رواية قيد القمر الفصل الثامن 8 بقلم نهي طلبة
واية / قيد القمر
الفصل الثامن/ 8
نــــــار.. نار حارقة تكوي جوف نعمات, فما كانت تحاول جاهدة لتأجيله في الأيام السابقة.. قد وقع.. كل محاولاتها لإبعاد رؤوف عن نورا فشلت فشلاً ذريعاً.. حتى مكالمتها التليفونية له وهي تدعي قلقها على العروس الصغيرة التي لم تجدها بغرفتها..
زفرت بقوة وهي تشعر بالإشمئزاز من نفسها ومن تصرفاتها في الفترة الأخيرة.. تشعر بأنها تحولت إلى امرأة أخرى.. امرأة حاقدة وشريرة.. مليئة بالمرارة والخوف.. نعم الخوف من هجران رؤوف لها.. الخوف من فقدها الزوج الذي عاملها بحنان ورقة لم تشعر بهما مع عمه.. رغم حب ذلك الأخير لها.. لكن رؤوف كان يعاملها بنوع من القدسية.. منحها هالة من الملائكية تشعر بالرعب الآن من أنها فقدتها في عينيه.. لكن أكثر ما يخيفها أن تفقد الإحساس الرائع الذي يمنحه وجود رؤوف في حياتها.. الإحساس بأن هناك من يحتاجها.. بأن وجودها هام وحيوي لشخص ما..
إحساس قريب من الأمومة لحد ما.. نعم .. فوجود رؤوف في حياتها عوضها عن إحساس أمومتها المفقود.. وخاصة مع انعدام فرصها في الإنجاب ومع الفارق العمري بينهما والذي حولته لفيض غامر من الحنان والعناية والرعاية الموجهه نحوه.. إن نعمات لا تخاف فقط فقدان الزوج, بل تخاف فقدان الابن الذي منحته كل حنانها ومشاعرها...
*********************
إحساس رائع بالدفء والأمان... إحساس بالسكينة والحماية هو ما شعرت به نورا وهي تستيقظ بين ذراعي زوجها.. زوجها!!!.. ومضت أحداث الليلة الماضية في عقلها مما جلب ابتسامة خجولة على شفتيها عندما تذكرت العاطفة المحمومة التي غمرها بها رؤوف الذي لم تتصوره أبداً بتلك الحرارة والشغف.. فبعد اندفاعه العنيف نحوها أمس.. رقت لمساته نتيجة همسها له وتحولت قبلاته الغازية إلى قبلات حارة مغوية.. أذابت كل مقاومتها وأضاعت عقلها تماماً فاستجابت له بعفوية بريئة.. زادت من جنونه بها وهو ينثر قبلاته على كل خلية بجسدها.. ويصحبها معه إلى عالم العشق... والجنون.. وهو يهمس في كل لحظة.. بــ"قمري".. اسمها الذي يخصه هو فقط..
شعرت بأنفاسه تتسارع ودقات قلبه تزيد تحت وجنتها فأدركت أنه استيقظ من نومه وأنه يتأمل ملامحها, فاحمرت وجنتاها على الفور واستمرت في إغلاق عينيها بشدة.. مما دفعه للابتسام وهو يهمس بجوار أذنها:
ـ هل ستفتحين عينيكِ الآن؟.. أم ستستمرين في إدعاء النوم؟..
أجابته وهي ما زالت مستمرة في إغلاق عينيها:
ـ أنا لا أدعي شيئاً.. أنا نائمة بالفعل!!.
ضحك بقوة وهو يزيد من ضمها ويده تعبث بخصلاتها المنتشرة على وسادته:
ـ حسناً أيتها النائمة بالفعل.. أنا أملك فكرة جيدة عن كيفية إيقاظكِ!!!.
وأعقب قوله بقبلة قوية على شفتيها وهو يلفها بذراعيه أكثر, فوجئت نورا بحركته السريعة ولم تستطع الابتعاد عنه بالسرعة الكافية فأحكم ذراعيه حولها وهو يهمس أمام شفتيها:
ـ مبروك يا قمري..
أجابته بنفس الهمس:
ـ لماذا تانديني بقمر؟..
لم تسمع إجابته حيث أنه دفن رأسه في عنقها الناعم وبدأ يغمره بالقبلات اللاهبة التي أشعلت جسدها بأكمله فحركت ذراعيها لتلتف حوله ليضمها إليه أكثر وهو يلتهم شفتيها في قبلة حارة أذابتهما سوياً.....
*********************
مرت الأيام التالية على نورا وهي تعيش فوق سحابتها الوردية.. فعلاقتها مع رؤوف في قمة تناغمها, لم تتوقع أن تجد نفسها قريبة منه إلى تلك الدرجة.. تشعر به قد تغلغل بداخل روحها.. كما تحب أن تعتقد أنها لمست شيئاً بداخله..
أسعدها بشدة أنها وجدته إنسان رقيق.. حنون وشغوف.. بطريقة لم تتوقعها... فكان يغمرها دائماً بعاطفة حارة تدخلها إلى عوالم جديدة عليها كليةً.. وكان هو دليلها إلى تلك العوالم الرائعة.. لكن سعادتها كانت ناقصة على الدوام.. فكانت الليالي التي يقضيها رؤوف مع نعمات بمثابة حرائق لاهبة تندلع في كيانها..
لم تدرك أنها يمكن أن تشعر بتلك الكمية الرهيبة من الغضب إلا عندما رأت رؤوف بعد أن قضي الليلة برفقة نعمات.. لم تعرف أنها تملك القدرة على القتل إلا بعدما رأت نعمات تتهادى على الدرج وعلى وجهها ترتسم ابتسامة قطة قد التهمت طنجرة كاملة من اللبن كامل الدسم..
وقتها شعرت أنها تريد مسح الابتسامة من على وجه نعمات, وأن تعيد تشكيل ملامح وجهها المبتسم.. فآثرت السلامة وتحركت متجهة إلى غرفتها قبل أن تطاوع شيطانها.. وتمزق عيني نعمات..
يومها لحقها رؤوف إلى غرفتها.. ووجدها واقفة بنافذتها تنظر إلى الفراغ.. تأملها لعدة دقائق ولكنه ظل صامتاً عالماً بأنها أدركت وجوده بالغرفة معها.. ولكنها ببساطة تتجاهله..
أجلى صوته وهو يقول بهدوء:
ـ صباح الخير..
ظلت نورا صامتة.. ولم تستطع أن ترد تحيته.. فقد كانت دموعها تنهمر بغزارة..
اقترب منها بهدوء حتى وقف خلفها تماماً.. يكاد يكون ملتصقاً بها, ووضع يديه على كتفيها يديرها إليه.. ففوجئ.. بالدموع تغرق وجهها.. ضمها إليه بهدوء, وضغط رأسها إلى صدره وهو يملس خصلاتها بنعومة.. حتى هدأت قليلاً...
ظلا على هذا الوضع لفترة لم يشعر بها كلاهما... وأخيراً أبعدها عنه قليلاً.. ومسح دموعها بأصابعه ثم طبع قبلة دافئة على جبهتها.. وخرج بهدوء مثلما دخل..
ظلت نورا مسمرة في مكانها لفترة بعد خروجه, ثم ألقت بنفسها على الفراش وهي تجهش بالبكاء...
بعد تلك المرة تعلمت نورا أن تتحكم في أعصابها وتعبيرات وجهها, فلا تفضح غيرتها الشديدة على رؤوف وخاصة أمام نعمات.. ولكن ذلك لم يمنعها من إظهار غضبها أمامه في نوبات عصبية.. ولكنه كان يمتص غضبها بقبلاته ولمساته المذيبة لها فيسحبها إلى عالمه الذي يفتح ذراعيه مرحباً بها..
كان أكثر ما يغيظها هو اهتمام رؤوف الزائد بنعمات بعد كل ليلة يقضيها معها هي حتى أنها بدأت تعتقد إنه يشعر بالذنب لمشاركتها عواطفه الحارة.. لكنها حاولت تجاهل ذلك حتى تستطيع المضي في حياتها التي تريدها أن تستقر بعيداً عن الضغائن والمنغصات.. وكان لاقتراب زفاف سهير أثره الكبير في رفع روحها المعنوية وخاصة بعد موافقة رؤوف على مرافقتها لسهير في رحلاتها الشرائية.. ومساعدتها في تجهيزات الزفاف وتأثيث الجناح الخاص بسهير في منزل عمتها قمر, ولكن أثار تعجبها تأكيده المستمر على عدم تواجد منذر في تلك الرحلات.. وحاولت سؤاله أكثر من مرة عن السبب ولكنه لم يمنحها إجابة واضحة كعادته كلما أراد المراوغة حول شيء ما...
كانت تلك الليلة التي تسبق الزفاف.. وكانت الاحتفالات في بيت عبد السلام على أشدها.. حين وصلت سيارة رؤوف وهو يقل نعمات التي تعمدت الجلوس بجواره, ونورا الجالسة في الخلف تبرم شفتيها في حنق.. حيث أن الليلة هي ليلة الحنة لشقيقتها ورغم ذلك لم تتنازل نعمات وتمكث في المنزل, بل قررت الحضور لمشاركتهم الاحتفال, والأدهى من ذلك أنها احتلت المقعد الأمامي فوصلت نورا إلى منزل والدها وقد وصل غضبها لآخره وكادت أعصابها أن تخونها وتفلت منها.. لتوجه إلى نعمات كل ما بداخلها من قهر وحنق..
حين وصل رؤوف إلى باب المنزل الأمامي.. ترجلت نعمات وهي ترسل التحية لرؤوف, وحين حاولت نورا الترجل بدورها فوجئت بأن رؤوف قد أوصد الباب بجوارها, فسألته وهي تحاول فتح الباب:
ـ رؤوف ما به باب السيارة؟.. أريد النزول..
التفت ليواجهها وهو يمسكها من ذراعها حتى تكف عن محاولة فتح الباب:
ـ اتركي الباب.. سأفتحه حالاً.. فقط أريد منكِ شيئاً.
أجابته بقلق:
ـ ماذا هناك يا رؤوف؟..
أجابها في سرعة:
ـ أريدك أن تعديني ألا ترقصي..
قاطعته بأمل:
ـ لكن..
ـ ليس هناك.. لكن.. أعتقد أن ذلك حقي.. فأنا لا أرغب أن يراكِ الجميع وأنتِ ترقصين.. أعتقد أنني أخبرتكِ بذلك من قبل.
أجابته في حزن:
ـ حسناً..
ترك ذراعها ليرفع ذقنها بأصابعه:
ـ أنا أخاف عليكِ.. أعتقد أن هذا شيء لا يسبب الحزن.
ابتسمت قليلاً وهي تردد مرة أخرى:
ـ حسناً..
تحركت أصابعه ببطء ليتحسس شفتيها المكتنزتين ويضغطهما برفق:
ـ لا تغضبي.. وابتسمي ابتسامة حقيقية.. وعندما نرجع إلى المنزل.. سأخبركِ بمفاجأة سوف تسعدكِ كثيراً.
اتسعت ابتسامتها وهي تقول:
ـ هل تحاول رشوتي الآن؟..
ضحك بدوره عندما لمس تحسن مزاجها ونظر إلى شفتيها بخبث وهو يقول:
ـ لا أعتقد أنني أحتاج لذلك!!.
أزاحت أصابعه وهي تقول بغضب مصطنع:
ـ مغـــرور.
ضحك مرة أخرى وهي يفتح أبوب السيارة:
ـ هيا انزلي يا طويلة اللسان وأبلغي تحياتي وتهنئتي لخالتي شموس ولسهير..
تحركت نورا لتنزل من السيارة بينما كانت نعمات ترمقهما بنظرات نارية وهي تراقب الحوار المتبادل بينهما والذي لم تتمكن من سماعه ولكنها استطاعت ملاحظة تبدل ملامح وجهيهما.. وكادت عينيها أن تخرجا من محجريهما وهي ترى أصابع رؤوف تتحسس شفتي نورا وهو يرمقها بتلك النظرات المشتاقة.. وهتفت في داخلها:
"لقد جُن ولا شك.. هذا ليس رؤوف المتحفظ البارد, الذي لا يظهر انفعالاته أبداً أمام الناس.. لقد أفقدته عقله ابنة شموس".
تحركت نورا لتصطحب نعمات ليدخلا معاً إلى منزل والدها... وكان مشهد دخولهما معاً.. لا ينسى حقاً.. فكان كتلاقي ربيع العمر مع خريفه.. كانت الروعة ونضارة الشباب جنباً إلى جنب مع الوقار والكهولة.. كانتا كابنة وأمها.. وذلك ما تردد بقوة من النساء الحاضرات ووصل إلى مسامع نعمات كخناجر سامة تزيد من جروح كبريائها...
لاحظت نورا تلك الهمسات السامة وتأثيرها على نعمات التي ارتعش جسدها وهي تستمع إلى المقارنات التي تعقدها النساء بينها وبين شباب وجمال نورا.. مما أشعر نورا بالشفقة عليها فطلبت منها الصعود إلى غرفة العروس.. لكن نعمات ترددت في إبداء موافقتها.. وفضلت أن تتواجد بالأسفل حيث كانت النساء متجمعات معاً يغنين الأغاني الخاصة بالأفراح..
كان بعضهن يتبادلن الأحاديث والأخبار.. بينما كانت صواني الشربات الأحمر تلف على الموجودات تنبأ عن الفرحة والسعادة.. بينما امتدت الموائد تحمل كل ما لذ وطاب من أجود أنواع الأطعمة.. في انتظار جموع السيدات لتتقدمن وتتناولن عشائهن, ولكن ذلك لم يمنع تراشق النظرات حول نعمات ونورا..
لذلك بعد أن جلستا قليلا مع الموجودات في البهو تحركتا للذهاب إلى غرفة سهير التي كانت تمتلأ بحشد من الفتيات اللاتي كن يرددن الأغاني وكانت بعضهن يتمايلن راقصات.. بينما كانت في ركن الغرفة مائدة صغيرة وضعت عليها صينية دائرية بها مجموعة من الشموع وضعن في شكل دائري حول طنجرة كبيرة امتلأت بالحنة.. وكانت الورود منثورة بروعة على المائدة تحيط بالصينية في مشهد رومانسي هادئ...
أخذت نورا تبحث بعينيها عن سهير التي ما أن لمحت شقيقتها حتى ارتمت بين ذراعيها وهي تلومها على التأخير ولكنها ابتلعت كلماتها وهي تلمح نعمات خلف نورا, فنظرت إلى شقيقتها بعجب.. فكانت إجابة نورا ضغطة خفيفة على يد سهير حتى تنبهها لتسلم على نعمات كما يجب.
اصطحبتها سهير إلى أحد أركان الغرفة وهي تسألها:
ـ لماذا صعدت معكِ إلى هنا؟..
أجابتها نورا:
ـ السيدات في الأسفل يرمين بكلام كالسهام السامة... تلك العادة المقيتة لا يتخلين عنها أبداً سواء كان التجمع فرح أو عزاء.. هل تذكرين عزاء عمي عبد الرحمن؟..
نظرت إليها سهير بعجب وهي تقول بنبرة ذات مغزى:
ـ وهل هذا وقت مناسب لتتذكري ذلك؟.. أم لأنه يحمل لديكِ ذكرى خاصة.. أيتها العاشقة.. ماذا حدث لكِ؟.. أرى عينيكِ تلمعان بشدة.. بل ماذا فعلتِ برؤوف؟.. إن منذر يقول أنه تغير قليلاً, بل لقد أمسك به مرة وهو يغني في خفوت!!..
ضحكت نورا بسعادة وهي تضع يديها في خصرها:
ـ آه.. ومادام منذر قال ذلك فهو صحيح مائة بالمائة.. أليس كذلك؟..
احمرت وجنتا سهير وهي تبتسم في خجل وتمسك بيدي نورا:
ـ توقفي عن السخرية.. وبالطبع كل كلام منذر صحيح..
ثم تغيرت نبرتها وقد شحب وجهها قليلاً وهي تقول:
ـ نورا.. أنا أشعر برعب شديد.. لا أستطيع أن أتخيل...
قطع كلامها هجوم مجموعة من الفتيات عليهما وهن يحثهن على الاندماج في الرقص والاحتفال معهن, وبدأن بالفعل في جذب سهير التي استجابت لهن وأخذت تتمايل وكأنها تحاول تناسي مخاوفها عبر اندماجها مع الموسيقى.. وسرعان ما حاولن جذب نورا حتى تشاركها, ولكن نورا تمنعت وهي تتذكر وعدها لرؤوف.. إلا أن سهير زادت من جذبها لها.. فنهضت نورا بجوار سهير ولم تنتبه لهاتف نعمات الحديث الذي كان يلتقط بعدسة كاميرته ما يدور..
*********************
بحثت شموس عن نورا بين المدعوات فهي تريد الحديث معها قليلاً حتى تطمئن عليها وتحاول إسدائها بعض النصح.. وأخيراً وجدتها واقفة ثابتة بجوار سهير التي تتمايل راقصة بسعادة ومعها الصغيرة نادية بينما اكتفت نورا بالتصفيق لهما بحماسة..
أشارت شموس لابنتها فخرجت لها نورا على الفور:
ـ ماذا هناك يا أمي؟.. هل وصل رؤوف؟..
ابتسمت شموس وهي تربت على وجنة ابنتها:
ـ كلا يا حبيبتي.. ولكني أردت الاطمئنان عليكِ قليلاً.. هل تمانعين؟.
ابتسمت نورا برقة وهي تمشي في الرواق بجوار أمها حتى دخلتا إلى غرفة شموس وأغلقتها شموس خلفهما.. وعادت لنورا تسألها:
ـ نورا.. حبيبتي.. أريد الاطمئنان عليكِ.. صحيح أنني أرى لمعة في عينيكِ.. ولكني أشعر أن سعادتكِ غير كاملة..
تنهدت نورا وهي تقول لأمها:
ـ وهل توجد سعادة كاملة وخالصة تماماً يا أمي.. أنا راضية والحمد لله.. سعيدة تقريباً.. فرؤوف إنسان رائع بحق... ووالدي كان على حق.. هو رجل تتمناه أي فتاة..
ثم صمتت قليلاً وارتعش صوتها بعض الشيء:
ـ ولكنكِ كنتِ على حق أيضاً.. هو رجل متزوج..
احتضنتها شموس بحنان:
ـ هل تزعجكِ كثيراً؟..
أجابتها نورا:
ـ كما هو متوقع.. لقد تزوجت زوجها.. يا أمي.. أنا ألتمس لها العذر نوعاً ما.. وخاصة..
قطعت نورا كلامها وقد أدركت أنها كانت على وشك شرح مشاعرها لأمها في الليالي التي يتركها فيها رؤوف ليكون مع نعمات.. فاحمر وجهها خجلاً.. وأردفت:
ـ لقد تمت الزيجة.. وأخيراً منح جدي أبي رضاه الكامل.. والكل فائز.. فلما التساؤل الآن؟..
رفعت شموس ذقن نورا بحزم:
ـ نعم زواجك برؤوف أعاد علاقة الود بين أبيكِ وجدكِ.. ورؤوف فاز بزوجة جميلة وصغيرة.. ستنجب له بمشيئة الرحمن الذرية التي يبتغيها.. كما أن نعمات لم تطرد من حياة زوجها وحتى لو لم تر ذلك فهي ليست بخاسرة.. فضرتها على الرغم من شبابها وحيويتها إلا أنها لم تحاول أذيتها أو إقصائها من حياة رؤوف, بل تلتمس لها العذر في تصرفاتها الأنانية المزعجة!!!.. ولكن ماذا ربحتِ أنتِ يا نورا؟.. لا تكذبي على نفسكِ يا ابنة شموس!!.
أخفضت نورا عينيها عن والدتها وأغلقت أهدابها الطويلة وهي تسأل أمها:
ـ ماذا تعنين يا أمي؟..
أجابتها شموس بنبرة ذات مغزى:
ـ أعني أن رؤوف رجل رائع.. ولكنه ليس الوحيد.. ولو كنتِ رفضتيه لوقف والدكِ بجواركِ ولم يكن ليجبركِ على الزواج منه.. حبيبتي.. صارحي نفسكِ بسبب موافقتكِ عليه.. حتى لا تحصري نفسكِ في دور الضحية فتتحول سعادتكِ الناقصة إلى تعاسة تامة.. وافهمي طبيعة زوجكِ.. فهو لم يعرف الحب.. حتى يتعرف على مشاعره ويدركها الآن.. سوف أسألكِ سؤالاً واحداً ولا أريد سماع جوابه, لكني أريد منكِ أن تجاوبي نفسكِ عليه وبصراحة.. هل تحبين زوجكِ؟.. هل تحبين رؤوف؟..
نظرت لها نورا ودموعها تترقرق في عينيها.. ورأسها تتحرك بالموافقة بدون إرادة منها.. فعاودت شموس احتضانها وهي تهمس:
ـ لا عيب في ذلك يا حبيبتي.. ولا حاجة للبكاء.. فأنا موقنة أن رؤوف يشعر بالمثل.. صدقيني.. صدقي أمكِ.. وامنحيه الفرصة ليتعرف على مشاعر لم يعرفها من قبل, بل لم يكن يعترف بوجودها من الأساس..
صمتت قليلاً لتردف:
ـ أنتِ تعرفين أسلوب جدكِ الصارم في الحياة, وهذا هو كل ما عرفه رؤوف.. فقط امنحيه المساحة ليعيش سنوات سلبت منه, وهو سيكون طوع بنانك..
كانت كلمات أمها تتردد في عقلها وهي جالسة في سيارة رؤوف في المقعد الأمامي تلك المرة.. ولكنها كانت تشعر بنظرات نعمات تأتيها من المقعد الخلفي كالرصاصات فعلى ما يبدو أن رؤوف هو صاحب فكرة جلوسها بجواره تلك المرة وإبعاد نعمات إلى المقعد الخلفي.. كانت تصلها كلمات متناثرة عن الاحتفال بالحنة وفرحة العروس وصديقاتها.. إلا أن ما جذب انتباهها كلمات نعمات حول مقطع فيديو التقطته لسهير وهي ترقص برفقة نورا, وأنها كانت تتمنى عرضه على رؤوف وأضافت ضاحكة.. إنها لا تظن أن منذر سيرضى بذلك..
كانت السيارة قد وصلت للحديقة الأمامية لبيت رؤوف مع نهاية كلمات نعمات, فأوقف السيارة بغتة مما جعل نورا تصطدم بالزجاج الأمامي, ولكنها تحركت بسرعة لتترجل من السيارة قبل أن تقتل تلك السيدة في الخلف.. فهي تكذب وبصفاقة منتهزة فرصة استحالة عرض الفيديو على رؤوف..
لذلك تحركت بخطوات غاضبة نحو غرفتها ولكنها ما أن دلفت إليها حتى فوجئت برؤوف خلفها يجذبها من ذراعها ليلفها إليه وهو يصرخ بها:
ـ لا أدري ماذا أفعل حتى تنفذي ما أقول؟.. هل امتثالكِ لطلب بسيط يمثل لكِ تلك الصعوبة؟.. لماذا تعاندين وتتمردين على أبسط الأمور؟..
صاحت به بدورها وهي تلمح نعمات واقفة تراقب المشهد:
ـ أنا أخبركِ الآن.. أنا لم أرقص.. لقد نفذت ما طلبته مني.. وكف عن الصراخ بوجهي..
وتهدج صوتها وهي ترمي نعمات بنظرة تحاول أن تفهمه ألا يصرخ بها أمام نعمات:
ـ لماذا يجب أن تصيح؟.. ألا تستطيع أن تتفاهم بصوت هادئ؟.
فهم تلميحها.. وأزعجه أنه فقد أعصابه عليها أمام نعمات.. ولام نفسه على عصبيته واندفاعه.. لمحت نظراته التي بدأ يخف غضبها قليلاً مع رؤيته لدموعها تلتمع في حدقتيها وهمس:
ـ لا تبكِ.. أرجوكِ يا قمر لا تبكِ..
عندما سمعته يناديها بقمر شعرت بأنه يرغب في تصديقها وإنهاء الموضوع, ولكنها لم ترغب في ذلك فلقد ركبتها كل شياطينها وقررت تلقينه درساً.. حتى يتوقف عن اندفاعه الأعمى في تصديق كل ما تخبره به نعمات.. فنزعت ذراعها من يده وأزاحته جانباً.. وتحركت بسرعة نحو نعمات وجذبت منها حقيبتها الصغيرة لتسحب الهاتف بسرعة وتعود إلى غرفتها وقبل أن تغلق الباب قالت لنعمات:
ـ عفواً.. سوف أستعير هاتفكِ قليلاً.. وسأعيده لكِ في الصباح, تصبحين على خير.. يا خالتي..
ثم أغلقت الباب بقوة والتفت لرؤوف الذي كان يتأملها بقلق:
ـ نورا.. ماذا يحدث؟..
كانت أصابعها تعبث بالهاتف في سرعة حتى وصلت إلى الفيديو الذي تدعي نعمات برقصها فيه وكان حين جذبتها سهير فوقفت بجوارها لتصفق فقط بينما سهير هي من كانت ترقص..
مدت يدها إليه بالهاتف, فنظر إليها بعدم فهم:
ـ نورا.. تعلمين أن شقيقتكِ.. إن منذر..
كانت جملته متقطعة ولكنها فهمت ما أراده فأجابته بسخرية:
ـ هل تظن أنني سأعرض عليك رقص شقيقتي.. تفضل وانظر بنفسك فأنا سأغطي صورتها بأصابعي..
أشار لها بيده وهو يقول لها:
ـ كفى يا نورا.. انتهى الموضوع..
وضعت يدها في خصرها وهي تشير له بالهاتف:
ـ وهل انتهى الموضوع لأن سموك أعلنت ذلك؟.. أم أنك تعطفت وتكرمت وصدقت ما أخبرتك به؟.. أم يا ترى أعملت عقلك وقررت أن تتروى قليلاً قبل أن تهاجم مثل الدب الشرس؟..
صرخ بها:
ـ نورا!!.. انتبهي لألفاظك.. لقد أخبرتكِ أن الموضوع انتهى واعتذرت بالفعل..
صرخت بسخرية:
ـ اعتذرت!!!!.. متى أيها السيد؟.. ثم أن الموضوع لم ينتهِ.. أنا مصرة أن ترى مقطع الفيديو الموجود في هاتف نعمات..
جذب منها الهاتف بقوة وألقاه نحو الحائط فسقط متحطماً لعدة قطع.. والتفت لها:
ـ لقد انتهى الموضوع الآن..
ثم أردف بلهجة أقل عنفاً:
ـ أنا آسف.. أرجو فقط أن تقدري أنني.... أخاف عليكِ.
نظرت إليه قليلاً ومازال الغضب يتملكها, كانت نظراته تتجاوب مع تأملها له وكانت تلتمع عينيه بنظرة أدركتها.. وبدأت تفهم أنه يرغبها الآن.. لذلك يحاول التغاضي عن الموضوع.. فقررت تلقينه الدرس لنهايته, خلعت الشال الذي تلف به كتفيها.. فظهر فستانها الرائع ذو اللون الخمري.. فستان ناعم من الحرير مزموم عند صدرها بفراشة ماسية رائعة ثم ينسدل بروعة ليلامس جسدها بنعومة.. فيظهر روعة وجمال قدها الرقيق الذي أشعل جسد رؤوف وهو يراها تمسك شالها وتلفه حول خصرها بهدوء ثم تتحرك لتذهب إلى مشغل الاسطوانات.. وتضع أغنية أم كلثوم "ألف ليلة".. ثم تتمايل بجسدها على نغمات الموسيقى... حتى وصلت إليه فدفعته على صدره ليسقط على الأريكة خلفه وهي تهمس:
ـ بما أنك حطمت الهاتف.. فسأريك كيف يكون الرقص!!.. حقاً..
استمرت في تمايلها مع نغمات العبقري "بليغ حمدي" حتى اقتربت من باب غرفة النوم فتحرك هو سريعاً ليمسك بها وقد أدرك نيتها, لكنها كانت أسرع منه وهي تغلق باب الغرفة بينهما بقوة قبل أن توصده بالمفتاح وهي تقول:
ـ ليلة سعيدة.. انتهى العرض.
حاول فتح مقبض الباب أكثر من مرة وهو يناديها:
ـ نورا.. افتحي الباب.. لقد اعتذرت بالفعل.. صدقيني إن غضبي ينبع من.. من.. خوفي عليكِ.
للمرة الثانية تشعر به يتردد أمام كلمة خوفي.. هل يقصد أنه يغار؟...
عاد صوته يدوي مرة أخرى:
ـ افتحي الباب يا قمري..
أدركت أنه يستخدم اسمها الذي يناديها به في لحظاتهما الحميمة حتى يؤثر عليها, وللعجب زاد ذلك من عنادها.. فقالت له بجرأة:
ـ اذهب لنعمات.. وحاول إيجاد تفسير مقنع لتحطيمك هاتفها..
سمعت صوت أنفاسه الغاضبة من خلف الباب وهو يهتف بغضب:
ـ نورا.. ما تفعلينه هو خطأ..
ثم تردد قليلاً وهو يردف:
ـ أنتِ هكذا تمنعينني عن حقي.. وستلعنكِ الملائكة.. و..
توقف عن الكلام وهو يضرب رأسه بباب الغرفة بقوة.. حتى أن نورا سمعت صوت ارتطام رأسه بالباب.. ولكن كلامه كان أطار ما تبقى من هدوئها.. ففتحت الباب بعنف وهي تحملق فيه وعينيها متسعتين من الغضب..
تأملها قليلاً بوجهها المحمر من الغضب والشرارات النارية تتطاير من عينيها اللاتين أصبحتا في لون الذهب السائل واختفى لون العسل منهما.. وشفتيها اللاتين كانت تبرمهما في حنق من كلامه..
كانت صورتها مدمرة لمشاعره التي أشعلتها برقصتها المغوية.. وكانت واقفة أمامه بمنتهى التحدي بأن يتقدم ويأخذ ما هو حقه.. اقترب قليلاً منها فغمرته رائحة عطرها والتي دمرت ما تبقى من سيطرته على نفسه, مد يده ليلفها بذراعه ويطبق على شفتيها بقبلة قوية لم تستجب لها في البداية, ولكن سرعان ما بدأ يشعر ببداية استجابتها.. وهي تبادله قبلته.. كانت بين ذراعيه.. دافئة.. ومغرية.. وراغبة في مجاراته وتنفيذ رغباته.. لكنه أدرك أنه لو استمر.. فإنها قد تكرهه وتكره نفسها بعد ذلك..
ابتعد عنها قليلاً وهو يتنفس بصعوبة وهمس لها:
ـ أنتِ لا تدركين مدى روعتكِ الآن.. ولكني لن أفرض نفسي عليكِ أبداً.
تركها وخرج من جناحهما وهي واقفة مذهولة مما حدث, ففي ثانية كانت تحترق غضباً منه ولكنه سرعان ما أذاب غضبها كالعادة بعاطفته ثم.. ثم تركها وخرج عندما بدأت تتجاوب معه!!...
هل ذهب إلى نعمات كما طلبت منه من قبل؟.. ستقتله.. ستقتله إن فعل.. ظلت تجوب الغرفة ذهابا.. وإياباً.. وهي تفكر فيما حدث..
أعادت في رأسها ما حدث منذ بداية الليلة.. وحاولت أن تفهم ما الذي دهاه ليكون بمثل تلك العصبية التي ظنت أنها شفته منها.. لتعود جملته لتتكرر في ذهنها..
"أخاف عليكِ.. خوفي عليكِ"..
هل يقصد بخوفه.. غيرته؟.. هل يغار عليها بالفعل؟.. هل يحاول إفهامها أنه فقد أعصابه نتيجة للغيرة؟!!..هل ما قالته أمها صحيح.. وهو يكن لها مشاعر بالفعل, ولكنه غير قادر على التصريح بما يشعر به؟.. أو غير قادر على إدراك تلك المشاعر وتفسيرها..
أرهقها التفكير.. وأتعبتها حيرتها... وكادت تبكي كلما تصورته وهو يصعد ليقضي ليلته مع نعمات.. وظلت تلوم نفسها بشدة لإتاحة الفرصة للعجوز لتشمت بها.. وتفسد وقتها مع رؤوف..
كانت تصيح بنفسها:
"غبية.. أنتِ غبية.. غبية".
في أثناء انغماسها في تقريع نفسها لمحت ضوء خافت من نافذة مكتبه المواجهة لنافذتها.. كان ذلك الضوء الخافت بمثابة منارة في وسط ظلمات حيراتها.. لإدراكها أنه ذهب إلى مكتبه ولم يذهب لنعمات.. لذلك قررت أن لا تدعه يبيت الليلة وهما على خصام...
أسرعت وارتدت قميص نوم لونه يشبه الشيكولاتة الذائبة.. كان قصيراً يصل إلى ركبتيها بالكاد.. وله فتحة صدر واسعة.. تكشف عن بشرتها السمراء الجذابة.. ثم ارتدت الروب الذي يتناغم مع القميص واتجهت إلى مكتبه في إصرار..
أما نعمات فكانت تراقب باب جناح نورا بإصرار وما أن لمحت رؤوف يخرج من الجناح ويتجه إلى مكتبه حتى أسرعت لغرفتها.. وبدأت في البحث وسط خزانتها حتى وجدت إحدى الغلالات التي كان يفضلها رؤوف فسارعت بارتدائها وأعادت زينة وجهها استعداداً لتذهب إليه وتقدم مواستها ودعمها له...