رواية قيد القمر الفصل الثاني عشر 12 بقلم نهي طلبة
الفصل الثاني عشر
دخلت نعمات إلى غرفة المكتب الخاصة برؤوف, فهو يحبس نفسه بها معظم الوقت, لكنها وجدته يجمع بعض الأوراق في حقيبته الجلدية الأنيقة.. فعلمت أنه في طريقه للخارج وزاد هذا من عصبيتها التي انعكست على كلماتها وهي تسأله:
ـ رؤوف.. أريد أن أحادثك في أمر هام.
أجابها وهو ما زال مستمر في تجميع أوراقه:
ـ ليس الآن يا نعمات.. فأنا في طريقي للخارج.
ردت نعمات بسخرية:
ـ بالطبع.. فأنت لا تحتمل المكوث في المنزل وهي غير موجودة به.
رفع عينيه إليها بتساؤل عما وراء كلماتها.. فأردفت:
ـ لا تنظر إليّ هكذا.. فهذا ما أراه, بمجرد خروجها لزيارة أمها أو شقيقتها تنطلق أنت أيضاً خارج المنزل وكأنك لا تحتمل البيت بدونها!!
ترك رؤوف الأوراق من يده وهو يستشعر جدية الموقف وعصبية نعمات التي ظهرت في كلماتها :
ـ نعمات.. اهدئي قليلاً.. أنا لدي موعد عمل بالفعل.. وما تقولينه هو بلا معنى..
قال آخر كلماته بصوت خافت فهو مدرك أنه كاذب.. فكلماتها تحمل بعض الصدق فهو أصبح لا يطيق المكوث في مكان ونورا ليست به, رغم أنه لا يقترب منها أو حتى يتبادل أي حوار معها منذ حوارهما الأخير ولكنه يكتفي بالشعور بها معه في المكان نفسه..
صاحت نعمات به بعد أن رمقته بغيظ:
ـ بلا معنى!!.. الآن أصبحت كلماتي بلا معنى!!.
أجابها بهدوء:
ـ أنا آسف لم أقصد التقليل منكِ, ولكن..
قاطعته بعصبية:
ـ دعني أقول ما أتيت لقوله.. أظن أنه كما شُرِع لك تعدد الزوجات, فقد أُمرت بالعدل.. أليس كذلك؟..
رمقها رؤوف بحيرة.. فقد تشوش عقله.. ما الذي تريده؟.. هل تلومه على مكوثه الشهر الماضي بغرفتها؟.. هل أتت لتحثه على البقاء مع نورا؟..
فسألها بحيرة:
ـ ماذا تقصدين يا نعمات؟.. أنا لا أفهم..
أجابته بحدة:
ـ ما الذي لا تفهمه؟.. أنا أطالبك أن تعدل بيني وبين ابنة عمك.
غمرته الحيرة مرة أخرى فهو غير واثق مما تريده نعمات.. هل فعلاً تطالبه بالمكوث مع نورا وقت أطول.. فسألها بذهول:
ـ هل تطالبيني بالبقاء مع نورا لوقت أطول؟..
صرخت بفزع:
ـ كلا بالطبع..
ـ إذاً ماذا تقولين؟.. أنا لم أتركك لليلة واحدة طوال الشهر الماضي... ماذا تريدين بالضبط؟
ابتلعت غصتها بمرارة وهي تقول:
ـ أريدك أن تراعي مشاعري.. أن تحافظ على كرامتي..
سألها بحدة:
ـ هل أخطأت نورا في حقك؟
صاحت ودموعها بدأت تنهمر على وجنتيها:
ـ كلا.. أنت من فعلت.
صعق من اجابتها:
ـ أنا!!!!... كيف؟.
حاولت تتحكم في دموعها ولكنها أصرت على معاندتها وهي تتسابق على وجنتيها:
ـ لا أنكر وجودك معي طوال الفترة الماضية.. ولكن من كان معي هو خيال رؤوف.. وليس رؤوف.. فأنت شارد طوال الوقت.. أحدثك فلا تستمع إليّ.. اقترب منك, فتبتعد أميال... حتى وأنت.. ونحن...
لم تستطع اكمال كلماتها فغصت بشهقات بكائها الذي صدمه.. فاقترب منها ليحتضنها ويحاول تهدئتها.. كانت على حق.. فهو غائب بأفكاره دائماً مع سمرائه.. كان يتواجد مع نعمات بجسده فقط.. ولكن أفكاره وخياله معها هي.. لم يدرك أن نعمات شعرت بذلك فلقد ظن أنه يخفي ذلك جيداً.. ولكن على ما يبدو أنه كان على خطأ.. وسبب الأذى لنعمات بدون قصد.. وهي لا تستحق ذلك أبداً.. ليس بعد كل احتوائها له وحنانها الذي لا ينكره يكون جزائها جرحه لها بتلك الطريقة..
زاد من احتضانها وهو يربت على ظهرها برقة.. وقال لها وهو يعلم بأنه مسترسل في الكذب:
ـ اهدئي يا نعمات.. ولا تسلمي عقلك للظنون.. قد أبدو شارداً في الفترة الأخيرة ولكن ذلك بسبب مشكلات عديدة في العمل.. فغيابي أنا ومنذر معاً تسبب في تراكم الأعمال.. وظهور مشكلات عدة.. كما أن صحة جدي ليست على ما يرام هذه الأيام مما يسبب لي القلق الشديد.. نورا ليست لها علاقة بأي مما يحدث لي..
صمت قليلاً وهو يتمنى أن تصدق كذبته.. ولكنها دفعته عنها بقوة:
ـ هل تخدعني أو تخدع نفسك يا رؤوف؟.. انظر.. أنا لا أعلم ماذا يدور بينك وبين ابنة عمك.. ولا أريد أن أعلم.. كل ما أطلبه هو أن تحافظ على كرامتي.. فلا تشعرني أنك تستخدمني كدرع تختفي خلفه من مشاعـ.. من مشاكلك مع تلك الفتاة..
سكتت قليلاً عندما أدركت أنها في غمرة انفعالها كادت أن تنبهه إلى امتلاكه مشاعر بالفعل لفتاته الصغيرة.. ولكنها فوجئت بعبارته الغاضبة:
ـ نعمات.. تلك الفتاة هي زوجتي.. وهي تملك اسم كما تعلمين.. وكما أخبرتك من قبل.. نورا لا علاقة لها بأي مما أمر به.. وأنا لا أكن لها مشاعر حب كما تظنين.. فأنتِ تعلمين جيداً رأيي بتلك الأمور..
فوجئت بحدته وغضبه وأدركت أن ما شعرت به هو حقيقة لا جدال فيها.. فرؤوف عاشق لابنة عمه.... وهي.. هي لم يتبق أمامها إلا أن تحتفظ بالبقعة الصغيرة التي تشغلها في حياته.. هذا إذا سمح لها بذلك.. فأخذت عدة انفاس تهدئ بها انفعالها:
ـ رؤوف..أ لن أطالبك بمشاعر أو عواطف.. فقط أريد بعض الاحترام.. وهذا أقل ما استحق بعد هذه السنوات..
مسح رؤوف وجهه بين كفيه.. يشعر بضيق في صدره.. أنفاسه لا تريد أن تخرج.. كل ما حوله يطبق عليه.. يريد ان يصرخ..
"ماذا بكم جميعاً؟.. ماذا تريدون مني؟.. حب؟.. مشاعر؟.. احاسيس؟.. احترام؟.. كبرياء وكرامة؟.. عمل؟.. شهرة؟.. محافظة على العائلة؟.. وريث؟.. ماااااااااذاااااا أفعل.. ماذا استطيع أن أفعل"
زفر بقوة وهو يقول لنعمات:
ـ اعتذر إن كنت اسأت إليكِ.. ولكن الأعمال كثيرة بالفعل.. وأنا مضطر للخروج الآن..
ألقى كلماته وسحب حقيبة أوراقه ليخرج سريعاً.. تاركاً نعمات خلفه ودموعها لم تجف.. وكرامتها مشوهة بجروح غائرة.. فلقد لمست حبه لنورا.. لقد شعرت به يحاول الهروب وعدم الاعتراف بمشاعره تلك.. ولكنها ليست زوجته فحسب, فهو ابنها الذي لم تنجبه.. ومن تشعر بقلب الابن المدله في الحب إلا أمه..
***************
جلست نورا برفقة سهير في غرفتهما القديمة تحاول معرفة ماذا أصاب شقيقتها وسلب الضحكة من عينيها.. ولكن سهير كانت مصرة على أنها بخير وأن نورا تتوهم ليس إلا..
صاحت بها نورا بحنق:
ـ لا تخبريني أنني أتوهم.. بحق الله هل هذا مظهر عروس تزوجت من حبيب طفولتها؟..
اجابتها سهير بسخرية:
ـ وما به مظهري؟.. هل يجب أن أحمل لافتة أصرح بها عن سعادتي وامتناني لزواجي من منذر!!
سألتها نورا بعجب:
ـ سهير.. لم أعهدك ساخرة.. للمرة المائة, ماذا بكِ؟
أجابتها سهير:
ـ للمرة المائة أخبرك.. لا شيء..
ثم أردفت قبل أن تقاطعها نورا:
ـ ما رأيك لو نقضي الليلة هنا في غرفتنا القديمة؟.. نسهر ونثرثر معاً حتى الفجر, كما الأيام الخوالي.
صاحت بها نورا:
ـ هل أنتِ مجنونة؟!!... أنتِ عروس لم يمر على زواجك شهرين, وتريدين أن تقضي الليلة بعيداً عن زوجك!!.. هل...
قطعت نورا كلماتها وهي تفكر قليلاً ثم التمعت عينيها بشقاوة وهي تسحب هاتفها لتعبث بأزراره قليلاً.. ثم أغلقته وهي تبتسم بخبث وتتمتم:
ـ حسناً يا سيد "حياة هادئة ومستقرة" لنرى ماذا ستفعل الآن!!
سألتها سهير بعجب:
ـ نورا!!.. ماذا تفعلين؟.. وبم تتمتمين؟..
أجابتها نورا بهدوء:
ـ لقد أرسلت رسالة لرؤوف أخبره أنني سأقضي الليلة معكِ..
صاحت سهير:
ـ كيف؟.. وكلمات التقريع التي اسمعتني اياها منذ قليل و..
قاطع كلامها رنين الهاتف الخاص بنورا, فالتقطته وهي تبتسم ابتسامة غامضة وترفعه على أذنها لتسمع صوته يقول بحزم غاضب:
ـ سآتي لأصطحبك بعد نصف ساعة.. كوني مستعدة.
ثم أغلق الخط بدون أن يسمع منها أي رد..
اتسعت ابتسامة نورا وهي تنظر للهاتف بانتصار, فهو كان غاضباً.. نعم تستطيع ان تلمس الغضب في صوته برغم محاولته اخفاءه.. أخيراً حصلت منه على رد فعل واستطاعت ان تخدش غلاف الهدوء والجفاء الذي غلف نفسه به منذ تلك المحادثة الأخيرة بينهما والتي أراد بها وضع أطر لعلاقتهما.. وقد مر عليها أكثر من ثلاث أسابيع ولم يخطو بقدمه داخل جناحها, بل أنه عاد للجفاء والعبوس كما لو أنه يعاقبها لاصرارها على حبه..
وكأنه ينتظرها لتسحب اعترافها.. وهي لا تنكر أنها تنتظره أن يصرح بحبه.. حسناً.. هي لن تتراجع ولكنها تدرك شغفه بها وتعرف كيف تستعيد ذلك الشغف وتشعل نيران رؤوف مرة أخرى...
قاطع صوت سهير أفكارها وهي تسألها:
ـ نورا.. ماذا يحدث؟.. ومن كان على الهاتف؟..
أجابتها نورا وما زالت ابتسامتها على شفتيها:
ـ أنه رؤوف سيأتي لاصطحابي بعد قليل.
ارتسمت خيبة الأمل على ملامح سهير:
ـ إذاً.. لن تبيتي هنا الليلة؟
ـ بالطبع.. لا.. ولا أنتِ أيضاً.. هيا اتصلي بزوجك كي يأتي لاصطحابك.
أعفى دخول شموس الغرفة سهير من الاجابة فحمدت ربها على ذلك وهي تسمع صوت أمها تنادي على شقيقتها:
ـ هيا يا نورا.. إن زوجك بالأسفل وهو في عجلة من أمره.
قفزت نورا بسرعة وهي تجذب حقيبتها حتى قبل أن تنهي أمها كلامتها.. وقبلت أمها وشقيقتها وهي تودعهما بسرعة.. وما أن خرجت نورا من الغرفة حتى أغلقت شموس الباب وتحركت لتجلس بجوار ابنتها على الفراش.. وأخذت تتأمل ملامحها الفاتنة التي كساها الحزن.. وسألتها برقة:
ـ سهير.. ماذا بكِ يا ابنتي؟.. ماذا يحدث معكِ؟..
هبت سهير بقوة قائلة:
ـ لا شيء.. لماذا لا تصدقوني!.. أنا بخير.
عادت شموس تسألها برقة مرة ثانية:
ـ ولم العصبية إذاً؟
أجابت سهير بحنق:
ـ لأنني سئمت من أسئلتكم التي لا أملك اجابة عنها..
لم تيأس شموس ولم تقتنع.. فهي أم.. وردارها الأمومي.. يخبرها أن ابنتها تكذب عليها.. وأن الأمور ليست بخير كما تدعي.. فعاودت محاصرة ابنتها مرة أخرى:
ـ سهير يا حبيبتي.. أنتِ ابنتي الكبرى.. أول من رأت العين وأول من أذاقتني معنى الأمومة.. هل تعتقدين أنني أصدق كلمات لسانك وأكذب عيني التي ترى التعاسة على ملامحك.. وقلبي الذي يشعر بالألم بين جنباتك..
لم تحتمل سهير الحنان في صوت أمها ولم تستطع المقاومة أكثر فألقت نفسها بين ذراعي أمها وهي تبكي بحرارة.. تفرغ حمولتها من الألم والحيرة والتشوش على صدر أمها الذي احتضنها بحنان واحتواء افتقدته بشدة..
ظلت شموس تضم ابنتها بقوة, تنتظر منها أن تهدئ ولكن طالت عبرات سهير ولم تصل حتى إلى بداية الهدوء وزاد ذلك من قلق شموس فسألتها بحذر:
ـ هل يسيء منذر معاملتك؟.. هل يضايقكِ بشيء؟..
نزلت دموع سهير أكثر عند سماعها اسم منذر وهي تتذكر كلامه لها في تلك الليلة وهو يطالبها بإعداد طعامه فذلك كل ما يبتغيه منها.. لحظة سماعها لعبارته تحركت بدون وعي لتعد له مائدة الطعام التي جلس أمامها يأكل في صمت ثم ما لبث أن رمى ما بيده من لقيمات وهو يبدي امتعاضه من الطعام:
ـ ما هذا؟.. هذا الطعام ماسخ جداً.. لقد ظننت أنكِ تجيدين الطهو على الأقل.. من الغد ترافقين أمي في المطبخ حتى تتقنين إعداد الطعام..
اجابته سهير بدهشة:
ـ ولكن عمتي قمر هي من أعدت ذلك الطعام بالفعل..
صاح بحنق:
ـ وأنتِ ماذا تفعلين طوال اليوم؟.. ومتى تبدأين في التصرف كزوجة وربة منزل؟..
تيقنت سهير أنها واحدة من تلك الليالي التي يحاول فيها افتعال أي شجار معها.. وكعادتها بدلاً من محاولة مهادنته انفعلت عليه وصاحت به:
ـ يبدو أنك تتعذر بأي شيء بحثاً عن شجار
رمقها بنظرة خاصة وصمت قليلاً ثم قال:
ـ لست أنا من يبحث عن الأعذار...
فهمت ما يريد قوله فأخفضت وجهها أرضاً وهي تغمغم بحرج:
ـ منذر.. أنا..
قاطعها بسؤاله:
ـ ماذا يحدث يا سهير؟.. هل آذيتك في شيء؟..
سارعت بالنفي:
ـ كلا.. كلا..
سألها بألم:
ـ هل كان حلم؟.. سراب؟.. هل كنا نتوهم؟..
شهقت بالبكاء وهي تحرك رأسها نفياً:
ـ منذر.. أنا أحبك.. أقسم لك
صاح بها:
ـ إذاً.. لماذا يا سهير؟.. لماذا تعذبينا معاً؟..
تلعثمت في كلماتها وهي تقترب منه.. فسارع بضمها لصدره:
ـ منــذر.. أنــاااا
لكنه قطع ما تريد قوله بقبلات ساخنة أغدقها عليها.. فهو اشتاق لها بقوة.. يحتاجها ويريدها أن تفهم ذلك.. وهي استكانت بين ذراعيه كعادتها وهي تأمل بكل قوة أن تكون تلك المرة مختلفة... ولكن.. بعد أن هدأ كل شيء.. اكتشفت أنه.. لا شيء تغير.. لا شيء...
تنبهت من شرودها على حركة اصابع امها وهي تملس شعرها برقة وتعاود سؤالها باصرار:
ـ هل يسيء منذر معاملتك يا سهير؟
ابتعدت عن أحضان أمها وهي تتحرك لتخفي عنها وجهها الذي احمر بوضوح معلناً عن كذبها:
ـ كلا.. يا أمي.. أنا ومنذر في خير حال.. في الواقع يجب أن اتصل به الآن حتى يأتي ليصطحبني..
لكن شموس لم تقتنع.. ولفت ابنتها لتواجهها:
ـ على من تكذبين؟.. يا سهير؟؟.. وما سبب ذلك البكاء إذاً؟
تلعثمت سهير وهي تقذف بأول اجابة:
ـ لا شيء يا أمي.. أنا فقط افتقدكم بشدة.. وافتقد منزلنا ونورا ونادية وكل شيء..
لم تكن تكذب عندما قالت ذلك.. فهي تفتقد منزلها بشدة.. وفي نفس الوقت تشعر أنه لم يعد منزلها.. كم هذا غريب أن يتحول المنزل الذي ضمك لأكثر من عشرين عاماً إلى مكان تعامل فيه كضيف.. وبرغم شعورك بالإنتماء له إلا أنك تشعر أن ولاؤك يتحول بدون أن تدري إلى منزل آخر.. ومكان آخر..
لذا فقد تناولت هاتفها بهدوء واتصلت بمنذر ليأتي ويصطحبها إلى.... منزلها... الجديد.
أما في سيارة رؤوف فكانت نورا تكاد تتنفس غضبه الذي يبدو واضحاً في كل حركاته وسكناته.. شعرت بالخوف قليلاً من مظهره العابس.. إلا أنها أغمضت عينيها تسترجع بعض لحظاتهما الخاصة.. تستمد منها بعض القوة حتى تستطيع مواجهة أعاصير غضبه التي تعلم أنها ستنطلق ما أن يصلا إلى المنزل.. لا تنكر سعادتها الخفية رغم خوفها, فغضبه هذا ينفي ادعاءه الكاذب باللامبالاة والجفاء طوال تلك الأسابيع الماضية..
تقسم أنه لو كان وافق على قضائها الليلة في بيت والدها لكانت أحالت حياته جحيماً عن حق.. لكنه باستجابته السريعة لرسالتها وإصراره على اصطحابها بنفسه أثبت أنه يهتم فعلاً.. يهتم بوجودها تحت سقف منزله.. وهذه نقطة قد تبدأ منها.. فقط لو منحها الفرصة..
حانت منها التفاتة خفية نحوه ولاحظت انقباض ملامحه بشدة.. هل يعقل أن كل ذلك الغضب بسبب رسالتها؟..
لاحظ رؤوف نظراتها المختلسة له وشعر بخوفها من غضبه, حركاتها المتململة وعبثها بكفيها مع سرعة أنفاسها أعلمته بمدى توترها..
اراد طمأنتها.. اخبارها ألا تخاف منه.. لكن أفكاره كانت تعصف بشدة بين كلمات نعمات له وتأكيده لها أن نورا لا تأثر عليه اطلاقاً وبين الغضب الجارف الذي شعر به عندما وصلته رسالتها لتخبره برغبتها في المكوث مع شقيقتها.. عندما شعر أنها تريد أن تحرمه منها.. من وجودها.. من إحساسه أنها معه بنفس المكان...
كانا قد وصلا إلى منزلهما فترجلت بسرعة من السيارة.. ولكنه لحقها ليتمسك بذراعها ويدخلا معا تحت بصر نعمات التي كانت تنتظره في شرفتها فاغرورقت عينيها بالدموع وهي تراه يتمسك بنورا كالطفل الذي عثر على أمه بعد عناء.. فشعرت أنها كما خسرت رؤوف الزوج فهي في طريقها لتخسر رؤوف الابن الذي بدأ يخترق شرنقة الحب الأمومي الذي أحاطته به ساعياً لفرض سيطرته على زوجته.. لبسط قوامته على امرأته..
دخل رؤوف إلى جناحهما وهو ما زال يتمسك بذراعها بقوة, رغم أنها آلمتها إلا أنها أسعدتها.. ولكنها أخفت تلك السعادة بسرعة وهي تستعد لمواجهته:
ـ رؤوف.. لماذا تصرفت بتلك الطريقة؟.. فأنت لم تدع لي فرصة لمناقشتك عندما هاتفتني.. لقد أغلقت الخط مباشرة.. لقد كنت أرغب حقاً في البقاء مع سهير.. كنا على وشك التخطيط لسهرتنا الليلة.
ضغط رؤوف على اسنانه بشدة:
ـ نورا.. أرجوكِ.. أنا لست أبله.. ولا أنتِ.. وأنتِ متأكدة تماماً أنني ما كنت أسمح لكِ بقضاء الليلة خارج البيت.
سألته ببراءة كاذبة وهي ترمش بعينيها:
ـ لماذا؟.. فأنا كنت سأقضيها وحيدة كالعادة؟..
سأل بحدة:
ـ إذاً.. ذلك كان عقابك لي؟..
استمرت في ادعاء البراءة:
ـ عقاب!!.. لماذا تظن ذلك؟
لقد كانت تلعب لعبة ما.. ربما يكون غير مدرك لابعادها.. ولكن أي لعبة يمكن لاثنين أن يلعباها.. فسألها بنعومة:
ـ أعتقد أنكِ غاضبة لمكوثي في الطابق العلوي في الفترة الماضية أليس كذلك؟..
أغاظها رده فاندفعت تهاجمه:
ـ وماذا يغضبني؟.. فأنت على ما يبدو أصبحت تفضل الهياكل العظمية.. بدلاً من الدُمى..
اشعلت كلماتها غضبه بسرعة البرق.. فالتمعت عينيه بقسوة وغضب وتكورت قبضتيه معاً وهو يشد عليهما بقوة حتى ظنت أنه سوف يضربها بالفعل عقاباً على كلماتها الوقحة.. بينما تسمرت قدماها في الأرض بانتظار أن يقع عليها عقابه كيفما كان, انطلقت اصوات رنين هاتفه وهاتفها وهاتف المنزل كأنما جميع هواتف العالم قد تواطئت معاً حتى تعفيها مما كان سيلحقه بها..
تجمد رؤوف عندما سمع رنين الهواتف وغمغم بخفوت:
ـ جدي!!!
*************
تجمع جميع افراد العائلة حول الطبيب الذي خرج لتوه من غرفة العناية الفائقة وهو يسحب القناع الطبي للأسفل حتى يمكنه الحديث مع هذا الجمع القلق الذي اخترقه رؤوف بسهولة وهو يواجه الطبيب مستفسراً:
ـ كيف حال الحاج عبد الرؤوف الآن؟
سأله الطبيب بهدوء:
ـ هل أنت ابنه؟..
ـ كلا.. أنا حفيده
أجاب الطبيب بروتينية:
ـ المريض في حالة خطرة.. عندما وصل, أظهرت التحاليل وجود جلطة صغيرة في القلب.. لقد تمكنا من إذابتها والحمد لله.. لكن الأربع والعشرين ساعة القادمة حرجة.. فلندعو الله أن تمر بسلام, وبعدها نرى ماذا ستكون الخطوة القادمة..
سأله رؤوف بصوت متحشرج:
ـ هل سيكون بخير؟..
ـ إنه رجل عجوز قوي.. وأنا أتوقع أن ينجو بإذن الله..
ثم وجه كلماته لجميع الموجودين:
ـ يفضل أن تذهبوا إلى المنزل.. أو حتى تنتظروا بالكافيتريا.. فوقفوكم هنا لا داعي له..
قال الطبيب كلماته وابتعد عنهم.. فتصاعدت أصواتهم وهمهماتهم.. فارتفع صوت رؤوف ليسكتهم وهو يشرح لهم ما قاله الطبيب بالتفصيل ويطلب منهم الذهاب للمنزل.. ولكنه قوبل باعتراض الجميع وأولهم عمته قمر التي تجمدت دموعها في عينيها وهي تقول:
ـ لن أبرح مكاني حتى يفيق أبي واطمئن عليه..
تعالت الأصوات توافقها.. بينما رؤوف يحاول اسكاتهم ونورا تراقبه عن بعد.. وهو يحاول السيطرة على الموقف واحتواء الجميع..
فلمحت عمتها تقترب منه لتتأكد وتطمئن على صحة عبد الرؤوف:
ـ رؤوف.. هل سيكون بخير فعلاً؟.. هل ننقله إلى القاهرة أو حتى يمكن أن يسافر للخارج؟؟
طمأنها رؤوف:
ـ لا تقلقي يا عمتي.. فلندعو أن تمر الساعات القادمة.. ثم نفكر في القادم.. كما قال الطبيب
ثم ربت على كتفها:
ـ لا تقلقي.. لو تطلب الأمر أن آتي له بأكبر وأشهر اطباء القلب سآتي له بهم..
اقتربا منذر وقاسم منه وأخذا يتهامسا معه لينسق معهما خطط العمل لليوم التالي:
ـ رؤوف.. هل نلغي اجتماع الغد؟.. أم نؤجله.. أم..
قاطع رؤوف استرسال منذر:
ـ كلا.. لن نؤجل شيء.. سيتم كل شيء.. وسيتم توقيع العقد بأمر الله
ثم رأته يقترب من ابيها المتكئ على جدار غرفة العناية يتأمل في صمت الاجهزة المتصلة بجسد جدها, فيربت على كتفه بهدوء ويخبره بصوت متكسر:
ـ سينجو.. إن شاء الله سينجو..
أومأ والدها بصمت حزين وعيناه مازالت شاخصة نحو الغرفة.. فظهر تأثر رؤوف وقلقه رغماً عنه, ثم شعرت بحركة خفيفة بجانبها فانتبهت أن نعمات تتحرك متوجهة نحو رؤوف فتبعتها بدون إرادة لتسمعها تحدثه وهي تضغط على كتفع بمؤازرة واضحة:
ـ تجلد يا رؤوف.... فالكل يعتمد عليك.. فحاول السيطرة على قلقك.
أومأ رؤوف يوافقها.. ثم أغمض عينيه للحظات قليلة وهو يخبرهما:
ـ سأذهب إلى الحسابات لأترك بعض المبالغ المالية..
سارعت نورا تجاوبه:
ـ سآتي معك..
وتحركت بسرعة ترافقه حتى لا تدع له فرصة للاعتراض..
بعد أن أنهى المعاملات المالية مع قسم الحسابات في المستشفى.. تعلقت بذراعه وهي تسأله:
ـ أين ستذهب؟..
أجابها بسخرية تقريباً:
ـ إلى أين تعتقدين؟.. سنعود لنكون بجوار جدي..
كانت طوال الوقت الذي أخذه في انهاء المعاملات المالية تفكر في طريقه لتبعده عن الجمع المتحلق حول جدها.. فالكل واحد منهم يطالبه بشيء ما.. ولم يهتم أي منهم بالاطمئنان عليه هو.. كيف يشعر؟.. كيف يفكر؟.. وهو يرى الأب الوحيد الذي يعرفه يضيع منه؟.. وهو يفقد الأب للمرة الثانية؟..
لذا فقد اقترحت عليه بسرعة:
ـ ما رأيك أن تأتي معي لبيت جدي حتى أحضر له بعض الاشياء التي سيحتاجها عندما يفيق بإذن الله؟..
اجابها بتبرم:
ـ نورا.. ليس هذا الوقت المناسب.. يمكنك الذهاب مع عمتي لاحقاً.
أصرت على موقفها:
ـ ولكنك أكثر من يعرف ما الذي يحتاجه جدي... وما يرغب بأن يراه عندما يستفيق.. هيا.. لن نتأخر..
عارضها مرة اخرى:
ـ نورا.. لكن.. لا أستطيع تركهم والذهاب هكذا
اجابته بلهجة مقنعة:
ـ لن نتأخر.. الموضوع لن يستغرق دقائق.. كما يمكننا أيضاً تجميع كل التحاليل والآشعة السابقة الخاصة بجدي.. قد يحتاجون إليها لاحقاً..
اقتنع بكلامها الذي وافق شعوراً بداخله يحثه على الهرب من المستشفى وما تمثله من خطوة على الطريق لفقدان وحرمان جديد...
وصلا سريعاً إلى قصر الجيزاوي.. وتحرك رؤوف متوجهاً نحو غرفة جده بينما سألته نورا:
ـ هل أعد لك قدح من القهوة, حتى تنتهي من جمع أشياء جدي؟
اجابها بامتنان:
ـ سيكون ذلك رائعاً.. شكراً لكِ.
توجه إلى غرفة جده بخطوات سريعة سرعان ما تباطئت أمام غرفة جده وهو يفتحها ببطء وتردد كأنه لا يستطيع تصديق أنه لن يجده خلف ذلك الباب.. لن يستقبله بتلك النظرة المتفحصة التي تصل لأعماقه وتكشف ما بداخله بسهولة.. قد لا يكون أغدق عليه الحنان أو أسرف في بثه عواطفه.. ولكنه الأب الوحيد الذي امتلكه يوماً.. ربما لم يشعر عند وفاة والده بقسوة تلك اللحظة فلقد كان أصغر سناً من أن يدرك ذلك الحزن.. ولكن ان يفقد جده الآن, يشعر أن ذلك يدمره.. يفقده توازنه.. يدخله في دائرة حرمان جديدة.. احساس جديد بالفقد.. ودوامة أخرى من المشاعر..
أعدت نورا قدح القهوة كما يحبها رؤوف وتوجهت نحو غرفة جدها لتجده واقفاً في نافذة الغرفة شارداً عما حوله ويقبض بشدة على مسبحة الجد وكأنه يستدعيه من خلالها..
وضعت قدح القهوة على إحدى الموائد الجانبية وتوجهت لتقف خلفه وتلف ذراعيها حوله تضمه لها بقوة وهي تهمس:
ـ سيكون بخير.. سيكون بخير..
وافقها بإيماءة بسيطة من رأسه وهو يضم نفسه لها فأحكمت ذراعيها حوله وهي تسأله:
ـ هل أنت بخير؟.. كيف تشعر؟..
أجاب بخفوت:
ـ لا أعلم..
عادت لتسأله:
ـ هل الأمر بتلك الصعوبة؟.. أن تعبر عما تشعر به.. عما يجول بداخلك؟..
لم يجبها فضغطت على صدره تطالبه بمواجهتها.. وهي تجيبه عن سؤالها:
ـ شعورك بالخوف والقلق من فقدان جدي لا يقلل من هيبتك.. ولا يضعف من شخصيتك..
أدارت جسده وهو مازال بين ذراعيها حتى أصبح في مواجهتها فلمحت ملامح وجهه المنقبضة والقلق العاصف المختلط بشعور بالضياع ولأول مرة تلمحه في عينيه.. لم تعرف كيف تتصرف.. فخبرتها في الحياة لم تؤهلها للتعامل مع موقف بهذا التعقيد فقررت اتباع غريزتها تلك التي أخبرتها أنها يجب عليها أن تمنحه الراحة والأمان.. فضمته بقوة وهي تلف ذراعيها حول عنقه:
ـ حبيبي.. من غير الممكن أن تظل قوياً طوال الوقت.. يجب أن تسمح لنفسك بقليل من الخوف والقلق.. والحزن.. لا تحرم نفسك من الإحساس بتلك المشاعر الإنسانية..
ضمها بقوة وهو يرفعها بين ذراعيه ويهبط بها على الفراش.. يضم نفسه اليها ويخفي وجهه في صدرها وبينما هي تمرر أصابعها على خصلات شعره بحنان شعرت بدموعه تجري ساخنة على صدرها..
دخلت نعمات إلى غرفة المكتب الخاصة برؤوف, فهو يحبس نفسه بها معظم الوقت, لكنها وجدته يجمع بعض الأوراق في حقيبته الجلدية الأنيقة.. فعلمت أنه في طريقه للخارج وزاد هذا من عصبيتها التي انعكست على كلماتها وهي تسأله:
ـ رؤوف.. أريد أن أحادثك في أمر هام.
أجابها وهو ما زال مستمر في تجميع أوراقه:
ـ ليس الآن يا نعمات.. فأنا في طريقي للخارج.
ردت نعمات بسخرية:
ـ بالطبع.. فأنت لا تحتمل المكوث في المنزل وهي غير موجودة به.
رفع عينيه إليها بتساؤل عما وراء كلماتها.. فأردفت:
ـ لا تنظر إليّ هكذا.. فهذا ما أراه, بمجرد خروجها لزيارة أمها أو شقيقتها تنطلق أنت أيضاً خارج المنزل وكأنك لا تحتمل البيت بدونها!!
ترك رؤوف الأوراق من يده وهو يستشعر جدية الموقف وعصبية نعمات التي ظهرت في كلماتها :
ـ نعمات.. اهدئي قليلاً.. أنا لدي موعد عمل بالفعل.. وما تقولينه هو بلا معنى..
قال آخر كلماته بصوت خافت فهو مدرك أنه كاذب.. فكلماتها تحمل بعض الصدق فهو أصبح لا يطيق المكوث في مكان ونورا ليست به, رغم أنه لا يقترب منها أو حتى يتبادل أي حوار معها منذ حوارهما الأخير ولكنه يكتفي بالشعور بها معه في المكان نفسه..
صاحت نعمات به بعد أن رمقته بغيظ:
ـ بلا معنى!!.. الآن أصبحت كلماتي بلا معنى!!.
أجابها بهدوء:
ـ أنا آسف لم أقصد التقليل منكِ, ولكن..
قاطعته بعصبية:
ـ دعني أقول ما أتيت لقوله.. أظن أنه كما شُرِع لك تعدد الزوجات, فقد أُمرت بالعدل.. أليس كذلك؟..
رمقها رؤوف بحيرة.. فقد تشوش عقله.. ما الذي تريده؟.. هل تلومه على مكوثه الشهر الماضي بغرفتها؟.. هل أتت لتحثه على البقاء مع نورا؟..
فسألها بحيرة:
ـ ماذا تقصدين يا نعمات؟.. أنا لا أفهم..
أجابته بحدة:
ـ ما الذي لا تفهمه؟.. أنا أطالبك أن تعدل بيني وبين ابنة عمك.
غمرته الحيرة مرة أخرى فهو غير واثق مما تريده نعمات.. هل فعلاً تطالبه بالمكوث مع نورا وقت أطول.. فسألها بذهول:
ـ هل تطالبيني بالبقاء مع نورا لوقت أطول؟..
صرخت بفزع:
ـ كلا بالطبع..
ـ إذاً ماذا تقولين؟.. أنا لم أتركك لليلة واحدة طوال الشهر الماضي... ماذا تريدين بالضبط؟
ابتلعت غصتها بمرارة وهي تقول:
ـ أريدك أن تراعي مشاعري.. أن تحافظ على كرامتي..
سألها بحدة:
ـ هل أخطأت نورا في حقك؟
صاحت ودموعها بدأت تنهمر على وجنتيها:
ـ كلا.. أنت من فعلت.
صعق من اجابتها:
ـ أنا!!!!... كيف؟.
حاولت تتحكم في دموعها ولكنها أصرت على معاندتها وهي تتسابق على وجنتيها:
ـ لا أنكر وجودك معي طوال الفترة الماضية.. ولكن من كان معي هو خيال رؤوف.. وليس رؤوف.. فأنت شارد طوال الوقت.. أحدثك فلا تستمع إليّ.. اقترب منك, فتبتعد أميال... حتى وأنت.. ونحن...
لم تستطع اكمال كلماتها فغصت بشهقات بكائها الذي صدمه.. فاقترب منها ليحتضنها ويحاول تهدئتها.. كانت على حق.. فهو غائب بأفكاره دائماً مع سمرائه.. كان يتواجد مع نعمات بجسده فقط.. ولكن أفكاره وخياله معها هي.. لم يدرك أن نعمات شعرت بذلك فلقد ظن أنه يخفي ذلك جيداً.. ولكن على ما يبدو أنه كان على خطأ.. وسبب الأذى لنعمات بدون قصد.. وهي لا تستحق ذلك أبداً.. ليس بعد كل احتوائها له وحنانها الذي لا ينكره يكون جزائها جرحه لها بتلك الطريقة..
زاد من احتضانها وهو يربت على ظهرها برقة.. وقال لها وهو يعلم بأنه مسترسل في الكذب:
ـ اهدئي يا نعمات.. ولا تسلمي عقلك للظنون.. قد أبدو شارداً في الفترة الأخيرة ولكن ذلك بسبب مشكلات عديدة في العمل.. فغيابي أنا ومنذر معاً تسبب في تراكم الأعمال.. وظهور مشكلات عدة.. كما أن صحة جدي ليست على ما يرام هذه الأيام مما يسبب لي القلق الشديد.. نورا ليست لها علاقة بأي مما يحدث لي..
صمت قليلاً وهو يتمنى أن تصدق كذبته.. ولكنها دفعته عنها بقوة:
ـ هل تخدعني أو تخدع نفسك يا رؤوف؟.. انظر.. أنا لا أعلم ماذا يدور بينك وبين ابنة عمك.. ولا أريد أن أعلم.. كل ما أطلبه هو أن تحافظ على كرامتي.. فلا تشعرني أنك تستخدمني كدرع تختفي خلفه من مشاعـ.. من مشاكلك مع تلك الفتاة..
سكتت قليلاً عندما أدركت أنها في غمرة انفعالها كادت أن تنبهه إلى امتلاكه مشاعر بالفعل لفتاته الصغيرة.. ولكنها فوجئت بعبارته الغاضبة:
ـ نعمات.. تلك الفتاة هي زوجتي.. وهي تملك اسم كما تعلمين.. وكما أخبرتك من قبل.. نورا لا علاقة لها بأي مما أمر به.. وأنا لا أكن لها مشاعر حب كما تظنين.. فأنتِ تعلمين جيداً رأيي بتلك الأمور..
فوجئت بحدته وغضبه وأدركت أن ما شعرت به هو حقيقة لا جدال فيها.. فرؤوف عاشق لابنة عمه.... وهي.. هي لم يتبق أمامها إلا أن تحتفظ بالبقعة الصغيرة التي تشغلها في حياته.. هذا إذا سمح لها بذلك.. فأخذت عدة انفاس تهدئ بها انفعالها:
ـ رؤوف..أ لن أطالبك بمشاعر أو عواطف.. فقط أريد بعض الاحترام.. وهذا أقل ما استحق بعد هذه السنوات..
مسح رؤوف وجهه بين كفيه.. يشعر بضيق في صدره.. أنفاسه لا تريد أن تخرج.. كل ما حوله يطبق عليه.. يريد ان يصرخ..
"ماذا بكم جميعاً؟.. ماذا تريدون مني؟.. حب؟.. مشاعر؟.. احاسيس؟.. احترام؟.. كبرياء وكرامة؟.. عمل؟.. شهرة؟.. محافظة على العائلة؟.. وريث؟.. ماااااااااذاااااا أفعل.. ماذا استطيع أن أفعل"
زفر بقوة وهو يقول لنعمات:
ـ اعتذر إن كنت اسأت إليكِ.. ولكن الأعمال كثيرة بالفعل.. وأنا مضطر للخروج الآن..
ألقى كلماته وسحب حقيبة أوراقه ليخرج سريعاً.. تاركاً نعمات خلفه ودموعها لم تجف.. وكرامتها مشوهة بجروح غائرة.. فلقد لمست حبه لنورا.. لقد شعرت به يحاول الهروب وعدم الاعتراف بمشاعره تلك.. ولكنها ليست زوجته فحسب, فهو ابنها الذي لم تنجبه.. ومن تشعر بقلب الابن المدله في الحب إلا أمه..
***************
جلست نورا برفقة سهير في غرفتهما القديمة تحاول معرفة ماذا أصاب شقيقتها وسلب الضحكة من عينيها.. ولكن سهير كانت مصرة على أنها بخير وأن نورا تتوهم ليس إلا..
صاحت بها نورا بحنق:
ـ لا تخبريني أنني أتوهم.. بحق الله هل هذا مظهر عروس تزوجت من حبيب طفولتها؟..
اجابتها سهير بسخرية:
ـ وما به مظهري؟.. هل يجب أن أحمل لافتة أصرح بها عن سعادتي وامتناني لزواجي من منذر!!
سألتها نورا بعجب:
ـ سهير.. لم أعهدك ساخرة.. للمرة المائة, ماذا بكِ؟
أجابتها سهير:
ـ للمرة المائة أخبرك.. لا شيء..
ثم أردفت قبل أن تقاطعها نورا:
ـ ما رأيك لو نقضي الليلة هنا في غرفتنا القديمة؟.. نسهر ونثرثر معاً حتى الفجر, كما الأيام الخوالي.
صاحت بها نورا:
ـ هل أنتِ مجنونة؟!!... أنتِ عروس لم يمر على زواجك شهرين, وتريدين أن تقضي الليلة بعيداً عن زوجك!!.. هل...
قطعت نورا كلماتها وهي تفكر قليلاً ثم التمعت عينيها بشقاوة وهي تسحب هاتفها لتعبث بأزراره قليلاً.. ثم أغلقته وهي تبتسم بخبث وتتمتم:
ـ حسناً يا سيد "حياة هادئة ومستقرة" لنرى ماذا ستفعل الآن!!
سألتها سهير بعجب:
ـ نورا!!.. ماذا تفعلين؟.. وبم تتمتمين؟..
أجابتها نورا بهدوء:
ـ لقد أرسلت رسالة لرؤوف أخبره أنني سأقضي الليلة معكِ..
صاحت سهير:
ـ كيف؟.. وكلمات التقريع التي اسمعتني اياها منذ قليل و..
قاطع كلامها رنين الهاتف الخاص بنورا, فالتقطته وهي تبتسم ابتسامة غامضة وترفعه على أذنها لتسمع صوته يقول بحزم غاضب:
ـ سآتي لأصطحبك بعد نصف ساعة.. كوني مستعدة.
ثم أغلق الخط بدون أن يسمع منها أي رد..
اتسعت ابتسامة نورا وهي تنظر للهاتف بانتصار, فهو كان غاضباً.. نعم تستطيع ان تلمس الغضب في صوته برغم محاولته اخفاءه.. أخيراً حصلت منه على رد فعل واستطاعت ان تخدش غلاف الهدوء والجفاء الذي غلف نفسه به منذ تلك المحادثة الأخيرة بينهما والتي أراد بها وضع أطر لعلاقتهما.. وقد مر عليها أكثر من ثلاث أسابيع ولم يخطو بقدمه داخل جناحها, بل أنه عاد للجفاء والعبوس كما لو أنه يعاقبها لاصرارها على حبه..
وكأنه ينتظرها لتسحب اعترافها.. وهي لا تنكر أنها تنتظره أن يصرح بحبه.. حسناً.. هي لن تتراجع ولكنها تدرك شغفه بها وتعرف كيف تستعيد ذلك الشغف وتشعل نيران رؤوف مرة أخرى...
قاطع صوت سهير أفكارها وهي تسألها:
ـ نورا.. ماذا يحدث؟.. ومن كان على الهاتف؟..
أجابتها نورا وما زالت ابتسامتها على شفتيها:
ـ أنه رؤوف سيأتي لاصطحابي بعد قليل.
ارتسمت خيبة الأمل على ملامح سهير:
ـ إذاً.. لن تبيتي هنا الليلة؟
ـ بالطبع.. لا.. ولا أنتِ أيضاً.. هيا اتصلي بزوجك كي يأتي لاصطحابك.
أعفى دخول شموس الغرفة سهير من الاجابة فحمدت ربها على ذلك وهي تسمع صوت أمها تنادي على شقيقتها:
ـ هيا يا نورا.. إن زوجك بالأسفل وهو في عجلة من أمره.
قفزت نورا بسرعة وهي تجذب حقيبتها حتى قبل أن تنهي أمها كلامتها.. وقبلت أمها وشقيقتها وهي تودعهما بسرعة.. وما أن خرجت نورا من الغرفة حتى أغلقت شموس الباب وتحركت لتجلس بجوار ابنتها على الفراش.. وأخذت تتأمل ملامحها الفاتنة التي كساها الحزن.. وسألتها برقة:
ـ سهير.. ماذا بكِ يا ابنتي؟.. ماذا يحدث معكِ؟..
هبت سهير بقوة قائلة:
ـ لا شيء.. لماذا لا تصدقوني!.. أنا بخير.
عادت شموس تسألها برقة مرة ثانية:
ـ ولم العصبية إذاً؟
أجابت سهير بحنق:
ـ لأنني سئمت من أسئلتكم التي لا أملك اجابة عنها..
لم تيأس شموس ولم تقتنع.. فهي أم.. وردارها الأمومي.. يخبرها أن ابنتها تكذب عليها.. وأن الأمور ليست بخير كما تدعي.. فعاودت محاصرة ابنتها مرة أخرى:
ـ سهير يا حبيبتي.. أنتِ ابنتي الكبرى.. أول من رأت العين وأول من أذاقتني معنى الأمومة.. هل تعتقدين أنني أصدق كلمات لسانك وأكذب عيني التي ترى التعاسة على ملامحك.. وقلبي الذي يشعر بالألم بين جنباتك..
لم تحتمل سهير الحنان في صوت أمها ولم تستطع المقاومة أكثر فألقت نفسها بين ذراعي أمها وهي تبكي بحرارة.. تفرغ حمولتها من الألم والحيرة والتشوش على صدر أمها الذي احتضنها بحنان واحتواء افتقدته بشدة..
ظلت شموس تضم ابنتها بقوة, تنتظر منها أن تهدئ ولكن طالت عبرات سهير ولم تصل حتى إلى بداية الهدوء وزاد ذلك من قلق شموس فسألتها بحذر:
ـ هل يسيء منذر معاملتك؟.. هل يضايقكِ بشيء؟..
نزلت دموع سهير أكثر عند سماعها اسم منذر وهي تتذكر كلامه لها في تلك الليلة وهو يطالبها بإعداد طعامه فذلك كل ما يبتغيه منها.. لحظة سماعها لعبارته تحركت بدون وعي لتعد له مائدة الطعام التي جلس أمامها يأكل في صمت ثم ما لبث أن رمى ما بيده من لقيمات وهو يبدي امتعاضه من الطعام:
ـ ما هذا؟.. هذا الطعام ماسخ جداً.. لقد ظننت أنكِ تجيدين الطهو على الأقل.. من الغد ترافقين أمي في المطبخ حتى تتقنين إعداد الطعام..
اجابته سهير بدهشة:
ـ ولكن عمتي قمر هي من أعدت ذلك الطعام بالفعل..
صاح بحنق:
ـ وأنتِ ماذا تفعلين طوال اليوم؟.. ومتى تبدأين في التصرف كزوجة وربة منزل؟..
تيقنت سهير أنها واحدة من تلك الليالي التي يحاول فيها افتعال أي شجار معها.. وكعادتها بدلاً من محاولة مهادنته انفعلت عليه وصاحت به:
ـ يبدو أنك تتعذر بأي شيء بحثاً عن شجار
رمقها بنظرة خاصة وصمت قليلاً ثم قال:
ـ لست أنا من يبحث عن الأعذار...
فهمت ما يريد قوله فأخفضت وجهها أرضاً وهي تغمغم بحرج:
ـ منذر.. أنا..
قاطعها بسؤاله:
ـ ماذا يحدث يا سهير؟.. هل آذيتك في شيء؟..
سارعت بالنفي:
ـ كلا.. كلا..
سألها بألم:
ـ هل كان حلم؟.. سراب؟.. هل كنا نتوهم؟..
شهقت بالبكاء وهي تحرك رأسها نفياً:
ـ منذر.. أنا أحبك.. أقسم لك
صاح بها:
ـ إذاً.. لماذا يا سهير؟.. لماذا تعذبينا معاً؟..
تلعثمت في كلماتها وهي تقترب منه.. فسارع بضمها لصدره:
ـ منــذر.. أنــاااا
لكنه قطع ما تريد قوله بقبلات ساخنة أغدقها عليها.. فهو اشتاق لها بقوة.. يحتاجها ويريدها أن تفهم ذلك.. وهي استكانت بين ذراعيه كعادتها وهي تأمل بكل قوة أن تكون تلك المرة مختلفة... ولكن.. بعد أن هدأ كل شيء.. اكتشفت أنه.. لا شيء تغير.. لا شيء...
تنبهت من شرودها على حركة اصابع امها وهي تملس شعرها برقة وتعاود سؤالها باصرار:
ـ هل يسيء منذر معاملتك يا سهير؟
ابتعدت عن أحضان أمها وهي تتحرك لتخفي عنها وجهها الذي احمر بوضوح معلناً عن كذبها:
ـ كلا.. يا أمي.. أنا ومنذر في خير حال.. في الواقع يجب أن اتصل به الآن حتى يأتي ليصطحبني..
لكن شموس لم تقتنع.. ولفت ابنتها لتواجهها:
ـ على من تكذبين؟.. يا سهير؟؟.. وما سبب ذلك البكاء إذاً؟
تلعثمت سهير وهي تقذف بأول اجابة:
ـ لا شيء يا أمي.. أنا فقط افتقدكم بشدة.. وافتقد منزلنا ونورا ونادية وكل شيء..
لم تكن تكذب عندما قالت ذلك.. فهي تفتقد منزلها بشدة.. وفي نفس الوقت تشعر أنه لم يعد منزلها.. كم هذا غريب أن يتحول المنزل الذي ضمك لأكثر من عشرين عاماً إلى مكان تعامل فيه كضيف.. وبرغم شعورك بالإنتماء له إلا أنك تشعر أن ولاؤك يتحول بدون أن تدري إلى منزل آخر.. ومكان آخر..
لذا فقد تناولت هاتفها بهدوء واتصلت بمنذر ليأتي ويصطحبها إلى.... منزلها... الجديد.
أما في سيارة رؤوف فكانت نورا تكاد تتنفس غضبه الذي يبدو واضحاً في كل حركاته وسكناته.. شعرت بالخوف قليلاً من مظهره العابس.. إلا أنها أغمضت عينيها تسترجع بعض لحظاتهما الخاصة.. تستمد منها بعض القوة حتى تستطيع مواجهة أعاصير غضبه التي تعلم أنها ستنطلق ما أن يصلا إلى المنزل.. لا تنكر سعادتها الخفية رغم خوفها, فغضبه هذا ينفي ادعاءه الكاذب باللامبالاة والجفاء طوال تلك الأسابيع الماضية..
تقسم أنه لو كان وافق على قضائها الليلة في بيت والدها لكانت أحالت حياته جحيماً عن حق.. لكنه باستجابته السريعة لرسالتها وإصراره على اصطحابها بنفسه أثبت أنه يهتم فعلاً.. يهتم بوجودها تحت سقف منزله.. وهذه نقطة قد تبدأ منها.. فقط لو منحها الفرصة..
حانت منها التفاتة خفية نحوه ولاحظت انقباض ملامحه بشدة.. هل يعقل أن كل ذلك الغضب بسبب رسالتها؟..
لاحظ رؤوف نظراتها المختلسة له وشعر بخوفها من غضبه, حركاتها المتململة وعبثها بكفيها مع سرعة أنفاسها أعلمته بمدى توترها..
اراد طمأنتها.. اخبارها ألا تخاف منه.. لكن أفكاره كانت تعصف بشدة بين كلمات نعمات له وتأكيده لها أن نورا لا تأثر عليه اطلاقاً وبين الغضب الجارف الذي شعر به عندما وصلته رسالتها لتخبره برغبتها في المكوث مع شقيقتها.. عندما شعر أنها تريد أن تحرمه منها.. من وجودها.. من إحساسه أنها معه بنفس المكان...
كانا قد وصلا إلى منزلهما فترجلت بسرعة من السيارة.. ولكنه لحقها ليتمسك بذراعها ويدخلا معا تحت بصر نعمات التي كانت تنتظره في شرفتها فاغرورقت عينيها بالدموع وهي تراه يتمسك بنورا كالطفل الذي عثر على أمه بعد عناء.. فشعرت أنها كما خسرت رؤوف الزوج فهي في طريقها لتخسر رؤوف الابن الذي بدأ يخترق شرنقة الحب الأمومي الذي أحاطته به ساعياً لفرض سيطرته على زوجته.. لبسط قوامته على امرأته..
دخل رؤوف إلى جناحهما وهو ما زال يتمسك بذراعها بقوة, رغم أنها آلمتها إلا أنها أسعدتها.. ولكنها أخفت تلك السعادة بسرعة وهي تستعد لمواجهته:
ـ رؤوف.. لماذا تصرفت بتلك الطريقة؟.. فأنت لم تدع لي فرصة لمناقشتك عندما هاتفتني.. لقد أغلقت الخط مباشرة.. لقد كنت أرغب حقاً في البقاء مع سهير.. كنا على وشك التخطيط لسهرتنا الليلة.
ضغط رؤوف على اسنانه بشدة:
ـ نورا.. أرجوكِ.. أنا لست أبله.. ولا أنتِ.. وأنتِ متأكدة تماماً أنني ما كنت أسمح لكِ بقضاء الليلة خارج البيت.
سألته ببراءة كاذبة وهي ترمش بعينيها:
ـ لماذا؟.. فأنا كنت سأقضيها وحيدة كالعادة؟..
سأل بحدة:
ـ إذاً.. ذلك كان عقابك لي؟..
استمرت في ادعاء البراءة:
ـ عقاب!!.. لماذا تظن ذلك؟
لقد كانت تلعب لعبة ما.. ربما يكون غير مدرك لابعادها.. ولكن أي لعبة يمكن لاثنين أن يلعباها.. فسألها بنعومة:
ـ أعتقد أنكِ غاضبة لمكوثي في الطابق العلوي في الفترة الماضية أليس كذلك؟..
أغاظها رده فاندفعت تهاجمه:
ـ وماذا يغضبني؟.. فأنت على ما يبدو أصبحت تفضل الهياكل العظمية.. بدلاً من الدُمى..
اشعلت كلماتها غضبه بسرعة البرق.. فالتمعت عينيه بقسوة وغضب وتكورت قبضتيه معاً وهو يشد عليهما بقوة حتى ظنت أنه سوف يضربها بالفعل عقاباً على كلماتها الوقحة.. بينما تسمرت قدماها في الأرض بانتظار أن يقع عليها عقابه كيفما كان, انطلقت اصوات رنين هاتفه وهاتفها وهاتف المنزل كأنما جميع هواتف العالم قد تواطئت معاً حتى تعفيها مما كان سيلحقه بها..
تجمد رؤوف عندما سمع رنين الهواتف وغمغم بخفوت:
ـ جدي!!!
*************
تجمع جميع افراد العائلة حول الطبيب الذي خرج لتوه من غرفة العناية الفائقة وهو يسحب القناع الطبي للأسفل حتى يمكنه الحديث مع هذا الجمع القلق الذي اخترقه رؤوف بسهولة وهو يواجه الطبيب مستفسراً:
ـ كيف حال الحاج عبد الرؤوف الآن؟
سأله الطبيب بهدوء:
ـ هل أنت ابنه؟..
ـ كلا.. أنا حفيده
أجاب الطبيب بروتينية:
ـ المريض في حالة خطرة.. عندما وصل, أظهرت التحاليل وجود جلطة صغيرة في القلب.. لقد تمكنا من إذابتها والحمد لله.. لكن الأربع والعشرين ساعة القادمة حرجة.. فلندعو الله أن تمر بسلام, وبعدها نرى ماذا ستكون الخطوة القادمة..
سأله رؤوف بصوت متحشرج:
ـ هل سيكون بخير؟..
ـ إنه رجل عجوز قوي.. وأنا أتوقع أن ينجو بإذن الله..
ثم وجه كلماته لجميع الموجودين:
ـ يفضل أن تذهبوا إلى المنزل.. أو حتى تنتظروا بالكافيتريا.. فوقفوكم هنا لا داعي له..
قال الطبيب كلماته وابتعد عنهم.. فتصاعدت أصواتهم وهمهماتهم.. فارتفع صوت رؤوف ليسكتهم وهو يشرح لهم ما قاله الطبيب بالتفصيل ويطلب منهم الذهاب للمنزل.. ولكنه قوبل باعتراض الجميع وأولهم عمته قمر التي تجمدت دموعها في عينيها وهي تقول:
ـ لن أبرح مكاني حتى يفيق أبي واطمئن عليه..
تعالت الأصوات توافقها.. بينما رؤوف يحاول اسكاتهم ونورا تراقبه عن بعد.. وهو يحاول السيطرة على الموقف واحتواء الجميع..
فلمحت عمتها تقترب منه لتتأكد وتطمئن على صحة عبد الرؤوف:
ـ رؤوف.. هل سيكون بخير فعلاً؟.. هل ننقله إلى القاهرة أو حتى يمكن أن يسافر للخارج؟؟
طمأنها رؤوف:
ـ لا تقلقي يا عمتي.. فلندعو أن تمر الساعات القادمة.. ثم نفكر في القادم.. كما قال الطبيب
ثم ربت على كتفها:
ـ لا تقلقي.. لو تطلب الأمر أن آتي له بأكبر وأشهر اطباء القلب سآتي له بهم..
اقتربا منذر وقاسم منه وأخذا يتهامسا معه لينسق معهما خطط العمل لليوم التالي:
ـ رؤوف.. هل نلغي اجتماع الغد؟.. أم نؤجله.. أم..
قاطع رؤوف استرسال منذر:
ـ كلا.. لن نؤجل شيء.. سيتم كل شيء.. وسيتم توقيع العقد بأمر الله
ثم رأته يقترب من ابيها المتكئ على جدار غرفة العناية يتأمل في صمت الاجهزة المتصلة بجسد جدها, فيربت على كتفه بهدوء ويخبره بصوت متكسر:
ـ سينجو.. إن شاء الله سينجو..
أومأ والدها بصمت حزين وعيناه مازالت شاخصة نحو الغرفة.. فظهر تأثر رؤوف وقلقه رغماً عنه, ثم شعرت بحركة خفيفة بجانبها فانتبهت أن نعمات تتحرك متوجهة نحو رؤوف فتبعتها بدون إرادة لتسمعها تحدثه وهي تضغط على كتفع بمؤازرة واضحة:
ـ تجلد يا رؤوف.... فالكل يعتمد عليك.. فحاول السيطرة على قلقك.
أومأ رؤوف يوافقها.. ثم أغمض عينيه للحظات قليلة وهو يخبرهما:
ـ سأذهب إلى الحسابات لأترك بعض المبالغ المالية..
سارعت نورا تجاوبه:
ـ سآتي معك..
وتحركت بسرعة ترافقه حتى لا تدع له فرصة للاعتراض..
بعد أن أنهى المعاملات المالية مع قسم الحسابات في المستشفى.. تعلقت بذراعه وهي تسأله:
ـ أين ستذهب؟..
أجابها بسخرية تقريباً:
ـ إلى أين تعتقدين؟.. سنعود لنكون بجوار جدي..
كانت طوال الوقت الذي أخذه في انهاء المعاملات المالية تفكر في طريقه لتبعده عن الجمع المتحلق حول جدها.. فالكل واحد منهم يطالبه بشيء ما.. ولم يهتم أي منهم بالاطمئنان عليه هو.. كيف يشعر؟.. كيف يفكر؟.. وهو يرى الأب الوحيد الذي يعرفه يضيع منه؟.. وهو يفقد الأب للمرة الثانية؟..
لذا فقد اقترحت عليه بسرعة:
ـ ما رأيك أن تأتي معي لبيت جدي حتى أحضر له بعض الاشياء التي سيحتاجها عندما يفيق بإذن الله؟..
اجابها بتبرم:
ـ نورا.. ليس هذا الوقت المناسب.. يمكنك الذهاب مع عمتي لاحقاً.
أصرت على موقفها:
ـ ولكنك أكثر من يعرف ما الذي يحتاجه جدي... وما يرغب بأن يراه عندما يستفيق.. هيا.. لن نتأخر..
عارضها مرة اخرى:
ـ نورا.. لكن.. لا أستطيع تركهم والذهاب هكذا
اجابته بلهجة مقنعة:
ـ لن نتأخر.. الموضوع لن يستغرق دقائق.. كما يمكننا أيضاً تجميع كل التحاليل والآشعة السابقة الخاصة بجدي.. قد يحتاجون إليها لاحقاً..
اقتنع بكلامها الذي وافق شعوراً بداخله يحثه على الهرب من المستشفى وما تمثله من خطوة على الطريق لفقدان وحرمان جديد...
وصلا سريعاً إلى قصر الجيزاوي.. وتحرك رؤوف متوجهاً نحو غرفة جده بينما سألته نورا:
ـ هل أعد لك قدح من القهوة, حتى تنتهي من جمع أشياء جدي؟
اجابها بامتنان:
ـ سيكون ذلك رائعاً.. شكراً لكِ.
توجه إلى غرفة جده بخطوات سريعة سرعان ما تباطئت أمام غرفة جده وهو يفتحها ببطء وتردد كأنه لا يستطيع تصديق أنه لن يجده خلف ذلك الباب.. لن يستقبله بتلك النظرة المتفحصة التي تصل لأعماقه وتكشف ما بداخله بسهولة.. قد لا يكون أغدق عليه الحنان أو أسرف في بثه عواطفه.. ولكنه الأب الوحيد الذي امتلكه يوماً.. ربما لم يشعر عند وفاة والده بقسوة تلك اللحظة فلقد كان أصغر سناً من أن يدرك ذلك الحزن.. ولكن ان يفقد جده الآن, يشعر أن ذلك يدمره.. يفقده توازنه.. يدخله في دائرة حرمان جديدة.. احساس جديد بالفقد.. ودوامة أخرى من المشاعر..
أعدت نورا قدح القهوة كما يحبها رؤوف وتوجهت نحو غرفة جدها لتجده واقفاً في نافذة الغرفة شارداً عما حوله ويقبض بشدة على مسبحة الجد وكأنه يستدعيه من خلالها..
وضعت قدح القهوة على إحدى الموائد الجانبية وتوجهت لتقف خلفه وتلف ذراعيها حوله تضمه لها بقوة وهي تهمس:
ـ سيكون بخير.. سيكون بخير..
وافقها بإيماءة بسيطة من رأسه وهو يضم نفسه لها فأحكمت ذراعيها حوله وهي تسأله:
ـ هل أنت بخير؟.. كيف تشعر؟..
أجاب بخفوت:
ـ لا أعلم..
عادت لتسأله:
ـ هل الأمر بتلك الصعوبة؟.. أن تعبر عما تشعر به.. عما يجول بداخلك؟..
لم يجبها فضغطت على صدره تطالبه بمواجهتها.. وهي تجيبه عن سؤالها:
ـ شعورك بالخوف والقلق من فقدان جدي لا يقلل من هيبتك.. ولا يضعف من شخصيتك..
أدارت جسده وهو مازال بين ذراعيها حتى أصبح في مواجهتها فلمحت ملامح وجهه المنقبضة والقلق العاصف المختلط بشعور بالضياع ولأول مرة تلمحه في عينيه.. لم تعرف كيف تتصرف.. فخبرتها في الحياة لم تؤهلها للتعامل مع موقف بهذا التعقيد فقررت اتباع غريزتها تلك التي أخبرتها أنها يجب عليها أن تمنحه الراحة والأمان.. فضمته بقوة وهي تلف ذراعيها حول عنقه:
ـ حبيبي.. من غير الممكن أن تظل قوياً طوال الوقت.. يجب أن تسمح لنفسك بقليل من الخوف والقلق.. والحزن.. لا تحرم نفسك من الإحساس بتلك المشاعر الإنسانية..
ضمها بقوة وهو يرفعها بين ذراعيه ويهبط بها على الفراش.. يضم نفسه اليها ويخفي وجهه في صدرها وبينما هي تمرر أصابعها على خصلات شعره بحنان شعرت بدموعه تجري ساخنة على صدرها..