رواية قيد القمر الفصل الثالث عشر 13 بقلم نهي طلبة
الفصل الثالث عشر
فتحت نورا عينيها ببطء لتقابلها ملامح رؤوف وهو ينظر إليها ببرود.. وسمعته يأمرها بجفاء:
ـ استعدي بسرعة, فيجب علينا العودة سريعاً للمستشفى..
سألته بخوف وهي تتغافل عن جموده:
ـ هل جدي بخير؟..
رد باختصار قبل أن يغادر مسرعاً:
ـ كما هو.
صدمت نورا من تصرفه وانصرافه السريع.. ماذا يحدث؟.. لقد ظنت الليلة الماضية أنهما عبرا مرحلة البرود والجفاء بعد سقوطه بين ذراعيها يذرف دموعه على صدرها.. وسقطت كل الحواجز التي كان يشيدها ببسالة حول مشاعره لينكشف لها الطفل الخائف من ألم الحرمان واليتم مرة أخرى.. لم يفاجئها انهياره بقدر ما صدمها قوة هذا الانهيار وهو ينتفض باكياً بين ذراعيها كطفل صغير يخشى فقدان عائلته..
ألجمتها الصدمة للحظة إلا أن غريزتها سرعان ما دفعتها لتحتضنه بقوة وهي تربت على كتفيه وتملس خصلاته الثائرة كجسده الذي كان ينتفض بفعل شهقاته العنيفة..
لم تحاول أن تتكلم.. فكل الكلام لا معنى له أمام انهياره العنيف.. فتركته يفرغ كل ما بداخله على صدرها وهي تكاد تحبس أنفاسها تخشى أن يشعر بوجوده بين ذراعيها.. يتذكر أنه يضغطها بجسده في الفراش فيمتنع عن إفراغ شحنة حزنه وألمه.. تريده أن يتخلص من تلك الشجون فهو لن يتحمل المزيد..
عيناه التائهتان والجميع يلتف حوله في المستشفى يسأله المشورة أخبرتاها بوضوح أنه وصل إلى حافة تحمله, لذلك أصرت على البعد عنهم بأقصى سرعة وليظنوا ما يحلو لهم.. هو ما يهمها.. وهو فقط.. لقد أوشك على الإنهيار بالفعل ولم تكن تسمح لأي شخص أن يشهد ذلك الإنهيار.. وهو لم يكن ليسامح نفسه لو سقط منهاراً أمام أي شخص, وما هي متأكدة منه أنه لن يسامحها لأنها شهدت لحظة ضعفه..
بدأت شهقاته تهدأ قليلاً.. فعلمت أنه بدأ يعود للواقع ويدرك ما قام به.. مرت فترة سكون كادت أن تسمع فيها صوت الهواء وهو يتحرك في الغرفة.. فسكنت تماماً تنتظر ثورته, إلا أنها شعرت بذراعيه تشتدان حولها لتضمها إليه ولكن هذه المرة لم تكن ضمة مواساة.. لم يكن يبحث عن دعم ذراعيها, بل عن عاطفتها.. عن تجاوبها.. وتأكدت من ذلك عندما تحركت شفتاه على صدرها تنشر قبلات لاهبة وهو يزيد من ضغط ذراعيه حولها حتى كادت أن تشعر بعظامها تتفتت من قوته...
أدركت أنه غير مدرك للقوة التي يستخدمها فبدأت تمسد شعره برقة وهي توزع قبلاتها على وجهه تحاول أن تمنحه الراحة والحنان حتى يخفف من القسوة التي يعاملها بها ولكنها سرعان ما وجدت شفتيه تزحفان لتصلا إلى شفتيها فيضغطهما بعنف غريب عليه.. همست بضعف:
ـ رؤوف...
وصلها صوته وهو يقول بشراسة حارقة:
ـ أحتاجكِ يا قمري.. أحتاجكِ بشدة..
كان صوته يحمل نبرة يائسة وهو ما يزال يتمسك بها بقوة.. ولأول مرة يُشعِرها بحاجته إليها, بل ويصرح بذلك أيضاً فلم يكن أمامها إلا الإستسلام له تمنحه ما يحتاج من سكينة وراحة.. وحب.. حبها الذي همسته له عدة مرات وهو لم يمانع في سماع تلك الهمسات, بل كلما همست له بحبها كان يزداد جنوناً واندفاعاً نحوها.. اندفاعه اتسم بالعنف, بل القسوة.. لأول مرة تلتمس منه تلك القسوة في علاقتهما الحميمة.. وكأن لمساته خرجت عن سيطرته, فبدلاً من الحماية والدلال والشغف الذي تستشعره منه دائماً.. تلقت القسوة والألم..
انتهى جنونه سريعاً فاستلقى على ظهره لاهثاً وهو يغطي عينيه بذراعه يخفيهما عنها وكأنه غير قادر على مواجهتها بعد تلك العاصفة التي سحبها إليها.. فهو لأول مرة يفكر في نفسه أولاً.. ويأخذ كل ما تهبه إياه بدون أن يفكر بالعطاء في المقابل.. لقد تصرف مثل وغد أناني وهو يكره نفسه لذلك.. لكنه كان بحاجة إليها بشدة.. حاجة لم يستطع تفسيرها, بل لم يرد ذلك.. فهو لم يكن في احتياج لامرأة.. لعلاقة.. بل لوجودها هي معه ولإحساسه بها بين ذراعيه, وكأنها تقرأ أفكاره.. وجدها تحرك رأسها لتضعها على كتفه وشعر بيدها الصغيرة تتسلل بهدوء على عضلات صدره وهي تهمس بخفوت:
ـ هل تعلم شيئاً؟..
لم تنتظر إجابته واسترسلت:
ـ ليلة زفافنا.. عندما اكتشفت أن جناحنا يقع في الطابق الأرضي.. انتابني غضب شديد.. فقد شعرت بالإهانة وبجرح عميق لكبريائي حتى أنني توعدتك سراً وأقسمت أن أجعلك تطلب مني الانتقال إلى الطابق الأعلى لأتخذ مكاني الملائم كسيدة للمنزل... مثلها تماماً..
نظر إليها باستفهام وهو ما زال متمسكاً بصمته.. فحركت رأسها قليلاً لتضعها على صدره قريباً من قلبه فكاد صوت دقاته العالية والسريعة أن يصم أذنيها وأكملت سرد قصتها:
ـ لقد فكرت في التراجع عن قسمي لاحقاً وخاصة بعدما لمحت الحديقة الداخلية التي تربط الجناح بغرفة مكتبك.. فهي رائعة, بل مذهلة لقد أحببتها على الفور.. ولكن ما حسم الأمر بداخلي فعلاً.. وجعلني أتمسك بموقع جناحي بالطابق الأرضي.. اكتشافي أنني استطيع مراقبتك والإطمئنان عليك من خلال نافذتينا المتواجهتين.. فمراقبتي لك وأنت تعمل.. وخاصة في الأيام التي بعدت عني فيها, هي ما ساعدني على تخطي بعدك وجفائك.. فكان أن فضلت اطمئناني عليك واحساسي بتواجدك معي ولو عن بعد على انتصاري عليها في معركة السيادة على المنزل...
تجمد رؤوف تماماً تحت لمساتها الدافئة وهو لا يصدق ما تحاول إخباره به.. هل تقصد ما فهمه من كلامها؟!!.. هل تقصد أنها فضلته عن نفسها.. أنها قدمته هو على كبريائها!!.. هل هذا صحيح؟.. هل يمثل لها تلك الأهمية!!..
وللمرة الثانية ترد على أفكاره التي لم ينطق بها وهي تتمتم:
ـ أنت أهم وأغلى عندي من كل شيء... فقط صدق هذا..
تلك المرة عندما لفها بذراعيه مقرباً إياها من صدره ومرتشفاً رحيق شفتيها.. كانا بالفعل يتبادلان الحب..
حاولت نورا سحب نفسها من ذكريات ليلتها الحافلة فأغمضت عينيها تعتصرهما حتى لا تجري دموعها على وجنتيها وهي تكمل استعدادها حتى تصطحبه للمشفى محدثة نفسها بألم..
"إلى متى؟... إلى متى تمتد حلقة جفائك التي لا تريد كسرها ولا تسمح لي باختراقها؟".
تحركت بألم تبحث عن رؤوف الذي كان يجوب الطابق السفلي كمن مسه الجنون.. ضرب إحدى الموائد الجانبية بعنف شديد مما تسبب في تكسير بعض التحف التي سقطت أرضاً..
كان الغضب يمزقه, بل يحرقه حرقاً.. كيف سمح بما حدث الليلة الماضية؟.. كيف يسمح لنفسه بهذا الانهيار.. وأمامها.. بين ذراعيها!!.. هي من دون الجميع تشهد على دموعه.. على لحظة ضعفه وانهياره..
لقد ظن أنه يملك بأس وثبات جده, الذي تلقى خبر وفاة ولده وهو ثابتاً.. صامداً ورابط الجأش.. ولكن أثبتت الأيام أنه ضعيف, بل أضعف مما تخيل يوماً, فلقد سقط منهاراً عند تفكيره أنه قد يفقد جده, لم يتخيل أبداً أن ينتابه مثل ذلك الشعور.. لقد شعر بالهلع, بل الرعب حتى أنه لجأ إلى ذراعيها يلتمس الدعم منها والراحة على صدرها..
هل انغماسه بها الليلة الماضية كان هروباً من هلعه.. فراراً من ضعفه الذي لمسه لأول مرة الليلة الماضية وهو يواسي الجميع ويحل مشاكلهم, بينما كان في أعماقه يتوق لربته رقيقة تطمئنه وتهدأ من مخاوفه.. لضمة من صدر حنون تخبره ألا يخاف ولا يجزع..
حتى نعمات.. حتى مواستها له جاءت رسمية وهي تحثه على الصمود من أجل الجميع.. هل لهذا السبب لم يلجأ لنعمات تلك المرأة التي استوعبته لسنوات... كلا.. لقد أراد نورا.. تاق إليها.. كان بحاجتها مهما حاول أن يهرب من تفسير ما شعر به أو يخدع نفسه بأن اندفاعه الغير مسبوق نحوها كان سببه طول فترة بعده عنها.. إلا إنه لن يستطيع إنكار السلام الذي وجده بين ذراعيها.. والراحة التي منحتها له بدون حساب.. وهو ينهل من حبها, يأخذ كل ما تمنحه إياه متغاضياً عن العطاء..
كيف له أن يواجه عينيها بعد ما شعرت بحاجته إليها التي صرح بها بكل وضوح ليلة أمس, وحتى بعد اعترافاتها المتوالية بالحب.. يجد نفسه الآن في الموقف الأضعف وهروبه من أمامها منذ قليل هو أكبر دليل على ضعفه ذاك.. لقد انكشف أمامها.. تعرت روحه تماماً.. خرج الطفل الخائف بداخله إلى العلن وكانت هي من أخذت بيده لتخرجه من ظلمات الحرمان إلى ضياء الحب والاحتواء.. ولكن يبقى السؤال الصعب.. كيف يمكن لأي رجل بعنفوانه أن يواجه امرأته بعد أن بكى بين ذراعيها كالطفل الخائف؟.. امرأته التي تقف بعيداً الآن مترددة ولا تعرف كيف تتواصل معه.. تحاول ألا تشعره بوجودها.. تريده أن ينفث عن عصبيته وغضبه قبل أن يذهبا معاً ويواجها الجميع باختفائهما الغير مبرر.. والذي لن يمر بسهولة... ولكنها لم تعلم أنه شعر بها منذ أن خطت بقدميها خارج غرفة جدهما..
أجفلت عندما وصلها صوته:
ـ مستعدة؟..
أجابته بخفوت:
ـ نعم..
ما أن وصلا إلى المشفى حتى اندفع إليه منذر وقاسم يسألانه بلهفة:
ـ رؤوف!!.. أين كنت؟.
أجاب بغموض:
ـ ذهبت لإنهاء بعض المهام الخاصة بالعمل.. هل جد جديد؟..
سأله قاسم بغيظ وهو يرمق نورا بنظرة ذات معنى:
ـ وهل أخذت تلك المهام الليل بأكمله؟.
شيئاً ما في نبرة قاسم لم ترق لرؤوف.. أو ربما في نظراته نحو نورا التي ألصقت نفسها به.. مما دفعه للرد بجفاء:
ـ هذا شأن خاص بي..
عاد قاسم يتأمل نورا مرة أخرى وهو يخاطب رؤوف بطريقة مستفزة:
ـ يبدو أن تلك المهام كانت عاجلة بالفعل.. ولم تستطع الانتظار لأدائها..
ضغط رؤوف على أسنانه بغيظ وقد وصله المغزى من كلام قاسم ولكنه قرر تجاهله:
ـ يجب أن يتواجد أحدنا بالشركة اليوم, فلتذهب أنت يا قاسم.
أجاب قاسم بحدة:
ـ ولماذا أنا؟..
ـ أنت المسئول عن الشئون القانونية, ويجب أن تراجع العقد الخاص بالصفقة الأخيرة.. ماذا بك؟.
أجابه قاسم بحدة:
ـ كلا.. سأبقى.. سأجري عدة مكالمات لأسوي الأمور.. ولكني لن أذهب..
كانت نعمات تراقب ما يحدث عن بعد.. واستطاعت أن تفهم من تعابيرهم أنهم يتجادلون حول أمر ما.. لم تهتم بهذا, فما لفت انتباهها هو ملامح رؤوف المبهمة.. ولغة جسده الغامضة.. فهو يبدو محتداً وعصبياً, ولكن في نفس الوقت مسيطراً وهادئ بل يكاد يكون مسترخياً قليلاً عن ليلة أمس..
نقلت بصرها إلى السمراء الصغيرة بجانبه تلاحظ أن ملامحها تنطق بالاهتمام والقلق وهي ترمقه بنظراتها الجانبية, فأدركت أن نورا هي من سحبته من بينهم جميعاً لتستأثر به لنفسها..
تحركت نحوهما وهي تستشيط غضباً من اختفائه ليلة أمس.. وانعكس هذا على لهجتها الحادة:
ـ رؤوف.. أين كنت؟.
أجاب بحدة:
ـ ماذا بكم جميعاً؟.. هل يجب أن أتواجد أمامكم طوال الأربع والعشرين ساعة؟!!.. ألا أستطيع الحصول على بعض الراحة؟..
تلعثمت نعمات أمام حدة رؤوف:
ـ بالطـ.. ـبـ.. ـع.. ولكني لم أعتد اختفائك في الأوقات العصيبة..
أجاب بغضب وهو يتحرك مبتعداً:
ـ لكل شيء بداية..
ثم ما لبث أن عاد وكأنه تذكر أمراً ما.. فسحب نورا من ذراعها.. متوجهاً نحو عمه.. تاركاً نعمات وهي تتميز غيظاً وغلاً..
خاطب نورا بحدة فهو يريدها بعيداً عن قاسم.. بعيداً جداً:
ـ انتظريني هنا..
أجابت في خفوت وهي متعجبة من تصرفه:
ـ حسناً..
بعد أن اطمئن من الطبيب المختص بحالة جده أن وضع هذا الأخير مستقر.. وأنه على وشك نقله إلى غرفة عادية بدلاً من غرفة العناية المركزة.. خرج إلى حديقة المشفى ومشهد قاسم وهو يرمق نورا بتلك النظرات الغريبة.. يتكرر في ذهنه مراراً وتكراراً.. ماذا وراء تلك النظرات؟.. وهل كانت موجهة نحو نورا فقط؟.. أم نحوهما معاً, رداً على غيابهما الطويل؟..
ـ هل هذا ما طلبته منك يا رؤوف؟..
التفت ليجد نعمات تواجهه وملامح الغضب تبدو عليها.. فسألها بحيرة:
ـ ماذا هناك يا نعمات؟..
أجابته بغضب:
ـ ألم أطلب منك أن تحافظ على كرامتي وخاصة أمام... زوجتك؟..
أجابها بإرهاق وهو يمسح وجهه بكفيه:
ـ نعمات.. من أجل الله.. هل تظنين أن الوقت مناسب لحوار كهذا؟..
أجابته بغيظ:
ـ وهل كان الوقت مناسب لتختفي مع ... زوجتك.. لتفعلا ما يحلو لكما؟..
انتفض جسده بصدمة من قولها.. وأخذ يتأملها للحظات.. يعلم أنها غاضبة لاختفائه ليلة أمس ولكنه لا يدري لما لم يشعر بتعاطف مع غضبها هذا وبدلاً من ذلك أجابها بهدوء:
ـ لا الوقت ولا المكان مناسبين للحوار الذي تريدينه..
قطع كلامه وصول نورا اللاهث:
ـ رؤوف.. لقد استفاق جدي... وهو يطلب رؤيتك.
أزاح نعمات من طريقه متوجهاً نحو جده, وتبعته نورا ولكن نعمات استوقفتها:
ـ لا تظني أنكِ ستمتلكينه, فقط لأنه مهووس بجسدكِ الشاب..
رمقتها نورا باشمئزاز من عباراتها واستمرت في طريقها.. لكنها التفتت لتقول من خلف كتفها:
ـ لا تجعليني أفقد آخر ما أكنه لكِ من احترام..
*****************
وقف رؤوف على باب غرفة جده متردداً في الدخول إليه.. لا يريد أن يراه في تلك الحالة الضعيفة.. صحيح أن جده مر ببعض الأزمات الصحية من قبل, إلا أن تلك الأزمة الأخيرة كانت أشدهم.. وأكثرهم خطراً على حياته..
سمع صوت جده يناديه بخفوت:
ـ رؤوف.. تعالى يا بني..
تقدم رؤوف بسرعة.. وركع بجانب الفراش:
ـ حمداً لله على سلامتك يا جدي.. لقد أثرت قلقنا جميعاً.
ربت الجد على كتفه بحنان:
ـ لا تقلق ولا تحزن يا بني.. فأنت لم تعد وحيداً الآن, فلديك زوجة وقريباً سيكون لديك أبناء أيضاً.. لقد طلبت رؤيتك الآن لأسألك شيئاً يا رؤوف.
ـ سل ما تشاء يا جدي.
سعل العجوز بجهد:
ـ رؤوف.. أريدك أن تسامحني يا ولدي.. فأنا أعلم أنني ظلمتك..
قاطع رؤوف كلام جده وهو يقول:
ـ أنت لم تجبرني على شيء يا جدي.. أنا كنت موافق على كل شيء.
ـ هل ترى أنني لم أجبرك؟.. ولكني لم أتح لك الخيار أيضاً..
أحنى رؤوف رأسه ليقبل يد جده قائلاً:
ـ دعك من هذا الكلام الآن.. فصحتك هي الأهم.. وتأكد لو أن الزمن عاد للوراء لم أكن لأغير شيء مما حدث..
تمتم جده بخفوت:
ـ بارك الله فيك يا بني.. آمل أن تكون شموس بنفس سماحتك.. هل هي بالخارج؟..
ـ نعم يا جدي.
ـ اطلب منها أن تأتي هي الأخرى..
دخلت شموس إلى غرفة العجوز بخطوات مترددة يرافقها عبد السلام, ولكن ما أن رآه والده حتى طلب منه أن يدعه مع شموس بمفردهما....
*****************
تأففت نورا بضيق وهي جالسة بجانب سهير أمام غرفة جدهما:
ـ يا الهي.. أصبحت لا أطيق رائحة تلك المطهرات.. لقد مر أكثر من شهر.. ألن يسمحوا لجدي بالخروج من ذلك المكان؟..
ردت عليها سهير بنزق:
ـ لماذا تصرين على الحضور يومياً, إذا كنتِ تنزعجين هكذا من رائحة المشفى؟..
أجابتها نورا بغيظ وهي ترمق رؤوف ومنذر وهما يقفان مع إحدى الممرضات والتي توزع ابتساماتها بسخاء للرجلين:
ـ وهل أتركه لتلك الحرباء التي تستمر في مغازلته بلا هوادة؟.
سألتها سهير بخفوت:
ـ ولم تقلقين؟ إن رؤوف لا يبدي أي اهتمام بها..
"بعكس منذر الذي يبدو كالأبله أمام محاولاتها الحقيرة".
كان هذا ما قالته سهير في نفسها.. بالطبع لم تسمعه نورا التي هبت فجأة من مكانها, فسألتها سهير:
ـ أين تذهبين؟.
أجابتها نورا بغيظ:
ـ ألا ترين تلك الحقيرة؟... سوف أذهب لأقتلع عينيها..
وجهت سهير نظرها حيث تتجه نورا, فوجدت تلك الممرضة تمسد ذراع رؤوف كما لو كانت تنظف كمه من بعض الأتربة الوهمية.. ولكن الحق يقال كان رؤوف يحاول جذب ذراعه منها بشدة عندما وصلت إليهما نورا والتي كانت تحمل كوباً من الشاي الساخن لا تدري سهير من أين التقطته في طريقها لهما..
أدركت سهير ما تنتويه نورا وتحركت مسرعة لتمنعها.. ولكن ما أن اقتربت منهم حتى لاحظت أن نورا ترنحت فجأة وتمايلت نحو الممرضة ليسقط كوب الشاي بمحتوياته الساخنة على زيها الأبيض النظيف, وهي تشهق من الصدمة:
ـ أيتها المجنونة ماذا فعلتِ؟.
أجابتها نورا ببراءة مزيفة:
ـ آسفة.. أظن أنني أصبت بدوار بسيط.. يبدو أن الأجواء هنا تسبب لي الغثيان..
ابتعدت الممرضة في غيظ بعد أن فهمت تلميح نورا المزدوج بينما سألها منذر بعتاب:
ـ لما فعلت ذلك يا نورا؟.. إن وداد طيبة القلب وتولي جدي رعاية خاصة..
استفهمت نورا:
ـ وداد؟!!!.. أتقصد تلك الحــ.. تلك الفتاة؟.. نعم أرى أنها تولي الجميع رعاية خاصة!!..
ثم وجهت كلامها إلى رؤوف:
ـ أليس كذلك؟..
تأملها رؤوف للحظة.. ليدرك أنها تشعر بالغيرة.. ولكن لم؟.. هل تظن أنه يهتم بتلك الفتاة؟.. إنه لا يهتم إلا بها هي.. وهي تعلم ذلك جيداً.. لحظة.. هل تعلم ذلك بالفعل؟.. هز رأسه بحيرة.. بالطبع تعلم.. فلا يعقل ألا تشعر كم هي غالية وأثيرة عنده...
ـ رؤوف!!.
انتبه من شروده وهو يقول:
ـ أعتقد أنها ممرضة بارعة.. لقد أوصى الطبيب بها كمرافقة طبية.. لجدي في المنزل.
شحب وجه سهير بينما شهقت نورا بحدة:
ـ ماذا؟.. كلا هذا مستحيل..
أجاب رؤوف بجفاء:
ـ إنها ممتازة.. وكما قال الطبيب هي الأفضل.. وسوف يحصل جدي على الأفضل.. لا مجال للنقاش..
ثم جذبها من مرفقها مردفاً:
ـ هيا بنا.. لقد تأخرت بالفعل, ولدي مواعيد هامة.
تمتمت نورا بحنق:
"الآن تأخرت.. وعندما كنت تضاحك الحرباء كنت تمتلك الوقت".
سألها رؤوف بحيرة:
ـ ماذا تقولين؟..
ـ لا شيء.. هيا بنا حتى لا تتأخر.
في السيارة كان الصمت يلفهما كالعادة, فلقد اعتصم رؤوف بالصمت منذ دخول جده المشفى.. واقتصرت حواراته مع نورا.. على كلمات معدودة... كانت أغلبها أسئلة منه عما تعرف من معلومات عن لقاء شموس بعبد الرؤوف بالمشفى.. وهي معلومات لم تكن نورا تمتلكها.. لذا كف عن السؤال مرغماً.. ولكنه استمر في التباعد والانزواء.. بعيداً عن الجميع ومتعللاً بانغماسه في العمل..
هذا أشعر نورا أنهما يدوران في دائرة مغلقة من الجفاء, فهو عاد لسابق عهده قبل دخول جدهما المشفى.. ولكن الفارق أنه لم يمتنع تلك الفترة عن الدخول إلى جناحهما.. بل العكس هو الصحيح.. فما يظهره من جفاء وبرود طوال النهار.. يتبدل في عتمة الليل إلى جنون, بل هذيان.. فهو يغرقها بعاطفته ليلاً.. يبسط سطوته عليها ويتلذذ باستشعار تأثيره بها ولا يتركها كل ليلة إلا بعد أن يسمع اعترافاتها بحبه.. وترديدها لاسمه مع كل نفس تتنفسه..
كانت تتعجب من ذلك في البداية ولم تفهم ماذا أصابه, حتى أدركت أن تلك هي طريقته لينسيها انهياره ودموعه بين ذراعيها.. يريد أن يفرض تأثيره الرجولي عليها ويرسخه مزيحاً من ذهنها أي أفكار قد تروادها عن ضعفه أو هشاشة نفسيته نتيجة مرض جدهما..
لقد كان يستغلها, بل يستغل حبها له, يستعمله ضدها.. صدمها ذلك الاكتشاف في بدايته, ولكنها تفهمت حاجته كرجل لأن يظهر الأقوى وأمامها هي بالذات.. هي الزوجة التي تصغره بعدد من السنوات.. والتي كانت تراه دائماً كرجل صلب ومسئول.. فقررت أن تمنحه قليلاً من الوقت حتى يظن أنها نسيت لحظة ضعفه, وبعدها لن تسمح له باستغلال ما تكنه له من حب وعشق.. لن تجعله يبتذل ذلك الحب أو يتجاهله..
أفاقت على هزة من يده لتنتبه أنهما وصلا بالفعل أمام باب الفيلا وعلى ما يبدو أنه جالس يتأملها منذ فترة.. أجلت صوتها وهي تقول:
ـ سوف أذهب.. إلى اللقاء.
أجابها بهزة من رأسه وهو يراقبها تترجل ببطء, يبدو أنها مجهدة بالفعل ولم تكن تتظاهر في المشفى.. راقب خطواتها المتعثرة ليفاجئ بها تتمايل بشدة غير قادرة على الوقوف فقفز مسرعاً من السيارة ليتلقفها بين ذراعيه قبل أن تسقط أرضاً..
حملها برفق حتى وضعها على فراشهما.. وهو يتأمل ملامحها الهادئة بوداعة.. تختلف عن شراستها منذ قليل مع وداد..
يا الهي.. لقد سقط قلبه بين ضلوعه مع سقوطها أرضاً.. هل هي مريضة فعلاً؟.. إنها لم تكن على ما يرام في الفترة الأخيرة.. كما أنها تبدو شاحبة جداً.. ولكنها أيضاً جميلة جداً.. فهي تبدو ناعمة ووديعة, بل رائعة.. شعرها الغجري الذي فتنه من أول لحظة وهو يستنشق رائحته, لحظتها عرف كيف ممكن للرجل أن يعشق شعر امرأة, أنفها الصغير المتكبر.. وشفتيها..
ـ آه..
همسة صغيرة منها أفاقته قبل أن تشطح به أفكاره بعيداً, فتحرك ليتناول إحدى العطور ويرشها برفق أمام أنفها حتى تستفيق...
رمشت بعينيها ببطء وهي مازالت تتأوه وتحرك رأسها برفق:
ـ آه.. ماذا حدث؟.. أين أنا؟.
أجابها بقلق:
ـ لقد فقدتِ وعيكِ؟.. ماذا بكِ؟.. هل أنتِ مريضة فعلاً؟..
أجابته بإرهاق:
ـ لا أعلم.. يبدو أن رائحة المشفى أصبحت تزعجني بشدة.. لقد شعرت ببداية الدوار في اللحظة التي وصلت بها للمشفى.
رفع حاجبه وهو يسألها:
ـ إذاً مشهد سكب الشاي لم يكن متعمداً!!.
أجابته بغيظ:
ـ طبعاً.. أنا شعرت بالدوار بالفعل, وإلا كنت قذفت بمحتويات الكوب في وجهها وليس على ردائها..
كتم ضحكته بصعوبة.. إنها دائماً تنجح في استخراج البسمة منه.. وربت على شعرها يهدئها:
ـ حسناً.. اهدئي.. اهدئي.. لا داعي للانفعال..
أجابت بغيظ:
ـ لا داعي للانفعال!!.. ألم ترى كيف كانت تلك الحرباء تتمسح فيك؟.. وأنت سمحت لها بذلك.
أمسك ذقنها بأصابعه وهو يضغط عليها برقة:
ـ لا تدعي غيرتكِ تعميكِ عن الحقيقة.. أنتِ تعلمين جيداً أنني لم أسمح بذلك..
ـ من السهل عليك قول ذلك.. فأنت لا تعرف الشعور بالغيرة..
ثم تحركت لتنام على جانبها:
ـ أنا أشعر بالنعاس.. أعتقد أنني سأخلد للنوم قليلاً.
فوجئت به يلفها بذراعيه وهو يعدل وضعها حتى تصبح رأسها على ذراعه وذراعه الأخرى يمسد على شعرها بحنان وهو يقول لها:
ـ نامي يا نورا.. ارتاحي يا طفلتي..
وهمس لنفسه..
"وما أدراكِ أني لم أعرف الشعور بالغيرة؟.. أنا لم أعرف ذلك الشعور إلا معكِ أنتِ يا قمري".
في مرحلة ما بين النوم واليقظة تعجبت نورا من احتضانه الحنون لها حتى أنها ظنت أنها تتخيل ذلك.. وأن حلمها الذي يصاحبها في الفترة الأخيرة يتحقق ورؤوف يضمها لصدره فقط كي يشعرها بالراحة بدون محاولته لفرض سيطرته الرجولية عليها..
*****************
أخذت شموس ترتشف الشاي بهدوء وهي مدركة لنظرات عبد السلام المركزة عليها.. فهو على مدار الشهر الماضي وهو يواصل ضغوطه عليها لتخبره بما تم بينها وبين والده, وهي تراوغ وتتهرب منه.. حتى نورا ابنتها ظلت تلح عليها لتعرف ولكنها أسكتتها تماماً عندما اتهمتها أنها أصبحت تعمل كجاسوسة لصالح رؤوف زوجها.. لكن عبد السلام لا يكل ولا يمل يرغب في المعرفة وهي تثابر على التملص من أسئلته..
ابتسمت لدى تذكرها كلمة عمها
"لطالما ظننت أنكِ الأقوى والأذكى يا شموس.. أذكى حتى من قمر ابنتي.. ولم تخيبي ظني قط".
كانت تلك إحدى جمل الحوار الذي دار بين الاثنين والذي يتوق الجميع لمعرفة تفاصيله... فبعد أن تركها عبد السلام بمفردها مع والده.. تحركت حتى وصلت للمقعد الموجود بجانب الفراش وتمتمت بصوت خافت وبنبرة تكاد تكون رسمية:
ـ حمداً لله على سلامتك يا عمي..
أجاب العجوز وقد بدأ يستعيد شيئاً من قوته:
ـ سلمك الله يا شموس..
ثم سكت قليلاً.. ليتكلم بصعوبة وكأن ما سيقوله في غاية الصعوبة:
ـ شموس.. يا ابنتي.. كنت أريد أن... أطـــ....
قاطعته شموس بحسم:
ـ كلا يا عمي.. كلا.. أرجوك لا تطلب الصفح والغفران.
سألها بألم:
ـ أتستكثرين الراحة على عمكِ في أيامه الأخيرة؟..
أجابت بحدة:
ـ وهل منحي لك الغفران والصفح هو ما سيوفر لك الراحة يا عمي.. لا أعتقد, بل هذا سيزيد من ألمك.. أن تشعر بأنك تسببت لي بالألم والجرح العميق ورغم ذلك كنت أنا من السماحة أن أمنحك صك غفراني.. كلا يا عمي.. سيزيد ذلك من همك, بل من ذنبك.. هل هذا ما طلبته من رؤوف؟.. السماح!!.. أراهن أنه أخبرك أن لا داعي لذلك, وأنه يوافقك على كل قراراتك, أليس كذلك؟..
قال العجوز بإعجاب:
ـ لطالما ظننت أنكِ الأقوى والأذكى يا شموس.. أذكى حتى من قمر ابنتي.. ولم تخيبي ظني قط..
سألته شموس بابتسامة:
ـ لماذا تظن ذلك يا عمي؟.. بسبب رفض عبد السلام الخضوع لأوامرك قديماً؟.. هل تعتقد أن ذلك بسببي؟..
رد العجوز ابتسامتها وبدا وأن تلك المناوشة بينهما تزيد من قوته شيئاً فشيء:
ـ أنا لا أظن ذلك.. أنا أعلم ذلك.. وأنتِ كذلك..
ـ أنت تتحدث عن محاولتك الأخيرة لإقناع عبد السلام بالزواج من نعمات.. ذلك الكلام الذي قاله.. لمن قام بالواسطة بينكما..
سأل الرجل بدهشة:
ـ أنتِ تعلمين عن ذلك؟!!.
ضحكت بمرارة شموس:
ـ عن إرسالك رؤوف حتى يفكر عبد السلام مرة ثانية في أمر تلك الزيجة, خاصة وأن زوجته أصبحت غير قادرة على إنجاب أطفال؟... عن عدم قدرتك على طلب ذلك منه شخصياً, فلجأت لحفيدك ليكون رسولاً بينكما؟.. عن رفض عبد السلام القاطع لذلك وإخباره لرؤوف أنه لن يستبدلني بنساء الدنيا كلها؟.. نعم.. نعم يا عمي أعلم بشأن ذلك.. وأكاد أكون متأكدة أن ذلك هو سبب موافقة رؤوف على زواجه من نعمات قديماً, فالمسكين شعر أنه خذلك مرة بعدما فشل في إقناع عمه بتلك الزيجة..
قال عبد الرؤوف بلهجة تقريرية:
ـ قمر من أخبرتكِ..
ـ نعم.. هي من أخبرتني.. فقد كانت تحاول رفع معنوياتي بعدما فقدت ابني..
وتهدج صوتها وهي تقول:
ـ لقد فقدت ابني يا عمي.. وذلك قضاء الله وقدره.. اللهم لا اعتراض..
تعثرت الكلمات على شفتي العجوز:
ـ شموس.. يا ابنتي..
مسحت شموس بعض الدمعات التي بدأت تسيل على وجنتيها وهي تقاطعه:
ـ لقد أخبرتك يا عمي من قبل.. بالله عليك لا تسأل عن الغفران.. كما أنني متأكدة أن ذلك ليس السبب الوحيد لاستدعائي.. أنت تريد الإطمئنان.. على أحفادك.. الذكور أعني.. منذر ورؤوف.. أليس كذلك؟..
ـ أنتِ تفهمينني جيداً يا شموس.. لا يعجبني حال الأولاد.. فهم جميعاً يبدون وكأن التعاسة تعشش فوق رؤوسهم, حتى منذر وسهير..
وسكت قليلاً ليضيف بنبرة ذات معنى:
ـ العاشقان..
ضحكت شموس:
ـ بالطبع.. أنت على علم عن ارتباطهما ببعضهما.. فأنت على معرفة بكل شيء.. لكني أطلب منك يا عمي, بل أتوسلك.. أن تتركهما يدبران حياتهما.. جميعاً بلا أي تدخل.. أرجوك, لا تتدخل...
أومأ العجوز:
ـ لا تقلقي يا شموس.. فأنا متأكد أن أحفادي بين أيدٍ أمينة.. فبناتك ورثن منك قوتك وضعفك.. نورا تجيد استخدام الوجهين, ولكني أطلب منكِ أن تعلمي سهير كيف تستخدم وتستغل قوة تأثيرها على زوجها.. بدلاً من إظهار ضعف مستمر.. صدقيني.. لن يحتمل زواجها طويلاً.. اعتبريها نصيحة من رجل عجوز..
سكتت شموس على مضض فهو محق, سهير تحتاج إلى جلسة مصارحة طويلة.. فأحوالها لا تعجبها بتاتاً..
انتبهت على صوت عبد السلام يسألها:
ـ ألن تخبريني بما قاله لكِ والدي؟..
فاجأته بقولها:
ـ عبد السلام.. أعتقد أنه يجب أن تحاول محادثة منذر.. وأنا سأتولى الكلام مع سهير.. فوضعهما لا يعجبني...
*****************
استيقظت نورا بعدما افتقدت ذراعيه من حولها, فتحركت بتكاسل في فراشها.. وهي تتساءل أين هو.. مر بذهنها قوله أنه مرتبط بمواعيد عمل مهمة.. فتأكدت أنه ذهب إلى عمله..... وتركها...
أحبطت بشدة من تصرفه.. ألا يستطيع البقاء معها ويبتعد عن عمله الغالي حتى وهي مريضة!!...
حسناً.. إنها فرصة لتتأكد من ذلك الهاجس الذي يزعجها مؤخراً...
تحركت بخفة تفتح أحد أدراج المنضدة المجاورة لفراشها.. وهي تسحب منها تلك العلبة وتخرج منها محتوياتها وتتوجه نحو حمام غرفتها وهي تبتهل إلى الله في صمت...
فتحت نورا عينيها ببطء لتقابلها ملامح رؤوف وهو ينظر إليها ببرود.. وسمعته يأمرها بجفاء:
ـ استعدي بسرعة, فيجب علينا العودة سريعاً للمستشفى..
سألته بخوف وهي تتغافل عن جموده:
ـ هل جدي بخير؟..
رد باختصار قبل أن يغادر مسرعاً:
ـ كما هو.
صدمت نورا من تصرفه وانصرافه السريع.. ماذا يحدث؟.. لقد ظنت الليلة الماضية أنهما عبرا مرحلة البرود والجفاء بعد سقوطه بين ذراعيها يذرف دموعه على صدرها.. وسقطت كل الحواجز التي كان يشيدها ببسالة حول مشاعره لينكشف لها الطفل الخائف من ألم الحرمان واليتم مرة أخرى.. لم يفاجئها انهياره بقدر ما صدمها قوة هذا الانهيار وهو ينتفض باكياً بين ذراعيها كطفل صغير يخشى فقدان عائلته..
ألجمتها الصدمة للحظة إلا أن غريزتها سرعان ما دفعتها لتحتضنه بقوة وهي تربت على كتفيه وتملس خصلاته الثائرة كجسده الذي كان ينتفض بفعل شهقاته العنيفة..
لم تحاول أن تتكلم.. فكل الكلام لا معنى له أمام انهياره العنيف.. فتركته يفرغ كل ما بداخله على صدرها وهي تكاد تحبس أنفاسها تخشى أن يشعر بوجوده بين ذراعيها.. يتذكر أنه يضغطها بجسده في الفراش فيمتنع عن إفراغ شحنة حزنه وألمه.. تريده أن يتخلص من تلك الشجون فهو لن يتحمل المزيد..
عيناه التائهتان والجميع يلتف حوله في المستشفى يسأله المشورة أخبرتاها بوضوح أنه وصل إلى حافة تحمله, لذلك أصرت على البعد عنهم بأقصى سرعة وليظنوا ما يحلو لهم.. هو ما يهمها.. وهو فقط.. لقد أوشك على الإنهيار بالفعل ولم تكن تسمح لأي شخص أن يشهد ذلك الإنهيار.. وهو لم يكن ليسامح نفسه لو سقط منهاراً أمام أي شخص, وما هي متأكدة منه أنه لن يسامحها لأنها شهدت لحظة ضعفه..
بدأت شهقاته تهدأ قليلاً.. فعلمت أنه بدأ يعود للواقع ويدرك ما قام به.. مرت فترة سكون كادت أن تسمع فيها صوت الهواء وهو يتحرك في الغرفة.. فسكنت تماماً تنتظر ثورته, إلا أنها شعرت بذراعيه تشتدان حولها لتضمها إليه ولكن هذه المرة لم تكن ضمة مواساة.. لم يكن يبحث عن دعم ذراعيها, بل عن عاطفتها.. عن تجاوبها.. وتأكدت من ذلك عندما تحركت شفتاه على صدرها تنشر قبلات لاهبة وهو يزيد من ضغط ذراعيه حولها حتى كادت أن تشعر بعظامها تتفتت من قوته...
أدركت أنه غير مدرك للقوة التي يستخدمها فبدأت تمسد شعره برقة وهي توزع قبلاتها على وجهه تحاول أن تمنحه الراحة والحنان حتى يخفف من القسوة التي يعاملها بها ولكنها سرعان ما وجدت شفتيه تزحفان لتصلا إلى شفتيها فيضغطهما بعنف غريب عليه.. همست بضعف:
ـ رؤوف...
وصلها صوته وهو يقول بشراسة حارقة:
ـ أحتاجكِ يا قمري.. أحتاجكِ بشدة..
كان صوته يحمل نبرة يائسة وهو ما يزال يتمسك بها بقوة.. ولأول مرة يُشعِرها بحاجته إليها, بل ويصرح بذلك أيضاً فلم يكن أمامها إلا الإستسلام له تمنحه ما يحتاج من سكينة وراحة.. وحب.. حبها الذي همسته له عدة مرات وهو لم يمانع في سماع تلك الهمسات, بل كلما همست له بحبها كان يزداد جنوناً واندفاعاً نحوها.. اندفاعه اتسم بالعنف, بل القسوة.. لأول مرة تلتمس منه تلك القسوة في علاقتهما الحميمة.. وكأن لمساته خرجت عن سيطرته, فبدلاً من الحماية والدلال والشغف الذي تستشعره منه دائماً.. تلقت القسوة والألم..
انتهى جنونه سريعاً فاستلقى على ظهره لاهثاً وهو يغطي عينيه بذراعه يخفيهما عنها وكأنه غير قادر على مواجهتها بعد تلك العاصفة التي سحبها إليها.. فهو لأول مرة يفكر في نفسه أولاً.. ويأخذ كل ما تهبه إياه بدون أن يفكر بالعطاء في المقابل.. لقد تصرف مثل وغد أناني وهو يكره نفسه لذلك.. لكنه كان بحاجة إليها بشدة.. حاجة لم يستطع تفسيرها, بل لم يرد ذلك.. فهو لم يكن في احتياج لامرأة.. لعلاقة.. بل لوجودها هي معه ولإحساسه بها بين ذراعيه, وكأنها تقرأ أفكاره.. وجدها تحرك رأسها لتضعها على كتفه وشعر بيدها الصغيرة تتسلل بهدوء على عضلات صدره وهي تهمس بخفوت:
ـ هل تعلم شيئاً؟..
لم تنتظر إجابته واسترسلت:
ـ ليلة زفافنا.. عندما اكتشفت أن جناحنا يقع في الطابق الأرضي.. انتابني غضب شديد.. فقد شعرت بالإهانة وبجرح عميق لكبريائي حتى أنني توعدتك سراً وأقسمت أن أجعلك تطلب مني الانتقال إلى الطابق الأعلى لأتخذ مكاني الملائم كسيدة للمنزل... مثلها تماماً..
نظر إليها باستفهام وهو ما زال متمسكاً بصمته.. فحركت رأسها قليلاً لتضعها على صدره قريباً من قلبه فكاد صوت دقاته العالية والسريعة أن يصم أذنيها وأكملت سرد قصتها:
ـ لقد فكرت في التراجع عن قسمي لاحقاً وخاصة بعدما لمحت الحديقة الداخلية التي تربط الجناح بغرفة مكتبك.. فهي رائعة, بل مذهلة لقد أحببتها على الفور.. ولكن ما حسم الأمر بداخلي فعلاً.. وجعلني أتمسك بموقع جناحي بالطابق الأرضي.. اكتشافي أنني استطيع مراقبتك والإطمئنان عليك من خلال نافذتينا المتواجهتين.. فمراقبتي لك وأنت تعمل.. وخاصة في الأيام التي بعدت عني فيها, هي ما ساعدني على تخطي بعدك وجفائك.. فكان أن فضلت اطمئناني عليك واحساسي بتواجدك معي ولو عن بعد على انتصاري عليها في معركة السيادة على المنزل...
تجمد رؤوف تماماً تحت لمساتها الدافئة وهو لا يصدق ما تحاول إخباره به.. هل تقصد ما فهمه من كلامها؟!!.. هل تقصد أنها فضلته عن نفسها.. أنها قدمته هو على كبريائها!!.. هل هذا صحيح؟.. هل يمثل لها تلك الأهمية!!..
وللمرة الثانية ترد على أفكاره التي لم ينطق بها وهي تتمتم:
ـ أنت أهم وأغلى عندي من كل شيء... فقط صدق هذا..
تلك المرة عندما لفها بذراعيه مقرباً إياها من صدره ومرتشفاً رحيق شفتيها.. كانا بالفعل يتبادلان الحب..
حاولت نورا سحب نفسها من ذكريات ليلتها الحافلة فأغمضت عينيها تعتصرهما حتى لا تجري دموعها على وجنتيها وهي تكمل استعدادها حتى تصطحبه للمشفى محدثة نفسها بألم..
"إلى متى؟... إلى متى تمتد حلقة جفائك التي لا تريد كسرها ولا تسمح لي باختراقها؟".
تحركت بألم تبحث عن رؤوف الذي كان يجوب الطابق السفلي كمن مسه الجنون.. ضرب إحدى الموائد الجانبية بعنف شديد مما تسبب في تكسير بعض التحف التي سقطت أرضاً..
كان الغضب يمزقه, بل يحرقه حرقاً.. كيف سمح بما حدث الليلة الماضية؟.. كيف يسمح لنفسه بهذا الانهيار.. وأمامها.. بين ذراعيها!!.. هي من دون الجميع تشهد على دموعه.. على لحظة ضعفه وانهياره..
لقد ظن أنه يملك بأس وثبات جده, الذي تلقى خبر وفاة ولده وهو ثابتاً.. صامداً ورابط الجأش.. ولكن أثبتت الأيام أنه ضعيف, بل أضعف مما تخيل يوماً, فلقد سقط منهاراً عند تفكيره أنه قد يفقد جده, لم يتخيل أبداً أن ينتابه مثل ذلك الشعور.. لقد شعر بالهلع, بل الرعب حتى أنه لجأ إلى ذراعيها يلتمس الدعم منها والراحة على صدرها..
هل انغماسه بها الليلة الماضية كان هروباً من هلعه.. فراراً من ضعفه الذي لمسه لأول مرة الليلة الماضية وهو يواسي الجميع ويحل مشاكلهم, بينما كان في أعماقه يتوق لربته رقيقة تطمئنه وتهدأ من مخاوفه.. لضمة من صدر حنون تخبره ألا يخاف ولا يجزع..
حتى نعمات.. حتى مواستها له جاءت رسمية وهي تحثه على الصمود من أجل الجميع.. هل لهذا السبب لم يلجأ لنعمات تلك المرأة التي استوعبته لسنوات... كلا.. لقد أراد نورا.. تاق إليها.. كان بحاجتها مهما حاول أن يهرب من تفسير ما شعر به أو يخدع نفسه بأن اندفاعه الغير مسبوق نحوها كان سببه طول فترة بعده عنها.. إلا إنه لن يستطيع إنكار السلام الذي وجده بين ذراعيها.. والراحة التي منحتها له بدون حساب.. وهو ينهل من حبها, يأخذ كل ما تمنحه إياه متغاضياً عن العطاء..
كيف له أن يواجه عينيها بعد ما شعرت بحاجته إليها التي صرح بها بكل وضوح ليلة أمس, وحتى بعد اعترافاتها المتوالية بالحب.. يجد نفسه الآن في الموقف الأضعف وهروبه من أمامها منذ قليل هو أكبر دليل على ضعفه ذاك.. لقد انكشف أمامها.. تعرت روحه تماماً.. خرج الطفل الخائف بداخله إلى العلن وكانت هي من أخذت بيده لتخرجه من ظلمات الحرمان إلى ضياء الحب والاحتواء.. ولكن يبقى السؤال الصعب.. كيف يمكن لأي رجل بعنفوانه أن يواجه امرأته بعد أن بكى بين ذراعيها كالطفل الخائف؟.. امرأته التي تقف بعيداً الآن مترددة ولا تعرف كيف تتواصل معه.. تحاول ألا تشعره بوجودها.. تريده أن ينفث عن عصبيته وغضبه قبل أن يذهبا معاً ويواجها الجميع باختفائهما الغير مبرر.. والذي لن يمر بسهولة... ولكنها لم تعلم أنه شعر بها منذ أن خطت بقدميها خارج غرفة جدهما..
أجفلت عندما وصلها صوته:
ـ مستعدة؟..
أجابته بخفوت:
ـ نعم..
ما أن وصلا إلى المشفى حتى اندفع إليه منذر وقاسم يسألانه بلهفة:
ـ رؤوف!!.. أين كنت؟.
أجاب بغموض:
ـ ذهبت لإنهاء بعض المهام الخاصة بالعمل.. هل جد جديد؟..
سأله قاسم بغيظ وهو يرمق نورا بنظرة ذات معنى:
ـ وهل أخذت تلك المهام الليل بأكمله؟.
شيئاً ما في نبرة قاسم لم ترق لرؤوف.. أو ربما في نظراته نحو نورا التي ألصقت نفسها به.. مما دفعه للرد بجفاء:
ـ هذا شأن خاص بي..
عاد قاسم يتأمل نورا مرة أخرى وهو يخاطب رؤوف بطريقة مستفزة:
ـ يبدو أن تلك المهام كانت عاجلة بالفعل.. ولم تستطع الانتظار لأدائها..
ضغط رؤوف على أسنانه بغيظ وقد وصله المغزى من كلام قاسم ولكنه قرر تجاهله:
ـ يجب أن يتواجد أحدنا بالشركة اليوم, فلتذهب أنت يا قاسم.
أجاب قاسم بحدة:
ـ ولماذا أنا؟..
ـ أنت المسئول عن الشئون القانونية, ويجب أن تراجع العقد الخاص بالصفقة الأخيرة.. ماذا بك؟.
أجابه قاسم بحدة:
ـ كلا.. سأبقى.. سأجري عدة مكالمات لأسوي الأمور.. ولكني لن أذهب..
كانت نعمات تراقب ما يحدث عن بعد.. واستطاعت أن تفهم من تعابيرهم أنهم يتجادلون حول أمر ما.. لم تهتم بهذا, فما لفت انتباهها هو ملامح رؤوف المبهمة.. ولغة جسده الغامضة.. فهو يبدو محتداً وعصبياً, ولكن في نفس الوقت مسيطراً وهادئ بل يكاد يكون مسترخياً قليلاً عن ليلة أمس..
نقلت بصرها إلى السمراء الصغيرة بجانبه تلاحظ أن ملامحها تنطق بالاهتمام والقلق وهي ترمقه بنظراتها الجانبية, فأدركت أن نورا هي من سحبته من بينهم جميعاً لتستأثر به لنفسها..
تحركت نحوهما وهي تستشيط غضباً من اختفائه ليلة أمس.. وانعكس هذا على لهجتها الحادة:
ـ رؤوف.. أين كنت؟.
أجاب بحدة:
ـ ماذا بكم جميعاً؟.. هل يجب أن أتواجد أمامكم طوال الأربع والعشرين ساعة؟!!.. ألا أستطيع الحصول على بعض الراحة؟..
تلعثمت نعمات أمام حدة رؤوف:
ـ بالطـ.. ـبـ.. ـع.. ولكني لم أعتد اختفائك في الأوقات العصيبة..
أجاب بغضب وهو يتحرك مبتعداً:
ـ لكل شيء بداية..
ثم ما لبث أن عاد وكأنه تذكر أمراً ما.. فسحب نورا من ذراعها.. متوجهاً نحو عمه.. تاركاً نعمات وهي تتميز غيظاً وغلاً..
خاطب نورا بحدة فهو يريدها بعيداً عن قاسم.. بعيداً جداً:
ـ انتظريني هنا..
أجابت في خفوت وهي متعجبة من تصرفه:
ـ حسناً..
بعد أن اطمئن من الطبيب المختص بحالة جده أن وضع هذا الأخير مستقر.. وأنه على وشك نقله إلى غرفة عادية بدلاً من غرفة العناية المركزة.. خرج إلى حديقة المشفى ومشهد قاسم وهو يرمق نورا بتلك النظرات الغريبة.. يتكرر في ذهنه مراراً وتكراراً.. ماذا وراء تلك النظرات؟.. وهل كانت موجهة نحو نورا فقط؟.. أم نحوهما معاً, رداً على غيابهما الطويل؟..
ـ هل هذا ما طلبته منك يا رؤوف؟..
التفت ليجد نعمات تواجهه وملامح الغضب تبدو عليها.. فسألها بحيرة:
ـ ماذا هناك يا نعمات؟..
أجابته بغضب:
ـ ألم أطلب منك أن تحافظ على كرامتي وخاصة أمام... زوجتك؟..
أجابها بإرهاق وهو يمسح وجهه بكفيه:
ـ نعمات.. من أجل الله.. هل تظنين أن الوقت مناسب لحوار كهذا؟..
أجابته بغيظ:
ـ وهل كان الوقت مناسب لتختفي مع ... زوجتك.. لتفعلا ما يحلو لكما؟..
انتفض جسده بصدمة من قولها.. وأخذ يتأملها للحظات.. يعلم أنها غاضبة لاختفائه ليلة أمس ولكنه لا يدري لما لم يشعر بتعاطف مع غضبها هذا وبدلاً من ذلك أجابها بهدوء:
ـ لا الوقت ولا المكان مناسبين للحوار الذي تريدينه..
قطع كلامه وصول نورا اللاهث:
ـ رؤوف.. لقد استفاق جدي... وهو يطلب رؤيتك.
أزاح نعمات من طريقه متوجهاً نحو جده, وتبعته نورا ولكن نعمات استوقفتها:
ـ لا تظني أنكِ ستمتلكينه, فقط لأنه مهووس بجسدكِ الشاب..
رمقتها نورا باشمئزاز من عباراتها واستمرت في طريقها.. لكنها التفتت لتقول من خلف كتفها:
ـ لا تجعليني أفقد آخر ما أكنه لكِ من احترام..
*****************
وقف رؤوف على باب غرفة جده متردداً في الدخول إليه.. لا يريد أن يراه في تلك الحالة الضعيفة.. صحيح أن جده مر ببعض الأزمات الصحية من قبل, إلا أن تلك الأزمة الأخيرة كانت أشدهم.. وأكثرهم خطراً على حياته..
سمع صوت جده يناديه بخفوت:
ـ رؤوف.. تعالى يا بني..
تقدم رؤوف بسرعة.. وركع بجانب الفراش:
ـ حمداً لله على سلامتك يا جدي.. لقد أثرت قلقنا جميعاً.
ربت الجد على كتفه بحنان:
ـ لا تقلق ولا تحزن يا بني.. فأنت لم تعد وحيداً الآن, فلديك زوجة وقريباً سيكون لديك أبناء أيضاً.. لقد طلبت رؤيتك الآن لأسألك شيئاً يا رؤوف.
ـ سل ما تشاء يا جدي.
سعل العجوز بجهد:
ـ رؤوف.. أريدك أن تسامحني يا ولدي.. فأنا أعلم أنني ظلمتك..
قاطع رؤوف كلام جده وهو يقول:
ـ أنت لم تجبرني على شيء يا جدي.. أنا كنت موافق على كل شيء.
ـ هل ترى أنني لم أجبرك؟.. ولكني لم أتح لك الخيار أيضاً..
أحنى رؤوف رأسه ليقبل يد جده قائلاً:
ـ دعك من هذا الكلام الآن.. فصحتك هي الأهم.. وتأكد لو أن الزمن عاد للوراء لم أكن لأغير شيء مما حدث..
تمتم جده بخفوت:
ـ بارك الله فيك يا بني.. آمل أن تكون شموس بنفس سماحتك.. هل هي بالخارج؟..
ـ نعم يا جدي.
ـ اطلب منها أن تأتي هي الأخرى..
دخلت شموس إلى غرفة العجوز بخطوات مترددة يرافقها عبد السلام, ولكن ما أن رآه والده حتى طلب منه أن يدعه مع شموس بمفردهما....
*****************
تأففت نورا بضيق وهي جالسة بجانب سهير أمام غرفة جدهما:
ـ يا الهي.. أصبحت لا أطيق رائحة تلك المطهرات.. لقد مر أكثر من شهر.. ألن يسمحوا لجدي بالخروج من ذلك المكان؟..
ردت عليها سهير بنزق:
ـ لماذا تصرين على الحضور يومياً, إذا كنتِ تنزعجين هكذا من رائحة المشفى؟..
أجابتها نورا بغيظ وهي ترمق رؤوف ومنذر وهما يقفان مع إحدى الممرضات والتي توزع ابتساماتها بسخاء للرجلين:
ـ وهل أتركه لتلك الحرباء التي تستمر في مغازلته بلا هوادة؟.
سألتها سهير بخفوت:
ـ ولم تقلقين؟ إن رؤوف لا يبدي أي اهتمام بها..
"بعكس منذر الذي يبدو كالأبله أمام محاولاتها الحقيرة".
كان هذا ما قالته سهير في نفسها.. بالطبع لم تسمعه نورا التي هبت فجأة من مكانها, فسألتها سهير:
ـ أين تذهبين؟.
أجابتها نورا بغيظ:
ـ ألا ترين تلك الحقيرة؟... سوف أذهب لأقتلع عينيها..
وجهت سهير نظرها حيث تتجه نورا, فوجدت تلك الممرضة تمسد ذراع رؤوف كما لو كانت تنظف كمه من بعض الأتربة الوهمية.. ولكن الحق يقال كان رؤوف يحاول جذب ذراعه منها بشدة عندما وصلت إليهما نورا والتي كانت تحمل كوباً من الشاي الساخن لا تدري سهير من أين التقطته في طريقها لهما..
أدركت سهير ما تنتويه نورا وتحركت مسرعة لتمنعها.. ولكن ما أن اقتربت منهم حتى لاحظت أن نورا ترنحت فجأة وتمايلت نحو الممرضة ليسقط كوب الشاي بمحتوياته الساخنة على زيها الأبيض النظيف, وهي تشهق من الصدمة:
ـ أيتها المجنونة ماذا فعلتِ؟.
أجابتها نورا ببراءة مزيفة:
ـ آسفة.. أظن أنني أصبت بدوار بسيط.. يبدو أن الأجواء هنا تسبب لي الغثيان..
ابتعدت الممرضة في غيظ بعد أن فهمت تلميح نورا المزدوج بينما سألها منذر بعتاب:
ـ لما فعلت ذلك يا نورا؟.. إن وداد طيبة القلب وتولي جدي رعاية خاصة..
استفهمت نورا:
ـ وداد؟!!!.. أتقصد تلك الحــ.. تلك الفتاة؟.. نعم أرى أنها تولي الجميع رعاية خاصة!!..
ثم وجهت كلامها إلى رؤوف:
ـ أليس كذلك؟..
تأملها رؤوف للحظة.. ليدرك أنها تشعر بالغيرة.. ولكن لم؟.. هل تظن أنه يهتم بتلك الفتاة؟.. إنه لا يهتم إلا بها هي.. وهي تعلم ذلك جيداً.. لحظة.. هل تعلم ذلك بالفعل؟.. هز رأسه بحيرة.. بالطبع تعلم.. فلا يعقل ألا تشعر كم هي غالية وأثيرة عنده...
ـ رؤوف!!.
انتبه من شروده وهو يقول:
ـ أعتقد أنها ممرضة بارعة.. لقد أوصى الطبيب بها كمرافقة طبية.. لجدي في المنزل.
شحب وجه سهير بينما شهقت نورا بحدة:
ـ ماذا؟.. كلا هذا مستحيل..
أجاب رؤوف بجفاء:
ـ إنها ممتازة.. وكما قال الطبيب هي الأفضل.. وسوف يحصل جدي على الأفضل.. لا مجال للنقاش..
ثم جذبها من مرفقها مردفاً:
ـ هيا بنا.. لقد تأخرت بالفعل, ولدي مواعيد هامة.
تمتمت نورا بحنق:
"الآن تأخرت.. وعندما كنت تضاحك الحرباء كنت تمتلك الوقت".
سألها رؤوف بحيرة:
ـ ماذا تقولين؟..
ـ لا شيء.. هيا بنا حتى لا تتأخر.
في السيارة كان الصمت يلفهما كالعادة, فلقد اعتصم رؤوف بالصمت منذ دخول جده المشفى.. واقتصرت حواراته مع نورا.. على كلمات معدودة... كانت أغلبها أسئلة منه عما تعرف من معلومات عن لقاء شموس بعبد الرؤوف بالمشفى.. وهي معلومات لم تكن نورا تمتلكها.. لذا كف عن السؤال مرغماً.. ولكنه استمر في التباعد والانزواء.. بعيداً عن الجميع ومتعللاً بانغماسه في العمل..
هذا أشعر نورا أنهما يدوران في دائرة مغلقة من الجفاء, فهو عاد لسابق عهده قبل دخول جدهما المشفى.. ولكن الفارق أنه لم يمتنع تلك الفترة عن الدخول إلى جناحهما.. بل العكس هو الصحيح.. فما يظهره من جفاء وبرود طوال النهار.. يتبدل في عتمة الليل إلى جنون, بل هذيان.. فهو يغرقها بعاطفته ليلاً.. يبسط سطوته عليها ويتلذذ باستشعار تأثيره بها ولا يتركها كل ليلة إلا بعد أن يسمع اعترافاتها بحبه.. وترديدها لاسمه مع كل نفس تتنفسه..
كانت تتعجب من ذلك في البداية ولم تفهم ماذا أصابه, حتى أدركت أن تلك هي طريقته لينسيها انهياره ودموعه بين ذراعيها.. يريد أن يفرض تأثيره الرجولي عليها ويرسخه مزيحاً من ذهنها أي أفكار قد تروادها عن ضعفه أو هشاشة نفسيته نتيجة مرض جدهما..
لقد كان يستغلها, بل يستغل حبها له, يستعمله ضدها.. صدمها ذلك الاكتشاف في بدايته, ولكنها تفهمت حاجته كرجل لأن يظهر الأقوى وأمامها هي بالذات.. هي الزوجة التي تصغره بعدد من السنوات.. والتي كانت تراه دائماً كرجل صلب ومسئول.. فقررت أن تمنحه قليلاً من الوقت حتى يظن أنها نسيت لحظة ضعفه, وبعدها لن تسمح له باستغلال ما تكنه له من حب وعشق.. لن تجعله يبتذل ذلك الحب أو يتجاهله..
أفاقت على هزة من يده لتنتبه أنهما وصلا بالفعل أمام باب الفيلا وعلى ما يبدو أنه جالس يتأملها منذ فترة.. أجلت صوتها وهي تقول:
ـ سوف أذهب.. إلى اللقاء.
أجابها بهزة من رأسه وهو يراقبها تترجل ببطء, يبدو أنها مجهدة بالفعل ولم تكن تتظاهر في المشفى.. راقب خطواتها المتعثرة ليفاجئ بها تتمايل بشدة غير قادرة على الوقوف فقفز مسرعاً من السيارة ليتلقفها بين ذراعيه قبل أن تسقط أرضاً..
حملها برفق حتى وضعها على فراشهما.. وهو يتأمل ملامحها الهادئة بوداعة.. تختلف عن شراستها منذ قليل مع وداد..
يا الهي.. لقد سقط قلبه بين ضلوعه مع سقوطها أرضاً.. هل هي مريضة فعلاً؟.. إنها لم تكن على ما يرام في الفترة الأخيرة.. كما أنها تبدو شاحبة جداً.. ولكنها أيضاً جميلة جداً.. فهي تبدو ناعمة ووديعة, بل رائعة.. شعرها الغجري الذي فتنه من أول لحظة وهو يستنشق رائحته, لحظتها عرف كيف ممكن للرجل أن يعشق شعر امرأة, أنفها الصغير المتكبر.. وشفتيها..
ـ آه..
همسة صغيرة منها أفاقته قبل أن تشطح به أفكاره بعيداً, فتحرك ليتناول إحدى العطور ويرشها برفق أمام أنفها حتى تستفيق...
رمشت بعينيها ببطء وهي مازالت تتأوه وتحرك رأسها برفق:
ـ آه.. ماذا حدث؟.. أين أنا؟.
أجابها بقلق:
ـ لقد فقدتِ وعيكِ؟.. ماذا بكِ؟.. هل أنتِ مريضة فعلاً؟..
أجابته بإرهاق:
ـ لا أعلم.. يبدو أن رائحة المشفى أصبحت تزعجني بشدة.. لقد شعرت ببداية الدوار في اللحظة التي وصلت بها للمشفى.
رفع حاجبه وهو يسألها:
ـ إذاً مشهد سكب الشاي لم يكن متعمداً!!.
أجابته بغيظ:
ـ طبعاً.. أنا شعرت بالدوار بالفعل, وإلا كنت قذفت بمحتويات الكوب في وجهها وليس على ردائها..
كتم ضحكته بصعوبة.. إنها دائماً تنجح في استخراج البسمة منه.. وربت على شعرها يهدئها:
ـ حسناً.. اهدئي.. اهدئي.. لا داعي للانفعال..
أجابت بغيظ:
ـ لا داعي للانفعال!!.. ألم ترى كيف كانت تلك الحرباء تتمسح فيك؟.. وأنت سمحت لها بذلك.
أمسك ذقنها بأصابعه وهو يضغط عليها برقة:
ـ لا تدعي غيرتكِ تعميكِ عن الحقيقة.. أنتِ تعلمين جيداً أنني لم أسمح بذلك..
ـ من السهل عليك قول ذلك.. فأنت لا تعرف الشعور بالغيرة..
ثم تحركت لتنام على جانبها:
ـ أنا أشعر بالنعاس.. أعتقد أنني سأخلد للنوم قليلاً.
فوجئت به يلفها بذراعيه وهو يعدل وضعها حتى تصبح رأسها على ذراعه وذراعه الأخرى يمسد على شعرها بحنان وهو يقول لها:
ـ نامي يا نورا.. ارتاحي يا طفلتي..
وهمس لنفسه..
"وما أدراكِ أني لم أعرف الشعور بالغيرة؟.. أنا لم أعرف ذلك الشعور إلا معكِ أنتِ يا قمري".
في مرحلة ما بين النوم واليقظة تعجبت نورا من احتضانه الحنون لها حتى أنها ظنت أنها تتخيل ذلك.. وأن حلمها الذي يصاحبها في الفترة الأخيرة يتحقق ورؤوف يضمها لصدره فقط كي يشعرها بالراحة بدون محاولته لفرض سيطرته الرجولية عليها..
*****************
أخذت شموس ترتشف الشاي بهدوء وهي مدركة لنظرات عبد السلام المركزة عليها.. فهو على مدار الشهر الماضي وهو يواصل ضغوطه عليها لتخبره بما تم بينها وبين والده, وهي تراوغ وتتهرب منه.. حتى نورا ابنتها ظلت تلح عليها لتعرف ولكنها أسكتتها تماماً عندما اتهمتها أنها أصبحت تعمل كجاسوسة لصالح رؤوف زوجها.. لكن عبد السلام لا يكل ولا يمل يرغب في المعرفة وهي تثابر على التملص من أسئلته..
ابتسمت لدى تذكرها كلمة عمها
"لطالما ظننت أنكِ الأقوى والأذكى يا شموس.. أذكى حتى من قمر ابنتي.. ولم تخيبي ظني قط".
كانت تلك إحدى جمل الحوار الذي دار بين الاثنين والذي يتوق الجميع لمعرفة تفاصيله... فبعد أن تركها عبد السلام بمفردها مع والده.. تحركت حتى وصلت للمقعد الموجود بجانب الفراش وتمتمت بصوت خافت وبنبرة تكاد تكون رسمية:
ـ حمداً لله على سلامتك يا عمي..
أجاب العجوز وقد بدأ يستعيد شيئاً من قوته:
ـ سلمك الله يا شموس..
ثم سكت قليلاً.. ليتكلم بصعوبة وكأن ما سيقوله في غاية الصعوبة:
ـ شموس.. يا ابنتي.. كنت أريد أن... أطـــ....
قاطعته شموس بحسم:
ـ كلا يا عمي.. كلا.. أرجوك لا تطلب الصفح والغفران.
سألها بألم:
ـ أتستكثرين الراحة على عمكِ في أيامه الأخيرة؟..
أجابت بحدة:
ـ وهل منحي لك الغفران والصفح هو ما سيوفر لك الراحة يا عمي.. لا أعتقد, بل هذا سيزيد من ألمك.. أن تشعر بأنك تسببت لي بالألم والجرح العميق ورغم ذلك كنت أنا من السماحة أن أمنحك صك غفراني.. كلا يا عمي.. سيزيد ذلك من همك, بل من ذنبك.. هل هذا ما طلبته من رؤوف؟.. السماح!!.. أراهن أنه أخبرك أن لا داعي لذلك, وأنه يوافقك على كل قراراتك, أليس كذلك؟..
قال العجوز بإعجاب:
ـ لطالما ظننت أنكِ الأقوى والأذكى يا شموس.. أذكى حتى من قمر ابنتي.. ولم تخيبي ظني قط..
سألته شموس بابتسامة:
ـ لماذا تظن ذلك يا عمي؟.. بسبب رفض عبد السلام الخضوع لأوامرك قديماً؟.. هل تعتقد أن ذلك بسببي؟..
رد العجوز ابتسامتها وبدا وأن تلك المناوشة بينهما تزيد من قوته شيئاً فشيء:
ـ أنا لا أظن ذلك.. أنا أعلم ذلك.. وأنتِ كذلك..
ـ أنت تتحدث عن محاولتك الأخيرة لإقناع عبد السلام بالزواج من نعمات.. ذلك الكلام الذي قاله.. لمن قام بالواسطة بينكما..
سأل الرجل بدهشة:
ـ أنتِ تعلمين عن ذلك؟!!.
ضحكت بمرارة شموس:
ـ عن إرسالك رؤوف حتى يفكر عبد السلام مرة ثانية في أمر تلك الزيجة, خاصة وأن زوجته أصبحت غير قادرة على إنجاب أطفال؟... عن عدم قدرتك على طلب ذلك منه شخصياً, فلجأت لحفيدك ليكون رسولاً بينكما؟.. عن رفض عبد السلام القاطع لذلك وإخباره لرؤوف أنه لن يستبدلني بنساء الدنيا كلها؟.. نعم.. نعم يا عمي أعلم بشأن ذلك.. وأكاد أكون متأكدة أن ذلك هو سبب موافقة رؤوف على زواجه من نعمات قديماً, فالمسكين شعر أنه خذلك مرة بعدما فشل في إقناع عمه بتلك الزيجة..
قال عبد الرؤوف بلهجة تقريرية:
ـ قمر من أخبرتكِ..
ـ نعم.. هي من أخبرتني.. فقد كانت تحاول رفع معنوياتي بعدما فقدت ابني..
وتهدج صوتها وهي تقول:
ـ لقد فقدت ابني يا عمي.. وذلك قضاء الله وقدره.. اللهم لا اعتراض..
تعثرت الكلمات على شفتي العجوز:
ـ شموس.. يا ابنتي..
مسحت شموس بعض الدمعات التي بدأت تسيل على وجنتيها وهي تقاطعه:
ـ لقد أخبرتك يا عمي من قبل.. بالله عليك لا تسأل عن الغفران.. كما أنني متأكدة أن ذلك ليس السبب الوحيد لاستدعائي.. أنت تريد الإطمئنان.. على أحفادك.. الذكور أعني.. منذر ورؤوف.. أليس كذلك؟..
ـ أنتِ تفهمينني جيداً يا شموس.. لا يعجبني حال الأولاد.. فهم جميعاً يبدون وكأن التعاسة تعشش فوق رؤوسهم, حتى منذر وسهير..
وسكت قليلاً ليضيف بنبرة ذات معنى:
ـ العاشقان..
ضحكت شموس:
ـ بالطبع.. أنت على علم عن ارتباطهما ببعضهما.. فأنت على معرفة بكل شيء.. لكني أطلب منك يا عمي, بل أتوسلك.. أن تتركهما يدبران حياتهما.. جميعاً بلا أي تدخل.. أرجوك, لا تتدخل...
أومأ العجوز:
ـ لا تقلقي يا شموس.. فأنا متأكد أن أحفادي بين أيدٍ أمينة.. فبناتك ورثن منك قوتك وضعفك.. نورا تجيد استخدام الوجهين, ولكني أطلب منكِ أن تعلمي سهير كيف تستخدم وتستغل قوة تأثيرها على زوجها.. بدلاً من إظهار ضعف مستمر.. صدقيني.. لن يحتمل زواجها طويلاً.. اعتبريها نصيحة من رجل عجوز..
سكتت شموس على مضض فهو محق, سهير تحتاج إلى جلسة مصارحة طويلة.. فأحوالها لا تعجبها بتاتاً..
انتبهت على صوت عبد السلام يسألها:
ـ ألن تخبريني بما قاله لكِ والدي؟..
فاجأته بقولها:
ـ عبد السلام.. أعتقد أنه يجب أن تحاول محادثة منذر.. وأنا سأتولى الكلام مع سهير.. فوضعهما لا يعجبني...
*****************
استيقظت نورا بعدما افتقدت ذراعيه من حولها, فتحركت بتكاسل في فراشها.. وهي تتساءل أين هو.. مر بذهنها قوله أنه مرتبط بمواعيد عمل مهمة.. فتأكدت أنه ذهب إلى عمله..... وتركها...
أحبطت بشدة من تصرفه.. ألا يستطيع البقاء معها ويبتعد عن عمله الغالي حتى وهي مريضة!!...
حسناً.. إنها فرصة لتتأكد من ذلك الهاجس الذي يزعجها مؤخراً...
تحركت بخفة تفتح أحد أدراج المنضدة المجاورة لفراشها.. وهي تسحب منها تلك العلبة وتخرج منها محتوياتها وتتوجه نحو حمام غرفتها وهي تبتهل إلى الله في صمت...