رواية قيد القمر الفصل السابع 7 بقلم نهي طلبة
رواية / قيد القمر
.
الفصل السابع/7
عاد رؤوف لعمله بعد زفافه بأسبوع.. أسبوع ازدحم فيه منزله بالمهنئين وأفراد عائلته وعائلة نورا, التي لم يستطع الانفراد بها للحظة واحدة طوال ذلك الأسبوع.. فهو كان ينتقل من دوامة المهنئين إلى هيستيريا نعمات التي تظهر في أي لحظة تشعر به يتحرك ليذهب إلى عروسه..
لقد أصبح موقناً أنها تفتعل تلك النوبات مؤخراً.. لكنه لم يستطع إدارة ظهره لها بعد كل تلك السنوات.. وفي نفس الوقت يدرك بأن نورا عروس صغيرة ولا ينبغي عليه إهمالها أكثر من ذلك.. فهو لم ينسَ نظراتها له وهي تستقبل أهلها في اليوم الثاني لزفافها.. وخاصة حين ظهرت نعمات متقمصة دور سيدة المنزل ترحب بالضيوف والمهنئين وبعائلة عمه.. وتقدم لهم واجب الضيافة وكأنهم أتوا في زيارة عادية وليس ليزوروا ابنتهم العروس ويهنئونها..
التمعت حينها عينيّ نورا بنظرة عجز عن تفسيرها فهي بدت كنظرة ضياع وتشتت ثم عادت لتلتمع بنظرة مشاكسة وانتقامية وظل يدعو الله ألا تنطق بإحدى عباراتها المستفزة وتسبب أزمة هو في غنى عنها حالياً..
يدرك أنه بدأ معها بطريقة خاطئة, وهو نادم على ذلك بالفعل فلقد أعماه غضبه من تعليقها المستفز.. وتركها بمفردها في ليلة زفافها ليذهب مع زوجته الأولى, ولا يحتاج لكثير من الذكاء ليدرك أن نورا تظنه نام بأحضان نعمات... بينما ما حدث عكس ذلك تماماً.. فنعمات ظلت تبكي بهيسترية طوال ساعات الليل تقريباً.. واستطاع تهدئتها بعد وقت وجهد طويل.. ليسقط نائماً من الإرهاق والتعب..
ظل بالطبع مذنباً في عينيّ عروسه.. والتي -والحق يقال- لم تقم بأي تصرف مستفز.. كما كان يتوقع منها.. بل التزمت الصمت تجاه استفزازات نعمات لها وكان آخرها منذ قليل عندما جلسوا جميعاً على مائدة الغذاء لأول مرة وكان ذلك بناء على إصراره.. والذي ندم عليه لاحقاً بعد محاولة فاشلة من نعمات لاستفزاز نورا حين حاولت التغنج مع رؤوف وإطعامه بيدها:
ـ حبيبي.. تذوق الدجاج, لقد طهوته كما تحبه تماماً يا "بودي"!!!..
بينما صُدم بشدة من طريقة نعمات في تصغير اسمه, غصت نورا بطعامها, مما سبب سعادة وقتية لنعمات سرعان ما انمحت عندما تبين أن نورا غصت لمحاولتها كتم ضحكاتها التي تعالت لأول مرة، وبدا أن رؤوف قد فُتن بتلك الضحكة.. وما أن لمحت نعمات نظرته حتى اشتعلت نارها ولكن قيام نورا من على المائدة هو ما أنقذ الموقف..
توجهت نورا إلى غرفتها وهي تتظاهر بضحكات ساخرة في حين أنها كانت تكاد تشتعل ذاتياً من ضرتها المتصابية.. إنها تلتزم الصمت فقط لأنها تدرك أن إطلاق العنان للسانها سيكلفها الكثير.. كما لاحظت أن صمتها أمام استفزازات نعمات المستمرة يزيد من غضبها لذلك اتقنت رسم ابتسامة ساخرة على وجهها تواجه بها تصرفات نعمات المصممة على إخراجها عن طورها..
كانت تلك نصيحة عمتها قمر صبيحة زفافها.. وهي قررت إتباعها بعد ما كلفها لسانها رحيل رؤوف عنها وذهابه مع نعمات في ليلة الزفاف... أسوأ ليلة قضتها في عمرها كله.. وهي تتخيل الرجل الذي زُفت إليه تواً يقضي ليلته بين أحضان امرأة غيرها.. وارتسم ذلك الشعور في عينيها بوضوح وهي تلتقي بعينيه عند استقبالهما لأهلها في اليوم التالي، ولكن نظرة الشفقة التي رأتها في عينيه جعلتها تعود لطبيعتها المشاكسة سريعاً.. إلا وأنها رغم كل شيء لم تستطع خداع أمها التي شكت في صحة كل ما أخبرتها به نورا بأن الأمور على خير ما يرام بينها وبين رؤوف..
قاطع أفكار نورا صوت رنين هاتفها وكانت سهير شقيقتها تهتف بسعادة:
ـ هنئيني يا أحلى نورا.. لقد وافق أبي على خطوبتي أنا ومنذر.
صاحت نورا بفرحة:
ـ ألف مبروك يا حبيبتي.. أنا سعيدة جداً من أجلكِ.
ثم أردفت بلهجة مازحة:
ـ ولكن.. متى تقدم فارسكِ الهمام لطلب يدكِ؟.. أنتِ لم تخبريني...
ضحكت سهير بخجل وقالت:
ـ يبدو أنه فعل ذلك في ليلة زفافكِ.. واليوم أعطينا الموافقة لعمتي.. آه يا نورا كم أتمنى وجودكِ معي الآن..
أجابتها نورا:
ـ وأنا أيضاً.. ولكن ماذا نفعل في تقاليدنا العريقة يا عزيزتي؟.. ما رأيكِ لو تأتين أنتِ ونادية غداً حتى نستطيع أن نتكلم ونحتفل سوياً.
أجابتها سهير بتردد:
ـ ولكن...
ـ ليس هناك لكن.. سأنتظركما غداً لنتناول الغذاء سوياً.
أغلقت نورا الهاتف وقد أدخلت أخبار شقيقتها بعض السعادة إلى نفسها وتمتمت بهدوء..
"أرجو أن تعثر إحدانا على السعادة يا شقيقتي".
*********************
وقف رؤوف أمام نافذته ينفث دخان سيجارته وهو يراقب النافذة المقابلة لنافذة مكتبه, وكانت تظهر منها نورا وهي تتحرك بخفة ونعومة.. ابتسم قليلاً.. فهي كانت ترقص ولا تدري عن مراقبته لها.. قطع عليه تأمله لحركاتها الرشيقة دخول نعمات عليه فجذب ستارة النافذة بهدوء والتفت اليها:
ـ ماذا هناك؟.. هل أعد الطعام؟.
اقتربت منه بهدوء وهي تحاول التحكم في نبرة صوتها حتى لا تبدو كمن أتى ليفتعل مشكلة:
ـ هاه.. بالطبع الطعام جاهز.. ولكن على ما يبدو أننا سنتناوله أنا وأنت فقط.. فقد طلبت نورا طعام الغذاء من أحد مطاعم الوجبات السريعة..
سألها بدهشة:
ـ ولماذا؟..
أجابته بتردد:
ـ ربما غضبت من كلامي لك أمس على الغذاء.
هتف بحزم:
ـ اطلبي من الخدم وضع الغذاء لنا جميعاً..
قال كلمته وتوجه نحو جناح نورا ودخل بسرعة بدون أن يطرق الباب, فانتفضت سهير ونادية بقوة مما سبب له قليلاً من الارتباك ولكنه تغلب عليه سريعاً وهو يرحب بهما ويلتفت لنورا التي كانت ترقص لحظة دخوله ولكنها تجمدت تماماً تحت نظراته التي تخبرها بأنه على وشك قتلها ولا تدري لماذا.. لذا فسارعت بالقول:
ـ ألن تهنئ سهير.. لقد وافق أبي على خطبتها لمنذر.
التفت لسهير وقال وهو يبتسم:
ـ تهانئتي.. إن منذر رجلٌ محظوظ.
أجابته بخجل:
ـ شكراً لك..
ثم سحبت شقيقتها نادية المتسمرة في مكانها وقالت:
ـ سنذهب لنلقي التحية على خالتي نعمات.. فهي كانت نائمة عندما وصلنا.
بعد أن خرجتا.. التفت رؤوف لنورا وسألها مباشرة:
ـ ألم أخبرك أننا سنتناول الطعام سوياً.
أجابته بهدوء:
ـ نعم...
سألها بغيظ:
ـ إذاً لماذا طلبتِ طعاماً جاهزاً؟..
لم تصدق نورا أنه قد يكون غاضباً لهذا السبب التافه, فأجابته بصبر:
ـ لقد فعلت ذلك لوجود شقيقتاي, حتى آتناول طعامي معهما.. الموضوع لا يستحق كل هذا الغضب!.
كان يعلم ذلك.. الموضوع بسيط بالفعل.. ولكنه كان غاضباً بالفعل.. كان غاضباً منها ومن نفسه ومن نعمات.. لا يدري ما به... فقط يشعر بالغضب وترجم هذا عندما قبض على ذراعها وهو يتهمها:
ـ أنت تتعمدين مخالفة ما أطلبه منكِ.
سحبت ذراعها منه وهي تقول:
ـ كلا.. أنا لا أفعل.. لما أنت غاضب هكذا؟!!.
خرج منه الكلام بدون إرادة:
ـ لما كنتِ ترقصين؟..
تلون خداها باللون الوردي وهي تتمتم:
ـ لقد أخبرتك.. كنا نحتفل بخطبة سهير..
قربها منه قليلاً وهو يقول:
ـ لكني لا أحب أن يراكِ أحداً وأنتِ ترقصين.
ردت بعفوية:
ـ إنهما سهير ونادية فقط.. لقد رأتاني وأنا أرقص مراراً.
ابتسم بهدوء وهو يسألها:
ـ هل يجب أن تجادلي في كل شيء؟.. ألم تسمعي بكلمة.. حاضر.
أجابته بخفوت وهي تشعر بيديه تقربانها إليه أكثر:
ـ حاضر..
كانت متوترة بشدة من حركة يديه حول جسدها فابتلعت ريقها بتوتر وهي تضغط على شفتيها, تلك الحركة التي فتنت رؤوف من قبل.. فاقترب أكثر ليطبع قبلة رقيقة على جبينها, حاولت الابتعاد إلا أنه منعها لتشعر بشفتيه تتحركان على وجهها الساخن فأغمضت عينيها لتحط شفتاه على جفونها المغلقة.. وأنفاسه السريعة تضرب وجهها وشفتيه تواصلا طريقهما عبر صدغها ووجنتها.. ارتعد جسدها بقوة استجابة لحركته البطيئة وهو يقترب من شفتيها يداعبهما برقة ويمنحها قبلتها الأولى.. بدت قبلته رقيقة وهو يحاول السيطرة على مشاعره حتى لا يخيفها.. ولكن ما أن تلامست شفاهما حتى خرجت سيطرته عن عقالها فألصقها به وهو يغرز إحدى يديه بشعرها يبعثره في عبث ويعمق قبلته التي سحبتهما من عالم الواقع فلم يشعرا بسهير وهي تفتح باب الغرفة, ولكن شهقتها الخجولة أبعدتهما عن بعض وهي تقول بخجل شديد:
ـ آسفة.. أنـ..ا.... آسـ..فـ..ـة... إررر... لقد كنت أبحث عن حقيبتي... عفواً سأذهب.
تحرك رؤوف بعيداً عن نورا بعد أن طبع قبلة رقيقة على مقدمة رأسها وخرج من الغرفة وهو يتمتم:
ـ كلا.. ابقي مع نورا... ومرة أخرى تهنئتي..
التفتت سهير إلى شقيقتها بعد خروجه من الغرفة فبادرتها نورا وأنفاسها مازالت متسارعة:
ـ ولا كلمة.. لا أريد أن أسمع أي كلمة.
*********************
توجه رؤوف إلى مكتبه مباشرة بعد أن اعتذر لنعمات عن تناول الطعام مما جعلها تتعجب ولكنها التزمت الصمت.. أما هو فحاول أن يدفن اضطرابه وأحاسيسه التي أشعلتها قبلته لنورا بالانغماس في العمل وتجاهل الصوت الذي يهتف به أن يذهب ويلقي بشقيقتيها خارج جناحهما ليبدأ معها حياتهما كما ينبغي..
بعد عدة محاولات فاشلة منه لقراءة إحدى الملفات ألقاه بعيداً وتوجه نحو أحد الأدراج الموصدة في مكتبه ليفتحه ويخرج دفتراً كبيراً مخصصاً للرسم لينغمس في هوايته التي يلجأ لها كلما تشتت عقله وتبعثرت أفكاره.. فهو كان يجد في هوايته لفن الكاريكاتير والقصص الهزلية متنفساً لضيقه كلما زادت حوله المشاكل..
كان يسخر من نفسه بنفسه.. يشكي حاله للورق والألوان، يحاول معرفة ما الخطأ وكيف يوازن أموره ويصحح أخطائه.. انغمس في رسمه لساعات وهو يخط ما يمر به من مواقف وأزمات بصور هزلية مضحكة.. يهرب بها من مشاكل الواقع الذي يحيط به ليعيش مع هوايته التي تمنى يوماً أن يحترفها وتكون مهنته, ولكن الواقع عانده عندما ظهرت مهاراته في حقل الأعمال والتجارة وكان من المحتم أن يتناسى أمنيته ويتفرغ لأعمال العائلة.. فهو يتذكر جيداً كلام جده له عندما لمح دفتر رسومه..
"شخبطات جيدة يا رؤوف.. هواية مسلية.. ما دامت ستظل في إطار الهواية والتسلية.. لكنك تعلم أن مكانك الحقيقي موجود في شركات الجيزاوي".
كان تحذير وتنبيه فهمه رؤوف جيداً رغم أنه كان في الثانية عشر فقط..
انتبه على جواله يدق ويظهر رقم نعمات على شاشته.. وكعادة كل ليلة كانت تبكي وتنوح وتطلب منه ألا يبتعد عنها.. فأغلق الخط وتوجه إلى غرفتها.. عله يستطيع أن يصل لحل معها..
أما نورا فبعد ذهاب شقيقتيها اللاتين لاحظتا غياب ذهنها الكلي ظلت تترقب خطوات رؤوف وتنتظر عودته إليها خاصة بعد ما حدث بينهما عصر اليوم, ولكن لمفاجأتها سمعت خطواته تتجه بسرعة إلى الأعلى نحو غرفة نعمات.. كادت تنفجر من الغيظ والغضب.. إلى متى ستتحمل تلك الأوضاع المقلوبة؟..
إنها هي العروس.. هي من يجب عليه الإسراع ليكون معها.. استبد بها الغضب وهي تذرع غرفتها ذهاباً وإياباً.. ولم تتمالك نفسها وهي تتجه نحو باب غرفتها لتفتحه وتتجه نحو الطابق العلوي هي الأخرى..
لم تعلم ماذا تهدف من تصرفها ذاك؟.. أو ما الذي ستفعله؟. لكنها تحركت بدون تفكير حتى وصلت إلى باب غرفة نعمات.. وقبل أن تمسك بمقبض الباب سمعت صوت نحيب نعمات وبكائها الهيستيري وهي تتوسل رؤوف ألا يتركها.. أو يغدر بها..
تجمدت نورا لوهلة وهي تستمع لهذيان نعمات.. وعادت أدراجها إلى جناحها في الطابق السفلي مرة أخرى وهي تحاول تحليل ما سمعته.. للحظة بسيطة شعرت بالأسى عليها.. لكنها سرعان ما نفضت ذلك الشعور.. فلا يوجد مبرر لإصابة نعمات بتلك الهيستريا في ساعات الليل فقط.. بينما تكون في قمة هدوءها بل وغنجها أثناء النهار!!.. إلا أنها طريقة للاستحواذ على اهتمام رؤوف.. أشعرها ذلك بالنفور من تفكير المرأة الأكبر سناً والتي تصر على إعلان حرب غير مرئية بينهما..
غلبها النوم أخيراً وهي ما زالت تفكر في وضعها وحياتها الجديدة وتتساءل إذا ما كانت أخطأت في الموافقة على تلك الزيجة وإقحام نفسها في علاقة ثلاثية الأطراف.. أما أحلامها فكانت كلها تدور حول مشاعر جديدة عليها شعرت بها اليوم فقط وهي بين ذراعي رؤوف..
*********************
استلقت سهير على فراشها وهي تستمع لكلمات منذر المسكرة لحواسها وهو يحادثها هاتفياً:
ـ أخيراً يا سهير.. سيجمعنا بيتاً واحداً.
ظلت سهير صامتة ولم يجاوبه إلا صوت أنفاسها.. فأردف:
ـ أنتِ تعلمين يا حبيبتي أنني كنت أتمنى أن أقدم لكِ بيتكِ الخاص, ولكن بعد زواج شقيقتكِ.. خشيت أن يسبقني إليكِ شخصاً آخر..
همست له:
ـ أعلم.. أنت لا تحتاج أن تبرر نفسك لي.. وأنا موافقة على السكن مع عمتي قمر.. صدقني.. لست منزعجة أبداً.
فاجأها بقوله:
ـ أحبك..
نهرته بضعف:
ـ منــــــذر.
همس مرة أخرى:
ـ أحبك.. أحبك.. ألن أسمعها منكِ؟.
همست:
ـ تصبح على خير.
ضحك بسعادة وهو يقول:
ـ تهربين؟.. حسناً.. لم يبقَ سوى شهر واحد ولن تجدي لكِ مهرباً مني.
عادت تهمس والخجل يذبحها:
ـ ليلة سعيدة.
أجابها بنفس همسها:
ـ ليلة سعيدة يا عمري..
أغلقت سهير الهاتف وظلت تحتضنه لفترة.. تكاد تطير من سعادتها.. فأخيراً سيضمها بيت واحد مع حلم طفولتها وفارس صباها.. منذر.. تنهدت بحرارة وهي تسترجع صورته في خيالها.. بوسامته الخشنة التي تعشقها..
أخذت تعبث بخصلاتها الشقراء وهي تتذكر كلماته الرقيقة وغزله الناعم.. وتعد الساعات حتى تكون معه رغم المشاعر الغامضة التي تنتابها وتسبب انقباضة قلبها..
*********************
اشتعلت حيرة نورا بعد مكالمة هاتفية سريعة مع سهير والتي توسلتها أن تجد طريقة حتى تصطحبها في جولاتها الشرائية.. فعمتها وأمها أصابتاها بالجنون وهي أصابتهما بالانزعاج من شدة تذمرها.. وكانت سهير تستغيث فعلياً بنورا كعامل مهدئ بين الجميع..
وأخيراً قررت نورا استئذان رؤوف لترافق سهير.. فلابد أنه سيقدر رغبتها في مساعدة أختها ويتغاضى عن تلك العادات والتقاليد التي تلزمها بالمكوث في منزل زوجها لتقابل المهنئين خاصة ونعمات لم تقصر في إظهار نفسها كصاحبة البيت وسيدته.. وبرغم أنها لم تكن تود أن تكون البادئة في الذهاب إليه, ولكن ليس أمامها خيار آخر.. فسهير بدت في حالة يائسة..
اتجهت نورا إلى المطبخ لتعد له القهوة التي يعشقها.. وهناك فوجئت بوجود نعمات فحاولت تجاهلها قدر ما تستطيع وأخذت تعد القهوة.. ثم خطر في بالها طريقة ترد بها على استفزازات نعمات لها.. فبدأت بالغناء كما اعتادت في منزل أبيها.. وكان اختيارها للأغنية هو ما اشعل نيران نعمات التي انعقد لسانها وهي تستمع لصوت نورا الرقيق:
"جالت لي بريدك يا ولد عمي.. تعا دوج العسل سايل على فمي.. على مهلك علي ما بحمل الضمة.. على مهلك علي.. ده أنا حيلة أبوووي وأمي".
أرفقت نورا غنائها بحركات راقصة خفيفة وهي ترمق نعمات بنظرات ذات مغزى.. ثم أخذت قدح القهوة وتوجهت نحو مكتب رؤوف الذي فوجئ بدخولها عليه وهي تحيه ببساطة:
ـ مساء الخير.. لقد أعددت لك القهوة كما تحبها.
لم يستطع إخفاء دهشته.. وطار عقله ليظن أنها اشتاقت إليه.. ولكنه نهر نفسه بسخرية:
"لتكف عن جنونك، لابد أنها تحتاج منك شيئاً وجاءت مقدمة القهوة كعربون سلام". ابتلع سؤاله عن سبب مجيئها إليه.. فقد توقع أن تختفي من أمام ناظريه كعقاب له على بقائه كل ليلة بجوار نعمات وخاصة ليلة أمس بعد قبلتهما.. عندما وصل به تفكيره إلى تلك القبلة اتجهت نظراته إلى شفتيها بدون إرادة منه.. ولاحظت هي ذلك فازداد توترها وأخذت تفرك بيديها وهي تضغط شفتيها معاً.. لاحظ رؤوف توترها ذاك.. فحاول أن يرد بهدوء:
ـ شكراً على القهوة..
لاحظ ترددها في الخروج من المكتب.. فأيقن أن تفكيره كان صائباً وأنها تريد شيئاً... فأردف:
ـ هل أردتِ شيئاً؟..
أجابته بتردد:
ـ نعم.. أنا أريد الخروج مع سهير لشراء بعض احتياجاتها.
وأخذت تقص عليه مكالمة سهير.. لم يدري لما أصيب بالإحباط.. فهو عندما لمحها تدخل عليه تمنى أن تكون قد جاءت لرؤيته لأنها اشتاقت إليه.. أو أن تكون قبلتهما قد أثرت فيها.. لذا عندما أخبرته بسبب حضورها وإعدادها لقهوته أصيب بالإحباط بل بالغضب.. ووجد نفسه يعبر عن ذلك برفضه لطلبها:
ـ كلا.. أنتِ تعلمين أنه لا يصح أن تخرجي الآن ولم يمر على زواجنا عشرة أيام..
صاحت بنزق:
ـ أنت لا تؤمن حقاً بهذه الخزعبلات!!!.
أجابها بهدوء:
ـ يجب احترام تقاليد مجتمعنا.. وحتى لو مدينتنا لا تقع داخل الصعيد فعلياً بكل عاداته.. إلا أننا دائماً ما اتبعنا التقاليد.. لن يضير سهير الانتظار لعدة أيام أخرى.. كما أن معها عمتي وخالتي شموس..
وصمت قليلاً .. ثم قال:
ـ ونعمات موجودة أيضاً.. لو احتاجت إليها.
لم تتمالك نورا نفسها وقالت بسخرية:
ـ وهل أجلس أنا في البيت وأترك مساعدة أختي للسيدة نعمات!!!.
تعجب من قولها:
ـ السيدة نعمات!!.. هل تدعينها بالسيدة نعمات؟!!.
سألته بسرعة:
ـ وكيف تريدني أن أدعوها؟.
ـ تدعينها كما اعتدت دائماً.
صاحت بتعجب:
ـ هل تريدني أن أدعوها.. خالتي نعمات؟!!!.
ـ نعم.. إذا كنتِ اعتدتِ على ذلك.. فلم يتغير شيء.
رمقته بنظرة ذات مغزى ولم تقاوم نفسها وهي تقول:
ـ نعم.. لا شيء تغير.
فهم إلى ماذا تشير بكلامها فتقدم منها بغضب لمحته يظهر في عينيه فتراجعت فوراً.. ولكن دخول نعمات قطع ثورة الغضب المتوقعة.. حيث دخلت لتقول:
ـ هل أعجبتك قهوة نورا؟.. فأنت اعتدت على تناول القهوة التي أعدها.. إذا لم تعجبك.. سأعد غيرها..
انطلقت الكلمات من نورا على الفور بدون أن تتمعن فيها:
ـ لقد أعجبته قهوتي جداً.. فلقد آن الآوان ليتذوق القهوة بنكهة جديدة.. لا تقلقي نفسك يا خالتي...
واتجهت للباب لتخرج وهي تلقي بنظرات قاتلة لرؤوف.. بينما جمدت نعمات في مكانها وظهر الغضب على وجهها وهي تتمتم بحرقة:
ـ خالتي!!.
بينما التمعت المشاكسة في عيني نورا وهي تلقي بنظرة أخيرة إلى رؤوف كأنها تخبره:
"ألم أقل لك؟!!!".
*********************
رغم السعادة التي شعرت بها نورا لمرافقة شقيقتها لاختيار ثوب زفافها, إلا إن القلق كان يعصف بها من ردة فعل رؤوف على خروجها بالرغم من اعتراضه السابق, ولكنها لم تستطع أن تصل معه لنقطة تفاهم خاصة بعد أن تعمد تغيير الموضوع ببراعة ليبعدها عن طلبها الأساسي.. ويشغلها بقضية فرعية لا تهمها في شيء..
وما أشعل غيظها هو دخول نعمات عليهما مما اضطرها للخروج بدون الحصول على إجابة شافية.. ثم خروجه بعد ذلك بدون أن تستطيع إكمال نقاشهما.. جعلها تتخذ قرارها بالخروج مع سهير مع اكتفائها بإرسال رسالة له تخبره فيها بذلك.. لأنها عندما اتصلت به على هاتفه وجدته مغلقاً..
بعد انتهاء جولتها الشرائية برفقة سهير وصلتا إلى منزل والدهما لتفاجئ نورا بوجود رؤوف بانتظارها برفقة والدها.. ونظرة واحدة إلى عينيه أدركت مدى الغضب الذي يعصف به ومدى تحكمه في نفسه حتى لا يظهره أمام والدها الذي أصر على بقائهما لتناول العشاء مع الأسرة.. واضطر رؤوف للموافقة أمام إصرار عمه وتوسل شموس لتجلس مع ابنتها قليلاً..
كان العشاء مسلياً بخلاف توقع رؤوف.. فاكتشف أن نادية الشقيقة الصغرى لنورا تمتلك حس فكاهي نادر وسرعان ما ظهر ذلك على مائدة العشاء وهي تتذمر من ترك أختيها لها وهما تختاران ثوب الزفاف وكأنه سر حربي.. ومع تذمرات نادية لاحظ لمعان نظرة حالمة في عيني سهير وكأنها لا تشاركهما الواقع, بل تطفو على سحابتها الوردية مما جعله يظن أن ارتباطها بمنذر يحمل أكثر من ارتباط عائلي..
حاول على قدر استطاعته تجنب النظر إلى حمقائه الصغيرة حتى لا يظهر غضبه منها على الملأ, لكن رغماً عنه كانت عيناه تتجه إليها وهو يلاحظ توترها وقلقها.. كما لمح نظرة تشبه خيبة الأمل عندما رن صوت سهير الرقيق وهي تتحدث عن تجهيزات زواجها وموعد زفافها المتوقع.. مما دفع بالشياطين لتوسوس له ليظن بأن نورا كانت معجبة بمنذر أو الأسوأ تحبه.. دفعه ذلك الظن إلى إنهاء العشاء بسرعة والاستئذان لينطلقا إلى منزلهما..
ساد صمت تام بينهما في السيارة، حاولت نورا كسر ذلك الصمت أكثر من مرة والحديث معه بهدوء إلا أنه كان يقابل محاولاتها بنظرة نارية تسكتها على الفور...
وصلا أخيراً إلى المنزل.. فنزلت مسرعة من السيارة إلا إنه لحقها ليمسك بذراعها ويدخل معها إلى البهو ووجد نعمات ساهرة بانتظاره ولمح كالعادة قطرات الدموع تتلألأ في مقلتيها.. لكنه كان في حالة من الغضب الشديد فتجاهل النداء الصامت بعينيها وهو يقول لها:
ـ ليلة سعيدة يا نعمات.
ثم استمر في سحب نورا خلفه ليدخلها إلى جناحها ويغلق الباب خلفهما.. فقررت أن تبدأ بمهاجمته:
ـ كيف تجرؤ...
قاطعها بهدوء يخفي غضب عاصف من خلفه:
ـ هل كان منذر معكما وأنتما تختاران الثوب؟.
فوجئت نورا بسؤاله لكنها أجابته بتعجب:
ـ كلا بالطبع.. كانت معنا عمتي قمر والسائق الخاص بجدي..
ثم أردفت:
ـ لماذا تسأل؟..
رد بسرعة:
ـ لا شيء.. لماذا خالفت طلبي وخرجت بدون إذن؟..
تلعثمت وهي تجاوبه:
ـ إننا لم ننهه نقاشنا.. كما أنك أغلقت هاتفك... لم يكن أمامي إلا إرسال رسالة لك..
صاح بغضب:
ـ وقررتِ من نفسكِ رمي كل ما تكلمنا فيه.. وخرجت من المنزل بدون إذن.. وحتى بدون إخبار نعمات عن وجهتكِ.. لقد اتصلت بي قلقة لأنها لم تجدكِ في غرفتكِ..
صاحت مشدوهة:
ـ هي اتصلت بك؟..
ـ نعم.. ألم أخبركِ أن تعامليها باحترام؟.. لماذا لم تبلغيها بخروجكِ؟.
أجابته بنزق:
ـ ولماذا أخبرها؟.. هل تزوجت منها بدون أن أدري؟..
صاح بغضب:
ـ نورا!!!.
أجابته وقد خرجت عن طورها:
ـ ماذا؟!!.. نعمــات!!.. نعمــات!!... اسأليها.. بلغيها.. هل أنجب منها الوريث اللعين أيضاً؟..
عرفت أنها تخطت الخطوط الحمراء عندما رأت شرارات الغضب تتطاير من عينيه وهو يخطو نحوها بسرعة ويجذبها من ذراعها ليلصقها به وهو يهمس بغضب:
ـ ألن تتعلمي التحكم في كلماتكِ؟.. حسناً.. سأعلمكِ ممن ستنجبين الوريث.
انقض على شفتيها بقوة ينفس عن غضبه ويخرج كل الشياطين التي استوطنت أفكاره وهو يظنها كانت تتمنى غيره.. فزاد من ضغطه على شفتيها حتى أجبرها أن تفرقهما ليعمق قبلته بينما إحدى يديه تتحسس جسدها وتستكشفه بجنون والأخرى تجذب شعرها بقوة لتثبت رأسها وتجبرها على تلقي قبلاته العنيفة..
حاولت نورا الابتعاد عنه إلا أنه كان يحبط جميع محاولاتها بفاعلية تامة وهو مستمر في تقبيلها ولكنها تمكنت أخيراً أن تبعده عنها قليلاً لتستنشق بعض الهواء وتهمس له:
ـ هل هكذا تريد بدء حياتنا يا رؤوف؟.. بالإجبار يا ابن عمي!!!.
هدأت كلماتها من غضبه وحدت من اندفاعه فقربها منه برقة وهو يهمس أمام شفتيها:
ـ هل اذهب يا بنت عمي؟.. هل اذهب يا قمري؟..
اغمضت عينيها وهي تجاوبه بهمس مماثل:
ـ كلا...