رواية قيد القمر الفصل السادس 6 بقلم نهي طلبة
قيد القمر
الفصل السادس
اتكئت نورا على سريرها وهي تحتضن وسادتها الصغيرة وعقلها مغيب تماماً عن هذر شقيقتيها من حولها تفكر في القرار الذي اتخذته ومدى صحته.. واللقاء القادم مع رؤوف وإذا كان سيستجيب لطلبها أم لا...
كم تود أن تسأله لم اختارها هي؟.. ولكن بأي منطق تذهب وتسأله لم اخترتني ولم تختر شقيقتي الشقراء الأكبر والأجمل مني؟.. لابد أن تكون مجنونة لتفعل ذلك!!.
أفاقت من شرودها على صوت صفير, فالتفتت بعنف لتجد سهير تبتسم بسخرية وهي تقول:
ـ إلى أين ذهبتِ بأفكاركِ؟.. هل تفكرين في زوجكِ المحترم الذي أرسل زوجته لتطلب يدكِ؟.
تمثلت إجابة نورا في وسادة طائرة ارتطمت بوجه سهير بعنف:
ـ توقفي عن السخافات يا سهير.. فمزاجي لا يحتمل المزاح..
تحركت سهير لتقف أمام المرآة وأخذت تمشط شعرها الأشقر الطويل وتخاطب صورة شقيقتها المنعكسة أمامها:
ـ لا تقلقي.. لا أعتقد أن رؤوف ممكن أن يسيء إليكِ.. ولا حتى خالتي نعمات.. فنحن نعرفها منذ طفولتنا.. وهي كانت دائماً طيبة معنا..
صمتت قليلاً وهي تضع حرف المشط قرب أسنانها.. ثم أردفت:
ـ صحيح.. هل ستناديها خالتي نعمات.. أم نعمات فقط.. أم..؟.
قاطعتها نورا بحنق:
ـ أرى أنكِ تسلين نفسك على حسابي.. طبعاً.. فأنتِ سعيدة أنكِ فلتِ من الفخ.. ولكن يجب على حبيب القلب أن يتحرك سريعاً.. فلن تفلتي المرة القادمة.
أجابتها سهير بغيظ:
ـ من منا التي تسلي نفسها الآن؟!!.. ولكني بلا شك أحمد الله أن رؤوف طلبكِ أنتِ.. إن هذا غريب فعلاً.. هل تظنين أنه يعلم بأمري أنا ومنذر؟..
ابتسمت نورا بسخرية:
ـ نعم.. صحيح!..
ارتسمت الحيرة على ملامح سهير وهي تسألها:
ـ إذاً لماذا أنتِ؟..
أجابتها نورا بغضب:
ـ وكيف لي أن أعرف؟!!..
اقتربت منها سهير لتربت على كتفيها وهي تسألها بتردد:
ـ لماذا تريدين مقابلته؟..
جاء صوت والدهما ليباغتهما معاً وهو يقول:
ـ نعم.. يا نورا.. لماذا تريدين مقابلة رؤوف؟.. ولماذا لم تخبريني بذلك عندما تكلمنا سوياً؟..
رفعت نورا رأسها لوالدها ثم وقفت على الفور احتراماً لوجوده داخل غرفتها وأخذت تفرك يديها معاً.. وهي تخاطبه بتردد.. فهو طالما كان هادئاً وليناً معهن.. ما عدا في موضوع رؤوف.. فهو يظهر عصبية شديدة:
ـ أبي.. أنا آسفة.. أعلم أنه كان ينبغي علي أن أخبرك.. بطلبي.. ولكن..
صمتت قليلاً.. ثم قالت:
ـ أنت تثق بي يا أبي.. أليس كذلك؟..
ـ تكلمي يا نور القمر...
ـ أبي...
وقالت نور القمر كل ما عندها....
*********************
ـ هيا يا نورا.. أسرعي.. رؤوف منتظر منذ نصف ساعة.
ـ حالاً يا أمي..
نزلت نورا السلم بتمهل.. فها هو الزوج المنتظر وافق وجاء ليستمع إلى وجهة نظرها.. وبقي فقط.. أن تستطيع هي أن تركب بعض الجمل المفيدة التي تعبر بها عن نفسها..
اصطحبها والدها إلى غرفة الضيوف لتفاجئ بوجود جدها يجلس في صدر المجلس ولم تكن دهشتها بأقل من دهشة رؤوف عندما وجد جده يدخل من باب الغرفة منذ دقائق وهو يحييه ببساطة ويتصدر المجلس.. فابتلع دهشته وغضبه وهو يسلم على جده ويجلس بجواره.. أما نورا فكانت ردة فعلها مختلفة حيث تراقصت السخرية في عينيها رغماً عنها وهي تنظر لرؤوف بجانب عينيها وكأنها تسأله:
ـ هل أتيت بجدي لتحتمي خلفه؟!!..
وكأن رؤوف فهم ما ترمي إليه نظراتها فاضطجع في مقعده بثقة وكاد أن يضع ساقاً فوق الأخرى لولا أنه تذكر وجود جده وعمه..
قطع جدهما سيل التحدي المتبادل والذي التقطه بسهولة:
ـ حسناً يا عبد السلام... ها قد أتيت بالعروس.. فهل تأمر لنا بالقهوة؟..
أجاب عبد السلام بهدوء وقد فهم إشارة والده:
ـ حسناً يا أبي..
التفت الجد نحو نورا بعد أن خرج والدها ليسألها:
ـ وأنتِ يا صغيرتي.. ألا تريدين تحية جدكِ؟..
تحركت نورا بتردد لتتوجه نحو جدها وتقبل يده وتحيه هامسة:
ـ مرحباً يا جدي.. شرفت البيت بوجودك..
ربت الجد على رأسها وهو يقول:
ـ بارك الله فيكِ.. ها نحن هنا لنستمع لشروطكِ.. ماذا تريدين يا ابنة شموس؟.
رفعت نورا رأسها بغضب وهي تقول:
ـ جدي!!!..
ضحك الجد وقد أفلحت جملته في إخراج نورا من خجلها وتوترها فقال بهدوء:
ـ حسناً.. حسناً.. لا داعي لإطلاق طبعكِ الناري الآن.. لا نريد أن إخافة رؤوف..
جاء الدور على رؤوف لينظر لجده بحنق.. فما الذي يمكن أن يخيفه من تلك الدمية الصغيرة.. ألا يكفي حضور جده المفاجيء الذي أعطاها إيحاء بأنه يهاب تلك المقابلة, حتى يُلقي بمثل تلك الملاحظة!!..
قاطع صوت جده الصمت وهو يقول:
ـ أخبرينا بشروطكِ يا... حفيدة الجيزاوي.
ابتسمت نورا برقة لعلمها بأن جدها يراضيها بتلك الجملة:
ـ إنها ليست شروط بالمعنى المفهوم يا جدي.. هي..
قاطع الجد جملتها كعادته مع أولاده وأحفاده:
ـ أظن أن السؤال المطروح هو.. هل تتضمن تلك الشروط طلاق نعمات من ابن عمكِ رؤوف؟..
ارتفعت رأس نورا بحدة أكبر وهي ترد على جدها بقوة وقد لمع التمرد والشراسة في عينيها وهي تواجه رؤوف بجوابها:
ـ أعتقد يا جدي أن ابن عمي طلبني للزواج لأنه يعلم أن تربيتي وأخلاقي تمنعني من مجرد التفكير في طلب كهذا.. ولو كان هو الرجل الذي يستجيب لي لو طلبت ذلك.. ما وافقت على تلك الزيجة.
ارتفعت رأس رؤوف بسرعة ليتأمل تلك القذيفة المنطلقة.. وقد أخذ وقته في تأمل العينين اللامعتين باللون الذهب.. والأنف الصغير والمرتفع بكبرياء والشفتين اللاتين ترتعشان برغم الثقة التي تبدو عليها.. وارتسم في عينيه التقدير الكامل لما يرى ويسمع من تلك الصغيرة.. وسمع جده يعبر عن ذلك التقدير:
ـ لقد أحسنت شموس التربية.
وجاء ردها صاعقاً:
ـ نعم يا جدي.. لقد أحسنت شموس تربية بناتها رغم عدم تمكنها من إنجاب الولد.
تكهرب الجو واشتد التوتر بعد جملتها تلك واستشعر رؤوف ضيق جده.. فقد صمت تماماً وكأنه مازال يحمل نفسه ذنب ما حدث لابن شموس وعبد السلام, فقرر رؤوف الدخول في الموضوع مباشرة وأجل أمر تأديب تلك الدمية لما بعد.. حين يمتلك الحق بذلك، فبرغم كل شيء لا يصح أن تجابه جدها بمثل تلك الصفاقة حتى لو كانت محقة....
عدل جلسته حتى يواجهها وهو يسألها:
ـ حسناً.. أخبريني ما هي طلباتكِ؟.. أنا هنا لأسمعكِ..
رفعت نورا عينيها لتواجه عينيه للحظات قليلة ثم أخفضتهما وقد تلونت وجنتيها بلون وردي محبب وأخذت تفرك يديها بشدة وهي تضغط على شفتيها بقوة مع محاولتها لابتلاع لعابها وهي حركة مصاحبة لها دائماً عند شعورها بالتوتر الشديد.. لكنها لم تدرك أنها تعطيها لمحة حسية مميزة..
حاولت تحريك شفتيها أكثر من مرة لتجيب على سؤاله ولكنها لم تفلح في إخراج كلمات ذات معنى.. حتى سمعته يستعجلها بنبرة ظهر فيها نفاذ صبره:
ـ حسناً..
أجابت بتلعثم وبكلمات مبعثرة:
ـ أنا.. أنا ..
عادت لتصمت وقد عقد لسانها عن الكلام على غير عادتها.. أخذت تحث نفسها على إخراج الكلمات ولكنها كانت محرجة وخجلة جداً وكأن مواجهتها مع جدها قد استنفذت كل مخزونها من القوة والشجاعة..
عاد صوته يستحثها بنرفزة:
ـ أنتِ ماذا؟.
أغاظتها نبرته وكأنه يحادث طفلاً صغيراً فانطلقت كلماتها بدون حساب:
ـ أنا لا أريد أن أقيم في منزلكِ الحالي.. أعني أنه ليس لك حقاً.. أعني..
قاطعها بإشارة من يده:
ـ حسناً لقد فهمت.. يجب أن تعلمي أنني انتهيت بالفعل من تأثيث بيت آخر خاص بي.. إنه قريب نسبياً من بيت عمتي قمر.. ماذا أيضاً؟.
تنفست الصعداء, فكان مجرد تفكيرها في الإقامة في منزل الخالة نعمات يسبب لها قلقاً عميقاً.. فهي بذلك تسلب كل حقوق سيدة المنزل.. و..
انتبهت إلى نظراته المتسائلة فهي لم تجب على سؤاله ولكن استجابته لطلبها الأول منحها بعض الثقة فقالت بخفوت:
ـ آه.. أنا.. أريد حفل زفاف كبير.
صاح بها في دهشة:
ـ ماذا؟..
أجابته بهدوء:
ـ أنا لا أريد أن يقال أنني.. أنني أخذت رجل من زوجته.. وأنني خجلة من نفسي.. لذا أريد حفل زفاف لائق.
تعجب رؤوف من تفكيرها ولم يدري إذا كان طلبها ينم عن ذكاء أم عن تفكير سطحي.. ولكنها أضافت:
ـ كما لا أريد لأبي أو أمي أن يسمعا كلمة تؤذيهما.. خاصة وأنا أول من ستتزوج من بناتهما ومن حقهما أن يستشعرا الفرح لذلك وليس الحرج.
حسناً.. لقد حسمت الموضوع بتلك الإضافة.. فقال لها:
ـ ليكن.. لن اعترض على هذا.
ربت جده على كتفه وهو يقول:
ـ بارك الله فيك يا بني.. فابنة عبد السلام وشموس تستحق أكثر من ذلك.
أجابه رؤوف بثقة:
ـ بالطبع يا جدي..
ثم توجه لنورا بالسؤال:
ـ لكني أتساءل.. فقط لماذا لم تطلبي من عمي أن يسألني عن تلك الأمور, فهذا هو المتعارف عليه؟!!.
تأملته للحظات لمح فيها التماع نظرات نارية من بين أجفانها وهي تنظر لجدها بتردد وتقول:
ـ لأن طلبي الأخير وهو الأهم.. وهو ما كان أبي سيرفضه.. ولكني مصرة عليه..
سأل بقلق:
ـ وماذا يكون؟.
عادت تتردد وتتلعثم في كلماتها وهي تقوم بتلك الحركة بشفتيها والتي فتنته وشتت ذهنه للحظة:
ـ حسناً.. أنني لن... لن أقبل أن تتزوج أخرى, إذا لم أستطع الإنجاب فسيكون عليك تطليقي إذا رغبت الزواج للمرة الثالثة.
كان دخول والدها إلى الغرفة في تلك اللحظة هو ما أنقذها من صفعة قوية على مؤخرتها.. وهو الرد الذي تستحقه على طلبها الأحمق.. كان هذا تفكير رؤوف وهو يرمقها بغضب شديد عجز عن احتوائه للحظات.. ماذا تظنه؟.. رجل يجري وراء رغباته مطارداً النساء.. وهل تطالبه بالطلاق قبل أن يتزوجا؟.. صبراً أيتها المتبجحة الصغيرة.. سوف أقص هذا اللسان وأجعلكِ تعتذرين على كلماتكِ الحمقاء..
جالت نظرات عبد السلام بين وجوه الثلاثة من رؤوف المتحفز وابنته ذات الوجه الممتقع وأخيراً ويا للغرابة والده والذي كان يبدو متسلياً للغاية وبادره بالسؤال:
ـ أين قهوتي يا عبد السلام؟.. ألا تريد زوجتك تقديم واجب الضيافة؟.
بوغت عبد السلام بكلام والده وانشغل بالرد عليه عن متابعة المشهد أمامه:
ـ هاه.. لا.. كلا بالطبع يا أبي.. ولكنها فكرت أن تقوم نورا بإعدادها, فهي تعرف حبك للقهوة من يد نورا..
ضحك الجد بقوة وهو يقول:
ـ نعم.. فنورا تعد قهوة مثالية.. حتى عمتها قمر لا تستطيع إعدادها مثلها..
ثم توجه لنورا وهو يسألها:
ـ هل انتهت طلباتكِ يا حفيدتي الصغيرة؟.. أعتقد أن رؤوف وافق عليها جميعاً.. أليس كذلك يا رؤوف؟..
ثم نظر لرؤوف ولمحت نورا لمحة تفاهم خفية بينهما.. كأنما يتكلمان لغة لا يفهمها سواهما.. فأجاب رؤوف بلهجة ساخرة قليلاً أو هذا ما بدا لها:
ـ وهل أستطيع الرفض؟.. طلباتكِ أوامر يا ابنة عمي..
إحساس قوي بداخلها أخبرها أنه يسخر منها.. وتيقنت من ذلك عندما سأله جدها:
ـ وأنت يا رؤوف هل توجد لديكِ أي طلبات أو شروط؟..
وكان رده:
ـ إن طلباتي كلها سأعلمها بها بعد الزواج..
هنا انطلقت ضحكات الجد مما جعل اللون الوردي يصبغ وجنتيها بوضوح وهمست بخفوت:
ـ الوقح!!..
سألها جدها بتسلية:
ـ ألن تعدي القهوة يا نورا؟..
وتوجه لرؤوف قائلاً:
ـ يجب عليك أن تتذوق قهوتها يا رؤوف..
قال رؤوف بهدوء:
ـ حسناً يا جدي لنتذوق تلك القهوة الشهيرة لعلها تنال إعجابي.. إني أشربها بسكر خفيف جداً...
قبل أن تبدي أي اعتراض على تنفيذ ما يريد.. سمعت صوت والدها يأمرها بإعداد القهوة.. فتحركت بخطوات تشبه الركض الخفيف هرباً من ذلك الوقح المتعجرف الذي سيصبح زوجها عما قريب وهي تشعر أن طلبها الأخير هو ما أثار استفزازه لتلك الدرجة..
عادت بالقهوة وهي مازالت متأثرة بغضبه اللامرئي.. ولكنها تمسكت بواجهة رزينة وهي تقدم القهوة لجدها ثم لأبيها ولكن عندما جاء دوره وناولته قدحه سمعته يهمس لها:
ـ كلامكِ الأخير لم يكن مقبولاً على الإطلاق.. أظنكِ فهمتِ ذلك.. وسنتفاهم لاحقاً.
*********************
تحدد موعد الزفاف بالفعل.. ودخلت نورا في دوامة من الاستعدادات المتلاحقة والتي لم تترك لها لحظة للانفراد بنفسها والتفكير في جملته الأخيرة والتي بدت في أذنيها كتهديد خفي..
كانت عمتها قمر تلازمها على مدار اليوم متغنية بمميزات رؤوف وفضائله.. وطيبة نعمات التي لم ترها نورا مرة أخرى وحمدت الله على ذلك فهي لم تجد طريقة ملائمة للتعاطي معها بعد.. فبعد أن كانت تراها كسيدة راقية وطيبة الخلق أصبحت تخافها وتخشى من تأثيرها على حياتها المقبلة.. فهي لم تنسَ نظراتها المهاجمة في تلك الليلة.
لقد منحتها بعض العذر في ذلك.. لكنها لن تكون ضحية أو شهيدة في تلك الزيجة.. ولن تسكت عن أي إهانة تلحقها, وكانت تدعو ربها أن يخمد تلك المشاعر الشبيهة بالغيرة التي بدأت تشتعل بداخلها وخاصة مع تعدد زيارات رؤوف لمنزلهم ورغم أن زياراته لم تحمل معنى شخصي فكان يجلس مع والدها معظم الوقت يتناقشا أمور العمل، وكان حواره معها مقتضباً لا يتعدى السؤال الرسمي عن أحوالها..
تعجبت هي لذلك وكأن الوجه الوقح المستفز الذي أظهره لها في حوارهما الأول اختفى للأبد.. فكانت مع نهاية كل زيارة ومعرفتها إنه سيذهب إلى بيته حيث توجد نعمات تجد تلك الغيرة بدأت تموج بداخلها وكانت تحاول مغالبتها بشدة فهي لا تريد البدء في صراع الزوجات وتمنت أن تكون حياتها مع رؤوف هادئة برغم نظرات نعمات المقلقة..
لقد تيقنت من نية نعمات على إثارة المتاعب عندما علمت أن المنزل الذي حدثها عنه رؤوف لن يكون لهما فقط بل ستشاركهما نعمات فيه وستغلق منزلها القديم إلى الأبد..
ثارت ثائرتها يوم علمت بذلك وتعالى صراخها في المنزل بأنها لا تريد إتمام الزواج أبداً.. وأن ابن عمها العزيز خدعها بمنزله الجديد والذي ستشاركها فيه زوجته الأولى.. ورفضت حتى الذهاب لرؤية المنزل وتأثيث جناحها الجديد فيه ولم يهتم رؤوف بذلك وأخبرها أنه أعد المنزل بالفعل ولا داعي لتغيير الأثاث فهو جديد لم يمسسه أحد.. وتعالى صياحها مرة أخرى أمام أمها وأبيها الذي أسكتها بجملة واحدة:
ـ أنتِ طلبتِ منزلاً جديداً.. وليس منزلاً منفصلاً عن زوجته.
عارضته بقوة:
ـ ولكن...
قاطعها:
ـ لا يوجد لكن.. انتهى الموضوع.
لم تملك سوى أن تصمت فهي ظنت إنه فهمها جيداً بل كانت متأكدة من أنه فهم إنها تريد منزلاً مستقلاً ولكنه تعمد سوء الفهم.. لتقطن هي في النهاية مع ضرتها في منزل واحد.. منزل قد يكون غاية في الاتساع ولكنه لا يحتمل زوجتين متناحرتين على رجل واحد..
*********************
كانت نورا في غرفتها تنهي استعداتها حين دخلت عليها شقيقتيها اللتان شهقتا بسعادة.. وهما تتأملان أختهما في ثوبهاالأبيض الذي التصق نصفه الأعلى بجسدها ليظهر بوضوح خصرها الرقيق ووركيها الدقيقين... ثم يتسع في سحابة متماوجة من القماش الأبيض الناعم والمطرز برقة بماسات صغيرة براقة وينتهي بتخريمات مميزة ومزينة بدورها بلآلئ صغيرة..
زين صدر الثوب بخرزات ماسية رقيقة توزعت بدقة على كسرات القماش الذي احتضن صدرها برقة وكانت تلك الماسات تتماثل مع الموجودة على طرحتها والتي غطت خصلات شعرها الكثيفة والذي صفف في تسريحة رقيقة تاركة بعض خصلاته حرة خلف ظهرها.. كانت تبدو مثل الملاك الناعم وهذا ما عبرت عنه شقيقتها نادية:
ـ أنتِ تبدين كالملاك..
كانت نورا في أقصى حالات توترها وهي تفرك يديها ببعضهما وترد على شقيقتها:
ـ شكراً لكِ يا صغيرتي..
اقتربت منها سهير لتحتضنها بقوة وتقول له:
ـ إنها محقة.. أنتِ رائعة..
ثم همست لها بصوت خافت:
ـ لقد وصل رؤوف بالفعل.. ولقد أرسلنا والدي لنستعجلكِ..
همست نورا:
ـ وهل أتت معه؟..
فهمت سهير من تقصد, فقالت:
ـ كلا, هي لن تأتِ.. لقد أخبرتنا عمتي قمر بذلك.
تنفست نورا الصعداء فهي في غاية التوتر ولن تحتمل أن تأتي نعمات إلى حفل زفافها, فيكفي حضورها الأسبوع الماضي كله إلى الحنة.. مما وضع نورا تحت ضغط كبير.. وكان ما يثير حنقها تلك النسوة اللاتي يبتسمن في وجهها ويخبرنها أنها التعويض الذي أرسله الله إلى رؤوف.. ثم ما أن توليهن ظهرها حتى يذهبن لنعمات ليواسينها على الابتلاء الذي أصابها بزواج رؤوف من تلك الصغيرة خاطفة الرجال والتي لا حياء عندها..
تلك الأقاويل التي تكررت في حفل الزفاف الكبير والذي أقامه رؤوف بناء على طلبها والذي استمر إلى ساعات الصباح الأولى وحضره كبار المسئولين بمدينتهم كما حضره معارف رؤوف من كبار رجال الأعمال.. لم تهتم نورا بكل الأسماء الكبيرة التي حضرت زفافها, فكل ما كان يهمها هي تلك الفرحة المرتسمة في عيون والديها وهما يريانها متعلقة بذراع زوجها والذي أقام لها زفاف الأحلام..
*********************
وقفت نعمات في شرفة غرفتها في الطابق الثاني بمنزل رؤوف تراقب وصول العروسين وسط جمع صاخب من سيارات العائلة, التي ترجلت شموس وسهير من إحداهما ليساعدا نورا على الترجل بدورها من السيارة، لكن رؤوف اعترض طريقهما ليفتح لها الباب ماداً لها يده يساعدها على الخروج بنفسه من سيارته، وما أن خرجت ولمحت أمها حتى ارتمت في أحضانها تودعها وسط سيل من دموع شموس الغزيرة.
سلمت نورا على والدها وجدها وتوالت كلمات التهنئة والتمنيات بالسعادة.. راقبت نعمات كل ذلك بمشاعر مجمدة تقريباً فهي لا تعلم ماذا ستكون ردة فعل رؤوف إذا علم بوجودها الليلة هنا, فهو اتفق معها أن تؤجل انتقالها لأسبوع حتى تكون العروس الصغيرة استقرت, ولكنها لم تطق تنفيذ ذلك فيكفيها إنه قرر عنها عدم حضور الزفاف, فخالفت ما اتفقا عليه ولأول مرة منذ زواجهما قررت أن تنتقل لمنزله الجديد مع دخول العروس الجديدة, بل وسبقتها أيضاً..
لمحت رؤوف يتأبط ذراع عروسه ويتجه بها نحو باب المنزل وحاولت شموس اللحاق بهما استجابة لإشارة خفية من نورا إلا أن ذراع عبد السلام أوقفتها بينما استمر رؤوف يتحرك بنورا حتى دخل بها إلى المنزل ولوحا مودعين للجميع وأغلق الباب من خلفهما..
ظلت نورا واقفة في مكانها تنظر للأسفل وتفرك يديها بقوة محاولة تجنب النظر إلى وجهه مباشرة حتى سمعته يقول وهو يمسك يديها ويفك اشتباكهما:
ـ مبروك يا عروسي.. نورتِ منزلكِ.
أجابته بخفوت وصوتها يكاد يسمع بينما كانت يديها ترتعش بين يديه:
ـ شكراً..
عاد ليسألها:
ـ هل أعجبكِ المنزل؟.
حاولت استعادة يديها ولكنه شد عليهما وشبك أصابعه بأصابعها مما جعل رعشة يديها تنتقل إلى جسدها وأجابته بصوت أشد خفوتاً:
ـ إنه جميل..
أجفلت عندما ضحك وقال:
ـ وكيف تعرفين وأنتِ لم تأتِ لتريه؟.. ولم ترفعي رأسكِ حتى الآن؟.. هل أعجبتكِ بلاطات الأرض؟..
تباً إنه يسخر منها.. وهي حتى غير قادرة على رفع رأسها ومواجهته, تخشى مواجهة تلك النظرة في عينيه والتي لمحتها عندما رآها في ثوبها للمرة الأولى تلك الليلة.. كانت نظرته وكأنها تتلمسها.. تتحسس كل جزء فيها وتقدر الجمال السخي الذي يبرزه الثوب الخيالي..
لقد أسكرتها تلك النظرة وسمرتها في مكانها وهو يقترب بهدوء طابعاً قبلة رقيقة على جبينها.. حينها فقط خرجت من ثمالتها بنظرته ليرتعش جسدها خوفاً مع تغيير النظرة في عينيه التي تغير لونهما ليتحول إلى الأسود تقريباً.. وهي كانت واثقة من وجود تلك النظرة الآن..
ازداد ضغط أصابعه وهو يسألها:
ـ لن تجيبي؟.. حسناً.. فلنذهب إلى غرفتنا.. لعلها تعجبكِ أكثر.
يا إلهي.. هل تستطيع الالتفاف والهرب الآن أم فات الآوان؟!!..
شعرت به يتحرك ويسحبها خلفه حتى وصلا إلى باب مغلق في نفس الطابق السفلي فتحه وادخلها قائلاً:
ـ حسناً.. هذه هي غرفتكِ.. إنه جناح كما ترين و...
لم تكن تستمع إليه فقد صدمتها فكرة أن تكون غرفتها في الطابق السفلي.. إن المنزل مكون من طابقين.. فلماذا لم تكن غرفتها بالأعلى.. آه يا نورا.. إنكِ تدفعين ثمن غبائكِ, فأنتِ من رفضتِ الحضور لرؤية المنزل واختيار غرفتكِ.. أنى لكِ الاعتراض الآن؟..
حسناً.. إن كان يظن أنها ستسكت على تلك الإهانة فهو واهم.. لن تكون نورا بنت الجيزاوي إن لم تجعله هو بنفسه يطلب منها الانتقال إلى الطابق العلوي والذي بكل تأكيد انفردت به نعمات كنوع من التأكيد على أنها سيدة المنزل..
حسناً لقد كانت تملك كل النوايا الطيبة للتعامل معها ولكنها تصر على استفزازها ودفعها نحو زواية تدافع فيها عن وجودها داخل هذا المنزل..
انتبهت فجأة لتجده قريباً منها جداً فتراجعت للخلف تلقائياً.. بينما ابتسم هو قليلاً وهو يطمئنها:
ـ لا تقلقي.. فأنا لا آكل الفتيات الصغيرات!!.
ضيقت عينيها بغيظ وهي ترمقه بصمت.. بينما أكمل هو:
ـ في البداية أريد أن أطلب منكِ بعض الأشياء.. هي لن تكلفكِ شيئاً ولكنها ستجعل الحياة في البيت أسهل على الجميع..
ظلت صامتة تنتظره أن ينتهي من كلامه فأردف بهدوء:
ـ أنا أريد منكِ معاملة نعمات كأخت كبرى لكِ.. فتحترمي رأيها.. ووجودها في ذلك المنزل.. كما لا أريد حروب أو صراعات من أي نوع.. إنها سيدة طيبة وذات قلب كبير...
أخذت نورا تسمعه يعدد مميزات نعمات والغيظ يتآكلها.. هل هذا ما يريد أن يبدأ به حياتهما قصائد من الشعر في مدح زوجته الأولى!!.. جالت بعينيها في الغرفة محاولة كظم غيظها حتى لا تنطلق منها كلمات تندم عليها لاحقاً.. فلمحت مزهرية كبيرة في ركن الغرفة فظلت تتخيل نفسها تنهال بها على رأسه ضرباً حتى يكف عن مدح تلك السيدة التي سيضعها في مصاف القديسين قريباً.
ـ هل سمعتِ كلمة مما قلته؟.
التفتت إليه وقد انتبهت أنه ينتظر جوابها بنفاذ صبر:
ـ نعم لقد كنت تعدد مميزات القديسة.
رأت الغضب في عينيه فأدركت أن لسانها تحرك بدون تفكير كعادتها ليوقع بها في مشكلة جديدة, فتحركت للخلف خوفاً من الغضب الظاهر على ملامحه لكنه أمسكها من ذراعيها يجذبها نحوه:
ـ هذا بالضبط ما كنت أتكلم عنه.. تلك الكلمات التي تنطلق منكِ بدون تفكير والتي قد تسبب العديد من المشاكل في هذا المنزل..
أجابته بحدة:
ـ أنا لا أفعل هذا.
ـ بل تفعلين.. فلقد رأيت كيف صدمتِ جدي بكلامكِ في تلك المرة.. هل تذكرين؟..
جذبت ذراعيها بحدة من بين يديه وهي تقول بلهجة مبطنة:
ـ حسناً.. لا يوجد شخص كامل.. وأنا لست قديسة.
تنفس بعنف وهو يقول:
ـ يا إلهي!!..
ابتعد عنها يتحرك في الغرفة بدون هدف فقط يحاول أن ينفض عنه ذلك الغضب.. ما بها؟ لماذا لا تطعه فحسب؟.. هل يجب أن تناقش في كل شيء؟!.. لماذا لا تدع الأمور تمر ببساطة وهدوء؟!..
كانت نورا تراقبه وهو يتحرك في الغرفة وتلوم نفسها على إثارة غضبه.. وتعود للومه هو لاختياره ذلك الوقت حتى يعدد مزايا زوجته.. لقد أفسد ليلة زفافها.. وأفسد أي ذكرى حلوة قد تراودها حول تلك الليلة...
*********************
وهناك بالأعلى كانت نعمات في غرفتها تتميز غيظاً وقهراً وغضباً.. تتماوج بداخلها مشاعر سوداء لم تظن أنها تمتلكها وكرهت نفسها بشدة لأنها تشعر بتلك الطريقة.. ولكن مراقبتها له وهو يتعامل مع نورا بتلك الطريقة في مدخل البيت, طريقته البسيطة في المزاح معها حتى تطمئن وسؤالها عن رأيها في المنزل.. إمساكه ليدها وتشبيك أصابعهما معاً...
كل هذا فوق احتمالها، اشتعل بركان من نار في جوفها وهي غير قادرة على إخماد تلك النار.. تلوم نفسها لاستراقها السمع بتلك الطريقة.. وفي نفس الوقت تشعر بالحقد والغيظ عندما تتذكر ليلة زفافها عليه وهروبه من أمامها في ثواني معدودة...
لم تحتمل كل تلك المشاعر وبدأت تراودها صور لرؤوف مع تلك السمراء الصغيرة.. وأخذت تتخيل ما يمكن أن يحدث بينهما والمقارنة التي سيعقدها رؤوف بينهما والتي ستخسرها هي بلا شك.. وجدت قدميها تتحرك بدون إرادة منها لتنطلق هابطة درجات السلم وتتوجه نحو غرفتهما وتطرق الباب بشدة..
*********************
سيطر رؤوف على غضبه بقوة فهو لا يريد إخافتها, كما أنه يجب أن يفكر في صغر سنها الذي يدفعها إلى تهورها ذاك.. وإذا كان يريد تقويم تصرفاتها فذلك لن يتم في يوم وليلة..
تحرك نحوها بخفة ولاحظ اضطرابها عندما لمحت تقدمه.. فاقترب منها بهدوء وهو يمسك يديها ويلمح ارتعاشهما.. لقد نسي خوفها الطبيعي من ليلة زفافها.. هي أنسته ذلك بعنادها ومظاهر الثقة التي تبدو عليها ويفضح ارتعاشها أنها ثقة زائفة..
قال بهدوء:
ـ هل أخبرتكِ أنكِ تبدين مذهلة.. جميلة جداً.
رفعت عينيها إليه بذهول وهي لا تكاد تصدق أنها سمعت تلك الكلمات من شفتيه.. ولم تعرف بماذا ترد عليه.. فحرك هو يديه ببساطة ليرفع الطرحة من فوق رأسها ويحرر خصلات شعرها من محبسه.. وأخذ يتخلله بأصابعه بسعادة.. وهو يقترب ليطبع قبلة رقيقة على جبينها قائلاً:
ـ اذهبي للوضوء حتى نصلي معاً ركعتين..
وقبل أن ترد بالإيجاب سمعا طرقاً قوياً على الباب وصوت نعمات ينادي بنفاذ صبر:
ـ رؤوف!!!.
تحركت نورا بغضب أعمى وهي تكاد تصرخ من الغيظ:
ـ لا أصدق.. هل كانت موجودة طوال الوقت؟.. هل طلبت منها الحضور إلى المنزل في ليلة زفافنا؟!!..
شتم رؤوف بخفوت فهو لا يصدق أن نعمات خالفت ما اتفقا عليه.. هل قررت التمرد هي الأخرى؟..
توجه رؤوف بدون أن يتفوه بكلمة ليفتح باب الجناح الخارجي وهو يواجه نعمات بغضب مكتوم:
ـ نعمات!!.. هل هذا ما اتفقنا عليه؟..
رفعت نعمات إليه عيون مغرورقة بالدموع وبدأت تتكلم بطريقة شبه هيستيرية تقريباً:
ـ رؤوف.. آسفة.. آسفة لم أستطع.. أشعر أني سأموت.. إنك كل ما تبقي لي.. أرجوك.. أرجوك.. لا تتركني..
هدأ غضب رؤوف بعدما تبين حالتها التي تقترب من الانهيار.. فربت على كتفها بهدوء:
ـ ما هذا الكلام؟.. من أين أتيتِ بتلك الأفكار؟..
توسلته نعمات:
ـ أرجوك يا رؤوف.. تعالى معي.. أشعر أني سأموت..
وقع رؤوف في حيرة شديدة.. كيف يتصرف؟.. نعمات تبدو في حالة يرثى لها.. ونور القمر بالداخل.. عروس في ليلة زفافها..
عاد صوت نعمات يتردد:
ـ أرجوك رؤوف.. أحتاج إلى وجودك حقاً..
وكانت نورا قد اقتربت بما يكفي لتسمع الجملة الأخيرة, فلم تتمالك لسانها الذي انطلق كعادتها:
ـ الليلة.. يا عمدة..