رواية راكسيرا الشعاع الاخير الفصل الثاني 2 بقلم كوين اسمهان
⦅✹⦆
+
تَسرقِين أدوار الشَّمس؛ لكنكِ أكثر جرأة...
1
فتجتازين شُقوقِ الأبواب إلى شقوق القلب!
6
☼
+
سان سلفادور|تحت حُجُبِ العتمة...
+
أرخى الليل سدوله، و لم يُغرق الشارع ما بعد ضوء الغروب سوى أضواء الإنارة الذهبية، و كانت تلك أيضا شمس مميزة بالنسبة لسولارا، كانت بحق عاشقة لكل نوع من خيوط النور حولها...
+
قبعت متكئة على حافة النافذة بمرفقيها تقلب بصرها بحيرة، ماذا يتعين عليها أن تفعل؟ لقد إقترحت أن تصحب ماتياس للمستشفى و رفض، ثم أضافت أنها تستطيع البحث عن طبيب في الجوار كي يسعفه... و كذلك رفض! أيقنت أنه عنيد، لكنه لا يعرف أنها أعند بأشواط!
+
لا يمكنها مد يدها لمحفظة نقوده و الإنفاق منها على علاج فعال له و طعام يتناولانه في ذلك المنزل الخاوي، فضلت الموت جوعا على أن تمس مالا لا يخصها؛ و لو كانت مضطرة، و فكرت في حل آخر لطلب المساعدة...
+
إلتفتت إليه تتأمل إستلقاءه على الأريكة كجثة هامدة، إقتربت فجأة تتأكد أنه يتنفس، فشعر ماتياس بأنفاسها تتموضع على فمه بسبب إنحنائها الشديد، و إثر ذلك... رأت شيئًا يشبه ولادة إبتسامة طفيفة عند أطراف شفتيه، حبست الهواء داخل رئتيها مستسلمة لسحر اللحظة، و مضت تبتسم له بدورها، ثم تشجعت أكثر، و مدت أصابعها الجميلة لتتحسس جسده المصقول، و آنذاك فاجأتها حرارته المتفاقمة، و العرق البارد الذي لا زال ينضح منه بتصبب غزير، إستوت واقفة تزم شفتيها، و حسمت قرارها في كسر رغبته! إن كان يريد الموت، فهي لا تريد الجلوس بعجز و مراقبته يقضي نحبه!
1
إلتمست منه العذر بهمس و هي تفتش بجيب سترته عن هاتفه الخلوي، فقد تتمكن من الإتصال بعائلته و طلب مساعدتهم، لكنها لم تستطع فتح قفله بسبب كلمة السر المعقدة التي يضعها، لم تنجح كل محاولاتها البريئة، إستمرت تشكل من الحروف المبعثرة على الشاشة كل كلمة خطرت لها: «مافيا» «قتل» «دموية» «وحشية» «ظلام» «سفاحين» «سايكو» «عصابة سلفاتروتشا» «العالم السفلي»... إلى أن هلكت و أعادت الهاتف لمكانه مستسلمة، و تمتمت تخاطبه بفم عابس:
5
"يا لك من رجل معقد! ماذا يمكن أن تكون كلمة السر بالنسبة لزعيم عصابات مثلك؟".
+
شعرت بمدى سخافتها و بساطة حياتها أمام غموضه، لكن فكرة ٱخرى خطرت لها، طالما لا تستطيع الإستفادة من إتصال الطوارئ و فضح هوية زعيم العصابة، فهي تستطيع ترك المنزل لبعض الوقت، لعلها تجد المساعدة لدى شخص آخر غير الشرطة و رجال القانون!
+
إنحنت ثانية عليه تهمس لامسة وجهه بنعومة و إعتذار:
+
"آسفة على هذا يا سيد الظلام، لكن أعدكَ ألا أتأخر!".
+
نزلت سولارا الدرج بوثب غزال مذعور، بعدما أخذت مفتاح سيارته من حزام بنطاله، و فغرت فاها حين فوجئت بسيارة بوغاتي سوداء فارهة تحتلُّ باحة المنزل، حسنا، لقد توقعت أن يكون زعيم عصابات ثريّ، لكن ليس إلى هذا الحد، إنبهرت بالسيارة إلى حد بعيد، و أقسمت أن هذا أحدث طراز للبوغاتي في العالم كله! و لكن ما الذي دهاها بحق السماء؟ سريعًا تمتمت توبخ نفسها متجهة صوب البوابة الضخمة:
+
«لا يمكنكِ الوقوف بوجه البلهاء هذا أمام سيارته الآن، الرجل في خطر!».
+
حاولت فتح أبواب البوغاتي دون جدوى، تساءلت إن كان ماتياس يضع لها قفلاً من نوع خاص لضمان سلامته و سرية حياته، أيًّا يكن... عليها التصرف بسرعة، كانت قد شطبت إحتمال تمكنها من العثور على جهاز إتصال آخر داخل السيارة، لذا وضعت المفتاح في جيبها لتضمن عدم ضياعه، ثم غادرت الباحة متحولة للخيار الثاني.
+
إن لم تستطع فتح هاتفه المعقد و لا سيارته الثمينة لطلب النجدة من ذويه، فيمكنها أن تطلب النجدة من غيرهم، لكن قد يعرضه هذا لخطر مختلف، طالما هو رجل مافيا، فهذا لا يتيح له ما هو متاح لشخص عادي مثلها، الرجال أمثاله محاطون دائما بالأعداء، و مهددون بالقتل طيلة الوقت، إن تدبرت أمر الطبيب الذي سيعالجه، فقد يكتشف هويته، و يشي بأمره للشرطة، و هكذا يدخل السجن! كلا! لا يمكنها أن تتهور و تفعل هذا به!
3
سارت عدة أمتار متذبذبة، تقلب رأسها يمنة و يسرى، تتساءل أين يفترض بها أن تتجه لتعثر على عيادة ما، قد تصادف طبيبا دمثا و يملك من الإنسانية ما يكفي لينقذ أي روح دون تمييز، و كانت خلال كل خطوة تجاهد لحفظ معالم الطريق مخافة أن تنسى عنوان منزل ماتياس!
+
عثرت على ضالتها أخيرًا، ها هي ذي تقف قبالة عيادة صغيرة، لكن المؤسف أن الطبيب كان أثناء تلك اللحظات قد خلص دوامه اليومي، و أوصد أبواب خدماته!
1
لم تفكر سولارا مرتين، هرعت إليه تشق الموضوع بشكل مباشر رافضة تضييع أي ثانية:
+
"مرحبا، سينيور! لا شكَّ أنك طبيب كما هو واضح من المئزر في يدك، يجب أن ترافقني حالا، هناك شخص مصاب و في وضع حرج!".
+
أبدى الرجل إهتمامه على الفور، و كان مستعدا لمرافقتها رغم إنتهاء دوامه، لكنه سحنته إصفرت حين سألها:
+
"أين العنوان؟ هل هو بعيد؟ و ما هي نوعية الإصابة؟".
+
أجابته لاهثة و هي تحثه على الإسراع:
+
"ٱصيب بطلقين ناريين، المسكين فاقدٌ لوعيه منذ ساعة تقريبًا في منزل مهجور يبعدُ من مكاننا...".
+
أمسك الطبيب خطواته مصعوقا، و تراجع مقاطعا كلامها بوجه شاحب:
+
"آسف، لا أستطيع مساعدتكِ، إبحثي عن طبيب آخر!".
+
صرخت مستنكرة و هي تلاحقه بينما كان يسير في الإتجاه المعاكس كجرذ جبان:
+
"ماذا تفعل؟ لماذا غيرتَ رأيك؟".
+
"لأنني أعرف إلى أي منزل تأخذينني، و أنا طبيب تافه لا يمكنه مواجهة عالم تلك العائلة المجرمة!".
+
"لكنه إنسان... و من واجبكَ إنقاذه دون النظر لعالم عائلته".
+
ذرفت دمعة و هي تصرخ غير مصدقة أنه ركب سيارته و تأهب للرحيل:
+
"إعذريني، لدي زوجة و أطفال، لا تقحميني في هذا!".
+
راقبت سيارته تختفي خلف إنعطافة الشارع التالية، و همست بخيبة أمل:
+
"كيف سأجد طبيبًا غيرك الآن؟".
+
كان الحل الوحيد أمامها تدبر أدوية أنجع من تلك التي تعاطاها ماتياس بنفسه... و ليس بين يديها طريقة لذلك سوى أن تبيع شيئًا يدر عليها بثمن مناسب، لكنها لا تملك أي مجوهرات أو أغراض ثمينة، توقفت هنيهة أسفل عمود إنارة، تنظر لهاتفها، تنهيدة خافتة غادرت شفتيها، أخفته في جيبها ثانية بينما عاد المطر للهطول بغزارة، آخذا في الإرتطام برأسها، ليرتد و تتناثر قطراته في شكل أقواس حولها، جاعلة من المنظر أشبه بنافورة ذهبية!
+
و ما هي إلا لحظات معدودة حتى ألفت قدميها تقودانها لشوارع ٱخرى، شعرت بالوحشة بين المارة و هم يصطمون بكتفيها أحيانا، أيقنت أن أغلب البشر أسقطوا قلوبهم خلفهم و دفنوا ضمائرهم تحت خطواتهم ماضين إلى حياة لا يتحركون فيها لنجدة أحد و الرأفة به! تُطرد من الفنادق و النزل كحشرة، تتعرض للسرقة و النشل في وضح النهار، طبيب جبان يتنصل من واجبه النبيل و يخون قسمه، و الآن هذا الرجل الجشع الذي يلمع نظاراته ببطء و ضجر كي يفحص الهاتف الذي عرضته عليه!
+
كان صاحب محل بيع الهواتف المستعملة الذي وجدته بعد بحث طويل يبدو شخصا إنتهازيا، و تأكدت سولارا من صدق حدسها حين رفض قبول الهاتف مقابل مبلغ أكثر مما حدده، و رغم أن المال الذي ذكره على مسمعها كان زهيدًا جدا مقارنة بجودة الهاتف الذي كان بحوزتها، إلا أنها إضطرت لإتمام البيع معه، فقط حتى لا تخسر المزيد من الوقت، قبضت الأوراق التي منحها إياها، و أسرعت بالبحث عن صيدلية تفتح ليلاً!
+
"تفضلي!".
+
أومأ لها شاب كان يقف خلف المقصف داخل صيديلية قريبة من محل الهواتف، فدلفت مترددة، و تمتمت:
+
"شكرا، أريد أي شيء فعال يوقف الألم و يخفض حرارة الحمى!".
+
"ناوليني الوصفة رجاءً!".
+
تمتمت مجددا بتوتر:
+
"لا أملك واحدة!".
+
هز الشاب رأسه بأسف:
+
"إذن يجب أن تخضعي للكشف أولا ثم تقتني الأدوية سينيوريتا!".
+
"أعرف، لكن... الأدوية ليست لي!".
+
نظرت حولها بقلق، قبل أن تضيف بغموض:
+
"هناك شخص آخر يحتاج لعلاج فوري، و لا يمكنه الخضوع لكشف طبي في الوقت الراهن!".
+
عجز الشاب عن فهمها، و فكرت سولارا أنها تعودها على الصدق منذ نعومة أظافرها يجعل الكذب أشبه بكابوس مرعب، لم يسبق أن زيفت حقيقة أو أخفت واقعا لتحل محله شيئًا من نسج خيالها، الوضوح أحب إلى قلبها من التلاعب، و الصراحة أثمن من الإدعاء، أخذت أنفاسا عميقة مصغية لصراع محتدم داخل رأسها:
+
«إخترعي كذبة بيضاء من أجل سلامته، تأخرتِ بما فيه الكفاية!».
+
«لا يوجد شيء إسمه كذبة بيضاء، الكذب هو الكذب!».
+
«لكن إذا كانت الكذبة هي الطريقة الوحيدة لحماية روح ما، فما العمل؟».
+
حسمت قرارها حين رفع الشاب حاجبيه مكررا سؤاله عن هوية هذا الشخص و تفاصيل مرضه، و قالت دفعة واحدة:
+
"لا حق لي في الإدلاء بهويته، أنا لا أعرفه حتى، لكن يبدو أنه شخص مهم، و من الخطر أن يتواجد في مستشفى أو عيادة الآن، التشخيص الوحيد الذي أملكه هو أنه يعاني من حمى خطيرة بسبب رصاصتين إخترقتا صدره و بطنه، رأيته ينزعهما بشجاعة و يضمد نفسه، لكنه فقد وعيه، و حرارته في إرتفاع متزايد، و الآن هل تستطيع تلبية حاجة هذا الإنسان أم علي إيجاد صيدلية ٱخرى؟!".
+
فاجأها الشاب بموافقته الأكيدة، إتجه إلى الرفوف المرتبة بعناية و دقة خلفه، و أخذ يلتقط بعض العلب، ليحدد فوق كرتونها بسيالته الزرقاء مواعيد الجرعات و مقاديرها لمدة ثلاثة أيام، ثم ترك لها رقم هاتفه في حال تعرض المصاب لمضاعفات، و قال في لهجة صادقة:
+
"إتصلي بي دون تردد، والدي طبيب ذو خبرة ممتازة، بإمكانه التدخل في الحالات الخطيرة!".
+
شكرته بحرارة، و إلتقطت كيس الأدوية مغادرة الصيدلية تعلو وجهها أمارات الأمل و التجدد، تعرفت على مسار العودة إلى المنزل بسهولة، و كان أن إقتنت بعض الطعام في طريقها متتبعة إرشادات الصيدلي حول آثار تلك الأدوية القاسية على معدة خاوية!
+
دلفت إلى المنزل برشاقة، و تسلقت الدرج بلهفة، ثم هجمت على غرفته مشهرة بوجهه الأغراض التي عادت بها و هي تردد كأنه يسمعها بحق و يستطيع الرد:
+
"أنا هنا مجددا يا سيد الظلام، أعرف أنني نكثت بنصف الوعد و تأخرت، لكن ٱنظر... أنا لست كذلك الطبيب الجبان، لن أتخلى عنك حتى لو كنت أسوء رجل!".
3
عرفت أنه يغط في نوم عميق بسبب حالته، لكنها تابعت الثرثرة بشغف و هي تتقدم نحوه لتغير الكمادة:
+
"أنت زعيم وسيم و قوي، و أعتبر نفسي محظوظة لأنني من بين كل منازل السلفادوريين إقتحمت منزلك!".
+
وجدت ماتياس كما هو، مع إرتفاع محسوس في حرارته، و إحمرار علا وجهه. فضَّت إحدى علب الفواكه المهروسة، أضافت إليها الحليب الطازج، و مضت تباعد بين شفتيه لتطعمه المزيج السائل، جففت ما سال من شدقيه بمنديل، ثم كررت ذلك لدقائق، قبل أن تطمئن لإمكانية منحه الأدوية!
+
☼
+
أجرت السينيورا سلفاتروتشا الإتصال العاشر برقم ماتياس، ليتكرر نفس التسجيل، و تزفر ببطء موقنة أن إبنها وضع مجددًا ذلك النظام الذي يمنع أي جهة إتصال بالوصول إليه أو الكشف عن موقعه. جلست بتعب مكتوم على كرسيها الوثير مراقبة تساقط الأمطار من النافذة و هي تفكر أين يمكن أن يكون و في أي حال؟
2
طُرق باب غرفة جلوسها الخاصة آنذاك، فتمتمت دون أن تطلق سراح المشهد في الخارج:
+
"تفضل!".
+
دلف رجل نحيف طويل القامة ببشرة داكنة و بدلة أنيقة، و شبك يديه أمامه محنيا رأسه و قال بأسف:
+
"أعتذر بشدة سينيورا، فشلت كل محاولاتنا في إسترجاع الشحنة الضائعة!".
+
"إلى الجحيم بكل شيء يا ماغنوس، إبحثوا عن إبني قبل بزوغ الضوء، أو سأخرج لإيجاده بنفسي!".
+
كان مقام النساء في عصابة سلفاتروتشا رفيعًا، لم يسبق لرجال العائلة أن سمحوا لواحدة منهن أن ترفع السلاح أو تصافح الأغراب أو تشغل أي وظيفة تقلل من شأنها، هنَّ كنَّ النواعم اللاتي يخففن وطأة السواد عن حياة رجالهن، و يطردن وحشة القسوة بعيدًا بسواعدهن الهشة و أهدابهن الملساء، كُنَّ أميرات دون أن يحتجن لوضع التيجان، طلباتهن أوامر، و خواطرهن أثقل من الذهب... تُشترى و لا تباع!
4
أما السينيورا فقد كانت زوجة عم ماتياس، إعتنت به بعد وفاة والديه و هو في سن الثانية، و رغم كونها أما لبنتين و ولد، تحملت المسؤولية الكاملة تجاه ماتياس، و كانت السند الأعظم الذي وقف خلفه على مر السنين!
+
لم ينبس ماغنوس بحرف، كان شديد الإحترام و الإخلاص للسينيورا إلى حد يعجز فيه عن النظر إلى وجهها مباشرة، أبقى بصره قيد الأرضية اللامعة التي تعبرها سجاجيد فاخرة هنا و هناك، و همهم مطيعا الأمر، قبل أن يتحرك مغادرًا، و على شفتيه هو الآخر تعليمات ينقلها لرجاله الأكفاء!
+
و بينما كانت السينيورا تتأمل الأمطار بحزن و قلق يحفر العقل، كانت سولارا على بعد ميلين من قصر سلفاتروتشا تتأمل نفس الأمطار بعينين حالمتين و فم ضاحك، تتذكر تشبيهه لها برائحة الأرض ما بعد المطر، بِيترِيكُور! يا له من إسم لطيف! كيف خطر على باله أنها كذلك؟! مضت تنحرف بنظراتها له، يدها أحيانا تسافر لجبينه و عنقه مستكشفة حرارته التي بدأت تنخفض تدريجيا، و رأسها يتدحرج من حين لآخر ليستقر على كتفه دون وعي، لتفيق فزعة طاردة ذلك النعاس العابر، و تتمسك بالسهر حتى تتأكد أنه تخلص من الحمى و بات أفضل!
+
☼
+
سان سلفادور|الشُّعاع مجددًا...
+
تراجع الظلام أخيرا... و سمح للشمس بنشر أذرعها الذهبية نحو أقطار الأرض، نافضة ما تبقى من غباره الأسود عن النوافذ، تسلط شعاع رفيع على وجه سولارا، و تحديدا على جانب من فمها الزهري المكتنز، أحست بحرارة عجيبة، فرفعت جفنيها بتثاقل، و عدلت من وضعية عنقها العوجاء رافعة ظهرها عن الأريكة، تمطط ذراعيها كالقطط، أهدابها لا تزال مثقلة بالنوم، و أطرافها مخدرة من التكور على الأريكة طوال الليل!
+
نظرت عن يسارها تتقصى بعينيها الذابلتين وضع الزعيم الذي حولته الحمى إلى مجرد طفل ضخم الجثة؛ لكنها تفاجأت به على يقظة، بعينين جاحظتين، ينظر إليها كما لو أن الشمس التي أشرقت، يتمرغ ببصره من منبت شعرها العسلي حتى نهاية ذقنها المدببة، مارًّا بكل التفاصيل التي تؤكد أنه لم يرَ من قبل في مثل ٱنوثتها! كيف لم يلاحظ ذلك أمس؟ هناك نمش صارخ على وجنتيها! يتوهج كلما لامسه نور الشمس الذي يعبر النافذة فيشق الغرفة شقين، و كل شق لا يحفل إلا بإنعكاس البهجة التي تولد من تقاطيعها!
1
وثبت نحوه بلهفة إستغربها:
+
"بماذا تشعر؟ خشيتُ أن تعلق في ظلام البارحة و تتمادى بشخيرك حتى المساء التالي!".
8
إستل بصره المشدوه من فتنة وجهها، و إستقام على قدميه بثبات يدير لها ظهره، قبل أن يمضي لإشعال سيجارة و هو يردف بصوت خشن:
+
"أنا لا أشخر!".
+
"ٱخرج من هذه الأبواب يا رجل، شخيركَ بلغ نهاية الشارع!".
8
كان يتكئ على حافة النافذة و هو يسمع ذلك بثغر مبتسم، لكنها لم تنظر لوجهه، و لم تكتشف إبتسامته، بل أضافت و هي ترتب الغرفة:
+
"في مطلق الأحوال... هذه أول مرة أقضي فيها ليلة كاملة إلى جانب رجل يشخر، أجدها تجربة فريدة من نوعها، لذا لا تشعر بالذنب من أجلي! شخيركَ جميل يا سيد الظلام".
3
تذكر أنها تناديه بذلك اللقب منذ أمس، ربما يناسبه اللقب، لكن الرجل و اللقب لا يناسبان عالمها الوردي، سحق سيجارته بتجهم حين سألته عن ملكيته للبيت، و أجاب ببرود و بطء:
+
"إنه لجدي!".
+
أدركت سولارا أن المنزل مهجور بالفعل، أخبرها ماتياس أنه لا يستعمله إلا لماما، فكفت سولارا فضولها حيال ماضي المنزل، و تمتمت بعفوية و هي تضع على الطاولة الصغيرة الحليب المعلب و الخبز المغلف قبل أن تفتش داخل كيس الأدوية:
+
"حين تنتهي من فطوركَ تناول هذه الأقراص! أرى أنك أصبحت على خير ما يرام، لكن الصيدلي أوصى بتمديد العلاج لثلاثة أيام!".
+
"فطوري؟".
+
إنحسر مبتعدا عن النافذة و حدق بها متسائلاً:
+
"عن أي أقراص و علاج تتحدثين؟ أي صيدلي هذا الذي حدثكِ بشأني؟!".
+
أجابته ببساطة تسترجع أحداث الأمس:
+
"الصيدلي الذي زرتُه خلال تمددكَ هنا كدمى المعارض!".
1
هز حاجبيه مستلذا طريقتها الفريدة في الحديث، منتظرًا في الآن نفسه شرحًا مفصلاً لمقصدها، فأضافت سولارا بينما تفتح علبة الحليب و تضعها بقبضته:
+
"كان علي تخفيف الحمى التي تلتهمك بطريقة ما، ربما لم يكن لائقا أن أسرق مفتاح سيارتك لجلب المساعدة، لكنني كنت مضطرة، أيا يكن، سيارتك كانت أشبه بصندوق الطائرات الأسود، فإعتمدت على ساقي، و إلتقيتُ طبيبا أخرقا هرول فور سردي لتفاصيل إصابتك، لكن الصيدلي كان لطيفا و خدوما، و هو من وصف لك هذه الأدوية!".
+
قضمت شفتها السفلى كأنها إرتكبت جرمًا لا يغتفر، و تمتمت بتوتر:
+
"سيد الظلام... هناك ما يجب أن تعرفه أيضا، و أصلي ألا تغضب مني بسببه... لأن نيتي كانت حسنة!".
+
تجلت على قسماته نظرة الفضول، و ركز بصره على ثغرها المتحرك و هي تضيف في تردد جلي:
+
"عبثتُ بهاتفكَ قليلاً...!".
+
ألقى ماتياس نظرة سريعة على الهاتف، فقد كان يخفي داخله أكثر البيانات سرية و خطورة حول أعمال عصابته و شؤونه العائلية، و لم يكن من السوي أن تقع بين يدي الشرطة أو الأعداء، و ليس من السوي أيضا أن تضيع و تحذف، لكنه تنفس بإرتياح حين أيقن أنها فشلت في فتح القفل بالأساس، و شعر برغبة ملحة في وضعها على ركبتيه و صفع مؤخرتها بشدة لأنها جربت ثلاثة و تسعين كلمة سر خاطئة في ظرف قصير، مما جعل هاتفه يعطل نفسه تلقائيا، و يدخل ضمن نطاق نظام العزلة الخاص، فلا ترِده أي إتصالات أو رسائل، و هذا ما برمج ماتياس هاتفه عليه في حال أضاعه أو تمت سرقته!
5
رمقها بنظرة حادة، فإعترفت بفداحة ما قامت به و لوت شفتيها في ندم لطيف جعله يبتلع غضبه فورًا:
+
"حسنا، أعترف أنني عبثتُ به كثيرًا... لكنني وددتُ فقط مخابرة ذويكَ ليأتوا إلى هنا و يسعفوك!".
+
إنتابها حزن مفاجئ لأنه أشاح عنها رافضا تناول الفطور، ربما ماتياس هذا ليس كأي رجل عصابات قرأت عنه في الروايات، ربما لا تجد المرأة دائما ما تقرأ عنه! قررت أن تكف تدخلها بحياته، إنها في النهاية غريبة عنه، و دخيلة على حياته! تركت تلك الغرفة بصمت، نزلت الدرج متناولة حقيبتها، في حين كان ماتياس يتفقد محفظة نقوده تارة و ينظر للأكياس التي إقتنتها تارة ٱخرى... متسائلا من أين أتت بثمنها إن لم تمس بطاقاته الإئتمانية السوداء؟
+
في الباحة... إلتفتت سولارا تتأمل المنزل بمشاعر مختلطة، قضت هنا ليلة واحدة، لكن... لسبب غريب... شعرت أنها تفارق مكانا عزيزا، قبضت بشدة على حقيبتها و باشرت بتسلق البوابة ، قبل أن تصدر السيارة رنة مفاجئة جعلتها تجفل و تفقد توازنها، أغمضت عينيها متوقعة ألما عنيفا حين تصطدم بالأرض القاسية، لكن أحدهم إلتقطها في الوقت المناسب، و حملها على ذراعيه بإحكام!
+
"ماذا تفعل؟".
+
"أنا أم أنتِ؟".
+
أجابها ماتياس بوجع مشدود، و أضاف:
+
"الصلبان المسننة التي تتوج هذه البوابة حادة و قاطعة، ألم تفكري في مدى خطورة تسلقها؟".
+
أردفت بتسلية مدركة أنه إرتدى ثيابه كاملة:
+
"صدق أو لا! أجد الإفراط في التفكير قاتلٌ لروحي!".
+
راق له منطقها المختلف، و مع ذلك قال بغموض:
+
"أحيانا! لكن في الأغلب... لا وجود لكِ إن لم تُعملي عقلكِ! ينتهي المرء حين يبدأ عجز التفكير لديه!".
+
فكرت قليلاً، و علقت مصرة على وجهة نظرها بكلمات مبهمة:
+
"ربما لدي الأحيان فقط... و ليس لدي الأغلب!".
+
حدس ماتياس قصة طويلة تتوارى خلف تلك العبارة، غير أنه أجل تحليلها لوقت لاحق، و قال بدلاً من ذلك و هو يتجه إلى سيارته:
+
"يا لكِ من كاذبة! وعدتِ أمس بألا تتخلي عن سيد الظلام!".
2
تعجبت كيف سمع ثرثرتها و هو تخت تأثير الحمى، لكنها ضحكت متأسفة:
+
"المعذرة من جلالة سيد الظلام! ظننتُكَ إكتفيتَ من تدخلات هذه الثرثارة و تريد التخلص منها!".
+
لم يردف ماتياس بشيء، وضعها داخل على المقعد الجانبي للبوغاتي، و ألقى حقيبتها على المقاعد الخلفية، و بينما كان يجلس خلف عجلة القيادة، و يثبت حزام الأمان لكليهما، كانت هي تمطره بالأسئلة:
+
"ماذا تفعل؟ إلى أين تأخذني؟ ثم كيف تسمح لنفسك بالقيادة قبل أن تشفى تماما؟ مهلا! ألا يؤلم هذا الحزام جراحك؟ يا إلهي! هل تصدق أنك أكثر رجل مهمل قابلته؟ ماذا...".
+
"كفى!".
+
قاطعها و هو يبتعد عن ذلك الشارع المرتفع، و ينزلق بسيارته القاتمة نحو الطرقات النابضة بالحياة، ثم أضاف متسليا:
+
"إهدئي يا رَاكسِيرَا! أنا رجل، و دمائي السلفادورية كافية لأصمد!".
4
كان قلقها عليه لطيف، يذكره بقلق السينيورا سلفاتروتشا، لكن هذه الأخيرة تبدو أكثر نضجا و جدية مقارنة بالمجنونة التي تجلس إلى جواره الآن و لا تستطيع إمتلاك لسانها!
+
تطلعت سولارا به متعجبة مما قاله، و كررت الإسم الذي أطلقه عليها كما لو أنها تائهة بين طياته:
+
"رَاكسِيرَا؟!".
+
"إنه مثل «بِيترِيكُور»، ألا تعرفين معناه أيضا؟".
+
هزت رأسها نفيًا، فإنعطف نحو اليسار ليتوقف بجانب كافيتيريا صغيرة و هو يجيبها كما لو أنه العارف بكل شيء:
+
"رَاكسِيرَا هو الشعاع الرفيع الذي يتسلل إلى الظلمات من شقوق و فتحات ضيقة!".
+
مرر بصره على عيونها و خصلاتها العسلية، و تابع كالمخدر:
+
"و هذا يشبه إلى حد بعيد ما تفعلينه أيتها المتسللة... بيتي... حمامي... جيوبي... و هاتفي...! ماذا بعد؟!".
5
كان يتحدث بمرح مداعب، لكنها أحست حمرة الخجل تضرم النار في خديها، فأردفت تبعد نظرها اللامع عن عينيه الساحرتين:
+
"أعتذر حقا! و أؤكد لك أنني لم أمسَسْ محفظتك، أخذت المفاتيح فقط من أجل...!".
+
"لستِ بحاجة للتبرير، أعرف تماما ما جرى، قلتِ داخل الحمام أنكِ معدمة و هذا سبب إقتحامكِ منزلي بحثا عن مأوى و قوت، كيف تدبرتِ المال إذن؟".
+
رفضت في البداية إخباره، و حين أصر، أجابت مكرهة:
+
"بعتُ شيئًا! و لا بأس بذلك، فقد إستفدتُ من سقفكَ ليلة كاملة، و حظيتُ بنوم عميق، إعتبر ما أنفقتُه على الأدوية و الطعام ثمنًا في المقابل، و إنتهينا!".
+
"ماذا بعتِ بالتحديد؟".
+
إنزعجت من إصراره مرددة:
+
"قلتُ إنتهينا!".
+
"و أنا قلتُ لم ننتهِ!".
+
"لم تقل ذلك البتة!".
+
"أقوله الآن! و كفى لجاجة لأنني لا أحب تكرار كلامي!".
+
إعترفت أنها باعت هاتفها، و إنحرف فمها في ضحكة جانبية جذبته، فكرت أنه يتصرف كرجال المافيا المتسلطين، آه! هل تعيش الحلم أخيرًا؟ سألها ما سبب ذلك، فأجابت دون أن تتوقف عن الضحك:
+
"أحببتُ الأسماء التي تنتقيها، يبدو أن واسع الإطلاع... على عكسي! كيف كنت أجهل إسم أكثر ظاهرة تروق لي؟ ظاهرة إقتحام الأشعة الرفيعة للأماكن المظلمة!".
+
"هذا لأنكِ تبقين داخل حيز صغير، بينما أنتِ أوسع من العالم!".
1
دُهِشت من جمال ما جرى على لسانه، أيعقل أن يتحدث رجل عصابات بهذه الشاعرية؟
+
"تحولت من سيد الظلام إلى سيد الشعر!".
+
قهقهت بنعومة، و أضافت في عفوية تامة:
+
"لم يسبق لأحد أن منحني إسما بهذا الدفء!".
+
"أخبريني أولا! هل تزورين أحدًا في سان سلفادور؟".
+
"كلا! أنا غريبة تماما عن هذه البلاد!".
+
قالت ذلك، و مضت تسرد له ما تعرضت له من خداع و معاناة بسبب مقلب أصدقائها الكريه، لكنها أبقت مرضها طي الكتمان، و سمعته يقرر دون أن يحتاج لأخذ موافقتها:
+
"لن تكوني غريبة بعد الآن، لأنكِ سترافقينني إلى قصر سلفاتروتشا، و ستصبحين فردًا من عائلتي!".
15
إتسعت عيناها العسليتان غير مصدقة، و تمتمت:
+
"هل أنت جاد؟".
+
أوضح لها بنظراته الثابتة أنه في قمة جديته، و تابع:
+
"أما بشأن الأسماء الدافئة، فستحصلين على واحد كل يوم!".
18
تعلقت به أكثر، و إطمأنت حتى بعدما تركها لدقائق داخل السيارة و ترجل للقيام بشيء مهم. فكرت أنه سيتصل بعائلته ليطمئنهم، و في حال كهذه هو بحاجة لمساحة خصوصية، ربما سيعلمهم أيضا بوجود ضيفة أجنبية معه، لكن ماتياس فاجأها بعودته حاملاً قهوة ساخنة مزدوجة و قطعة واحدة من الفطائر المحشوة بالشوكولاتة الذائبة لصالحها فقط!
+
"يا لكَ من زعيم ودود! أكاد أفقد وعيي بسبب الجوع!".
+
أراد إخبارها بأنه يعرف ما يجري بأعماقها أكثر منها، لأنها شفافة و بريئة، لكنه آثر الصمت، و فضل أن يتأملها مطولا و هي تقضم الفطيرة بفمها الصغير، و لا تبالي بتدفق سيول رفيعة مضحكة من الشوكولاتة الذائبة من شدقيها، ثم تنكب على شرب القهوة الساخنة بضمأ قهره، ألهذا الحد كانت جائعة و عطشى؟
+
عرضت عليه مشاركتها تناول الفطيرة عدة مرات، إلا أنه إكتفى بقهوته التي سرق منها رشفات متباعدة، و ظل أسير شفاهها و ذقنها الملطخين بالشوكولاتة، ففتح صندوقا صغيرا أسفل تابلو السيارة، و إستخرج علبة مناديل ورقية لا يستعملها سوى الأشخاص المرموقون، و باشر بتنظيف وجهها كما لو كانت طفلة لا تجيد الإهتمام بنفسها، و قبل أن يعيد العلبة لمكانها و يغلق الصندوق منطلقا بالسيارة، لمحت سولارا مسدسين و مشطين ملقمين عن آخرهما بالرصاص الحي، لكنها لم ترتعد خوفًا، بل إتسعت إبتسامتها شاعرة بأمان أكبر و هي تواصل إلتهام ما تبقى من فطيرتها، لولا شيء إسترعى إنتباهها خارج السيارة، و جعلها تتجهم و تصيح بماتياس:
+
"توقف! هيا ماتياس توقف بسرعة!".
+
داس بقوة على المكابح معتقدًا أنها رأت واحدًا من أصدقائها الخونة، لا سيما و هو يراها تفك حزامها، و تقفز بلهفة خارجا و قطعة الفطيرة المتبقية لا تزال بين أصابعها الممشوقة، وضع يده على مسدسه، و صمم على اللحاق بها و تدارك الكارثة قبل أن تحل، ليدرك لاحقا أنها ركضت لأمتار خلال ذلك الرصيف و دفعت بعض المارة بسخط فقط... كي تتنازل عن طعامها لصالح قطة متشردة تلتف بفروها الأشعث حول صغارها حديثي الولادة!
1
"تبدين أشد الحاجة لهذه الفطيرة أكثر مني!".
+
مضت القطة تلتهم ما قُدم لها بشراهة، فيما كان صغارها يموؤون بأصوات صغيرة أذابت قلب سولارا، مسحت بيدها الحنونة على فرائهم، قبل أن تلتفت ذاهلة تحس بيد ماتياس و هو يمسد شعرها كما لو كانت قطة مسكينة و غنوجًا أيضا!
11
تصادمت نظراتهما، و إشتبكتا طويلاً، ليقول فجأة و هو يستعذب ملمس شعرها الناعم:
+
"ألم أقل لكِ أنكِ أوسع من العالم!".
7
إلتقطها من الرصيف، و عاد بها إلى السيارة مستطردًا:
+
"هيا بنا يا رَاكسِيرَا، لنرى كيف ستتسللين لعالم سلفاتروتشا المظلم؟!".
13
نهاية الفصل الثاني.
31
☂☼
+
سولارا في طريقها لعالم مختلف عما عاشته طوال حياتها🖤 ماذا تتوقعون لها داخل قصر سلفاتروتشا👀 و هل ستتقبل عائلة ماتياس وجود فتاة أجنبية بينهم و لا سيما و أنهم أخطر عائلة مافيا في البلاد؟ هذا ما سنعرفه في الفصل القادم✨
4
قراءة ممتعة☕🍿
كونوا دافئين مثل الرَاكسِيرَا🌥️
17
