اخر الروايات

رواية قيد القمر الفصل الرابع عشر 14 بقلم نهي طلبة

رواية قيد القمر الفصل الرابع عشر 14 بقلم نهي طلبة


لفصل الرابع عشر

أمسكت نورا العصا البلاستيكية تتأمل الإشارة الإيجابية التي تظهر أمامها بوضوح.. حسناً.. إنها حامل.. لقد تأكدت الآن.. رغم أن شكها كاد أن يصل لليقين.. ولكن رؤية العلامة الإيجابية أمامها جعل الأمر يبدو حقيقياً أكثر..

تهالكت على الأرض بجوار باب الحمام تحتضن العصا البلاستيكية بشدة إلى صدرها ودموعها تتساقط على وجنتيها بدون إرادة منها.. وتحركت يدها لتمسد بطنها بحنان وهي تفكر في طفلها القادم, بل طفلهما.. لو صدقت حساباتها فيكون ابنهما تكون في تلك الأيام التي قضياها خارج نطاق الزمن في الإسكندرية..

تلك الأيام التي شعرت فيها أنهما زوجان طبيعيان يقضيان أجازتهما في عروس الثغر.. استمرت في تمسيد بطنها وكأنها تريد التواصل مع طفلها.. مشاعر قوية تنتابها نحوه.. حب لم تتخيل وجوده وهي تشعر بوجود ثمرة حبها لرؤوف تنمو في أحشائها، فجزء من حبها لذلك الطفل يرجع إلى أن رؤوف هو والده.. هو من شاركها تكوينه..

أغمضت عينيها تحلم بطفلهما.. رأته يشبه رؤوف.. في كل شيء بدءً من عينيه الخضراوين حتى التقطيبة بين حاجبيه.. حنانه.. ورقته.. حتى قسوته التي اختبرتها مؤخراً.. هي تعشق كل تفاصيله.. لا تستطيع وصف مدى سعادتها وهي تحمل بداخلها جزء منه.. الرجل الذي أحبته بكل قوة ومنحته بلا حدود من حبها وروحها ونفسها..

ترى ماذا ستكون ردة فعله على خبر حملها؟.. هل سيسعد به لأنه الوريث الذي تلهث خلفه العائلة بأكملها؟.. أم لأن زواجهما سيتكلل بوجوده ليجمعهما معاً.. يدخلهما مرحلة جديدة في الحياة كأسرة صغيرة..

ترغب بشدة أن يفكر فيه كهدية رائعة تتوج بها حبها له, لا كنتيجة حتمية لزواجهما..

دخل رؤوف إلى جناحهما يحمل صينية طعام وكوب من العصير الطازج.. ولكنه فوجئ بها متهالكة على أرض الغرفة, فترك ما يحمله بيده وهرع نحوها..

ـ نورا.. نورا... ماذا بكِ؟..

رفعت إليه عينين مغرورقتين بدموعها وكل ما يتردد في ذهنها..

"إنه هنا.. هو لم يتركها ويذهب إلى عمله.. إنه هنا..".

تأمل رؤوف دموعها المنسابة بغزارة.. ووجهها المحتقن بشدة وهي تشهق محاولة السيطرة على دموعها.. ونزل على ركبتيه ليمد يده ويرفع ذقنها وهو يسألها بقلق:

ـ نورا.. ماذا بكِ؟ هل أنتِ مريضة؟.

لم تجبه سوى دموعها التي استجابت للحنان والقلق في صوته فازدادت انهماراً.. عصف به القلق وهو يراقب تلك الدمعات ولا يجد أي استجابة منها على سؤاله.. فقال بتوسل:

ـ نورا.. قمري.. هل تشعرين بأي ألم؟.. هل أنتِ على ما يرام؟.

اكتفت بهز رأسها كإجابة على أسئلته... فلم تجد داخلها القدرة على تكوين أي كلمات تصف له ما تشعر به حالياً.. احتار رؤوف في تحديد ما بها وخاصة مع صمتها التام ودموعها المنهمرة فقرر أن يحملها للفراش حتى تستريح من جلستها المتعبة على أرض الغرفة, ولكن ما أن اقترب منها حتى لاحظ يدها القابضة بشدة على شيء ما.. باعد أصابعها برفق ليجد العصا البلاستيكية بيدها, تناولها بدهشة:

ـ ما هذا؟.. نورا!!!..

أخيراً استطاعت إيجاد صوتها فأجابته وسط شهقاتها:

ـ أنه.. اخـ..ـتــ..ــبــ...ــار.. حــ..مـ..ل.

نتيجة لغزارة دموعها.. ظن أن نتيجة الاختبار سلبية, فضمها لصدره بقوة.. لا يريدها أن تغرق في دوامة اختبارات الحمل السلبية واللهاث خلف طفل يظنه الجميع هو الأمل المنتظر.. من غير المعقول أنها مازالت تعتقد أن كل ما يريده منها هو الطفل:

ـ ولماذا البكاء؟.. فإذا كانت النتيجة سلبية تلك المرة.. فالأيام أمامنا كثيرة.. والمستقبل بيد الله.. لا تحزني.. ولا تقلقي أبداً.. لا شيء يستحق نزول دمعاتكِ..

شعرت بالراحة والأمان وهو يضمها لصدره ويخبرها بتلك الكلمات.. التي أكدت لها عمق اهتمامه بها فأجابته ورأسها مدفون في صدره:

ـ ولكن النتيجة إيجابية.. أنا حامل.. سيكون لنا طفل.

"إيجابية!!.. سيكون لنا طفل".

لم يعرف ما أصابه عندما سمع تلك الكلمات.. شعر أنها تتغلغل بداخله.. سيكون أب.. ستمنحه قمره طفلاً.. أخيراً سيكون هناك من ينتمي له هو.. طفله.. طفلهما.. أسرتهما الصغيرة.. أخيراً سيمد جذوره عميقاً.. لن يكون وحيداً بعد الآن.. إنه سعيد.. بل السعادة لا تصف ذرة مما يشعر به, ولكن.. ولكنها تبكي.. لم تبكي؟.. هل حمل طفله يبكيها؟.. هي لا تريد طفله!!.. هل راجعت أفكارها بشأن زواجهما أم ماذا؟...

ترجم أفكاره إلى كلمات وهو يبعدها قليلاً عن صدره ويسألها بخوف:

ـ إيجابية!!.. لما تبكين إذاً؟.. ألا ترغبين في الطفل؟.. هل تبكين لأنكِ لا تريدين حمل طفلي؟..

عندما سمعت نورا تلك الكلمات منه لم تدري بنفسها إلا وهي تنقض على صدره بقبضتيها الصغيرتين تضربه بشدة وهي تصرخ به وسط دموعها:

ـ أنت.. أنت أحمق.. أنت غبي.. أبله.. كيف تقول هذا الكلام؟.. بل كيف تفكر فيه!!.. ثلاثة شهور.. ثلاثة شهور وأكثر وأنا لم أكف عن ترديد حبي لك.. ماذا أفعل لك حتى تصدق؟.. ماذا؟!!!!!!.

فوجئ رؤوف بهجومها المباغت وقذائف قبضتيها المتتالية تهوى على صدره بسرعة فاختل توازنه وكاد أن يسقط على ظهره لولا أنه تدارك نفسه في اللحظة الأخيرة ليستند بكفيه على الأرض ويوازن جسده بينما نورا مستمرة في ضربه بعنف على صدره وهي تلقبه بالغبي والأبله ودموعها تنهمر بلا توقف..

طوقها بذراعيه بقوة محاولاً السيطرة على حركة ذراعيها الطائشة وهو يحملها ليجلسها فوق فخذيه بينما أسند ظهره إلى جانب الفراش..

همس في أذنها وهو يضم رأسها إلى صدره:

ـ هششششش.. اهدئي.. اهدئي يا طفلتي..

توقفت قبضتاها عن ضرب صدره وقبضتا على قميصه بشدة وهي تغرز رأسها في تجويف عنقه وتتعالى شهقاتها مما دفعه لسؤالها بحيرة وقد أصابه الهلع من دموعها:

ـ نورا.. بالله عليكِ.. اشرحي لي ماذا يحدث.. إن دموعكِ لا تتوقف لأنكِ اكتشفتِ أنكِ تحملين طفلي؟.. فكيف تريدينني أفكر؟.. إنكِ سعيدة!!.

أجابته من وسط دموعها:

ـ ولكنني سعيدة.. سعيدة جداً..

سأل بطريقة حادة نوعاً ما:

ـ إذاً لم الدموع؟.. أنتِ لا تكفين عن البكاء!!.

أبعدت رأسها عن صدره وهو تقول بطفولية:

ـ لست أدري.. إنها لا تكف عن الانهمار.. اجعلها تتوقف رؤوف.. أوقفها...

زاد من ضمها لصدره وهو يربت على ظهرها بحنان مداعباً شعرها وأخذ يقبل دموعها برقة يريد أن يمنحها الراحة.. يخشى أن يكون سبب بكائها هو معاملته لها في الفترة الماضية وأن يكون تسبب بدون قصد في أن تكره حمل طفله, بل يخشى أن... تكرهه هو.. لذا عاود سؤالها وكأنه يحتاج للتأكيد:

ـ إذاً أنتِ تريدين طفلي؟.. أنتِ سعيدة؟..

شعرت أنه بحاجة إلى تأكيدها في رغبتها بطفلهما فأجابته بوضوح:

ـ طفلنا.. إنه طفلنا.. واطمئن أنا أريده أكثر من أي شيء في العالم.. وسعادتي لا توصف.. فقط لا أجد كلمات تكفي للتعبير عنها..

ثم سألته بحذر:

ـ وأنت؟.. هل أنت سعيد؟..

ضمها إلى صدره بقوة فقد أراحته كلمتها.. "طفلنا".. جعلته يشعر بانتمائها له هي ومن تحمله بأحشائها.. ضاع منه كل ما كان يتظاهر به في الشهر الأخير من جفاء وبرود.. ولم يستطع الإدعاء بهما أكثر من ذلك, فصغيرته تحتاج للأمان والراحة والاطمئنان.. فتخللت أصابعه في شعرها, بينما تمتد أصابع يده الأخرى لتمسح دموعها:

ـ ماذا تظنين؟.. ألا تعتقدين أنني أحلم بأن تمنحيني فتاة صغيرة.. فاتنة مثل أمها؟!!.

سألته بتعجب:

ـ هل تريدها أن تكون فتاة!!!.. ألا تريد الصبي.. الذي يريده جميع أفراد العائلة؟..

رفعها بين ذراعيه وتحرك بها نحو الفراش ليمددهاعليه برفق وهو يسوي شعرها الذي تناثر حولها:

ـ لا شأن لي بأحد.. أنا أريد فتاة صغيرة..

صمتا معاً وهما يتأملان بعضهما بحنان.. هي لا تصدق ما تسمعه هل فعلاً يريد فتاة صغيرة!!!... أما هو فمد يده بتردد ورهبة ليضعها على بطنها وكأنه يخشى أن يؤذيها وسألها بأمل:

ـ هل حدث ذلك في الإسكندرية؟..

أسعدها أن تتطابق أفكارهما فوضعت يدها على يده وهي تحرك إبهامها عليها برقة:

ـ هذا ما أتمناه.. لقد كانت أياماً جميلة..

وافقها قائلاً:

ـ بالفعل..

صمت قليلاً ثم قال فجأة وكأنه تذكر شيئاً:

ـ هل تعلمين.. أظن أن منذر وسهير بحاجة إلى الإسكندرية!!.

هبت من رقدتها فجأة, مما دفعه للصياح بها:

ـ مهلاً.. ماذا بكِ؟.. هل تحتاجين شيئاً؟..

هزت رأسها بصمت, ثم قالت بعجب:

ـ يا الهي.. لابد أن حالهما أسوأ مما تصورت حتى أنك لاحظت ذلك!!..

ضحك بخفوت وهو يداعب خدها:

ـ ألا يوجد أمل أن يقصر الحمل من هذا اللسان!!..

أزاحت يده وهي تتصنع الغضب وتخبره بطفولية:

ـ كلا.. وابنتي ستكون مثلي تماماً.

تمتم بداخله.. "وهذا ما أتمناه يا صغيرتي".

ولكنه أخبرها:

ـ بلا شك.. وأنا لا أمانع أبداً... ولكني جاد بشأن منذر وسهير.. إنهما بحاجة للابتعاد عن الجميع..

كانت تعلم إنه محق.. وأن شقيقتها في محنة.. ولكن رغم ذلك كانت أعماقها تموج بالسعادة.. فهو يثرثر معها كأي زوجين طبيعيين.. لقد عاد لمعاملتها بطريقة عادية وطبيعية و... فجأة برق في ذهنها إنه تغير بسبب حملها.. وأن معرفته بوجود الطفل المنتظر هو ما جعله يهجر بروده وينسى جفائه, وانعكس تفكيرها على نبرتها وهي ترد بجفاء:

ـ لقد أخبرتني أمي أنها ستحادثها.. ولكن سهير ترفض تدخلنا في حياتها..

شعر أنها لا تود الحديث عن شقيقتها وزواجها المتزعزع.. فقرر تغيير الموضوع بعدما لمح صينية الطعام وتحرك ليأتي بها ويضعها على الفراش قائلاً لنورا:

ـ هيا.. لقد أتيت إليكِ ببعض الطعام.. وعصير طازج أيضاً..

انطلق غضبها فجأة وكأن اهتمامه بطعامها أكد لها أن تغيره بسبب الطفل:

ـ وما سر هذا الاهتمام؟.. هاه.. هل أنت قلق على ابنك؟.. تريد حشوي بالطعام من أجل الطفل صحيح؟..

يا الهي!!.. ماذا أصابها؟.. لم انطلق طبعها الناري فجأة؟.. إن ملامحها تبدو غاضبة بشدة.. غاضبة وفاتنة بتلك العينان الذهبيتين والوجه المحتقن غضباً على ما يبدو منه.. شعر بأن يديه لها إرادة منفصلة.. لا تستجيب لأوامر عقله الذي يخبره بأن احتواء وجهها بيديه وتقبيلها هو غاية في الحماقة, خاصة وهي تشتعل غضباً لسبب غير مفهوم.. ولكنه استمر في تقبيلها برقة وهي تحاول معاندته ومقاومته وتبعده عنها بغضب:

ـ كل هذا من أجل الطفل أليس كذلك؟..

فهم الآن فقط سبب غضبها.. إنها تظن أنه يتودد إليها بسبب حملها..

همس أمام شفتيها:

ـ كلا أيتها المجنونة الصغيرة.. أنا مهتم بكِ أنتِ.. وقلق على صحتكِ أنتِ.. وإذا لم تلاحظي.. فلقد أتيت بصينية الطعام قبل أن أعرف بالطفل.. فلقد تهاويتِ بين ذراعي وسقطت نائمة على غير عادتكِ... هل اطمئن عقلكِ الصغير المزعج الآن؟..

ابتسمت بخجل من انفجارها الغاضب في وجهه:

ـ إن عقلي ليس صغيراً..

أبعدها قليلاً وهو يشير للطعام:

ـ لكنكِ تعترفين إنه مزعج.. هيا أريدك أن تنهي طعامكِ..

همت بتناول طعامها ولكن مر بذهنها هاجس أقلقها, فتوقفت عن الأكل وأخذت تفرك يديها بتوتر.. خائفة ومترددة مما ستطلبه منه, ولكنها لن تستطيع يجب أن تخبره.. يجب أن...

شعرت بيديه تغطي يديه معاً وهو يسألها بقلق:

ـ ماذا الآن؟.. لماذا التوتر؟..

اندفعت كلماتها بسرعة:

ـ لا أريدك أن تخبرها.. لا أريدها أن تعلم الآن..

كان يعلم بالطبع أن الـ.. ها.. هذه تعود إلى نعمات.. وهي طريقة نورا في الإشارة إليها مؤخراً.. ولكن طلبها هذا.. مستحيل.. كيف يخفي أمراً كهذا؟.. إنه يريد أن يركض في أنحاء البلدة ويخبر أهلها فرداً فردً.. إنه سيصبح أبً..

شعرت نورا بتردده فنهضت لترتكز على ركبتيها وتلف عنقه بذراعيها وهي تتوسله:

ـ أرجوك.. أرجوك يا رؤوف.. لا تخبرها.. وأنا لن أخبر سهير, بل لن أخبر أمي حتى.. فقط لا تخبرها..

ضمها رؤوف بقوة وهو يطمئنها:

ـ حسناً يا قمري.. لكِ ما تريدين.. ولكن أخبري والديكِ, فلا يعقل أن تخفي عنهما أنهما سيصبحان جديّن..

امتزجت ضحكاتها بدموعها التي عادت لتسيل مرة أخرى وهي تزيد من ضمه لها:

ـ شكراً لك.. شكراً لك يا حبيبي..

****************************

ظل الرنين المنبعث من هاتف منذر يزعج رؤوف الذي يترأس اجتماع يضم معظم رؤساء الأقسام في شركة الجيزاوي.. فالتفت له بحدة:

ـ منذر.. من فضلك.. قم بإغلاق هاتفك.. فكما ترى الاجتماع هام.. ونحتاج لتركيزك معنا..

غمغم منذر بحرج.. وهم بإغلاق هاتفه عندما ارتفع رنينه مرة أخرى.. فخاطبه رؤوف بملل:

ـ من الأفضل أن ترى من على الهاتف.. ربما كان أمراً هاماً..

لمح منذر الاسم الذي يضيء به شاشة هاتفه فاحمرت أذناه كمن قبض عليه بالجرم المشهود بينما تعالت ضحكات قاسم وهو يقول بخبث:

ـ يبدو.. أن الأمر هام بالفعل.. ولا يحتمل التأجيل.

تحرك منذر خارج غرفة الاجتماعات وهو يرفع الهاتف لأذنه هامساً:

ـ ماذا الآن؟.. ألم أخبركِ ألا تتصلي بي أثناء ساعات العمل!!.

جاءه الصوت من الطرف الآخر يتغنج بدلال:

ـ وماذا أفعل إذا اشتقت لسماع صوتك؟!.. فأنت لا تسمح لي بمحادثتك وأنت في المنزل؟!..

همس بغضب:

ـ وداد!!.. لقد أخبرتك من قبل.. أنا من سيتصل بكِ.. وأنا لا أحب أن أعيد كلامي مرتين..

تصنعت وداد الحزن والأسى وهي تظهر الخضوع في صوتها:

ـ كما تحب.. ولكن ما رأيك أن تأتي اليوم لمنزل جدك, سأنتظرك لنتناول الغذاء سوياً..

أجابها باستسلام فهو لن يتحمل غضبها:

ـ حسناً.. سآتي.. هل تناسبك الساعة الخامسة؟..

صاحت بفرح:

ـ أي ساعة هي مناسبة مادمت سأكون معك..

أغلق هاتفه وهو يرمقه بحنق.. لا يدري إذا كان ما يفعله خطأ أم صواب.. كلا هو يدري.. يدري أنه مخطئ.. يدرك أنه يجب أن يتراجع ولكنه لا يستطيع مقاومة نفسه.. فما تمنحه له وداد من اهتمام وعناية يفتقده بشدة مع سهير.. سهير التي أصبحت تتفنن في الابتعاد والهروب منه.. وكأن سنين الحب والعشق كانت سراباً أو وهماً تحطم على صخرة الواقع..

زفر بضيق.. وهو يستمع إلى نفسه.. وكأن حبهما قد ضاع وسحق نتيجة صراعات يومية مع الحياة وليس بسبب تعنت سهير وحجبها لمشاعرها وأحاسيسها عنه.. بل لتكتمها لكل ما تشعر به وما تريد التعبير عنه.. فأصبح لا يدري ماذا يضايقها من تصرفاته وما يسعدها.. هذا إذا كان هناك شيء يسعدها.. فهو لا يجد منها غير الصد والنفور.. حتى لحظاتهما الحميمة تشعره وكأنها واجب ثقيل على قلبها وكأنه يجبرها على نفسه.. وإذا ما أبدى أي اعتراض أو ملحوظة يفاجئ بسيول من الدموع لا يعرف سبباً لها.. أما وداد.. وداد شيء آخر.. وداد الأنوثة والدلال.. هي من تمنحه كل ما يفتقده في زواجه..

أغمض عينيه بألم.. من يخدع.. وداد هي أكبر خطأ ارتكبه في حق نفسه وفي حق زواجه.. ولكنه كمن وقف على قمة المنحدر ولا خيار له إلا استكمال الطريق لأسفل فهو أدمن الإحساس بالاهتمام.. ونظرة الشغف.. والدلال الذي تمنحه له وداد.. تشعره عن حق بأنه رجل.. وليس حيوان لا يرغب إلا بإشباع رغباته كما رددت عليه سهير مرة تلك الجملة التي صدمته.. ورغم اعتذارها أكثر من مرة.. إلا أنه لم يستطع الاقتراب منها مرة أخرى.. وعلاقتهما تقريباً أصبحت رسمية.. يحاولان الحفاظ على مظهر زواجهما أمام الجميع.. وبخلاف ذلك كلا منهما في إنعزال كامل عن الآخر..

حالة من الجفاف الأسري يعيشها منذ شهر كامل.. ولولا وجود وداد التي انتقلت لفيلا جده بعد خروجه من المشفى منذ حوالي شهر.. لفقد عقله من التفكير في حياته وفي زواجه..

حرك قدميه بتكاسل ليعود إلى الاجتماع حيث قابلته نظرات رؤوف المتفحصة.. وقد بدا الرفض في عينيه الغاضبتين.. وابتسامة خبيثة تتعلق على شفتي شقيقه وهو يسأله:

ـ هل كان الأمر هام إلى تلك الدرجة؟..

رد رؤوف قبل أن ينبس منذر بكلمة:

ـ لا.. لا أعتقد أن الأمر يستحق حقاً.. فلنعد إلى اجتماعنا..

ثم توجه بنظراته إلى منذر الذي أخفض عينيه هرباً من مواجهة رؤوف.. ذلك الرؤوف الجديد الذي أصبح يمتلك بجوار مهاراته التجارية الفذة, نظرات ثاقبة تكشف دواخل النفس وكأنه قد اصطبغ بطبائع زوجته الصغيرة التي ترمق منذر بنظرات نارية كلما التقيا.. يشعر أن رؤوف هو ما يمنعها من إطلاق لسانها عليه.. فهو بنظرها سبب تعاسة شقيقتها..

انتهى الاجتماع بدون أن يفقه منذر شيئاً مما دار به.. وتحرك ليخرج من الغرفة عندما سمره صوت رؤوف:

ـ منذر.. نصيحة مني.. قلل من زياراتك لفيلا جدي.. فالكل لاحظ ذلك.. وأنا أعني الكل.

رد عليه منذر بدون أن يلتفت له:

ـ رؤوف لا تتدخل.. الأمر لا يعنيك..

صاح به رؤوف:

ـ كيف لا يعنيني؟.. أنـ...

قاطعه قاسم الذي كان مازال يتلكأ في جمع أروراقه:

ـ أنت فقط تهتم من أجل زوجتك الصغيرة.. وإلا منذ متى تهتم بحياة أي منا!!.

أجابه رؤوف من بين أسنانه:

ـ هل هذا كل ما لديك؟!.. ألا تريد نصح أخيك حتى لا يدمر زواجه الذي لم يبدأ بعد.. من أجل حماقة.. أو نزوة عابرة!!..

سأله قاسم باستفزاز وخياله يصور له نورا بجسدها الشهي وشعرها الغجري:

ـ ولماذا يدمر زواجه؟.. وهل دمر زواجك الثاني, زواجك الأول؟.. على العكس أراك تحيا كما هارون الرشيد..

انطلقت شرارات الغضب من عيني رؤوف وهو يصيح بقاسم:

ـ قاسم.. سأحذرك للمرة الأخيرة أن تراعي كلماتك جيداً.. وإلا..

صاح به قاسم بحقد:

ـ وإلا ماذا يا ابن الخال؟.. هل نسيت من منا الأكبر سناً حتى تصيح بي هكذا؟..

زفر رؤوف بضيق.. فقاسم ما يلبث أن يعود إلى تلك النغمة القديمة.. بأنه الأكبر سناً.. وأن إدارة الشركات كانت يجب أن تكون له بدلاً من رؤوف الذي لا يتميز عنه في شيء إلا أنه يحمل لقب الجيزاوي.. بعكس قاسم..

ولكن قاسم يتناسى نزواته ومغامراته الطائشة التي كانت سبباً في إبعاده عن العائلة لفترة طويلة.. ولم يعد لها إلا مؤخراً بعدما تزوج ووضح بعض التغير في تصرفاته، إلا أنه لا يتوقف أبداً عن إبداء تلك الملاحظات المزعجة برغم أنه موقن إن تسلمه الإدارة في أي وقت سيتسبب في خسائر وكوارث مالية هائلة..

فالقانون التجاري هو مجال قاسم وما يبرع به حقاً.. ولذلك قرر رؤوف إسناد قسم الشئون القانونية له وجعله مسئول عن إبرام العقود.. رغبة من رؤوف في دفن أحقاد الماضي وجمع شمل العائلة.. واتقاءً لشره.. وكل ما يرجوه ألا يكون قد أساء اتخاذ القرار..

قاطع أفكاره صوت قاسم يخاطبه:

ـ أنت ترفل في النعيم منذ سنوات وأخيراً يكافئك جدي بمكافأة إضافية بزواجك من..

قاطعه منذر بصرخة وكأنه يعلم أن أخاه سيزل لسانه بما لا تحمد عقباه:

ـ قاسم.. كفى.. كلاكما كُفا عن ذلك اللغو.. فلا أحد له سلطة الحكم على تصرفاتي.. أراكما لاحقاً..

خرج منذر بسرعة يلحقه قاسم وكأنه لا يقدر على مواجهة رؤوف بمفرده.. أما رؤوف فزفر بغضب وهو يضرب طاولة الاجتماعات بقبضته:

ـ أنت غبي يا منذر.. غبي.. لم تزد في تعقيد حياتك بدون داعي؟...

تراءت له سهير في آخر زيارة لمنزله بملامحها الحزينة.. وعيونها الكسيرة.. وشحوب وجهها الواضح.. والفرحة الضائعة من روحها.. أين تلك الفتاة التي كانت تهيم فرحاً عند شرائها لفستان الزفاف!!..

وما زاده حنقاً انخراط نورا في البكاء الشديد بعد ذهاب سهير.. وهي تغمغم بكلمات لم يفهم نصفها.. ولكنها تلخص ذهولها من حالة منذر وسهير.. وإمكانية زوال الحب بتلك السرعة والسهولة.. لقد آلمه قلبه حقاً عندما ظن أن نورا ممكن أن تتخطى حبه بسهولة.. كانت لحظة حارقة سببت له أرقاً لليالٍ طوال.. ولكن كثرة انفعالات نورا وتأثرها بما يحدث حولها نتيجة لحملها وجنون هرموناتها كما أخبره الطبيب طمأنته قليلاً بأن ذلك كان انفعالاً مؤقتاً.. وأنها باقية على حبه كما يتمنى.. لم يفهم لما يهتم بذلك وهو الذي أفهمها أن ما تشعر به مجرد وهم.. أو افتتان.. ولكنه يشعر بالسعادة بل بالزهو.. لأن تلك الفاتنة السمراء تظن أنها تحبه.. وتصر على ذلك أيضاً..

أزعجته نوباتها الجنونية من البكاء.. والتي قد يتسبب بها أي شيء من مشهد مؤثر في أحد الأفلام.. إلى خلاف مع نعمات على أمر من أمور إدارة المنزل.. وبقدر انزعاجه في البداية, بقدر ما ازداد استمتاعه وهو يهدئ نورا من تلك النوبات وهي تتشبث به وتتعلق بعنقه تطالبه بحل مشاكل الكون أجمع.. لكن ما يقلقه حقاً أنه إلى الآن لم يخبر نعمات بحمل نورا.. ولا يعلم إلى متى سيكتم الخبر.. فنورا قاربت على الانتهاء من شهرها الرابع.. ولن يمر كثير من الوقت حتى تظهر معالم حملها بوضوح.. وإن كانت لم تعد تغيب عن عينيه الخبيرة بمعالم جسدها الخلاب..

حاول أن يبعد بأفكاره عن نورا وجسدها وما تشعله فيه من أحاسيس بالعودة إلى فرحة جده الطاغية عندما أخبره بأن الحفيد الذي ينتظره من سنين أوشك على الوصول.. حيث اغرورقت عيني العجوز بالدموع وهو يخبره:

ـ أخيراً.. يا رؤوف.. الآن يمكنني أن أموت وقد ارتاح قلبي..

قاطعه رؤوف:

ـ أطال الله عمرك يا جدي.. أنت تهتم بمسألة الوريث تلك بشدة..

أجابه جده وهو يربت على كتفه:

ـ عندما تصل لعمري ستتفهم أهمية استمرار العائلة.. مبارك لك يا ولدي.. أخيراً.. ستمتلك عائلتك الخاصة..

كان رد فعل عمه مماثلاً تماماً من حيث الفرحة الطاغية وتهنئته بالابن القادم.. ولكنه زاد وشدد على الإهتمام بنورا.. وصحتها وراحتها النفسية.. وقد فهم رؤوف تلميح عمه المبطن بمطالبته بحماية نورا من إزعاجات نعمات.. بينما كان رد فعل شموس نوبة من البكاء وهي تطالب رؤوف بالسماح لنورا أن تقيم في منزل والدها باقي شهور حملها وهو ما رفضه رؤوف بشدة.. مخبراً شموس أن نورا لن تترك منزلها أبداً وقد أيدته نورا في موقفه وهي تخبر أمها بخجل برغبتها في البقاء بجانب زوجها..

تقبلت أمها ذلك على مضض وهي تؤكد على أنها ستصطحبها فوراً معها إذا ما شعرت بأي إهمال منه في رعايتها.. وهو ما يتفانى فيه منذ علم بحملها.. ليس من أجل طفله القادم فقط.. ولكن لأنها تستحق كل عناية ورعاية ودلال..

نظر إلى ساعته وهو يلملم أوراقه بسرعة فلقد تأخر اليوم عليها بما فيه الكفاية..

****************************

دلف منذر إلى منزله بسرعة ففوجئ بوالدته وسهير جالستين في البهو تتبادلان أطراف الحديث.. فألقى تحية سريعة وهو يتوجه للدرج الداخلي.. لمح بطرف عينه والدته تلكز سهير في جنبها لتنهض خلفه..

تحركت سهير خلفه بتثاقل حتى وصلت إلى جناحهما ووجدته يخلع قميصه وقد ظهر صدره العضلي أمام عينيها فخفضتهما أرضاً... نظر إليها في فستانها الطويل الذي يغطي جسدها وتخفي به معالم أنوثتها ببراعة ربما حتى لا تثير رغبته بها, دفع ذلك بسمة ساخرة على شفتيه ما لبثت أن تحولت إلى ضحكة مليئة بالمرارة وهو يقول:

ـ لا تقلقي.. لن أزعجكِ برغباتي الحيوانية الآن..

أجابته بألم:

ـ منذر.. لقد اعتذرت عشرات المرات عن تلك الغلطة.. لقد كانت زلة لسان لا أكثر..

أجابها بمرارة:

ـ زلة لسان تكشف كثير من مكنونات النفس..

ثم تحرك مبتعداً نحو باب الجناح.. وأوقفه صوتها المتعجب:

ـ هل ستخرج ثانية؟.. ألن تتناول الغذاء؟..

أجابها بتردد:

ـ سأتناول الغذاء برفقة جدي..

لمح صدمتها وشحوب لونها وهي ترمقه بانكسار ونظرات اللوم تلمع في عينيها جنباً إلى جنب مع دموعها التي سجنتهم تحت أجفانها وهي تطبقهم للحظات.. ثم تعود لتفتح عينيها وترسم ابتسامة هادئة:

ـ طعاماً هنيئاً.. أوصل سلامي لجدي.

استمر يرمقها بمرارة ظاهرة وهو لا يصدق ردة فعلها.. إنها تبارك خيانته.. خطر له بسخرية..

"خيانة الزوج بمباركة الزوجة".

هل هو عديم القيمة بالنسبة لها إلى هذه الدرجة.. هو متأكد من يقينها بذهابه لرؤية وداد وليس جده.. ألا يستفزها ذلك؟.. ألن توجه له كلمة لوم أو عتاب؟.. ألن تصرخ به وتتهمه بالخيانة وتذهب لتطرد وداد من منزل جدهما؟...

كلا بالطبع.. إنها تتمسك بدور الزوجة ذات الكبرياء والتي تتعالى على رغبات زوجها وخيانته.. أين كلمات الحب وقصائد العشق.. وانتظارها بفارغ الصبر لتكون في بيته كما كانت تخبره!!.. يبدو أنه كان وهماً بالفعل..

هز رأسه بيأس وتوجه خارج الجناح.. والتقى في طريقه بوالدته التي رمقته بنظرات نارية وهي تراه يتوجه للخارج ولكنه لم يهتم.. إذا كانت صاحبة الحق الوحيد في محاسبته لم يعنها الأمر, فماذا يهمه بعد ذلك..

استقل سيارته في طريقه إلى منزل جده, أو بالأحرى إلى وداد.. وهو يتذكر بداية تورطه معها.. وكان ذلك في اليوم الذي قذفتها به نورا بكوب الشاي مما تسبب في إحراجها أمامهم.. وقد عاد إليها في مساء ذلك اليوم لاسترضائها حتى لا ترفض مرافقة جده كما أوصى الطبيب..

وجدها في الكافيتريا مع مجموعة من زميلاتها.. يتجاذبن أطراف الحديث وهن يتناولن طعامهن.. ولكنها ما أن رأته حتى توجهت نحوه وهي ترسم ابتسامة دافئة على شفتيها وتحييه بحرارة:

ـ مرحباً.. منذر..

ثم تحركت لتسير معه باتجاه الحديقة الخاصة بالمشفى.. حتى وصلا إلى ركن منعزل نسبياً.. فسألته بحياء مصطنع:

ـ هل تسمح لي بمنادتك منذر بدون ألقاب؟..

أجابها بود:

ـ بالطبع.. فأنتِ ستصبحين واحدة من أفراد المنزل قريباً.. أليس كذلك؟.

أجابته وهي ترسم ملامح الحزن على وجهها:

ـ لا أظن ذلك.. فيبدو أن زوجتك تكرهني.. لقد تعمدت سكب الشاي الساخن على ملابسي..

أجابها بحرج:

ـ أنا آسف جداً لما حدث.. ولكن نورا ليست زوجتي..

سألته بفرح:

ـ حقاً؟..

ـ نعم.. إنها شقيقة زوجتي..

اقتربت منه قائلة وهي تدعي التعجب:

ـ هل تعني أن زوجتك هي الشقراء؟..

ـ نعم...

اقتربت منه أكثر وهي تمط شفتيها بإجابتها:

ـ غـــــــريــــــب.. جـــــداً..

سألها باندهاش:

ـ لماذا؟..

حركت أناملها على طول ذراعه وهي تتحسس عضلاته البارزة تحت قميصه:

ـ اعتقد أن رجلاً مثلك.. يحتاج إلى زوجة دافئة.. حارة.. وليست شقراء باردة..

ابتلع ريقه بارتباك وهو يسألها:

ـ ماذا تعنين برجل مثلي؟..

أجابته بغمزة من عينيها:

ـ أحب أن أعتقد أنك ذو دماء حارة..

أسبلت رموشها ثم عادت لترفعهم وهي تنظر لعينيه بجرأة وتردف بصوتٍ أجش:

ـ دماء حارة جداً..

تجمد منذر أمام هجومها الحسي على مشاعره.. فهو العريس الجديد لم يمر أبداً بتلك التجربة مع عروسه.. محبوبته.. التي يذوب عشقاً وحباً بها, والتي تتهمه بالحيوانية.. فقط لأنه يرغب في قربها..

وجد نفسه يهيم في عيني وداد البنيتين ويتأمل ملامحها التي تكاد أن تكون عادية بشعرها البني القصير جداً والذي يصل بالكاد إلى أذنيها وزينة وجهها المبالغ فيها فلم يستطع حتى تحديد لون بشرتها التي تختفي تحت طبقات من مستحضرات التجميل.. ولكن رغم كل هذا وجد دفء غريب واهتمام واضح في عينيها التي ظلت ترمقه بنظرات شغوفة.. إلى أن سمع صوتها:

ـ يبدو أنني سأقبل بمرافقة جدك بعد كل شيء.

ثم أردفت وهي ترفع أناملها لتتحسس ملامحه بعبث:

ـ من أجلك أنت فقط..

كان يجب عليه نهرها وإيقاف ما يحدث, ولكنه وجد نفسه ينجرف وينجذب نحوها أكثر وأكثر.. وأصبحت لقاءاته اليومية بها هي بلسم حياته ومكالمتهما التليفونية والتي تزخر بعبارات الغزل المثيرة هي دافعه للاستمرار, فينتظرها كالأرض المتشققة التي تصبو إلى قطرة ماء واحدة..

وها هو يتجه إلى لقاء جديد وموعد جديد.. مع من شغلت أفكاره وألهته عن مآساة زواجه... يرجو فقط أن يجد جده نائماً حتى لا يُحشر في موقف حرج..

وصل بسيارته إلى فناء الفيلا حيث وجدها تنتظره أمام البوابة وقد ارتدت فستاناً قصيراً جداً يصل إلى ركبتيها بالكاد.. ويتعلق بجسدها بحمالتين رفيعتين.. وقد ظهرت بشرتها اللامعة تتحدى الطقس البارد وكأنها لا تشعر به, فسألها بتعجب:

ـ ألا تشعرين بالبرد حتى ترتدي مثل ذلك الفستان؟.

فأجابته وهي تتحسس عضلات صدره الذي انتفخ إثر كلماتها:

ـ تفكيري بك يكفي لتدفئتي أيها النمر..

امتدت يد منذر لتمسك أناملها المتجولة على صدره:

ـ وداد.. نحن في مدخل المنزل الخارجي.. عملياً نحن في الطريق.. سترصدنا أعين الناس..

تمسكت بيده لتسحبه معها إلى أحد أركان الحديقة والذي تظلله مجموعة من الأشجار فتحجبه عن الأعين.. وما أن ارتكزت بظهرها إلى إحدى الأشجار حتى سألته:

ـ هل ابتعدنا عن الناس بما يكفي؟..

ورفعت ذراعيها تحيط بهما عنقه وهي تتوسله:

ـ إلى متى ستعذبني ببعادك يا منذر؟.. لماذا لا تريحيني من شقائي في بعدك.. أرجوك.. ابقى معي..

فك ذراعيها من حول عنقه وهو ينهرها:

ـ وداد.. لقد تحدثنا في نفس الموضوع مراراً.. وأخبرتكِ.. أنني لست مستعداً لاتخاذ تلك الخطوة حالياً.. لم تزعجيني؟.

عادت لتحيطه بذراعيها وهي تمسح رأسها في صدره:

ـ لا تغضب يا حبيبي.. أنا أريد سعادتك وراحتك.. ألا تأتي إليّ من أجل الراحة؟... فلم لا تدعني أمنحك إياها.. أنا على أتم الاستعداد.. فقط لو تسمح لي..

أغمض منذر عينيه بألم.. وهو يفكر:

"يا الهي إنها تتوسل وصالي.. ترجوني لتمنحني الراحة.. وزوجتي.. سهير حبيبة عمري تعتقد أن رغبتي في قربها وتعبيري عن حبي واشتياقي لها هو حيوانية, بل إنها لا تتحمل حتى رؤيتي.. ولكني مستعد لبذل الغالي والنفيس لأسمع تلك الكلمات بلسان سهير".

أفاق من أفكاره على شفتيها تتحركان على وجهه بهيام وهي تغرقه بكلمات تنم عن احتياجها له وتداعب خصلات شعره بأناملها وتجذبه لها كأنها تطالبه بالاقتراب أكثر.. وهو في ظل دوامة المشاعر التي تتقاذفه.. لم يدفعها عنه.. ولم يمانع.. لم يمانع على الإطلاق..

****************************

وقفت نورا بصعوبة تعد قدح القهوة الذي طلبه منها رؤوف, فهو أصبح لا يستمتع بالقهوة إلا من صنع يديها.. ولكن منذ بداية حملها ورائحة القهوة تزعجها بشدة..

أخذت تحرك رأسها يمنة ويسرى رغبة منها في استنشاق بعض نسمات الهواء الخالية من الرائحة المزعجة ولكن بدون جدوى.. فوضعت يدها على فمها وأنفها تحاول حجب الرائحة النفاذة عنها وكانت على هذا الوضع حين دلف رؤوف إلى المطبخ ليأخذ منها قدح القهوة خشية منه أن يصيبها الدوار المعتاد وهي تحمله إليه..

أحاط خصرها الذي امتلأ قليلاً بذراعيه وهو يقف خلفها ويسألها:

ـ ماذا بكِ يا نورا؟.. يبدو على وجهكِ إمارات التعب.

التفت نورا لتخفي وجهها في صدره محاولة استنشاق رائحة عطره الذي أصبحت تهواها مؤخراً..

ضغطها لوجهها في صدره بتلك الطريقة أثار قلقه, فهمس بأذنها:

ـ ما الأمر؟.. ما الذي أزعجكِ؟..

أجابته بضيق:

ـ لا تهتم.. رائحة القهوة تزعجني قليلاً..

ـ حقاً!!.. لما لم تخبريني؟!!.

ـ لحظات واتحسن.. لا تنزعج.

حملها بين ذراعيه لينقلها إلى غرفتها ولكنه كان غافلاً عن نظرات نعمات التي لمحته وهو يحملها برقة.. تلك النظرات التي ظهر فيها انكسار وألم شديد.. تعبيرات وجهها أظهرت شعورها الحاد بالهجران واشتياقها لزوجها الذي يزداد ابتعاده عنها شيء فشيء..

غمرها إحساس قوي بالعجز عن استرداده أو حتى استرداد جزء من اهتمامه الذي ينصب بالكامل هذه الأيام على زوجته الجديدة.. السمراء الصغيرة التي تسللت تحت جلده وامتلكت قلبه وأحرقت قلبها..

نعم هذا ما تشعر به حرقة القلب وانكساره... لكنها لن تكون ضحية لعائلة الجيزاوي.. تلك العائلة التي دمرت شبابها وهدمت حياتها.. مرة بالزواج من رجل عقيم تلاه زواج آخر من طفل حولته هي لرجل.. ليحطم قلبها بتفضيله من هي أصغر وأكثر شباباً منها.. وبين الرجلين ضاع شبابها وظلت حياتها جدباء بدون حتى طفل صغير.. يناديها أمي كما تمنت.. ولكن كما احترق قلبها.. ستحرق قلوبهم جميعاً.. ولن تستثني أحداً.. أبداً!...

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close