رواية حان الوصال الفصل الرابع والاربعون 44 بقلم أمل نصر
ماذا حدث؟ وما سر هذا الاختفاء المفاجئ؟ لماذا تصر على تجاهله وعدم طمأنته عليها؟ وقبل كل ذلك، ما الذي دعاها لتصل إلى المنزل في غيابه بعد انقطاعها عنه منذ شهور؟
يجزم في داخله أن هناك أمرًا جلل، لكنه لم يعلم كامل الحقيقة حتى يتأكد.
لقد أخبرته تلك الملعونة "نادين" بقصة لم تدخل عقله الواعي، رغم سعادته الوقتية بشكواها من معذبة قلبه وغيرتها المجنونة نحوها، سبابها وشتمها دون أسباب! هل هذا معقول؟ كيف لها أن تشك وقد علمت بهويتها وصفة قربها من شقيقه؟ ذلك المراوغ الذي تفنن في تضليله حتى لا يدحض قصة خالته ولا يؤكدها في الوقت ذاته.
حتى "جوليا" لم يجد منها إجابة وافية نظرًا لعدم حضورها كامل اللقاء كما قالت. طال الوقت وطال البحث، ولم يعثر عليها حتى الآن.
توقف بسيارته أمام المنزل الذي وصله منذ ساعات بعد علمه بما حدث، لكنه لم يجدها أو يجد من يدله عليها.
دلف داخل الممر الصغير المؤدي إلى درج المنزل، ليصعد إليه، ثم يطرق الباب بأدب دون استخدام المفتاح كما حدث في المرة السابقة.
فتحت الباب تستقبله "عائشة":
عمو رياض، أنت جيت تاني؟
قبل رأسها وولج معها داخل المنزل ليسألها:
جيت عشان أشوفها رجعت ولا لسه كمان؟
لا للأسف يا باشا، لسه كمان.
قالها "إيهاب" من الداخل يستقبله بوجه متجهم ويستطرد:
والله كان قلبي حاسس إنك السبب في اختفائها المفاجئ، اللي عايز أفهمه بس، إيه فايدة إنك تسيبها معلقة في حبالك تتعذب؟ ما تسيبها في حالها بقى وخليها تعيش! ده حتى حرام عليك يا أخي.
أنا برضو اللي حرام عليا وأنا كمان اللي معلقها؟!
قالها رياض مشيرًا بسبابته نحو صدره، ثم سحب نفسًا طويلًا وطرده، يستجدي من الله الصبر داخله، قائلًا بعد ذلك:
ممكن تندهلها لو جوا عشان أسوي أموري معاها لو سمحت؟
صاح "إيهاب" يجيبه بانفعال:
ما هي مش موجودة! زهقت من الكل، حتى إحنا
حتى البيت اللي قاعدين فيه مش طيقاه.
تجاوز عن كل ما تفوه به، وقد وقع قلبه خوفًا عليها:
أمال راحت فين؟ أنا بقالي ساعات بدور عليها، من ساعة ما رجعت من شغلي! بهجة راحت فين يا بني آدم؟ أنت! ولا هي عملت في نفسها حاجة؟
نبرته الجزعة في السؤال عنها جعلت "جنات" تسارع للتدخل وطمأنته:
ما عملتش حاجة في نفسها والله، هي بس مخنوقة، وحبت تغيّر جو في مكان ترتاح فيه.
تغيّر جو تروح فين بالضبط؟
بتقولك عايزة ترتاح، يعني كفاية عليك إنك اطمّنت عليها ومتشكرين أوي.
وأنا مش هسكت غير لما أشوفها حالًا دلوقتي.
قالها بحزم وحسم ليجبر "إيهاب" على الانصياع والذهاب معه إلى مكان تواجدها.
❈-❈-❈
تشاجرت، أخذت حقها من تلك الأفعى وشتمتها، ولكن هل هي استراحت الآن؟ لا، للأسف لم يحدث، فالكلمات السامة من تلك المرأة ونظرتها الدونية نحوها بقصد تذكيرها بقيمتها كامرأة في الظل، رضيت بالبيع والشراء ثم غلبها العشق وجعلها معلقة في الوسط؛ لا هي بالزوجة التي يفتخر بها زوجها أمام البشر، ولا حتى بالحبيبة السرية بعد أن تمرر حلقها ولم تعد لديها القدرة على المواصلة ك... كعشيقة قبلت بالدور منذ البداية. هذا هو التفسير لحالتها الآن، ولكن إلى هنا انتهى كل شيء. لقد جاءت إلى من تُنصِبه لمساعدتها كي يحسم قرار الفراق الذي للأسف في كل مرة تضعف وتتراجع عن تنفيذه.
دوى صوت جرس المنزل الذي تتواجد به، لتنتبه بعدها بقليل إلى صوته يدوي في قلب المنزل ويصل إليها داخل الغرفة التي انزوت فيها. مسحت بيدها دموعها الغزيرة لتنتصت وتستمع إلى الحديث الحاد بين معذب قلبها وابن عمتها الذي أتت تستنجد به من نفسها الضعيفة.
جِبته ليه معاك يا إيهاب؟ أختك تعبانة ومش حمل مقابلة أي حد النهاردة.
قالها شادي بتهكم فور دخولهما إليه، ليقابل قول الآخر بحدة:
والله أنا جاي لمراتي، ومحدش يقدر يمنعني عنها.
عقب إيهاب على قوله:
أديك شايف بنفسك يا شادي، الباشا مستميت فيها، وأنا بصراحة زهقت منه، اتصرف انت معاه بقى، يا تنده لها هي وتخلص الموضوع اللي طول ده.
صاح شادي بحدة:
هي خلاص وكلتني عنها عشان أخلصها ونخلص، لا هي هتشوفك ولا هتستمر في لعب العيال ده تاني.
هدر رياض بغضب عاصف:
لعب عيال مين؟ هو الجواز فيه لعب عيال؟ ابعد من قدامي يا بني آدم انت، وما تدخلش نفسك في اللي مالكش فيه، سيبني أشوف مراتي.
جاءه رد الآخر بعدم اكتراث:
وأنا بقولك مالكش ستات عندنا، روح يا سعادة الباشا بهيلمانك ده، دور عليها في وسطكم وطبقتكم العالية، إنما اللي هنا دي...
توقف لتعلو نبرته مشددًا:
اللي هنا دي تنساها من تاريخك أصلًا، لأن قريب أوي هنخلصها منك، يعني لمّ نفسك وعلى بيتك كده من غير تعب ولا رغي كتير، إحنا ناس بنام من العشا.
وكأنه ضغط على زر اشتعاله بذكر الفراق وإبعادها عنه، ليصيح به:
انت بتقول لمين الكلام ده؟ اصحى وفوق لنفسك واعرف انت بتكلم مين؟ مش أنا اللي يجي واحد زيك ويحكم عليا، روح شوف حالك يا بابا بدل ما أذيك.
رد شادي مستفزًا وهو يميل برأسه متحديًا:
ده على أساس إني في الروضة ولا شاب صغير وعودي طري؟ اعمل ما بدالك يا حبيبي، وبرضو مش هخليك تطول ضفرها تاني.
إلى هنا انفلت زمامه حتى كاد يهجم عليه ويحقق ما يتمناه في هذه اللحظة بتهشيم رأسه ليصمته إلى الأبد، إلا أنه تراجع فجأة برؤيتها، حينما أطلت أمامه خارجة من إحدى الغرف، بوجهها البهي وقد اكتسى بحزن قبض على قلبه، ليهتف معاتبًا لها:
أنتِ قاعدة جوا وسامعة كل الخناقة؟! بقى يرضيكي اللي بيعمله الزفت ده؟
أومأت بثبات تُحسد عليه:
آه يرضيني، وكل كلمة ولا حكم يحكم به، أنا موافقة عليه.
خرج صوته بصراخ وقد فاض به من عنادها:
وبتقوليها في وشي إنه يفرقنا عن بعض كمان؟! ده مهما كانت معزته، صفته إيه ده عشان يمشي حكمه علينا؟ ما تفوقي نفسك وبطلي جنان بقى... طب جنان بجنان بقى، هتطولي نجوم السما ولا هتطوليها، أنتِ مراتي، وهتفضلي مراتي، سواء كان برضاكي أو من غيره، وأما أشوف الحلو ده هيفرقك إزاي عني؟
توقف يرمقها بنظرة مناقضة تمامًا لكل ما تفوّه به وما أظهره من عجرفة؛ نظرة يفيض منها الألم وكأنه مذبوح والسكين بيدها هي، يستجديها أن تتوقف عن عنادها، أن تسمعه ويسمعها، لكن يمنعه التعالي والاعتزاز بنفسه أن يعبر عن ذلك بفمه.
ثم، وبدون أي كلمة أخرى، تحرك مغادرًا دون استئذان.
سقطت هي بجسدها على الأريكة التي كانت خلفها، وأكملت وصلة البكاء التي لم تنقطع عنها منذ ساعات. اقتربت إليها "صبا" لتشاركها الجلوس على الأريكة وتهون عليها بالكلمات:
حبيبتي، براحة شوية على نفسك مش كده، مدام شادي اتصدرلك يبقى أكيد هيلاقي طريقة ويخلصك.
أخلصها من إيه بالظبط؟ مش لما أنا نفسي ما عدتش عارفة إيه اللي يريحها.
تمتم بها المذكور ليجلس مقابلًا لهما مع إيهاب الذي أطرق بصمت وحزن، وكأنه هو الآخر يشاركه الحيرة. لفتت كلماته انتباه بهجة التي رفعت رأسها نحوه بتساؤل تكفلت به زوجته:
جصدك إيه يا شادي؟
أجاب وعيناه على بهجة:
قصدي إني محتار، خايف أقف جنبك وأخلصك منه فعلًا، وبعدها أندم إني طاوعتك. تمسكه الكبير بيك يدل على حاجة واحدة...
قاطعته بهجة مرددة بانهيار:
وأنا مش عايزة الحاجة دي، لأني وبكل بساطة عارفاها كويس وهي سبب تعبي. ملعون أبو الحب اللي يذل صاحبه، قلبي بقى زي الخرقة المقطعة على مية حتة. أنا هلكت، هلكت من التعب، يا ريتني ما قبلته ده اتفاق، يا ريتني قعدت على حالي ولا كنت قربت منه عشان أفرح لي يومين وبعدها أفضل أتعذب بناره، يا ريتني ما قربت منه، يا ريتني ما عرفته أصلًا.
وختمت بنوبة أصعب من البكاء تخبئ بكفيها وجهها، ضاعفت من حزن الثلاثة وإحساس العجز نحوها، رغم وقوفهم معها ضده، ومع ذلك لا يتمنون لها الفراق.
❈-❈-❈
في لحظة ضعف، وجد نفسه حائرًا بين الماضي وآلامه، ينظر إلى الفراغ الذي تركته، كما لو أن قلبه سقط في بئر عميق لا نهاية له. تخلّت عنه حبيبته كما يتخلّى الربيع عن زهوره بعد أن جفّت، وتركته في العتمة يواجه نفسه. لكنه كان يعلم، رغم كل شيء، أن الهزيمة في الحب ليست النهاية، بل بداية لعهد جديد.
أما عنه، وبعد أن خرج من عندها، شاعرًا بهموم العالم فوق رأسه، مهلهلًا من الداخل، فاقد الشغف، فاقد الحياة، فاقد الطاقة حتى في المواصلة والتعايش مع ما يحدث معه من مصائب.
لم يكن لديه أدنى قدرة على الذهاب إلى المنزل الذي أصبح يتشاركه مع شقيقه، لا يريد أي شيء يذكره الآن بمسؤوليته، فهو في حاجة للتعبير عن احتياجه الآن فقط.
بعث برسالة نصية عبر الهاتف إلى آدم يسمح له بالذهاب اليوم مع خالته بناءً على طلبها، كي يبيت الليلة عندها ويقضي معها الوقت، تلك الأفعى التي لم يعلم حتى الآن ما فعلته مع بهجة لتجعلها بهذا الانكسار وتغلق كل الأبواب أمامها. لكن لا بأس، سوف يكشفها مهما فعلت.
قاد سيارته واتجه إلى منزله مع والدته، ليذهب إلى غرفتها على الفور، حتى إذا طرق باب الغرفة وجدها أمامه جالسة على كرسيها تراجع بعض أوراق الجمعية. دلف إليها وبدون أن يتفوه ببنت شفة، جثا جالسًا بركبتيه على الأرض، يبعد الأوراق عن حجرها، ثم يلقي برأسه محلها أمام دهشتها، يحتضنها كطفل صغير يستجدي الحنان.
انخلع قلبها من صدرها لفعلته، لتخلع العوينات الطبية عن عينيها وتسأله بهلع وكفها حط على شعر رأسه:
إيه اللي تاعبك يا حبيبي؟ مالك يا رياض؟
تأوه بضعف شديد قائلًا:
تعبان أوي يا ماما ونفسي أرتاح، معدتش قادر ولا متحمل، الدنيا جاية عليا أوي ومش مدياني الفرصة أعيش زي باقي البشر. حتى الست الوحيدة اللي قلبي انفتح لها، هي كمان كرهتني زيها. أنا عايش ليه أساسًا؟ ياريتني روحت مع اللي راح كان أريح.
انتفضت برفض تام لكلماته، لتضم رأسه إليها وتقبله مرددة برجاء:
ماتقولش الكلام ده، ماتقولش الكلام ده يا رياض، بعد الشر عليك يا روحي. ليه يا بني توجع قلبي عليك؟ إيه اللي حصل بالظبط بينك وبين بهجة؟
مش قادر أتكلم، عايز حنانك وبس.
ألم تسرب بنبرته حتى وصل كنصل حاد إلى قلبها، فزادت من ضمه، تزيح بيدها العبرات التي أصبحت تسيل على خديها قبل أن تصل إليه، تخبره بكل خلية تنبض بجسدها:
حناني بس يا رياض؟ دا أنت تاخد قلبي وروحي كمان. هو أنا ليا حد في الدنيا دي كلها غيرك يا حبيبي؟
قابل موافقتها بصمت، ليرخي حصونه وكل الأسلحة التي يقاتل بها طواحين الحياة القاسية، يلقي بهم تحت أقدامها، ويدفن رأسه بحجرها، ليتذوق الحنان الذي فقده منذ سنوات كثيرة، يتلقف الأمان من ضعفها، حتى استسلم وغفت عينيه.
وهي ظلت على نفس الوضع تضمه، لم تشتكِ ولم تتحرك كي لا تزعجه، فغلبها النوم ولم تشعر بنفسها سوى صباحًا حينما اخترق ضوء النهار الغرفة، لتعي على وضعه، فتحاول إيقاظه:
رياض يا قلبي، أنا بقول تقوم تريح على السرير أحسن.
استيقظ بعد عدة محاولات ليرفع رأسه ويحاول تدليك عنقه بتوجع ودهشة:
أااه، أنا نمت هنا إزاي بس؟ وانتي يا ماما مش تصحيني؟ أكيد أنتي كمان تعبتي.
اقتربت تكوب وجهه بين كفيها، تغمره بصدق:
يا قلبي تعبك راحة، أهم حاجة تكون ارتحت.
ابتسامة ضعيفة لاحت على ملامحه الشاحبة وهو يحاول النهوض من جوارها متمتمًا:
منكرش إني ارتحت، رغم إن عضمي اتكسر، بس كفاية ريحتك اللي ملت أنفاسي. أنا هروح أخد شاور وأرجع أنام تاني.
يعني مش هتروح شغلك؟
رد يجيبها وهو يسحب قدميه للخروج من الغرفة:
النهاردة خليته إجازة للنوم وبس، ولما أشبع وأرتاح أبقى أخرج.
تطلعت في أثره بشرود، تبحث عن حل لتلك المشاكل التي تحاوطه. لقد تحمل الكثير وطال صبره، حتى اللحظات السعيدة التي سرقها لنفسه مع من أسرت قلبه، ارتدّت عليه بعذاب الهجر بعد ذلك. متى يأتي الحل؟ الأمور يوميًا تزداد تعقيدًا، مشاكل وأشخاص يظهرون من العدم،و...
توقفت عند خاطرها تتذكر الطفل شقيقه. كيف يتركه ليلة كاملة وحده؟ أترى نسيه؟ يا إلهي.
انتفضت لتنهض وتحاملت على ألم ركبتيها الذي أصابها بالتيبس لطول الوقت في جلوسها ورأس ابنها الثقيل عليهما. سارت تمشي كالعرجاء حتى وصلت إلى غرفته، التي وجدتها مفتوحة كعادته، فدلفت كي تستفسر منه:
رياض، مش هتروح عند آدم تتطمن عليه طيب؟ انت سايبه من امبارح لوحده؟ أوعي تكون نسيته! يا نهار أسود!
لم تجده لتحصل على إجابة، ولكن وصلها صوت الماء من المرحاض، لتعلم بوجوده في الداخل. شرعت تخرج من الغرفة لتعود إليه بعد ذلك بقليل، ولكن لفت انتباهها شيء ما جعلها تتجمد في مكانها. توسعت عيناها بذهول، حينما وقعت أبصارها على حين غرة داخل الغرفة المخصصة للملابس والأشياء التي تخصه. أصابتها الرهبة أمام هذا الذي بدا أمامها كمصباح ضخم ينير العتمة.
أو هو من تنعكس الإضاءة عليه فتجعله يضيء بروعة وسحر خطف قلبها، وجعله يتراقص داخلها بحنين. فلم تشعر بنفسها إلا حينما وصل إلى مسامعها صوت غلق باب المرحاض وقدومه من خلفها. فخرج قولها بمشاعر زلزلتها من الداخل:
دا من إمتى هنا يا رياض؟
رد مجيبًا بنبرة يغلب عليها القنوط واليأس:
جيبته معايا وأنا راجع من تركيا.
❈-❈-❈
بعد الصبر، يأتي العوض كنسمة تلامس القلب برقة، تُزيل عنه تعب الانتظار وتغسل روحه. هو الفرج الذي لا يُرى إلا بعد أن يُختبر الإنسان في صبره، كأن الله يختار لحظات العناء ليُعيدنا بها إلى أنفسنا، فيمنحنا من رحم المعاناة أملًا جديدًا. العوض بعد الصبر هو دليل على أن الحياة لا تتركنا في الظلام، وأنه مهما طال الليل، فالصبح آتٍ.
أمام المرآة وقفت تتأمل نفسها، بعد أن ارتدت ملابسها لتتجهز للخروج. عينان منتفختان من كثرة البكاء، بشرة باهتة، وملامح حزينة... اللعنة. إذن عليها وضع القليل من مساحيق التجميل، ربما تنجح في إخفاء هذا الشحوب وآثار الحزن.
تناولت الفرشاة، تنثر بها القليل من الحمرة على الوجنتين وبعض أجزاء من الوجه. همت لتلون شفتيها، ولكن أوقفها دخول عائشة ونداؤها:
بيبو يا بيبو، في زيارة جاتلك بره.
❈-❈-❈
خرجت من غرفتها لتجد نجوان في انتظارها، جالسة على أحد الأرائك، تستقبلها بابتسامة فاترة تثير الارتياب:
أهلاً يا بهجة، شكلك كنتِ لابسة وخارجة، بس إحنا لسه بدري يعني على ميعاد الجمعية.
اقتربت تُقبلها على جانبي وجهها بخفة وتجيبها:
لا، ما أنا كنت هتصل بيكي وأبلغك إن ممكن أغيب النهارده، أصلي كنت رايحة الجامعة، خلاص بقى الدراسة ابتدت ويدوب ألحق أاا....
قطعت حديثها وقد انصرف ذهنها عن التركيز، شاعرة بشيء ما غير مفهوم:
مالهم دول مبلمين ليه؟
سألتها بإشارة نحو أشقائها الواقفين في محلهم بصمت وسكون، فخاطبتها نجوان قائلة:
اقعدي يا بهجة وانتي تفهمي كل حاجة. وانت، إيهاب، معلش هاتوا هنا لو سمحت.
هو إيه اللي يجيبه؟
تمتمت بها بهجة وهي تتخذ مقعدها على الكرسي المجاور لها، ثم سرعان ما انتفضت بتخمين:
معقول تكوني جايباه معاكي؟ لا، أرجوكِ! أنا حددت قراري امبارح ومش عايزة أرجع فيه تاني. رياض لا ينفعني ولا أنفعه.
قابلت نجوان ثورتها بالرفض، تأمرها بهدوء:
اهدي وشوفي الأول أنا قصدي إيه.
قصدك إيه؟
وما كادت تنهي عبارتها حتى تفاجأت بشقيقها قادمًا نحوهما بعلبة ضخمة تشبه الحقائب الكبرى. وضعها على الأرض ثم قام بفتحها بتنبيه من نجوان التي ساعدته كذلك، حتى أخرجَا منها ذلك الفستان الأبيض الضخم. رفعه إيهاب أمام أبصارهم، لتظهر تفاصيله بالكامل.
بأكمام من الشيفون المُخرم وصدر مشغول بحبات دقيقة من الألماس، يمتد منها على الصدر كذلك، ضيق حتى الخصر ثم يتسع بالطبقات المتعددة، بما يشبه ملابس أميرات القرون الوسطى، وبإبهار يفوق الخيال.
كانت تطالعه مشدوهة، فاقدة النطق بحال يشبه حال أشقائها، غير أن التفسير جاء من عائشة التي تذكرت شيئًا ما لتسألها:
مش هو دا الفستان اللي كنتِ حاطة صورته على تليفونك يا بهجة؟
استفاقت، تتملك حالها كي تنفي كاذبة، ثم تتوجه بعد ذلك لنجوان:
دي كانت صورة عادية زي أي صورة يا عائشة، المهم بقى، إيه اللي جابه هنا؟
رمقتها نجوان بغيظ:
إنتِ لسه برضو مفهمتيش يا بهجة؟ ولا مش عايزة تفهمي؟ الصورة العادية اللي كانت على تليفونك مكانتش عادية، لأن غيرك شافها على تليفونك في مرة من المرات، وفضل مخزنها بعقله، لحد ما لاقاه قصاده في آخر سفرية ليه واشتراه... ليكي.
باستيعاب بطيء، وكأن غباء العالم قد أصابها في هذه اللحظة الفارقة، تردد وعيناها تتنقل ما بين الجميع:
مين اللي اشتراه؟ وغيري دا يبقى مين أصلاً؟
أجابتها جنات بأعين دامعة بالفرح:
يعني هيكون مين بس يا بهجة؟ دي مش محتاجة تفكير يا حبيبتي.
طبعًا هو في غيره، الباشا ابن الباشا.
علقت بها عائشة بلهفة، ليخرج قول إيهاب بإعجاب هو الآخر وعيناه لا تترك الفستان:
بصراحة فاجأني، والله طلع بيفهم.
طبعًا بيفهم يا ولد يا إيهاب، دا شغلته الهدوم والملابس أصلاً، إنت ناسي ولا إيه؟
تفوهت بها نجوان ردًا عليه، قبل أن تجفلها بهجة بصياحها بهم جميعًا:
إنتو بتقولوا إيه كلكم؟ فستان مين ولا باشا إيه؟... إنتو عايزين تجننوني؟
لا يا بهجة، مش عايزين نجننك، إحنا عايزين نفهمك، وكفاية أوي علينا اللي ضاع من العمر.
❈-❈-❈
بعد تعب طويل وصبر لا ينتهي، يأتي الوصال كأنّه شفاء للروح. لحظة تلتقي فيها الأرواح بعد أن مرّت بكلّ ما يكسرها، فتكتشف أن كل لحظة ألم كانت تستحق هذا اللقاء.
داخل غرفة مكتبه، حيث كان يعمل على بعض الملفات العاجلة مجبرًا رغم أخذه إجازة من أجل أن يريح عقله من كل شيء اليوم، يرتشف من فنجان قهوته منهمكًا بتركيز شديد، ليجفل على حين غرة باندفاع الباب أمامه بقوة فيجدها أمامه تلج إلى داخل الغرفة، بهيئة عاصفة كالإعصار، ثم تلقي بالعلبة الكبيرة بالفستان أمامه، بوجه مشتعل بالحمرة القانية وزمردتيها تشعان بالشرر نحوه، وكأنها على وشك الفتك به.
لينهض من محله حتى يقف مقابلا له سائلًا بعدم فهم:
إيه في إيه؟ هو الفستان مش عاجبك؟
وكأن بسؤاله البسيط ضغط على زر الانفجار لتصرخ به وتضربه بقبضتيها على صدره:
عاجبني؟ وليك عين تسأل يا بارد؟ ليك عين تسأل كمان.
استطاع السيطرة على جموحها، ممسكًا بقبضتيها داخل يده الكبيرة يهادنها بحزم:
اهدئي طيب وفهميني، ليه العصبية والانفعال ده كله؟
بعد أن منعها، صار صراخها يعلو أكثر:
ما هو كله منك، أنت السبب، هتدخلني سراية المجانين بعمايلك... والله لو اتجننت هتبقى أنت السبب، أنت السبب يا رياض.
وختمت تعود للبكاء مرة أخرى، فما كان منه إلا أن ضم رأسها إلى صدره، يسيطر على جسدها بذراعيه وليتحرك بها حتى أجلسها معه على الأريكة الجانبية بالغرفة، يتركها تبكي حتى تهدأ قليلًا، فيشاكسها قائلًا:
مكنتش أعرف إنك شرسة كده، بقى كل الخناق والضرب ده عشان فستان؟!
توقفت عن البكاء على الفور حينما استفزها بكلماته، لترفع رأسها إليه، تعقب على قوله بحنق:
هو الموضوع في الفستان؟ الموضوع فيك أنت، أنت اللي ساكت وكتوم وبارد.
برقت عينيه بإجفال ودهشة لقولها:
إيه اللي أنتِ بتقوليه ده يا بهجة؟ ليه يعني؟ ما أنا كان ليَّ ظروفي؟
حتى لو عندك ظروفك برضو تتكلم، مش تسيبني أضرب أخماس في أسداس طول الوقت، تسيبني في نار الحيرة والظنون، وأنا بموت ألف مرة من التفكير، أنت تعبتِ أوي، أوي يا رياض.
تبسم بخفة يذكرها:
ما أنتي كمان طلعتي عيني يا بهجة، ولا نسيتي إنّي حاولت أفهمك لكن إنتِ رفضتي، ده أنا جيتلك لحد البيت وإنتِ تقريبًا طردتيني، ولا ناسية دي كمان؟
لا مش ناسية، بس أنت معرفتنيش بظروفك مع آدم ولا بتعبه الأخير، كنت دايمًا بتحسسني إني على الهامش في حياتك، واحدة وحافظة دورها كويس أوي، اللي ما ينفعش تحيد عنه، ودي صعبة أوي.
بح صوتها في الأخيرة ودمعت عيناها بغصة جرحت حلقه، ليضمها إليه بقوة من خصرها، يشدد عليها بذراعيه مرددًا باعتذار:
إنتِ عمرك ما خدتي الدور ده يا بهجة، حتى لما طلبت منك الجواز وجرحتك بشرطي، كان غباء مني عشان أخمد الإحساس اللي في قلبي من ناحيتك، أنا كنت بضحك على نفسي، لدرجة إن كان بيطلع كلام الحب من قلبي يترجمه لساني من غير ما أقصد، وأظن إنه كان بيوصلك حتى ولو على غير إرادتي.
ما هو ده تعبني وضعفني معاك، إني عارفة ومتأكدة من حبك، لكن جارحني نكرانك، كأنك مكسوف ولا مستعر.
خلاص يا بهجة.
تمتم بها يهزها معنفًا بخفة حتى لا تكررها، ليردف بحزم:
اللي جاي كله في النور، اللي جاي كله تعويض عن اللي فات، هعملك كل اللي إنتِ عايزاه، كل اللي تحلمي بيه.
نزعت نفسها من ضمته، كي ترى صدقه جليًا في بندقيتيه، ومع ذلك تريد مزيدًا من التأكيد:
بتتكلم جد يا رياض، يعني هتقدمني لقرايبك حتى لو كانت... بهبرة شوكت؟
ضحك يقرصها من وجنتيها:
أنا فعلاً قولت لبهيرة في الحفلة، يا خسارة، ما شوفتيش رد فعلها ولا صدمتها.
❈-❈-❈
في لحظات جنون الحب، يصبح العقل ضيفًا ثانويًا، والقلب هو الحاكم الأول. تبدأ الأفكار في التمرد، والخيال يندفع دون استئذان. تقول أشياء لم تكن لتقولها أبدًا، وتضحك لأشياء لا تستحق أكثر من ابتسامة صغيرة. جنون الحب لا يعني سوى أنك مستعد للسخرية من نفسك، لأنك في النهاية تعلم أن ذلك الضحك هو ما يجعل الحياة أكثر جمالًا، وأن هذا الحب المضحك هو ما يجعل قلبك ينبض بحيوية.
داخل السيارة التي دلفت إليها للتو في استعداد للمغادرة والعودة إلى منزلها، كانت على وشك أن تدير المحرك حينما تفاجأت بمن يفتح الباب بغتة وينضم معها، حتى همت أن تصرخ لولا معرفتها بهويته، لتكتم شهقتها واضعة كفها على صدرها مرددة بجزع:
قلبي وقف من الخضة، بقى دي عمايل دكتور عليه القيمة برضو.
صدحت ضحكته في محيط السيارة ينفي لها:
لا، للأسف حظك وقعك وقعة مسخرة...
واقترب برأسه منها مردفًا:
بس معاكي إنتِ بس؟
ارتدت بجسدها للخلف قائلة بغيظ من أفعاله:
بطل حركاتك دي يا هشام، أنا خلقي ضيق.
وماله، أوسعهولك.
برقت عينيها برفض مطلق لأفعاله، فتابع هو دون أن يعير غضبها اهتمامًا:
ما هو اسمعي، أما أقولك، تكشري تعيطي، تعملي قرد حتى، أنا واحد فاض بيه من دور الخطوبة المؤقت، أنا عايز خطوبة طبيعية يا صفية، حقوق وواجبات، اللي يشوفك معدية في الشارع يعرف إنك خطيبتي...
ناس مين يا هشام؟دا إنتِ مخليتش حد في المكتب ولا حتى في العمارة اللي المكتب فيها، إلا وعرفتة،
ده حتي عم عصفور السايس، بقى كل ما يكلمني يقولي سلميلي على خطيبك.
تبسم محركًا حاجبه بثقة وزهو:
وماله يا متر، أديكي اتصيتي أهو، خطيبة الدكتور راحت، خطيبة الدكتور جات.
نفحت بحنق شديد، حينما لامس ذلك الجزء المعتز بكينونتها، لتظهر له الجانب الغبي منها كما يحدث كلما يستفزها:
طب إيه رأيك بقى؟ أنا مش عايزاه الشرف ده، ويكفيني دور المحامية اللي أنا عملته لنفسي، أنا في غنى عن أي راجل مغرور زيك يا هشام، والخطوبة دي مش...
قطعت بشهقة جزعة، حينما اقترب منها فجأة، يلتصق بها بملامح حازمة أرعبتها، ولكنها تظاهرت بالشجاعة:
ابعد عني يا هشام، عيب كده.
مش هبعد، عشان غير لما أسمع منك موافقة على خطوبتنا، يا كده يا عملك فعل فاضح في الطريق العام، أنا دكتور نفسي ومجنون في نفس الوقت.
حاولت أن تفتح باب السيارة الملتصقة به، ولكنه لحق ليمسك بمقبض الباب يمنعها لتصبح محاصرة بين ذراعيه فازداد جزعها:
هشام، إنتِ بتخوفني بجد.
لم يرضخ لرجاءها، بل واصل فرض سيطرته:
هتقولي موافقة يا صفية، ولا أقرب وها...
قال الأخيرة واقترب بوجهه حتى كاد أن يقبلها، لتدفعه بكفيها على صدره مرددة:
موافقة... موافقة يخرب بيتك.
ضحك يخفف عنها حصاره ويعود لعبثه:
لا يا أستاذة، امسكي لسانك بقى، ولا إنتِ نسيتي بيتي هيبقى بيتك.
في تلك اللحظة، شعر أن قلبه وقع في قبضة جنونٍ لم يستطع الهروب منه. أمامها، كان كل شيء مختلف، حتى كلماته التي كانت تتساقط منه وكأنها نغمة مألوفة تتناغم مع نبضاتها. هي، بكل براءتها وابتسامتها، كانت تملأ الفراغ الذي كان يعتقد أنه لن يشعر به أبدًا. رغم كل شيء، رغم المسافة التي بدأت تتسع بينهما، إلا أنه لم يجد نفسه إلا في تلك اللحظة، يدرك أن الحب، مهما كانت تقلباته، سيظل هو الشيء الذي يربطهما.
أمام المرآة التي تحتل جزءًا كبيرًا من الحائط في غرفة نومه، وقف خلفها يشاهد انعكاس وجهها وقد اعتلى الإشراق والانبهار تعابيرها، في تأمل ذلك العقد الذي يطوف رقبتها البيضاء الجميلة وقد انعكس عليه لون الزمرد في الماسة التي تتدلى منه في الوسط. تردد بعدم استيعاب:
أنا مش مصدقة نفسي، هو اللي أنا لابساه ده بجد؟ هي دي فعلاً ماسة بجد وحق وحقيقي؟
ضحك معقبًا على كلماتها:
آه يا بهجة، بحق وحقيقي وجد الجد كمان. أنا جايبها حاجة special، الماسة الزمرد بلون عيونك، والخضار الصافي، لون الخضرة اللي شدني ليكي من أول مرة شوفتك فيها..
اغمضت عينيها تطرد من صدرها دفعة كبيرة من الهواء المحبوس، لتلتف برأسها إليه تخاطبه بلوم:
والله العظيم حرام عليك، كان لازم يحصل مصيبة عشان تطلع بالمفاجآت اللي هتوقف قلبي دي.
تبسم يغيظها بسخريته:
سلامة قلبك يا جميل،
يا روحي. إنتِ ناسية إني جيتلك لحد عندك بالشنطة ورفضتيها، شنطة هدوم تمنها آلاف الدولارات......
آلاف الدولارات ليه إن شاء الله؟ اللي ما في حاجة فيهم عليها القيمة ولا كاملة حتى، كله عريان وفي حتت غريبة، اللي إشي هنا على البطن، ولا اللي على الجمب فوق ال...
توقف تستدرك لخطأها لترفع يدها عن منطقة ما في جسدها أمام نظرته المتصيدة، بعد أن كشفت نفسها أمامه:
كملي يا حلوة، عرياني فين كمان؟
تلعثمت مسبلة أهدابها عنه بخجل.
آآه، أهو عرياني وخلاص بقى.
لا حبيبتي ما خلصش. تمتم بالكلمات ليقبض على قماش بلوزتها في الأعلى ويُردف بغيظ:
يعني فتحتي الشنطة وقيستي وفرزتي، بعد ما نكدتي عليا، طب أعمل إيه فيكِ؟ أعمل فيكِ إيه دلوقتي؟
سارت تترجاه بذهول وعدم استيعاب، لطريقته الجديدة في التعامل معها:
رياض، عيب الطريقة دي على فكرة، إنت ابن أصول ومن عيلة بشوات، سيبني بقى إنت مش قابض على حرامي.
لا يا حبيبتي أنا أمسك على كيفي، والنهاردة بقى ابن شوارع، مش ابن بشوات معاكي يا بهجة، عشان أفش غليلي فيكِ.
تبسمت مستخفة بكلماته، لتدفع كفيه:
طب يا عم، بلاش لعب عيال ده إنت حتى مش عارف ترسم الدور.
أنا مش عارف أرسم الدور، تمتم بها، وما كاد ينهيها حتى وجدته يدفعها نحو الجدار خلفها يلصق ظهرها به، وسريعًا رفع ذراعيها لأعلى، يقيدهم بكف واحدة، والكف الأخرى تسيطر على جسدها:
إيه رأيك بقى؟ بأنفاس متلاحقة، صارت تناظره بذهول ثم تجيبه:
رأيي في إيه؟ إنت كده قلبت لبلطجي.
ضحكة مكتومة حلت بثغره، ثم تحركت كفه بتسلية تمسح على جسدها بجرأة وتعلو ببطيء وتمهل، لتضيف هي:
.لأ ومتحرش كمان، أخلاقك باظت خالص يا بن حكيم. كانت كفه قد وصلت إلى جيدها، ليتوقف عليه، فاقدًا آخر ذرة من تحمله.
وإنتي خليتي فيها حكيم ولا ابن حكيم؟ ثم يصمتها عن الجدال، مبتلعًا اعتراضها بجوفه، ينهل من الشفتين بشوق جارف، وقد ألتفت ذراعيه حول جسدها الغض، لا يترك أنشًا واحدًا من بشرتها، ليعوض ما حُرم عليه منذ شهور، لا يترك لها خيارًا للرفض، بل ويجبرها على الاستجابة، فقد اشتاقها بقوة، اشتاق بألم.
وفي لحظة وجدته يرفعها عن الأرض، متابعًا تهديده:
أنا مش هسيبك النهاردة غير وأنا واخد حقي منك كامل.
ملكت صوتها لتردد باعتراض وهي تحاول النزول:
حق إيه اللي تاخده تاني؟ كفاية كده، أنا عايزة أروح.
لم تكد تنهيها حتى شعرت بسقوطها على فراش التخت، وسقط هو يشرف عليها من علو، مقيدًا يديها:
إيه رأيك وأنتي تحت رحمتي دلوقتي؟ لا سي إيهاب يحوشك عني ولا الغضنفر ابن عمتك يقفلك ضدي.
ضحكة عالية صدرت منها، وقد ذكرها دون قصد بما ينتظره في الأسفل:
طب إنت جيبت سيرتهم ليه دلوقتي...... وختمت تعود للضحك المتواصل حينما استمعت لصوت طرق باب الغرفة، ليعلق هو:
بتضحكي من غير سبب، إنتي عبيطة يا بنتي.
حركت رأسها تشير على باب الغرفة الذي جاء من خارجه نداء الدادة نبوية بإسمه:
يا رياض باشا، في ناس مستنينك تحت مع الست نجوان.
ناس مين؟ تمتم بها، ثم عاد إليها يوجه السؤال:
إنتِ عارفة مين اللي قاعد تحت؟
أومأت بإجابة واضحة، وبضحك مكتوم، جعله يخمن من رأسه مرددًا بغيظ شديد:
لا بتهزري، معقول يكون هما فعلاً؟
❈-❈-❈
بعد قليل،
هبط من الطابق، ينزل درجات السلم الضخم، بملابس مهندمة، وهيئة أنيقة ، وهيبة تناقض تمامًا، ما كانت عليه شخصيته منذ قليل معها، وقد كانت ترافقه النزول هي الأخرى. لكن بوجه اختلف مائة وثمانين درجة عن ما أتت به.
متنعمة بدفء كفه المطبقة على يدها الصغيرة، وكأنه يخشى منها الهرب أو التراجع.
كان في انتظارهما نجوان التي أشرق وجهها برؤية التغير الذي طرأ على الاثنين، وقد تأكدت من صدق ظنها، في الجهة المقابلة كان الاثنان الآخران، شقيقها إيهاب الذي أصبح وديعًا على غير العادة، تاركًا المهمة للفهد الآخر، شادي ابن عمته، والذي تبسم بملأ فمه في استقباله:
رياض باشا، عشان متفتكرش إني بمشي بس في المشاكل، أنا جاي لك برجلي أهو عشان نتفق.
جز على فكه بحنق واضح، ليقترب ويصافحه هو وإيهاب، وقد فهم سبب الزيارة، ليشير لهم بالجلوس قائلاً:
مش محتاجة نقاش يا عم شادي، أنا فهمت بهجة على كل حاجة، هيتعمل لها الفرح اللي هي عايزاه، واللي كان طالبه إيهاب، ولا إيه يا دكتور؟
سمع منه الأخير يوميء بثقة، فقال شادي بابتسامة لم يتخلى عنها:
وماله يا باشا، ناقص بس نتفق على التفاصيل، اهي أهم حاجة التفاصيل.
زفر يجلس مقابلاً لهم، يتنقل بنظرة خاطفة نحو بهجة التي تحولت كطفلة تغمرها السعادة بجوار والدتها، فترتخي دفاعاته ويسلم الراية البيضاء أمام سلطان قلبه الذي يجبره على الخضوع برضا تام:
ماشي يا سيدي، نتفق على التفاصيل.