رواية قيد القمر الفصل الخامس عشر 15 بقلم نهي طلبة
الفصل الخامس عشر
أغمضت سهير عينيها بألم وهي جالسة في نافذتها تتأمل الطريق الذي اتخذه منذر منذ قليل ليذهب إلى جدهما كما أخبرها.. أو إلى تلك الفتاة التي سكنت قصر الجيزاوي بدعوة مراعاة صاحبه بينما هي تخطط للاستيلاء على من تطاله يدها من أحفاده, فبعد صد رؤوف الواضح لها حولت اهتمامها إلى منذر الذي تلقى ذلك الاهتمام بشغف وتقبله بسعادة...
تستطيع سهير تحديد اللحظة الذي بدأ فيها منذر علاقته بتلك الحرباء.. كما تستطيع التأكيد على أنه لم يتمادى معها بعد.. فهي تفهم منذر جيداً وتحفظ ردود أفعاله كراحة يدها كيف لا وهو توأم روحها وحبيبها الوحيد... ولكنها للعجب تمنحه العذر فيما يفعل.. فهي من تدفعه دفعاً لذلك, بل هي من منعت عمتها قمر من التدخل ومحادثة منذر ورده عن تصرفاته.. فهي طالما آمنت أن ما بين الزوجين يجب أن يظل بينهما.. وأن تدخل أي طرف ثالث ولو بحسن نية سيتسبب بأذى قد لا يمكن احتوائه.. ولكنها أيضاً تدرك وجوب مصارحة منذر بوضعها وأحاسيسها, ولكنها لا تضمن ردة فعله.. فما تملكه من تبريرات لسلوكها نحوه قد يعتبره هو إهانة لرجولته.. وكيانه كرجل وزوج..
ظنت دوماً أن حبهما صلباً كالصخر وثابتاً كالجبال ولكنها تخشى ألا يحتمل مواجهة كتلك.. تعلم أنه خطأها من البداية.. فقلة خبرتها وخجلها منعاها من مصارحته بما ينتابها وهي بين ذراعيه.. تدرك بتقصيرها نحوه.. وخطأها الذي قد يتسبب في دمار زواجهما.. لذلك هي تسمح له بالتمادي مع تلك الحرباء ربما كتعويض عن حرمانه من مشاعرها واهتمامها.. ولكنها أحياناً تتساءل إن كان ذلك تصرف ماكر منها تركه ليخطأ ويخطأ ثم تواجهه بما لديها فيتساوى الطرفين في الخطأ..
تدرك أن المواجهة آتية وحتمية ولكنها تخشى, بل وترتعب من تبعاتها, هل ستنتهي حياتها معه تماماً؟.. أم ترضخ وتقبل بوجود امرأة اخرى في حياته لتمنحه ما تعجز هي منحه إياه؟.. ولكن هل ستتحمل مشاركته مع أخرى؟.. لا تعتقد.. هي ليست بقوة نورا, ولا تمتلك سعة حيلتها التي مكنتها من السيطرة على قلب وعقل رؤوف الذي أصبح لا يرى غيرها والأعمى وحده من يتغافل عن ذلك.. ولكن رغم هذا تظل نورا زوجة لنصف زوج.. وهو وضع لن تحتمله سهير ولن تطيقه فرغم كل الأفكار المنطقية وكل الأعذار التي تمنحها لمنذر فهي تشعر بنيران حارقة تكوي قلبها وتحرق روحها حرقاً لمجرد تخيله برفقة تلك الفتاة.. فكيف ستتحمل أن يكون زوجاً لأخرى؟!!!...
هل تلك الحرقة بداخلها تشبه ما تشعر به نورا عندما يقضي رؤوف أوقاته مع زوجته الأخرى.. وكيف تتحمل نورا تلك الآلام المبرحة وتلك الغيرة الحارقة؟.. إلا أن هاجساً شريراً همس لها, بل نورا هي الدخيلة ومن تشعر بحرقة القلب وظلم الأيام هي نعمات.. الزوجة الأولى التي هجرها رؤوف ليتنعم بالسعادة مع نورا شقيقتها..
نفضت رأسها بعنف وهي ترمي عنها تلك الأفكار السوداء.. كيف تفكر بهذه الطريقة؟.. وكيف تظن بشقيقتها هذا الظن؟.. هل فقدت عقلها؟.. أم أنها تحاول أن ترمي مشاكلها على من حولها..
بينما تشرد بأفكارها لمحت منذر يدلف من بوابة البيت بسيارته بسرعة كبيرة..
حدثت نفسها..
"لم يبقَ مع الأخرى إذاً.. لقد عاد إلى البيت.. عاد إليها".
تنهدت براحة وانتابها شعور خفي بالأمان فهو مازال صامداً.. ولكن إلى متى؟!!!.
دلف منذر إلى المنزل وهو يجر قدميه جراً.. لا يدري كيف أوقف وداد وسحب نفسه من بين أحضانها.. لا يستطيع فهم نفسه فهو غير قادر على الابتعاد عنها وفي نفس الوقت لا يرغب بأن يتطور الأمر ويصل إلى مرحلة اللاعودة.. مازال يجاهد نفسه محاولاً إيقاف الأمر أو حتى تجميده عند حد معين.. فهو لن يتمادى إلا في إطار شرعي, ولكن هل هو مستعد لتلك الخطوة وهل يرغب فعلاً في الإقدام عليها؟.. وهل يستطيع مواجهة العائلة بقرار كهذا؟.. والأهم.. هل يمكنه مواجهة سهير؟..
جذبه من لجة أفكاره أصوات عالية آتية من بهو المنزل وما أن اقترب حتى تبين أن قاسم يتشاحن مع أمهما.. فجائه صوته منفعلاً وهو يتهم أمهما كعادته:
ـ أنتِ طالما فضلتِ رؤوف على الكل.. حتى على ابنكِ.. عليّ أنا.. الجميع فعل.. وفي نهاية الأمر أصبح هو الرئيس والمتحكم في كل شيء..
قاطعته قمر بصوت متهدج:
ـ يكفي يا قاسم.. يكفي يا بني.. أنت تعلم أن هذا ليس صحيحاً.. فجدك يُعد رؤوف منذ طفولته حتى يخلفه في كل شيء..
زعق قاسم بغضب وكأنه لا يصدق ما تقوله أمه:
ـ هاه.. وزواجه الأول الذي منحه رضا جدي الكامل.. وعطف وشفقة الجميع.. ألم أكن أنا أولى منه بذلك.. فأنا أكبر الأحفاد, أم تناسيتم ذلك أيضاً؟.
واجهته أمه بعنف عله يستفيق من ضلالاته:
ـ بل أنت من نسيت.. هل تريد فعلاً الخوض في ذلك.. تلك الأيام السوداء التي أتى فيها أخي عبد الرحمن رحمه الله ليخبرني.. أن ابني.. ابني الكبير الذي كنت أعقد عليه كل آمالي, اختلس من أموال شركة الجيزاوي, ولولا سرعة تصرف عبد الرحمن وأبيك وتغطيتهما للعجز لوصل الأمر للشرطة.. هل تظن أن جدك غفل عن ذلك؟..
وتعالى صراخها:
ـ هل تظن أنه لم يعلم؟.. كلا يا أكبر الأحفاد.. لقد علم وأراد إبلاغ الشرطة لولا توسلاتي له ولولا خالك عبد الرحمن_رحمه الله_ لكنت تقبع في زنزانة مظلمة, واكتفى والدي فقط بطردك من الشركة وإبعادك عن العائلة في ذلك الوقت.. هل تظن أنه كان يثق بك ليأتمنك على الثروة, بل وعلى أرملة عمك؟.. هاه.. أجبني يا أكبر الأحفاد؟..
أجابها بصفاقة:
ـ أنا أعلم قدرك في قلب جدي ولو كنتِ عرضتِ عليه أمر زواجي من نعمات لكنت أنا من يتحكم في الجميع الآن؟.. ولا تتعذري بأنكِ عرضتِ عليه رؤوف خوفاً عليّ من زواجي بتلك العجوز فذلك محض هراء..
أجابته بصوتٍ باكٍ:
ـ بل أشفقت عليك من ثقل الأمانة يا ولدي.. فأنا أعلم الناس بك, فأنت قطعة مني.. أنت أضعف من أن تتحمل تلك الأمانة.. كنت ستفرط فيها وتبوء بإثمها وأتحمل أنا معك ذلك الإثم.. لقد كان الحمل ثقيل ورؤوف هو الوحيد المؤهل لحمله بدون أن يفرط فيه.. حِمل الثروة, وحِمل المرأة التي اقترن بها وحافظ على عشرته معها طوال سنوات رغم فارق السن بينهما..
أجابها بحقد:
ـ بالفعل حافظ على العشرة بزواجه عليها من ابنة الخال!.
أجابته باستفزاز:
ـ أليس ذلك حقاً من حقوقه؟.. بعد عشرته لنعمات طوال تلك السنوات التي لم تسفر عن ابن أو ابنة..
أجابها من بين أسنانه:
ـ الآن تقولين أن ذلك حقه!.. وماذا عني؟.. لماذا لم تساعديني للزواج منها.. فأنتِ تعلمين أنني أريد نورا منذ سنوات.. لماذا رفضتِ التوسط لي عند خالي ليوافق على زواجي منها؟..
صرخت به:
ـ هل أنت مجنون؟.. كنت قد تزوجت لتوك وكانت أحوالك على وشك التحسن وكان ذلك بفضل زوجتك.. تلك الفتاة الطيبة التي أصلحت من أحوالك.. فهل كنت تريد مكافأتها بالزواج عليها؟.. وهل من الممكن أن يوافق خالك أو نورا على تلك المهزلة؟.. أفق لنفسك حتى لا تضيع الحياة التي عدت إليها بمعجزة.. وانسى أي أحلام مجنونة عن نورا أو رؤوف أو ثروة جدك.. وأحمد ربك على ما وصلت إليه..
كان صوته يقطر حقداً وهو يجيبها:
ـ أنساها!!.. بالطبع سوف أفعل.. وهل أملك حلاً آخر غير ذلك؟.. ولكني لن أيأس أبداً..
دخل منذر ليقطع ذلك النقاش الذي أصبح يتكرر بصورة يومية وقطع كلام قاسم بقوله:
ـ إن نورا تعشق رؤوف.. وهو أحق الناس بها.. فلا تفكر بزوجة ابن خالك فهذا تصرف أقل ما يقال عنه أنه دنئ, ولا تنسَ أن رؤوف تحدى جدي كي يعيدك للشركة مرة أخرى وأخذ تلك المخاطرة على مسئوليته الشخصية, فلا ترد له الجميل بتلك التصرفات الرعناء..
أجابه قاسم بسخرية:
ـ انظروا من يتكلم عن التصرفات الرعناء!.. أين كنت الآن يا أخي الصغير؟..
ثم أخرج من أحد جيوبه زجاجة عطر صغيرة وأخذ يرش على منذر بكثافة, بينما منذر يبتعد عنه قائلاً:
ـ ماذا تفعل؟.. هل جننت؟..
قهقه قاسم ساخراً:
ـ أحاول أن أغطي على رائحة العطر النسائي الرخيص الذي ينبعث منك يا أخي الصغير, حتى لا تهجرك ابنة الخال الأخرى.
حدجتهما قمر بنظرات يائسة وهي تتمتمم:
ـ يا الهي.. ماذا فعلت حتى ابتلي في أولادي هكذا؟.. لماذا يا منذر؟.. لماذا يا ولدي؟.
أجابهما منذر بغضب موجه لنفسه أولاً:
ـ لا شأن لأحد بي أو بحياتي.
صاحت به قمر:
ـ ماذا تعني بــ لا شأن لأحد بحياتك؟.. هل نسيت أن سهير تكون ابنة أخي؟.. هل تعتقد أنني راضية عن تصرفاتك نحوها.. أقسم بالله لولا توسلاتها لكان لي معك شأناً آخر.. ولكني لن أصمت طويلاً.. انتبه لنفسك ولزواجك وإلا سأتدخل أنا ولن ترى سهير مرة أخرى في حياتك..
رمقها منذر باستخفاف بينما ابتسم قاسم بتشفي وهو يرى دفة الهجوم توجهت نحو منذر بدلاً منه.. وحيا والدته بسرعة وهو ينطلق من المنزل.. بينما اكتفى منذر بالصمت التام ليصعد إلى جناحه تتابعه نظرات أمه القلقة والخائفة من القادم..
دلف منذر إلى جناحه فوجد سهير جالسة على نافذتها تتأمل السماء بشرود، فحياها بهدوء:
ـ مساء الخير..
التفتت سهير إليه وهي ترد تحيته وتسأله:
ـ مساء الخير.. هل أعد لك الطعام؟.. أم تناولت طعامك مع جدي كما قلت؟.
كانت تخاطبه بلهجة رقيقة وهادئة يظهر فيها أملها جلياً بأن يعود لها منذر الحبيب العاشق, فأدرك شعور الأمان الذي غمرها عند رؤيته يعود لجناحهما فوجهها الملائكي يعبر عما تشعر به بوضوح..
رد لها ابتسامتها وهو يسألها:
ـ وهل تبقى أي طعام لي؟.
أجابته برقة:
ـ بالطبع.. أنا أعد ما تحب من أطعمة دائماً.. حتى ولو لم تأكلها معي..
أدركا كلاهما أنهما لا يتحدثان عن الطعام وأن ثمة حديث مبطن وخفي يدور خلف الكلمات الواضحة.. فسألها منذر بصراحة:
ـ هل هذا صحيح؟.. هل تفكرين بي دائماً يا سهير؟.. هل..
وضعت أناملها على شفتيه لتمنعه من الاسترسال وهي تعترف له:
ـ سهير لم ولن تعشق إلا منذر.. أقسم لك أنني لم أقصد يوماً جرحك أو إيلامك.. أقسم لك.. أنني تألمت أكثر منك عندما تفوهت بتلك الملاحظة الحمقاء.. أنا فقط حمقاء غبية وتحبك بقوة..
اقترب منها وجذبها نحوه وأخذ يتأمل ملامحها التي يعشقها وهو يمرر أنامله عليها برقة وعينيه تغرق في عينيها المغرورقة بالدموع يتبادلان حديثاً صامتاً.. تعبر عنه نظراته ودموعها..
"لماذا إذاً؟.. لماذا؟.. وهل يمكن أن أكتفي بالأقوال التي تناقضها الأفعال؟.. حاولي أكثر.. انقذيني.. انقذينا.. لا تدعي حبنا يموت".
كانت نظراته تصرخ بذلك بينما هو صامتاً يتأمل ردها الذي تمثل في دموعها العاجزة فاقترب منها بهدوء ليقبل شفتيها برقة أراد بها تطهير نفسه مما أوشك على السقوط فيه منذ قليل.. مرغ وجهه في عنقها وكأنه يمسح بطهارتها إثم ما كان يقوم به مع وداد.. احتضنها قريباً من قلبه يريد أن يزيح عن ضميره عبئ الخيانة.. يريدها أن تدفعه كعادتها.. فترفع عن كاهله ما ينوء به من ذنب.. ولكنها استسلمت لقبلته بخضوع يدفعها شعور خفي للتأكد أنه مازال منذرها وهي مازالت سيدته الوحيدة...
*******************
في الصباح التالي جلس رؤوف بغرفته في شركة الجيزاوي وهو يرتكز بكلا مرفقيه على مكتبه واضعاً وجهه بين كفيه.. وهو غائب عن كل ما يحيط به.. يبدو كمن يحمل هموم العالم فوق كتفيه.. وهذا هو شعوره بالضبط بعدما حدث في الليلة الماضية.. فلم يكن يتصور في أقسى كوابيسه أن يصدر منه ذلك التصرف.. لا يدري تفسيراً لما حدث.. ولا يستطيع أن يخترع واحداً لنعمات.. جميع التعويضات والاعتذارات في العالم لا تكفي للتكفير عما قام به.. فكر بسخرية..
"تصحيح, بل ما لم يقم به!!".
أغمض عينيه بألم وهو يتذكر نظرات نعمات الجريحة والمذهولة.. وهو يفشل لأول مرة منذ زواجهما الذي تعدى عمره الخمسة عشر عاماً في أداء واجباته الزوجية نحوها.. والأكثر إيلاماً وذلاً لها.. أنها هي من جاءت له في مكتبه تطالبه بتلك الحقوق.. برغم ما قد يسببه لها ذلك من إحراج ومهانة, إلا أنها أتت إليه تنبهه إلى تأخره في زيارة غرفتها وتشدد على العدل بين الزوجات..
ارتبك وقتها رؤوف من حديثها خاصة وأنها كررته من قبل أكثر من مرة, ولكنها كانت المرة الأولى التي تطلب منه صراحة منحها حقها الشرعي كزوجة.. انهال سيل من الاعتذارات والأعذار على لسانه وهو يحاول استرضائها وتهدئة غضبها وهو يقنعها أنه كان ينوي قضاء تلك الليلة في غرفتها, فهو على أي حال يرغب في الحفاظ على كرامتها وكبريائها أمامه وهذا على أقل ما يستطيع منحه لها بعد عجزه عن منحها أي مشاعر تتعدى الاحترام.. ولكن محاولته تلك ضاعت هباءً بعد فشله كرجل في منحها حقوقها..
ساق كمية هائلة من الأعذار والتبريرات لنعمات.. وألقى اللوم على الارهاق وتكدس العمل وانشغال باله بالصفقات المتعثرة وتصرفات قاسم المزعجة.. وظلت هي تستمع إليه في صمت وهي تحبس دموعها حتى لا تسيل أمامه ولم تجبه بشيء, فقط سحبت الغطاء عليها لتختفي تحته عن عينيه..
علم أنها تبكي على وسادتها في صمت, كما علم أنها لم تصدق أيً مما قاله, هو نفسه لم يقتنع بأي من أسبابه وهو يدرك كم هي واهية وغير مقنعة..
يعلم الله كم حاول.. وحاول.. ولكنه ببساطة لم يستطع.. هو لم ينفر منها أو شيء من هذا.. ولكنه فقط عجز عن الاقتراب منها.. حتى إنه عجز عن التظاهر بالحماس الفاتر كما اعتاد معها مؤخراً..
تمرد جسده على أوامر عقله.. وخضع باستسلام كامل لأوامر القلب الذي أخبره أنه ملكاً لسمراء ذهبية العينين وأبى أن يكون ملكاً لامرأة سواها.. وانتهت الليلة بجرح هائل لا يندمل بقلب نعمات..
كم هاله رد فعلها وهي تتكوم على نفسها وتخفي نفسها عن عينيه وهي تنظر له بعينيها الدامعتين اللتين بعثتا له نظرات اللوم والاتهام والعتاب ثم تخفضهما باستسلام وكأنها تلقت منه ما تتوقع وما انتظرته منذ زواجه الثاني, ولكن رغم ذلك لم تدكا أعماقه كما فعلتا عينيها الذهبيتين وهو يخبرها بأنه سيقضي ليلته في الطابق العلوي.. تلك الدمعات التي تساقطت على وجنتيها اللامعتين هم ما أعجزوه عن منح نفسه لغيرها..
برغم قسوة ما حدث وصدمته به.. إلا أن عذابه الأكبر هو إخلاله بمبدأ العدل بين زوجتيه.. وهذا ما يجب أن يفكر به بتمعن.. يجب أن يصل إلى حل لتلك المعضلة فهو طالما اعتقد أن شغفه ومشاعره الغامضة نحو نورا يعادلها كم هائل من مشاعر الود والاحترام نحو نعمات.. ولكن بعد ليلة الأمس واكتشافه بعجزه عن منح نعمات ما تستحق كزوجة اختلت كفتي الميزان.. واهتز قانون العدل في نظره ويجب عليه التفكير ملياً كي لا يظلم أي منهما وعلى الأخص نعمات..
نعم.. هو يجب أن يهيئ نفسه لاتخاذ قرار حاسم.. ولكنه يبتهل إلى الله أن يكون عادلاً بقدر ما هو حاسم...
*******************
شعرت نعمات وكأنها ذرفت دموعها كلها فلم يتبق لديها المزيد.. تشعر بجفاف في مآقيها لا يعادله إلا جفاف روحها.. جرح عميق سببه لها رؤوف.. جرح لا براء منه.. لاتصدق عزوفه عنها أمس وعجزه عن التواصل معها.. وهي من حاولت دفن الحقد في قلبها ومنحه فرصة أخيرة ليصلح الوضع ويساوي كفتي الميزان.. ويعيد إليها جزء من كبريائها الذي مرغه في التراب وهو يزداد التصاقاً بابنة عمه في الفترة الماضية.. ابنة عمه التي أصبحت عالمه ومداره الذي يدور حوله..
رؤوف من كان لا يعترف بالحب وقصص العشق, سقط بقوة في غرام السمراء الصغيرة.. في غرام ابنة العم الشابة.. تلك الفتاة التي سعدت في البداية لاختياره لها وظنتها فتاة متوسطة الجمال وذات لسان سليط سينفر رؤوف على الفور.. ولكن ما حدث هو العكس فجمال نورا تفتح وازدهر بزواجها من رؤوف الذي تبين أن لسانها السليط جزء من التعويذة التي ألقتها عليه.. ليتحول رؤوف إلى رجل آخر.. رجل لم تعد تتعرف عليه.. أو تعرف طريقاً للتفاهم معه.. تشعر برفضه لتصرفاتها.. وإن لزم الصمت ولم يعلق.. كانت تظن أن ذلك من باب الحفاظ على حسن العشرة.. ولكنها تدرك الآن أن ذلك نوع من الشفقة أو العطف على امرأة هو غير قادر على منحها أكثر من الاحترام.. وكل ذلك نتيجة لدخول تلك الفتاة في حياته..
ازداد الغضب والحقد داخل قلب نعمات.. كلما تذكرت تبريراته الواهية لما حدث في الليلة الماضية.. وهي تدرك كذبها جميعاً.. فهي واثقة إنه لا يعاني من تلك الضغوط مع سمرائه الصغيرة.. فأخذت تردد بجنون:
"تلك الساقطة الصغيرة التي سيطرت عليه بجسدها الشاب واستحوذت على كل اهتمامه ومشاعره ولم تترك لي أي شيء وهذا ما تأكدت منه الليلة الماضية.. ليلة الجرح الدامي لي كامرأة وزوجة.. ليلة إهانة وإذلال أنوثتي على يد زوجي.. نعم أنوثتي.. وهل معنى أنني وصلت لسن الخمسين أن أعتزل الحياة؟.. أن أتنازل عن كياني وكبريائي كأنثى؟.. وهل لأنني أكبره في السن فيجب عليّ أن أرضى بما ألتقطه من فتات اهتمامه؟.. وأليس من حقي التنعم بقربه؟.. هل يجب عليّ أن أقدم تنازلي عنه وأتقاعد عن الحياة لمجرد بلوغي الخمسين؟.. وأتركه لتلك الفاسقة التي تستغل شبابها لتهيمن عليه وتستعبد حواسه وتبعده عني.. أنا من علمته كيف يكون رجلاً".
عند تلك النقطة شعرت نعمات بالدماء تجري حارة إلى رأسها وفقدت كل منطقها وتعقلها وهي تتوجه نحو غرفة نورا تتقافز في مخيلتها مشاهد تجمع بين رؤوف ونورا وهو يمنحها ما ضن به عليها هي..
اقتحمت نعمات جناح نورا وهي تدفع الباب بقوة أجفلت نورا التي كانت جالسة على الأريكة ومندمجة في قراءة أحد الكتب الذي يتكلم عن الحمل ومراحله, فدست الكتاب خلف إحدى الوسائد تخفيه عن عيون نعمات وهبت واقفة وهي تصيح بها:
ـ ما هذا؟.. كيف تقتحمين الغرفة بدون استئذان؟.. ماذا تريدين؟.
أجابتها نعمات بغضب:
ـ أنا لم اقتحم أي مكان.. أنا في بيتي ومن حقي دخول أي غرفة وقتما شئت وكيفما شئت.. أم تراكِ نسيتِ ذلك؟.. أما الذي أريده.. فهو توضيح بعض النقاط التي قد تكون غائبة عنكِ..
شحب وجه نورا عند سماعها تلميح نعمات بأنها سيدة المنزل مما يعني أن نورا ليست بأكثر من ضيفة مؤقتة... بينما نعمات تكمل هجومها..
ـ ماذا!!.. ألم يعجبكِ كلامي؟.. ألم تدركي أنكِ مؤقتة في حياته مثل مكان جناحكِ المنعزل في منزله؟.. ألم تفهمي أنني اخترت مكان جناحكِ بعيداً جداً عنه حتى تدركي بنفسكِ مكانتكِ في أسرتي الصغيرة.. ركن صغير منعزل..
عندما تفوهت نعمات بتلك الكلمات التي تقصد بها جرح نورا, أدركت تلك الأخيرة.. أنها لا تعرف كيف أن مكتب رؤوف يرتبط بذلك الجناح عبر الحديقة الداخلية وأدركت كذب كلماتها التي تتشدق بها فارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها وهي تخبرها:
ـ ولكن رؤوف هو من اختار لي جناحي.. هل تعلمين لماذا؟.
شحب وجه نعمات وهي تدرك انكشاف كذبتها, فسحبتها نورا أمام النافذة.. لتريها منها مكتب رؤوف المكشوف أمامها... فازداد شحوب نعمات بينما نورا تواصل:
ـ يبدو لي أنكِ لم تتعرفي جيداً على منزلكِ كما تدعين.. ويبدو لي أيضاً أنكِ لا تقضين ما يكفي من الوقت مع رؤوف لتكتشفي ما الذي تطل عليه نافذة مكتبه..
ألقت نورا كلماتها وهي تكتف ذراعيها على صدرها وترمق نعمات باستخفاف لتكمل:
ـ والآن.. إن كنتِ انتهيتِ من لغوكِ المريض.. أرجو أن تخرجي بهدوء..
ازداد غيظ نعمات أمام ثبات نورا فصاحت بها:
ـ يبدو أنكِ أنتِ من نسيتِ أن زواجكما كان بهدف إنجاب الذرية لعائلة الجيزاوي؟.. حتى يرضى كبير العائلة وينال رؤوف منه ما يريد... من ثروة ونفوذ..
صمتت قليلاً لتردف بنبرة ذات مغزى:
ـ كما كان زواجه مني بالضبط.. أولى محطاته للاستيلاء على عقل وثروة العجوز..
صعقت نورا من كلمات نعمات.. ما الذي تقصده تلك العجوز؟.. هل تظنها فتاة ساذجة حمقاء فأتت لتتلاعب بها وبأفكارها وتشوه صورة رؤوف أمامها.. ألا تعرف أنه ابن عمها قبل أن يكون زوجها.. وهي أكثر الناس دراية برفعة أخلاقه ونبل تصرفاته..
فصرخت بها حتى تخرسها عن هذا اللغو:
ـ اصمتِ.. هل تستمعين لنفسكِ؟.. كيف تفكرين هكذا؟.. ألم تدركي طبيعة رؤوف وإنسانيته ومروءته طوال سنوات زواجكِ منه؟!.. كيف تتطاولين عليه هكذا؟..
سخرت منها نعمات بقسوة تريد جرحها وقتل ثقتها برؤوف:
ـ بالطبع أنا أعرف كل شيء عن رؤوف..
ثم وضعت يدها في خصرها وهي تنظر لها نظرة ذات معنى:
ـ كل شيء.. ألم أكن زوجة له لخمسة عشر عاماً؟.. وشهدت تطوره من شاب غرير خجول إلى رجل الأعمال والزوج الناجح.. كم عمر زواجكِ يا صغيرة؟.. هاه.. خمسة شهور.. خمسة شهور جعلوكِ تفهمين رؤوف وتدركين مميزاته؟.. تظنين أنكِ استوعبتيه وملكتيه بعد خمسة شهور.. تعشمين نفسكِ باللحظة التي تكونين فيها أولى اهتماماته.. والمرأة الوحيدة التي يهتم بها.. هذا لن يحدث..
كانت نعمات تهمس بكلماتها الأخيرة بألم وكأنها تحدث نفسها وتحاول إفاقتها من حلم عاشت به لسنوات..
وعادت لترفع صوتها:
ـ رؤوف لا يهتم سوى برؤوف.. وعائلة الجيزاوي.. وأعمال عائلة الجيزاوي.. وكل ما عدا ذلك هي كماليات.. وإضافات لا معنى لها..
وضعت نورا يديها على أذنيها وهي تحرك رأسها يمنة ويسرة تحاول منع سموم نعمات من التسلل داخلها وتقاوم البداية المألوفة لنوبة غثيان قوية:
ـ اصمتِ.. يا إلهي.. اصمتِ.. كيف تشوهينه بتلك الطريقة؟!.. كيف عشتِ معه وأنتِ تظنين ذلك به؟..
صرخت نعمات:
ـ لأني أردت طفلاً.. كل ما كنت أريده هو طفل.. بينما هو أراد كل شيء آخر بدءً من رضا جده وحتى ابنة عمه الصغيرة.. وأخيراً نال كل ما أراد.. بينما أنا...
وتعالى صراخها:
ـ أنـــــــــا.. أنا حصلت على زوج طفل.. حولته إلى الرجل الذي يسعد لياليكِ في الفراش.. لينتقل بكليته إلى الفتاة الشابة ذات الجسد الممشوق والمفاتن الظاهرة.. ولكني سأظل دائماً موجودة بداخله حتى ولو بعيداً جداً في أعمق أعماقه.. لن يستطيع أن يتناساني أو يتخطى أولى ذكرياته كرجل بين ذراعي..
واقتربت من نورا تجذب ذراعها بشدة وتهمس لها بحقد بالغ:
ـ أريدكِ أن تتذكري في كل لحظة يضمك فيها إلى صدره.. إنني أنا.. المرأة العجوز التي تنظرين إليها باشمئزاز الآن قد عشتها معه من قبل, بل أنني من لقنته فنون العشق التي يغمرك بها..
اتسعت عينا نورا باشمئزاز وزاد إحساسها بالغثيان وبداية دوار يهاجمها بقوة وتلك الصور تتوالى أمام عينيها وحاولت جذب يدها من نعمات وإحساس الغثيان يزداد بداخلها:
ـ يا لكِ من عجوز حاقدة وشريرة.. لو لم تكوني في سن أمي, بل أنتِ أكبر منها سناً حتى.. لكنت أجبت على كل كلماتكِ الحقيرة.. اتركيني.. فأنتِ تثيرين اشمئزازي..
ـ نــــــــــورا!!!!.
التفتت المرأتان معاً لتريا رؤوف واقفاً بباب الجناح وقد شحب وجهه بينما تلتمع عيناه بنظرات غاضبة بل حارقة.. وقد تغلف جسده بهالة واضحة من الغضب الصارخ الذي يهدد بحرق كل شيء..
شحب وجه نورا وهي تظن أنه سمع جملتها الأخيرة فقط وخشيت أن يعتقد إنها تهين نعمات بدون سبب, وتتطاول عليها متعمدة.. وازداد شعورها بالغثيان والدوار وهي تلمح بريق الانتصار في عيني نعمات فعلمت أنها ستستغل تلك الفرصة بدناءة فهتفت بضعف:
ـ رؤوف.. لا.. لا تتسرع.. أنا..
ولم تستطع إكمال جملتها فقد تهاوت أرضاً وهي تشعر أن الغرفة تميد بها..
سارع رؤوف نحوها ليلتقطها قبل أن يمس جسدها الأرض بسنتيمترات بسيطة.. فالتفت عباءتها الفضفاضة حولها لتظهر بروز بطنها الصغير بوضوح أمام عيني نعمات المذهولتين وهي تدرك الحقيقة الغائبة عنها.. الحقيقة التي ستقلب جميع موازينها..
"الساقطة الصغيرة حامل!".