة محترمة اوعاقلة حتي!
اتسعت عيناها، وكادت أن توقفه وتصيح ليكفّ عن تجاوز حدوده، لكنه تابع، ولم يُعطِها أي فرصة ليكمل بغضب: يعني إيه روحتي تزوريه؟ يعني إيه تروحي تزوري راجل غريب عنك من غير إذني؟!
ارتجفت، وعيناها تتسعان أكثر فأكثر، وهو يزداد قربًا ويهتف بغضب: في المستشفى؟ ولا في أي داهية؟ ما يتحرق، ولا يولع بجاز!
إنتِ مالك؟ مالك إنتِ بيه؟! تعب واتحجز، مالك بيه؟! تقربيه إيه، ويقربك إيه؟!
قالها وهو يضرب الباب بيده بقوة وغضب.
انتفضت هي على أثره بفزع، تناظره بعيون متسعة، مستنكرة.
وظلا هكذا لعدة ثوانٍ، ينظران إلى بعضهما البعض بغضب واستياء، مهما اختلفت أسبابهما.
أما هو، فكان يكاد يمنع يده عنها بكل قوته كي لا يصفعها بقوة، وقبل أن ينطق بحرف آخر، دفعته هي بقوة إلى الخلف، وهي تصيح مثله بإنكار واستياء شديد: إنتَ أكيد اتجننت!
إزاي أصلًا تسمح لنفسك تقولي الكلام ده؟! أنا مش هسمحلك!"
ثم تابعت، وهي تنظر إليه بعينين يملؤهما الغضب: بس قبل أي حاجة، خليني أفكرك لو ناسي... إنك أول جوازنا قلتلي: روحي مكان ما تحبي، المهم أطمن عليكي. أنا مش متجوزك عشان أسجنك!
ثم أردفت بسخرية لاذعة: واضح فعلًا إنّي متاحة ليا أروح أي مكان أحب!
اللي بتغلط فيه ده يكون تميم، ابن شريك بابا، ومن واجبي لما أعرف إنه في المستشفى، المفروض أقل تقدير أزوره!
صاح بها مرة أخرى برفض، جعلها تنتفض مرة أخرى، وتناظره بعيون حزينة: لأ! مش مفروض! ولا من حقك تروحي بدون إذني! إنتِ إزاي أصلًا تسمحي لنفسك تروحي لراجل غريب، وتكوني معاه في مكان واحد؟! إنتِ فاكرة نفسك فين؟! فاكرة متجوزة إيه؟! فكراني مش راجل؟!
كانت تقف أمامه، وصدرها يعلو ويهبط من شدة التوتر،وصوت خدش الباب الغاضب يصل إليها حيث تقف.
أغمضت عينيها بتعب،
وقبل أن تكمل حديثها، أطبقت فمها بقوة.
لن تنطق بأي شيء قد تندم عليه... عليها أن تتريث في كل كلمة.
كانت منذ بضع دقائق تفكر في كيفية إصلاح الوضع بينهما، لكن مع كل لحظة، كان الوضع يزداد سوءًا.
لذا، ردّت بهدوء قاطع: عمر... بغض النظر عن إهانتك الشديدة ليا، لكن خليني أقولك إن دي كانت زيارة مريض. أنا مكنتش بقابله في مطعم ولا بتفسح! أنا كنت بزور شخص اتعرض لكذا طعنة، وبقوم بواجب بسيط!
وعلى فكرة، أنا مشوفتوش فعليًا، وقت ما روحت كان نايم، فـ رجعت! يعني، معملتش أي حاجة فعلًا، ولا حتى نطقت معاه كلمة!"
ثم رمقته بنظرة غاضبة، قبل أن تضيف بحدة:
استريح، مراتك ست محترمة! لكن صريخك وزعيقك وغلطك فيا... شيء أنا مش هسمح بيه ولا هقبله!
شايف إني عملت حاجة غلط من وجهة نظرك؟ اشرحلي! فهمني!
لكن مش من حقك أبدًا تغلط فيا ولا في أخلاقي! لأن كلامك بيحمل معاني... مجرد التفكير فيها في حد ذاته إهانة ليا، وأنا مش قابلة اللي حصل ده!
مش أنا اللي أتعامل المعاملة دي! ولو إنت مش عارف قيمة مراتك، يبقى الغلط من عندك، مش من عندي!
راجع نفسك، واعرف إنك بتصلح الغلط بغلط!"
ثم ابتعدت سريعًا من أمامه، بينما وقف هو يناظرها بغضب... غضب يكاد يحرقها حيّة!
❈-❈-❈
دلفت إلى الغرفة التي تنام بها لوزة، وأغلقت الباب خلفها بهدوء.
فحقًا، يكفيها شجارٌ ونكد، يكفيها...
أسرعت لوزة خلفها، تصعد على الفراش، تجلس على ساقها، تتمسّح بها حزينة، هي الأخرى على صمتها غير المعتاد أبدًا.
كانت تنظر إلى الغرفة بعيون فارغة، صامتة.
الحقيقة، هي تحتاج إلى الكثير من النوم والهدوء،
ربما هي بحاجة إلى الكثير من الأشياء الأخرى،
لكن... والآن، فلتنم.
لربما تستيقظ لتكتشف أن ما تمرّ به ما هو إلا أحد أحلامها شديدة السوء.
تسطّحت على الفراش بهدوء، تضمّ لوزة، تنظر إليها قبل أن تهمس بخفوت حزين:
تظنّي العيب في مين فينا؟ فيَّا ولا فيه؟
تحرّكت وهي تشعر برنين هاتفها،
مدّت يدها، تحسّس بنطالها، تخرج هاتفها تراقب اتصال سارة ،
ولم تتردد وهي تفتح المكالمة،
ليقابلها وجه سارة المبتسم، والذي تبدّل في ثوانٍ متسائلًا بقلق: في إيه؟ وشّك أحمر كده ليه؟
انتي معيطه؟
لم تتحدث، لم تُبدِ أي رد فعل، لم تكن قادرة،
لذا تابعت سارة بتقرير: اتخانقتي مع عمر تاني، صح؟
أومأت لها فريدة بضعف وأسى،
طالتها سارة بحيرة،
علاقة فريدة وعمر تراها هي علاقة معقدة، بل كثيرة التعقيد،
لذا قالت بهدوء، محاولة التخفيف عنها: أولًا، استهدي بالله، حصل إيه؟ احكيلي.
تنهدت فريدة بإرهاق، قبل أن تقصّ عليها كل ما حدث.
صمتت سارة، قبل أن تتنهد قائلة بهدوء:
لأني مش هخدعِك، هقول الحق، انتي غلطتي.
ناظرتها فريدة بصمت،
لتتابع بتأكيد: وهو غلط.
ببساطة، انتو الاتنين غلطانين.
انتي غلطتي إنك روحتي من غير ما تقوليله،
وهو غلط لما قالك كل الكلام الجارح ده.
بس من حد بره المشكلة تمامًا...
انتو الاتنين غلط.
هزّت فريدة رأسها بيأس، قبل أن تهمس ودموعها تسبقها بحزن: أنا مبقتش عارفة أعمل إيه...
أنا بحاول والله، وربنا يعلم، بس أنا بحاول لوحدي.
أنا بحاول في حياة مختلفة عني.
انتي عارفة... أنا كنت خايفة من خطوة الجواز، وصارحته بده.
فهمته إني مختلفة، إن الموضوع مش هيكون سهل،
إني لا بعرف أعمل أكل، ولا أكون ست بيت،
قلتله إني هتعلم وهحاول،
ووعدني هو إنه مش هيسيبني لوحدي،
هيمسك إيدي ويشدّني، يعلّمني،
عشان هو بيحبني...
بس أنا لوحدي يا سارة،
أنا بتعلم لوحدي،
ولما بغلط بيبين قد إيه أنا فاشلة.
ناسي إني بحفر في أرض جديدة عليّا،
بتعرف عليها،
نسي وعوده ليا،
وبيطلب مني فوق طاقتي.
قالتها بهمْس خافت،
صمتت، ليس لأنها لا تجد المزيد من الكلام،
بل لأنها تعبت من الكلام.
نظرت إليها الأخرى بحزن،
وكم تودّ في تلك اللحظة أن تكون بجانبها،
تضمّها إلى صدرها،
وتشدّد على يدها،
ليتها بجانبها حقًا.
لذا قالت بهدوء، وهي تنظر إليها بعطف:
الموضوع بسيط يا فريدة، بجد، وأبسط من كده كمان.
انتو محتاجين تفهموا بعض،
محتاجين تقعدوا تفضفضوا وتخرجوا كل اللي في قلبكم،
انتو جواكم تراكمات من ناحية بعض،
هو عايز، وانتي عايزة،
هو شايف، وانتي شايفة،
كل واحد بيحفر في أرض مختلفة،
وفاكرين إنكم سوا.
قاطعتها قائلة بتعب:
– تظني إني ما حاولتش؟
حاولت، صدقيني حاولت.
كلامي كأني مش بقوله،
عمر مش شايف إني بحاول يا سارة.
أكبر دليل النهارده،
لو تعرفي... أنا راجعة مقرّرة أقعد وأتكلم معاه،
ونتناقش،
ونصلّح الوضع.
بس دايمًا أنا اللي بعمل...
ليه هو ما بيعملش؟
بصي، أنا مش عايزة أكون ظالمة أبدًا،
هو فعلًا تعبان جدًا في الشغل،
وطالع عينه فعلًا، بيتأخر أيام كتير جدًا عشان بيكون وراه شغل كتير،
عشان يوفّرلي حياة كويسة، مرفّهة على الأقل،
عشان يوصل ولو لجزء من اللي كنت عايشاه .
وصدقيني، أنا مقدّرة ده، مقدّرة جدًا،
أنا بحب عمر،
معقول مش هزعل على تعبه أو أقدّره؟
بس من الجهة التانية...
الحاجات البسيطة اللي بنسبة لناس كتير عادية،
صدقيني صعبة أوي عليّا.
حاجات عمري ما تخيّلت إني أعملها،
يعني انتي عارفة التويلت؟ أنا بجد مش عايزة أعمله، بس هو زعق عليا قبل كده، واضطريت أعمله،
وكمان الأكل، بذات إني أمسك الفراخ أو اللحمة بإيدي،
أنا بقرف غصب عني،
هو مش فاهم إن كل ده غصب عني،
وإني بجد مش متعودة،
أنا عمري ما عملت أي حاجة من دول،
زي إني أعمل أكل كل يوم،
يكون في أطباق كتير في الحوض المفروض تتغسل،
وفي هدوم كمان، وتتحط في الشمس،
أنا كل ده صعب أوي عليّا، والله صعب.
قالتها بعيون باكية، مرهقة ومتعبة،
قبل أن تتابع بتأكيد: بس أنا بعملها، عشانه، عشانّا،
عشان البيت ده، بيتنا،
وحياتنا.
أنا مش بعمل لنفسي، ولا ليه،
أنا بعمل لينا،
أنا عايزة ننجح،
بس حاسة إني بحاول لوحدي من الجهة دي،
أنا عايزة أحس إنه بيعافر في بيتنا هنا، معايا،
بيحقق وعوده ليا،
معقول ده مش من حقي يا سارة؟
هزّت سارة رأسها نافية، مجيبة برفق: لا طبعًا يا حبيبتي، حقّك طبعًا،
حقّك عليه وحقّه عليكي،
حقّكم على بعض تعافروا عشان بعض يا فريدة،
مهما حصل، لازم تتكلموا وتفهموا ليه بتوصلوا للنقطة دي،
مع كل خلاف، الفجوة بتزيد بينكم،
لازم نقاش، لازم بجد.
السكوت والبعد وتكبير الدماغ عمرهم ما كانوا حل،
بالعكس، ده أسوأ حاجة،
وهيوصلكم لحِيط سدّ.
أنا عارفة قد إيه انتي زعلانة وقد إيه تعبانة،
بس صدقيني، هي أول فترة بتكون متعبة جدًا،
عشان الطرفين لسه بيتعودوا على بعض،
أنا مش ببرر أبدًا تصرفاته،
لكن مش هقدر أطلّعه الشرير،
لازم أكون منصفة،
وشخص عادل.
أنا بس عايزة أقولك:
أوعي تنسي، أنا جنبك، دايمًا،
دايمًا يا ريدة.
نظرت لها فريدة بعيون دامعة، قبل أن تهمس لها بألم:
– أنا موجوعة أوي يا سارة،
بجد، قلبي وجعني،
معقول مفيش طريقة أرتاح بيها؟
أكون سعيدة؟
قد إيه طلعت أمنية صعبة،
صعبة أوي.
قالتها، وأجهشت في بكاء شديد،
ولم ترَ عمر الواقف خارج الغرفة،
وقد استمع لآخر شق من حديثها.
❈-❈-❈
لم يعرف كم ظل خارج الغرفة يستمع إلى صوت بكائها.
بكاؤها يؤلمه.
لا يريدها أن تبكي، يريدها أن تفعل ما يريد فقط، أن تكون تلك الزوجة العادية، وأقل من العادية إن تطلّب الأمر.
لكنها لا تصل أبدًا، بل يشعر أنها تتراجع بخطواتها للخلف.
لم يتوقع أبدًا أن تكون الحياة بينهما بتلك الصعوبة، تخيّل أنها ستتعلم بسرعة ككل الفتيات والسيدات، لكن هذا لا يحدث.
لا هي تفهمه، ولا هو يفهمها.
كلاهما بعيد... بعيد للغاية.
هي لا تفهم طبيعة تفكيره، لا تشعر بما شعر به.
زمّ شفتَيه وهو يفكر... كيف تذهب إليه دون إذنه؟
حسنًا، حتى إن كانت أخبرته، كان سيرفض، ولن يقبل أبدًا،
لكن كان يجب أن تخبره، حتى لو رفض.
يجب أن يعرف عنها كل شيء، كل خطوة، هو زوجها، هذا حقه.
كيف يعود ولا يجدها؟
يتذكر وهو يقف حينها لعدة دقائق، ينظر للمنزل بغضب، لم يهاتفها، بل انتظر،
وكان انتظاره كهواء يشعل نيران غضبه أكثر.
كان يريد أن يرى ماذا تفعل وأين ذهبت،
فقد ظل ساعتين في انتظارها،
وفريدة لا تذهب للسوق وخلافه.
حينها، قفز إلى عقله سؤال شيطاني يهتف بعنف وتساؤل:
أكل يوم تخرج دون إخباره؟
ألا تراه رجلًا؟ رجلها؟
كيف تفكر بتلك الطريقة؟ كيف تنسى واجباتها تجاهه؟
حتى أتت، وببساطة أخبرته أنها ذهبت لرؤية ذاك الشخص،
وهو أصلًا لم يرتَح لهذا التميم، فانفجر بها،
وكانت تلك النتيجة... خلاف جديد، وفجوة جديدة.
لكنه على حق، وهي أيضًا.
التفت ينظر إلى الغرفة بضيق شديد، مستمعًا إلى صوت بكائها.
ولن يُنكر... يؤلمه،
والأكثر بؤسًا... هو عدم معرفته أبدًا ما هو الحل.
❈-❈-❈
أغلقت مع سارة بعد وصلة بكاء طويلة.
بكاء فقط... لا طاقة لها للمزيد من الكلام.
الحقيقة، هي حتى لا تريد البكاء، تريد أن تجد حلولًا لحياتها الزوجية التي لا تمت للاستقرار بصلة.
هي لا تريد أن ترى نفسها كما كان أبواها... في علاقة باردة لا يمسّها الدفء أبدًا.
نظرت للوزة التي تحاول لفت انتباهها، قبل أن تستمع إلى صوت جرس الباب.
نظرت للساعة... لقد أتى الطعام.
فليفتح هو، وفكرت بغيظ: أصلاً هي ستخرج وتأكل، وليضرب رأسه في أكبر حائط!
❈-❈-❈
فتح الباب واستلم الطعام، نظر له بحيرة.
لقد جلبت وجبته المفضلة... السمك!
كيف له أن يتركها جائعة؟! ولم تنسه هي...
أخرج الطعام وجلب الأطباق، لكن تركه كما هو لكي لا يبرد.
وأخذ نفسًا عميقًا، قبل أن يتوجه للغرفة، مقررًا التنازل تلك المرة.
ففي النهاية... هي زوجته وبهجة حياته.
❈-❈-❈
فتح الباب فجأة، لتناظره بطرف عينها قبل أن تكمل اللعب مع لوزة التي رمقها بقرف، فردّت عليه النظرة بكل هدوء، وهي تكشّر مصدرةً عدة أصوات مزعجة.
اقترب منها وجلس أمامها، قبل أن يقول بهدوء ولين: هتفضلي زعلانة كده يا فريدة؟
ارتفع حاجبها بصدمة...
أفقد ذاكرته أم ماذا؟! لم يمرّ على خلافهما ساعة حتى!
أنسي ما قاله لها؟! لذا صمتت... صمتت، ووضعت حذاء في فمها لكي لا تتهور، وتترك لوزة عليه... تشوّه وجهه!
وهي تهز ساقها بعصبية، كان هو يناظرها، وعلى وجهه شبه ابتسامة متسلية، قبل أن يتابع بخفوت: أنا آسف.
انتفضت تنظر له، وهو يكمل: أنا آسف... بس عشان صوتي وكلامي اللي مكنش ينفع يتقال، مش عشان أبدًا رفضي على مروحك هناك.
إنتِ قلتي بره... أنا وإنتِ غلطانين، كنتِ مصدقة كلامك؟ يعني عارفة إنك غلطتي؟
نظرت له متذكرة حديث سارة، لذا قالت بجدية ونبرة أكثر خفوتًا: أنا مكنتش أعرف إن الموضوع هيضايقك أوي كده، لكن أيوة... أنا آسفة إني مقلتلكش إني عايزة أروح.
تنهد بصمت، ينظر لها وتنظر له، وكلٌّ منهما يريد أن يخرج من تلك الحالة المزعجة.
لذا، أمسك يدها مرددًا بضيق رغم كل شيء: مكنش ينفع تروحي يا فريدة، كنا في أضيق الحدود هروح معاكي، بس مرواحك لوحدك مش مقبول أبدًا بالنسبة لي.
بس تمام... عرفتي إني بضايق، أوعديني إنك متكرّريهاش تاني.
أومأت له بصمت، وتابعت هي بصوت مختنق: وكلامك ليا؟
ناظرها بحنان، قبل أن يقترب منها، مقبّلًا رأسها، قائلًا بأسف: أنا آسف... مكنش ينفع أقول كده، سامحيني، طلع في لحظة غصب عني.
ابتسمت له بصمت، ليبدّل مكانه حيث كانت تجلس لوزة التي غادرت الغرفة، ويضمّها إلى صدره.
وظلا هكذا إلى أن رفعت رأسها تهمس بخفوت صادق: اوعدني نحاول عشان بعض... أنا مش حابة اللي بيحصل أبدًا يا عمر، اوعدني نعافر سوا."
قبّل رأسها بحنان، وهو يقول مؤكدًا بحب: أوعدك.
وكان وعدًا تمنّى كلاهما أن يتم الوفاء به... من كل قلبهما.
❈-❈-❈
بعد قليل من الوقت، فضّل كلٌّ منهما قضاء بعض الوقت بهدوء وسكينة.
انتفض عمر سريعًا، لدرجة أن فريدة كادت تسقط أرضًا، وهو يقول بفزع: السمك!
تطلعت له لعده ثواني بعيون متسعة، وهي تصرخ بصدمة وهلع : لوزة!
وقام كلٌّ منهما يركض متعثرًا، فكان أول الواصلين عمر، الذي وقف فجأة، لتلتصق به فريدة، قبل أن تخرج رأسها من خلفه ببطء شديد ، وهي تناظر المشهد أمامها بيأس وعيون متسعة ذاهلة.
فهناك، على المائدة، للمرة التي لا تذكر عددها، تجلس لوزة بكل راحة، تأكل من أحد أطباق السمك الخاصة بهم!
❈-❈-❈
ابتلعت ريقها، وهي تلفّ وجهها ببطء، تنظر لجانب وجه عمر المتهجم الأحمر من شدة الغضب.
وقبل أن يتحرك مندفعًا نحو لوزة، كانت تمسك ذراعه تصرخ برعب: استهدي بالله يا عمر... دي قطة!
إلا أنه صرخ بعنف: دي كلت السمكة بتاعتي! انتي عايزة تجننيني؟!
أطبقت فمها تحاول منع ضحكة يائسة تريد التحرر، قبل أن تيتلع ريقها، وهي ترى التفاف رأس عمر نحوها، يحدجها بشر، قبل أن يقول من بين أسنانه: إنتِ بتضحكي؟!
لم تقدر أكثر على منع ضحكاتها، وهي تستند على صدره، تضحك بيأس، محاولة التوقف... لكنها لا تقدر، تكاد تسقط أرضًا من شدة هزل الموقف الذي تضعها لوزة المشاغبة فيه في كل مرة.
تأفف عمر بضيق، وهو يحاول إزاحة رأسها بخشونة وضيق، إلا أنها كانت تتشبث به أكثر، لكي لا تسقط أرضًا، حتى هدأت تمامًا، وهي ترفع رأسها، تتمتم بلهاث: مش قادرة! حرام اللي بتعملوه ده إنتو الاتنين والله!
ناظرها بقرف، لتبادله هي بنظرة خجل، وهي تقول مشيرةً إلى لوزة التي لم تعرهم أي اهتمام فعليًّا، مكمّلةً طعامها: شوف... هي جعانة إزاي؟! شوف قد إيه كيوت وجميلة!
ناظرها بغيظ، لتتابع هي: "معلش يا عمر... عشان خاطري سامحها المرة دي، دي حامل، وأكيد غصب عنها.
كاد أن يصيح بعنف ويأس، إلا أنها ردت بحماس، وهي تقترب، تنتشل الطبق الآخر: بص... في طبق كمان!
وتابعت بتأكيد: "وفي السمكة اللي كنت جايباهلها!
ناظرها عمر بغيظ، وهو يردد: يعني هي تاكل سمكتي، وأنا آكل سمكتها؟ بنت المفجوعة!
نقلت فريدة بصرها بينه وبين لوزة التي أنهت تناول كل ما في الطبق، وهي تريح جسدها برفق على المائدة، تناظرهم بملل من صوت صراخهم المزعج جدًا جدًا.
لم تتحمل فريدة أكثر، وهي تشاهد رد فعل عمر، لتنفجر ضاحكة بقوة، غير قادرة على التوقف... غير قادرة أبدًا.
ناظرها عمر بغيظ، لم يدم طويلًا، وهو يشاركها الضحك بيأس.
حسنًا... ربما لوزة ليست بذلك السوء!
ربما...
❈-❈-❈
كانت تجلس بجانب تميم، الذي يتناول طعامًا بسيطًا ومناسبًا لحالته الصحية، بعد ضغط كبير منها ومن أبيه عليه، لذا رضخ في النهاية مجبرًا.
وتميم الصغير يجلس على ساقه يشاركه الحساء بجوع. ضحكت بيأس وهي تمد يدها تدعوه للمجيء إليها قائلة بحنان:
تعالَ يا تيمو، أنا هجبلك مم.
سيب خالو يأكل عشان تعبان.
هزَّ رأسه نافيًا، متشبثًا بخاله، مشيرًا للحساء بجوع، كأنه يخبره أن يُكمِل إطعامه. ضحكت بيأس، وتميم يطعمه بحنان يفيض من بين عينيه.
وكان مدحت يجلس بجانب ابنته، يرتشف من كوب القهوة الورقي، قبل أن يقول بهدوء:
في ناس كتير أوي بعتت ورد يا تميم، بس أنا بعته على البيت.
أومأ له، وتابع قائلًا: معلش يا آلاء، حطي الورد ده في ميّه عشان ميدبلش.
قامت بسرعة تفعل ما يريد بصمت، لا تفهم سر تمسكه بتلك الباقة تحديدًا. هي حتى لا تعرف من أحضرها، وقد تأكدت أنها ليست من آسيا.
وعند تلك الخاطرة، فُتح الباب، وطلَّت آسيا من خلفه تردد برقة:هاي، أنا جيت.
❈-❈-❈
حسبنت آلاء داخلها، تكاد تمسك بالمزهرية وتُسقِطها فوق رأس تلك الضفدعه الخضراء.
هزَّ مدحت رأسه بيأس وهو يضع كوب القهوة، وقد فقد شهيته، أما تميم فلم يُعرها أي اهتمام، وهو يتابع إطعام الصغير بكل هدوء.
دلفت الغرفة تتهادى في خطواتها، ساحبة أحد المقاعد لتضعه بجانب تميم، قائلة برقة: مين البيبي الجميل ده؟
نظر إليها تميم الصغير بقرف. ابتسمت له بهدوء، وهي تميل برأسها لتداعب وجنته الصغيرة، وكل شيء بعدها حدث في غمضة عين!
لتشعر بيد صغيرة فولاذية، سريعة للغاية، تقبض على خصلاتها وتجذبها بشدة وقوة!
❈-❈-❈
انتفضت آلاء بسرعة، تقترب من الصغير محاولة تخليص خصلات العقربة من بين يديه، إلا أنه كان رافضًا بشدة، يجذبها أكثر!
صرخت آسيا بألم، وهي تحاول تخليص خصلاتها من بين يدي هذا الوحش الصغير. وعندما رفض تمامًا، كادت آلاء أن توبخه بشدة، أو حتى تضربه لكي يتوقف، إلا أن تميم أوقفها، ناظرًا إلى الصغير قائلًا بحنان، وهو يمسك يده بهدوء: سيب يا تيمو، يلا.
وبالفعل، ترك خصلاتها بهدوء.
ابتعدت آسيا بسرعة، تمسد خصلاتها بألم، وهي تمسح دموعها، تنظر إلى يد الصغير التي حملت بضع خصلات بالفعل، إثر جذبه القوي. وظلَّت تراقبه بعيون باكية غاضبة بشدة، وقبل أن تنطق بشيء تندم عليه، حملت حقيبتها وخرجت بسرعة من الغرفة باكية.
نظر مدحت إلى آلاء باستياء، قائلًا بضيق:
روحي وراها بسرعة يا آلاء واعتذري، عيب كده.
تأففت بعصبية وهي تسأله برفض: أنا مالي أنا؟
حدَّجها بغضب، فالتفتت تنظر إلى صغيرها، الذي خبَّأ وجهه في صدر خاله من نظراتها المتوعدة، ثم غادرت بسرعة لتلحق بـست الزفت، تقصد الحسن.
❈-❈-❈
كانت آسيا تقف في انتظار المصعد، تمسد رأسها، تتمتم ببضع العبارات المهينة لهم جميعًا، وتهز جسدها كله بعصبية.
وقبل أن تدلف إلى المصعد الذي وصل، أوقفها صوت آلاء وهي تقترب منها. ناظرتها آسيا بضيق لما حدث، قبل أن تقول: أنا آسفة على اللي حصل، بس تميم صغير، ومحدش بيتوقع تصرفاته. بعتذر جدًا.
ظلت آسيا تناظرها بضيق، قبل أن تقول بهدوء ورقة، وهي تفكر في استغلال الفرصة: مفيش مشكلة، ده زي ابني بالظبط.
ارتفع حاجب آلاء بشدة، وهي تستغفر ربها محاولة التحكم في ملامحها، قبل أن تبتسم لها ابتسامة صفراء، تهمس بخفوت: عن إذنك.
وعادت سريعًا إلى الغرفة، وخلفها آسيا تود حرقهم جميعًا... إلا تميم، حبيبها.
ودلفت إلى المصعد، تتحسس رأسها، يبدو أن الوصول إليه يتطلب الكثير من التضحيات... الكثير. قالتها لنفسها ببكاء، وقد خسرت معها عِدَّة خصلات من شعرها الغالي.
❈-❈-❈
دلفت إلى الغرفة، تنظر إلى تميم يلاعب ابنها، قبل أن تقترب منه قائلة باستحسان: عارف، رغم الموقف المُنيل اللي حطتني فيه...
وتابعت بابتسامة: بس جدع، ابن أمك صحيح!
أطلق الصغير ضحكاته، وهو يميل ليقبض على حجابها، إلا أنها تراجعت، تهز رأسها بيأس من هذا الصغير.
قبل أن تجلس، لاحظت باقة الورد الجديدة، ليخبرها تميم بهدوء: ابقي خرجِيها لو سمحتي يا آلاء، أو ابعتيها مع باقي الورد.
أومأت له بهدوء، وهي تتحرك لتفتح الباب بعد أن استمعت إلى صوت طرقات خفيفة.
عادت للخلف خطوات بسيطة، وهي ترى أمامها رجلًا يظهر عليه الرقي والاحترام، يطالعها بهدوء.
وقبل أن تنطق بحرف، أتى صوت تميم من الخلف قائلًا بود:
– أهلًا، أستاذ ياسر، اتفضل.
❈-❈-❈
أفسحت له المجال بخجل، وهي تعدل من حجابها غير المُهندَم بالمرة، قبل أن تقترب وترفع الهاتف.
ليسأل مدحت بهدوء بعد أن حياه: تشرب إيه يا ابني؟
ابتسم ياسر برزانة ، وهو يجيب: قهوة سادة.
أشار لها لتطلب له، وبالفعل فعلت، وجلست بهدوء بجانب والدها، بينما يتبادل تميم ياسر حديث هادئ قائلًا: تعبت نفسك، أنا كلها كام يوم وأخرج إن شاء الله.
ربت ياسر على يده، قائلًا بثقة: ده واجبي، اللي بينا مش مجرد شغل وبس. انت عارف غلاوتك عندي يا بشمهندس.
أومأ له بابتسامة، بينما تحرك تميم الصغير بين يديه بضيق، متطلعًا نحو ياسر بفضول، تحديدًا إلى ساعته الأنيقة.
أشار إليه بإصرار، ولم يفهم تميم ما يريد. ناظره ياسر بابتسامة، قبل أن يمد يده له، وبالفعل، أمسك به الصغير راغبًا في الذهاب إليه.
هزت آلاء رأسها برفض، وهي تردد بداخلها:
يلهوي يلهوي، هيفضحنا!
إلا أن تميم الصغير جلس باحترام وهدوء على ساق ياسر، الذي يهز قدمه برتابة وهو يحادث تميم، بينما الصغير لا يهتم إلا بالساعة، يتلمسها بانبهار شديد.
ابتسم له ياسر، وهو يخلعها بهدوء تام، يعطيها له.
زمت آلاء فمها، تكاد تصرخ: سيلقيها الحيوان الصغير في الأرض وستتحول لألف قطعة صغيرة!
لكن ذلك لم يحدث، بل كان فقط يستكشفها.
إلا أن ياسر وقف قائلًا بهدوء: أنا هستأذن.
قبَّل الصغير بحنان، ووضعه بين يدي تميم، الذي حاول أخذ الساعة من بين يدي الصغير الرافض.
ليقول ياسر برفض:
– خليها معاه لو سمحت.
وغادر سريعًا بهدوء كما أتى، بعد أن حياهم بهدوء، ولم ينسَ أن يحيي الصغير، الذي ظل يلوح له.
❈-❈-❈
بعد وقت طويل، قد تناولوا الطعام، أو بمعنى أدق المتبقي منه، وتحمد الله أن لوزة لم تقربه وكان لا يزال مغلقًا كما أتى، فقد كانت جائعة للغاية وهو أيضًا.
راضته، وقبل هو.
وأخيرًا، كان يجلس على أريكتهم المعتادة، يضمها إلى صدره بحنان، في مكانها المفضل، مكانهم الذي هجراه طويلًا، غافلين عنه وعن أهميته لعلاقتهما.
لكن، وبعد الكثير من الصراع والمشاكل، أخيرًا عاد ليضمها ويشعر بدفء قلبها، عاد ليحيا تلك السكينة التي طالما أحبها بينهما، وهو يشعر بحبها حتى وإن لم تنطق به.
تراه الأهم، ويراها كذلك.
تنهدت بسعادة، وهي تستند على صدره، تحيا هذا الدفء والهدوء، تنظر أمامها تراقب السماء بسعادة.
تجلس على ساقها لوزة الغافية بوداعة ورقة.
بعد أن صمت وهو يراها تنام على ساقها، لم يتحدث، لم يرد أن يفسد الأجواء، احترم رغبتها، وصمت، يضمها هو، وتضمه هي.
كانت صورة عادية للبعض، لكن لها كانت الصورة الأهم، حيث تضم السعادة بين يديها.
وفي تلك اللحظة، كان كل منهما يشعر بالكثير من الراحة، وكان هذا أكثر من كافٍ في تلك اللحظة.
❈-❈-❈
وقفت حور في المطبخ تتابع تحضير الطعام مع منير.
أطفأت الموقد، وحضرت العصير لكل منهم ما يريد.
ووقفت تتابع منير وهو يعد وعاء السلطة الكبير، وما إن انتهت من التأكد من الانتهاء من كل شيء، حتى تحركت بهدوء لتصعد إلى الغرفة حيث ينام حسام منذ أتى صباحًا.
احتضنها والصغيرة، ثم صعد لينام بتعب شديد، دون حتى أن يأكل أو أن يضع لقمة في فمه.
كان بحاجة للكثير من النوم والراحة، وهي أكثر من يدرك هذا.
فتحت الباب ببطء شديد، وهي تراقب نومه المرهق على الفراش، بجانبه شمس تندس بين أحضانه هي الأخرى.
ابتسمت بهدوء، وهي تتهادى مقتربة منه، حتى جلست على حافة الفراش، تراقب وجهه المرهق بشدة، قبل أن ترفع يدها تتحسس خصلاته، تطالع وجهه بشرود.
فتح عينيه بانزعاج، ليقابله وجهها المليح، تناظره دون أن تدرك استيقاظه حتى.
اشتاق لها، أَيُنكر؟
أبدًا، هي قطعة من قلبه، ابنته الأولى.
أمسك يدها، فانتفضت متفاجئة، مغمغمة عيناها بأسف وهي تراه يقرب يدها لفمه ليقلبها:آسفة، صحيتك.
ابتسم لها بخفوت متسائلًا: هي الساعة كام؟
أخبرته، ليتابع بإرهاق: ياااه، نمت كل ده؟ حاسس جسمي كله مكسر، حقيقي يعني.
شددت على يده بحنان، قائلة بعطف: يلا قوم، خد شاور والبس، وحصلني تحت. الأكل جاهز، إنت مكلتش حاجة من الصبح.
قربها منه، وقبل رأسها، قبل أن يتحرك ليدلف إلى الحمام بتعب، بعد أن أهدى دُبّته الصغيرة قبلة هي الأخرى.
ابتسمت حور في أثره، وهي تحمل الصغيرة، تدثرها بالغطاء الخاص بها، لتهبط بها للأسفل، حيث الغرفة القريبة منها، لتظل تحت عينيها إذا استيقظت في أي وقت.
وغادرت الغرفة، منتظرة أن يتبعها، ليتشاركا المائدة بعد الكثير من الأيام المرهقة.
❈-❈-❈
رتبت المائدة بمساعدة منير بعد أن أصرت على ملك أن تجلس وترتاح، أما يارا فلم ترها فعليًا اليوم، تقريبًا في غرفتها لم تخرج.
وصادف وضع الطعام دلوف مدحت، والاء تحمل تميم النائم، والتي قالت بهدوء:
ثواني بس، هحط تميم وأجي أساعدك.
أومت لها حور بهدوء وهي تكمل ما تفعل، وبعد عشر دقائق اجتمع الجميع، إلا يارا التي أخبرت آلاء بأنها متعبة وستنام، والصغار شمس وتميم النائمين في الغرفة.
مال مدحت على أمير الجالس بجانبه ينظر للهاتف:خدت مراتك للدكتور؟
نظر له أمير، يهز رأسه نافيًا، ليتابع مدحت بحدة:مراتك أمانة عندك، تهتم بيها، تاخد بالك منها، بدل ما تروح تشوف مالها، قاعد تاكل؟
تأفف أمير، قائلًا بلا مبالاة: ماشي يا بابا، حاضر، هاكل واطلع.
طالعَه مدحت بغير رضا أبدًا وهو يراقب بقية أبنائه.
أنس بجانبه ملك، يدللها ويطعمها بحنان.
حسام وحور، المهتمة بأدق تفاصيله، تضع له المياه، تضع له قطعة الدجاج التي يأكلها، تتابعه ويتابعها.
ولكن طالت نظراته عند آلاء، وهو يرى شرودها في إطعام الصغار، حيث توزع اهتمامها بين أولادها وأولاد يارا المتغيبة، تصب عليهم الاهتمام صبًا دون أي تفريق أبدًا.
تظن أنه لا يرى حزنها، تظنه لا يلاحظ اختفاء رامي الغريب، اختفاء لم يفهمه ولم يجد وقتًا له للأسف، لكنه يعلم أن هناك ما حدث.
لقد تأكد من حسام أن آلاء لم تأتِ إلا بعد أخذ إذن زوجها، فهو لا يسمح أبدًا بإهانة أحد أزواج بناته أو أحد زوجات أبنائه، كلهم واحد بالنسبة لهم، أبناؤه وبناته.
ومن يخطئ، يستحق العقاب.
❈-❈-❈
كانت تجلس في فراشها تتابع أحد الأعمال على الحاسوب بهدوء. لم ترغب في مشاركتهم الطعام، وتحججت بكونها متعبة، رغم أن آلاء اقترحت عليها أن تأخذها إلى المستشفى أو حتى أن تطلب لها الطبيب، لكنها رفضت بأدب، مفضلة النوم.
لكن... أي نوم؟
نعم، هي مرهقة ومتعبة، وفوق كل هذا لديها الكثير من الأعمال التي يجب أن تُنجز، ووجودها هنا لا يساعدها أبدًا. تميم أصبح بخير، ولا تدري لماذا هم هنا حتى الآن.
قاطع شرودها دلوف أمير إلى الغرفة، يناظرها بهدوء، قبل أن يجلس على الفراش بجانبها متسائلًا بهدوء: مالك؟ آلاء قالت لي إنكِ تعبانة.
أغلقت الحاسوب وهي تجيب بضيق: تعبانة شوية بس... أمير، إحنا هنروح إمتى؟ أنا تعبت من القعدة هنا، وتعبت من إني أقولك إني مش عايزة أقعد هنا.
ثم تابعت متُذكّره:ده مش عرض لازم نعمله. وجودك فعليًا مش فارق زي ما أنت فاكر. في المستشفى قاعد بتخلص شغل، وفي البيت قاعد بتخلص شغل. جينا ليه؟ عشان تثبت وجودك؟ بس مجرد إثبات!
ثم أردفت بقسوة: أنت غلطان يا أمير لو فاكر إن الكل مش شايف ده، الكل شايف وحاسس... حتى أونكل مدحت، بس تقريبًا محدش حابب يجرحك. فخلينا ننهي المهزلة دي ونرجع بلدنا وبيتنا. أنا ورايا شغل، وأنت كمان.
صمتت لحظة، ثم أكملت بتأكيد: أتحداك تنكر! بس مش هتقدر، لأنها الحقيقة... أنت مش حابب، مش عايز تفضل هنا. وطبعًا مش هننسى ولادنا اللي وراهم حاجات كتير جدًا هناك، وإحنا هنا كلنا متضررين... وأنت أولنا.
قالتها بيقين، ولأول مرة لم ينطق.
هي محقة... هو يريد المغادرة، واليوم قبل الغد.
ولم يدرك أبدًا أن صوت يارا كان أعلى من الطبيعي، فسمعه مدحت دون قصد وهو ذاهب لغرفته ليصلي. كان يعرف، لكن الآن... لا فرار من الحقيقة.
❈-❈-❈
كانت ما زالت جالسة في فراشها بعد أن أنهت الاتصال مع فريدة.
الوضع لا يبشر بالخير، لكنها تثق أن فريدة ستحاول. لكن، هل ستكون محاولاتها كافية؟
أفاقت من شرودها على صوت طرقات على الباب، تبعها دُخول والدها بعد أن أذنت له.
اقترب منها وجلس بجانبها، وظل صامتًا ينظر إليها، قبل أن يقول بابتسامة متأملًا ملامحها: شِبْهها أوي.
لم تكن تحتاج للكثير من الذكاء لتعلم من يقصد، فهي تشبه أمها، رحمها الله.
ابتسمت بشرود... رحلت باكرًا، وتركتها، ولولا حسناء لما كانت بخير أبدًا. لذا، فتحت فمها تهمس بخفوت: الله يرحمها.
تنهد جمال ينظر لها بحنان، قبل أن يمد يده يمسك يدها برِقَّة قائلًا: لحد إمتى يا سارة؟
أخفضت وجهها، إلا أنه لم يسمح لها، وهو يرفعه متابعًا بلين: لحد إمتى يا سارة؟
شدَّد على يدها أكثر، فانتقلت عيناها إلى عينيه، قبل أن تجيب بصدق: لحد ما أرتاح، يا بابا.
أنا يوم العزومة قعدت عشان خاطرك، عشان ما أحرجكش، وأنا كنت رافضة إني أتعرض للموقف ده. بس سكت عشانك، لأني مستحيل أحرجك أو أقلل من رأيك. بس أنا مش عايزة، يا بابا، صدقني مش عايزة، أنا مرتاحة كده.
كان يتابع حديثها بوجه جامد، رافضًا لكل حرف تنطق به، لذا ردد بصوت حنون عميق: مينفعش يا سارة.
إيه، هتعيشي العمر كله معايا؟!
إنتِ عارفة جالك كام عريس بيطلب إيدك؟ سواء عن طريقي، أو شافك وأُعجب بيكِ، وردك بيكون واحد: لا!
مبررات متقنعش طفل صغير! بترفضي حتى تقعدي معاهم، ولو قعدتِ، بتفضلي ساكتة!
لحد إمتى؟ لحد ما العمر يجري بيكِ، وتلاقي نفسك وحيدة، لا جواز ولا عيال؟!
إزاي بتفكري كده؟ وليه؟
عضَّت على شفتها باختناق. ماذا تخبره؟
أنها تحب أحدهم، دون أن تجد القدرة على نزعه من قلبها؟
والأدهى، أنه لا يدري أنها تحيا من الأساس!
كيف لها أن تقول هذا؟!
فتحت فمها محاولة الحديث، إلا أنه قاطعها قائلًا بحسم: أنا طبعًا مستحيل أجبرك على الجواز، ده شيء مرفوض، وإنتِ كده كويسة.
لكن، في نفس الوقت، مش هقعد أتفرج عليكِ وإنتِ بتضيعي عمرك سنة ورا سنة... وأسقف لكِ!
وتابع: في عريس اتقدم، وأنا شايفه مناسب تمامًا.
رغم إن رأيي، مقابل رأيك، مش مهم أبدًا، بس هفضل أحاول، لأني أب.
العريس، أنا كلمته، وحددت معاه معاد. جهِّزي نفسك.
كانت تناظره بعيون متسعة، رافضة، إلا أنه قال بحزم رغم لينه: المرة دي هتقعدي.
عايزة ترفضي، إنتِ حرة، وأنا كمان، ومش هبطل أبدًا أحاول أطمن عليكِ، مهما حصل.
ثم ترك يدها، متحركًا ليغادر الغرفة، تاركًا إياها لا تعرف ماذا تفعل...
❈-❈-❈
كان يتحرك في غرفته ذهابًا وإيابًا، الهاتف على أذنه، يكاد يصرخ بجنون في تلك التي ابتُليَت بها حياته.
أبعد الهاتف لوهلة عن أذنه، مستمعًا إلى صراخها بإرهاق حقيقي. لقد عاش أيامًا من أسوأ أيام حياته. ألم يكن يكفيه حزنه على صديقه؟ لا، طبعًا، فهي لا تتوقف أبدًا عن الطلبات.
والمصيبة الأكبر أنها لم تعرف بعد بأمر المال. لقد دفع كل ما يملك فعليًا في تكاليف علاج تميم، ولم يعد يملك أي شيء سوى راتبه، الذي تم القضاء على نصفه.
حاول تدبير المبلغ في الأيام السابقة، لكنه فشل. لم يكن مبلغًا هينًا، وهو مديون للكثير بالفعل. ولم تسمح له هي بالمزيد من الوقت، فبكل ساعة فعليًا تهاتفه، تخبره متى سيدفع هذا وهذا وهذا... والآن ملت، وتطلب منه أن يدفع غدًا، تصرخ وتوبخه على تأخير الترتيبات.
رفع عينه يطالع صورته في المرآة، مجهدًا، متعبًا، وحزينًا، قبل أن يهمس بتعب:أنا جاي بكرة يا داليا، محتاجين نتكلم.
صمتت قليلًا قبل أن تقول بتوجس:ليه؟ ده أنا بقالي كتير بتحايل عليك تيجي، وانت اللي بتهرب بحجة صاحبك!
ابتسم ابتسامة مريرة مجيبًا بسخرية: على أساس فارق معاكي صاحبي أو حزني عليه؟ في عز رعبي عليه كنتي بتتصلي تختاري ألوان حاجات في العفش!
ثم تابع بحزم: اقفلي يا داليا، لينا كلام بكرة. يلا سلام، عشان ورايا شغل.
وأغلق الهاتف سريعًا، دون أن يسمح لها بالمزيد.
ظل في مكانه، ينظر إلى صورته، شاعرًا أن الغد لن يمر مرور الكرام... أبدًا.
❈-❈-❈
عدَّلت من وضع الغطاء على جسد آسيا النائمة بعمق، قبل أن تميل عليها مقبِّلة إياها بحنان شديد.
وظلت تناظرها بضع دقائق، قبل أن تغادر الغرفة مغلقة الباب خلفها بكل هدوء.
كانت تسير في الممر متوجِّهةً إلى غرفتها بملامح شاردة ومتعبة، دلفت ورمت نفسها على مقعدها بجوار النافذة، ليتأرجح بها ذهابًا وإيابًا دون أن يتوقف... كعقلها المنشغل دائمًا بألف شيء، وأولها فريدة.
تلك التي لم تحادثها منذ مدة طويلة.
تشعر بالحزن... الكثير من الحزن.
لكنها لا تريد... لا تريد أبدًا هذا الشعور.
تكرهه...
شعورها بالحزن والحنان تجاه فريدة يُضعفها، وهي لا تحب الضعف، تمقته وبشدة.
انتفضت من مقعدها شاعرةً بالاستياء والجنون، وعقلها لا يتوقف.
فليتوقف... فليتوقف!
كفى... كفى!
تحركت تدور حول نفسها، لتقابلها صورتها في المرآة.
وقفت تطالعها بقوة، لكن لن تخدع نفسها.
أيُّ قوة؟
متى كانت هي قوية؟!
بل كانت دائمًا ضعيفة... حزينة... منكسرة.
كانت تريد ولا تحصل، تتمنى ولا يتحقق، تبكي ولا تجد من يضمها، تجوع ولا تأكل، تذاكر ليل نهار دون كلمة حب أو تشجيع واحدة.
كانت... وكانت... وكانت...
كانت كما أرادتها أمها، تحيا لأجلها، لتنفيذ مطالبها وأوامرها، دون جدال، دون نقاش، دون أي شيء.
تُؤمَر فتُطيع.
هكذا تربت.
تربت على كل تلك القسوة.
تربت حتى وصلت لما هي عليه الآن...
صفية، سيدة الطبقة المُخملية، التي يقف الجميع احترامًا وتقديرًا وخوفًا منها.
حتى إنها أصبحت أقوى من أمها بمراحل، كانت النسخة الأقوى.
لكن بداخلها كان الفراغ...
لا تجد تلك القوة، فقد كان ضعفًا خفيًّا خلف قناع الوهم، لا يراه أحد سواها.
لا تسمح أبدًا...
يستحيل أن تسمح!
هي تزوَّجت من اختارته أمها، قبلت به، أحبَّته كما أخبرتها، وسعت لسنوات طويلة تحاول إنجاب الوريث كما طلبت منها أمها.
لكنه لم يأتِ... لم يأتِ!
فظلت تحاول مرارًا وتكرارًا...
تحمل وتُجهض وتخسر...
طفلًا خلف الآخر، يغادر رحمها وقلبها المتعب، حتى حملت بفريدة.
لم تكن تريدها...
لم تعد لديها تلك المشاعر.
أرادت التخلُّص منها كي لا تظلمها، هي لا تريد... لا تريد!
لكن أمها رفضت، وأصرَّت بقوة، صرخت بها وعنفَّتها، أخبرتها أنها ستخسر كل شيء.
فرضخت وصمتت.
لكن حينما أتت آسيا للحياة، كانت كالشُّعلة التي أنارت ظلمتها، حملتها، ضمَّتها إلى صدرها، وبتلك اللحظة أودعتها كل الحب بقلبها.
وحينما حان دور فريدة...
وأتت... كان الوضع مختلفًا، كل شيء مختلف.
أحبتها... هي ابنتها، كيف لها ألا تحبها؟!
لكن... ألم تكن تحبها أمها؟
أحبتها، ولهذا أرادت أن تراها الأفضل، كما تمنت لفريدة.
حاولت مرارًا وتكرارًا أن تكون مختلفة، لكن لم تقدر.
لم تفهم أين الخلل؟
لماذا خرجت الأمور عن زمامها الصحيح؟
أيُّ خطأ ارتكبت؟!
قالتها بداخلها بجنون:
هي لا تفهم... هي لا تفهم!
قبل أن تمسك هاتفها، تُلقي به بقوة على المرآة، محطِّمة إياها بجنون!
وقفت بعدها تناظر صورتها المشوَّهة، تمس جسدها المرتجف بشدة، لا تدري ماذا يحدث معها.
لم تكن يومًا بهذا الضعف...
هي قوية!
هي ستجعل أمها فخورة بها!
هي ستسير على خطاها!
ستُرضيها!
ستُرضيها وتحبها!
تحبها... وتضمها!
ستهديها ضمة حنونة... ضمة لطالما حلمت بها!
خانتْها قدماها، لتسقط أرضًا، تضم ساقيها إلى صدرها، ودموعها تسقط وحدها.
هي ربت فريدة كما ربتها أمها، لتراها تنال نظرة الفخر... نظرة الحب...
نظرة... نظرة واحدة فقط!
لكنها لم تحدث...
بل غادرت الحياة، دون أن تُلقي عليها نظرة واحدة حتى...
ولا نظرة!
فكرت بها وهي تشعر بنفسها تبكي...
تبكي كطفلة صغيرة...
عادت للوراء سنوات طويلة...
طفلة ظُلمت... فظَلمت!


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close