رواية جنون المطر الجزء الثاني الفصل الثاني عشر 12 بقلم برد المشاعر
لم تستطع استيعاب ما قالت الواقفة هناك عند الباب لتستطيع
تصديق بأن ما سمعته خلفها يكون صوت ذاك الرجل حقا !
لم تفكر في مظهرها بروب الحمام الزهري القصير وشعرها
المبلل وعيناها المحتقنتان بشدة ولا في المدة التي قضتها في
الحمام ليصل فيها إلى هنا بل في أن ذاك الصوت الذي سمعته
لن يكون من نسج خيالها مجددا وأن لا تكون عواطفها الغبية
لعبت بها مرة أخرى ... لكنها قالت زوجك هنا أي أنها حقيقة !
وقد تجلت لها سريعا ما أن اختفت الواقفة هناك وبعدما أشارت
بإبهامها غامزة لها وكأنها تذكرها بأن تكون قوية ليحل محلها
صاحب الجسد الطويل بملابسه السوداء .. بنطلونه المخفي حتى
نصف ساقيه في ذاك الحذاء الأسود الطويل والحزام الجلدي الأسود
المشدود حول خصره النحيل ... وصولا للقميص القطني الضيق
بالكتابة البيضاء العريضة على صدره والذي لن يكون سوى شعار
تلك المنظمة بالتأكيد فهل جاء من هناك إلى هنا !! هل ترك فعلا
عمله ليأتي ! إذا سيجد الحجة ليتهمها بالحمق وليبرر لنفسه
سبب تجاهل اتصالها ، وسيكون غضبا حقيقيا ذاك الذي جلبه إلى
هنا فورا ... وهذا ما علمته فور أن رفعت نظرها لعينيه الغاضبة
وملامحه القاسية رغم أن نظراته كانت تنتقل في تفاصيلها صعودا
وقد ارتجف قلبها بشدة ما أن التقت نظراتهما وشعرت بالألم يعتصر
ذاك الموجود بين أضلعها يئن بصمت فهي لم تراه منذ .... منذ
تركها في غرفة الفندق الساكنة تلك تحاصرها رائحته وأشيائه
في كل مكان .... بل منذ افترقا دون وداع ودون أن يشرح لها
سبب ما فعل لتجد نفسها هنا من دونه ومن دون كل شيء .
هربت بنظراتها منه ما أن ثبتت نظراتهما وهمست بخفوت
تقبض أصابعها على حزام روبها القصير
" يمكنك انتظاري في غرفة الضيوف حتى أرتدي ثيابي "
ارتجف جسدها وأغمضت عينيها بشدة ما أن ضرب باب الغرفة
بقوة ووصلها صوته البارد
" ويمكنك ارتدائها وأنا هنا "
" لااااا "
عضت طرف لسانها لا شعوريا ما أن رأت ذاك الغضب يشتد
في عينيه وليست تعلم كيف اندفعت تلك الكلمة منها ولا ما
فهمه هو وفسره من قولها لها ؟ وسيزداد موقفها سوء بالتأكيد
إن هو فهمه رفضا آخر له ولحقيقة ما يربطهما ، تراجعت للخلف
خطوة لا شعوريا ما أن تقدم نحوها بخطوات واسعة غاضبة
وراقبته نظراتها الوجلة وقد انحنى ورفع هاتفها من فوق السرير
وفتشه قليلا قبل أن يرفعه أمام وجهها وعلى شاشته أحرف
رسالتها تلك وأشار لتلك الكلمة تحديدا بإصبع يده الأخرى
والملتفتان بقفازين جلديين لا يظهر منهما سوى أصابعه
وقال بحدة
" هذه الكلمة لن أسمعها منك مجددا مارياا أتفهمين ما أقول ؟
... ط ل ا ق لن أطلقك أبدا وتحت أي سبب كان ... مفهوووم ؟ "
تجاهلت ارتجاف قلبها وتمزق مشاعرها ونظرت لعينيه وقالت
بضيق تكابد الدموع التي عادت للتكدس في عينيها
" من المفترض أن تحرر نفسك مني نهائيا يا تيم ... أنا أتحدث
عن واقع ما صرت إليه وما وجدت أنت نفسك فيه "
رمى يده جانبا وصرخ في وجهها بعنف
" أقتلك ماريا أم ما أفعل بك يا حمقاء ؟ "
رمى بعدها بذاك الهاتف مكانه السابق بعنف وأمسكها من ذراعها
وسحبها جهة الخزانة الخشبية الواسعة وأوقفها أمامها وقال بحدة
ناظرا لصورتها في مرآتها
" انظري لوجهك ولعينيك ... كل هذا لأني لم اجب على اتصالك ؟
أم لأني ألبي كل ما تطلبين فور أن تطلبيه ؟ هل أفهم فيما
أخطأت مثلا ؟ "
أسدلت جفناها بعيدا عن صورتهما تلك ... عن الفتاة الحزينة
والعينان الباكية وعن نصفها الآخر الغاضب الواقف بجانبها
والذي لو علم عن سبب بكائها ما صرخ بها هكذا ، رفعت يدها
وأمسكت رسغ يده الممسكة لذراعها بقوة وهمست بألم
" أنت تؤلمني "
أدارها ناحيته بقوة تطايرت معها خصلات شعرها الرطب مصطدمة
بوجهها قبل أن تنزل تباعا وقد تطايرت قطرات الماء منه مشبعة
برائحة الشامبو المميزة حتى وصلت وجهه وشدها من كلتا
ذراعيها وهزها منهما قائلا بغضب أشد
" أجل وسأولمك أكثر مارياا كلما كررت تلك الحماقات وفكرت بها ...
لن تتحرري من ابن كنعان إلا بموته ... إلا إن مااات وانتهى
أتفهمين ذلك ... يا زوجته ؟ "
عند تلك الكلمة انهارت آخر حصونها الهشة أساسا وفقدت
آخر ما تملكه من حصانة ضد الواقف أمامها فدست عيناها في
كفها وانهارت باكية فلن تفيد جميع محاولاتها لاستجداء أي ذرة
قوة متبقية داخلها فهي لم تعد تملك منها شيئا وباتت أضعف من
أن تقاوم انهيارها ذاك الذي بدأ بتحطيمها من قبل قدومه إلى هنا
فكيف الآن ؟ وها هي تثبت له مجددا هشاشتها أمامه واحتياجها
لأمانه لا لقسوته .. رسالة لم تحتج لفك ولا لتشفير ليفهمها
صاحب تلك الأنفاس الغاضبة التي بدأت تهدأ تدريجيا مع
ارتفاع تلك الشهقات الباكية فشدها فورا لحضنه شاتما بهمس خافت
" سحقا لك يا رجل "
فكيف نسي بأنها أنثى وأنها امرأة وليست رجلا ممن اعتاد على
الاحتكاك بهم واعتادوا هم على استيعاب غضبه وأساليبه القاسية
فيبدوا أن تيم الفتى الأخرق لم يفارقه أبدا كما أن تلك الطفلة
الحساسة البكاءه لازالت كما هي تنام الآن في حضنه وتسكب
دموعها فيه ، شد رأسها لصدره يغرس أصابعه في شعرها
الناعم الرطب هامسا
" هششش يكفي بكاء ماريا "
توقع أن كلماته تلك لن تجدي في شيء وأن الزمن لم يغير فيها
ذلك وذاك ما حدث فعلا ، أغمض عينيه فور أن شعر بقبضتيها
تشدان ظهر قميصه تطوق جسده بذراعيها بقوة وتدفن عبراتها
حيث أضلعه وضربات قلبه الثابتة فشدها له أكثر بذراعه الأخرى
قائلا بما يعتبره هو نبرة هادئة جاهد نفسه دهرا لاستجلابها
" ماريا لو أنك تحاولين فهمي فقط لما وصلنا لكل هذا ، ثم أيرضيك
أن اقتل بسببك وأنتي تراسليني بلقبي الحقيقي وتسجلين اسمي
في هاتفك كاملا ؟ هذا هو العقاب الذي تختارينه لي فقط لأني
أهملت اتصالك ؟ "
حركت رأسها نفيا ولازالت تدس وجهها في صدره ولازالت على
بكائها الذي لم ينقص شيئا فأبعدها عنه ومسح على وجنتيها بظهر
أصابعه المكشوفة من ذاك القفاز الجلدي الأسود وهمس بضيق
وقد حرك أصابعه أمام وجنتها حين رفضت تلك الدموع التوقف
" توقفي عن البكاء ماريا أو ضربتك الآن "
لم تستطع إمساك ابتسامة تغلبت على ملامحها الحزينة الباكية تلك
والتي سرعان ما تحولت لضحكة متقطعة تخللت أنفاسها المختنقة
بعبراتها تنظر له من بين تلك الدموع التي تملأ عينيها وتناقض
تماما تلك الضحكة المنخفضة المبحوحة فغرس أصابعه في
غرتها الرطبة وبعثرها وقد ارتفعت زاوية فمه بابتسامة صغيرة قائلا
" تبا لك ماريا أعدتني لحجور في ثوان معدودة "
ترقرقت الدموع دافئة في عينيها المحدقة به ولامست أصابع باردة
قلبها أوصلت ذاك التجمد الغريب لأطرافها وهي ترى تلك النظرة
التي أخفاها سريعا في عينيه فوحدها تعرف ما تعنيه بلدة حجور له ...
إنها ماضيه المتمثل في والدته .. صوتها .. ابتسامتها .. حنانها
ودفئ حضنها ، تمنت أن رفعت يدها ولمست خده .. أن كانت
أقرب له من أي وقت وأي شخص في تلك اللحظة لكنها كانت تعلم
بأنه سيرفضها سيرفض أن يظهر ضعفا هو نفسه لا يعترف به
لنفسه فلن تتخيل أن رجلا مثله قد يفعلها ، وذاك ما تأكد لها فور
أن رفع نظره لعينيها مجددا وقد اختفت تلك النظرة من تلك الأحداق
السوداء القوية الواثقة في لمح البصر كما ظهرت وكما توقعت تماما ،
طال الصمت بينهما وطالت نظرته تلك لعينيها درجة أن أفقدتها
أنفاسها فلم تفهم ما تخفيه نظرته تلك وعن ماذا تبحث تحديدا في
عينيها ؟ أمازال في دوامة الماضي البعيد ذاك رغم تبدل تلك المشاعر
في عينيه ؟ أيحتاج مثلها أن يتحدث عما يخالجه ... ما يتعسه وما
يشعر بأن الجميع لا يفهمه ؟ هل يفكر فعلا مثلها ؟ لا مطلقا لن
يكون كذلك وليس لها أن تتوقعه .
أبعدت شفتيها الزهرية وقررت قول أي شيء وإن كانت تجهل ما
سيكون لكنه أسكتها بلمسة من سبابته ممررا لها عليها ببطء هامسا
" هشششش "
قبل أن تنتقل أصابعه لشعرها غارسا إياهم فيه وشدها له وقد أحنى
رأسه ناحيتها وكاد يوقف قلبها من شدة صدمتها وهو يشرح لها
الأمر بالطريقة التي لم تتوقعها أبدا ... ليست تعلم كم قبلة كانت تلك ؟
... كم واحدة ! ... كم مرة ؟ وكم طال الأمر ؟ وكأنه قرر وبجنون
التهام تلك الشفتين بعنف رجولي مثير تحول للرقة تدريجيا درجة
أن أفقدها القدرة على الثبات رغم تمسكها بقميصه الذي كانت
تتمسك به بأصابعها الرقيقة بقوة وكادت أن تنزلق من حضنه
للأرض لولا ذراعه الملتفة حول خصرها ثبتها لجسده بقوة مما
جعل الأمر يزداد تهورا وهي تشعر بضغط أصابعه على خصرها
وخصلات شعرها يزداد شدها لدرجة آلمتها وخرج أنينها دون
شعور منها مما جعله يرفع رأسه سريعا ليتدفق الهواء لرئتيها
بقوة ودفعة واحدة ما أن أبعد شفتيه وقرر تحريرها من عبثهما
المجنون ذاك حتى كادت تشرق به وبدأت ذاك السعال يتصارع
وسط أضلعها وقد أخفضت رأسها تكتم أنفاسها تلك بظهر
أصابعها تغمض عينيها بشدة تشعر بأصابعه تخرج ببطء من
خصلات شعرها وبالأخرى تحرر خصرها ولم تسمع بعدها سوى
خطواته مجتازا لها ثم صوته قائلا بجدية وهو يفتح باب
الغرفة مغادرا
" اتصلي بي إن احتجت شيئا ولا تغضبي إن لم اجب ..
مفهوم ماريا ؟ "
وما أن سمعت الباب اغلق رفعت رأسها للأعلى تسحب الهواء
لرئتيها بقوة ويدها على قلبها الذي لازال فاقدا السيطرة على
نبضاته المجنونة تعض شفتها بقوة وكأنها تحاول طرد شعورها
بملمس شفتيه فيهما ، ليست تعلم أي جنون ذاك الذي جرفهما
فجأة وبما تسمي ما حدث ؟ كل ما تعلمه بأن تيم الفتى الذي لم
يعرف يومها جواب سؤالها البريء عن السبب الذي يتزوج به
الرجال من النساء قد أصبح رجلا بالفعل مثلما تغيرت نظرته
لماريه الطفلة التي لم تكن تعني له أكثر من مصدر إزعاج
لا يهتم ولا لكونها أنثى بجميع تفاصيلها .
مررت أصابعها في شعرها وخطت خطوتين جهة السرير قبل أن
تنهار جالسة عليه لا يمكنها ترجمة ما هي فيه الآن سوى بأنها
وبكل حمق ازدادت شوقا إليه ، وضعت يديها على جبينها
وهمست بصوت مرتجف
" يا إلهي ما هذا الذي فعله بي ؟ "
رمى الملف من يده على الطاولة أمامه وأصابع يده الأخرى
تشتد تدريجيا على الهاتف الذي يثبته على أذنه يسمع بوضوح
الهمس المتداخل في الطرف الآخر ثم صوت التي قالت برجاء
" أمي أرجوك تحدثي معه فهو يبدوا مستاء جدا وأخشى أن يأتي
هنا وستسوء الأمور حينها أكثر "
شد على فكيه وتنفس بعمق فيبدوا أن ابنته تفهمه أكثر من
والدتها فهو كان بالفعل سيفعلها ولن يمسكه عن الذهاب هناك
إلا أن ترفض جميع اتصالاته وليس له أن يتوقع أي سوء هذا
الذي قد يصل له الأمر ، ساد الصمت في الطرف الآخر لبعض
الوقت قبل أن يصله صوتها البارد
" نعم "
صر على أسنانه يتمسك بآخر ذرة صبر يملكها وقال بجمود
" هل أفهم لما طردت الحرس من منزلك ؟ "
وصله سريعا ذات ذاك الصوت البارد المستفز رغم رقته
" منزلي ويحرسونني أنا و... "
قاطعها صارخا فيها من فوره ومحررا ذاك الوحش الغاضب
الذي كاد يدمر أضلعه
" غسق تحترميني رغما عن أنفك فأنا زوجك ، وإن لم يكن
كذلك فأنا ابن عمك والمسئول عنك أحببت ذلك أم كرهته "
وصله صوتها الحانق وكأنه لم يهددها قبل لحظات
" إن كان مطر الماضي المتحكم الآمر لازال مسيطرا عليك
فغسق لم تعد تلك الحمقاء أبدا ... "
" غسسسسققق "
صرخته الغاضبة تلك أسكتتها فورا ولوقت حتى ظن أنها قد
تجن وتفعلها وتغلق الخط في وجهه إلى أن وصله صوتها
الساخط هذه المرة
" هل أعلم فيما أخطأت مثلا تعاملني بهذه الطريقة وكأني طفلة في
عهدتك ؟ بينما أنا التي يحق لها أن تغضب لأن أحدهم يتجسس
عليها حتى أنه وصل لغرفة نومها "
قال من فوره متجاهلا ما قالت ونبرته لم تخلوا من الضيق والحنق
" هل أفهم أنا ما الداعي لتستنجدي بالقوات الوطنية وما دخل
ابن العقاد ذاك يكلف رجاله بحراسة عرشك مولاته "
لو كانت تقنية الاتصالات يمكنها نقل أشياء غير ترددات الصوت
لكان وصله دخان نيران غضبها وهي تصرخ باحتجاج
" لا أسمح لك باتهامي يا مطر فأنا لست بحاجة لحجج لأتسامر
مع الرجال ويعقوب العقاد إن كنت أريد الذهاب له لما بحثت
عن حجة ولكنت ذهبت له فورا ، ما علاقتي أنا إن كان السيد
عقبة هو من أقحمه في الأمر ... حديثي كان معه هو وليس
مع ذاك الرجل ولم أراه أو أسمع صوته "
توجه جهة النوافذ الطويلة المقوسة والمطلة على أهم معالم
تلك العاصمة وأجابها بالغضب ذاته قائلا
" أجل هذه هي النتائج سيدة غسق وأنتي السبب في كل ما يحدث
حتى الآن "
كانت نبرة صوتها ساخرة هذه المرة وإن لم تخلوا من الضيق
وهي تعلق سريعا
" آه نعم معك حق وجميع من تحدثوا مع رعد أنا السبب فيما
فعلوه وليس أنت "
ضرب بقبضته على الزجاج أمامه وشد أسنانه بقوة حتى كان
يشعر بها ستتحطم فهذا ما لم يكن يعلمه ورعد لم يخبره به أيضا
وهي تظن العكس لما تفوهت بهذا ، لن أغفرها لك يا رعد أبدا ،
همس من بين أسنانه
" غسق متى ستكونين في مكانك الطبيعي ؟ "
" أنا فيه الآن "
كان جوابها قويا ومباشرا فهمس من بين أسنانه مجددا وقد
أولى تلك الإطلالة ظهره
" لا تحولي الأمر لتحد يا غسق لأجعلك تعرفيه قريبا وقريبا جدا "
أغلق بعدها الخط دون أن ينتظر تعليقها ومرر أصابعه في شعره
للأعلى وصولا لقفا عنقه متأففا بغضب لا يظن أنه ثمة شيء
قد يخمده سوى أن يسجن تلك الجامحة العنيدة في قفصه للأبد
ليطمئن ، انفتح باب المكتب حينها ودخل منه الذي قال مبتسما
ما أن نظر له
" ما هذا الوجه العابس يا رجل ؟ اجزم أن ابنة شراع السبب "
دس هاتفه في جيبه قائلا ببرود
" شاب شعر رأسك ولازلت سخيفا "
ضحك ذاك ولم يعلق لحظة دخول صقر وابن شقيقته الذي
أغلق الباب ممررا يده له خلف ظهره فتنحى بشر جانبا ونظر
له مجددا وقال مبتسما
" بما أن أفراد عائلة الشاهين قد اجتمعوا فعليكم أن تعلموا
أنه ثمة حفيده لديكم بدأت تفوح رائحتها الزكية في البلاد ونظرا
لأن كل أولئك الضباط في الجيش سيقومون بحمامية منزل
والدتها فستبدأ وفود خاطبيها بالتوجه لكم وأنا أول من طلبها
منك لابني يا مطر بل وما أن وطئت قدماها أرض الوطن فلا
تنسى هذا "
كان جواب مطر الصمت التام محدقا بعينيه بينما افترسته
نظرات الصدمة للواقف عند الباب أما التعليق الوحيد فكان
من رابع أفراد تلك المجموعة والذي قال ضاحكا
" لكن مهر دميتنا الجميلة مرتفع جدا يا بشر ولن يقدر
ابنك عليه "
ضحك والتفت له من فوره قائلا
" أنتم حددوا الرقم فقط وسيكون لديها من قبل أن تتزوجه "
" تزوج ابنتك وهي في هذا السن يا مطر ! "
خرج الواقف عند الباب من صمته ليسرق نظرته الصامتة
تلك له بينما كان التعليق من خاله الذي التفت له برأسه
قائلا بضحكة
" ونحن لم نصدق ذلك لكنه أكده بنفسه وأمام شقيقته
وابنها كما أنه رفض أبناء شقيقته أيضا "
نقل نظراته المستغربة منه للذي لازال ينظر له بصمت
مكتفا ذراعيه لصدره ... نظرة لم يكسرها سوى حديث
بشر قائلا
" المهم أني أول من طلبها منك يا مطر "
عاد مطر بنظره له وقال ببرود
" وابنك مرفوض أيضا "
تأوه بشر باعتراض بينما لم يكن لدى أي منهم أي فرصة
ليعلق على الأمر ولا ليتحدث والأرض تهتز من تحتهم وألسنة
النيران والدخان الأسود تحكيها تلك النوافذ الطويلة ولا شيء
يعلوا فوق صوت ذاك الانفجار المدوي سوى أصوات الصراخ
التي بدأت تتسرب لهم مع كل ذرة هواء كما رائحة ذاك
البارود والدخان ليكتشفوا بأنها دقائق قليلة فقط تلك التي
فصلتهم عن الفاجعة وسجنتهم في دوامة صدمة ما حدث فجأة ...
كل ذلك وبكل حجمه ذاك حدث فقط في ثوان معدودة فأشباه
الموت أولئك كثر ما أن يضربوا يضربون مباشرة وفي
لمح البصر .
كان مطر أول من اجتاز تلك الصدمة وقد تحرك جهة الباب
هامسا من بين أسنانه
" سحقا للأوغاد "
فأوقفته أصابع بشر التي التفت حول ذراعه وأداره جهته
وقد صرخ فوق كل ذاك الصراخ والركض في الخارج
" لا تخرج يا مطر حتى يهدأ الوضع قليلا ، لا تعرض حياتك
للخطر يا رجل "
سحب ذراعه من بين أصابعه بسهولة ما أن شدها منه وقال
صارخا بغضب
" وفيما سيجدي اختبائي هنا كالنساء ؟ اتركني أعلم من فقدنا
على الأقل "
وما أن تحرك مجددا كان قاسم في وجهه هذه المرة وقد أمسك
بكلتى ذراعيه قائلا بجدية
" الوضع تعمه الفوضى في الخارج يا مطر وقد يكون من
فعل هذا يقصدك شخصيا وخروجك الآن قد يتم استغلاله في
مثل هذه الظروف ، أنت لن تهب الحياة لمن فقدها بخروجك "
أشاح بوجهه عنه وتنفس بغضب شاتما من بين أسنانه وقال
عمه من خلفه
" قاسم معه حق يا مطر والانفجار يبدوا في موقف السيارات
وليس في المبنى لنغادر ، اترك من في الخارج يتصرفون أولا
وكن واثقا في رجالك ، خسارتك في هذه المرحلة معناها أن
ترجع البلاد أسوأ مما كانت فلا تتهور "
شد قبضتيه بقوة واستدار للخلف وتحرك جهة مكتبه ساحبا
هاتفه اللاسلكي من حزامه لحظة ما انفتح الباب على اتساعه
فالتفت فورا ناحية الذي وقف أمامه يتلقف أنفاسه وقد قال
" حمدا لله أنكم تأخرتم قليلا ، سياراتكم كانت المقصودة
يا زعيم لولا لطف الله بنا جميعا "
قال مطر من فوره
" من مات يا تميم ؟ ما هو حجم الأضرار ؟ "
سحب نفسا طويلا وزفره بقوة قبل أن يقول
" لا ضحايا حتى الآن ... بعض الجرحى من الحراس وطقم
أطباء القصر الرآسي يتولون الأمر والإسعاف ستقوم بنقل من
حالتهم تستدعي الحاجة لذلك كما أن رجال الأمن والقوات
الخاصة يسطرون على الوضع سريعا وتم إخلاء هذا المبنى قبل
أي من مباني القصر "
تحرك حينها خارجا من هناك وثلاثتهم خلفه قبل أن يحيطوا به
رجاله في الخارج ومن كل جانب وكل واحد منهم على استعداد لأن
يخسر حياته ولا تخسر البلاد ذاك الرجل الذي علمهم الاحتكاك به
لأعوام طويلة بأن التضحيات من أجل ذاك التراب الغالي أثمن من
أن يقدم قبلها أي شيء لتزف له الأرواح دون تراجع ولا تفكير .
*
*
*
وقف ينظر باستغراب للتي أغلقت الباب وغادرت وكأنها
لا تراه أمامها فنظر حوله واكتشف حينها بأنه يقف في الجزء
المظلم من بهو المنزل لذلك يبدوا أنها لم تراه ولم تنتبه لهمسه
باسمها ! بل فهم الآن سر تلك النظرة الجامدة الخالية من أي تعبير
التي رمقته بها وكأنه لا يراها وهي تخرج من هناك ، توجه جهة
باب المكتب من فوره وفتحه ودخل ينظر لكل شيء حوله ،
لم تخرج شيئا في يدها أي أنها لم تاخذ شيئا من هنا إلا إن
كانت قد خبأته في ثيابها ، توجه فورا جهة الجهاز المخفي
هناك والموصول بجميع المقابض البلاستيكية في تلك الغرفة
والمصممة بتلك الطريقة الفريدة من نوعها ولا أحد يعلم بأنها
عبارة عن جهاز كشف بصمات حيث لا تفتح إلا لبصمات معينة
ومسجلة فيها وهم ( هو وجده ووالده ) وليس كذلك فقط
فهو يسجل أي بصمة غريبة عنه ، حرك إصبعه على شاشته
بسرعة وحرفية وابتسامة جانبية تزين شفتيه ما أن تذكر
الشخص الوحيد الذي تعرف على هذا الجهاز ما أن نظر
لمقابض المكتبة ولم يكن سوى ( تيم ) وفي زيارته الوحيدة
لهذا المنزل والمكتب فكم يذهله ذاك الشاب بذكائه ! انفتحت
امامه قائمة طويلة نظر لها فورا فلم تكن ثمة بصمات غريبة
فجميع أفراد عائلته سجلت بصماتهم فيه وحتى الخدم وإن لم
تكن تفتح لهم ، إذا هي لم تحاول أو تفكر في فتح أي شيء
هنا ولا حتى في لمسه إذا ما هذا الذي كانت تفعله في هذا
المكان ! لن يصدق أن امرأة مثلها ستدخل إلى هنا كحب استطلاع
فقط خاصة وأنه وجدها سابقا متسلله من جناحها المحكم الإغلاق
أي أنها ستكون تحفظ هذا المكان كاسمها ، غادر ذاك المكتب
أيضا بعدما يئس من إيجاد أجوبة لتساؤلاته ككل مرة فأغلق
الأنوار والباب خلفه وغادر حيث الجهة التي سلكتها فهذه
الطريق الأبعد عن جناحها فلما ستضطر للذهاب منها إن لم يكن
سببا واحدا وراء ذلك ؟ وقف مكانه واستدار حيث المكان الآخر
الذي كانت تنبعث منه الأضواء وكما توقع كانت غرفة الشاي
ذاتها التي دخلتها صباحا جلست في شرفتها ، دفع الباب الشبه
مفتوح ببطء ودخل فكان المكان فارغا تماما بينما تلك الستائر
الناعمة تتطاير كاشفة عن ذاك الجزء المفتوح من الباب الزجاجي
المقسم والمطل على تلك الشرفة التي كانت تحتل تلك الجهة بأكملها ،
تحرك من فوره حيث تتسرب تلك النسائم الربيعية القوية الدافئة
مقارنة بكل ذاك الشتاء البارد الذي غادرهم للتو ، أبعد طرف
الستارة بيده ووقف مستندا بإطار الباب يلف ساقا حول الأخرى
يده في جيب بنطلونه يراقب الجالسة في ذات مكانها السابق على
حافة الشرفة تنظر للحديقة المضاءة وتذكر فورا صديق جده ذاك
الرسام العجوز الذي سافر لليونان منذ عامين ليعيش مع ابنته
التي توفي زوجها ذاك الوقت ، كان يحب الجلوس على الكرسي
في تلك الزاوية تحديدا من الشرفة وقد قال له ضاحكا ما أن سأله
مرة عن السبب ( أنت شديد الملاحظة يا وقاص ، أتعلم أن هذه
الجهة من الشرفة تطل على أفضل منظر لتلك النافورة الحجرية
المميزة ؟ إنها روح الفنان يا وقاص ... والفنان الحقيقي لا يرسم
ما يعجبه أبدا كذاك المشهد مثلا بل يكتفي بالتمتع بالنظر له دائما(
ابتسم واتكأ براسه على طرف الباب ينظر للتي تتطاير خصلات
شعرها الذهبية الطويلة مع النسيم قبل أن يسرق نظره دفترها
الخاص بالرسم الموضوع على الطاولة فهل كانت هنا قبل
ذهابها لمكتب جده أم أنها تركته هنا مكانه منذ الصباح !!
" هل تأكدت من أني لم أسرق من مكتبكم شيئا ؟ "
عاد بنظره لها سريعا ينظر لنصف وجهها المقابل له بصدمة ،
هي إذا رأته هناك فلما تصرفت إذا وكأنها لم تراه ! هل تعتبره
شخصا لا وجود له بذاك الشكل ؟ لو يفهم مرة واحدة هذه
المرأة كيف تفكر وفيما تحديدا ؟! عدل وقفته ودس كلتا يديه
في جيبيه وخطى نحو الخارج خطوتين وقال ونظره لم يفارق
ملامحها
" أنتي فرد من هذه العائلة يا زيزفون ويحق لك دخول أي مكان
في المنزل ومتى تشائين ، وتعلمين جيدا أني لا أعارض ذلك أبدا
ومنذ وقت "
اكتفت بالصمت والتحديق بعيدا ولم تعلق فتنفس بعمق وقال
" متأكد من أن زوجة والدي أخبرتك عن حفل العشاء فلما
ترفضين ما هو حق لك كفرد من أفراد العائلة ولم تذهبي معهم ؟ "
" ولما لم تذهب أنت ؟ "
رفع رأسه عاليا وحركه مبتسما فهذه المرأة حتى أجوبتها على
أسئلته أسئلة جديدة ! ورغم ذلك نظر لها وقال
" كنت سأصل متأخرا لأني كنت مشغولا هذا المساء وفي هذه
المجتمعات يعتبرىون ذلك افتقادا للباقة وسوء تصرف "
خرجت منها ضحكة صغيرة ساخرة ونظرت ليديها في حجرها قائلة
" بل الأغنياء منهم فقط ، إنهم تافهون حقا حتى أنهم ينجذبون
لمن يصل متأخرا دائما "
قال مبتسما وقد انحنى للدفتر الموضوع فوق تلك الطاولة
الزجاجية ذات الأذرع المصنوعة من الخيزران كما الكراسي
المحيطة بها
" هذا طبع البشر جميعهم يا زيزفون ينجذبون لمن يختلف
عنهم في كل شيء "
نزلت بقفزة صغيرة ونظرت له قائلة بابتسامة ساخرة
" لهذا تزوجت أنت بتلك المرأة ؟ "
استوى واقفا يحمل ذاك الدفتر في يده وقد تصرف وكأن سؤالها
مجرد أمر عادي لا أهمية له ولم يؤثر بمزاجه وقال بسخرية
مماثلة يقلب دفترها مغلقا ونظره عليه
" لو كانت امرأة غيرك لفسرت حديثها هذا غيرة منها "
وتابع بابتسامة مائلة وقد حول نظره لعينيها المحدقة به
" ثم إن فسرنا جميع العلاقات بمفهومك هذا فسيعني ذلك بأنك
الزوجة المناسبة لنجيب "
قالت بضيق ما توقعه تماما
" أيمكنك أن لا تقارنني بمشاريع حياتك الفاشلة "
حرك دفترها والهواء يتلاعب بأوراقه قائلا بابتسامة جانبية
" لم أغضب حين تحدثت عن زوجتي بل وتنتقدين اختياراتي
أيضا فلما يغضبك ما أقول ؟ "
قالت فورا وبسخرية لاذعة
" لأني أغار طبعا "
تاهت نظراته للحظات في ملامحها الفاتنة حتى في أوج حنقها
وغضبها وشعر بشيء ما في داخله يشبه الرغبة في الضحك
دون توقف وهو يتخيل فعلا أن تغار هذه المرأة من زوجته
أو من أي امرأة أخرى تقترب منه ... هنا ستنكون نهاية
الأرض بالتأكيد ، رفع دفترها بجانب وجهه وقال مبتسما
" لا أريد أن يصل حديثنا للشجار يا زيزفون فهل لي أن
أشاهد هذا ؟ والخيار لك طبعا "
نظرت له في يده قبل أن تشيح بنظرها جانبا وقد قالت ببرود
" لن تجد فيه أجوبة عما تبحث عنه إن كان ذاك غرضك "
قال بذات ابتسامته
" لا فأنا لا أبحث عن أجوبة أبدا بل أريد رؤية ما أبدعت فيه
أيضا من رسمت الجزء المفقود من تلك اللوحة "
تحركت من مكانها وقالت ببرود مجتازة له
" لكنك لن تجد حل لغز الجريمة فيها وستعتمد على ذكائك
هذه المرة يا وقاص "
تبعها بنظراته المصدومة حتى اختفت خلف تلك الستائر البيضاء ....
نادته باسمه وليس ابن ضرار ! وجريمة !! أي جريمة هذه التي
تحدثت عنها ؟ نظر للدفتر في يده وشعر بأنه يحمل سراً ما ..
سر آخر و ...... جريمة أخرى مدفونة ! لا هذه لن تكون كتلك
بالتأكيد هذه جزء من ماضيها هي .
رفع الغلاف ولا يعلم لما يشعر بتوتره يزداد تباعا وكأنه يواجه
حقيقة مخفية لأول مرة في حياته ولم يعرف جرائما بعدد شعر
رأسه ، رفع الورقة الأولى الفارغة وكان في مواجهة أولى
رسوماتها تلك ... كانت لامرأة لا بل لزيزفون في سن أكبر
قد تكون في الخامسة والأربعين !! مرر أنامله على
ملامحها ببطء ...
كانت وكأنها صورة حقيقية بدون ألوان ؟ هذا ابداع
منقطع النظير .... !! جدتها ... هذه جدتها بالتأكيد لقد
أخذت جميع ملامحها إلا هذه الابتسامة التي لم يراها على
شفتيها أبدا ولا أي واحدة من مثيلاتها ، كانت بملامح
مسترخية وابتسامة دافئة جدائلها قد استقرت في حجرها
من طولها ، أهذه هي المرأة التي جعلت جده ضرار السلطان
يتزوجها وسراً عن الجميع ؟ بل ويتركها في صمت كما
تزوحها ! رفع الورقة بسرعة وكأنه يهرب أيضا وبكل حمق
مما عانته تلك المتوارية خلف الماضي البعيد الأليم ، كانت
الرسمة التالية لرجل بلباس جيش عرفه سريعا ما أن نظر له
هذا ( عكرمة عماد الدين ) أحد رجال مطر شاهين ومن
مات بعد توحيد البلاد بعامين وبعد معاناة مع سرطان الرئة ...
يذكره جيدا فقد رآى صورته في الصحف كما أنه الرجل الذي
اهتم بزيزفون بعد وفاة جدتها ، يحار كيف لها أن تتذكر كل هذه
الوجوه والتفاصيل رغم صغر سنها ذاك الوقت !! هل توجهت
طاقتها الذهنية وقت مرضها لتخزين الصور ؟ قلب الصفحة
يريد معرفة باقي تسلسل حكايتها فظهر له وجه امرأة أخرى ...
هذه كانت بشعر أسود عكس جدتها التي كانت تظهر خطوط
رسمها بوضوح أنه شعر فاتح اللون كما عينيها تماما أما هذه
فسواد شعرها لا يضاهيه سوى عيناها وقد تدلى ذاك الوشاح
الأسود الخفيف على شعرها وكتفيها وكأنها اعتادت أن
تلبسه هكذا ...
كانت مبتسمة أيضا لكن ابتسامتها تلك كانت حزينة وشيء
ما في عينيها يشبه الدموع فمن تكون هذه ؟ أهي زوجة ذاك
الرجل أم ....... والدتها ؟
من منهما التي تولت رعايتها بعد موته ؟
ذاك هو الجزء المخفي عنه من الحكاية ، قلب الورقة مجددا
ليكتشسف حينها أن الصدمة الحقيقية كانت في الطريق إليه .....
هذا جده !! لا هذا ليس هو هذا أصغر منه بكثير لكنه يشبهه
تماما فكيف لها أن تعلم عن شكله من قبل أن تولد هي ؟
ثم عينيه ..! هذا لون عينيه ليس كجده لكن ملامحه ......!!
قبضت أصابعه لا شعوريا على تلك الأوراق وشعر بالعجز
أمام كل هذا فمن سيكون إن لم يكن هو ! ابنه إسحاق ... ؟
والدها !! لكن كيف لها أن ترسمه وهي لم تراه وقد قتل
منذ كانت جنينا في أحشاء والدتها ؟ حرك رأسه بعجز
ويشعر بأنه داخل متاهة وأصبح يخشى مما ستخفيه تلك الأوراق
أيضا لكنها سبيله الوحيد ليعرف ما عنت بقولها وما حدث معها
رغم توضيحها للأمر له وبأنه لن يجد من ماضيها وسبب حالتها
تلك شيئا هنا ، تنفس بعمق وهو يكشف عن الورقة الأخيرة
وحاجباه يعقدان ببطء وهو ينظر لتلك الرسوم التي لم تكن
لشخص هذه المرة بل لمنزل يحترق ... لا بل كان نصف
منزل تشتعل فيه النيران وأخشابه تتهاوى أما النصف
الآخر فكان .... ( ذئب ) يقف على قائمتيه الأماميتان ويرفع
رأسه للسماء ويعوي ، شعر بقلبه انقبض بقوة وبطريقة
غريبة وهو ينظر لذاك الحيوان والمنزل والنيران المشتعلة
وقد تذكر جملتها الباكية تلك في ذاك اليوم ( إنها تحترق تعالوا
أرجوكم ..... أوقفوه بسرعة فسيحرق كل شيء)
مرر أصابعه في شعره ونظر للأعلى أنفاسه القوية تخرج
متلاحقة وكأنها نيران تشب في صدره ..... ثمة جريمة
بالفعل ونار وأحدهم يحترق ثم موت ومتهم بريء ومجرم
قد يكون طليقا لكن من !! من التي احترقت ومن أحرقها ...
أكانت تلك هي الجريمة أم ..... ثمة من قتله انتقاما لها !!
تحرك من مكانه فورا بخطوات سريعة لم تتوقف حتى كان
أمام باب الغرفة الذي طرقه طرقات قصيرة منخفضة ومتتالية
كي لا تشعر به الموجودة في الغرفة المجاورة ولم تتوقف
طرقاته تلك حتى انفتح الباب وخرجت منه التي نظرت له
مستغربة وقد همست فورا " سيد وقاص ما ..... "
سحبها من ذراعها مبتعدان عن المكان وأوقفها أمامه
وقال ناظرا لعينبها
" من الذي كان يزور زيزفون ؟ ماذا حدث في ماضيها ؟
لابد وأنك تعرفين شيئا ... أي شيء وإن لم يكن مهما "
حركت رأسها بالنفي هامسة
" لست أعلم سيدي أقسم لك ... لم أراه يوما ولست أعلم
حتى إن كان شخصا واحدا أم عدة أشخاص فحتى زيزفون
نفسها تتكتم عن أمره وبشدة "
فتح الدفتر على صورة ذاك الشاب وأراها إياها وقال
" هذا هل رأيته سابقا ؟ "
نظرت لها بصدمه قبل أن تنظر لعينيه قائلة
" السيد ضرار ! "
حرك رأسه بالنفي ثم أخرج هاتفه من جيبه وفتش فيه قبل
أن يريها إياه قائلا
" وهذا ؟ "
نظرت للصورة لبرهة ثم نظرت له وقالت
" هذا مطر شاهين رأيته مرارا في الصحف والتلفاز لكني
لم أراه في غيرهما أبدا "
لوح بالدفتر في يده قائلا بضيق
" ومن سيعلم إن لم يكن أنتي ؟ عليا معرفة كل شيء ...
علينا إنقاذ زيزفون من ماضيها ومن نفسها ومن كل شيء
قبل أن تنتهي تماما "
ملأت الدموع عينيها سريعا وقالت بحزن
" ليته بيدي شيء لفعلته دون تردد لكني لا أملك لها إلا الدعاء
وظننت أن دعائي وضعك أنت في طريقها لتساعدها "
تنفس بعمق قبل أن يقول
" حسنا ماذا كانت ترسم سابقا ؟ عن ماذا تحكي لوحاتها
ورسوماتها في الماضي ؟ "
حركت رأسها نفيا قائلة
" لا شيء "
نظر لها بصدمة هامسا
" ما يعني لا شيء ! "
قالت من فورها
" كانت ترسم فقط ما كان يطلبه منها معلمها ذاك ولم ترسم
بنفسها شيئا أبدا إلا حين طلب منها هو أن تريه رسما
من تعبيرها لا علاقة له بدروسهم ولا بالأشياء التي يختار
أن ترسمها "
أومأ برأسه يحثها على المتابعة فقالت بتوجس
" كانت اللوحة لذئب "
نظر لها بصدمة شعر بأن أنفاسه توقفت معها قبل أن يورق
ذاك الدفتر ويرفعه أمام وجهها قائلا
" كهذا ؟ "
وضعت يدها على صدرها وقالت بحزن
" أجل لكن ليس هكذا كان يقف على صخرة مرتفعة وخلفه
قمر مستدير وتحت مخالبه أرنبا صغيرا وكان يعوي هكذا
رافعا رأسه للسماء وكأنه يسجل انتصاره على ذاك المخلوق
الضعيف ، لقد أثنى ذاك الرسام كثيرا على لوحتها تلك لأنها
لم تعتم ملامح ذاك الذئب رغم أن القمر كان مكتملا خلفه بل
أظهرتها بشكل متكامل ومميز ... فقط الأرنب والصخرة كانتا
معتمتين ، وقد أهدته تلك اللوحة ورفضت أن تبقى لديها "
نظر للدفتر في يده ولصورة ذاك الحيوان المفترس قبل أن
يسحب نفسا قويا لصدره مغمضا عينيه ... لا يريد أن تأخذه
أفكاره لذلك .. لا يريد ولا تخيله مجرد تخيل ، مد لها بالدفتر
قائلا بنبرة جوفاء
" أعطيه لها صباحا "
وغادر من هناك فور أن أخذته منه لا يجد تفسيرا واحدا لكل ذلك
ولا حتى لسبب رسمها الآن بينما كانت ترفض ذلك في الماضي !!
عدلت ياقتها ورفعت خصلات شعرها الرطب خلف أذنيها فور
أن انفتح باب الغرفة ودخلت منه التي أغلقته خلفها وقد أمسكت
وسطها بيديها قائلة
" قضى وقتا طويلا هنا فهل تصرفت كما أوصيتك أم قضيتما
الوقت في الأحضان والقبلات "
نظرت لها بصدمة وقد شعرت بالدماء الحارة تصعد فورا
لخديها وهي تتذكر ما حدث وكادت أن تغص بريقها حين فردت
ساندرين كفيها وشهقت بصدمة قائلة
" ماريه يالك من بلهاء أقسم أن ذاك ما حدث فعلا ، ظننت ما أن
رأيته يدخل غاضبا أن تكوني أبردت حرقتي منه ... ذاك البليد "
وتابعت بضيق تتحرك في الغرفة بعشوائية
" المتعجرف المتحجر الأبله البارد لم تري كيف تحدث مع والدي
ببرود وهو يرحب به بسعادة ما أن فتح باب المنزل ووجده أمامه
لأنها المرة الأولى التي يدخل فيها قاطع الأرحام ذاك منزلنا "
ثم وقفت مقابلة لها مجددا وقالت تقلد نبرته الباردة وصوته الخشن
" أريد رؤية ماريااا "
وتابعت وقد عاد الضيق لنبرتها
" لم يكلف نفسه أن يحييه أو أن يجيب تحيته قطعة الحديد الباردة
ذاك الوقح الأخرق القاسي الحثا .... "
قاطعتها الجالسة أمامها والتي امتلأت عيناها بالدموع مجددا
وقد قالت بضيق مماثل
" توقفي ساندي لا يمكنك شتمه أمامي أكثر من هذا فيما يكون
فيه معه حق "
صرخت فيها بصدمة وقد فردت ذراعيها
" معه حق ماريه !! معه حق في أن يقلل احترامه لوالدي الذي
وإن لم يكن قريبه فهو أكبر منه ومن والده أيضا ؟ "
تدحرجت تلك الدمعة الحارة من عينها اليمنى محطمة أسوار
صمودها وقد صرخت مثلها تخنق العبرة ذاك الصوت الغاضب
" بلى معه حق يغضب ومن الجميع ... جميعهم تخلوا عنه
وعن والدته وقت احتياجه لهم ساندي ... وقت أن كانا يناما
جائعان ويلبسان أردأ الثياب ... حين كانا يعيشان في غرفة
تعافها الحيوانات بسريرين فقط لا بساط فيها ولا ليقيهما
برد الشتاء ... حين كان يرى والدته تموت أمامه بسبب مرض
تشفيه الأدوية ، حتى المال الذي خصصه ابن شاهين للأرامل
وكان يرسله لهما مضاعفا دون الجميع كان زعيم القبيلة يوصله
لعمي قيس وذاك الجشع يأخذه لنفسه ، من منكم يعلم ما قاساه تيم ؟
ما الدموع التي ذرفها لا يسمح لأحد بأن يراها وما المواقف
التي رفض فيها أن يبكي وداخله ينزف ألما ؟ هل فكرت يوما
أن تكوني مكانه ؟ هل تعلمي معنى أن يموت أحد والديك أمامك
بينما عائلته يستمتعون بحياتهم وكأنه ليس موجودا ؟ هل جربت
معنى المبيت جوعا لليال طوال ؟ البرد ... الحشرات ... الإهمال
وأنتي لست سوى طفلة ومسئولة عن شخص مريض هو كل
ما لديك في هذه الحياة ؟ أنا نفسي لست أعلم عن معاناة تيم إلا
القليل رغم كثرته ومتأكدة من أن ما أجهله كان أقسى من ذلك
بكثير فبأي حق ستحاسبونه الآن ... ؟ بأي حق ؟ "
أنهت سيل عباراتها الصارخة الغاضبة تلك تتلقف أنفاسها
الثائرة وسط عبراتها المتلاحقة والدموع تنسكب من عينيها
كحبات المطر قبل أن تشير بسبابتها لنفسها قائلة ببكاء
" حتى أنا زوجته أعجز عن تخفيف ذاك الألم الدفين في داخله
ولن أفعلها ما حييت ساندرين لأني أكثر من عرف تيم في أصعب
أوقات حياته وأعلم جيدا أن ما من أحد سيكسر ذاك الجليد لأنه
الستار لألمه لذكرياته .. لوالدته .. لطفولته القاسية ولكل الألم
الصارخ داخله فإن تخلى عنه سينتهي تماما ... سيتحول لمجرم
قاتل أو لمجنون فهل نستطيع تقبله هكذا ؟ .... لا بالطبع وأنا أول
من أعلن الهزيمة وأنا أطلب منه أن يطلقني "
همست الواقفة هناك بصدمة " يطلقك ؟! "
ثم سرعان ما حركت رأسها بعدم تصديق وتوجهت نحوها
وجلست بجوارها وضمتها لحظنها تواصل بكائها الصامت فيه
وقالت تمسح على شعرها الرطب
" يا إلهي ماريا لهذا جاء هنا وفعلها ولأول مرة ؟ حسنا
صديقتي الحلوة لن أتحدث عن حبيبك ذاك مجددا وسأحاول أن
لا أشتمه ... أعدك فقط أن أحاول فأحبيه كما تشائين "
وتابعت تمسك ضحكتها
" وتوقفي عن البكاء هيا كي لا تموتي وما سيخلصنا من
حبيب طفولتك ذاك حينها "
ابتعدت عنها وضربتها بقبضتها وهمست ببحة تمسح دموعها
" حمقاء "
ضحكت تلك من فورها وقالت
" ليس ثمة حمقاء في الوجود غيرك ترسل لرجل مثله تطلب
أن يطلقها ! "
وتابعت وقد عادت للضحك مجددا
" عليك أن تحمدي الله أنه لم يوجه مسدسه المخيف لرأسك
ويفجره فيه فهل بعد محاربته لأعوام ليبقي ذاك العقد الذي
يربطكما تطلبيه أنتي منه الآن وبكل دم بارد ! "
نظرت لها بعوبس وقد عادت الدموع لملأ مقلتيها الذهبية
الواسعة فرفعت يديها ومسحت بإبهاميها عليهما قائلة
" توقفي عن البكاء أيتها القطة الجميلة المبللة و ... "
قطعت جملتها وقد فغرت فاها الصغير بصدمة تنظر لها من
شعرها المبلل لوجهها وعيناها الدامعة وجفناها المحمران
ووجنتيها المحتقنة بالدماء نزولا لشفتيها الزهرية الناعمة
ووصولا لجسدها وروب الحمام الزهري القصير ملتفا حوله
وقالت بدهشة ما أن عادت بنظرها لعينيها
" آه بربك ماريه الآن فقط انتبهت بأنه دخل وأنتي بهذه الهيئة !
لا تقولي بأن هذا لم يحرك فيه ساكنا فسأقرأ عليه فاتحة
الكتاب حينها "
هربت بنظراتها منها وهمست ببحة
" غادري من غرفتي فورا "
ضحكت تلك من فورها وقالت
" في منامك أغادر قبل أن أعلم عن كل شيء "
رفعت الوسادة ورمتها بها قائلة بضيق
" قلت غادري ألا كرامة لديك أبدا ؟ "
بينما تلقت تلك الوسادة بسهولة وقالت بحماس وقد وضعتها
في حجرها
" هيا ماريه قولي أكانت قبلة أم حضن ؟ هيا أقسم لن أسأل
شيئا غيره "
نظرت لها بضيق فضحكت قائلة
" هيا ماريه هي كلمة واحدة ستنطقينها أريد الإطمئنان على
عقل زوجك إن كان سليما أم لا ... قوليها هيا "
تنفست بضيق وهربت بنظراتها لأصابعها التي كانت تلعب
بطرف الحزام وهمست
" بل كليهما "
فانقلبت الجالسة أمامها فورا على السرير خلفها صارخة
بضحكة وقالت
" لو أني رأيت ذلك فقط لأوثق تلك اللحظة التاريخية "
غادرت ماريه السرير قائلة بضيق
" هيا غادري لأغير ملابسي فها قد حصلت على مرادك
من هذه الزيارة "
رفعت المرتمية على السرير وشعرها الكثيف متناثرا حولها
يديها للأعلى وقالت بحالمية
" آآآه ربي ارزقني زوجا مثلها وسيما طويلا يهديني كل هذه
الثياب ولامبرغيني بلون عيناي وقبلات وأحضان وأنا أطلب
منه الطلاق ... لكن ليس باردا متعجرفا طبعا "
وعادت للضحك ما أن رفعت تلك الوسادة مجددا وبدأت بضربها
بها فسحبتها لتسقط معها على السرير تتبادلات الضربات
بالوسائد ضاحكتان
*
*
*
نظرت للتي أومأت لها مبتسمة فبادلتها الابتسامة وقالت
" من هذا الذي أخبروني أنه ينتظرني هنا ؟ "
أشارت لها الواقفة خلف الطاولة الطويلة المقوسة في قسم
الاستقبال بإبهامها لجهة معينة قبل أن ترجع للأوراق تحتها
منهية حديثها مع الواقفة أمامها بينما انتقل نظرها هي حيث
أشارت تنظر باستغراب لصاحب ذاك الجسد الطويل والبذلة
السوداء الأنيقة الواقف أمام اللوحة الجدارية الضخمة موليا
ظهره للمكان يدس يديه في جيبي بنطلونه ، شعرت بضربات
قلبها ترتفع بطريقة مرعبه ما أن مال ذاك الرأس ذو الشعر
الأسود الكثيف للجانب قليلا واتضح لها جزء من ملامحه ...
كيف نسيت من يكونون أصحاب هذه الأجساد المخيفة ؟ كان عليها
أن تعرف هذا دون تخمين فمن قد يثير الاستغراب والرهبة في
النفوس غيرهم وخاصة الواقف هناك ومن حدق بها تلك المرة
بتلك الطريقة وكأنها مجرمة قد تنهي حياة زعيمهم في أي لحظة ،
لكن ما الذي يريده ذاك الرجل منها وكيف عرف اسمها !!
تنفست بعمق تهدئ من ضربات قلبها وليست تفهم ما بها هكذا
وكأنها تلميذة مدرسة تواجهه مديرها لأول مرة ! تقدمت نحوه
بخطوات كانت تتباطئ تدريجيا حتى وقفت خلفه ما أن شعر
بوجودها وقد استدار ناحيتها في حركة واحدة فأخفضت نظرها
فورا وقالت بصوت منخفض
" عذرا .. هل طلبت رؤيتي ؟ "
وما أن أنهت جملتها تلك عضت باطن شفتها لا تفهم ما بها مرتعبه
من الوقوف أمامه ؟ بلى تعرف بسبب ضآلة حجمها المزرية هذه
فهي بالكاد تصل لصدره خاصة أنها ترتدي حذاءً أرضيا مريحا
وكم كانت تحسد غسق في مراهقتهما لأنها أطول من أغلب
فتيات صنوان وتستغرب كيف كانت تتذمر ابنة خالتها تلك من
كونها كذلك ! عليها أن تحمد الله فعلا فكيف كانت ستقف بجانب
زوجها وزعيمهم ذاك إن كانت بحجمها هي !! سيكونان أضحوكة
بالتأكيد .
رفعت نظرها قليلا لحركة يده وقد أدخلها في جيب بنطلون بذلته
الأنيقة الفاخرة وأخرج منه ورقة مطوية لأربع ومدها لها قائلا
بنبرة رجولية عميقة متزنة
" أعتذر إن كان قدومي أزعجك لكن ابن الزعيم شراع أوصاني
بأن أتم هذا الأمر وأردت أن أسلمها لك بنفسي "
نظرت لها بين أصابعه لبرهة قبل أن ترفع يدها وتمسك بطرفها
وتأخذها منه وقد دستها في جيب سترتها فورا ولم يستغرب
الواقف أمامها أن لا تسأل عن فحواها أو تفتحها فهي ستتوقع
بالتأكيد ما ستكون ، عجيبة حقا هذه المرأة حتى أنها لم تستنكر
إتمامه هو للأمر وإحضارها لها هنا وبنفسه ! وجد أنه لا مناص
له من التبرير فقال بذات هدوئه
" أعتذر حقا على كل هذا فأنا رفضت أن أترك للمحكمة مهمة
إرسالها مع أحد مبعوثيها لأني أعلم جيدا أي جواسيس وأذرع
للصحافة هم أولئك الموظفين ولم أجد مكانا أفضل من مكان
عملك لأوصلها لك "
قبضت أصابعها لا شعوريا على الورقة التي لازالت مع يدها في
جيبها ونظرها لم ترفعه به أبدا وقالت بشبه همس
" لست ممن يهتم لثرثرات ستتلهى الصحف بغيرها سريعا ولا
أن تصل هذه الورقة لمنزلي قبلي فهذا ليس عار تختبئ منه
المرأة ... وشكرا لك على أي حال "
ابتسم لا شعوريا يراقب تلك الملامح التي تجاهد لتخفيها عنه
وقد خطت خطوة للخلف فقال قبل أن تغادر
" لن أستغرب ذلك ممن حضت بتلك المكانة في هذه المملكة
وأحيي فيك ذلك بالفعل فقله هم من يديرون ظهورهم لماضيهم
بكل شجاعة وللأبد "
أنهى عبارته تلك وغادر فورا بخطوات أنيقة واسعة جهة الأبواب
الزجاجية للمبنى ونظراتها المصدومة تتبعه قبل أن تمسك جبينها
بأصابعها هامسة
" لا يا إلهي ... ماذا أخبر رماح هذا الرجل أيضا ؟! "
ارتجف جسدها ما أن شعرت بتلك اليد على كتفها والتفتت فورا
للتي غمزت لها بعينها وقالت مبتسمة
" هل يعلم ابن شراع أنك تقفين هنا مع ذاك الطويل الرائع
يا جليلة يونس ؟! "
نظرت لها بصدمة قبل أن تتحول نظرتها للحنق وتحركت من
هناك قائلة ببرود
" لا تبدئي أنتي بتسريب الشائعات يا حفصة .. يكفيني ما سيأتي
لاحقا "
ضحكت تلك من فورها وقد تبعتها وأمسكت بيدها وسحبتها
معها قائلة
" تعالي إذا فثمة مفاجأة لن تتوقعيها أبدا "
توجهت بها جهة مصعد الإدارة وصعدتا به ترفض أن توضح
لها أي شيء وكل ما قالته مبتسمة
" سنصل وتري ذلك بنفسك "
وما أن توقف بهما المصعد وانفتح بابه توجهتا فورا لردهة
الاستقبال الخاصة بقسم الإدارة المطلة على ذاك الممر وما أن
دخلتا هناك وقفت تنظر مستغربة للواقفة مع سكرتيرة ابنة خالتها
وأربعة من سيدات مجلس إدارتها وموظفتان من قسم المحاسبة
وكانت تلك الفتاة فقط الغريبة عنها ! تفحصت ملامحها سريعا
وهي منسجمة في الحديث مع إحداهن مبتسمة ... تبدوا في سن
صغيرة ... أجل صغيرة جدا و ... جميلة ، لا بل رائعة الجمال
وما أكثر النساء الجميلات لكن يبقى بينهن فئة هن الأجمل
ومتميزات عمن في مستواهن وفي كل شيء كما هو الحال مع
ابنة خالتها مديرة مملكتهم تلك ... هذه لا تشبهها في الملامح أبدا
لكنها تشعرك فورا بأنها تنتمي لها بل ... ولذاك الرجل ..
أجل إنها تشبهه أكثر ، اقتربت منهن حتى انتبهن لوجودها
وقد نظرت لها صاحبة تلك العينان الزرقاء الواسعة وابتسمت
لها من قبل أن تعرف من تكون ، ابتسامة رائعة وجميلة مثلها
فبادلتها إياها فورا وقالت بدهشة
" أنتي ابنة مطر شاهين بالتأكيد ؟ "
خرجت ضحكة رقيقة منخفضة من التي قالت فورا
" أنتي أول من لم تنادني هنا بابنة غسق ولابد وأنك السيدة
جليلة ابنة خالة والدتي المقربة "
ضحكت جليلة من فورها وتوجهت نحوها وقد فتحت ذراعيها لها
فاقتربت منها سريعا وتبادلتا الأحضان طويلا ضاحكتان على تعليقاتها
الهامسة بأنها باتت خطرا على والدتها وبأنها ستسرق الأضواء منها ،
وما أن ابتعدت عنها وضعت يدها على رأسها هامسة بابتسامة
" بسم الله مشاء الله ... العين حق وكم أخشى أن تصيبك حقا "
قالت مبتسمة ما أن أبعدت يدها عنها
" حسنا لست بذاك القدر ووالدتي أكبر دليل "
لحظة أن انفتح باب ذاك المكتب وخرجت منه التي نظرت ناحيتهم
نظرة لم يخفى فيها الضيق والعبوس أبدا فهمست لها جليلة ضاحكة
" ليس بعد عودة والدك وهو يتعمد مضايقتها طوال الوقت مسببا
عبوسها وغضبها الدائمين "
عبست ملامحها الجميلة وعلمت فورا أي مكالمة ستكون تلك
التي دارت بينهما وما كانت تتوقع غير ذلك وها هو موقفها
يزداد سوء ومهمتها في الحصول على غفرانها ستكون أصعب
وهي بهذا المزاج ، قالت جليلة مبتسمة في محاولة شجاعة لتبديد
ذاك المزاج السيء والواضح تماما لهم
" جاءت التي ستظهر عمرك الحقيقي يا غسق "
ضحكن موظفات ذاك المكان وعلقت ذات الخمسة وأربعين عاما
ضاحكة
" لابد وأن أبدأ مرحلة تأهيل أبنائي الثلاثة لعله يثمر واحد منهم
سريعا ونختطفها له "
بينما علقت الأخرى مبتسمة
" أنا لديا الشاب المؤهل سلفا ... ضابطا في البحرية ويملك
شركة سياحة ونحاول إقناعه بالبحث له عن عروس أيضا
فيبدوا أنه لم تستطع أي واحدة أن توقع به حتى الآن "
بينما تنهدت الواقفة هناك بضيق ونظرت حولها تتفقد جيوبها
تبحث عن هاتف ابنتها الذي يبدوا أنها تركته في الداخل فبعد أن
أغلق ذاك الرجل الخط في وجهها وأفار الدماء في رأسها بكلامه
واتهاماته تلك ليست تستبعد حتى أن تكون رمته على الجدار قبل
أن تخرج ، نظرت حيث ذاك النقاش الضاحك وكل واحدة تنصب
نفسها خاطبة للتي لازالت تنظر لها بحزن وكانت ستتحدث موقفة
لهن لكن التي دخلت مسرعة تتلقف أنفاسها لم تعطها أي مجال
للحديث وجميع الأنظار قد انتقلت ناحيتها بترقب بسبب تلك
الملامح الشاحبة والنظرات الشاخصة وقد قالت بأنفاس متقطعة
" ألم تسمعوا بما حدث ؟ "
بدأت نظرات الاستغراب بالتهام تلك الملامح قبل أن تخرج جليلة من
صدمتها أولا قائلة " ماذا هناك ؟ "
سحبت تلك نفسا قويا لتعيد اتزان تلك الأنفاس المضطربة وقالت
ويدها على صدرها
" سيارة مفخخة انفجرت أمام القصر الرئاسي وقيل أنها لحرس
الزعيم ابن شاهين والبلاد في حالة فوضى فلا أخبار عن مكانه "
اتسعت الأعين بصدمة والنظرات تنتقل منها للتي شهقت من
فورها قائلة ببكاء ويدها على صدرها
" أبي "
قبل أن يزداد ذاك البكاء حدة تمسك فمها وشهقاتها الباكية
الواحدة تلو الأخرى لتفهم الواقفة هناك عند الباب تمسك فمها
بصدمة أي حماقة تلك التي تفوهت بها دون أن تنتبه أو تعلم
عن هوية تلك الفتاة وكل واحدة ممن هناك قربها تحاول تهدئتها
وطمأنتها قبل أن تتحرك التي تغلبت على صدمتها أخيرا واستطاعت
تحريك قدميها وتوجهت نحو ابنتها وسحبتها لحضنها تدس بكائها
وعبراتها فيه وهمست تحضنها بقوة
" توقفي عن البكاء يا تيما هو كان يحدثني منذ قليل أي أنه
سيكون بخير "
لم يزدها ذاك إلا بكاء وقد قالت من بين عبراتها
" هو أخبرني صباحا أنهم سيغادرون لشرق الهازان في هذا
الوقت .. لن يموت يا أمي لن يتركني .. لا يمكنني استحمال ذلك "
شدت قبضتها لا إراديا ونظرت لابنة خالتها التي استطاعت فهم
رسالتها الصامتة تلك سريعا فنظرت للمتجمعات حولهم قائلة
" يمكننا العودة لما كنا نفعل سيداتي "
فتفرق الجميع فورا ولم يبقى غير ثلاثتهن فأشارت لجليلة بعينيها
فسحبتها من حضنها وحضنتها هي تحاول تهدئة بكائها المتواصل
ذاك وطمئنتها بينما ابتعدت التي أخرجت هاتفها من جيبها مولية
ظهرها لهما واتصلت بالرقم الذي أزعجها صباح اليوم قبل أن
يستغل ابنته ككل مرة ، تنفست بارتياح ما أن أجاب ذاك الصوت سريعا
" أجل يا غسق "
عضت طرف شفتها ومررت إبهامها أسفل ذقنها وصولا لحلقها
تحاول ضبط مشاعرها المضطربة وإخراج صوتها طبيعيا قدر
الإمكان قبل أن تقول
" مطر أنت بخير ؟ ما هذا الذي يحدث معكم هناك ؟ "
وصلها صوته فورا
" ما سمعتموه "
صرت على أسنانها بقوة وهمست من بينها بخفوت
" متعجرف "
قبل أن تقول بضيق
" مطر أنت لا شيء فيك تغير أبدا ... أجب هل كنت هناك ؟
هل تضررت ؟ "
كان صوته ساخرا هذه المرة وإن كانت قد تخللته نبرة مبتسمة
" لست أعلم إن كان سيسعدك ذلك أم لا فمكالمتك الرائعة تلك من
منع وقوع الأسوأ لي واطمئني فيبدوا أن المتعجرف مطر شاهين
باق لك لمدة أطول "
كتمت غضبها تكاد تحطم الهاتف بين أصابعها ، هل كان عليها
أن تقلق عليه فعلا وأن تشعر بذاك الغبي سيخرج من بين أضلعها
ما أن سمعت ذاك الخبر ؟ وبقي الآن أن يتهمها بذلك وبأنها
سارعت للإطمئنان عليه ، قالت من قبل أن يفكر في مهاجمتها بذلك
" ابنتك تبكي منهارة منذ علمت بهذا إن كان يعنيك فعلا أن
تطمئن عليك "
وصلها صوته سريعا
" أعطها الهاتف لأكلمها ، كنت أعلم أنه ليس ثمة امرأة غيرها
في الوجود قد يعنيها أن أكون على قيد الحياة "
شعرت بمزيج من الحقد والألم والغضب المنتقم وبألم طعنة الماضي
تجتاح صدرها من جديد فهمست بنبرة خالية من أي تعبير ودون
شعور منها
" بلى ثمة غيرها .. من تركت كل شيء خلفك و.... "
قطعت جملتها فجأة حين استفاقت لما كانت تتفوه به فأبعدت الهاتف
عن أذنها مصدومة وغاضبة من نفسها درجة الاحتراق في صمت
قبل أن تتحرك من هناك متجاهلة صوت ندائه الواضح
" غسق أجيبي ... غسق يا جبانة "
لم يؤثر بها ذلك مطلقا وهي تتحرك بآلية كالدمية المبرمجة حيث
التي مدت لها بالهاتف قائلة
" هذا والدك تحدثي معه لتصدقي أنه بخير "
مسحت دموعها فورا وأخذت الهاتف منها وما أن وضعته على
أذنها عادت تلك القطرات المالحة للتقاطر من عينيها مجددا
وقالت بعبرة
" أبي أهذا أنت ؟ هل أنت بخير ؟ "
همست بعدها بخفوت باكي
" حمدا لله .. كنت سأجن إن فقدتك "
كتفت الواقفة أمامها ذراعيها لصدرها وأشاحت بوجهها جانبا
وتنهدت بضيق بينما قالت التي كانت تنظر لها بحزن محدثة من
في الطرف الآخر
" بلى سأقولها وأعلم أن الوطن يحتاجك كثيرا لكننا نحتاجك أكثر
منه أبي .... كن بخير من أجلنا أرجوك "
" أجل أبي كن مطمئنا قسما لن أفعلها مجددا ولن أغادر إلا بعلمكما
كليكما وليس هي فقط "
" أحبك أبي اعتني بنفسك جيدا "
مدت لها بهاتفها ما أن انتهت مكالمته لها تمسح بيدها الأخرى
الدموع عن وجنتيها ومسحت يد جليلة على ظهرها وقد قالت مبتسمة
" حمدا لله على سلامته ، موته بالفعل خسارة للبلاد بأكملها "
قالت غسق ناظرة للتي عادت للهمس حامدة الله تمسح بقايا دموعها
ولازالت شهقاتها تعبث بأنفاسها القصيرة
" وأنتي عليك العودة للمنزل يا تيما وأنا سأكون هناك بعد ساعتين "
نظرت لها بحزن وكانت ستتحدث لكنها تراجعت في آخر لحظة
لوجود قريبة والدتها ومكتب سكرتيرتها المفتوح بحيث تستطيع
رؤية وسماع مايحدث خارجه
فهمست بحزن مغادرة من هناك
" حسنا "
خرجت من الحمام وتوجهت جهة التي كانت تمسك بالهاتف
وأخذت السماعة منها وأعادتها مكانها قائلة
" أمي ما الذي تريدين فعله ؟ "
وقفت تلك من فورها ونظرت لها قائلة بضيق
" ما كان علينا فعله منذ الفجر طبعا وهو مغادرة هذا المكان والبلاد "
أمسكت بيدها وقالت برجاء
" أمي لم يكن هذا اتفاقنا قبل أن نصل هنا ، اتركينا نبقى ليومين
فقط أمي أرجوك لا يمكنني المغا.... "
سحبت يدها منها بقوة قائلة بغضب
" بل لن نبقى هنا ليوم آخر ولن تغادري هذا الفندق أبدا ولن
تقابلي ابن شراع ذاك مجددا ، أقسم لولا رجال ابن شاهين الذين
أرسلهم لنا واحتراما له ما أتيت ، يعجبك جدا العرض الذي قدمته
أمامهم وأنتي ترتمي في حضن ذاك الرجل ؟ قسما لولا الحياء من
الناس الذين استقبلونا في منزلهم لكنت سحبتك من شعرك وخرجت
بك من هناك ، لم أكن أعلم أن ما يحدث في المسلسلات المكسيكية
سأراه واقعا أمامي يوما ما ! ومن بطلة المشهد ... ؟ ابنتي !!
لو كان شقيقك معنا لكان قطع عنقك وعنقي ، ألا يكفي أنه لم
يكن مقتنعا وما أجبره إلا طلب ابن شاهين حظورك دون نقاش "
ملأت الدموع سريعا عيني الواقفة أمامها وحركت يديها بعشوائية
قائلة بأسى
" لما تلقي باللوم عليا فيما تغلبت عليا مشاعري فيه ؟
أنتي وشقيقي والجميع يعلم من رماح وما كان يعني له ولي قبله
وأكثر منه فما كان سهلا عليا أن أراه أمامي في تلك الحالة وبعد
كل هذه الأعوام وأنا من علمت ذاك اليوم فقط بأنه فعل ما فعل من
أجل صديقه ولم يتزوجها فعلا "
وسرعان ما تدحرجت دموعها تباعا وضمت قبضتها لصدرها
قائلة ببكاء
" اشعري بموقفي أمي ، أعلم بأني أخطأت وتجاوزت حدود ديني
وتربيتي لكن حاولي أن تكوني مكاني أقسم أني ما أن رأيته أمامي
على ذاك الكرسي لم أعد أعلم ما فعلت وفيما كنت سأفكر أساسا ،
اتركينا نبقى ليوم واحد فقط أمي أرجوك وأراه وأتحدث معه
مجددا وفي وجودك "
نظرت لها نظرة فهمت فورا ما سيكون الجواب معها وقد
صدقت ظنونها سريعا حين قالت بغضب
" لو كان يعنيه أمرك ما تركك تغادرين منزل شقيقته ولكان
هو من سعى خلفك اليوم ليتحدث معك يا ناقصة العقل والدين "
وتابعت مغادرة من هناك ولم يؤثر بها تلك الدموع
ولا البكاء المؤلم
" وسنغادر من هنا فورا ... كلمة قلتها ولن تناقشيني فيها "
تبعتها بنظراتها الدامعة حتى دخلت الغرفة وضربت الباب خلفها
فجلست ورفعت سماعة الهاتف وطلبت الرقم الذي حفظته
عن ظهر قلب ما أن نظرت له البارحة ونظرها على باب تلك
الغرفة المغلقة فحتى هاتفها حجرت عليه والدتها عندها ، حمدت
الله أن أجابت من في الطرف الآخر سريعا فهمست ما أن
سمعت صوتها
" جليلة أريد أن أتحدث مع غسق سريعا أرجوك "
*
*
*
فتحت العلبة المخملية ذات اللون الأحمر القاتم وأخرجت منها
الخاتم المرصع بالألماس أولا وألبسته لها في أصبعها الرقيق
وقالت مبتسمة
" جيد على قياسك تماما يا يمامة "
وتابعت وهي تلف ذاك السلسال المماثل له في بريقه وجماله
حول عنقها لتتدلى ماساته الثلاث على صدرها
" نعلم أن عاداتكم لا تسمح بأن يلبس الرجل خطيبته هذا
ولا نحن مقتنعون بذلك لذلك أخذت مكان ابني وأتمنى أن
تعجبك يا يمامة "
وراقبت عيناها بحنان التي قالت مبتسمة تتلمس ذاك السلسال
بأصابعها ونظرها عليه
" إنه جميل حقا شكرا لك عمتي "
ابتسمت وأخرجت السوار وألبستها إياه أيضا قائلة
" هذا أقل بكثير من قدرك بنيتي وسنقوم بواجبك يوم زفافكما
فاعذروا أنتم تقصيرنا فما تسمى هذه بخطبة أبدا "
وتابعت وقد أشارت لكل العلب والأكياس المرتبة في الزاوية
" تلك الأشياء من أجلك أيضا وبعض الهدايا لعائلتك "
كانت تود شكرها تود أن تحضنها بقوة وتبكي في ذاك الحضن
ليس من أجل كل هذا فقط بل ومن أجل تحرير شقيقها يمان من
سجنه هنا ودمار مستقبله من أجلها لكن الجالسة معهما
ومن لم يكن يعجبها شيئا مما يحدث أمامها قطعت عليها
أمنياتها تلك وبترت أحلامها البريئة كالعادة حين قالت ببرود
" ألست تري معي يا سيدة جوزاء أن يمامة صغيرة جدا على
الزواج وأن والدها لا ينصفها بإجبارها ؟ "
نظرت لها تلك الأحداق الرمادية الواسعة بصدمة وسرعان
ما أسدلت جفنيها عليهما ما أن بادلتها تلك بنظرة غاضبة
وقالت جوزاء وقد مسحت على يدها بين كفيها
" يمامة هلا تركتنا وحدنا قليلا "
وقفت من فورها وغادرت من عندهما حزنها الصامت يرافق
خطواتها الكسيرة وجل ما تخشاه وفكرت فيه وقتها بأن تلك
المرأة ستقتنع بحديث زوجة والدها ولن يتحقق حلم شقيقها أبدا
وسيموت ذاك الأمل الذي بات يشع من عينيه والذي لم تراه
فيهما سابقا ، ولم تكن لتعلم أو لتتخيل أن ما حدث وراء الباب
الذي أغلقته خلفها مختلف تماما وقد نظرت جوزاء للجالسة
أمامها وقالت
" بحسب حديث زوجي فوالدها وشقيقها قالا بأنها موافقة تماما
فما المشكلة في زواجهما ؟ "
قالت تلك من فورها وبامتعاض
" يمامه صغيرة ولن تستطيع تحمل مسئولية منزل وزوج ،
هذه أمور لا يعرفها الرجال "
قالت جوزاء ومباشرة أيضا
" الخدم في منزلنا ضعف عدد ساكنيه أي أنها لن تتحمل
مسئولية شيء أكثر من أن تستحم وتغير ملابسها "
زمت تلك شفتيها بحنق وقالت
" هذا شق فقط من حديثي "
قالت جوزاء من فورها
" الشق الآخر اتفق فيه أبان مع شقيقها وكوني مطمئنة
فلن يدخل ابننا بها قبل أن تكون مستعدة لذلك وبموافقتها
ورضا تام منها أيضا وهذا ما أتحمل أنا مسئوليته "
قالت التي شعرت بأنها حاصرتها فعلا
" إذا لا حاجة لأن يتزوجا قبل ذلك الوقت الذي تقولين عنه
ولتبقى مجرد خطبة "
تنفست جوزاء بعمق متمتمة بالتعوذ من الشيطان فهي لم تحب
هذه المرأة أبدا ما أن رأتها ولا تستبعد أن جميع ما قالته ابنتها
بثينة عن الفتاة هي السبب فيه وجل ما تخشاه أن تجعل زوجها
يغير رأيه في زواجها ، لكنها لن تخسر حربها أبدا وستخرجها
من هنا وإن دفعت من مالها لوالد الفتاة ليوافق ، رفعت ذقنها
وقالت بثقة
" وأنا اصر على زواجهما كي لا تفوتنا لغيره ولا مانع من الأمر
بما أن رجلا العائلة موافقان "
غزى الضيق بوضوح ملامح الجالسة أمامها والتي قالت فورا
" لا أصدق أن شقيقة الزعيم مطر شاهين تفعلها وتخترق
القوانين لتزوج ابنها من طفلة ! "
وقفت جوزاء ورفعت حقيبتها وقالت
" لتكوني مطمئنة فقط فقد تحدثت مع شقيقي في هذا ومطر بلسانه
قال بأن القوانين الوضيعة بالكامل ستتغير ومن ضمنها تحديد
سن زواج الفتيات وها نحن نراه ينفذ ذلك منذ أيام وقد بدأ
بقوانين الميراث والطلاق والمعاملات التجارية والقادم
سيكون أكثر حتى تلغى جميع تلك القوانين ، ويمامة بما أنها
موافقة ولم تصرح لي برفضها فلن تكون إلا لإبني فلن نجد
أفضل من فتاة هي شقيقة يمان ... رحم الله من أنجبته وربته "
نظرت بعدها جهة باب المنزل متجاهلة تلك النظرات الغاضبة
وقالت
" الخادمة التي جاءت برفقتي في الخارج وستبقى هنا حتى
تغادر مع يمامة لمنزلها لتقوم بكل ما تحتاجه وتحتاجونه
فخطيبها من طلب إرسالها لها "
وكان ذاك الأمر الوحيد الذي نطق به وبعبوسه الذي قابلها به
وقت مجيئها إلى هنا بسبب شجارهما صباحا ولم تعارض الأمر
وأحضرت الخادمة معها لأنها موقنة من أن أبان يعلم عن حياة
تلك الفتاة ما تجهله هي ولا تستبعد أبدا أن تكون خادمة لدى
هذه المرأة ، ما أن أنهت عبارتها تلك غادرت جهة باب المنزل
ودون حتى أن تكلف نفسها بتوديعها ولا أن تتبعها تلك للباب ،
فقط نظراتها الكارهة من رافقتها حتى خرجت وقد همست بحقد
" لن تستمر هذه الخطبة ولا على جثماني "
انفتح باب الغرفة على اليسار وخرج منها اللذان ركضا فورا
جهة كل تلك الأشياء المغلفة وقد تحررا من سجنهما أخيرا
وانفتح باب غرفة يمامة وخرجت منه ما أن سمعت صراخهما
الحماسي وضحكاتهما فصرخت فيهم الواقفة هناك بغضب
" لغرفتكما فورا ... وأنتي يا يمامة خلفهما ولا تخرجي حتى يناما "
تحركت التي لا حيلة لها في كل هذا ناحية التوأمان الواقفان
منتصف الصالة وأمسكت بأيديهما وتحركت بهما جهة الغرفة
التي خرجا منها على أصواتهما الطفولية المتذمرة رفضا لأن
لا يريا كل تلك الأشياء ، وما أن اغلق الباب خلفهم نظرت
لتلك الخادمة قصيرة القامة نحيلة الجسد التي أصبحت تقف
عند الباب بعد أن غادرت سيارة من جلبتها معها وأشارت لها
على الأشياء المكومة هناك قائلة بأمر
" أجلبي هذه واتبعيني "
امتثلت تلك لأوامرها فورا وحملت ما استطاعت حمله منهم
وتبعتها تسير خلفها بصعوبة حتى خرجتا من الباب الخلفي
للمنزل وتوجهت جهة باب حديدي فتحته وقالت تشير لها على
الغرفة المليئة بالتبن وعلف الدجاج
" ارميها هنا واذهبي لجلب الباقي ، أريدها جميعها هنا مفهوم "
دخلت بهم فورا ووضعتهم هناك وخرجت تنظر لها بخوف
وقد قالت
" أين أغراضك أنتي ؟ "
ارتجفت الخادمة بخوف وقالت
" حقيبة ثيابي لازالت أمام باب المنزل سيدتي "
" وهاتفك ؟ "
دست يدها في صدرها فورا وأخرجته ومدته لها قائلة
" ها هو سيدتي "
أخذته منها فورا لتضمن أنها لن تكون جاسوسة لسيدتها تلك
وتحركت جهة باب المنزل مجددا وتلك تتبعها قائلة
" ما أن تنهي عملك ستتوجهين للمطبخ فورا لتنظيفه وستقيمين
في غرفة يمامة لا مكان لك غيره ثم كلاكما من ذات المستوى "
تبعتها تلك بقلة حيلة تترحم على سيدتها التي لم تعمل عند
واحدة تشبهها سابقا وجل ما تتمناه أن يتزوجا سريعا ولا يطول
بقائها في ذاك المنزل ومع هذه المرأة .
*
*
*
وضع رماح جهاز التحكم الخاص بالتلفاز عند جانبه الآخر من
السرير فتنهد الجالسان قربه بيأس من أن يرضخ لطلب أي منهما
والكاسر يريد متابعة مباراة فريقه الانجليزي المفضل أما الجالسة
تتكئ على صدره ويريح هو ذراعه على كتفيها فقد يئست أيضا
من أن تقنعه لتشاهد مسلسلها وكان عليهما تحمل الاستماع
للمزيد من القنوات الإخبارية نزولا عند رغبة صاحب الغرفة
والذي قالها لهما وبكل برود
( كل واحد منكما يملك غرفة وتلفازا كحجم هذا فليذهب ويتابع
ما يريد )
لكن رفضهما لتركه وحيدا جعلهما يتنازلا عن رغبتهما
وإن مكرهين . ضمها الكاسر بذراعه وقبل رأسها المتكئ
على صدره حين لعبت أناملها بأصابعه وقد ضغطت عليها
لا شعوريا وملأت دموعها مقلتيها الزرقاء الواسعة وعضت
طرف شفتها ما أن ظهرت صورة والدها في الشاشة المسطحة
الواسعة المعلقة على الجدار يحيطونه رجاله وحرسه من كل
جانب ويسير بجانبه عمه صقر وفي الجانب الآخر كان
من نغص نومها البارحة وجعلها تفر لمنزل والدتها صباحا
ولأجل غير مسمى ليست تعلم هربا منه أم من نفسها وها هي
تكتشف الآن بأنها اشتاقت له أسرع مما كانت تتصور رغم ألم
اقترابها منه ، حاولت تشتيت نظراتها عنه لجميع من في تلك
الشاشة عداه لكنها كانت تعود وتنظر لتلك الملامح الرجولية
الوسيمة لا شعوريا وذاك المشهد يتكرر دون توقف ودون أن
يرحمها الجالس هناك بأن يغير القناة فحاولت التركيز مثلهما
فقط على صوت المحلل السياسي وصاحب المداخلة الهاتفية
وصورة والدها وذاك يقول بصوت جهوري مرتفع
( من الذي من مصلحته أن يختفي هذا الرجل سوى من
لا يريدون للبلاد أن تنهض بنفسها مجددا وأن تقام دولة
القانون والعدالة ، منذ اغتيال الزعيم شراع ونحن نعيش
كابوس عودة البلاد لما كانت عليه في الماضي حتى رأت
الأعين هذا الرجل البطل وقدماه تدوسان أرض الوطن مجددا ...
هل ستلد لنا البلاد مطر شاهين في كل مرة ؟ لا قطعا فلن
تنجبه أي امرأة وجميع النساء اثبتن عجزهن عن ذلك
ونحن نرى نماذج تخجل منها الحرائر وهم يرسلون البلاد
للهاوية بأيديهم ، متى عرفت البلاد جهازا لمكافحة الفساد
قد طال حتى كبار رجال الدولة ورجال الأعمال إلا الآن !
متى رأينا الكبار من رجال الجيش يحاكمون عسكريا
ويحاسبون إلا هنا ! الزعيم شراع كبلته سابقا الأحزاب
والبرلمانات واتخاذ أسلوب الاستفتاء على القوانين ورضخ
خوفا من الفتنة وحروب القبائل أما اليوم فمن سيرعب
هذا الرجل أو يقيده ؟ لا أحد ولا شيء إنه يضرب بيد من
حديد كل من يقف في وجه ، بالأمس كنا سنفقد حدود البلاد
وسندخل لمتاهة لن نخرج منها أبدا واليوم نراها مؤمنة أكثر
من الداخل بفضل عقل هذا الرجل الذي لم يغفل شيئا ، بالأمس
كاد المتمردون أن يقتحموا معسكر فزقين ومخازن الدخائر
والأسلحة الثقيلة والمطار العسكري التابع لها وتدخل البلاد
في حرب ودماء لن تتوقف قبل أعوام طويلة وما أن أشار فقط
بسبابته في وجوه قبائل تلك المنطقة مهددا سلموها له طوعا
وطردوا تلك الشراذم ، هل ترون صمت ابن شاهين عما يحدث
في بعض مدن صنوان خوفا منهم ؟ لا ورب الكعبة فهي القوة
في أوجها وهو من يفكر في السلم وحقن الدماء قبل كل شيء
ويوم سيقرر ضربهم بالحديد والنار لن يمسكه أحد ولا شيء ،
فمن من مصلحته أن يموت هذا الرجل غير المارقين عن
القانون أمثالهم ، أم سنلبس التهمة وبكل جهل للمتطرفين
الذين لم يعد لهم وجود منذ أعوام !
هل بتنا نفكر فقط وبكل جهل من سيحكم البلاد ومن الأحق
من غيره وعدنا لصنوان والهازان والحالك والأقاليم المتناحرة
من أجل شيء لن يحصل عليه ثلاثتنا إن بقينا على هذا الحال
وهذه الأفكار ؟ نرى اليوم البعض يحرضون غيرهم متحججين
بأن مطر شاهين يسعى لحكم البلاد وأن الحالك ستنهب كل شيء
أي كلام جاهلين هذا ! ... "
قطع الكاسر انسجامهم ذاك بأن مرر أصابع يده في شعره قائلا
بضحكة
" لما لا تغير هذه القناة ؟ نخشى أن تغتر علينا إحداهن بوالدها
إن استمعت لأكثر من ذلك "
ضحك رماح وقالت التي نظرت لصورته بفخر وحزن
" لن أحتاج لسماع ما يقال لأعلم من يكون مطر شاهين فأنا أكثر
من علم ما قدمه لأعوام لهذه البلاد يربط ليله بنهاره ويقدمها
على نفسه دون أن يطلب مقابلا أو ينتظره من أحد "
ساد الصمت التام من طرفهما فنظرت لهما قبل أن تنتبه أيضا
للواقفة عند باب الغرفة والتي دخلت وحملت جهاز التحكم
وأغلقت التلفاز قائلة
" للخارج كليكما فعليه أن ينام الآن ويرتاح "
وقف الكاسر من فوره وسحب الجالسة بجانبه معه من يدها قائلا
" بسرعة قبل أن تأمرنا بالنوم أيضا "
تبعته ضاحكة وقالت وهما يخرجان
" شرط أن نلعب شوط شطرنج آخر "
ابتسم رماح يراقبهما حتى اختفيا ونظر للتي كانت تبعد هاتفه
والأدوية عن السرير وقال مبتسما
" سبحان من جملها قلبا وقالبا ! ابنتك سيحار والدها لمن
سيعطيها من كثرة ما سيتهافت عليه خاطبيها "
غطت جسده باللحاف قائلة ببرود
" ابنتي صغيرة على كل هذا فلتنهي دراستها وتكبر أولا فهي
ستدخل الثانوية العام القادم فأي زواج هذا الذي تتحدث عنه ؟ "
قال بذات ابتسامته يراقب ملامحها الجميلة العابسة
" إن كنت مستاءة من أحدهم أو من أجله فلا تنفسي عن ذلك
بي فأنا لست صغيرا لتجبريني على النوم وأعيدي لي جهاز
التحكم فورا "
استوت واقفة ونظرت له وقالت بضيق
" الطبيب أوصى كثيرا على أن تنام جيدا لأنه الوقت الوحيد
الذي لن يكون مجهدا لعضلاتك يا رماح وأنت نمت متأخرا البارحة
واستيقظت باكرا فأين العشرة ساعات التي أوصى بها الطبيب
راحة لك ؟ أي ثمان ساعات في الليل وساعتين في النهار
أحببت ذلك أم لا "
تنهد مستسلما واستلقى يدفع جسده مستندا بمرفقيه فقبلت
جبينه وقالت مغادرة
" اطلبني فورا إن احتجت شيئا اتفقنا ؟ "
" غسق "
أوقفتها نبرته صوته الهادئة المترددة قبل ندائه باسمها
والتفتت له فورا فقال يتجنب النظر لعينيها
" هل سافرت جهينة ووالدتها ؟ "
شعرت بقلبها تمزق ألما على حاله وحال تلك الفتاة فأغمضت
عينيها لبرهة متنهدة بعمق ثم فتحتهما وقالت ناظرة له
" لا أعلم يا رماح ونزولا عند رغبتك لم أراها أو أستفسر عنهما "
أومأ برأسه موافقا دون أن يعلق بشيء وكانت ستتحدث رغم
أنها تعلم بأنها عبثا تحاول لولا أوقفها رنين هاتفها فأخرجته من
حقيبتها ونظرت للرقم باستغراب قبل أن تجيب قائلة
" نعم من معي ؟ "
أتاها الصوت الأنثوي الباكي فورا
" غسق أنا جهينة والدتي تريد أن نسافر رغم رفضي وإصراري
عليها وأنا لا أريد الابتعاد عن رماح ، غسق ساعديني
في هذا أرجوك "
نظرت للذي كان يحدق بالسقف ولا يعلم عما يدور بينهما
ولا مع من تتحدث ثم غادرت فورا جهة الباب وخرجت
منه هامسة
" حسنا يا جهينة كل شيء سيكون على ما يرام توقفي أنتي
عن البكاء ولا تسمحي لها بأن تأخذك وتغادر حتى أصل أنا
أولا وإن ربطتها بعارضة السرير اتفقنا ؟ "
سمعت تلك الضحكة الأنثوية المكتومة وسط ذاك البكاء المنخفض
وهمست من فورها
" حسنا ... أنتظرك فلا تتأخري أرجوك "
أنهت المكالمة معها وواصلت سيرها جهة باب المنزل بخطوات
سريعة فبما أنها فعلتها واتصلت بها بنفسها كما اشترط فلن
تتركها تغادر بها أبدا خصوصا بعدما رأت تلك النظرة الحزينة
في عيني شقيقها منذ قليل .
" أمي "
وقفت مكانها ممسكة بمقبض الباب ونظرت للتي أصبحت
واقفة خلفها مباشرة تنظر لها بحزن والدموع قد وجدت سريعا
مكانا لها في تلك الأحداق الواسعة حين همست ببحة بكاء
" استمعي لي أمي أرجوك "
كان قلب الأم داخلها أضعف من أن تقاوم ذاك الصوت الرقيق
الباكي مناديا لها بتلك الكلمة وتلك الدموع في عينيها لكنها
أخطأت ولا تريدها أن تستهين بالأخطاء أبدا بما أن المدعو
والدها أرسلها اليوم مجددا وكأن شيئا لم يكن ، أدارت المقبض
وفتحت الباب وقالت مغادرة
" عليا الخروج سريعا وسنتحدث لاحقا "
لكن تلك اليد لم تسمح لها بالخروج وقد أمسكت يدها
وقالت برجاء
" أمي عليك أن تستمعي لي أولا ولن تغادري من هنا حتى
أعلم بأنك لست غاضبة مني "
تنهدت بضيق قائلة " تيما أنتي متى ستتصرفين .... "
قاطعتها برجاء باكي لازالت تمسك يدها بقوة
" أقسم لم أكن أقصد أن أفزعك أو أزعجك قسما أني
ظننت أنه جدي هو القادم من فرنسا ومن سيسمح له والدي
بأن يقيم معنا في المنزل لذلك ذهبت دون أن أخبر أحدا "
شعرت بانقباض غريب في قلبها .. لا ليس غريبا فها هو الشعور
بتلك المرأة يزداد قربا ولا تفهم لما هي حمقاء هكذا لماذا ؟
كانت ترفض أن تسألها عن أي أمر يخص أي امرأة دخلت حياته
وهو هناك وليست تعرف كيف خرج صوتها حين قالت
" ومن تكون هذه التي أ.... من يكون هذا الشخص يا تيما ؟ "
رطبت شفتيها بلسانها وهمست وقد أسدلت جفنيها على تلك
الأحداق الزرقاء المغمورة بالدموع
" ابن عمة والدي واسمه ... قاسم "
" من !! "
تلك الصرخة المستنكرة من الواقفة أمامها جعلتها ترفع نظرها
لها فورا وقد فتحت فمها مصدومة ما أن صرخت بغضب
" هل تذكر ذاك الرجل الآن أن يأتي ؟ أين كان كل تلك الأعوام ؟ "
نظرت لها باستغراب من غضبها ذاك منه وهمست
" كان مع من كانوا في لندن و..... "
سحبت يدها منها وصرخت فورا
" سحقا لوالدك ولرجاله بأكملهم .. متى سيتعلمون أن ما يفعلونه
يدمر غيرهم نهائيا ؟ متى سيشعر أولئك المتحجرين ؟ هل تذكر
ذاك الشاب الآن أن له وطن وعائلة ؟ ماذا عن والدته التي
ماتت تناجي شوقها إليه ليست تعلم حتى إن كان ضمن الأحياء
أم الأموات "
فتحت فمها عدة مرات وأغلقته والدموع تملأ عينيها مجددا
ولم تعرف ما الذي آلمها تحديدا في كل ما قالت ؟ دعائها على
والدها وجدها وذاك الشاب معهما أم أن فردا آخر من عائلتها
بل وليس أي شخص ها هو ينال وسام كره والدتها الشديد له ،
مسحت عينيها سريعا قبل أن تفضحها دموعها وهمست تنظر
لها بحزن
" هو كان محتجزا في الهازان لقد كان مسجونا هناك ولم يخر.... "
قاطعتها وقد تحركت من هناك قائلة بضيق
" حجة أسخف من أن يقنع بها شخصا توارى تحت التراب "
راقبتها بحزن والدموع تملأ حدقتيها مجددا ولازال صوتها الحانق
يصلها بوضوح رغم خروجها
" لعل والدك أشبع غروره الآن وهو يصنع نسخا عنه في كل مكان "
" زهور يمكنك الجلوس مكانك "
تجاهلت ذاك الصوت الرجولي العميق مجددا وبقيت واقفة حيث
هي بعناد ترفض أن تتحرك من مكانها ، لم تتمنى الموت حياتها
كما تمنته اليوم وشعرت بأنها والجدار المقابل لها سواء فبأي حق
يعاملها هكذا كطفلة في مدرسته ثم وما أن ينهي سخريته وطلبه
منها يطلب منها الجلوس ؟ لن تتحرك من مكانها مهما كرر ذلك
كل حين وستتحمل ألم ساقيها مهما طالت المحاضرة وبعد خروجه
من هنا فليفعل بها ما هو أسوء من هذا إن رآها مجددا .
قرر أن ينهي المحاضرة أخيرا بعد قرابة الثلاث ساعات قضتها
واقفة حتى تخدرت قدماها اللتان لم تحركهما من مكانهما أبدا
وكأنه يتعمد أن يوقفها أكبر وقت ممكن أو أن يكسر عنادها
لتتعب وتقرر الجلوس ، وما أن بدأ بجمع أوراقه يتحدث عما
عليهم البحث عنه قبل محاضرتهم القادمة تحركت جهة حقيبتها
ومذكراتها وحملتهم وغادرت القاعة من قبل أن يخرج هو ليست
تهتم برأيه ولا ما سيكون عقابه القادم لأنه لن يطبقه عليها ،
غادرت الجامعة وركبت سيارتها وغادرت من هناك فورا وفي
ذات الطريق الذي جاءت منه حتى وصلت منزلهم ونزلت ضاربة
بابها بقوة ودخلت من فورها متوجهة حيث والدتها التي كانت
في المطبخ مع الخادمة والتي نظرت لها ما أن دخلت وقد نزعت
قفاز الفرن من يدها قائلة
" ما بك عابسة هكذا ؟ ثم أليس أمامك محاضرة أخرى حتى
الرابعة عصرا ! "
تنفست بقوة وغضب وقالت
" لن أذهب لتلك الجامعة مجددا "
نظرت لها والدتها بصدمة قبل أن تقول بضيق
" ما هذا الجنون يا زهور ؟ من التي أصرت على الدراسة في
كلية التجارة غيرك لتغيري رأيك الآن والفصل الدراسي
يكاد ينتهي ! "
نفضت يدها والحقيبة فيها قائلة بحنق
" لم أعد أريدها ولن أذهب هناك مجددا ولن أقابل ذاك الرجل "
" ما بها ابنتي غاضبة ؟ "
التفتت فورا للواقف خلفها ببذلته الرسمية الرمادية الأنيقة
يمسك حقيبته في يده وقد عاد للتو من عمله .. من رباها
منذ كانت طفلة وعاملها كابنته وليس ابنة لزوجته وهو من لم
يرزق بالأبناء من زوجته السابقة فطلبت الطلاق منه ، قالت باستياء
" أبي أريد تغيير دراستي أنت قلت أني أدرس ما أريد أليس كذلك ؟ "
اقترب منها وحوط كتفيها بذراعه وقال سائرا بها في الاتجاه الآخر
" ما هذا الذي يجعل زهرتي الجميلة تترك التخصص الذي تحبه
وقد عاندتني ووالدتها لتدرسه ؟ "
عبست ملامحها الرقيقة وعلمت ما سيكون رأيه من المقدمة التي
أتحفها بها وكأنه يذكرها بأنه وقف في صفها حين اختارت ما تريد
دراسته ، جلس وأجلسها قربه فرفعت شعرها القصير خلف أذنيها
وقالت ناظرة لعينيه برجاء
" إن أخبرتك بكل شيء أتعدني بأن تنصفني ؟ "
مسح بإبهامه تحت جفنها الواسع وقال مبتسما
" أعدك فهيا أخبريني ما سبب هذا القرار المفاجئ ؟ "
نظرت للتي وقفت أمامهما يداها وسط جسدها تنظر لها بحنق قبل
أن تنظر ليديها في حجرها وتنهدت بحزن وبدأت تسرد ما حدث
معها منذ البداية حتى اليوم وما أن انتهت نظرت للذي كان يستمع
لها بانتباه وقد قال مبتسما
" أنتي إذا السبب وراء مغادرة ماريه وإغلاق منزل عمها وجميع
أعماله واختفائه حيث لا أحد يعلم مكانه حتى الآن ؟ "
ابتسمت ببرآءة ورفعت كتفيها قائلة
" كنت أريد فقط أن تخرج ماريه من هنا والباقي كان
خارج مخططي "
ضحك وقال
" جيدا فعلت يا زهور "
" عبد الرحمن !! "
تحدثت الواقفة أمامهما بضيق تنظر له تحديدا فابتسم وعاد
بنظره للجالسة بجانبه وقال
" لكن قرار ترك الجامعة ليس صائبا يا زهور وأنا لن أوافق
عليه أبدا "
قالت بتذمر يائس
" أبييي "
شد شحمة أذنها وحركها برفق مبتسما وقال
" هل لي أن أفهم يا مشاكسة كيف تكون من فعلت كل ذلك
جبانة هكذا وتهرب من مواجهة استاذها "
لمست أذنها لا شعوريا ما أن أبعد يده وقالت بأسى
" بعد أن أخبرتك بكل ما فعله اليوم تقول هذا ؟ "
وقف وقال ناظرا لها
" أجل فأثبتي لذاك الشاب أنك أقوى من أن يهزمك ؟ أنتي
التي لم تعجزك مادة سابقا وكانت والدتك تلقبكما أنتي وماريه
بفأرتا الكتب تهزمي أمام مادة ليست سوى مادة قانون لا تمت
لتخصصك الأساسي بأي صلة ! "
كانت ستتحدث والسخط باد على ملامحها فسبقها قائلا
" اعتبري الأمر تحد وأثبتي له أنك أقوى من أن يهزمك فلن
يستطيع أن يخسرك المادة وأنتي متفوقة وأعدك أن أتدخل
إن لزم الأمر ذلك نهاية العام "
عبست ملامحها الحزينة وتمتمت بأسى
" لكني خسرت كرامتي أمام الجميع "
قال بذات ابتسامته المحبة
" بل حين رفضت العودة للمدرج أثبتي للجميع أن كرامتك
فوق كل شيء وأولهم استاذك ذاك "
زاد عبوس ملامحها حتى كادت أن تبكي وقالت
" لكن الأسوء أني خرجت من المحاضرة فور أن انتهت
وقبل أن يخرج هو لأني كنت عازمة على أن لا أرجع أبدا
لتلك الجامعة "
ضحك ووضع يده على رأسها ولعبت أصابعه بشعرها القصير
الناعم وقال
" لا أريدك أن تخسري أمام نفسك قبله يا زهور ولست
أصدق أن المشاكسة الشجاعة دائما تهرب من هذا ! "
أنهى كلماته تلك وغادر ووالدتها تتبعه تراقبهما نظراتها
العابسة اليائسة بعد أن فقدت الأمل في أن يقف في صفها ،
رفعت وسادة الأريكة وضربة بها وجهها متمتمة بقهر
" سحقا لي ولماريه ولزوجها ومحاميه الأخرق ذاك "
*
*
*
وصلت بهو الفندق ولازالت تضع النظارات الشمسية الكبيرة
على عينيها وبحثت بنظرها في الأرجاء حتى وقع على الواقفة
بعيدا تنظر أيضا لما حولها بحثا عنها ويبدو التوتر واضحا جدا
عليها فاقتربت منها سريعا وسحبتها من يدها حتى كانتا خلف
العمود الرخامي الضخم المذهب ورفعت نظارتها فوق حجابها
وقالت هامسة
" أين والدتك الآن ؟ ألن تشك بشيء ؟ "
حركت رأسها بالنفي فورا وقالت
" ما تزال في الأعلى ولن تشك أبدا فهي لا تعلم أني أملك رقم
هاتفك ولا هاتف جليلة وكل ما تعلمه أني هنا لطلب سيارة تقلنا
للمطار فهي قررت أن نسافر بالطائرة هذه المرة وكل ذلك كي
لا نبقى هنا لوقت أطول "
وسرعان ما ملأت الدموع عينيها وأمسكت بيدها قائلة برجاء
" لا أريد المغادرة قبل أن أراه يا غسق ، بل لا أريد أن أبتعد عنه
أبدا ، والدتي لا يمكنها فهم هذا وإن أخذتني من هنا فلن
أرجع مجددا "
شدت على يدها بيدها الأخرى وقالت ناظرة لعينيها
" جهينة عليك أن تعلمي أولا أن رماح قد يعيش مقعدا للأبد
بل وقد تزداد حالته لأسوء من هذا "
حركت رأسها وهمست والدموع تتقاطر من عينيها
" ليس يعنيني كل ذلك يا غسق أريد فقط أن نكون معا فلن
يعلم أي منكم ما يعنيه لي وهو الرجل الذي أحببته منذ أعوام
طويلة فكيف سيكون طعم حياتي وهو بعيد عني ؟ لقد جربت
ذلك سابقا وما أقساه "
رفعت يدها لوجهها تمسح دموعها من وجنتيها تكابد أيضا
الدموع التي ملأت تلك الأحداق السوداء الواسعة فهي قاست
ذلك مثلها تماما وتعلم ما معنى ذاك الشعور لكنها لا تمتلك صفة
الغفران التي امتلكتها هي وإن وجدت التبريرات مثلها ، ليست تعلم
لأن جرحها أعمق وأقسى أم أن حبها لذاك الرجل هو ما كان أشد
وأعظم من أن تغفر له !
أمسكتها من يدها وسحبتها جهة المصاعد قائلة
" هيا اصعدي وسألحق بك بعد قليل وعليك أن تتفاجئي برؤيتي
أيضا لا تنسي ذلك "
وراقبتها وهي تغادر بعينان اكتسحتها الدموع مجددا فهي ستسعى
كل جهدها لتسعد هذه الفتاة وشقيقها قبلها مهما فعلت ومهما
كان الثمن بما أن شرط رماح تحقق أخيرا
*
*
*
تلك الطرقات الخفيفة على باب جناحهما كانت ما كسر ذاك
الصمت القاتل سوى من الدموع الصامتة للتي كانت تجمع
أغراضهما في الحقيبة الصغيرة التي أحضرتاها معهما البارحة .
تبادلتا نظرة صامتة قبل أن تهمس والدتها متوجهة للباب
" لابد وأن السيارة جاهزة وأرسلوا أحدهم ليعلمنا عنها "
وقفت التي تركتها خلفها على طولها تمسح بقايا دموعها هامسة
بدعاء خافت أن تكون شقيقته تلك أعند من والدتها رغم شكها
في ذلك فلم يكسر يوما عنادها أحد ولا والدهم رحمه الله ولا
إبنها البكر وأقرب الناس لها ... وحده ابن شاهين من فعلها
الآن فهي كما الجميع لن تستطيع قول كلمة
" لا " لهذا الرجل .
فتحت والدتها باب الجناح وكم أملت بأن أملا جديدا قد يكون
فتح معه وهي تنظر للواقفة أمامه بل ولأجمل من رأت عيناها
قد لبست السواد كاملا والتي نقلت نظرها بينهما قائلة بابتسامة
رائعة تشبهها تماما
" أعتذر إن أزعجتكما "
نقلت نظرها لوالدتها حين التفتت لها برأسها فتبادلت معها تلك
النظرة المصدومة كما سبق واتفقتا رغم أنها استشفت الكثير
من الشك في نظرتها تلك قبل أن تعود بنظرها للواقفة أمامها
وقالت وقد تنحت جانبا
" أبدا بنيتي أمثالك لا يزعجون أبدا ... تفضلي "
وما أن خطت قدماها للداخل حتى تابعت التي أغلقت الباب
ونظراتها التحذيرية مسلطة على تلك العينان الدامعة
" كنا نجهز أنفسنا للمغادرة فطائرتنا بعد ساعتين لكن الوقت
أمامنا لنتوادع بالتأكيد "
عبست تلك الملامح الحزينة الباكية ما أن وقفت غسق بينهما
تخفيها عنها فأومأت لها برأسها مبتسمة ومشجعة فهي إن كانت
تعرف والدتها فليست تعلم عنادها هي وحصولها دائما على
ما تريد ، التفتت سريعا للتي أصبحت خلفها وقالت مبتسمة
" إن فاتت هذه الطائرة فثمة العشرات غيرها بالتأكيد ولا مشكلة
أبدا في ذلك فهل نجلس ونتحدث قليلا يا خالة "
أشارت لها بيدها فورا على الصالون الأنيق قائلة
" بالتأكيد تفضلي "
فتحركت هناك من فورها لحظة ما نظرت تلك لابنتها قائلة
" اجمعي باقي الأغراض من الغرفة يا جهينة "
نظرت لها فورا وباستياء ولم تستطع قول شيء بسبب نظرة
التهديد في عينيها فلم تكن تتوقع أبدا أن تبعدها عن حديثهما !
وكان عليها أن لا تستغرب ذلك فهي بالتأكيد ستفكر بأنها قد تؤثر
على حديثها سلبا لذلك ما كان أمامها سوى أن تنصاع لأوامرها .
وما أن اغلق باب الغرفة خلفها حتى جلست والدتها ونظرت
للتي قالت بهدوء
" يبدوا أنك غادرت منزلي مستاءة ليلة أمس ولن تغادري البلاد
وفي خاطرك ما يكدرك منا أبدا "
نظرت فورا ليديها في حجرها وشعرت بالخجل من نفسها فحتى
إن كانت أكبر منها وفي مقام والدتها فهي تبقى ابنة الرئيس
السابق للبلاد ومن كانت زوجة لذاك الرجل العظيم ووالدة
ابنته بل ومالكة هذه المدينة وكل ما فيها تتنازل لتعتذر منها
هي وتراعي خاطرها وتفكر أساسا إن خرجت من منزلها مستاءة
أم لا !! قالت ونظرها لازال على يديها ولتختصر على كليهما
المقدمات
" جهينة هي ابنتي الأنثى الوحيدة ولست أكره لها ما تحب أبدا ،
كنت أتفهم دائما أسباب رفضها الزواج حتى الآن وكل ذاك الحزن
الذي رافقها لأعوام حتى أنها اعتزلت الناس لفترات طويلة ولن
أحب لابنتي إلا ما يسعدها فلا أريد لها أن تتخذ قرارا تندم عليه
لسنين طويلة وأن تنجرف خلف عواطفها فتعيش نصف امرأة
لباقي عمرها "
شدت الجالسة أمامها قبضتيها لا شعوريا وشعرت بالألم لحجم
الإهانة التي وجهتها لشقيقها وإن كانت لم تقل ذلك بشكل مباشر ،
لكنها تغاضت عن كل ذلك وقالت بذات هدوءها
" لن يرضى أحد بذلك لابنتك يا خالة وأولهم رماح وما كنت
لأكون هنا لو كنت أعلم بأن ذاك سيكون مصيرها معه "
لاذت المقابلة لها بالصمت دون أن تعلق ولا أن ترفع نظرها
بها فتنهدت بعمق وعلمت أن مهمتها لن تكون سهلة أبدا ،
قالت تراقب ملامحها وجفناها الواسعان المسدلان وقد اكتحلا
بسواد فاحم
" لو كان لك ابن أو شقيق في حالته لما تمنيت له إلا الأفضل ،
واتباع عواطفنا لا يعني دائما أننا سنؤذي أنفسنا "
رفعت نظرها بها حينها وقالت بجمود
" لديا ابن مصاب بسمات التوحد ولن أفكر يوما في أن أظلم
امرأة لتكون خادمة له وإن كانت مجنونة بحبه "
أغمضت عينيها وتنفست بعمق تذكر نفسها بأنها في سن والدتها
وأن تحترمها مهما قالت وتقدر طريقة تفكيرها في مصلحة ابنتها
قبل أن تفتحهما وتنظر لها قائلة
" وضع رماح مختلف تماما يمكنه ممارسة حياة طبيعية
جدا ثم هو .... "
سكتت قليلا قبل أن تقرر قول ما كانت ترفض قوله نزولا عند
رغبة شقيقها
" هو قد يسير مجددا وإن بشكل جزئي وهذا ما أكده الأطباء
لكنه من يرفض العملية "
لاحظت نظرة عدم اقتناع في عينيها فتقدمت في جلستها حتى طرف
الأريكة ومدت يديها وأمسكت بيدها وقالت برجاء
" رماح يحتاج لمساعدتنا جميعا وجهينة أولنا فهل يرضيك
أن يبقى هكذا وبيدك الحل ؟ "
أبعدت نظرها عنها وقالت
" تعلمين بأن شقيقك من يرفضها فلنذهب في حال سبيلنا
أفضل لنا فظروفنا لن تسمح ولا بالبقاء هنا ليومين آخرين "
ابتسمت وقد شعرت ببصيص أمل وإن كان ضئيلا وقالت من
فورها وقد تركت يدها
" أي ظروف هذه التي ستمنع بقائكم في بلادكم ؟ من يفضل
أن يتغرب عن وطنه ومجتمعه وأهله ؟ "
تنهدت الجالسة أمامها بحزن وقالت تنظر لأصابعها
" ابني البكر يعمل هناك وهو من يعول أسرته وعائلتنا ،
هو مطارد في قضية ثأر قديمة فقد أصاب زميلة برصاصة
بالخطأ حين كان مع جيش ابن راكان في الماضي ، عائلة
المقتول أعفوا عنه لكن شقيقه من والده طالب بإخراجنا من
المدينة وقال بأنه لن يبحث عنه لكن إن رآه أمامه فسيقتله
لذلك غادرنا البلاد بأكملها لنحافظ على حياته وهو يرفض
العودة والحديث عن الأمر خاصة أنه لم يحضى بأي فرصة
للتعليم ولا شهادة لديه ويعتمد على عمله اليدوي هناك
لدفع إيجار المنزل وإعالتنا جميعنا ويرفض أن تعمل أي
واحدة منا عملا تهان فيه وأي أعمال هذه المشرفة التي
سنحضى بها ! فحتى جهينة أوقفت دراستها منذ أعوام بسبب
تكاليف رسوم المدارس لأننا لسنا من البلاد "
شعرت بالحزن على قصتها وما عانت هذه العائلة فالإبن الأكبر
مطرود وحياته مهددة بالخطر والآخر مريض هذا غير تردي حالهم
ماديا ومعنويا بالتأكيد ، قالت من فورها
" السكن والوظيفة جميعها مشاكل يمكن حلها وبسهولة فالمنازل
هنا تقدم مجانا أو بأسعار رمزية للأسر المحتاجة حتى يتحسن
وضعها وتنتقل لأماكن أخرى وتكون ملكا لها ، كما يمكن إيجاد
وظيفة لكل واحد منكم وسأتكفل شخصيا بابنك المريض فثمة
مراكز هنا لمن هم في مثل حالته ، أنا لن أطالبك بأن تذهب ابنتك
لشقيقي ولا أن تفرض نفسها عليه أريد فقط أن نمنحهما فرصة ...
فرصة أخيرة ليقررا مصيرهما فإما أن يقتنع رماح أو أن تغير
ابنتك رأيها فيه ولن تظلم أبدا أقسم لك يا خالة وكرامتها من
كرامتي لن تهان ولن تجرح يوما "
لاذت بالصمت للحظة واحترمت هي ذلك وتركتها مع أفكارها
لتقرر وجل ما تتمناه أن تنجح في مهمتها فإقناع هذه المرأة
ومهما كان صعبا هو أيسر من إقناع شقيقها رماح ، قالت
التي نظرت لها مجددا
" ابني لن يقبل أبدا أعرفه عزيز نفس بل وسيغضب مني ومنها
إن نحن فقط تحدثنا معه في الأمر ولا تفكري بأنك قد تقنعيه
بالتحدث معه فالنتيجة ستكون ذاتها وسيغضب من جهينة
تحديدا فحتى قدومنا إلى هنا كان رغما عنه ولولا إرسال الزعيم
ابن شاهين رجاله وأوامره الصارمة لندخل البلاد معهم
ما وافق أبدا "
نظرت لها بصدمة قبل أن تهمس
" مطر من فعل ذلك ؟ "
أومأت برأسها بنعم وقالت
" أوامره وحدها التي ما كان ليستطيع رفضها أبدا ... بل من
كان ليتخيل أن يطرق رجاله باب منزلنا يوما ؟ "
أشاحت بوجهها جانبا وتنهدت بضيق .. هل على ذاك الرجل
أن يخرج لها في كل شيء ؟ جليلة ... مؤكد هي من لجأت له
في هذا لكن كيف وصلت له ؟ آه أجل وقت قدومة لاجتماعهم
لا تفسير آخر للأمر ، نظرت لها مجددا وقالت
" اتركيني أحاول التحدث معه وإن عبر الهاتف ، بل وسأسافر
وأراه شخصيا إن كان ذلك سيقنعه "
حركت رأسها بالنفي متنهدت بحزن وقالت
" لن يجدي ذاك نفعا صدقيني فحتى حين اقترحت عليه أن نخبر
رجال ابن شاهين يوصلوا له طلبنا بحل قضية الثأر لأننا كنا خارج
البلاد وقت حرر الهازان وتولى جميع تلك القضايا المشابهة رفض
ذلك فورا وقال بالحرف الواحد
( لسنا بحاجة لأن نتسول عطف من هم مسئولون عنا أمام الله
قبل الناس )
فلا تتوقعي أبدا أن يوافق "
وقفت على طولها تشد قبضتاها بقوة ونظرت فورا جهة التي
كانت تنظر لهما من شق الباب المفتوح قليلا .. نظرة باكية
حزينة مكسورة فظهرت صورة شقيقها أمام عينها فورا ونظرته
الحزينة الشاردة تلك حين علم أنها قد تكون غادرت البلاد ، أغمضت
عينيها وتنفست بعمق هامسة بخفوت
" من أجلهما يا غسق ... من أجلهما "
أدخلت يدها في جيبها وأخرجت هاتفها وتحركت حتى باب الشرفة
وفتحته ووقفت خارجا تتكئ بظهرها على الجدار ونظرها على
الحديقة المقابلة لتلك الفنادق والأطفال يتراكضون حول النافورة
التي تلاعبهم برذاذ قطرات الماء المتناثرة منها وكأنها تستمتع
بأصوات ضحكاتهم الصغيرة المتداخلة .
ضربت بطرف حذائها على الأرض بتوتر تستمع لصوت رنين
الهاتف في الطرف الآخر ، تكره أن تتحدث معه مجددا بعد مكالمته
تلك واتهامه لها وتكره أكثر أن تطلب ذلك منه لكن لا مفر لها من
هذا فالثمن سيكون سفر تلك الفتاة وللأبد وعيش شقيقها وحيدا
رافضا حتى المحاولة للمشي مجددا ، كتمت تنفسها الذي سحبته
قويا وبدأت تخرجه ببطء فور أن فتح الخط وسمعت تلك النبرة
العميقة المبحوحة
" أجل يا غسق "
زمت شفتيها بضيق تسمع بوضوح صوت الريح لتحركه في
سيارة ما أي أنه لن يكون لوحده فيها بالتأكيد ، هذا الرجل لن
يتوقف عن التبجح بأنها ما تزال زوجته وتعلم بأنه لا يفعلها
إلا لمضايقتها ، حررت شفتيها وقالت
" تبدوا مشغولا لكن ثمة أمر مهم علينا التحدث فيه "
وصلها صوته القلق فورا
" ما بها تيما ؟ هل هي بخير ؟ "
قالت من فورها
" هي بخير الموضوع يخص رماح وجهينة ولا يقبل التأجيل أبدا "
سمعته يحدث أحدهم قائلا
" توقف هنا يا قاسم "
تنهدت بضيق ما أن سمعت ذاك الاسم ونظرت جانبا وهي تسمع
ذاك الصوت الرجولي القريب
" ماذا حدث ؟ ما بها ابنتك ؟ "
سمعت صوت باب السيارة وهو يفتح وصوت مطر قائلا
" لا شيء "
ساد الصمت من ناحيته قليلا ومن صوت الأمواج الواضحة
علمت أنه عند الخط الساحلي لبحر بينبان جهة غرب الحالك
ليسلكوا طريقهم لغرب الهازان كما سبق وقالت ابنته فشعرت
بتلك الغصة المؤلمة في قلبها والدموع تملأ عينيها السوداء
الواسعة محدقة بالسماء ولم تستطع مع انكتام أنفاسها أن
تقول شيئا .
ابتعد عن السيارة مقتربا أكثر من جهة السياج الحديدي الذي
يفصل تلك الطريق عن الصخور الضخمة والتي تستقبل تلك
الأمواج الغاضبة وقال عاقدا حاجبيه
" غسق أتسمعينني ؟ غسق أجيبي "
كان يسمع أنفاسها القوية المتقطعة ... يسمع نشيجها المكتوم
الذي تحاول إخفائه عنه ويعلم بأنها تسمعه جيدا ولا تجيب ،
وما أن نظر حوله وربط الأحداث فهم عقله فورا السبب فها هي
تختار اليوم ماضيهما لتحاربه به ولكن هذه المرة الأمر أقسى
وأشد وجعا ، مرر أصابع يده الأخرى مخللا إياها في خصلات
شعره المتدرج على قفا عنقه ينظر لذاك البحر الأزرق وقال للتي
يعلم بأن صوته يصلها
" غسق أنا لم أنسى الوعود التي قطعتها لك سابقا أتفهمين هذا ؟
لم أنساها أبدا "
سكت قليلا وتنفس بعمق قبل أن يتابع وصوته يزداد عمقا
وارتفاعا وكأنه يأتي مع تلك الأمواج
" لم يعطنا الزمن أي فرص يا غسق فلنعطها نحن لأنفسنا ...
غسق لا تكوني جبانة مجددا وأجيبي "
أبعد الهاتف ونظر له ما أن أغلقت الخط وشتم هامسا ومرر
أصابعه في شعره الكثيف يقف مواجها لتلك الرياح وتلك الأمواج
وأغمض عينيه بقوة وقد عادت به الذكريات لتلك الأعوام
" هل ثمة من تودع زوجها المسافر بعبوسها هكذا ؟ "
رمت له السترة السوداء الفاخرة التي كانت تمسكها له
قائلة بضيق
" لأنك مخادع وضحكت عليا ككل مرة "
لبس السترة وأغلق أزرارها وتوجه ناحيتها ، وقف أمامها
وأبعد شعرها عن طرف خدها وقبله هامسا
" كان الأمر مستعجلا وأنتي تعلمين ذلك جيدا "
وعاد لتقبيله ثانية وثالثة وأصابعه تتخلل نعومة شعرها
الكثيف فابتعدت عنه مبعدة يده وتمتمت بعبوس
" محتال وجميعكم الرجال هكذا "
ثم عدت بأصابعها ونظرها عليهم قائلة بضيق
" وعدتني برحلة لبينبان وللبحر هناك ، بأن تأخذني في الغد
لأتعرف على تلك الطفلة من خماصة وبزيارة خالة والدتك
وبأن تقضي هذا الأسبوع معنا هنا ولن تغادر أبدا ولا للحدود ،
كلها أمور كان يفترض أن تفعلها وطارت جميعها أدراج الرياح
ولم تبقى حتى أنت "
توجه نحوها مجددا أمسك وجهها وقبل شفتيها بقوة وهمس
من بين أسنانه
" لو فقط تتعلم هذه الشفتين أن تبقى رقيقة دائما قبلل أن آكلها "
فتح عينيه ونظر لعرض ذاك البحر مبتسما بسخرية أقرب منها
للمرارة وسيل تلك الذكريات يهاجمه مجددا
قالت ونظرها معلق به
" اصعد لها وطيب خاطرها بكلمتين قبل ذهابك يا مطر ولا تضع
كل اعتمادك على طبعها المسامح وكن عادلا "
قبل رأسها وقال
" سأراضيها وأفعل ما تريد ما أن أرجع فكلامي معها الآن لن
يزيد الأمر إلا سوءا "
كانت تلك الوعود التي لم يرجع ليحققها بل ليقتل كل تلك البراءة
معها وبكل قسوة بينما استقبلته هي وكأن غضبها ذاك لم يكن
موجودا ، أخرجه صوت الرسالة التي وصلت لهاتفه من كل
ما كان فيه فنظر لها وفتحها وكانت منها وقد أرسلت
( شقيق جهينة لديه قضية ثأر قديمة تحيل بين رجوعهم للبلاد
فأنصفه بما أنصفت به غيره منذ أربعة عشرة عاما وأخبره
أن يرجع ويسكن العمران وأنا سأتكفل بالباقي فهو لن يستجيب
إلا لأوامرك أنت )
حاول الاتصال بها مرارا ولم تجب فأرسل لها ( لن أفعلها إن
لم تجيبي)
أتاه ردها فورا
( أعلم بأنك ستفعلها وإن لم اجب .. من أجل رماح ومن أجل
عدلك معهم وليس من أجلي)
شد أصابعه على الهاتف بقوة شاتما بهمس ونظره على
أحرف رسالتها
" حمقاء لن تتغير أفكارك أبدا "
وبعد مكالمة أخرى أجراها مع من سيهتمون بأمر ذاك الرجل
ركب السيارة لتنطلق سياراتهم مجددا والصمت القاتل يعم تلك
الأجواء سوى من أنفاسه القوية ناظرا جهة النافذة يضرب
على ذقنه بطرف الهاتف في يده والتي كان يتكئ بمرفقها على
طرف النافذة ولم ينطق بأي كلمة ناقلا ذاك الجو المشحون
لمن كان يجلس بجانبه حتى غيرت السيارة مسارها فجأة
حين أدار المقود بقوة فدخلت بهم مسرعة بصرير مرتفع
لعجلاتها طريقا فرعيا يدخل لإحدى مدن الساحل مما جعل
السيارات خلفهم تتباطأ سرعتها ليدركوا نقطة الدوران والعودة ،
نظر للذي كان يجلس بجانبه ويسير مسرعا دون توقف
وقال بحدة
" قاسم ما بك ؟ "
همس ذاك من بين أسنانه وقد أدار المقود مجددا
" أذكر أن هذا الطريق يوصل لقلب البلاد وهي مدينة العمران "
وتابع سرعته الجنونية دون توقف فأمسك مطر بذراعه وصرخ
فيه فورا
" قاسم أخبرتك أنها بخير فارجع حالا "
نظر له فورا نظرة قوية تبادلاها لوقت قبل أن يشد على ذراعه
قائلا بحزم ومبددا أي شك في عبارته تلك
" هي وابنتها بخير وما كنت أنا لأسلك طريقا غيره إن كان
بإحداهما مكروه "
تنفس بقوة وسرعة السيارة تتباطأ تدريجيا وقد أحاطت بهم
سيارات حرسه ورجاله بعدما أدركوهم وقال بضيق قد أخرجه
عن السيطرة ناظرا لعينيه
" أما كنت تستطيع قولها من البداية ؟ "
قال مطر بنبرة تشبه نبرته بل وأكثر حدة بعدما أشار بوجهه
للطريق أمامهم
" ما كنت لأسلك غيرها إن كان بإحداهما سوء ، لن يشعر أحد
بابنتي وزوجتي أكثر مني يا قاسم "
نظر حينها ذاك جهة نافذته يتنفس بقوة وغضب بينما انتقلت
نظرات مطر للذي طرق على نافذته فأنزل الزجاج فورا وقال
الواقف في الخارج
" ماذا حدث ؟ هل من مشكلة ؟ "
قال مطر وقد ضغط الزر لإغلاق النافذة مجددا
" لا شيء سنرجع لطريقنا فورا "
تحركت حينها السيارات عائدين لمسارهم السابق مسابقين
الريح بجوار تلك الأمواج المعانقة للصخور وزاد ذاك الصمت
المشحون حدة والذي تمسك يده بالمقود بينما الأخرى يتكئ
بمرفقها على طرف نافذته ممررا سبابته والوسطى أسفل
ذقنه لا يتوقف عن توبيخ نفسه على فقده لزمام الأمور فجأة
ما أن سمع اسم تلك الفتاة ولا يفهم ما تفعله في عقله تلك
الطفلة التي بات يتوقع دائما بأن مشاكلها لن تنتهي ولن
تتوقف عن إقحام نفسها في تهورها المجنون من أجل
غيرها ، شد أصابعه على المقود بقوة هامسا لنفسه
( توقف عن هذا يا قاسم .... توقف (
" مرحبا تيما "
نظر بسرعة جهته قبل أن يهرب بنظره بعيدا ومحركا رأسه
بيأس من نفسه ولم يجد مفرا من الاستماع لتلك المكالمة
التي تصله بوضوح
" مرحبا أبي "
"
أين والدتك ؟ هل هي في المنزل ؟ "
خرج صوتها الرقيق الحزين من ذاك الهاتف
" أجل وصلت منذ قليل ودخلت غرفتها وقالت بأنها لا تريد
رؤية أحد ، حتى أني لم أتحدث معها حتى الآن ولازالت غاضبة
مني ... لم أكن أتوقع أن غضبها أشد وأطول من غضبك أنت ! "
نظر جهة نافذته وقال بابتسامة ساخرة
" هذا لأنها تحبك أكثر مني "
خرج صوتها فورا
" لست أصدق بأن أحدكما قد يحبني أكثر من الآخر ؟ "
تنفس بعمق قبل أن ينظر للطريق أمامه مجددا وقال بجدية
" بل ثمة من عليه أن يحبك أكثر من كلينا ليستحق أن تعيشي
معه للأبد يا تيما فأنتي لست لنا نحن بل له "
ساد الصمت من طرف التي كان واضحا أنها صدمت من كلامه
بينما أمسك الجالس بجانبه المقود بكلتا يديه وكأنه يخشى أن
تنزلق السيارة منه ، عاد مطر للحديث معها مجددا قائلا
" والدتك لا تعرف الغضب أبدا يا تيما وإن أظهرت ذلك فحاولي
التحدث معها مجددا "
" بالتأكيد لن أيأس أبدا حتى ترضى عني ... كن بخير من اجلنا
أبي أرجوك "
أنهى المكالمة معها مودعا لها ليعود ذاك الصمت القاتل مسيطرا
على أجواء تلك السيارة الفاخرة المسرعة ، صمت وإن استحمله
أحدهما وقد انشغل بتقليب هاتفه إلا أنه كان شديدا على الذي لم
يعد يستطيع الرضوخ له أكثر فقال ونظره على الطريق أمامه
" من هذا الذي تنوي تزويج ابنتك له يا مطر ؟ "
ساد الصمت من طرف الجالس بجانبه للحظات قبل أن يقول
وهو يدس هاتفه في جيبه
" ممن يستحقها طبعا "
سأل مباشرة ولازال يتجنب النظر ناحيته
" ألا شخص محدد حتى الآن ؟ "
أخرج هاتفا آخر ورفعه لأذنه قائلا
" لا "
ودخل في مكالمة مع رئيس الوزراء كان يعلم الجالس بجانبه
أنها قد تكون أطول من طريقهما ذاك بل ولن تكون الأخيرة بما
أنه قرر فتح ذاك الهاتف
*
*
*
قفزت واقفة من فراشها ومن وسط نومها ما أن تخللته تلك الطرقات
بحجر على جدار غرفتهم المطل على الشارع فهذا معناه أمر واحد
فقط ! نظرت لأخوتها النيام ثم تحركت جهة باب الغرفة الخشبي
القديم وسحبت وشاحها من العلاقة خلفه ولفته على رأسها وكتفيها
ولبست حذائها المنزلي البلاستيكي الخفيف وخرجت بخطوات خافتة
لوسطه المفتوح على السماء السوداء الساكنة وسارت بخطوات
سريعة خفيفة كي لا يسمعها والدها ويشعر بأن باب المنزل فتح في
هذا الوقت وحينها هي من ستنام معها في الشارع ، فتحت الباب
الحديدي ببطء شديد لم يزد إلا من معاناة الواقفة في الخارج والتي
ما أن فتحته لها حتى ارتمت في حضنها باكية فمسحت على شعرها
الأشقر هامسة
" يكفي بكاء يا مايرين سيشعر والدي بوجودك ويبكيني أنا معك
من الضرب "
أمسكت تلك فمها تحاول سجن العبرات التي ترفض التوقف
فسحبتها معها جهة الباب الأقرب لباب المنزل حيث تلك الغرفة
الصغيرة الضيقة المليئة بالعلب والأغراض والتي يستخدمونها
للمؤونة وأغراضهم الزائدة ، سحبت الفراش القديم الموجود في
الأعلى ككل ليلة زارتها فيها مطرودة من ذاك المنزل للشارع
ليعيدوها له فجرا وكأن شيئا لم يكن فتقضي ليلتها تلك حيث أكياس
القمامة والقطط والحشرات بجانب جدار منزلهم كعقاب على ذنب لم
تعرف يوما ما يكون .
وضعت لها الفراش على الأرض وأمسكتها من ذراعيها قائلة
" هيا استلقي سأ.... "
وابتعدت عنها بسرعة حين صرخت بألم وبكاء فأمسكت فمها
بصدمة وخرجت راكضة وجلبت معها كشاف الكهرباء الصغير
فالغرفة لا إنارة فيها وهو سبيلهم الوحيد للرؤية فيها ليلا بشكل
جيد ، ما أن دخلت وجدتها جالسة تمسك مرفقيها حاضنة نفسها
وتبكي دون توقف فتوجهت نحوها وجلست بجانبها الأيمن وشهقت
بصدمة تمسك فمها وسرعان ما سالت تلك الدموع من عينيها وهي
تنظر لذراع الجالسة أمامها وهمست ببكاء صامت
" قطع الله يده ، من هذا الذي أحرقك هكذا يا مايرين ؟ "
لم تجبها تلك ولازالت تبكي دون توقف دموعها تتساقط في حجرها
وجسدها يهتز لا شعوريا للأمام والخلف فوق ارتجافه من شدة
الألم ، وقفت وغادرت الغرفة مجددا وجلبت معها حقيبتها الخاصة
بعملها كممرضة في مستشفى تلك البلدة وجلست حيث كانت سابقا
ومدت يديها لذراعها ومزقت عنها كم بجامتها الكتانية البسيطة
القديمة حيث بات شبه مشقوق بالكامل بسبب ذاك الحرق المخيف
في ذراعها وبدأت بمعالجته لها تكاد لا ترى شيئا بسبب كل
تلك الدموع التي تذرفها عينها على حال صديقة طفولتها تلك ..
من تعجز مثلها عن إيجاد حل لمعاناتها التي ازدادت في الآونة
الأخيرة فهل يريدون قتلها للتخلص منها ! أي إجرام هذا الذي
يطبقونه عليها ؟ لفت ذراعها جيدا بالشاش الطبي أنينها المتألم
تشعر به يفتت قلبها لكنها لا تملك لها حلا كما تعجز دائما عن
إيجاده لمشاكلها وكل ما استطاعت فعله هو إدخالها خلسة لتنام
هنا كلما طردها شقيقها وزوجته من المنزل كالمجرمين يخرجونها
ليلا والناس نيام ليدخلوها فجرا قبل أن يشهدوا على جريمتهم تلك
وكل ذنبها أنه لا أحد لها غير ذاك الشقيق وذاك المنزل الذي
يريدون طردها منه ، أخرجت حقنة مسكن وحقنتها بها .. هذه
ستخفف آلامها ليوم كامل على الأقل أفضل من أن تقضي كل
هذه الساعات تئن ألما ويشعر والدها بوجودها وحينها لن تسلم
هي من عقابه القاسي وهو من يكره ذكر عائلة غيلوان بأجمعها
وشقيقها ذاك بشكل خاص فشجاراته معه لا تنتهي بسبب وبدونه
فذاك سليط لسان ووالدها حاد طباع قاسي ولا يجتمعا إلا وشجار
عنيف بينهما فحقد والدها على تلك العائلة جذوره متأصلة من
عهد جده ووالده .
مسحت على شعرها الأشقر بحنان تنظر لملامحها الباكية بحزن ...
الملامح المناقضة تماما لتلك القبائل بأكملها وكأنها لا تنحدر منها ..
القبائل التي سكنت أقصى جنوب البلاد بل أقصى مدن الحالك حيث
تميزت بسواد الشعر والعينين بما فاق جميع قبائلهم ومدنهم تلك
فكانت كالحالة الشاذة بينهم بشعرها الأشقر الغجري المموج والذي
لامست أطرافه نهاية خاصرتها وعيناها الغريبتان بلون الزمرد
الأخضر الفاتح فكانت كالخصلة الشقراء في الشعر الحالك السواد
بين سكان بلدتهم وقبائلهم تلك حتى أن الأغلبية كانوا ينادونها بابنة
الإيرلندية نسبة لأصل والدتها الصحفية التي تزوجت بأحد أبناء تلك
البلدة وعاشت وماتت فيها من عشرة أعوام .
همست بحزن تنظر لتلك الدمعة التي تسللت من تلك الأحداق لتستقر
على ذاك الفراش البالي
" مايرين عليك أن تقتنعي بأن وضعك يحتاج لحل سريع مهما
كان جنونيا "
همست بصوت مرتجف باكي
" مثل ماذا مثلا يا فجر ؟ ما الحل لدى من يعطيها شقيقها مهلة
ثلاثة أشهر لتغادر المنزل ولا أحد ولا مكان لها غيره ؟ "
همست الجالسة فوقها بحقد
" سحقا له أيفكر في نفسه ويهرب ويتخلص منك أنتي ؟
أي إجرام هذا ! "
عادت للبكاء بعبرات مخنوقة قائلة
" لأني العقبة الوحيدة كما يرى هو وزوجته ويعلم بأنه لن يتخلص
مني أبدا إلا بموتي "
قالت من فورها
" اتركيني أبحث عن طريقة للتحدث مع ابن عمتك المدعو أويس
إنه مختلف عنهم يا مايرين وبشهادة الجميع "
ضمت نفسها وهمست ببكاء خافت
" أويس .. !! أويس يكرهني أكثر من عائلة غيلوان جميعهم
بعدما حدث لوالده في الماضي ؟ "
لوحت بيدها قائلة بضيق
" وما ذنبك أنتي فيما حدث يا مايرين فسواء أنكر والده أم اعترف
بما اتهم به فأنتي ضحية أكثر منهم جميعا وتبقي شقيقته "
أغمضت عينيها وهمست ببكاء
" والضحية هي المدانة دائما فلا حل لهذا يا فجر لا حل أبدا "
شدت قبضتيها بغضب فلا حل كما قالت ... أجل لا يوجد أي حل
ففاتنة شقراء مثل هذه يفترض بأنها متزوجة من أعوام ولم تبلغ
العشرين من عمرها ولازالت عزباء هكذا لكن من هذا الذي يفكر
في مناسبة عائلة غيلوان ؟ إنهم أجبن من أن يفعلوها وأعمامها
يكونون شعيب وعيسى ونوح أبناء صفية غيلوان ... العائلة
التي لازالت ترفع راية الحداد من أعوام طويلة فحتى الأفراح
محظورة عندهم بالإجماع ولا يشم في منزلهم رائحة عطر ولا
طيب ولا يحتفلون حتى بالأعياد منذ قتل أشقائهم الثلاثة على
حدود صنوان من أعوام طويلة مضت ورغم نبذهم لها ولشقيقيها
ووالدتها بعد أن انضم شقيقها هازار لجيش ابن شاهين قبل توحيد
البلاد إلا أنها تعامل كالوباء من قبل الجميع ليس فقط بسبب أعمامها
وجدتها تلك بل وبسبب ولادتها بعد وفاة من يكون والدها بأكثر من
عشر سنوات !! حقيقة لا عقل يصدقها أبدا فالواقع أنها ليست منه
بل من زوج شقيقته وابن عمهم والد أويس ومن أنكر كل ما نسبته
والدتها له لكن أين المهرب من أبناء غيلوان إن أشهروا إصبع
الاتهام في وجه أي منهم فأجبروه على أن يتزوجها بعد ولادة ابنتها
والعقاب الأشد كان موته بعد ولادتها بعام في ظروف غامضة يعلمها
الجميع ولا أحد يستطيع التحدث عنها فحولوا هذه الفتاة المسكينة
لحكاية مأساوية خاصة وأنها سجلت بسم والد شقيقها أو زوج
والدتها لتكون شقيقة لكليهما ( هازار وجسار ) بما أن والدتها
أرضعت جسار طفلا فهي تزوجت والده وعمره أشهر فقط ليرحلوا
جميعهم تاركين إياها في حكاية سوداء شائكة تناقلتها الألسن
لأعوام وأعوام وهي قانونيا ابنة يحيى غيلوان والذي توفي قبل
ولادتها بأكثر من عشرة أعوام وجينيا ابنة ابن عمهم وزوج
شقيقتهم ( جبريل حجاج ) الذي لم تسجل باسمه رغم تزويج
والدتها به بعدما حملت بها منه وأنجبتها وكأنهم يحكمون عليها
بالعقاب على فعلة والدها لباقي عمرها والذي أنكرها أساسا
حتى مات .
قالت بجدية ناظرة لعينيها الشبه مغمضتان ورموشها المبللة بالدموع
" إذا لا حل غير الذي اقترحته عليك يا مايرين إنه منفذك الوحيد "
همست ببكاء تحرك رأسها نفيا
" ليس حلا أبدا يا فجر إنه جنون لن أجني منه سوى أن يضاف
فصل آخر مخزي لحكايتي "
مسحت على شعرها مجددا هامسة بثقة
" بلى هو الحل المناسب أتركينا فقط نجد شخصا لن يتخلص
من ذاك المأزق بأن يرميك فيه لوحدك واتركي الأمر لي "
وقفت بعدها وجلبت لها لحافا غطت به جسدها المنكمش وهمست
قبل خروجها
" نامي الآن وسأوقضك قبل أذان الفجر بقليل وسأجلب لك اليوم
مرهم حروق من المستشفى ، ثقي بي يا مايرين فكرتي هي حلك
الوحيد الذي تحتاجينه "
وغادرت وتركتها مع دموعها وحزنها الذي لا يداويه شيء وقد
خبأت عيناها في كف يدها هامسة ببكاء موجع
" هازار هو فقط ما أحتاجه ... أين أنت يا شقيقي فقد تعبت ..
اقسم أني تعبت حقا "
*
*
*
كتف ذراعيه لصدره واتكئ للخلف حيث ذاك السياج الحديدي
لجسر ووترلو وأحد الجسور الرابطة بين ضفتي نهر التايمز
وقال مبتسما ومحدثا المقابل له
" أراك هذه الأونة صرت عاطفيا بشكل مقزز يا رجل "
نظر له بضيق وأشاح بوجهه جانبا ولم يعلق ، معه حق يقول
ذلك فهو لن يشعر بما يمر به لأنه لم يجربه وهو من شدة غبائه
يتحدث مع من لا يتفهمون موقفه ولا يفهمونه .
نظر له مجددا حين قال
" أربعة عشرة عاما مضت يا رجل لما الآن فقط تشعر بأن
أوضاعها ليست جيده ؟ لم تفكر بها هكذا وهي ابنة الخامسة
عشرة لتنشغل بأمرها وهي في العشرين ! أنت تستسلم لوساوس
الشيطان كثيرا يا هازار "
ابتعد بنظره عنه وتنهد بعمق ، من قال أنه لم يفكر بها ؟ هو لم
ينساها يوما لكنه لم يشعر بالقلق نحوها سابقا كما الآن وليس
يعلم لما ! لو كان باستطاعته جلبها معه لما تركها هناك أبدا فهو
يخشى عليها حتى من شقيقهما ( جسار ) الذي ورغم معاملة
والدتهما في الماضي له وكأنه ابنها لم يشعرها يوما بأنها والدته
ولا بأنها تعدل بينهم كل ذاك العدل بل كان يشعرها دائما بأنها
زوجة الأب المقصرة معه في كل شيء وبالتأكيد هو يلومه الآن
على نبذ عائلتهم له ، كيف له أن يطمئن على وضع شقيقته ولا
أحد لها غير شقيقهم ذاك وهو من يعلم جيدا المشاكل التي تتآكل
عائلة غيلوان من الداخل ؟ لا يمكنه طلب ذلك من الزعيم مطر
وهو من سبق ورفض ذلك فهو يعلم جيدا أي قضية تلك التي
لازالت معلقة بينه وبين تلك العائلة فاقترابه منها لن يزيد
وضعها إلا سوءا وهم من يكرهون ذاك النسل من حيث وجد .
نظر للذي صفر له بهمس من بين شفتيه والذي ما أن نظر
له حتى غمز له مشيرا للذي كان يقف بقربهما يتكئ بمرفقيه
على السياج مشبكا أصابعه الطويلة القوية ينظر لمياه النهر
أسفل ذاك الجسر ، عاد بنظره للواقف أمامه وهمس مبتسما
" أخبرتك أن لا تجبره على مرافقتنا ، لما ترفض أن تقتنع بأنه
لا ينسجم مع أمثالنا أبدا ؟ "
رفع رواح رأسه للأعلى وقال مبتسما وبصوت مرتفع ومتعمدا
ليسمع من لم يفته ولا همسهما قائلا يكتم ضحكته
" متزوج يا رجل ما ستتوقع منه ؟ لديا شقيق متأزم مثله
وأعلم عن أحوال هذه الفئة جيدا "
نظر هازار مبتسما ورافعا كتفيه للذي نظر ناحيتهما قبل أن يرجع
بنظره للأسفل وكأن الحديث لم يكن عنه ولا يعنيه فضحك هازار
ناظرا للواقف أمامه وقال
" يعرف جيدا من أين تؤكل الكتف "
أشار له رواح بإبهامه مبتسما ثم بسبابته على عينه بمعنى
سأريك بنفسي قبل أن يتراجع للخلف خطوتين وفرقع بإصبعي
يديه كليهما وهو يرفعهما بجانب وجهه قائلا يمسك ضحكته
" كان يا ما كان .... كان يا هزار ثمة طفلة صغيرة بجدائل
حريرية وعينان بلون الذهب تسكن قرية تسمى حجور .... "
تراجع خطوتين أخريين للخلف ضاحكا حين التفت له الواقف
هناك برأسه فقط ولازال مستندا بالسياج وتابع بضحكة
" لو تراها كيف أصبحت الآن تنسى شقيقتك و...... "
صرخ ضاحكا وركض مبتعدا ما أن انطلق الواقف هناك نحوه
والذي استطاع ادراكه وبسهولة ممسكا لذراعيه خلف ظهره
وقد سحبه نحو سياج الجسر وهو يصرخ ضاحكا
" هازار افزع لي يا رجل لا تقف هكذا يا احماااااق "
ضحك الواقف هناك مكتفا ذراعيه لصدره وقال بصوت مرتفع ليصله
" إن لم يشعر بك ابن خالك فلن يفعلها أحد ... ثم أنت تستحق ما
سيأتيك منه "
وتابع ضحكه متجاهلا صرخات الاستنجاد المختلطة بتلك الضحكات
الرجولية وصاحب ذاك الجسد الطويل القوي يدفعه جهة السياج
بسهولة وكأن طوله ليس يكاد يوازيه حتى أحنى له جسده عليه
نصفه منحن نحو الأسفل لا يمسكه عن السقوط في تلك المياه
العميقة سوى أن يبعد يديه عنه فصرخ ضاحكا
" لن أتحدث عنها مجددا أقسم بذلك "
لكن ذلك لم يجعله يتراجع عن إمالته للأسفل ببطء حتى صرخ
" آآآآسف .... آسف يا ابن كنعان فلا تفجع عمتك في ابنها
وترمل خطيبتي التي لم تعترف بي حتى الآن "
حينها تركه وقد سحبه معه للخلف فنظر للواقف هناك يراقبهما
ضاحكا وقال بضيق يرتب سترته الجلدية الأنيقة
" سترى حسابك مني يا ابن غيلوان ... تراني أمامك سأفقد
حياتي وتقف تتفرج "
رفع الواقف هناك يديه مبتسما بأن لا علاقة له بكل هذا فالتفت
رواح للواقف خلفه والذي كان ينظر له ببرود يمسك خصره
بيديه ففرقع أصابعه مجددا وقال بضحكة وهو يتراجع للخلف مجددا
" واسمها مار..... "
وقفز ضاحكا يرفع يديه باستسلام ما أن توجه نحوه مجددا
ولم يوقفه سوى رنين هاتفه في جيبه فأخرجه فورا ونظر لشاشته
عاقدا حاحبيه قبل أن يبتعد عنهما يتبث السماعة في أذنه هامسا بجدية
" مرحبا يا زعيم "
ليصله ذاك الصوت الجاد أيضا
" مرحبا تيم ما الأخبار لديك ؟ "
عاد للإتكاء على السياج بمرفقيه وقال
" لا جديد حتى الآن "
وصله صوت مطر الحازم فورا
" هذا لأنك لم تتحرك حتى الآن يا تيم ، لأول مرة تتقاعس عن
مهمة وكلت لك يا رجل ، ما ستحصل عليه سيكون ذا أهمية كبيرة
لنا فتحرك سريعا "
شد فكيه بقوة ضاغطا على أسنانه وهمس بضيق وقد أشاح
بنظره جانبا
" تلك الفتاة مختلة عقليا ؟ لن أخبرك بما تفكر في فعله "
" ماذا مثلا ؟ "
كان سؤاله حازما وقويا وكأنه يستهين بالأمر من قبل أن يذكره
فتنفس بقوة نافخا ذاك الهواء من شفتيه وقال بأحرف مشدودة
" وهل أعلم أنا ما هذا الذي ينفع حجة لرفض تلك المهمة بأكملها ؟ "
" لا شيء أبدا "
كان جوابه مباشرا وقد تابع بذات جديته
" لا أحد سيدخل ذاك القصر والعالم غيرك يا تيم والفرصة مواتية
بشكل لم أتوقعه يوما فلست تعلم ما معنى أن يطلب ذاك الرجل
مقابلتك من بين جميع الشبان الذين سبق وخرجت ابنته برفقتهم "
همس بضيق من بين أسنانه
" تلك المجنونة قررت أن تعلن خبر خطبتنا فور تقديمي لمحيطهم
التافه ذاك ، حتى أنها لم تأخذ رأيي بل قالتها بكل ثقة وكأني من
ينتظر أن تتكرم وتوافق ، لقد طردتها البارحة من شقتي وأغلقت
هاتفي وانتهى أمرها للأبد "
وصله ذاك الصوت الغاضب سريعا
" تيم هل جننت ؟ كان يمكنك إصلاح الأمر بطرق أخرى ؟ أتعجز
حقا عن مسايرة فتاة وأنت من لم تقهرك المهام القاتلة يوما ؟ "
استوى في وقوفه وهمس ببرود
" سبق وقلت علاقتي بماريه خط أحمر ولم تنسى ذلك بالتأكيد "
وصله صوته الحانق فورا
" تلك الفتاة زوجتك يا تيم لا شيء ولا أحد سيفرقكما ما لم يكن
قرارا منك أنت وستتفهم ما تفعله يوما بالتأكيد ، نحن نحاول
هنا جاهدين إيقاف تلك الأيادي المتربصة بالبلاد لكن الرأس هناك
لديكم وبتر الأذرع ليس حلا أبدا "
قال فورا وبأحرف مشدودة
" وتدمير علاقتي بمارية ليس حلا أيضا "
ساد الصمت للحظات قبل أن يصله ذاك الصوت الحازم
" لم أعرفك ممن تتحكم بهم القرارات العاطفية يا تيم ! لو كان
شخصا آخر غيرك لما استغربت ذلك "
التفت ينظر لحركة السيارات قرب الممشى وقال بجمود
" أنا لا أتخذ قرارت عاطفية لكني قطعت عهدا ... عهدا لمن لن
اخلف وعودي لها مهما كان الثمن وقد أخذت مني وعدا أن لا
أترك تلك الفتاة وأن لا اتخلى عنها ..... وأن لا تبكي يوما بسببي "
قال بجدية
" تيم المهمة في عهدتك أيضا ومصير بلادك التي فعلت كل ما
فعلته من أجلها ..... كن عند كلمتك وثقتي بك يا ابن كنعان "
استل السماعة من أذنه ما أن انقطع الاتصال معه شاتما بهمس
" سحقا لتيم "
وغادر من هناك بخطوات واسعة يديه في جيبي سترته متجاهلا
نداء من تركهما خلفه .
تقلبت في سريرها بشكل بات يزعجها كثيرا وليست تعلم متى
سيقرر المدعوا نوم أن يزورها ؟ بلى هي تعلم بأنها لن تنام أبدا
والموجودة في الغرفة المجاورة لازالت غاضبة منها ، شعرت
بحرارة الدموع تلسع عينيها وهي تتذكر خروجها الوحيد من
غرفتها وقت العشاء الذي تناولته في صمت لم تتحدث مع أحد
ولا حتى شقيقها رماح ولاحظت أنهم جميعا تجنبوا الحديث
معها وكأنهم يعلمون أنها حين تكون بهذا المزاج السيء لا
تحب التحدث بأي شيء ومع أي أحد حتى وقفت وغادرت
طاولة الطعام وعادت لسجن نفسها في غرفتها مجددا ، كان
رأي الكاسر وعمتها وحتى رماح أن لا تتحدث معها حتى الغد ،
هم يعرفونها أكثر منها ومؤكد يعلمون أن مزاجها لن يتحسن الليلة
أبدا لكن كيف لقلبها الصغير أن يحتمل كل هذا ؟ كيف لها أن تنام
وهي غاضبة منها ؟ مسحت دموعها وتسللت من تحت الأغطية
وغادرت السرير والغرفة حافية القدمين تاركة الباب مفتوحا خلفها
وما أن نظرت للنور المتسلل من تحت باب الغرفة الملاصقة
لغرفتها تشجعت لفعل ما هي عازمة عليه فيبدوا أنها أيضا لم تنم
حتى الآن .
تحركت بخطوات بطيئة ووقفت أمام الباب لوقت يدها مرفوعة
له لا هي طرقته ولا عادت لغرفتها تصارع تضارب مشاعرها
فاتكأت بجبينها عليه وأراحت يدها على خشبه البارد تصارع
نفسها للدخول وتحمل ما قد تلقاه منها ومهما كان أو ترجع
لغرفتها وتنسى الأمر .. لكنها لا تستطيع المغادرة ولا الأخذ
بنصيحتهم والنوم أيضا وهي غاضبة منها ، ابتعدت عنه
وطرقته طرقتين خفيفتين متتاليتين فليكن ما يكون فأن تفشل
خير من أن لا تحاول أبدا .
" ادخلي يا تيما "
تنفست بعمق مغمضة عينيها وهامسة بخفوت
" جيد صوتها أفضل بقليل "
ثم أدارت مقبض الباب ببطء وفتحه ليقع نظرها فورا على
الجالسة فوق سريرها الواسع تلف ذراعيها حول ركبتيها
المغطاة بلحاف مفرشه الفرنسي الحريري الأسود والمطرز
بخيوط ذهبية يشبه جمالها ورقتها ونعومة ذاك الشعر الحرير
المخفي خلف ساقيها المغطاة به ، نظرت لعينيها وامتلأت
عيناها بالدموع فورا وقالت ببحة بكاء
" أمي اقسم إن لم تصفحي عني الآن أني لن أترك باب غرفتك ،
وإن أغلقته في وجهي فسأنام أمام عتبته حتى الصباح "
مدت لها الجالسة هناك يدها مبتسمة بحزن وهي تهمس
" تعالي صغيرتي "
فركضت نحوها فورا وارتمت في حضنها تبكي بصمت تشعر
بذراعيها اللتان تحيطان بجسدها بقوة وبقبضتيها تشتدان
على قماش قميص نومها القطني مما جعلها تتمسك بحضنها أكثر
ليست تعلم أي منهما تحتاج تلك اللحظة لحضن الأخرى وأي
مشاعر تلك التي تسجنها هذه الصامته في داخلها ! ابتعدت
عنها ونظرت لها بحزن واعتصر الألم قلبها وهي ترى تلك الدموع
التي كانت تملأ مقلتيها السوداء الواسعة الفاتنة وقد رفعت باطن
كفها لها فورا ومسحتها ما أن عانقت رموشها الكثيفة وكأنها
ترفض أن تحررها وأن تشهد وجنتيها على وجودها لتسرع
دموعها أيضا للتمرد على حصونها مجددا ... ليست تعلم ما حدث
في تلك المكالمات بينهما لكنها تيقنت الآن أن الأمور تتعقد تباعا
وأن ما يخفيه قلب هذه الأنثى أقسى من الواقع بكثير ، تدحرجت
دموعها الصغيرة معانقة وجنتيها الزهريتان وما أن أبعدت شفتيها
لتتحدث أسكتتها تلك الأصابع الرقيقة قبل أن تنتقل لطرف وجهها
وقد همست بحزن والدموع تملأ تلك الأحداق مجددا
" أنتي لم تجربي أن يتعلق قلبك برجل وأن تهبيه كل شيء يا تيما
ويخذلك ... لم تعرفي معنى أن تكون الخيانه مقابلا للحب "
شعرت بتلك الكلمة سكين طعن قلبها بعنف جعل دموعها تنحدر
على خديها بالتتابع ... خيانة !! هل خانها ذاك الرجل حقا ! لكن
كيف وهي من لم تراه برفقة امرأة يوما ؟ بل كيف لرجل بكامل
قواه العقلية أن يبحث عن شيء لدى أي امرأة وهذه تكون ملكه !
همست بضياع وحزن تنظر لعينيها " أمي هو كا..... "
أسكتت تلك الأنامل شفتيها مجددا قبل أن تنزل يدها وتمسك يديها
قائلة بجدية
" لن نتحدث في أمره مجددا يا تيما ومهما كان حسنا ؟
لا تغضبيني منك بنيتي "
نامت في حضنها مجددا تسكب دموعها وعبراتها فيه تستنشق
رائحتها الجميلة وتحضى بذاك الحنان الذي افتقدته لأعوام طويلة ،
ليست تعلم حتى متى عليها أن تصمت ومتى سيقرر كليهما بأن
الوقت قد حان لحديثها وأنه من حقها أن يكون لها رأي في
كل هذا ؟ لا تجد لنفسها عزاء سوى أنهما ليسا منفصلين أي
أنها ستبقى تردد دائما وإن بينها وبين نفسها .. ثمة أمل .. ثمة أمل .
ما أن خف بكائها أبعدتها عنها وقالت ترتب لها خصلات غرتها
ونظرها على عينيها الدامعة
" هيا للنوم صغيرتي الوقت متأخر ولن يتركك الكاسر تنامين
صباحا أعرفه جيدا "
ابتسمت بحزن وأومأت برأسها موافقة قبل أن تهمس ببحة
" وأنتي ستنامين أيضا أمي ؟ "
دست لها خصلات شعرها خلف أذنيها قائلة
" أقسم أني سأنام الآن فهيا لسريرك بسرعة
" قبلت جبينها هامسة
" تصبحين على خير أمي "
وغادرت السرير وما أن وصلت للباب أوقفها ذاك الصوت
الرقيق الهادئ
" تيما "
التفتت لها تمسك مقبض الباب المغلق في يدها وقد قالت فورا
" عديني أن ما تحدثنا فيه لن يعلم به أحد أبدا ... أنا أثق في
وعودك "
زمت شفتيها بحزن تمسك الدموع التي عادت لمعانقة رموشها
الكثيفة مجددا قبل أن تهمس مجبرة
" أعدك أمي "
ثم أدارت ذاك المقبض وخرجت مغلقة الباب خلفها وغادرت
جهة غرفتها راكضة وارتمت على سريرها تواصل بكائها
الصامت الطويل حتى أنهكها تماما فغادرت السرير وأطفئت
الأنوار وعادت للتسلل تحت أغطيته تحاول أن تنام .. فقط تنام .
جلست مفزوعة بسبب صوت رنين تلك الرسالة المرتفع مع
سكون الليل وصمت المكان ولأنه كان بجوار رأسها فقد اعتادت
على أن يكون هكذا قرب وسادتها منذ كانت في لندن فوالدها كان
يتأخر ليلا أغلب الأحيان ولم تكن تستطيع النوم حتى تسمع صوته
وتعلم بأنه بخير وقد التصقت بها هذه العادة حتى الآن ، أبعدت
اللحاف عن رأسها والذي لم ينزل عنه رغم جلوسها وبدأت بإبعاد
شعرها عن وجهها قبل أن ترفعه وتفتح تلك الرسالة التي كانت
من رقم مجهول ، نظرت لكلماتها القليلة مرارا وكأنها تقرأ العربية
لأول في حياتها ( لازلت مستيقظة ؟ )
وضعت يدها على جبينها تعض طرف شفتها ما أن نزلت بنظرها
للكلمة الوحيدة أسفل الشاشة ( قاسم )
رمت الهاتف من يدها وزحفت بعيدا عنه قليلا ولا شعوريا وكأنها
تخشى أن يلحق بها أو أن يخرج لها ذاك الرجل منه ، نظرت له
وكأنه مخلوق فضائي سيلتهمها في أي وقت ، ولم يطل الوقت
كثيرا حتى سمعت رنين رسالة أخرى لتتعالى معها ضربات قلبها
حد الجنون فما يريده منها يسألها إن كانت مستيقظة في هذا
الوقت المتأخر جدا من الليل ! بل كيف عرف رقم هاتفها ؟ ألا يعلم
هذا الرجل بأنه سبب هروبها من منزل والدها بأكمله ليسكنها الآن
الرعب برسائله ! مررت لسانها على شفتيها قبل أن تمد جسدها
ويدها وترفع الهاتف مجددا وتفتح تلك الرسالة والتي كان فيها
( هل تعلمي ما أخبرني به والدك ونحن في طريقنا لتيمور ؟ )
شدت أصابعها على الهاتف لا شعوريا تزم شفتيها المرتجفة
والدموع تملأ عينيها تشعر بكابوس تلك الليلة يلاحقها مجددا
ولن تستبعد أن لا يغفر لها والدها أبدا إن علم بما فعلت فكيف
بوالدتها ؟ هم سيقضون الليلة هناك شرق الهازان كما أخبرها
عمها صقر فما الذي يجعله يراسلها وهم هناك وفي هذا الوقت
إن لم يكن ما قاله له خطيرا ، أرسلت له فورا
" ماذا قال ؟ "
لم تعرف معنى انتظار الموت البطيء كما عرفته تلك اللحظة
وهي تشعر بالرعب مما ستحمله تلك الرسالة التي لم تتأخر
أبدا لتضربها سريعا كالموت وأصابعها المرتجفة تفتحها ،
انفتحت عيناها على اتساعها وفغرت فمها مشدوهة ما أن قرأت
تلك الأحرف ( هلا أخبرتني ما الذي يبقيك مستيقظة حتى
هذا الوقت ؟ )
رمت الهاتف على السرير بقوة وأمسكت الوسادة وبدأت بضربه
بها متمتمة بغضب
" أحمق وتافه ووقح أيضا يا كتلة الثلج والغرور ... يا متعجرف "
وما أن أفرغت غضبها به رمته على الطاولة بجانب السرير
واندست تحت الأغطية تغمض عينيها بقوة فعليها أن تنام ورغما
عنها ، لم يمض وقت طويل قبل أن يرتفع رنين رسالة أخرى
وصلت هاتفها فقررت أن لا تفتحها أبدا لكن قرارها ذاك لم يدم
طويلا واستسلمت لفضولها سريعا وهي تجلس مجددا وترفعه
وتفتحها فكانت كلمة واحدة تلك التي أرسلها ( جبانة )
لكنها كانت كافية لإشعالها كعود كبريت رمي على كومة قش
فأرسلت ودون تراجع ولا تفكير ( وأنت كاذب )
أرسل لها مجددا ( جبانة)
شدت على أسنانها بغضب حتى آلمتها وسرعان ما أرسلت له
( وما الذي تفعله أنت مستيقظ حتى الآن ؟ )
انتظرت لبعض الوقت بترقب قبل أن تبتسم بانتصار فها قد أعطاها
الفرصة لتنال منه لكن تلك الابتسامة ماتت في مهدها ما أن رن
هاتفها برسالة أخرى ففتحتها سريعا وفغرت فاها الصغير
بصدمة ما أن قرأتها ( أفكر في امرأة ما ، فكوني أنتي
شجاعة وأجيبي )
غرست أسنانها في شفتها بغضب ... من هذه التي يفكر فيها
وتؤرق نومه ؟ مؤكد فتاة تركها هناك في لندن ويشده الحنين
لها الآن ، شعرت ليس بقلبها فقط بل وبأوردتها جميعها تشتعل
وهي تفكر فقط أن تلك المرأة موجودة وإن لم تكن تعرف هويتها ،
أرسلت له تضرب الأحرف بإصبعها ضربا
( وأنا أنتظر اتصال زعيم المافيا فالوقت الآن نهارا لديهم كما تعلم (
ورمت بعدها الهاتف بعدما أغلقته نهائيا وعادت لتندس تحت
الأغطية مجددا ولم تترك شتيمة عربيه ولا انجليزية لم تشتمه بها .
*
*
*
نظرت من نافذة المطبخ الواسعة والمطلة على الجزء الجانبي
من فناء المنزل وما أن سمعت هدير تلك السيارة وصوت توقفها
قفزت من فوق الكرسي الذي كانت تجلس على مسنده مقابلة لتلك
النافذة وقالت مبتسمة بحماس
" رائع وصلت القطعة الذهبية وعلى الوقت تماما "
وأخذت قطعة خيار من الطاولة التي كانت تجلس عليها والدتها
وتقوم بتقطيعه والتي قالت بصوت مرتفع ليصل للتي خرجت للتو
" ساندي اتركيها تتناول طعامها أولا ... لقد أصبحت الخامسة
عصرا الآن "
لكن ذاك النداء لم يجد صداه عند التي خرجت من باب المنزل
راكضة تلبس سترتها الجلدية السوداء القصيرة وقد وصلت
للخارج في وقت قياسي لتمسك بيد التي كانت ستجتاز بوابة
سياج فناء منزلهم للتو تمسك مذكراتها وحقيبتها وقد سحبتها
معها جهة الخارج مجددا قائلة
" إلى أين سيدة كنعان ؟ أنتظرك من أكثر من ثلاث ساعات "
وتابعت وهي تحضن سقف اللامبرغيني الذهبية قائلة بضحكة
" نمت البارحة وأنا أحلم بأني أحلق بها وتفكرين حقا في أن
أتركك اليوم قبل أن اجربها "
أخفضت الواقفة خلفها كتفيها متمتمة بعبوس
" الآن ساندي ! "
أمسكت يدها مجددا وسحبتها جهة باب السائق وأخذت منها
مذكراتها وحقيبتها وقالت
" أجل ومن دون تأجيل ولا دقيقة أخرى ... بسرعة وافتحي
سقفها هيا "
تنهدت باستسلام أمام اصرارها وعنادها رغم أنها متعبة حقا
فهي خرجت للجامعة من وقت الفجر ولم تنهي محاضراتها إلا
الآن ولم تتناول شيئا أيضا بل ولم تنم جيدا البارحة ... وهل ترك
لها ذاك الرجل عقلا تنام به ! جاء ليسلبه منها ويرحل به معه ،
لكنها لا تستطيع رفض طلبها وهي من تعلم ما يعني لها هذا
النوع من السيارات وأنها تحلم بركوب واحدة منها منذ كانت
طفلة بل ومهووسة بالسباقات والسرعة ، ركبتها وأغلقت بابها
خلفها وضغطت الزر يسارها لينفتح السقف الذهبي ببطء كاشفا
عن التفاصيل الداخلية لتلك السيارة الفاخرة ومقاعدها الجلدية
البيضاء وعن الجالسة خلف المقود فصفرت الواقفة في الخارج
بحماس ورمت الحقيبة والمذكرات في الكرسي الخلفي ثم رفعت
قدمها وسندتها بطرف الباب المغلق وارتفع جسدها مع صرختها
الحماسية الضاحكة وقفزت جالسة داخلها ترفع شعرها الطويل
الذي تناثر على وجهها ورفعت قبضتيها للأعلى قائلة بصوت
مرتفع وابتسامة واسعة
" انطلقي الآن يا قطعة الذهب بالثلاثة ألآف حصان جميعها "
ضحكت الجالسة بجوارها وانطلقت بها بالفعل وقد اختارت فورا
طريقا خارجيا واسعا غير مزدحم وهو الطريق المؤدي لجامعتها
في كامبريدج حيث تحفه المساحات الخضراء الشاسعة وحركة
السيارة فيه كانت أسهل ، فوقفت الجالسة بجانبها من فورها
في مواجهة الريح القوية وفكت الوشاح الطويل الخفيف نيلي
اللون عن عنقها ورفعته مع رفعها ليديها ليطير خلفها بحرية
تصرخ بحماس عبرت فيه عن مشاعرها الحقيقية لتلك الأجواء
التي لطالما حلمت بها وتمنت أن تعيشها فلم تكن لسيارتها تلك
مهما كانت جديدة أن تسرع هكذا لكانت فقدتها وللأبد ، انحنت
قليلا شعرها الأسود الطويل تتلاعب به الريح بقوة تضرب
خصلاته وجهها كالإبر وشغلت ستيريوا السيارة ورفعت الصوت
لأعلى درجة لتصدح تلك الأغنية الانجليزية الصاخبة في الأجواء
وعادت للوقوف تردد كلماتها صارخة تضحك تارة وتصرخ
بحماس تارة أخرى ولا تنطق سوى بعبارة
" أسرعي أكثر مارياااا "
وكانت سرعتها تزداد تدريجيا لكنها لم تكن تستطيع استخدام
قوة المحرك بأكملها كما ترغب تلك المجنونة فهي تخشى أن
تفقد التحكم في هذه السيارة الرياضية القوية لتكون حياتهما
الثمن خاصة وهي ترى ما لا تراه تلك الواقفة تصرخ وتغني
وهي السيارة البورش الرياضية السوداء التي كانت تلحق بهما
مسرعة مما جعلها تخفف السرعة قليلا ما أن أصبحت تلك السيارة
بجوار سيارتهما وفي وقت قياسي خمنت معه فورا أن سائقها
سيكون بارعا بالتأكيد ، نظرت جهة الواقفة بجانبها ما أن جلست
والتي صرخت بسبب صوت الريح قائلة بضيق تحرك يدها بغضب
جهة السيارة بجوارهما
" من أين خرج لنا هذا المغفل ؟ "
فنقلت نظرها منها جهة تلك السيارة التي انكشف سقفها أيضا
كاشفا عن الجالسان فيها وقد أشار لها الجالس خلف المقود
وصاحب الشعر الأسود بإبهامه مبتسما قبل أن ينطلق مجتازا
لهما فلم تستطع التحكم في سرعتها بسبب براعته تلك فأوقفت
سيارتها بقوة وصرير عجلاتها يصدح مرتفعا حين قطع عليها
الطريق بتلك البورش السوداء بالعرض تقريبا .
وما أن استوتا جالستين للخلف بعد ارتداد جسديهما القوي صرخت
الجالسة بجانبها بضيق
" انتصر عليك الهازاني الأحمق "
نظرت لها باستغراب ... لا ليس لها بل للذان نزلا من تلك
السيارة وأحدهما يتقدم نحو سيارتهما والذي ما أن وصل لباب
الجالسة بجانبها فتحه وأمسك بذراعها وسحبها بقوة مجبرا لها
على النزول رغم مقاومتها وسيل الشتائم العربي والانجليزي الذي
كانت ترميه به إلا أنه سحبها جهة تلك البورش السوداء وكأنه
لا يسمعها وأركبها تلك السيارة مغلقا الباب خلفها وركض للجهة
الأخرى وركب أيضا ورغم أنها فتحت الباب لتنزل إلا أنه منعها
مغلقا إياه قبل أن ينطلق بها من هناك مسرعا .
بينما نزلت هي من سيارتها بعدما أفاقت من صدمة ما حدث
أمامها وركضت جهة الذي تركه ذاك الشاب خلفه واقفا في
الطريق ينظر حيث اختفت تلك السيارة مسرعة يمسك خصره
بيديه فاردا ساقيه ويبدوا الاستياء واضحا في وقفته تلك ، وقفت
خلفه مباشرة ووكزته من كتفه فالتفت لها فورا فنظرت لعينيه
وقالت تشير بيدها حيث نهاية الطريق
" Where to take "
) أين أخذها(
فتحت فمها بصدمة حين قال بعربية طلقة رافعا يديه
" لا أعلم حقا "
عربي !! عيناه الخضراء وشعره المائل للشقرة وملامحه ... !
كل هذا لم يجعلها تشك بهويته لحظة ! أشار بإبهامه للخلف
وقال مبتسما
" حسنا عليك أن لا تقلقي عليها فهو لن يؤذيها بالتأكيد فهي
قريبته بطريقة لم أفهمها يوما "
وضعت ظهر كفها على جبينها وهمست بضياع ناظرة هناك
" مجنون ذاك الشاب بالتأكيد ! "
ضحك الواقف أمامها وبسط كفيه قائلا بابتسامة
" وهل ثمة جنون أكبر من أن يترك صديقه في الطريق ويغادر ؟ "
تراجعت للوراء خطوتين تنظر له بصدمة قبل أن تهمس بإحراج
تبعد خصلات غرتها عن عينيها
" أ .... أنا ... أنا "
نظرت للخلف حيث سيارتها قبل أن ترجع بنظرها له قائلة بتردد
" أنا آسفة ... لا يمكنني أن أقلك بسيار ... أعني ... "
ابتسم وأحنى رأسه رافعا كفه بجانب وجهه قائلا يمسك ضحكته
" أفهم موقفك ... ثم أنا لست على استعداد لألقى مصير رواح اليوم "
نظرت له باستغراب ولم تفهم ما كان يعني وقد استدار موليا
ظهره لها وأخرج هاتفه من جيبه يتحدث مع أحدهم ليأتي لأخذه
من هناك فتوجهت حينها ناحية سيارتها وركبتها وحاولت أولا
أن تتصل بساندرين لكنها لم تجب فرمت الهاتف على الكرسي
بجانبها وتمتمت بضيق تتراجع بالسيارة للخلف
" ما الذي سأقوله لوالدتها إن سألتني عنها ؟ اختطفها قريبها
الذي لا أعلم ما يقرب لها ! "
حاولت تخليص يدها منه ودون جدوى بل حتى أن ضرباتها له
بقبضتها الأخرى لم تفلح في شيء ولم تؤثر فيه أبدا سوى بأن
قال ضاحكا يتحكم في مقود السيارة بيد واحدة وببراعة
" إن تسببت لنا بحادث فستكونين الخاسرة أيضا لأنك
ستموتين معي "
توقفت عن لكم كتفه بقبضتها وجلست مكانها قائلة بضيق
" لا طبعا فأنا لا أريد ولا شرف الموت معك في وقت واحد "
ضحك وأوقف السيارة أخيرا بعدما ضمن بأنها أرهقت من كثرة
مقاومتها له وفكرت جديا أن تهدأ فترك يدها وقد سارعت بأن
كتفت ذراعيها لصدرها تنظر أمامها بجمود فأغلق سقف السيارة
ودار بجسده نحوها ومد ذراعه على ظهر كرسيها ونظر لنصف
وجهها المقابل له وقال
" هل يمكننا التحدث الآن دون انفعال وشجار أطفال ؟ "
نظرت له وقالت بسخرية
" هه شجار أطفال ! ما تعرفه أنت عن شجارات الأطفال يا ابن
الهازان ؟ أنت لا تعرف في طفولتك سوى السخرية مني "
قال مبتسما بمكر ونظره على عينيها
" بل أذكر منها أني قبلتك ذات مرة وأنك لم تمانعي "
نظرت له بحقد تغطي صدمتها لذكره لذاك الموقف بعد كل تلك
الأعوام وهو من لم يذكره سابقا وقالت بحدة
" تلك فعلتك أنت وليس أنا فلم تكن طفلا بل مراهق عديم الأخلاق "
ضحك رافعا رأسه للأعلى ثم نظر لها وغمز بعينه قائلا
" كان طيش طفولة وجيد أنها كانت من نصيبك أنتي فلم أعرف
بعدها ذلك أبدا "
نظرت له بشك وهمست
" كاذب "
قرب وجهه منها وهمس أيضا
" أقسم بذلك "
ابتعدت عنه وقالت بضيق
" خدني للمنزل حالا لا أريد لا ركوب سيارتك ولا التحدث معك "
استوى في جلسته ممسكا المقود وقال ناظر للطريق الممتد أمامه "
حسنا لكن علينا عقد اتفاق ما أولا فأنا أوقفت الإعلان منذ وقت
وسألغيه نهائيا لكن بشرط "
نظرت لنصف وجهه المقابل لها .. لعينه السوداء وحاجبه الطويل ،
أنفه الأرستقراطي المستقيم ولحيته الخفيفة المنسقة وشفتيه
المتساويتان ، أحمق لو أنه يكون كشقيقه وقاص سيصبح وسيما
جدا لكنه مقزز مقرف زير نساء وهذا ما ينفرها منه ومنذ طفولتها ،
نظر لها وقال بابتسامة مائلة
" أفهم من صمتك أن أعيد الإعلان ؟ فهو بالفعل نال إعجاب
الألآف ومن يوم واحد فقط عرض فيه "
زمت شفتيها بضيق ثم قالت
" وما هو شرطك ؟ "
وتابعت من بين أسنانها ترفع سبابتها في وجهه
" غير شرطك السابق المضحك طبعا "
ابتسم وقال
" حسنا ذاك سنؤجله قليلا "
وأمسك خصلة من شعرها الطويل الناعم المنسدل على كتفها
المقابل له وتابع متجاهلا نظرتها الغاضبة
" ترجعي ساندرين السابقة بدلا من هذه المتحولة المقززة ...
اتفقنا ؟ "
استلت شعرها من أصابعه ونظرت له لبرهة قبل أن تقول
" موافقة "
فهي أساسا كانت ستعيد شكلها كما كان سابقا بسبب إعلانه
ذاك ولا مانع من أن تتخلص منهما كليهما معا ، جوابها
المباشر ذاك جعله يصفر فورا قبل أن يقول
" خدعتني في هذه يا محتالة لكن لا بأس "
وشغل السيارة فورا وانطلق من جديد بسرعة كانت هذه
المرة أضعاف سرعته السابقة درجة أنها هي مدمنة ذلك
أغمضت عينيها بشدة بسبب خوفها تشد قبضتيها حتى آلمت
أظافرها راحتي يديها فالشمس توارت في الأفق وهذا المجنون
يبدوا أنه يقود بقوة المحرك كاملة ، وما أن شعرت بالسيارة
أصبحت تدور بهما حول نفسها بقوة صرخت متمسكة بأقرب
شيء لها تشعر بقلبها سيخرج من مكانه والذي ما أن استقرت
السيارة بهما اكتشفت بأنه لم يكن سوى ذراعه فابتعدت عنه
فورا ولكمته بقوة شاتمة بهمس قبل أن تفتح باب السيارة وتنزل
لأنها كانت قد أصبحت أمام باب منزلها ولم تنتبه لأنها لم تكن
ترى أساسا بسبب هذا المجنون وقيادته الشبيهة به ، ما أن
وصلت باب المنزل الخارجي صفر مناديا باسمها فالتفتت له
ورغم نظرتها الغاضبة أرسل لها قبلة في الهواء وقال
" موعدنا ثوب الزفاف ساندي ولن يكون بعيدا أقسم لك "
أخرجت له لسانها فورا وقالت قبل أن تدخل
" سيكون كفني اللون الأبيض الوحيد الذي سألبسه إن كان
لا زواج لي من غيرك "
أنهت عبارتها تلك ودخلت تسمع صوت ضحكته وصرير عجلات
سيارته مما جعل غضبها يشتد درجة الاشتعال فاجتازت فناء المنزل
تضرب بخطواتها الأرض متمتمة بغضب
" سيرى زير النساء ذاك ، أقسم أن يندم "
وقفت مكانها ما أن وصلت لباب المنزل ونظرت باستغراب للتي
كانت تجلس على إحدى عتباته الخشبية تمسك حقيبتها ومذكراتها
وقد وقفت ما إن وصلت لها وقالت بضيق
" تأخرت كثيرا ساندي ؟ لم يكن ينقصني سوى أن أجلس هنا
لساعتين وكأني لست متعبة فعلا "
أمسكت الواقفة أمامها وسطها بيديها وقالت بضيق مماثل
" وما يبقيك جالسة هنا سيدة ماريه ؟ كنت دخلت المنزل ما أن
وصلت هنا ، ثم من كان السبب غيرك تركت ذاك الدبور يهزم
قيادتك الفاشلة بسهولة لكنا كلينا في المنزل منذ وقت "
حركت رأسها متأففة منها وصعدت العتبات دون أن تعلق ودخلت
المنزل فالآن فقط يمكنها الدخول فلن تواجه سؤال زوجة عمها
الذي لن تجد له جوابا ( أين ساندي ألم تخرجا معا ؟)
*
*
*
بدأت بتكويم الثياب فوقه ما أن ارتفع رنينه مع صوت تلك
الطرقات على باب الغرفة تهمس له بخوف
" اصمت ... اصمت "
وكأنه يسمعها فعلا فكل ما كانت تخشاه أن تكون زوجة والدها
خلف الباب وتكتشف وجوده لديها فهو لم يتوقف اليوم تقريبا
عن الرنين وليست تعلم كيف تتصرف مع هذا الجهاز كي لا يرن
مجددا ، بعدما دسته تحت كل تلك الثياب والأغطية وأغلقت عليه
الخزانة توجهت للباب وما أن فتحته حتى ابتسمت بحزن وارتمت
في حضن الواقف أمامها قائلة ببكاء
" يمان أين أنت منذ الأمس ؟ لقد قلقت عليك كثيرا "
ونسيت بالفعل أن تلك المرأة ما كانت لتطرق الباب قبل أن تدخل
لها ولا والدها أيضا فلا أحد غير شقيقها هذا يفعلها ، مسح
على شعرها قائلا بحنان
" أخبرت والدي بأني لن أبات البارحة في المنزل وظننت
بأنه أخبركم "
ابتعدت عنه تمسح دموعها ثم أمسكته من يده وسحبته للداخل
وأغلقت الباب وهمست ناظرة لعينيه
" هل حقا أخبرت والدي أين كنت ؟ "
حرك رأسه نفيا وقال بصوت منخفض
" هو يعلم بأني سأعود اليوم لكنه لا يعلم أين كنت "
همست من فورها
" أين كنت إذا ؟ "
فتح باب الغرفة ونظر للخارج قبل أن يغلقه مجددا ونظر لها قائلا
بهمس مماثل
" كنت في الجنوب لقد حصلت على عمل هناك واستأجرت
منزلا صغيرا "
امتلأت عيناها بالدموع فورا وهمست ببحة بكاء
" الجنوب !! هل ستبتعد عني كل تلك المسافة يا يمان ؟ لكن لماذا ...؟
ألا مكان غيره يكون قريبا من هنا ؟ "
أمسك وجهها بيديه وقال ماسحا بإبهاميهما الدموع من رموشها "
المدن هناك زراعية جميعها ومن هم بمثل شهادتي مرغوبون جدا
فيها ، ثم أنا لن أخرج من هنا قبل خروجك يا يمامة وسيكون لديك
هاتفا هناك بالتأكيد وسأتحدث معك دائما ، ثم أنا لن أعيش في
الجنوب للأبد كلها فترة مهما طالت ثم سأعود ... لا أريد رؤية
دموعك مجددا يمامة اتفقنا ؟ "
أومأت برأسها ورفعت أناملها تمسح دموعها فانتبه حينها للخاتم
في اصبعها فأمسك يدها ونظر له باستغراب قائلا
" هذا خاتم زواج يا يمامة أليس كذلك ؟ هل كانت والدة أبان هنا ؟ "
نظرت للأسفل ولحركة يديها وهي تدير الخاتم في أصبعها قائلة
" بلى والبستني هذا الخاتم وسلسالا أيضا وسوار لكني خفت أن يضيعا
مني فخبأتهما وتركت هذا الخاتم فقط "
" هذا فقط ما أحضرت لك ؟ "
رفعت نظرها له فورا تنظر له باستغراب من الضيق في نبرة صوته
ونظرته العابسة وقد تابع من قبل أن تجيب
" هل هذا فقط ما تستطيع عليه عائلة أيوب الشعاب أم يسخرون
من حالنا فقط ؟ "
قالت من فورها
" لا هي أحضرت معها الكثير من الثياب والهدايا لكم جميعا "
وتابعت هي تريه الخاتم مجددا " كما أن والدي قال بأن هذا ماس
وطلب مني أن أحافظ عليه لذلك خبأتهم في خزانتي كي لا يضيعا
مني كما أنها تركت خادمة هنا تقوم بكل شيء نريده "
نظر لها مستغربا وقال
" وأين الثياب وأنتي بملابسك القديمة ؟ "
تلعثمت قليلا قبل أن تهمس بتردد
" أخذتهم خالتي ووضعتهم في مخزن الأعلاف "
نظر لها بصدمة سرعان ما تحولت للغضب وكان سيتحرك جهة
الباب لولا أوقفته ممسكة بذراعه وقالت برجاء
" لا يا يمان أرجوك لا تتشاجر معها بسببي "
نظر لها وقال بضيق
" بل سأخبر والدي وسترى ما سيفعل إن علم بأنها فعلت ذلك "
تمسكت بذراعه أكثر قائلة برجاء تحدق في عينيه بعينان دامعة
" لا تتسبب بمشكلة بينهما فيضربها وتترك المنزل وابنيها وقد
يغضب منك أنت بدلا عنها ... أرجوك يا يمان أنا لست أهتم بما جلبته
إن بقي أو أخذته خالتي فأنا لن أنتفع به وأنا لا أخرج من المنزل "
قالت ما قالته كاذبة فقط لتطفئ غضب شقيقها وهي من باتت
تزور تلك الغرفة وشقيقيها كلما سنحت لهم الفرصة لتلبس تلك
الثياب والأحذية والحلي وليلعبا هما بذاك القطار الكهربائي الكبير
لتتحول تلك الغرفة العفنة الخانقة لغرفة الأحلام بالنسبة لثلاثتهم
وباتت زيارتها أهم لديهم من أي مكان في العالم ، أما الواقف
أمامها فما كان أمامه سوى أن يرضخ أمام تلك العينان الرمادية
الدامعة فلا شيء يضعفه في الحياة غيرهما .
نظرا كليهما جهة الخزانة حين خرج صوت ذاك الرنين الخفيف
من داخلها فهمست الواقفة أمامه
" لم يتوقف عن الرنين طوال فترة الصباح وخفت أن تشعر خالتي
أو والدي بوجوده عندي "
توجه جهة الخزانة من فوره قائلا
" لا بأس سأضعه على الوضع الصامت حين أخرج مجددا "
فتح بابها الحديدي وأخرجه من تحت كومة الثياب تلك ونظر لشاشته
وكان قد انتهى الاتصال للتو ، رفع نظره بالواقفة هناك وقال مبتسما
ما أن عاد بنظره له
" وكنت أجبت على اتصاله وأخبرته أني لم أكن موجودا في
المنزل فهو خطيبك الآن "
فلم يسمع حينها سوى صوت باب الغرفة يفتح ويغلق بقوة فرفع
نظره ولم يجدها وقد اختفت في لمح البصر فضحك كثيرا وتوجه
جهة نافذة الغرفة واتصل بصاحب ذاك الرقم والذي قال ما أن
فتح الخط
" أين أنت يا رجل منذ ساعتين أتصل بك ولا تجيب ؟ "
قال ونظره للخارج حيث التي تسحب كيس الأعلاف الكبير مع
امرأة خمن فورا أنها ستكون تلك الخادمة التي تحدثت عنها
" كنت في أباجير ولم أستطع العودة في ذات اليوم بسبب طول
الطريق وهاتفي بقي هنا "
وصله صوته فورا
" يمان لما لا تتوقف عن هذا الجنون وسيكون لديك الوظيفة
والسكن هنا وبعيدا عن منزل والدك كما تريد "
تنهد متمتما ببرود
" أبان لن نتحدث عن هذا في كل مرة "
كان سيعارض لكنه سبقه قائلا
" ثم أغلب الأمور كانت بمساعدتك ، ألست من طلب من صديقك
المحامي ذاك أن يساعدني وهو وفر لي السكن وذهب معي بنفسه
لشركة العاج الحديثة وتحدث مع مدير الفرع لديهم "
وصله صوته فورا
" هل هذه تسميها مساعدة يا يمان ؟ أنا لا أريد لك حياة الذل
والشقاء يا صديقي فتلك المدن لا يستطيع العيش فيها إلا
أهلها صدقني "
قال بإصرار
" بل عليا أن أثبت نفسي وأبني مستقبلي بساعداي .. لن أشعر
بلذة ذلك إلا إن كان من صنع يداي "
وصله صوت تنفسه القوي وقد قال بيأس من عناده
" حسنا والدراسة يا يمان ؟ أين حلم طفولتك يا شقيقي ؟ "
نظر للأسفل وقال بحزن
" ذاك دفنته مع والدتي ... ثم قد أحققه يوما لكن بمجهودي
وبمالي وليس بمنحة من والدك يا أبان "
تأفف قائلا
" ما أعند رأسك يا رجل "
وتابع من فوره
" لا تنس إذا أن لا تتسبب بقطع رأسك ورأس أويس معك
بإخبار أي أحد هناك بأني صديقك وبأن شقيقتك زوجة لابن
شقيقة مطر شاهين "
قال ضاحكا
" لا تقلق فأنا لم أجن لأفعلها "
وصله صوته سريعا
" ماذا عن إيجار المنزل ؟ "
قال من فوره
" دفعت لهم أربعة أشهر مقدما وسيبقى فارغا حتى أنتقل
له فلا يمكنني الخروج من هنا قبل أن تخرج شقيقتي فقد وعدتها
بهذا مرارا ، وباقي المال اشتريت به سيارة متواضعة تركتها هناك
فلا يمكنها السير مسافة بعيدة كهذه وستفيدني في مدن
الجنوب كثيرا "
وصله صوت تنهده قائلا
" ليس أمامي ما أقوله لك سوى حظا موفقا يا شقيقي
ولا تنسى أن تلجأ لي كلما احتجت شيئا رغم أني أعلم بأني
أتحدث مع الجدار ، ولا تضيع أشهر إيجار المنزل عبثا
والوظيفة أيضا وأنت جالس هنا "
قال ضاحكا
" يدي على كتفك خد شقيقتي من هنا ولن تراني بعدها "
ضحك كثيرا وقال
" سأعطيك رقم والدتي إذا ولن يحدث إلا ما تريد هي طبعا
وليس أنت "
ضحك وقال
" لا تعطني إياه إذا ، أخبرني ما قصة أويس ذاك ؟ "
قال من فوره
" اسكت يا رجل قصته أطول من الطريق التي قطعتها ذهابا
وإيابا وأكثر تعقيدا من أفكارك الفاشلة تلك "
ابتسم قائلا
" نلتقي بعد الظهر إذا ؟ "
وصله صوته الباسم فورا
" نلتقي ... وداعا الآن "
*
*
*
ليست تعلم ما الذي أوصلها لحالة الشعور بالرغبة في البكاء
دون توقف ذاك الوقت ! السيارة الفاخرة الواسعة ذات الدفع
الرباعي التي ركبوها من بلدتهم حتى العاصمة حوران أم الحديقة
الرائعة المنسقة التي دخلوها للتو أو ذاك المسبح الذي تلألأت
مياهه الزرقاء بلون السماء الصافية فوقه أم المنزل بطابقيه
المرتفعين أمامهم ؟ .... هل هذا هو عمير اليوم ؟
بل أهذا يكون عمير الأمس !
منذ أكثر من أسبوع وبعد أن سلم بنفسه ورقة طلاقها لوالدتها
لم يروه بعدها ولم يزرهم إلا اليوم وهو يطلب منهم جمع أغراضهم
الخفيفة وثيابهم فقط للانتقال لمنزله ورغم إصرار عمته الشديد
إلا أنه كان أعند منها وقد رفض أن يعيشوا في ذاك المنزل القديم
الضيق المفتوح ولديهم طفلان لن يستطيعا تحمل برد الشتاء
وشمس الصيف بل وكان رافضا بالكلية أن تعيش عمته في
ذاك المنزل بعد اليوم فرضخت له نهاية الأمر ووجدوا أنفسم
فجأة في تلك السيارة الجديدة المسرعة التي سلكت بهم الطريق
المنحدر نزولا نحو عاصمة البلاد في رحلة عبروا فيها طريق جبل
احليل الوعرة بكل سهولة ... حتى أنه لم يتضايق من حديث طفليها
الذي لم يتوقف أبدا طوال الطريق عكس والدهما الذي كان ينتهي
الأمر بشجار طويل بينهمنا ما أن ينطق عبارته الغاضبة الدائمة
( أسكتي المذياعان اللذان أنجبتهما )
فيكون جوابها الغاضب والفوري
( لم أكن لأنجبهما لو لم أتزوجك )
وعلى هذا المنوال كانت تمضي الطريق حتى كرهت الخروج معه
نهائيا وزيارة والدتها في تلك البلدة فالرحلة لم تكن كهذه يوما
حتى أنها لم تشعر أبدا بطولها وقد اختلطت فيها تلك الضحكات
الطفولية الصغيرة بالصوت الرجولي الفخم وضحكاته القصيرة
العميقة وبتعليقات والدتها الضاحكة كل حين وكلما نهتهما عن
إزعاجه قال من فوره مبتسما
( اتركيهما عمتي هما لا يزعجانني أبدا )
بينما اكتفت هي بالصمت تحاول تجنب النظر لكل تلك الجهة
الموجود فيها لأنها كانت تجلس خلف كرسي والدتها التي ركبت
بجانبه ، كان لها أن تتوقع كل ذلك من شخصية رجل كعمير ..
الشاب الذي عرفته سابقا صبورا على تصرفاتها المراهقة من
أعوام لكن ما لم تكن تتوقعه بأن منزله أجمل وأفخم من سيارته
الفاخرة تلك بكثير وبأنه في أحد أرقى أحياء العاصمة !
شعرت بأنها أصبحت لوحدها في المكان فتحركت فورا مجتازة
ذاك المسبح الدائري وتوجهت حيث تسمع ضحكات طفليها
وما أن اجتازت ذاك الباب الزجاجي وجدت نفسها في العالم
الحقيقي للرقي والفخامة ولم تعد تعلم أين تنظر تحديدا ؟
للرده المقوسة المفتوحة على بعضها أم الستائر الفاخرة التي
كانت تزينها ؟ السلالم الأنيق الذي لا تعلم أيوجد في منتصف
المكان أم في طرفه من العالم الغريب المخفي خلفه ! أم كل ذاك
الأثاث الفاخر .. الثريا المتدلية كالنجوم من السماء ... التحف
الخزفية أم اللوحات الجدارية المحفورة فيه ليكون ذاك الجدار
الأبيض الناصع بمثابة إطار آخر لها !!
ما كان يشعرها بالمرض حقا ليس كل ذلك فقط بل والواقف
على بعد خطوات منها موليا ظهره لها ورغم وقوف والدتها
بجانبها إلا أنه تحدث معها وهو على حالته تلك قائلا
" المنزل منزلكم عمتي ... هذا الطابق لكم وتوجد فيه غرف
نوم في الممر الغربي خلف السلالم ، لا أريدكم أن تتصرفوا فيه
إلا كمنزل لكم بالفعل وأي شيء تحتاجونه أخبريني فقط "
راقبت قفاه بحسرة بينما قالت الواقفة بجانبها بحب
" زادك الله من فضله بني لكن ما كان لكل هذا من داع فمنز..... "
قاطعها من فوره وقد اكتفى فقط بإمالة رأسه قليلا حيث الجهة التي
تكون هي فيها من خلفه قائلا بضيق
" عمتي لا تغضبيني منك ، إن نسيت أنتي يوما بأني ابن شقيقك
فأنا لم أنسى أبدا ما فعلته في الماضي من أجلي ولن يطيب لي
عيش في هذا المكان وأنتي تسكنين هناك "
تمتمت والدتها بالدعاء له هامسة بينما استلمت هي مهمة ذرف
الدمعة اليتيمة التي تغلبت عليها بعد كل ذاك الصمود وهي تراقبه
وقد تحرك من مكانه متوجها لذاك السلم وصعد منه بخطوات سريعة
واسعة ، أجل هذا هو عمير الماضي هو ذاته عمير الحاظر لم
تغيره السنين رغم أنه أصبح في الثامنة والثلاثين الآن لكن ذلك لم
يزده سوى نضجا وخبرة ... حتى ملامحه ازدادت حدة وجاذبية
رغم أنه لم يفقد روحه المرحة تلك فهو لازال أغرب رجل عرفته ...
مرحا وقت المزح وشديدا وقت الجد بل ولازال يمنح من حوله
ومن يحبهم كل شيء يملكه وإن كان سيترك نفسه من دون شيء .
انتبهت من شرودها في مكان اختفائه في الأعلى لوالدتها التي
كانت تتحدث معها فقالت محرجة
" آسفة أمي لم أسمعك .... ماذا كنت تقولين ؟ "
ضمت يديها في وسطها قائلة ببرود
" لا يهم ما كنت أقوله بل ما سأقوله الآن وهو أن ما نفقده
يا بثينة علينا أن لا نبحث عنه حين نكون نحن من أضعناه يوما "
نظرت لها بصدمة وقالت
" أمي ما مناسبة هذا الحديث الآن ؟ "
رفعت حفيدتها ذات الثلاثة أعوام والتي كانت تتثاءب دون توقف
وقالت مغادرة بها
" معناه أنه ثمة رجال لا يلتفتون لما تركوه خلفهم أبدا فكيف إن
كانوا هم من تركوهم وكيف إن كان ذاك الرجل عمير "
وابتعدت خلف السلالم حيث الغرف التي تحدثت عنها تاركة
الواقفة هناك تراقبها بنظرات حانقة قبل أن ينتقل نظرها
لأعلى تلك السلالم مجددا هامسة
" لكنه كان يحبني .... أجل يحبني وكان مستعدا لفعل أي شيء
من أجل أن أكون له "
*
*
*
جلست على الكرسي وخلعت حذائها ومددت ساقيها فوق الطاولة
أمامها واتكأت برأسها للخلف مسترخية لترتاح عظامها فكم تعشق
هذه الأوقات التي تغتنمها لتسترخي قليلا فعشرة أيام مرت وهي
تعمل هنا كالنحلة النشيطة أحبت ذلك أم كرهته وترجع للمنزل
مساء منهكة بالكاد تتناول الطعام الذي تشتريه وقت مغادرتها
وتنام كالجثة الهامدة حتى وقت مغادرتهما فجرا ، لم تعرف
حياتها عذابا كهذا ولن تستطيع نكران أنها جلبته لنفسها بنفسها
ولن تلوم أحدا عليه ، لا تصدق أنها هي غيسانة تعمل بل ولنهار
كامل وتأكل وجبة ونصف تقريبا وتدفع ثمنهما من راتبها الذي
باتت تحسب ألف حساب قبل أن تبذر منه أي شيء وتبقى جائعة
لباقي الشهر ! لم تعرف يوما معنى التقشف في أي شيء وأولها
المال ، لم تفكر يوما فيما ستنفق وما ستترك ومعنى أن النقود قد
تنفذ منها دون أن تجد غيرها ، لامت كثيرا شقيقها وعمها
لتركهما لها هنا تحت رحمة هذا الرجل ولامته أكثر منهما على
معاملتها كموظفة بدون وظيفة هنا ليس كخطيبة ولا كشقيقة
لصديقه ولا حتى كمساعدة كما نصت تلك الأوراق ، كم مرة
فكرت في الهرب منه لمكان لن يجدها فيه أحد لكنها ولأول مرة
تفكر في عقبات قرار تفر به من واقعها فبعد أن أوقعت نفسها
في كل هذا بسبب تهورها المرة الماضية باتت تحسب ألف حساب
لأي قرار قد تقرره فهروبها منه معناه حياة بلا مأوى ولا مأكل
ولا وظيفة فمن أين ستوفر كل هذا فالأعمال التي لا تحتاج
لشهادة لا يكفي راتبها طعامها فكيف بسكن ومواصلات ؟
حتى إن عملت بدوامين فلن ينجح الأمر وستجد نفسها في
الشارع بعد أول شهر وستترحم حتى على وضعها هذا .
" جيسي "
تنهدت بضيق ما أن وصلها صوته الرجولي العميق ، ألا يتركها
ترتاح قليلا أبدا ؟ سكرتيرته أمامه ما يريد منها هي ؟ ليست تفهم
لما لا يتعب هذان الشخصان من العمل المتواصل ! ظنت أنه
بنهاية شراء معمل الطباعة ذاك ستنتهي كل تلك الأعمال
الشاقة لكنها لا تراها إلا تزداد سوءا وهي من باتت تتنقل
معه بين الشركة للمعمل لمصنع الورق والأدوات المكتبية .
وقفت بعدما لبست حذائها وتوجهت نحو مكتبه فمد لها بإحدى
الأوراق وقال ونظره على الملف تحته
" اتصلي بالسيد أنريكوا لايتون وأملي عليه هذه القائمة ، رقمه
في دليل الهاتف هناك "
أختذت الورقة منه تمط شفتيها بامتعاظ وأخذت الهاتف وابتعدت
عنهما وجلست مكانها السابق واتصلت بذاك الرجل فعلى الأقل
هذه المرة ليس عليها النزول لأحد طوابق الشركة ، لكن فرحتها
تلك لم تدم طويلا فما أن انتهت من تلك المكالمة حتى وصلها
صوت الجالس هناك
" جيسي ابحثي لي عن آرمان فليس موجودا في قسم المحاسبة "
وقفت متأففة بصوت مسموع ودون أن تهتم لذلك وغادرت من
هناك بخطوات غاضبة لتبحث عن ذاك الرجل الزئبق مجددا !
ليست تعلم لما لا يبقى في مكانه ولما لا يطرده ذاك المدير
الفاشل بسبب تسكعه في أقسام الشركة طوال الوقت ؟ ألا يعلم
أن البحث عن ذاك المعتوه معناه أن تزور جميع الطوابق
والأقسام إن لم تجده سريعا ؟ دخلت مصعد الإدارة وضغطت
فورا زر قسم الاستقبال ، عليها أن تجد طريقة لتتصل بشقيقها
مطر سريعا فهذا الوضع لن تستطيع استحماله أكثر .. لكن هل
ستوافق شرطه للذهاب لبلاده إن أرادت الفكاك من هذا الرجل ؟
حسنا هي لم يعد لديها شيء هنا تبقى من أجله فحتى شقتها
وسيارتها وراتبها الشهري بل وحتى صديقتها الوحيدة قد فقدتهم
وللأبد ، تأففت من نفسها ومن أفكارها فهل ستتنازل فعلا للعيش
في تلك البلاد التي لم تحبها يوم وأيضا عرب .. عرب .. عرب
يحيطون بها من كل جانب هذا غير مدللتهم غسق التي سيخنقوها
بذكر فضائلها ومحاسنها ليوصلوها لمرحلة الموت البطيء وهذا
طبعا إن لم يكن جوابه ورد فعله كعمه حين اتصلت به .
انفتح باب المصعد قاطعا عليها كل تلك الأفكار فخرجت منه
وتوجهت فورا ناحية موظفة معينة خلف تلك الطاولة المقوسة
ووقفت أمامها قائلة بهمس
" باربرا إن وجدت لي آرمان الآن سأجعله يخرج معك الليلة
وبطلب منه هو بنفسه "
انفتحت عينا تلك الفتاة بصدمة وقالت مندفعة
" حقا ؟ "
قالت من فورها مبتسمة
" اقسم بذلك "
تحركت تلك من مكانها فورا قائلة
" أعطني بعض الوقت فقط "
ضحكت بمرح وتوجهت جهة إحدى الإرائك وارتمت جالسة
عليها تنتظر التي تعلم بأنها ستجلب لها مكانه وإن كان تحت
الأرض فذاك الوسيم زير النساء يجتذبهن كالنحل للعسل
وخاصة تلك المغفلة فهي على استعداد لدفع حياتها ثمنا
لأن ينظر لها فقط ولم تخجل أبدا من كشف ذلك أمامها
سابقا ، لم يمضي الكثير من الوقت قبل أن تجدها واقفة
فوقها وقد قالت بلهاث
" إنه في مكتب السيد برايان في قسم التسويق "
وقفت من فورها مغادرة وشاكرة لها بابتسامة فأوقفتها قائلة
" جيسي لا تنسي ما اتفقنا عليه "
قالت مغادرة
" لا لن أنسى وفكري من الآن فيما سترتدينه الليلة "
وغادرت وتركتها مع ابتسامتها الحالمة وصعدت بالمصعد
للطابق الثالث وتوجهت فورا لذاك القسم ووقفت أمام مكتب
رئيسه وقالت بضيق تمسك خصرها بيدها ومحدثة الجالس
على طرف طاولة مكتبه
" أنت ألا تستقر في مكان أبدا ؟ ولما تشتري هاتفا محمولا
إن كنت لن تأخذه معك أينما ستذهب ؟ "
نزل من الطاولة الجالس عليها بقفزة صغيرة وقال متوجها
نحوها يرسم على وجهه ابتسامته الجذابة التي يخطف بها
قلوب النساء بسهولة
" حسنا فقط لا تغضب منا مساعدة المدير "
تبعته بنظراتها الحانقة حتى خرج وسارت أمامه حين أشار
لها بيده باحترام وقالت بذات ضيقها
" لست أعلم لما لم يطردك مديرك حتى الآن وهو كلما طلبك لا يجدك "
دخلت المصعد وهو خلفها وقال مبتسما وقد ضغط زر طابق الإدارة
" لأن السيد كروس يعلم جيدا أي موظف كفؤ أكون فأعمالي
انجزها في أسرع وأقصر وقت والموظفين في القسم يقومون
بالباقي فسيكون مسموحا لي بالتنقل حيث أشاء مالم أهمل عملي
وبحكم أني مدير ذاك القسم فخروجي منه مسموح وفي أي
وقت طبعا "
رفعت حاجبها بمكر قائلة
" هذه المرة لست اجزم بذلك فيبدوا الأمر سيئا جدا "
ابتسمت بانتصار حين رأت نظرته المصدومة المتوجسة وقالت
تلقي بطعمها
" لكن لا تقلق لديا فكرة لامتصاص غضبه ما أن تدخل له "
قال من فوره
" وهي ؟ "
قالت تمسك ضحكتها بشق الأنفس
" الموظفة باربرا في قسم الاستقبال تخرجه ليلا بحجج سخيفة
كمرض والدتها وبأنها لا تعرف أحدا وأنت تعرفه كيف يعامل
موظفيه وكريما مع الجميع وهو متضايق حقا من ذلك خاصة
أنه لديه عشاء عمل مهم فإن أخبرته بأنك ستخرج معها الليلة
وفعلتها حقا فستكون أسديت له معروفا كبيرا سينسى معه
ما يغضبه فورا "
نظر لها بتفكير لبرهة قبل أن يقول بشك
" تعتقدين ذلك ؟ "
حركت رأسها إيجابا فقال
" وكيف سأخبره "
قالت مبتسمة
" اترك هذا لي فسندخل نتحدث عن موعدكما الليلة عمدا
أمامه ، فقط لا يشعر أيا منهما بشيء "
فرك رأسه بألم بسبب ضربها له بالقلم في يدها ورفعه عن
الأوراق تحته ونظر لها وقال بضيق
" أعيديها مجددا يا ابنة مطر شاهين وسأدخل القلم في حدقتك
الزرقاء هذه "
أغمضت عينها تغطيها بأطراف أناملها ونظرت له بالعين الأخرى
فقط قائلة تمسك ضحكتها
" وما ذنب عيني تفقأها لي إن كان دماغك يرفض فهم ما أشرحه
من عشرة أيام يا كاسر يا ابن الكاسر ابن شراع "
جمع الأوراق من تحته ورماها بعيدا عنه عند منتصف الطاولة
البيضاوية المستديرة قائلا بضيق
" لم أعد أريد دروسك السخيفة تلك ... انجليزيتي ممتازة
فاحتفظي بمهاراتك لنفسك "
ضحكت وقالت تقلد صوته في نطق الكلمات
" أندوور تينك "
نظر لها بضيق وقال يقلد صوتها الرقيق
" أندور تييينك ... لما عليا أن أمط الأحرف مثلك لتكون صحيحة ؟ "
نظرت له بضيق قبل أن تحول نظرها جهة الجالس على مبعدة
منهما منشغل بجهازه المحمول أمامه وقالت
" من منا معه حق خالي رماح ؟ "
نظر لهما من فوق الجهاز أمامه وقال مبتسما
" إن واصلت تعليمه لأشهر وليس لعشرة أيام فقط فلن ينطق
الكلمات مثلك لأنك عشت هناك منذ صغرك فلا تتعبي نفسك معه "
وما أن أنهى عبارته تلك أغلق حاسوبه وحمله معه وغادر بكرسيه
الكهربائي جهة غرفته فعادت بنظرها للجالس قربها حين قرب
وجهه ناحيتها وهو يقول بتملق
" هه ... تيبد بروبلي "
مدت وجهها له أيضا وقالت بسخرية تشير لوجهه بسبابتها
" وإن يكن كتبتها صحيحة فأنت تنطقها بشكل خاطئ ...
وحتى هذه أيضا "
نظر لها باستياء وكان سيتحدث لولا قاطعه صوت هاتفها
الموضوع على الطاولة فرفعته فورا فهذا صوت رسالة وصلت
لبريدها وهي تنتظر أن تتذكرها عمتها غيسانة من نفسها برسالة
ولم تفعلها حتى الآن ، فتحت الرسالة التي وصلتها ونظرت بصدمة
لتلك الصورة وذاك الرجل الأشقر الذي كان يمسكه رجلان من
الشرطة من ذراعيه ويخرجانه من مكان يبدوا بأنه حانة أو ملهى
ليلي فشعرت بكل عصب في جسدها يرتجف بشدة وبالدموع الحارة
تملأ مقلتيها الزرقاء وهي تنظر لذاك الوجه وكأن الزمن عاد بها
تلك اللحظة لتلك الليلة والبلاد بل والملهى والموسيقى والصراخ
الذي باتت تشعر بهما يضربان أذنيها وقلبها تلك اللحظة ، ارتجفتا
يديها الممسكتان بالهاتف ونظرت للمكتوب أسفل تلك الصورة من
بين دموعها ( يبدوا عليك البحث عن حبيب آخر ... بل يبدوا أن
مكالمتك له تلك الليلة أرسلته للسجن )
ثم وفي سطر آخر أسفله بقليل ( قد يهمك أن تعلمي بأنني كنت
في مهمة في ذاك الملهى تلك الليلة وبأوامر من والدك من أجل
هذا الرجل وشريكه تحديدا لأنهم ممن يدمرون بلادك حاليا (
قلبت الهاتف على الطاولة بقوة وخبأت عينيها في كفها ولم تستطع
منع الدموع التي تقاطرت من عينيها تباعا وهي تدخل في نوبة بكاء
حادة فما به معها الآن وهو من لم يحاول الاتصال بها ولا مراسلتها
منذ تلك الليلة ؟ بل ما الذي يريده تحديدا ! وقف الجالس بجانبها
فورا وحضن كتفيها قائلا بقلق
" تيما ما بك ؟ ما هذا الذي يبكيك ؟ "
لم تجبه ولم تستطع قول شيء بسبب العبرات التي كانت تتابع
بين أضلعها وحلقها وهو يحاول التحدث معها لحظة ما انفتح باب
المنزل ودخل منه الذي أغلقه خلفه وتوجه نحوهما فورا حتى وصل
عندهما ووضع يده على كتفها قائلا بتوجس
" تيما ما بك ؟ "
وقفت وغادرت من هناك راكضة وصعدت السلالم تمسح دموعها
التي ترفض التوقف فنظر للكاسر وقال
" ما بها ! ما يبكيها هكذا ؟ "
حرك الكاسر رأسه بعدم فهم قائلا
" لا أعلم ! ثمة رسالة وصلت لهاتفها جعلتها تبكي هكذا ورفضت
أن تجيب "
نظر رعد للهاتف الذي تركته على الطاولة ثم رفعه ونظر لتلك
الصورة وما كتب تحتها قبل أن يرفع نظره بالذي قال بفضول
" ماذا فيها ؟ "
دس الهاتف في جيب سترته قائلا
" لا شيء سيء ... لم يتأذى أحد تعرفه "
وتحرك من هناك جهة السلالم من فوره تتبعه نظراته المستغربة
قائلا
" هيه رعد ما الذي أبكاها إذا ؟ "
لكن سؤاله لم يلقى أي جواب من الذي صعد يقفز العتبات
مختصرا لها وسلك الممر مسرعا حتى وصل باب غرفتها وطرقه
عدة طرقات قبل أن يفتحه ليقع نظره فورا على التي كانت تضم
ركبتيها مخبئة وجهها فيهما تبكي بصمت لا يسمع سوى صوت
نشيجها المنخفض فوقف مكانه مترددا للحظة وهو ينظر لحجابها
المرمي قربها وشعرها الأسود مثناثرا حول كتفيها وظهرها
وخصلات منه قد نزلت على ذراعيها وركبتيها ، يعلم بأن الأمر
تجاوز منه لكنه لا يراها سوى ابنة لشقيقته التي لولا اختيارها
بنفسها من أعوام طويلة أن تتحجب عنهم ما أن علمت بأنها
ليست شقيقتهم ما كانوا ليهتموا بأن تبقى مكشوفة الشعر أمامهم
وهي من تربت معهم وحملوها على أكتافهم طفلة ، أما الآن فلا خيار
أمامه سوى أن يدخل لتلك الصغيرة الباكية المنكمشة على نفسها
فعليه أن يعلم سر تلك الرسالة والرجل في الصورة خاصة بعدما
حكته له سابقا وكان مبهما وناقصا في نواحي عدة ، أغلق باب
الغرفة واقترب منها وجلس أمامها على طرف السرير وقال بهدوء
" تيما ما هذا الذي يبكيك ؟ عليك قول الأمر لي حالا "
انتظر قليلا على أمل أن تجيب لكنها لم تفعل كما لم يتوقف
بكائها ولم ترفع رأسها فأخرج هاتفها من جيبه وقال بحزم
" تيما ارفعي رأسك وتحدثي معي أو أخذت هذا الهاتف لوالدتك
حالا "
قفزت حينها مرتجفة من مكانها وأمسكت بكم سترته جهة ذراعه
وقالت ببكاء
" لا خالي رعد أرجوك كله إلا والدتي ، إن كانت مغادرتي معك
لم تسامحني عليها بسهولة فكيف بمصيبة كهذه ؟ "
رفع يده ومسح الدموع من وجنتيها قائلا
" لن تعلم شيئا إذا أخبرتني بكل ما حدث يا تيما ، من هذا الذي
في الصورة وما علاقة الأمر بالشخص الذي حدثتني عنه سابقا ؟ "
وتابع بجدية ناظرا لعينيها الزرقاء الدامعة حين لم تعلق
" تيما التكتم عن بعض الأمور قد يوصلنا لمشاكل أعظم من
مشكلتنا الأساسية "
مسحت بظهر كفها عيناها الدامعة وأنفها الصغير وهمست
ببحة بكاء تتجنب النظر لعينيه
" والحديث عنه أيضا لن يجلب حلا له بل مشاكل أكبر لي "
تنهد بصبر وقال بالكثير من التفهم
" لكن الأمر لن يصل لأحد ليتحول لمشكلة يا تيما ثقي بي ،
هل لذاك الشاب علاقة بالأمر ؟ "
أنزلت رأسها تخفي ملامحها عنه بغرتها المقصوصة هامسة ببكاء
" بل هو من أرسل هذه الرسالة "
نظر لها باستغراب قبل أن يمد يده لذقنها الصغير ورفع وجهها له
وقال ناظرا لعينيها الباكية " ألم تخبريني بأنك لم تلتقيه مجددا
ولا تعرفين شيئا عنه ! "
زمت شفتيها المرتجفة الباكية قبل أن تحررهما قائلة والدموع
تتقاطر من عينيها
" بلى لكني التقيته هنا ولا يمكنك أن تتصور من كان "
دس يده في جيبه وأخرج لها منديلا ومده لها قائلا
" هيا امسحي دموعك وتوقفي عن البكاء وأخبريني بكل شيء
من البداية وأعدك أن لا أوبخك ولا مجرد توبيخ فالأمر قد
مضى ولا يمكننا العودة للوراء لتغييره "
أخذته منه ومسحت دموعها قبل أن تنزل يديها لحجرها تضمهما
وذاك المنديل فيها وبدأت بسرد ما حدث معها منذ تلك الليلة
متجنبة ذكر هوية عمتها كما تم تحذيرها سابقا وبأن من عرفتهم
هناك لا تتحدث عنهم هنا أبدا كاحتياط حفاظا على حياة أتباع
والدها هناك خاصة أنه كان يعيش في تلك البلاد متنكرا .
ما أن انتهت من سرد حكايتها مسحت عيناها ودموعها مجددا
لحظة أن وصلها صوت الجالس أمامها قائلا بحيرة
" ابن عمة والديك !! ما أغربها من مصادفة يا تيما ! لكنه
حقا فعل شيئا يعجز اللسان عن وصفه درجة أن يضحي بحياته
لينقدك ! ماذا كان سيحدث إن لم يكن هناك ؟ "
أمسكت فمها ولازالت تنزل رأسها للأسفل وقالت ببكاء
" لست أعلم ماذا كان ليحدث حينها ؟ ليتني مت وما فعلت ما فعلته
فها أنا أجني العقاب مضاعفا "
أمسك كتفيها بيديه وقال بجدية ناظرا لملامحها التي لا يظهر منها
إلا القليل بسبب ذاك الشعر الحريري والغرة المتدرجة
" أنا أحترم عدم ذكرك لسبب فعلك كل ذلك رغم أني أخشى
عليك من التستر على تلك المرأة يا تيما ، وتوقفي عن البكاء
هيا فمخاوفك جميعها لن تتحقق أبدا "
رفعت رأسها ونظرت له وقالت باكية
" كيف وأنا أخبرتك بكل ما قال وفعل ؟ لست أعلم ما به
حظي هكذا ! "
أبعد يديه عنها وقال مبتسما بسخرية
" من تلك الناحية عليك أن تكوني مطمئنة فذاك الشاب لن يخرج
سرك من صدره أبدا "
نظرت له باستغراب ودمعتها تتدلى من رموشها الكثيفة فمسحها
بطرف إبهامه وقا مبتسما
" لو أراد إخبار والدك لفعلها سابقا بل وما كان ليمنعك من فعلها
وهو لن يتضرر بكشف الحقيقة أبدا لكنه يرى أن انكشافها هو الأمر
الذي لن يكون في صالحه "
همست بحيره
" وما الذي سيستفيد منه ؟ "
خرجت منه ضحكة صغيرة وقال
" لن يجد حينها ما يعاقبك به على آلامه بسببك ... لا يفهم الرجال
أحد مثل الرجال أنفسهم يا تيما "
حركت رأسها بعدم استيعاب فأخرج هاتفه من جيبه قائلا بابتسامة
" حسب علمي فوالدك في فزقين اليوم من أجل اجتماع منظمة النفط
وسيكون هدفنا معه فهو ظهر برفقته في جميع رحلاته السابقة داخل
البلاد وفي جميع نشرات الأخبار فسأريك دليل ما قلت الآن "
نظرت له بحيرة وترقب وهو يتصل بوالدها ثم يضع الهاتف
على أذنه وقال بعد وقت
" مرحبا يا زعيم ... يبدوا أنك في السيارة هل أنت عائد لحوران ؟ "
أشار لها بإبهامه مبتسما ومؤكدا لها بأن خطته تسير في الطريق
السليم فمسحت عيناها وأنفها ونظرت له بانتباه ترعي سمعها حتى
لصوت والدها الخارج من الهاتف منخفضا وهو يقول
" أين أنت كلما وصلت لمكان هربت أنت منه قبل وصولي ؟ ثمة
ما عليا محاسبتك عليه وعسيرا أيضا "
ضحك رعد وقال
" أخفتني يا رجل ... أشم رائحة ابنة عمك في الموضوع فلا مشاكل
ستأتيني منك إلا من رأسها ؟ ثم أنا من له حساب عسير معك فتحرك
أو دخلت مدن ثنان بنفسي وأخرجت ما يخصني من عندهم وخرجت
وتصرف أنت معهم لاحقا "
خط بعدها بطرف ظفر سبابته جهة لاقط الصوت في هاتفه
وغمز للجالسة أمامه ثم أبعد الهاتف وقال
" مطر افتح مكبر الصوت لديك هاتفي اليوم يعاني من مشكلة
ولم يعد يمكنني سماعك جيدا "
نظرت له بصدمة ولابتسامته الماكرة حين فهمت فيما يفكر ويخطط
وهو اسماع شخص ما معه في السيارة ما سيقوله ! ولها أن تتوقع
جيدا من يكون ذاك الشخص فأشارت له بسبابتها رافضة فضحك
بصمت وأمسكها لها وهمس مبعدا الهاتف
" ثقي بي يا تيما سرك لن يكتشفه أحد "
نظرت له بعبوس وهو يترك يدها قائلا لمن في الطرف الآخر وقد
أعاد الهاتف لأذنه
" أجل هكذا أفضل ... أخبرني متى سأدخل لمنزل شقيقتي ولا أجد
ابنتك فيه ؟ هل قررت تركها عندها هنا أم ماذا ؟ لن أضمن لك
أن لا يفسدا الكاسر ورماح طباعها "
" أنت من سيحاسب حينها "
ضحك فورا وقال
" وما ذنبي في ذلك أيضا ؟ ولعلمك لست مسئولا عن فكرة
حضورها حفل الجمعية مع والدتها فإن كانت تلك نفخ لي رأسي
خاطبيها فكيف بابنتها زرقاء العينين "
ضحك بصمت على شكلها المصدوم ووصلها صوت مطر قائلا
" لا تزد من رصيد مساوئك لديا يا ابن شراع "
قال مبتسما وغامزا للجالسة أمامه
" زوجني إياها إذا ... صحيح أني أكبر من والدتها لكني أصغر منك "
ولم يستطع امساك ضحكته بسبب شكل الجالسة أمامه حتى أنها
بسبب ضحكه لم تسمع ما قال والدها حتى قال رعد مبتسما
" ها هي جالسة أمامي تبتسم لي ولم تمانع أما كلمة خالي سأنسى
أنها قالتها سابقا لا مشكلة "
أمسك يدها التي مدتها لتأخذ الهاتف منه ضاحكا ثم قال
" أجل سأراه بعد ساعتين وسأكون هناك المكان ليس بعيدا
عن هنا ... وداعا "
أنهى الاتصال معه ونظر مبتسما للتي ضربت فخذها بقبضتها
قائلة باستياء
" أهذا هو ما ستجعلني أفهم به كلامك السابق ؟ أنت تورطني
أكثر وتضع حولي دائرة حمراء جديدة "
أشار بأصابعه بطريقة العد التصاعدي قائلا
" هي خمس ثوان فقط ... واحد ... اثنان ... ثلاثة ... أر.... "
وقطع عده صوت رنين الرسالة التي وصلت هاتفها مما جعل جسدها
ينتفض بشدة ورمته جهته لا شعوريا قائلة
" خذه لم أعد أريده "
ضحك كثير ورفعه وفتح الرسالة التي وصلت منه
( قد يعنيك أن تعلمي بأن صورة آخر امرأة ظهرت معه ستنزل في
جميع الصحف فتمني من الله أن لا تكوني الأخيرة )
عاد للضحك مجددا ما أن قرأها ثم مد لها الهاتف قائلا
" انظري ها هو الدليل "
أخذت الهاتف منه وقرأتها ثم رفعت عيناها التي امتلأت بالدموع
مجددا له وقد عبست ملامحها الجميلة منذرة بنوبة بكاء جديدة
فشد أنفها وقال مبتسما
" هل علمت الآن معنى أن يعاقب الرجل سبب آلام قلبه تحديدا ؟ "
تدحرجت دمعة من عينها اليمنى وهمست ببحة بكاء
" وما هذا الألم والعقاب ! لا أرى إلا أني أنا من نال كل ذلك ؟ "
مسح تلك الدمعة بسبابته عن خدها وقال مبتسما
" اتركينا من هذا الآن وما عليك فعله من الآن وصاعدا أن لا تجيبي
على رسائله مهما كتب فيها ، وكوني أكيدة من أنه هو من سيحمي
سرك وبقوة كي لا ينكشف فتجاهليه تماما ولا تظهري له خوفك من
انكشافه وابقي على موقفك السابق وستري بنفسك ما ستتجه
له الأمور "
وقف بعدها وعيناها الدامعة معلقتان به ترفع رأسها ووجها له وقد
تابع بجدية داسا يديه في جيبي بنطلونه
" لكن عليك أن تعلمي يا تيما بأنه قد يكون ثمة وقت ستحتاجين
فيه لقول الحقيقة له لأن التستر على تلك المرأة وكانت من
تكون قد يكون ثمنه قاس جدا وأنتي من سيدفعه لباقي عمرك
فتلك المرأة لم تفكر فيك بل بنفسها فقط فإن احتاج الأمر يوما
لأن تكوني أنانية مثلها فافعليها وأنقذي نفسك وإن كنت ستزجينها
في السجن وليس توريطها في غضب والدك منها فقط "
وغادر ما أن أنهى حديثه مغلقا الباب خلفه تراقبه نظراتها الحزينة
العابسة تشعر بأنه رماها في متاهة ألغاز كبيرة وغادر ، وما هي إلا
لحظات وانفتح باب الغرفة بقوة ودخل منه الكاسر وسحبها من يدها
قائلا
" تعالي يا بكاءة لتختاري معي ما سألبسه في حفل الغد "
*
*
*
مررت قلم الحبر على شفتها تنظر بضيق لصفحات الكتاب التي
باتت جميعها متشابهة فهذه هي المشكلة التي تواجهها دائما إن
تعقدت أمامها مسألة لا تفهم شيئا بعدها أبدا ورغم أنها تدرس في
هذه الجامعة مند حوالي الأسبوعين وقد التحقت بدورة تقوية
مسائية من عشرة أيام وتحسنت أمور دراستها كثيرا خاصة
بمساعدة صديقات كين إلا أنها لازالت تقع في مثل هذه المعوقات ،
بقي أمامها أسبوع واحد وتنتهي دورة التقوية ولن تجد بعدها
من قد يفيدها في كل هذه المسائل ويساعدها فيها ، أغلقت الكتاب
ووضعته على الحقيبة في حجرها وأمسكت بالآخر تجلس في ساحة
الجامعة وهو مكانها المفضل والذي تختاره حتى عن المكتبة الضخمة
العالمية الموجودة فيها فهي تفضل استعارة الكتب والجلوس هنا
فوق بساط الأرض الأخضر وسط الهواء النقي وحيث ثمة تجمعات
كثيرة ومتفرقة للطلاب لكن الهدوء كان السمة الغالبة على المكان
لاتساعه وتباعد الموجودين فيه ، لم تبني صداقات عميقة مع الطلبة
هناك رغم أنها كانت تندمج بسهولة مع المجموعات في كتابة التقارير
والبحوث الأسبوعية لكنها لم تشكل صداقة مع أي منهم ... كانت
ترفض مرافقة الشبان وبكل أدب بينما الفتيات لاحظت أنهن لا يبدين
أي استعداد لفعل ذلك ما لم يقدم الطرف الآخر عليه أي إن رغبت
أنت بذلك فعليك طلبه وليس نحن من يعرضه عليك وهي استساغت
ذلك فأي طالب يدخل تلك الكلية لن يفكر في شيء أكثر من دراسته
وتفوقه وأن يجتاز العام بنجاح فلا مكان للفاشلين المستهترين هناك .
ليست تعلم إن كان الجميع مثلها لكنها ترى وضعها المزدحم فوضوي
جدا فهي بالكاد تجد وقتا لتهتم بأي أمر من أمورها السابقة فما أن
تغادر من الكلية تلتحق بدورتها المسائية ولا ترجع للمنزل إلا مساء
وسيكون لديها الكثير من العمل بخصوص دراستها لتنجزه ثم تنام
ويبدأ بعد ذلك يومها من جديد ، ساندرين تدرس في كلية الطب
و تعمل في حقول منظمة الإغاثة وعضو في نادي رياضي لكنها
تراها تجد وقتا كثيرا لتتسلى وتسلي نفسها ولتخرج وتتنزه أما
هي فكانت وكأنها تهرب فعلا من وحدتها .. من أن تختلي بنفسها
ومن أن تجد وقتا لتفكر في أي شيء لم يعد .. أو لم يكن يوما لها ..
أجل لا يمكنها أن تنكر أنها تهرب دائما من التفكير فيه وفي زيارته
الأخيرة وفي حضنه وقبلاته المثيرة تلك بل وتهرب حتى من
استعادة ملامحه ورائحة جسده والشعور به ، فهو منذ زيارته
تلك لم تراه مجددا لم يتصل بها ولم يراسلها وما عادت تتوقع
ذلك منه فدراستها استقرت تقريبا ووفر لها كل ما تحتاجه كما
يرى ويعتقد ولولا رسالتها له ذاك اليوم وشجارهما وقت اتصاله
ما كان ليزورها ولا لتراه أبدا وتستبعد أن يكون لديه وقت أساسا
ليفكر فيها فهل سيجد وقتا ليقرر رؤيتها فيه ؟ وحتى إن وجد ذاك
الوقت فلن تتوقع أبدا أن يخصصه لها أو أن يرغب في ذلك من أساسه .
تأففت وأغلقت الكتاب الآخر ووضعته على السابق في حجرها فها
هي النتيجة سافرت بأفكارها له فورا وبكل سهولة بل وفي ثوان
معدودة استطاع سرقتها من كل شيء حولها .
رفعت نظراتها المتوجسة بالساقين الطويلتين أمامها والملتفتان
ببنطلون أسود أنيق حتى وصلت لذاك الرأس ذو الشعر الأسود
الذي حجب الشمس عنها فابتسمت ما أن عرفت هويته قائلة
وقد عادت بنظرها للأسفل " مرحبا كين "
انحنت تلك الساقين وجلس صاحبها أمامها وقد نزع الحقيبة
الشبابية السوداء التي التف حزامها حول صدره ووضعها بجانبه
وقال مبتسما
" رأيتك أكثر من مرة تجلسين هنا لكني كنت دائما منشغلا
بفعل شيء ما يشغلني عن الاقتراب منك ، كيف تسير أمور
دراستك هنا ؟ "
نظرت ليديها ولحركة أصابعها على الكتاب في حجرها وقالت
" جيدة ... إنها تسير بشكل جيد حتى الآن ... شكرا لما قدمته
من أجلي فصديقاتك قمن بالواجب معي حقا "
وصلها صوته المبتسم فورا
" ولما الشكر ؟ ليس سوى شيئا بسيطا جدا ، انتظرت أن
تزوري مكتبنا لطلب ما هو أكثر وأهم من ذلك لكن يبدوا بأنك
استقلالية كثيرا أو أنك لازلت تخجلين مني ماري "
رفعت رأسها له وقالت مندفعة
" ماريه "
ضحك من فوره وقال ممررا أصابعه في شعره الأسود
المصفف بعناية
" حسنا ماريه أنا فقط أناديك كما يفعل الطلبة في دفعتك
ولم أكن أعلم أنك لا تتقبلين اسم ابنة خالتي أبدا "
هربت بنظراتها منه محرجة وقالت
" آسفة لم أقصد إهانتك أو إهانتها لكني حقا افضل أن يناديني
الجميع ماريه "
شبك يديه مستندا بمرفقيه على ركبتيه يجلس متربعا أمامها
وقال مبتسما
" بإمكانك جعل الجميع يناديك به فكثر هم من يختصرون
أسمائهم في هذه البلاد أو يغيرونها لما يشابهها ، هم لا يتسمون
بالعناد في مثل هذه الأمور فما أن تبدي رغبتك في مناداتك
بطريقة ما سيبدي الجميع استعداده لفعل ذلك "
رفعت خصلات شعرها خلف أذنيها وقالت بهدوء " أنا حقا آسفة
قد أعتاد ذلك يوما ما ويصبح شيئا آخر عليا التعايش معه "
ابتسم الجالس أمامها مدققا على ملامحها الجميلة وقال
" يبدوا لي أن وضعك لا يعجبك ماريه ؟ هل ثمة مشاكل تواجهك
مع زوجك ؟ "
رفعت نظرها له وقالت فورا
" لا ... أعني الأمور تسير على ما يرام ونحن متفقان مسبقا
على وضعنا وظروف كلينا "
نظر لأصابعه حاني الرأس قليلا قبل أن يعود بنظره لها قائلا
" أجل لكني ظننت أ.... "
هربت بنظرها منه وقالت مقاطعة له وليبتعد عن الموضوع بأكمله
" كنت أرغب حقا في زيارة مكتبكم ذاك ورؤية نشاطاتكم الطلابية ،
أتمنى أن أجد وقتا لفعلها قريبا "
ابتسم الجالس أمامها وقال
" سيكون لديك الوقت الكافي إن استقطعت من وقت مغادرتك
القليل فيبدوا أنك تغادرين فور انتهاء محاظراتك هنا "
نظرت حينها للساعة في معصمها ووقفت ترفع كتبها
وحقيبتها قائلة
" أجل كاد الوقت يسرقني هنا عليا العودة للمنزل الآن "
وقف أيضا وأدار حزام حقيبته حول صدره يلبسها مجددا قائلا
بابتسامة
" كنت أرغب في وقت أطول نقضيه معا بما أنك خرجت مبكرة
لكنها لن تكون الأخيرة بالتأكيد ، يعجبني أسلوب كتابتك في
التقارير وأتمنى فعلا أن تجربي كتابة المقالات سيكون لك سيط
كبير ومميز في المجلة الطلابية وبين الجميع ، ذاك سيساعدك
حتى مع أساتذتك حين يصبح اسمك متداولا لدى الجميع "
نظرت للكتب ومذكراتها في حضنها قبل أن ترفع نظرها به مجددا
قائلة بابتسامة
" لست أعلم إن كنت سأجد الوقت الكافي أو القدرة على فعل ذلك
لكني سأحاول بالتأكيد "
ابتسم لها ابتسامة جميلة تشبه وسامة ملامحه واسترخائها
وأمسكها من مرفقها وقال سائرا بجانبها وقد أبعد يده عنها
" أنا أيضا سأغادر الآن يمكننا السير معا حتى الخارج "
وتابع مبتسما وهما يقطعان ساحة الكلية الواسعة
" أخبريني ما أخبارك وشقيقتي المجنونة تلك ؟
لابد وأن تكوني تعلمت منها الكثير عن طرق الاستمتاع بحياتك "
ابتسمت من فورها قائلة
" ليس كثيرا لكن ما رأيته يكفي لأن أكون متهورة أحيانا "
ضحك من فوره وقال وهما يجتازان مجموعة طلبة قرب
مدخل الكلية
" إذا أنتي لم تعرفيها جيدا بعد "
وبدأ يسرد عليها بعض قصص طفولتهما ونجح في إضحاكها
مسافة سيرهما خارجان قبل أن تموت تلك الابتسامة وقبل أن
تشعر بأنه أصبح يبتعد عنها وبصوته يتلاشى تدريجيا بل
ولم تعد تشعر بوجوده قربها ولا أي شيء أو شخص آخر
وهي تنظر للواقف أمامهما قرب مواقف السيارات الخاص
بالجامعة .. صاحب ذاك الطول المتناسق مع جسده المليء
بالعضلات والشعر الأسود الفاحم الكثيف تحركه النسائم الخفيفة
للخلف بسهولة رغم قصره .. النظرة الحادة القوية والوقفة
الواثقة يدس يديه في جيبي بنطلونه الجينز مبعدا بحركته تلك
طرفي سترته البنية الأنيقة للخلف ليبرز ذاك الخصر النحيل
والصدر العريض الملتف بقميص ضيق يظهر أكثر مما يخفي
من معالم ذاك الجسد المتفجر رجولة .
كانت نظراتها معلقة به وخطواتهما تقترب ناحيته ببطء بينما
كانت نظراته الحادة مركزة على شخص واحد وشيء واحد
حتى وصلا عنده ولم يكن ذاك الشخص سوى الذي لم ينتبه
لوجوده ولم يتوقف عن الحديث إلى ذاك الوقت وقد وقفا أمامه
تماما وتلك الأحداق الذهبية والنظرات الحزينة معلقة بملامحه
وبنظراته للواقف بجانبها وكأنها ليست في ذاك المكان
وليس يرى أحدا سواه هناك وقد قال كين مبتسما
" اوه تيم كيف حالك يا رجل ؟ أنرت الجامعة بل وكامبريدج بأكملها "
كان رد فعله الوحيد أن همس ببرود ونظره لم يفارقه
" شكرا "
بينما تابع كين حديثه قائلا
" كنت أبحث عن طريقة لمعرفة رقم هاتف قاسم وجيد أني
التقيتك فلابد وأ.... "
قاطعه قائلا بجمود
" لا يمكن التواصل مع أحد ممن كانوا هنا "
مرر أصابعه في شعره وقال مبتسما
" حسنا لا بأس "
نظر بعدها للواقفة بجانبه ليسرق نظراتها المعلقة بتلك
الملامح الحادة المشدودة رغم وسامتها حين قال مبتسما
" أنتظر مقالك الأول ماريه ومتأكد من أنه سيتم قبوله فورا
فقط فكري في المحاولة "
نظرت للأسفل قبل أن ترفع نظرها بالذي تحولت نظراته
لوجهها وهربت بنظرها منه أيضا وهمست ترفع خصلات من
غرتها خلف أذنها
" لا أعلم .. سأفكر في الأمر "
غادر حينها من عندهما قائلا بابتسامته ذاتها
" جيد الوقت أمامك طويل ... وداعا الآن "
وغادر من فوره مبتعدا فرفعت نظراتها بالواقف أمامها والذي كان
يلتفت برأسه تتبع نظراته من اجتازه للتو مغادرا فرطبت شفتيها
بطرف لسانها سريعا وكانت ستتحدث لكن ما أن عاد بنظره
لها طارت كل تلك الأحرف وتبخرت الكلمات ليستلم هو المهمة
وقد قال بجمود
" ماريا هل أفهم ما يعني طلبه ذاك منك ؟ "
اتسعت عيناها بصدمة وبالكاد وجدت صوتها حين همست
" هو كان ير.... "
قاطعها من فوره وبحزم
" لا تنشغلي عن دراستك بتلك النشاطات السخيفة ماريا ، طلبة
الماجستير يجدون وقتا ليضيعوه في تلك الأمور لكن أنتي لا "
زمت شفتيها قبل أن تخفض رأسها ناظرة لمذكراتها في حضنها
وهمست ببرود
" لم أكن أريد حقا إحراجه بر.... "
قاطعها فورا
" أعلم ما كنت تريدين "
رفعت نظرها له وقالت حانقة
" تيم متى ستتركني انهي مرة عبارة أقولها ؟ "
أخرج يديه من جيبي بنطلونه وشدها من يدها قائلا بضيق
" ها قد أنهيتها الآن ، تحركي لأوصلك للمنزل "
سارت خلفه بخطوات شبه راكضة حتى وصلا لسيارة جاكوار
بيضاء فاخرة وأنيقة وفتح لها الباب بجانب السائق فنظرت
حولها في المكان قبل أن تهمس
" لكن سيارتي !! "
وصلها صوته البارد وقد تحرك حولها
" أرسلتها للمنزل .. هيا اركبي لأوصلك "
نظرت له بصدمة وهو يجتازها .. أرسلها للمنزل ... !!
لما يوصلها له إذا ! بل لماذا يرسل سيارتها ثم يلحقها بها ؟
لحقته بخطتوتين سريعتين وأمسكت بذراعه ولفته جهتها قائلة
" تيم ما بك ؟ "
حدق بعينيها للحظة وبصمت قبل أن يتحرك مجددا ولف حول
السيارة وفتح الباب وركبها مغلقا إياه خلفه ونظراتها الحانقة
تتبعه ، ما يقصده بما فعله الآن ! أرسل سيارتها أي أنه لم يكن
يخطط لأخذها للمنزل لكان تركها تذهب بها بل لم يكن ليأتي
أساسا حينها ؟ أيفعل معجزة كتلك ثم يتراجع عنها الآن
ودون سبب ! حضنت كتبها ومذكراتها بذراعيها ولم تتحرك
من مكانها احتجاجا على تصرفه ذاك فوصلها صوته من داخل
السيارة وبنبرة حازمة
" ماريا تحركي أو غادرت وتركتك "
تجاهلته ولم تتحرك من مكانها فصرخ هذه المرة بحدة
" ماريا لا تجعليني أريك وجهي الآخر "
شدت أسنانها بقوة وغضب متأففة وتحركت جهة الباب المفتوح ..
حمقاء لما تهتم أساسا بما كان يريد فعله ؟ ما كان عليها أن تظهر
اهتماما بأن فكر بأخذها معه لأي مكان كان ... كان عليها أن تتجاهل
كل ذلك ولا تسأله عنه ولا مجرد سؤال لكنها مغفلة متسرعة دائما
ومن الجيد أنها لم تسأله بكل حمق أين كان سيأخذها ولن تستبعد
حينها أن يسخر منها أو أن يصدمها بجواب قاتل فليست تستبعد أبدا
أن يكون كان ينوي أخذها لطبيب لفحص نظرها أو اختبار ذكائها
لتدرس بشكل أفضل فهو لا يبدي اهتماما سوى بذلك ، ركبت
السيارة مغلقة الباب خلفها وتحرك من هناك فورا فاكتفت بالنظر
جهة النافذة مكتفة ذراعيها لصدرها ، الغبي فقط من لا يمكنه فهم
أنه قادم لأخذها لمكان ما وحدهما ولن يرجعا في وقت تكون فيه
الجامعة مفتوحة لأخذ سيارتها وهو يعلم جيدا أنها تفهم كل هذا
لذلك لن تسأله أكثر .. لن تهتم وإن ظاهريا .
انتظرت أن يتحدث وأن يقول شيئا وإن ليوضح سبب تبدل مخططه
فجأة لكنها اكتشفت سريعا أنها أكثر حمقا مما كانت تتخيل فقد وضع
السماعة في أذنه وأمضى الطريق من كامبريدج للندن وهو يخرج من
مكالمة يدخل في أخرى وهي على وضعها ذاته لم تغيره ولم تزح
نظرها عن النافذة لا تريد رؤية شيء منه ولا يديه وأصابعه
الملتفتان حول المقود يكفيها سماع صوته ورائحة عطره ...
حمقاء بالفعل تعشق جميع تفاصيله بينما يعاملها هو بتجاهل
ولا مبالاة وليست تفهم حتى الآن لما لا تكون مثله ؟ لماذا تفقد
صوابها ما أن تراه أمامها ؟
ما أن توقفت السيارة أمام باب المنزل فتحت بابها ونزلت فورا
وضربته مغلقة إياه وتوجهت للباب ودخلت دون أن تلتفت للخلف
ولا بطرف عينها ، وقفت منتصف الطريق وسمحت حينها لنفسها
بفعلها والنظر للخلف حين سمعت صوت سيارته تغادر مسرعة
وعبست ملامحها متمتمة بأسى
" لو أفهم لما أتيت ؟ كنت واصلت مسيرة اهمالك وتجاهلك لي "
تحركت مجددا وتابعت سيرها جهة باب المنزل تمسح عيناها
بظهر كفها بقوة فلن تسمح لدموعها بالنزول أبدا ، ما أن فتحت
باب المنزل حتى سحبتها تلك اليد جهة ممر غرفتها وقد قالت
صاحبتها ضاحكة
" أجمل شيء فيك أنك تصلين على الوقت تماما "
تبعتها شبه راكضة بسبب سحبها لها وقالت
" ساندي ظننتك في الجامعة ؟ "
قالت وهي تفتح باب غرفتها
" لديا محاظرة واحدة اليوم ماريه أم نسيتي ؟ "
أجل كيف نسيت أنها تدرس ثلاث مواد فقط وفي ثلاثة أيام في
الأسبوع ، دخلت خلفها ووقفت مكانها تنظر باستغراب للصندوق
المخملي مستطيل الشكل الموضوع فوق سريرها على صوت
ساندرين قائلة بحماس
" وصل منذ قليل .. إن كنت تأخرت أكثر لكنت فتحته فلم أستطع
الانتظار لمعرفة ما الموجود في داخله "
نقلت نظرها منه لها وقالت باستغراب
" من أحظره ؟ "
ضحكت من فورها وقالت
" ساعي البريد ... موظف التوصيل طبعا "
قالت بحنق
" كنت أعني من أرسله لي ؟ "
جلست على السرير وقالت تمسك غطاء العلبة
" لم أتركه يرحل دون تحقيق طبعا وقال أن شابا يدعى
تيموثي فالكون طلب إيصاله لشقته ثم طلب جلبه إلى هنا "
نظرت له بصدمة وسرعان ما امتلأت عيناها بالدموع
وقد تذكرت أول مكالمة أجراها في السيارة وقد طلب فيها
من أحدهم نقل الغرض الذي تم إيصاله لشقته لعنوان آخر
وأخبره بأنه سيرسل له العنوان حالا ! كان هذا هو ذاك
الغرض الذي تحدث عنه إذا ؟ تسارعت أنفاسها في صدرها
وازدادت سحابة الدموع في عينيها درجة أنها لم تعد ترى شيئا
وهي تستوعب كل ذلك .. كان سيأخذها لشقته ثم ... ماذا أيضا ؟
ولم يتأخر عنها الجواب كثيرا والجالسة هناك تفتح العلبة وتخرج
منها ذاك الفستان الطويل الذي دمج فيه قماش الدانتيل الفاخر
والحرير الأزرق الناعم ترفعه مندهشة أمام التي باتت تسمع
صوتها وكأنه ذرات غبار تتلاشى من حولها
" آه يا إلهي ماريه ما أجمله !! "
أخفضت رأسها للأسفل تحجب تلك الدمعة التي تدحرجت من
رموشها للأرض ... لماذا ؟ ما هذا الذي فعلته يعاملها هكذا ؟
لماذا أرسله هنا بما أنه غير مخططه بأكمله ! هل يفعل
هذا فقط ليؤذيها ؟ ليؤلمها أكثر ؟ ليعاقبها على ذنب هي لا تعلم
ما يكون ! كان أعاده للمكان الذي اشتراه منه أو أهداه لإحداهن ،
أمسكت قلبها بيدها بقوة تشعر به انقبض بشدة ما أن فكرت
فقط في ذلك وفي أن يكون ثمة من قد يهديها شيئا وإن كانت
ابتسامة من شفتيه.
" آه ماريه لو لم أغير لون شعري وأعيده كما كان لكنت استعرته
منك .. إنه قنبلة بل تحفة فنية لا أعلم من أين له كل هذا الذوق
الرفيع ؟ "
رفعت نظرها لها وهي تضعه على جسدها تقف أمام المرآة
وقالت بحزن تقاوم تساقط دموعها
" يناسبك بشعرك الأشقر أيضا ثم هو يشبه لون عيناك "
عدلته على جسدها أكثر قائلة
" لا هو ينسجم تماما مع لون شعرك وعيناك ، لن أغير لون
شعري للأسود لكني لن أبقيه أشقرا أبدا "
وتابعت بضيق تضع ذاك الفستان على السرير
" سيكون أي لون إلا ذاك اللون "
أخرجت من العلبة حذاء ذهبيا بكعب مرتفع وقالت ضاحكة
ترفعه أمامها
" كنت أفكر كيف فاته هذه المرة أن يرسل شيئا بلون عينيك ؟ "
شعرت بأن خنجرا جديدا غرس في قلبها ولم تستطع المقاومة
أكثر فتوجهت جهة حمام الغرفة على صوت من تركتها خلفها
تفتش باقي أغراض الصندوق قائلة بانبهار
" آآآه ماريه تعالي وانظري هذا خاتم زواج ! "
دخلت وأغلقت الباب خلفها واتكأت عليه بظهرها وتركت
العنان لدموعها وقبضتها تضرب الباب خلفها فلم يعد يمكنها
احتجاز ما بداخلها أكثر من ذلك .
أوقف الخادمة التي كانت تنوي صعود السلالم وأعطاها حقيبته قائلا
" خذيها لجناحي "
أخذتها منه فورا وصعدت مسرعة بينما غير هو اتجاه سيره لمكان
آخر ، لم يراها بعد تلك الليلة ولم يلتقيا ولا مصادفة فمنتصف
الأسبوع الماضي سافر لوالده من أجل مسائل شائكة في عملهم
هناك في جزيرة أنجلسي حيث يتم انشاء مشروعهم الجديد مع
شركة هديسون باي ولم يرجع إلا بالأمس ، كان عليه مساعدته
في معالجتها قانونيا والسفر له فهو من استلم مكان جده هناك منذ
فترة حين عاد جده لبريستول وكان على أحدهم أن يكون موجودا
هناك وليس يعلم متى سيحين دوره فلن يستبعد أن يرسلوه بديلا
عن والده وإن لفترة قصيرة خاصة أن رواح استلم الأعمال في
شركتهم في بريستول من وقت قريب يساعد جده هنا فلن يجازفوا
بالتأكيد بإرساله لاستلام مشروع كامل خاصة أنها التجربة الأولى
لهم بعيدا عن مجالهم الأساسي وهو صناعة الطائرات .
وصل باب غرفتها وطرقه عدة طرقات فلم تجب فأعاد الطرق
مجددا وبإصرار فعليه أن يتحدث معها فلن يفهم شيئا من تلقاء
نفسه ولم يعد يمكنه التوقف عن التفكير في تلك الجريمة التي لم
توضح له منها شيئا سوى بأنه عليه أن يستخدم ذكائه لفك
رموزها وخباياها وكأنها تطلب ذلك منه ... منه هو تحديد .. !!
هل لأجل هذا حررت دواخلها فرسمت وذكرت شيئا من ماضيها
ولأول مرة !! هل ستختار الخروج عن صمتها أخيرا ؟ يستبعد أن
تفعل ذلك لكنه لن يفقد الأمل وسيحاول .
كان سيغادر لولا أوقفه باب الغرفة بجانبها وقد انفتح فجأة فنظر
للتي خرجت منه وهمست له
" إنها في الداخل ولم تخرج الأيام الماضية من غرفتها ولم ترسم
مجددا ، هي تعلم بالتأكيد أنه أنت فوحدك من يطرق الباب ولا يدخل
حتى تأذن له "
تنفس بعمق واكتفى بالصمت فتابعت هامسة بحزن
" أريدك أن تساعدها حقا سيدي وأن تكون امرأة كبقية النساء
تحب الحياة وتستمتع بها وأن تنظر للمستقبل نظرة فضول لمعرفة
ما يخبئه لها ليس أن تراه والموت سوآء "
أبعد نظره عنها مشيحا بوجهه يمسك خصره بيديه وقال
" وكيف سأساعدها وهي ترفض ذلك بل ولا تريد التحدث عن
أي شيء ولا حتى رؤيتي "
قالت من فورها
" لكنها رسمت وخرجت من غرفتها تلك الفترة ، هذه أمور لم
تفعلها سابقا وكانت ترفض الخروج حتى بالإكراه "
نظر لها ولم يعلق فتابعت بأسى حزين
" لن تفقد الأمل أنت أيضا سيدي أرجوك فأنت وحدك من كنت
متيقنة بأنه الذي إن تأذت وفقد حياتها سيحزن عليها ويلوم نفسه
على فقدها دون أن نبحث عن أي حل "
نظر للأسفل وتنهد بعمق هامسا
" لن أتخلى عنها أعدك بذلك ولن نلوم أنفسنا إن فقدناها بل
سأسعى جهدي كي لا يحدث ذلك "
أومأت له موافقة بابتسامة شقت تلك الملامح الحزينة والعينان
الدامعة ، رغم خشيتها من أن تستمر زيزفون في مخططها للانتقام
من جده عن طريقه لكنها واثقة من أنه وحده من سيمنع حدوث
ذلك دون مساعدة أحد ودون أن يعلم بذلك ... هي تثق به ثقة
عمياء وتعلم أنها لم تخطئ حين منحته إياها .
راقبته نظراتها الحزينة وقد استدار مجددا وفتح الباب ببطء بعد
طرقتين خفيفتين ودخل ووجدها بالفعل هناك ومستيقظة ، وكما
قالت مربيتها يبدوا أنها ترفض أن يدخل لها وتعلم بأنه لن يفعلها ،
اقترب منها بخطوات بطيئة حيث كانت تجلس أمام نافذة غرفتها
المفتوحة تمسك هذه المرة شعرها عند نهاية عنقها بشريطة
أرجوانية اللون ولم يبقى للنسائم سوى تلك الخصلات المتمردة
على ذاك الشريط المربوط بإحكام تسند ساعدها على إطار النافذة
المرتفع لمستوى صدرها وتتكئ بذقنها عليه لا يظهر له سوى
وجنتها المرتفعة وأنفها ورموشها الطويلة بسبب شعرها المتدلي
على طرف وجهها وعنقها قبل أن يجتمع في ذاك الشريط المربوط .
" ظننتك الشخص الوحيد في هذه العائلة الذي يعرف أصول اللباقة
لكن تلك الجينات يبدوا أنها تؤثر بك أيضا ؟ "
استقبل إهانتها برحابة صدر وابتسامة صغيرة كالعادة وقال
" لا تنسي أنك تحملين ذات الجينات"
وصله صوتها الساخر فورا
" أجل لذلك سأخبرك وبكل وقاحة بأنه ليس مرحبا بك هنا "
رفع رأسه قليلا وتنفس ببطء ، لا يعلم لما يشعر بأنها غاضبة
منه بالفعل هذه المرة وترفض إظهار ذلك لكنه لا يفهم لما ومما
تحديدا ! عاد بنظره لها وقال
" لست أعلم لما تري الجميع متشابهون هنا يا زيزفون فوالدة
رواح تحبك فعلا كما أن رواح لا يرفض وجودك هنا "
أبعدت ذقنها واستوت في جلستها وقالت بذات سخريتها ودون أن
تلتفت له
" أرى جدك ليس ضمن اللآئحة ؟ تعترف إذا أني فرد غير مرغوب
به هنا ؟ ولمعلوماتك فقط أنا لست أهتم "
تنفس بضيق ودس يديه في جيبيه قائلا
" ليس هذا ما علينا التحدث عنه يا زيزفون "
وقفت على طولها والتفتت له قائلة
" بل لا شيء أبدا نتحدث عنه "
اقترب منها حتى وقف أمامها مباشرة لا تفصلهما سوى نصف
خطوة ونظر لعينيها قائلا
" بلى ثمة حديث ناقص دار بيننا قبل سفري "
ابتسمت بسخرية مشيحة بوجهها عنه وقالت
" تهتم حقا ؟ لقد صدقتك بالفعل "
مد يده ممسكا بها النافذة خلفها وممررا ذراعه بجانب وجهها
وقد اقترب وجهه منها أكثر بسبب حركته تلك وقال بحزم
" كان عليا السفر لوالدي ولم اهمل حديثنا ذاك يا زيزفون "
نظرت مجددا لوجهه القريب جدا منها وقالت بضيق
" أجل فثمة علاقة غرامية بيننا لأغضب منك لأنك سافرت
وأهملتني "
رفع رأسه للأعلى وتنفس بعمق متمتما ببرود
" لا تختبري صبري يا زيزفون فأنتي لا تعرفيه جيدا ... إنه أطول
من عمر جريمة ماضيك تلك"
ساد الصمت التام من طرفها فعاد بنظره لها مجددا ولنظرتها
المعلقة بعينيه ... تلك النظرة الخالية من أي تعبير وكم تمنى
لحظتها أن يظهر فيها شيئا مما يحدث بداخلها .. أي شيء وإن
كان الغضب والكره .. أو حتى الحزن والأسى وإن كان يستبعد
ذلك بعد السماء عن الأرض .
قال بهدوء مركزا نظره على تلك الأحداق الواسعة بلون
زرقة السماء
" زيزفون ما هي تلك الجريمة ؟ أنا أود المساعدة فعلا "
أشاحت بوجهها جانبا وابتسمت بسخرية قائلة
" إن كانت كمساعدتك للمتهم في جريمة صاحب تلك اللوحة فوفر
قدراتك لنفسك "
أمسك ذقنها وأعاد وجهها كما كان ونظرها لعينيه وقال
" تلك القضية تخص أصدقاء لي ويصعب عليا استلامها لكن
محاميه سيفعلها "
رفعت يدها وأبعدت يده وقالت ولازالت ناظرة لعينيه
" وهذه قد تلعب فيها العلاقات الشخصية دورا مشابها ... فهي
إذا ليست من اختصاصاتك "
نظر لها باستغراب قبل أن يهمس
" علاقات شخصية !! "
وضعت كفها على صدره العريض ودفعته منه مبعدة إياه وتحركت
من هناك فأمسك يدها قبل أن تجتازه وقال بجدية ناظرا لنصف وجهها
" عليك التحدث يا زيزفون فقد يكون ثمة متهم بريء خلف
قطبان السجن ومجرم طليق أو مدان لم يأخذ قصاصا عادلا ...
الصمت لن يفك خيوط تلك الجريمة يا زيزفون "
سحبت يدها منه وتحركت من هناك قائلة ببرود
" لا تتعب نفسك فقد اقيم العدل وبعيدا عن القانون الذي لا يعرف
القصاص سوى من الضعفاء والمغفلين "
رمته بذاك اللغز الجديد وتوجهت جهة باب الحمام منفذها الوحيد
للهرب من وجوده كما خمن سريعا فقال قبل أن تدخل
" ماذا عن الذي مات محترقا هل أخد حقه ؟ وماذا عن الأرنب
الذي غرست فيه مخالب قاتله وللأبد هل كان القصاص عادلا
معه أيضا ؟ "
التفتت له وهي عند الباب فشعر بقلبه انقبض بين أضلعه بقوة
وهو يرى ذاك البريق في عينيها الواسعة حين قالت بحزن
" ذاك لن يأخذ له أحد حقه ومهما حاول "
دخلت بعدها مغلقة الباب خلفها متجاهلة نداءه لها ولحاقه
بها طارقا باب الحمام بقوة قائلا بغضب
" زيزفون لا يوجد حق لا يمكن إرجاعه فافتحي الباب لنتحدث ...
افتحي الباب يا زيزفون "
ولم يكن من جدوى من كل ذلك وهو يعلم هذا جيدا فضرب الباب
بقبضته هامسا من بين أسنانه
" عليا أن أعلم إن منك أو من غيرك ولن أرتاح قبل أن أفعلها "
غادر بعدها الغرفة وأغلق الباب خلفه وما أن اجتاز نهاية الممر
وقف ونظر للتي وقفت أمامه مباشرة وقد قالت بابتسامة ساخرة
كارهة
" أرى قدماك اعتادتا هذا بالفعل ؟ "
تنفس بقوة وقال بنفاذ صبر
" لازلت أحترمك لأنك زوجة والدي ولا أريد أن أخطئ في حقك
فلا تجبريني يوما على فعلها "
رفعت يديها وصفقت بهما قبل أن تنزلهما قائلة بسخرية
" هذا بدلا من أن تبحث عن شقيقك كما كلفك جدك تمضي النهار
مع زوجته ؟ ومتفاخر جدا بنبل أخلاقك يا ابن سلطان "
شد قبضتيه وأنساه غضبه ما حذرته والدة رواح منه وقال بغضب
مكتوم
" أنتي قلتها الآن جدي كلفني بذلك لما كنت لأكلف نفسي بالبحث
عن رجل يدفن حياته بين الخمور والمخدرات لينتحر ببطء وأنا من
عليا التستر عليه طبعا "
نظرت له بصدمة قبل أن تصرخ قائلة
" كاذب ... هذا ما تريده وتخطط له لتخبر به جدك ، أنت تكره
أشقائك منذ صغرك وتريد التخلص منهم جميعا لتكون الحفيد
الأول في كل شيء "
ابتسم ابتسامة ساخرة قاتلة قائلا ببرود
" ليست مشكلتي إن كان ابنك في المؤخرة دائما ففشله لا يد لي
فيه بل أنتي السبب "
رفعت يدها جهته صارخة
" وقح أتتطاول على ... "
أسكتها إمساكه لمعصمها مانعا إياها من صفعه وقد شد أصابعه
حوله لدرجة آلمتها قائلا بحزم
" لعلمك فقط أنا لم أصل لمستوى التواقح عليك حتى الآن
ولست أنا من يترجم أفعاله بالأقوال بل العكس ولازلت أصمت
احتراما لوالدي فقط وليس لك "
أنزل بعدها يدها بعنف وتحرك من هناك مغادرا يتبعه صراخها
الغاضب
" أجل هذا ما تفلح فيه ... أصلح حياتك وزواجك الفاشل بدلا
من دس أنفك في مشاكل غيرك "
تجاهلها صاعدا السلالم وكأنها لا تتحدث عنه حامدا الله أن جعل
له أعصابا من حديد في مثل هذه المواقف ، ثم هو يعلم من التي
ستربيها جيدا على وقاحتها ولا يستبعد تلك المواجهة بينهما
وقريبا أيضا فلن يعلمها حجمها الحقيقي غيرها فالنساء دواء
للنساء بعض الأحيان كما يقولون .
*
*
*
أخذت كمية من المرهم وبدأت بوضعه على الحرق في ذراعها
برفق تنفخ عليه بشفتيها لتألمها من لمسها له ، مر أكثر من
أسبوع وحالته لا تراها تحسنت أبدا فكلما جفت تلك الطبقة
الحمراء عادت وتشققت وخرجت السوائل من تحتها وتنسلخ
مجددا كاشفة عن اللحم تحتها ولا يمكنها احتمال الشاش فوقها
حتى تجف مجددا ، كسر الله يده ويدها كل هذا فقط لأنها قالت
بأنها تعبت من كل تلك الأعمال الشاقة ذاك اليوم وقررت النوم
وترك باقي عملها للصباح فلم تتوانى تلك الحرباء عن إخبار
شقيقها والذي لم يتردد لحظة في إنزال عقابه القاسي بها ، لو
كانت بغلا لمنحت وقتا من الراحة فما يظنانها آلة أم جنية ؟
لفت الشاش حول ذراعها تمسك طرفه بأسنانها وقد ربطته
أيضا بمساعدتها وأنزلت كم فستانها فوقه لحظة أن انفتح باب
الغرفة بقوة ووقفت أمامه التي قالت باشمئزاز
" تحركي بسرعة لن ينظف المطبخ نفسه بنفسه أم تريدي ترك
أواني الغداء حتى وقت العشاء ؟ "
وقفت قائلة بضيق
" أجل لتحرقا لي ذراعي الآخر "
غادرت تلك قائلة بسخرية
" هذا ما سيحدث بالتأكيد إن فعلت فعلتك تلك مجددا ولم تحفظي
لسانك في فمك "
شدت أسنانها بغضب قائلة من بينها
" أجل فلسانك لا يراه الهواء أبدا يا شمطاء "
ولحسن حظها أنها لم تكن هناك لتسمعها فهذا ما يوقعها
في العقاب دائما أنها لا تستطيع الصمت عن ظلمهم لها فما
تراه هي حقا من حقوقها في نظرهما يكون تواقحا تستحق عليه
العقاب الذي لم يغير في طباعها شيئا مهما كان قاسيا أغلب الأحيان .
جمعت شعرها الغجري الأشقر الطويل بعشوائية وأمسكته بمشبك
وخرجت من الغرفة وتوجهت للمطبخ فورا ولعملها اليومي الشاق
وبدأت بغسل كل تلك الأكوام من الأواني فزوجة شقيقها قررت منذ
أكثر من عامين أن تقوم ببيع بعض الأكلات التي تجهزها في المنزل
ليجمعا المال الذي سينتقلان به من هنا فهي تعمل كمدرسة في
مدرسة البلدة وتصنع الطعام وتبيعه وزوجها يعمل بمحراثه الصغير
في المزارع ليجمعا المال ويرحلا من هنا بينما هي التي تأخذ جميع
وظائفها وقت ذهابها للمدرسة وتعمل معها في تجارتها تلك وتغسل
كل تلك الأواني بل وجميع أعمال المنزل لا يحق لها ترك المكان
معهما فوصمة العار عليها أن تبقى هنا ولا تتبعهما ولأنه سيبيع
المنزل قبل مغادرته عليها أن تجد لها مكانا يؤويها بعيدا عنهما
فأين يتوقعان أن يكون هذا المكان ؟ أين يريدان منها أن تذهب
ولا أحد لها في هذه البلدة ولا خارجها إن كانت عائلة غيلوان
ينبذونها بل ولا يعترفون بها ولا بشقيقيها وعائلة من قالوا بأنه
والدها ينكرونها تماما ووالدتها ليست من هذه البلاد بأكملها وكل
ما قالته عن نفسها أنها تربت في دار للأيتام في إيرلندا فأين
يتوقعون منها أن تذهب ؟ فحتى الرجال يهربون منها من بعد
أميال بسبب نسبها المشرف وعائلتها العريقة وقصتها المخزية .
تنهدت بأسى وهي في حركة واحدة تغسل الصحون وتضعها في
المغسلة الحديدية ، حتى شقيقها هازار ومن حلمت طويلا بأن
يعود وينتشلها من كل ما هي فيه لم يرجع حتى اليوم رغم عودة
ابن شاهين ورجاله ... هازار شقيقها الذي لازالت تحمل له في
ذاكرتها صورا كثيرة عن معاملته لها كأخ لم يحصل غيره على
شقيقة رغم أنها ولدت وعمره ثمانية عشرة عاما إلا أنه الوحيد
الذي عاملها كإنسانة وكشقيقة له وليس كوصمة عار وحكاية
شائكة مبتورة ، ورغم أنه وقت سفره كانت في السادسة من
عمرها إلا أنها لازالت تذكره كما لازالت تذكر بكاء والدتها كثيرا
عليه بعد غيابه حتى ماتت وكانت ترى أنها السبب وراء فعله
لذلك بسبب حملها بها وما حدث فعلاقته بها أصبحت أقل عمقا
منذ تلك الحادثة رغم أنه عامل ابنتها منه كملكة على عرش قلبه
وليس كشقيقة فقط .
رمت قطعة الاسفنج المشبعة بالماء والصابون من يدها بقوة
متمتمة بأسى
" لو كنت أعلم أين مكانك لذهبت دون تردد يا هازار لكن أين وكيف ؟
من لي غيرك يا شقيقي من ؟ "
استغفرت الله هامسة فقد أنساها الشيطان أن الله وحده من لو
خسرناه لا أحد لنا غيره ولا بعده ، فتحت صنبور المياه وبدأت
بشطف كل ما غسلته فتلك الأفكار لن تجلب حلا لمشكلتها ولم
يعد أمامها من حل سوى أن تسلم نفسها لأفكار فجر المجنونة فإما
أن تخرج بها من هنا أو أن تموت وكلاهما حل مناسب تماما لمشاكلها
وخير لها من أن يرميها شقيقها في مكان مقطوع ويعلن خبر وفاتها
فلن تستبعد ذلك منه أبدا ولن تتهم فجر في هذه بأنها خيالات سخيفة .
دست الأوراق في حقيبتها ورمتها بجانبها على السرير ، ها قد
أصبحت الساعة الخامسة ونصف ولا تشعر برغبة أبدا في الذهاب
لتلك المؤسسة التدريبية بل ولا فعل أي شيء وتشعر بأنها محطمة كليا .
أمسكت هاتفها ودخلت في صراع جديد مع نفسها فهذه رابع مرة تفتح
صندوق الرسائل لتكتب رسالة ثم تعود وتمسحها .
(أريد أن أراك )
( هل نتقابل الليلة ؟)
( ثمة أمور علينا التحدث فيها)
وفي كل مرة يتغلب عقلها عليها وتمسحها وترمي بالهاتف بعيدا
عنها ، فاشلة ... هي حقا أكبر فاشلة في الوجود وفي التاريخ
أيضا .. لكنه السبب هو من يشعل عواطفها في كل مرة ويختفي
في صمت .
نظرت بأسى للعلبة المخملية الصغيرة السوداء الموضوعة فوق
طاولة سريها ، أيشتري لها خاتم زواج ثم يتلاشى كالسراب ! في
أي قانون يجوز فعل هذا بقلب الأنثى ؟ لو يعلم أي عذاب هذا الذي
رماها فيه منذ ساعات وغادر .
انتفض جسدها بقوة حين رن هاتفها بين يديها ونظرت مصدومة
لاسمه في شاشته وقد تصلبت أصابعها حتى لم يعد بإمكانها رفعه
لأذنها أو فتح الخط إلى أن انقطع الاتصال وما أن عاد للرنين
مجددا تحركت يدها أخيرا وفتحته ووضعته على أذنها في صمت
شاركها فيه بادئ الأمر قبل أن يصلها ذاك الصوت الذي جعلها
تغمض عينيها لا إراديا
" ماريا تسمعينني ؟ "
رطبت شفتيها بطرف لسانها هامسة
" أجل "
قال من فوره
" أنتظرك أمام باب المنزل الداخلي .. لا تتأخري "
وأنهى الاتصال ما أن أنهى عبارته تلك فأبعدت الهاتف تنظر له
بصدمة ، قال أنه ينتظرها أمام الباب ! أسمعت ذلك فعلا أم أنه أمرا
آخر وهي فهمته بشكل خاطئ ؟ انفتح باب الغرفة فجأة ودخلت
منه ساندرين وقد قالت بحماس
" إنه هنا لقد رأيت سيارته .. ألم أخبرك بأنه سيأتي "
نظرت للهاتف ثم لها مجددا وكأنها تقارن الحقائق ببعضها قبل
أن تهمس
" اتصل وقال أنه ينتظرني في الخارج "
صرخت بحماس وتوجهت نحوها وسحبتها من يدها موقفة لها وقالت "
ولما جالسة حتى الآن ؟ "
نظرت حولها ورفعت حقيبتها فأخذتها منها قائلة بصدمة
" ستذهبين هكذا ! "
نظرت لنفسها وللثياب التي كانت تلبسها لتذهب للدورة
التدريبية وقالت
" أجل وما بها ثيابي ؟ "
قالت متوجهة جهة الخزانة
" بلهاء .. أحضر لك ثوبا لتتفرجي عليه ؟ "
نظرت لها بعبوس وهي تصعد فوق الكرسي وتنزل الصندوق الذي
وضعته منذ الصباح في الأعلى قائلة
" لا أعلم بأي عقل يرسل لك فستانا ترميه أعلى الخزانة !
لن يرسله إلا لتلبسيه له يا غبية "
تنهدت بأسى ولم تعلق ، لو تعلم ما حدث صباحا وما فعل
ما كانت متحمسة هكذا ولكانت حرضتها على رفض الخروج
له من أساسه ، ثم هي لم تكن تريد أن تلبسه فعليهما أن يتحدثا
عما حدث صباحا ليس أن تتزين له وتحتفل ، اقتربت منها ووضعت
لها الفستان في يديها قائلة
" بسرعة أنتي تضيعين الوقت وسيمل من الانتظار ويغادر "
شدت أناملها على القماش الناعم وهمست تنظر للأسفل
" يمكنني ارتدائه في وقت آخر ، الآن أ... "
أدارتها جهة الحمام ودفعتها جهته قائلة
" تحركي ماريه ، أقسم أن أي رجل ما كان ليعجبه أن يشتري
فستانا باهض الثمن كهذا لامرأة ولا تلبسه له فكيف إن كان ذاك
الرجل كزوجك هادئا مسالما ومبتسم دائما وليس بحاد طباع "
استسلمت لدفعها لها حتى أدخلتها الحمام وأغلقت الباب خلفها ،
نظرت له بين يديه متنهدة بأسى وحركت رأسها متمتمة
" لست أعلم كيف سأخرج له به وهو فعل ما فعله صباحا ؟ "
لكن لم يكن من خيار آخر أمامها فكما قالت ساندرين سيجدها
حجة ليغضب ويحولها هي لمذنبة ، نزعت ملابسها ولبسته
سريعا ودهشت فورا وهي تنظر له على جسدها فتوجهت جهة
المرآة ، كان يظهر فيها نصف جسدها العلوي فقط لكنها
أوضحت جماله عليها بالفعل ، كان قماش الدانتيل يأخذ الجزء
العلوي منه بياقة مثلثة وأكمام قصيري أبرز جمال مفاتنها
الأنثوية فطبيعة جسدها أنه متناسق ومميز وصدرها مرتفع
مستدير وهذا الفستان أبرز ذلك بشكل واضح ومثير ، حاولت
رفع ياقته للأعلى لكنه سرعان ما عاد كما كان ، التفتت للخلف
ونظرت لظهرها في المرآة .. كان الدانتيل المخرم واصلا لنهاية
ظهرها ولم يكن مبطنا بأي قماش كما مع صدرها فكان يظهر
بشرتها البيضاء من تحته بوضوح عكس ما كان من الأمام
مقتصرا على منطقة الصدر فقط لينزل بعدها ذاك القماش
الحريري الأزرق منسابا مشدودا على خصرها ووركيها ثم يبدأ
بالاتساع تباعا للأرض وينتهي بذيل بسيط في الخلف ، لن يفكر
في أخذها لمطعم بالتأكيد وهي بهذا الفستان إلا إن كان رجل
آخر لا تعرفه !
طرقات ساندرين المتثالية على باب الحمام جعلتها تخرج فورا
وما أن فتحت الباب وجدتها واقفة أمامه تمسك الحذاء في يد
والحقيبة في اليد الأخرى فصرخت من فورها قافزة من مكانها
وقالت بدهشة " يا الهي ماريه ما أجملك ! إنك كنجمة سينما بل
كأميرة من الأحلام "
رمت لها بالحذاء تحت قدميها وقالت وقد توجهت لدرج طاولة
التزيين تفتش فيها
" أقسم أن تسلبي عقله في ثوان معدودة ، إن كان روب حمام فعل
معه العجب فكيف بهذا ؟ "
وضعت يديها لا شعوريا على الفستان جهة صدرها ورفعته مجددا
وسرعان ما عاد كما كان فنظرت بيأس جهة التي توجهت نحوها
ولفت حول عنقها سلسالا ذهبيا بسيطا وأنيقا يتدلى منه قلبان
صغيران متداخلان ومرصعان بالفصوص وثلاث سلاسل رقيقة
تنتهي كل واحدة منهما بقطعة كرستالية بشكل دمعة صغيرة ،
قالت وهي تغلقه
" البسي الحذاء بسرعة ماريه ، إن خرجت ولم تجديه فأنا من
ستجن ولا أستبعد أن أبكي حسرة "
انحنت له ولبسته قائلة ببرود
" أنتظره منذ الصباح لابأس في أن ينتظر قليلا "
استوت في وقفتها ما أن انتهت من ارتدائه وقالت بعبوس ناظرة
للواقفة أمامها وقد عادت تشد الفستان للأعلى مجددا
" أليس مكشوفا كثيرا ؟ "
ضحكت تلك من فورها وتحركت جهة السرير قائلة
" بل مذهل ولن أنتظر عودتك الليلة للمنزل أبدا "
شعرت بجدسها ارتجف وعظامها تيبست تنظر لها بصدمة
وقد دست لها هاتفها في حقيبة الفستان الزرقاء بحواف معدنية
ذهبية اللون وقالت وهي تضع فيها مجموعة محارم ورقية
" قد تحتاجينها ولن نقول لتمسحي بها دموعك نهاية السهرة
وسنتفائل في ذاك الكنعاني خيرا "
عبست ملامحها الجميلة من ذاك التشاؤم فتوجهت نحوها ودفعتها
جهة المرآة قائلة
" ماريه ما بك هكذا وكأنك تلقيت صدمة قاتلة اليوم ؟ أنتي لا
تعجبينني منذ الصباح ، هيا ضعي أحمر شفاه على الأقل
وسأتصرف أنا في شعرك "
رفعت أحمر الشفاه الزهري الخفيف الثابت اللون ومررته على
شفتيها ليزيدهما لونا ورديا لامعا وجميلا ، ماسكرا سوداء خفيفة
كتفت رموشها وأعطتهم لونا جميلا وخفيفا وقد اكتفت بذلك فقط
بينما ارتفعت يدي ساندرين ترفع لها شعرها للأعلى وثبتته
بدبوس شعر كريستالي ذهبي اللون أيضا فتدلت منه خصلات
على عنقها وصدغيها بينما نزل جزء منه على كتفها ، مدت لها
حقيبتها وأمسكت بيدها وسحبتها جهة الباب قبل أن ترجع
قائلة بشهقة
" آه ماريا الخاتم كدت تنسينه ! "
أخذت منها العلبة وقالت
" هذا عليه هو أن يلبسني إياه أو لن ألبسه أبدا "
ضحكت وقالت
" أجل هكذا تعجبينني "
وصلتا باب المنزل فأدارتها جهتها ونظرت لها نظرة أخيرة
وعدلت له خصلات غرتها وهمست مصفقة بيديها
" ممتاز أراك صباحا يا عروس "
شهقت بصدمة وضربتها بالحقيبة في يدها وهي تركض ضاحكة
وقد ابتعدت ونظرت جهتها قائلة من بعيد بعدما أرسلت لها
قبلة بيدها
" عليك بقلبه ماريه .. أصيبيه في مقتل يا فاتنة "
وغادرت راكضة ما أن أنهت جملتها تلك تراقبها مبتسمة فما
أنقى قلب تلك الفتاة رغم مشاكستها وتهورها وطول لسانها إلا
أنها لا تكره ولا تحقد أبدا ، التفتت جهة الباب ومررت يدها على
عنقها نزولا لصدرها وتنفست بعمق لتبدد شيئا من توترها
الذي لا تراه يزداد إلا حدة ، فتحت باب المنزل ببطء وقد لعبت
بها الهواجس وسيطرت عليها فكرة أن يكون غادر فعلا ؟
عضت طرف شفتها بقوة ما أن انفتح الباب أكثر وظهر لها
الواقف مستندا بالعمود الخشبي لسلالم الباب يديه في جيبي
بنطلونه يلف ساق حول الأخرى وينظر جانبا .. يرتدي قميصا
مزررا أسود اللون بخطوط بيطاء رقيقة ومتباعدة وبنطلون
جينز أبيض وحذاء أسود لامع وخصلات من شعره الأسود يتلاعب
بها النسيم فوق جبينه فشعرت بضربات قلبها ترتفع بضجيج
صاخب وأنفاسها تتصاعد تباعا فلا يعلم هذا الرجل أي مشاعر
متقدة تلك التي يشعلها في داخلها ما أن تراه أمامها .
سحبت الباب بيدها من خلف ظهرها دون أن تغلقه وقد تقدمت
خطوة نحو الخارج فانتبه حينها لوجودها ونظر لها صعودا
من طرف حذائها الظاهر من فستانها الحريري مرورا بجميع
تفاصيل جسدها وصولا لوجهها .. نظرة بطيئة متفحصة ساكنة
هادئة لا تشبه نظراته الباردة الشبه دائمة تلك فتمنت لحظتها أن
استطاعت أن ترفع يدها لتهف بها على وجهها فقد شعرت بجسدها
يكاد يشتعل من نظراته تلك ، ابتعد عن العمود مستوي في وقفته
وتوجه نحوها وقد أبعدت يدها عن الباب خلفها وجمعتهما تمسك
بهما حقيبة الفستان تنظر لهما تشعر بضربات قلبها تخترق
خلاياها مع اقترابه أكثر حتى أصبح واقفا أمامها تماما وامتدت
يده لذراعها العاري ولمسها بأصابعه قائلا
" أغلقي الباب لنغادر "
نظرت جانبا لازالت تتجنب النظر له وقالت بصوت منخفض
" ليس بعد فقد أدخل منه الآن "
لم يعلق بادئ الأمر على تصريحها الواضح باحتمال رفضها
للذهاب معه وقد امتدت أصابعه لذقنها وأمسكه بأطرافها برفق
ورفع وجهها له حتى التقت نظراتهما وقال بنبرة بتحذير مركزا
نظره على تلك الأحداق العسلية بلون الذهب النقي
" ماريا !! "
زمت شفتيها الزهريتان في خط واحد كدليل على ضيقها
المكبوت داخلها قبل أن تحررهما هامسة ونظرها على عينيه
السوداء
" ألست تعتقد بأنك مدين لي باعتذار عما حدث صباحا دون أن
تشرح حتى سببه ؟ "
ظهر شبح ابتسامة طفيفة على شفتيه وشد أصابعه حول ذقنها
يرفع وجهها له أكثر وأحنى رأسه له وقبل شفتيها قبله صغيرة
لكنه عرف كيف يجعلها مثيرة ومدمرة لتلك المشاعر الصاخبة
بداخلها وقد أبعد رأسه سريعا وقال بابتسامة جانبية
" تكفي هذه ؟ "
كانت أصابعها تشتد لا إراديا على الحقيبة وتلك العلبة السوداء
من شدة ما تواجهه داخلها تحاول تنظم أنفاسها وإن قليلا وإبقاء
نظرها على عينيه وبالكاد استطاعت أن تهمس
" هل أفهم أن هذا هو التعبير الفعلي لكلمة آسف لديك ؟ "
اتسعت تلك الابتسامة قليلا وهو يحرر ذقنها من أصابعه الطويلة
وقال ونظره ينزل ليديها
" أنتن النساء كم تعشقن أقوال الرجال عن أفعالهم رغم أن
أغلب حديثهم يكون كاذبا "
تنقلت بنظرها في ملامحه الجذابة ولازال يسدل جفنيه للأسفل
وقالت بهدوء
" ليس حين يكون الرجل صادقا في كل شيء "
مد يده ليدها وأخذ منها العلبة المخملية السوداء الصغيرة
وفتحها وأخرج الخاتم منها ورفع يدها وألبسها إياه ومد يده
للباب خلفها وأغلقة بينما الأخرى تمسك أصابع يدها تلك وقال
ما أن عاد بنظره لها وبابتسامة جانبية
" ظننت أن كل هذا قد يكفي ماريا لكنك جشعة كطفولتك تلزمك
جنية النوافذ لتحقق ما تريدين "
لم تستطع امساك ضحكتها الصغيرة التي تغلبت عليها كما انهزم
هو سريعا أمام ابتسامة زينت شفتيه فرفعت نفسها على رؤوس
أصابعها وحوطت عنقه بذراعيها وأغمضت عينيها برفق تشعر
بيده على ظهرها وهمست بمشاعر لا تزيدها تلك الرجولة
سوى تفجرا
" شكرا على كل هذا تيم "
وتابعت وهي تنتزع نفسها منه مرغمة لتبتعد عنه وقد نظرت
لعينيه بابتسامة ماكرة تزين تلك الشفاه الجميلة المغرية
" حسنا على الأقل يلزم الرجل أن يعبر عن إعجابه بما رآه
وإن بكلمة واحدة "
أمسك ذقنها مجددا وقبلها قبلة أخرى فسرت الحرارة في أوصالها
مجددا وكأنها لم تعرف ذلك معه من قبل ، قال ما أن أبعد شفتيه "
ستكفي هذه أم تريدين المزيد ؟ "
هربت بنظرها منه وعضت شفتها ولم تستطع أن تعلق على ذلك
ليس بسببه ولا بسبب ابتسامته الماكرة تلك بل بسبب التي
انتبهت لوجودها هناك خلف النافذة ترسم لها قلوبا على زجاجها
المغلق تضحك بحماس فأنزلت رأسها للأسفل وشدت أناملها على
أصابعه هامسة
" هل نغادر ؟ "
نزل حينها السلالم فورا يسحبها خلفه .
*
*
*
نزلت تلك السيدة الأربعينية من المنصة على صوت التصفيق الحار
تشجيعا لشجاعتها على قول كل ما صرحت به دون خوف ولا خجل
فقد اختارت هذه المرة طريقة مختلفة لعرض نشاطهم في الاحتفال
السنوي لتأسيس تلك الجمعية الضخمة وبدلا من أن تصعد هي كمديرة
لذاك الصرح وتتحدث عن انجازات جمعيتها وعن كل ما فعلوه
ويفعلونه من أجل قضايا دعم المرأة لتقنع الداعمين والممولين
الجدد لهم بأن ما سيقدمونه سيدعم الكثيرين فاختارت أن تتحدث
النساء بأنفسهن عن أنفسهن واختيرت مجموعة معينة تركت لها
حرية الحديث لدقائق معدودة لكل واحدة منهن لتتحدث عما قدمته
لها الجمعية وأين كانت وماذا أصبحت بعد الدعم التام لها من قبلهم .
أدارت الخاتم في أصبعها وشعرت بأنه تحول لخاتم من نار يلتف حول
بنصرها فقد بات كاللعنة المطوقة لعنقها لكنها لن تسمح لذاك الرجل
أبدا بأن ينتصر عليها بمعتقداته الخاطئة تلك وستثبت له بأنها قادرة
على الوقوف من دونه وأن القضية التي تدافع عنها يدعمها الكثيرون
وأنها لا تحتاجه أبدا ، كانت بداية الحفل غير موفقة كما تراها فرغم
امتلاء تلك القاعة برجال الأعمال والشخصيات المهمة في البلاد
وعلى رأسهم وزيري الثقافة والاتصالات وسياسيين والكثير من
الكتاب والمحامين وبعض رجال الدولة إلا أن الأحاديث معها
أخذت منحا آخر تماما وكل واحد منهم يسأل عن ذاك الخاتم
وعن ظهوره فجأة ولماذا تلبسه الآن ومن يكون سعيد الحظ
ذاك كما يصفونه ، أما الاحاديث عن نشاطات الجمعية والتبرعات
والدعم المادي كانت وكأنها هوامش أحاديثهم تلك وجميع من أبدوا
سابقا استعدادهم لدعمهم أصبحوا يتحججون الآن وما قدموه لم
يساوي شيئا أمام ما كان يقدم للجمعية سابقا فكانت مجرد تبرعات
رمزية ووعود مبثورة وناقصة ولا أحد يبدي أي استعداد صريح
لتولي مشاريع الجمعية أو المملكة ولا أحد منهم يبدوا راغبا في
إهدار ماله من أجل انتشال غيره من الفقر وأن لا يأخذ من عائدات
تلك الاستثمارات سوى النصف ، أغمضت عينيها وسحبت نفسا
عميقا وهي تتذكرت عبارته الغاضبة تلك ( أي منافع مادية هذه
التي تتحدثين عنها وأرباحهم ستكون مضاعفة إن استثمروا تلك
المبالغ في أماكن أخرى وهم سيقدمون نصف تلك العائدات كهبات
للعائلات المحتاجة ؟ لا يخبرك عقلك يا غسق أنه ثمة من يضع
مالا في مكان ويمكنه استثماره بأرباح مضاعفة في مكان آخر ،
الهبات والحملات التبرعية وغيرها لا تكلف كل هذا .. لا أحد
يدفع المال كهبة لغيره .. ليس الجميع يحمل قلبك أنتي )
شدت أناملها على ذاك الخاتم بقوة آلمتها فلن تسمع بأن ينهار
كل ما فعلوه وكل ما أفنت عمرها لبنائه ، لن تخذل كل تلك
النسوة والعائلات التي تعتمد عليها ولن تقتنع بكل ذاك الهراء
الذي سمعته اليوم ، كيف يرون أن قضاياهم محتكرة على
المرأة فقط ؟ لا وقالها البعض بكل صراحة بل ووقاحة بأنه كان
عليهم أن يتبنوا قضايا أخرى وأكثر أهمية كدعم مرضى السرطان
أو أطفال التوحد أو الإعاقات المستديمة وكأنهم لا يرون ما أنجزوه
حتى الآن وأن مريض السرطان قد يكون فردا من أسرة يدعمونها
كما أطفال التوحد وغيرهم الكثير ... ألا يرون كم عائلة تعيش هنا ؟
كم شخص يقتات من وظائف توفرها له الجمعية ؟ كم عائلة تجد لها
مأوى في مساكنها هو ملاذها الوحيد من النوم في العراء ؟ هل أصبح
الآن ما يقدمونه لهم هو السبب الأول لتقاعسهم عن تطوير أنفسهم
وقدراتهم كما يدعون ! ألا يرون أن ما يقدموه لتلك العائلات والنساء
مجرد حلول مؤقتة مهما طال أمدها حتى يتم مساعدتهم على تحسين
ظروفهم الحالية ثم الانتقال خارج المدينة بأكملها والاندماج في
المجتمع بعد أن تحظى كل منهن بما حرمت منه سابقا ودمر مستقبلها
سواء كان شهادة جامعية أم وظيفة لائقة أو رعاية نفسة أو جسدية
لتنطلقن نحو المستقبل بروح جديدة .
أدارت ذاك الخاتم في أصبعها مجددا وشعرت بأنها لا تريد شيئا سوى
رميه في سلة المهملات لكنها لن تضعف أبدا ولن تتراجع عن
اتفاقهما فهو من اتهم جميع ممولي جمعيتها الجدد بأنهم يسعون
لمطامع شخصية عوضا عن المال الذي سيخسرونه كما يرى وهي
قبلت تحديه ذاك لتثبت له العكس ولازالت لم تفقد الأمل بعد وتعول
فعليا على ما تقمن به كل من صعدن لتلك المنصة وتحدثن عن
أنفسهن وعن ماضيهن وعما قدمته لهن مملكة الغسق من دعم
لهم ولعائلتهن .
ابتسمت فورا للتي اعتلت تلك المنصة ذاك الوقت والتي قد
خصتها بتلك النظرة والابتسامة وهي تمسك بجهاز الميكرفون
وبدأت الحديث قائلة بابتسامة
" ما قدمته جمعية الغسق لي ولعائلتي أعظم من أن أشرحه في
دقائق معدودة لكن ما أود قوله بأننا حين غادرنا بلادنا
غادرناها مطرودين ومضطهدين لم يحضا أي منا بوظيفة
ولا شهادة ولا حياة كريمة وكل ذلك تغير من أيام قليلة فقط
وما أن أصبحنا في هذا المكان وقد أصبح بإمكاني مزاولة مهنة
حسب شهادتي الصغيرة المتواضعة وأصبح شقيقي مريض التوحد
فردا في مؤسسة صحية لرعاية وتأهيل من هم في مثل حالته ولأول
مرة منذ ولد ووجد شقيقي الآخر فرصة جديدة ليكون مستقبله أفضل
مما حكم واقعه ، لن أنسى أبدا ما فعلته الجمعية من أجلي ومن أجل
عائلتي وشقيقي المريض ، لقد فتحت بابا جديدا للأمل أمامنا جميعا
وهو أسمى هدف عرفه التاريخ .... وشكرا لكم "
نزلت بعدها من المنصة على صوت التصفيق الحار وتوجهت فورا
جهة التي وقفت أمامها والتي قالت مبتسمة لها
" شكرا يا جهينة كنت رائعة "
أمسكت ذراعها كدعم لها وقالت بحزن
" ألن يأتي رماح ؟ "
هربت من نظراتها الحزينة تلك وقالت
" لا "
غطى الوجوم ملامحها وهمست بأسى
" غير رأيه بعد أن علم بانتقالنا للعيش هنا وعملي في مبنى
الجمعية أليس كذلك؟ "
رفعت نظرها بها مجددا وقالت
" عليك أن تصبري يا جهينة فالأمر لن يكون بتلك السهولة
وأنتي تفهمين أسبابه بل وتعرفين شخصيته جيدا "
أومأت برأسها بحزن وقالت
" أعلم ولن أيأس أبدا فقط ليعطيني هو المجال لأغير له قناعته
تلك فبعد وعدي لوالدتي لا يمكنني دخول منزلك أبدا ما لم تأذن هي
لي بذلك ولن تفعلها أبدا أعرفها جيدا "
أمسكت بيدها وقالت مبتسمة
" سنجد حلا يا جهينة وسيلين دماغه العنيد يوما .. كوني أكيدة "
أومأت لها مبتسمة بتفاؤل وإن كان قد شابه الكثير من الحزن
وغادرت من عندها تشرف مع البقية على تنظيم الحفل بينما التفتت
هي لصاحب اليد التي لامست كتفها وابتسمت من فورها للواقفة
أمامها والتي اندمجت سريعا في الحديث معها قبل أن يتحول العدد
لخمس أشخاص وتتشعب المواضيع ووجهات النظر
، لكنها لم تستطع الانسجام مع أي من تلك الأحاديث وتفكيرها منحصر
فيما سينتج من ذاك الحفل فسيبدأ بعد قليل داعموا جمعيتها الجدد
بالصعود للمنصة ليشرح كل واحد منهم اقتراحاته ومساندته وما
سيقدمه ويتنازل عنه من أجل مشاريعهم القادمة وليست تخشى شيئا
أكثر من تلك اللحظات خاصة بعد الفتور الذي أصاب حماسهم تدريجيا
وكأنهم يتأملون مثلا أن يكون ثمة مقابل لما يقدموه ؟ لا هم مجانين
بالتأكيد إن فكروا كما فكر ذاك الرجل ، كان ثمة من لازالوا على
موقفهم السابق لكنهم قلة وأغلبها مؤسسات خيرية تحاول دمج
نشاطاتها معهم وذاك سيؤثر على عملهم سلبا ولا يمكنها قبوله .
نظرت جهة الواقفان بعيدا عند بوفيهات الشراب والأطعمة وابتسمت
دون شعور منها وهي تنظر لصاحب تلك البذلة الأنيقة الواقف مع
صاحبة ذاك الفستان القرنفلي اللون الطويل يضحكان على طريقة
امساكه للكأس وهي تحاول تعليمه الطريقة الغربية لفعل ذلك ، ولأنه
عليها الابتعاد عن الصحافة والكاميرات مثلها أصبحت أماكن تنقلها في
ذاك المكان محدودة ... من كثرة احتكاكهما ببعضهما لم تعد تعلم ممن
تخشى على الآخر أن يلصق طباعه السيئة به لكنها سعيدة أيضا بقوة
العلاقة الوليدة بينهما فكل واحد منهما وجد في الآخر الشقيق الذي لم
يحصل عليه يوما خاصة الكاسر من فقد والديه طفلا رضيعا وانحصر
عالمه عليها لوحدها وقد سعت جهدها أن تمنحه كل ما فقده وها هو
آخر ذلك وهي الشقيقة .
ابتسمت بحنان تراقب تلك الملامح الجميلة التي خطفت الأنظار اليوم
حتى أن جليلة أبعدتها عنها مجبرة ورفضت أن تقفا معا مجددا تخشى
أن تنام الليلة إحداهما في المستشفى بسبب كل تلك الأعين المحدقة
بهما بذهول وإعجاب فهي لم تنسى بعد أنها في مراهقتها عانت
من ذلك ذات مرة وكادت تفقد عقلها .
اتسعت ابتسامتها وهي ترى إحدى عضوات إدارة جمعيتها تقترب
منهما برفقة شقيقها الذي جلبته اليوم للحفل عنوة لتجمعه بها
ومصممة فعلا على أن تجعل شقيقها ذاك يقتنع بفكرة الزواج بعد أن
يراها درجة أن أبعدت الكاسر عنهما وليست تعلم كيف لعبتها لتتركهما
معا بمفردهما فقررت حينها التدخل فهذا التجاوز لن تسمح به أبدا
خاصة مع نظرة ابنتها المستجدية التي رمقتها بها وكأنها تحتاج
لشخص يخلصها من ذاك المأزق .
وما أن فكرت في التقدم نحوهما أوقفها ذاك الصوت من خلفها والذي
عرفته ما أن وقع في أذنها
" هل يمكنني تقديم العون أيضا أم رجال الجيش محظورين في
نشاطاتكم ؟ "
التفتت من فورها لصاحب ذاك الجسد الطويل والأكتاف العريضة
والشعر الأسود المسرح بعناية والملامح الحادة الجذابة والابتسامة
الرجولية المميزة وقد تخلى هذه المرة عن زيه العسكري مستبدلا إياه
ببذلة سوداء أنيقة غيرت من ملامحه بشكل واضح ، من لم تتوقع أبدا
أن يكون هنا اليوم ! استرقت النظر لابنتها مجددا قبل أن تنظر له قائلة
بابتسامة مجاملة مغصوبة
" مرحبا سيادة اللوآء ، لم يسبق لأمثالك أن فعلوها بالطبع لأنه لا
شيء تحتاجه النساء منكم لكنه كرم حقيقي منك "
خرجت منه ضحكة صغيرة وقال
" معك حق فرغم أننا نقدم لوطنكن كل شيء إلا أن قضاياكم لا نستطيع
تقديم أي دعم لها فأنا عنيت الأمور .... المادية بالطبع "
ارتخى صوته عند آخر كلمتين وهو ينظر ليدها التي ارتفعت لحجابها
وانتبهت حينها فقط أي يد كانت تلك فأنزلتها سريعا وهربت بنظراتها
منه على صوته المستغرب قائلا
" يبدوا أنه ثمة سعيد حظ هنا ؟ متى حدث هذا ؟ "
تلعتمت قليلا تنظر لحركة أصابعها حول ذاك الخاتم قبل أن تقول ما
قالته لجميع من سألوها عنه " حدث الأمر سريعا "
لم يحضى بفرصة التعليق على ما قالت وسؤالها عما تجاهلته في
سؤاله ولا هي لإيضاح الأمر والأنظار جميعها تنتقل جهة ذاك الضجيج
بسبب انتقال رجال الصحافة وكاميرات التلفاز لباب تلك القاعة المزين
بباقات الأزهار الضخمة وقد وقف أمامه صاحب ذاك الحضور الذي
خطف الأبصار جميعها بتواجده الغير متوقع في ذاك المكان ميزته
الملابس التي لم يصل أي منهم لفخامتها يضع أحد يديه في جيبي
بنطلونه الكحلي الأنيق واليد الأخرى يمسك بها مجموعة أوراق فأنزلت
رأسها وأغمضت عينيها متنهدة بقوة بعد ما التقطت عيناها تلك النظرة
الموجهة لها تحديدا ، وحالها لم يكن أفضل من الواقفة على مبعدة منها
من جن جنون ضربات قلبها درجة أنها لم تعد تعي لما يقوله الواقف
أمامها وهي تنظر للذي دخل خلفه فورا
كانت السيارة الجاغوار البيضاء ذاتها في انتظارهما في الخارج
وما أن ركبا غادر من هناك مسرعا وانطلقت سيارته فورا مغادرة
شوارع لندن المزدحمة لتبدأ في مسابقة الريح خارجها ، كان الصمت
حولهما يزيدها توترا فلم يشغل نفسه هذه المرة باتصالاته ولا بأعضاء
تلك المنظمة كما أنه لم ينطق بشيء تاركا للصمت حرية العبث بينهما
كما تركت هي لنظراتها تلك الحرية المطلقة لتسترق النظر ناحيته كل
حين لا تمل أبدا من مراقبة قيادته وملامحه المسترخية مركزا على
الطريق أمامه يسند مرفقه على نافذته المفتوحة ويضع إصبعيه
السبابة والوسطى تحت شفته السفلى مثبتا ذقنه بإبهامه تارة وممررا
أصابع تلك اليد في شعره الكثيف الأسود المتدرج مع حركة الريح ثارة
أخرى فلم تكن تزيد بذلك من وضعها إلا سوءا بمراقبتها المجنونة له
دون تحفظ بعض الأحيان تاركة لمشاعرها العنان هذه المرة بدون
قيود ... آه رباه ومتى فرضت هي على نفسها قيودا ؟ إنها تفقد
عقلها في وجوده وحسب .
لا تصدق أن تيم ذاك الفتى الذي عاشت معه منذ طفولتها في تلك
البلدة الصغيرة الفقيرة يكون هذا الشاب الجالس قربها الآن يقود
سيارة فاخرة ويرتدي ملابس لا تقل عنها فخامة ورقي ! نظرت
لنفسها تكتم ضحكتها فماريه أيضا أصبحت وكأنها ليست تلك
الطفلة مهملة الثياب والمظهر تلعب الريح بغرتها الحريرية
المقصوصة في كل اتجاه والتراب يلطخ يديها وملابسها طوال فترة
وجودها خارج المنزل لتكون مهمة الجالس بجانبها الآن إزالة كل
تلك الأثربة ينفضها عن ثيابها بيديه قبل أن تدخل منزل عمها
وقت مغيب الشمس كي لا تعاقب ... الآن فقط أدركت سبب ذلك
وفهمت ما كان يعلمه هو وتجهله لصغر سنها ... ذكريات كانت
في السنوات الماضية على استعداد لدفع كل ما تملكه ليعيدوها لها
ولو يوما واحدا لتجد نفسها بقربه مجددا .. تراه .. تتحدث معه
وتسمع صوته ، وها هي اليوم حصلت عليهما كليهما ( مالها وتيم(
تتسائل أحيانا هل جنية النوافذ كما سماها هو موجودة فعلا وأخذت
أمنيتها تلك وطارت بها بعيدا وحققتها ؟ فها قد تحقق بعض ما
كتبته في تلك الورقة وأغلبه بمعجزات !
نظرت جهة النافذة وأنزلت زجاجها بكبسة زر صغيرة لتتلاعب
تلك النسائم القوية بشعرها أكثر وشعرت حينها فعلا بالماضي
يعود وإن كانا كبرا وتغيرت ملامحهما فلا ينقصهما الآن سوى
سلاحفهما الصغيرة تلك ، عادت للابتسام مجددا وهي تتخيل أن
يلعبا بالفعل بسلحفاة صغيرة وهما بهذا السن !
" ماريا أغلقي النافذة لا أحب القيادة ونافذتان مفتوحتان في السيارة "
أغلقتها فورا مبتسمة فرغم أن اولى عباراته كانت أوامر وبنبرة
جادة إلا أنها سعدت بأن علمت شيئا عما بات يحب ويكره ..
تغلغلت في بعض تفاصيل حياته وشخصيته مهما قل ذلك ،
نظرت ليديها في حجرها لتسرق يده الممسكة بذراع السرعة
نظرها فورا فشدت أناملها على الحقيبة فيهما بقوة تمنع نفسها
من فعلها وامساك يده ، أبعدت نظرها جهة النافذة سريعا
وأغمضت عينيها بقوة موبخة نفسها .. حمقاء ما هذا الذي تفكرين
فيه ! لما لا تحضني ذراعه أيضا ؟ حسنا هو زوجها وملك لها
وحدها فما الخطأ فيما تفكر فيه ؟ عضت طرف شفتها وهي تتكئ
للخلف لتغوص أكثر في ذاك الكرسي الجلدي تنظر لنصف وجهه
المقابل لها وفقدت التحكم تماما في عينيها ونظراتها التي تعلقت به ...
حسنا هذا من أبسط حقوقها فلتترك العنان لنظراتها لتتشبع
بتفاصيله وإن كان ذلك أفقدها الشعور بالوقت والمكان للحظات
حتى أنها لم تنتبه بأن السيارة دخلت طريقا فرعيا محاطا بالأشجار
والطبيعة المميزة وصوت خرير مياه ذاك الشلال تتسلل لسيارتهما
بوضوح واستطاعت سرقة نظره لها هذه المرة وقد رفع يده
وأمسك بذقنها وأدار وجهها جهة نافذتها قائلا بابتسامة جانبية
" لا تحرمي نفسك متعة النظر لهذا المكان فالشمس ستغرب قريبا "
شعرب بجسدها تحول لكتلة من الهيلام من شدة احراجها فتمتمت
تنظر للطبيعة التي كانت كما وصف فعلا
" كنت أراها من تلك الجهة أبحث عن الشلال "
ومدت شفتيها بعبوس حين لم يعلق ولم يكشف عما يدور في
داخله وكان قد عاد بنظره للطريق أمامه مجددا وما أن أدار
المقود كانا أمام سياج حديدي منخفض بعض الشيء ، أوقفت
سيارته أمامه وفتح الباب ونزل فنظرت حولها باستغراب فهل
وصلا للمكان المقصود ؟ حسنا هي لا تعرفه على أي حال لكن لما
هنا وأمام هذا السياج !
صوت طرقات أصابعه على نافذة الباب الذي نزل منه جعلتها تفتح
بابها وتنزل أيضا بعدما قررت ترك الحقيبة هناك فلن تحتاج لها
ولا لهاتفها وتشعر أنها تقيدها بالفعل ، ما أن نزلت وأغلقت الباب
كان في استقبالها رائحة الهواء النقي المنعش والأزهار الجبلية
وحشائش الأرض ، كان المكان أشبه بجنة خلابة وذاك اللون
الأخضر يمتد حتى تلك الجبال البعيدة العالية ولازالت تسمع صوت
تلك المياه التي لا تعلم أين تكون تحديدا ؟ أبعدت خصلات غرتها
المتطايرة على عينيها تنظر للذي دار حول مقدمة السيارة ليصل
عندها وأمسكها من يدها قائلا
" تعالي سندخل من هنا "
نظرت له باستغراب تتبع خطواته الواسعة حتى وصلا لباب صغير
دخلا منه تلاه ممشى حجري متعرج قليلا أوصلهما لمكان جعلها
تفتح فمها مندهشة ما أن رأته تنظر لذاك الجسر الخشبي الأنيق
فوق مياه النهر الجاري تحته تحيطه الخضرة من كل جانب والتي
اقتصرت على بساط الأرض الأخضر والأزهار المتراقصة مع الريح
وكأنه تم تصميمه ليكون هكذا تحديدا وقد ازيلت منه باقي الأشجار
والنباتات ، لكن المفاجأة الحقيقية لم تكن هنا بل في الكوخ الموجود
خلف ذاك الجسر ! كوخ ريفي رائع بواجهة أماميه مفتوحة على
تلك الطبيعة وبأضواء صفراء زادته جمالا مع منظر ذاك الغروب
وكان يوجد أمامه موقد نار حجري تحيط به كراسي أنيقة لكن ما
جعل قلبها ينتفض بشدة وقتها كانت تفاصيله الداخلية المكشوفة
وذاك السرير الأبيض المزدوج وسط ذاك الأثاث الخشبي المميز
والشموع .
عضت طرف شفتها لا شعوريا تقبض يداها ببعضهما بقوة وما
أن نظرت ناحيته شعرت بأنها تحولت لدمية لعب عيناها متحجرتان
وخداها متوردان بشدة من الإحراج فقد وجدته ينظر لها فهربت
بنظرها منه سريعا وهمست تنظر ليديها
" لا تقل بأنها فكرتك أنت ؟ "
وما أن أنهت جملتها تلك عضت طرف لسانها موبخة نفسها ..
ألم تجد شيئا غير هذا لتقوله ! الغبية المغفلة إنها تسخر من
شخصيته علانية ، توقعت تعليقا قاسيا منه وكانت تستحقه بالفعل
لكنه خان توقعاتها حين قال
" حسنا هي ليست فكرتي بشكل مطلق لكني أردت فعلا مكانا هادئا
منعزلا "
شغلت نفسها بالنظر للمكان حولها ولم تعلق وبما ستعلق مثلا !
فلتحمد الله أنه لم يغضب منها ، إذا هو أراد العزلة والهدوء فقط
وثمة من اقترح عليه هذا ؟ كانت تعلم بأنه لن يأخذها بهذا الفستان
لمكان لا يكونان فيه بمفردهما .
تحركت قدماها لا شعوريا ما أن راقبت مياه ذاك النهر النقية ..
هذا من أجمل ما قد يراه المرء وذاك الجسر الخشبي المنحني فوقه
يزيد المنظر جمالا ، لو أنها انتبهت لتلك اللآفتات وقت وصولهما
لعلمت في أي مدن ريف لندن المميزة هما الآن .. ( شير .. اشويل أو
افينهام ؟ ) أم مكان آخر تماما من تلك المدن الريفية المحيطة بها ؟
وصلت الجسر الخشبي تشعر بخطواته خلفها ووقفت في منتصفه
تراقب مياهه من الأعلى ومشاعرها وتركيزها مع الذي وقف
بجانبها وانحنى متكئا بمرفقيه على خشب سياج الجسر يراقب
مياه النهر أيضا ليمتد ذاك الصمت الطويل مجددا والذي
يشعرها بالخوف دائما في وجوده .. تعلم بأنه جزء من شخصيته
لكنها تتوتر بسببه وليست تعلم لما وكأنها تخشى من أن لا يكون
لها مكان في أفكاره تلك حين يعتصم به عما حوله أو أن يكون
تعبيرا صامتا عن شعوره بالملل في وجودها ؟
سحبت نفسا عميقا وحررته سريعا من صدرها وأدارت ظهرها
لتلك الجهة من النهر واتكأت به على السياج ليصبحا يقفان
معاكسان لبعضهما تماما ولأنه يقف بعيدا عنه بنصف خطوة
بينما ألصقت هي ظهرها به أصبحا في مواجهة بعضهما تقريبا
فنظرت للأسفل لبرهة قبل أن ترفع نظرها به واكتشفت حينها
بأنها سرقت نظره لها مجددا وبدأت تلك الأنفاس تتسارع في
صدرها حتى خشيت أن تفضحها فنظرت لأصابعها المتشابكة
ببعضها وهمست بابتسامة حزينة
" تغيرت كثيرا يا تيم "
ساد صمت قاتل كم شعرت بأنه قاسي ومؤلم مما جعلها ترفع
نظرها به مجددا وكان لازال ينظر لملامحها الرقيقة طفولية
القسمات قبل أن يبتسم بسخرية متمتما
" هل كنت تتوقعي أن تجدي ذاك الفتى ذاته ؟ نحن نكبر ماريا "
ركزت هذه المرة حدقتيها الذهبية على عينيه حين قالت
" ليس مظهرك أعني "
وهربت بنظرها منه لأصابعها مجددا وقد تابعت بحزن
" أصبحت أقسى من الماضي بكثير "
كانت تعلم بأنها تختار التوقيت الخاطئ لكنها تحتاج فعلا لأن تفهم
الكثير .. لأن يكون كل واحد منهما صريحا مع الآخر وأن تعلم ما
مكانها من حياته تحديدا ، رفعت نظرها له سريعا حين قال وقد عاد
بنظره للمياه في الأسفل وبنبرة خالية من أي تعبير
" أنا لم أتغير ماريا بل تلك الطفلة هي من كانت تستطيع فهم تيم
أكثر من الواقفة الآن بقربه ليتحول ما كانت تفهمه في الماضي
اهتماما لقسوة في نظرها الآن "
شعرت بكلماته صدمت حاجز قلبها وكأنها حجارة تحطم نافذة
من زجاج درجة أن أغمضت عينها لا شعوريا تشعر بوخز الدموع
فيهما وسرعان ما امتلأت بهم ما أن فتحتهما ونظرت له
هامسة بأسى
" ليس ثمة مسميات أخرى للإهمال يا تيم "
نظر حينها لعينيها واستوى واقفا ومسح بإبهامه رموشها وكأنه
يمنع تلك الدموع من النزول قائلا بجدية
" هل سنحتاج فعلا لشرح هذا ماريا ؟ "
حدقت في عينيه وهمست ببحة
" أجل "
تنفس حينها بعمق وقال بذات جديته ناظرا لعينيها
" ماريا ظروف حياتي أسوأ حاليا من أن اشركك فيها فلن أرضى
بتركك في شقتي وحيدة طوال النهار ولن تريني سوى ساعات
الفجر بل وأتغيب عن البلاد لفترات طويلة ولست أضمن أن لا تصابي
بمكروه في غيابي فمن يعنيهم أن يتضرر المقربون مني كثر لأني
أعمل في مجال أعدائي فيه يكونون ضعف أصدقائي ، أنتي أفضل
بعيده عني ماريا أتفهمين هذا ؟ "
نظرت للأسفل تكابد دموعها مجددا وهمست بحزن
" ليته يمكنني فهم ذلك ... لكني أعدك أن لا أهتم مجددا "
همس بكلمة يونانية لم تستطع فهم ما كانت تعني سوى بأنه
شتم أحدهما وقد امتدت أصابعه لوجهها حاضنا بها طرفه وقد
رفعه له مجددا وحدق بعينها قائلا
" ما هو الغير مقنع في كلامي ماريا ؟ "
أسدلت رموشها على تلك الأحداق العسلية ووجها لازال مرتفعا له
وقالت بابتسامة حزينة
" لا شيء ..."
قالتها بصدق وإن كان قد تخلله الكثير من الألم فهي تعلم بأنها
واقع وبأن ما قاله حقيقي تماما ، لكنه يعجز عن فهمها .. عن فهم
ما تحتاجه وما يعنيه لها حقا فقد تعبت من الوحدة ومن التشتت
ومن الضياع ... عاشت ومنذ طفولتها بلا عائلة وبلا انتماء رغم
أنها كانت تعيش مع من يكونون أهلا لها وهي الآن بينهم فعلا
لكنهم لم يستطيعوا ملأ ذاك الفراغ الذي تركه هو في روحها التائهة ..
كيف تشرح له هذا وكيف تجعله يقتنع به وليس يفهمه فقط ؟
شعرت بأصابعه تبتعد عن وجهها ووصلها صوته البارد كتلك
النسمات حولها
" وأنتي تغيرت أيضا ماريا "
رفعت نظرها به سريعا وحدقت به باستغراب فتابع وقد مرر
إبهاماها على شفتيها
" هذه الابتسامة الحزينة لم تكن موجودة في الماضي بتاتا فلما
قتلت تلك الابتسامة الجميلة ماريا لما ؟ "
فقدت حينها أي سلطة لها على تلك الدموع المسجونة في مقلتيها
وهمست بعبرة
" لم أقتلها بل هي من رحلت معك .. مع والدتك ومع كل شي
تشاركنا فيه في تلك البلدة وابتعدنا عنه بعد رحيلنا "
كان أقسى اعتراف أدلت به يوما .. كان تصريحا واضحا وقاسيا
لمشاعرها التي لم تكن لتتخيل بأن تكشفها أمامه أبدا لكنه لعب
وببراعة على أقرب وتر لقلبها فما عاد يعنيها ما قالت وما فهم
من كل ذلك ، أغمضت عينيها برفق وتقاطرت تلك الدموع منهما
تباعا حين أمسك وجهها بيديه وقبل جبينها قبل أن يدفنها في
حضنه لتسجن تلك الدموع والعبرات وسط أضلع صدره وهو
يشدها له أكثر هامسا
" ماريا يكفي بكاء أو قسما غضبت منك "
ابتعدت عنه حينها تمسح دموعها بظهر كفها تنظر للأسفل فامتدت
أصابعه لذقنها ورفع وجهها له وقال بجدية ناظرا لعينيها
" ماريا امنحيني بعض الوقت "
تعلقت نظراتها الدامعة بعينيه وهمست ببحة
" أتعني أن ذلك قد يتغير قريبا ؟ "
مسح بظهر سبابته تلك الدمعة التي تدلت من رموشها قائلا
" لن أحدد ماريا لكنه سيكون تأكدي من ذلك ... إلا إن أنا مت قبلها "
وضعت يدها على شفتيه دون شعور منها قبل أن ترفع جسدها
على روؤس أصابعها وتطوق عنقه بذراعيها تدفن وجهها فيه
وهمست ببكاء
" يكفي ما أخذ الموت مني يا تيم لا تكرر هذا أمامي مجددا "
طوقها بذراعيه بقوة شعرت بها فجرت كل ذاك الشوق بداخلها
وهي تشعر بملمس شفتيه وقبلاته الرقيقة المتتالية لعنقها واصلا
لأذنها وقد همس فيها
" جسدك يرتجف ماريا ، أتشعرين بالبرد ؟ "
ابتعدت عنه حينها تنظر ليديها وهمست بحياء
" أجل ... الجو بارد هنا "
ولعقت شفتيها قبل أن تتابع بذات همسها تلعب أصابعها ببعضها
" إن كان ذاك الكوخ ضمن حدودك فنحن نحتاج له فعلا "
كانت تلك اللحظات التي تلت عبارتها تلك من أصعبها عليها فهي
كانت تريد بالفعل أن تثبت له بأنها تتفهم موقفه وظروفه ولن
تتصرف بأنانية حيال الأمر بما أنه قدم أعذاره بل ووعدها بأن
وضعهما هذا لن يدوم ، رفعت نظراتها له حين وصلها صوته
قائلا بهدوء
" ثمة ما علينا التحدث عنه قبل ذلك ماريا "
نظرت لعينيه بحيرة تتنقل حدقتيها العسليتان بينهما وشعرت بهول
ما كانت تجهل ما يكون ذلك الذي وضعه حاجزا أمام ما سيكون
اتصالا فعليا بينهما كزوجين ! أبعدت شفتيها لتتحدث لكنه منعها
بوضعه لسبابته عليهما قبل أن يبعد يده وتنفس بعمق مخرجا
ذاك النفس دفعة واحدة وقال ما لم يجهزها أبدا لتلقيه منه
" أنا على علاقة بفتاة انجليزية "
