اخر الروايات

رواية قيد القمر الفصل الحادي عشر 11 بقلم نهي طلبة

رواية قيد القمر الفصل الحادي عشر 11 بقلم نهي طلبة


فصل الحادي عشر

كانت ترى نفسها.. طفلة صغيرة في العاشرة أو أكبر قليلاً.. تلعب في حديقة منزل الجدة الكبرى هكذا يلقبونها فهي تكون جدة أمها.. وهي ذات شخصية قوية ومسيطرة على من حولها.. كانت سهير تخشاها كثيراً وتطيع أوامرها بلا تردد.. حالها كحال الجميع.. حتى نورا بكل تمردها كانت تصبح كالحمل الوديع في حضرتها خوفاً من غضبها الذي سيليه عقابها القاسي لكل من يحاول مخالفة أوامرها...

وعن طريق خدم المنزل وزواره الكثر وصلت إلى أذنيها الهمسات والهمهمات التي فهمت منها أن أمها فقدت الطفل.. الصبي الذي تنتظره عائلة الجيزاوي وجدها عبد الرؤوف بالذات.. كانت تشعر بالخوف على أمها.. وبالحزن على شقيقها الذي توفي بدون أن تعرفه.. ولكن كان الشعور المسيطر عليها هو الرعب.. الرعب من غضب الجدة, إذا خالفت أحد أوامرها, أو أزعجتها بدون قصد..

وما تسبب في زيادة رعبها سماعها أن والدتها في حالة حرجة بالمشفى.. لذا تقرر إقامتها هي وشقيقتيها بصفة مؤقتة في بيت الجدة الكبرى.. حتى يتفرغ الجميع للعناية بوالدتها شموس..

فاعتادت أن تتلمس تلك الهمسات حتى تطمئن على حالة أمها.. ولكنها لاحظت اختلاف تلك الهمسات في ذلك اليوم مع ظهور لتلك السيدة صاحبة الوجه القاسي والتي تكاثرت التجاعيد على ملامحه فأضافت لها مظهراً مربكاً ومرعباً في نفس الوقت..

كانت ملامح تلك السيدة تسبب لها القشعريرة.. بينما نظراتها سببت لها رعباً لا حد له وهي ترمقها بإصرار أثناء تهامسها مع جدتها الكبيرة.. خاصة عندما حمل لها الهواء بعض كلماتهما والتي كانت تدور حولها وخاصة جمالها اللافت وأنوثتها التي بدأت تتفتح كبراعم الورود..

حاولت أن تتجاهلها وتستمر في لعبها ولكنها فوجئت بإحدى الخادمات تطلب منها الذهاب إلى الجدة..

تحركت سهير في تردد حتى وصلت لجدتها التي ربتت على كتفها وهي تخبرها أنها أصبحت فتاة كبيرة وجميلة.. ويجب عليها أن تطيع جدتها حتى تمنحها مكافأة كبيرة.. وطلبت منها أن تذهب مع الخادمة إلى الطابق الأعلى..

هنا.. تتحول الأحداث في ذهنها إلى ضباب.. أو هلوسات.. فكل ما يرسخ في ذهنها هو وجه تلك السيدة وهي تقترب منها وفي يدها شفرة.. مازالت تتذكر انعكاس الأضواء على نصلها الحاد.. محاولة يائسة منها للهروب.. صوت تلك السيدة الجاف يأمرها بالسكون وأيدي جدتها وخادمتها تثبتانها بإحكام.. صوت جدتها يأمرها مرة أخرى بالطاعة.. وآلام.. آلام حادة.. لم تفهم.. لم تدرك ماذا يحدث فلقد تعالى صراخها وتعالى.. وفجأة اقتحمت نورا التي جلبها صراخ أختها الغرفة وتعالت صراختها هي الأخرى وهي تصيح:

ـ لماذا تذبحون سهير؟..

لم تعرف سهير ماذا حدث بعد ذلك.. فهي فقدت وعيها من شدة الآلام.. ولكنها استيقظت لتجد نفسها على فراشها وفي غرفتها ووالدها بجوارها ودموعه تسيل وهو يقبل يديها ويمسح على شعرها وهو يتمتم لها بأن تسامحه..

رددت بوهن:

ـ أبي.. ماذا يحدث؟.. لماذا تريدني أن أسامحك؟

لثم يدها ودموعه استمرت في التساقط وهو يجيب:

ـ لأني لم أكن موجوداً لأجلك..

سألته بحيرة:

ـ ماذا تقصد يا أبي لست أفهم؟!

فأجابها بانكسار:

ـ لا شيء حبيبتي.. لقد مررت بكابوس سيء فحسب.

عاد مشهد تلك السيدة القاسية يهاجمها وهي تقترب بشفرتها الحادة.. فتعالى صراخها مرة أخرى..

فتحت سهير عينيها ورمشت بقوة تحاول اخراج عقلها من لجته السوداء.. وابعاد كابوسها المعتاد عن عينيها.. ذلك الكابوس الذي اعتادت عليه وتعايشت معه سنين طويلة, ولكنه ازداد حدة وبشاعة كلما اقترب موعد زفافها.. فكان يزيد من مخاوفها ويرفع من حالة الرعب التي كانت تعيش فيها من أن يتكرر انتهاك الأنثى بداخلها مرة أخرى.. تزايدت هواجسها ومخاوفها حتى انفجرت مرة واحدة في ليلة زفافها وتراءت لها الشفرة الحادة تقترب مع اقتراب منذر منها فكان أن انفجرت في وجهه تلك المخاوف والهواجس وتعالت صراختها وهي تدفعه عنها.. لم تستطع أن تفسر أو توضح ما أصابها.. وأسباب رعبها كلما اقترب منها.. حتى بادر هو بتقديم العصير الذي يحتوي على المهدئ.. ولكن حبيبها لم يطاوعه قلبه أن يخدعها فصارحها بما فعل, وحاول منعها من شرب العصير, وهنا كان قرارها بتحدي نفسها, فإن كانت غير قادرة على مواجهة مخاوفها ومصارحة منذر بما تشعر به فلتلجأ لحل آخر.. وهو تهدئة تلك المخاوف حتى يستطيع حبيبها الاقتراب منها وبثها حبه عله يقضي على تلك المخاوف.. وهو تقريباً ما حدث لقد هدأت مخاوفها نوعاً ما.. وسمحت لمنذر بالإقتراب منها وجعلها زوجته فعلاً.. وكان كلام منذر صحيحاً فلم يخدر المهدئ حواسها ولم يغيب إدراكها.. فكانت تستطيع الرفض والابتعاد في أي لحظة, لكنها قررت أن تتناسى مخاوفها قليلاً يساعدها على ذلك قرص المهدئ الذي تجرعته مع العصير لتمنح حبيبها ما يريده علها تعرف ذلك الشعور السرمدي التي كانت تصفه نورا لها بروعة وجودها بين ذراعي حبيبها.. تلك السحابة المخملية الناعمة التي سيصحبها لها حبيبها ويمنحها شعوراً بأنهما ينتميان لبعضهما فقط.. كانت تتساءل عن ذلك الشعور؟.. هل يوجد شيء خاطيء؟.. هل هي لا تحب منذر بما يكفي؟.. أم أن ذلك الشعور سوف يأتي لاحقاً.. فبعد كل شيء كانت تلك مرتها الأولى فحسب.. ولابد أن المهدئ قد أثر ولو قليلاً عليها.. هذا ما كانت تخبر نفسها وهي مستلقية بين ذراعي منذر تحاول ألا تصدر أقل حركة, حتى أنها حاولت التحكم في تنفسها حتى لا تتسبب في إيقاظه من نومه.. فهي لا تريد إعادة التجربة مرة أخرى.. ليس حالياً على الأقل.. تريد أن تنفرد بنفسها قليلاً قبل أن تواجهه...

انسلت بهدوء من بين ذراعي منذر وسحبت أول شيء وصلت له يديها لتلف جسدها به وتحركت إلى الحمام بسرعة وأغلقت بابه خلفها.. وفتحت الماء البارد وتركته ينهمر فوق رأسها..

لقد تساءلت كثيراً.. عن جدوى ما قامت به جدتها نحوها.. تعددت أسئلتها لوالدتها ووالدها وكانا دائماً ما يراوغان في الاجابة.. وكان ذلك يثير حيرتها وغضبها.. فهي تريد اجابة واضحة ومقنعة للأفكار التي تتصارع في عقلها, حتى أخبرتها أمها مرة أن جدتها فعلت ذلك بهدف حمايتها.. وحماية شرفها..

حركت سهير وجهها لتواجه المياه المنهمرة والتي تضرب وجهها بعنف وتتلألأ قطراتها تحت الضوء الساطع فيذكرها لمعانها بالشفرة الحادة التي اقتطعت جزء منها بدعوى الحماية والوقاية...

ابتسمت سهير بمرارة.. فكيف تكون الوحشية والانتهاك هما الحماية والوقاية؟.. ولم الافتراض أنها بحاجة لتلك الحماية من الأساس؟.. وكأن كل أنثى تولد وتهمة معلقة فوق رأسها.. وتهمتها هي أنوثتها.. وكأنه كتب على كل فتاة أن تقضي عمرها لتثبت براءتها من تهمة هي لا تعلمها ولم ترتكبها؟.. تلك النظرة الضيقة من مجتمع محدود الأفق نحو كل أنثى وهو يترصد ويراقب اللحظة التي ستزل فيها قدمها نحو الخطيئة.. فتكون هي المتهمة والجانية.. حتى لو كانت ضحية ومجني عليها.. إنها نظرة المجتمع وتفكيره الذي يظن أنه باقتطاع جزء من جسدها فهو يحميها من خطر الإنزلاق ويمنحها الشرف والعفة.. مجتمع لا يستوعب أن الشرف والعفة والطهارة هي معاني تزرع وتغرس في الروح وتقوى بالإيمان والتقوى..

ـ سهير... سهير.. هل أنتِ بالداخل يا حبيبتي؟..

صوت منذر انتشلها من وسط تصارع أفكارها.. ففكرت أن تتجاهل الرد عليه وتتعذر بصوت المياه الجارية.. إلا أنها رجعت في قرارها بعد أن فكرت ان ذلك سيكون سخيف حقاً وأنها يجب أن تواجهه عاجلاً أم آجلاً..

أغلقت المياه ولفت نفسها في روب الحمام الخاص بمنذر.. وقد تعمدت ذلك حتى تخفي نفسها وجسدها تماماً عنه وخرجت لتجده ينتظرها أمام باب الحمام وما أن لمحها حتى بادرها:

ـ صباح الخير يا أجمل عروس في الدنيا

ابتسمت بخجل وهي ملتفة بردائه تشبه الطفلة التي قررت العبث بملابس والدتها..

تأمل احمرار وجنتيها وهو يقربها منه ويدفن رأسه في خصلاتها الشقراء المبللة ويستنشق رائحتها بتلذذ هامساً:

ـ هل سنعود للخجل مجدداً؟... ألن أسمع صباح الخير من أروع شفتين رأيتهما في حياتي؟..

أجبرت سهير نفسها على البقاء ساكنة بين أحضانه وهي تهمس بصوت لا يكاد يسمع:

ـ صباح الخير..

طبع منذر قبلات ساخنة على عنقها وهو يسألها:

ـ فقط؟..

همست بحيرة وهي تقاوم رغبة دفينة في الهروب من بين ذراعيه:

ـ فقط ماذا؟..

ضمها بقوة وهو يسحقها إلى صدره كأنه يبلغها أن اختبائها خلف الروب القطني الفضفاض لن يجدي نفعاً وهمس في أذنها بعبث:

ـ صباح الخير فقط؟.. بدون حبيبي؟..

ازداد احمرار سهير وهي تهمس بخفوت شديد:

ـ صباح الخير يا حبيبي..

رفع منذر ذقنها المنخفضة بخجل بإبهامه ليواجه عينيها الزرقاوتين اللاتين التمع فيهما تشتت مشاعرها وحيرتها الشديدة وقبل جبينها برقة, ثم انتقلت شفتاه لتأخذ شفتيها في قبلة بدأت رقيقة ثم ازدادت تطلباً مع ازدياد جرأة يديه على جسدها, تجاوبت سهير مع قبلته العاصفة لثوانٍ إلا أنها حاولت التملص من بين ذراعيه عندما شعرت بسقوط رداء الحمام على الأرض, لكنه منعها وهو يهمس:

ـ ألم نتخطى مرحلة الخجل؟..

كادت تصرخ به أنه ليس الخجل, ليس الخجل هو ما يكبل مشاعرها.. إنها خائفة.. خائفة من مشاعرها أو بالأحرى من قلة تلك المشاعر, حاولت تذكر كلمات نورا عن روعة الوجود مع الحبيب.. ذلك الشعور الذي تريد سهير أن تختبره مع حبيبها, فسكنت بين ذراعيه وهي تحلم بالوصول إلى تلك السحابة الوردية الناعمة..

*****************

أخذت نورا تذهب وتجيء في غرفتها بغيظ شديد.. لا تدري كيف تبخرت السعادة التي عاشتها مع رؤوف في الأيام الماضية وتحولت إلى جمود رهيب.. وتجاهل سافر من قبله؟..

والمثير للغيظ أنه أصبح يلازم نعمات بصورة مبالغ فيها, حتى أنها تظن أنه يستخدمها كدرع يخفيه عنها..

لقد مر على عودتهما من الأسكندرية أكثر من أسبوعين رأته فيهما مرات تعد على أصابع اليد الواحدة, بالإضافة إلى قضائه جميع لياليه في الطابق الأعلى, فلم تجمعهما معاً غرفة واحدة منذ عودتهما من الاسكندرية.. وللأمانة هي لا تستطيع لوم نعمات على تصرفه ذاك.. فهي شعرت بتباعده بعد تلك الليلة التي صرحت فيها بحبها له, فكانت تراه بالكاد في اليومين التاليين وكان عذره دائماً أن الأعمال تراكمت ويجب الانتهاء منها قبل العودة.. فكان يقضي النهار بالكامل في الخارج ويعود في وقت متأخر من المساء ليأكل وينام مباشرة.. وظل هذا روتينه ليومين كامليين عادا بعدهما إلى منزلهما حيث فوجئت نورا باستقبال نعمات المرحب بهما, والمثير للدهشة أنها وجدت نفسها بين أحضان نعمات تستمع لتمتمات الإعتذار عن سوء التفاهم الغير مقصود والذي تسببت به نعمات في ليلة الحنة الأخيرة لسهير..

تجمدت نورا تماماً ولم تعرف كيف تتصرف لمواجهه تلك المودة الغير مألوفة من المرأة الأكبر سناً.. فغمغمت بكلمات نصفها غير مفهوم ولكنها استطاعت أن تخبر نعمات أنه لا داعي للاعتذار وأن الموقف مر بسلام..

وتحركت متوجهة لجناحها وهي تتوقع أن يتبعها رؤوف إلا أنها فوجئت به يصطحب نعمات للطابق الأعلى ويلقي لها بتحية عابرة..

وكان ذلك الموقف نسخة كربونية عن الأيام التالية.. فهو يقضي أغلب وقته في عمله, ويعود ليحبس نفسه في مكتبه.. وبالطبع يقضي لياليه في الطابق العلوي..

لم تهتم نورا بنظرة الانتصار والتشفي في عيني نعمات بقدر اهتمامها بسبب هذا الإنقلاب في تصرفاته تجاهها فمقدار غضبها كان يساوي مقدار حيرتها.. فهو يتجنبها وبوضوح.. يتجنب الانفراد بها أو التواجد معها, ولولا أن الواجب والأصول حتمت عليه مرافقتها لمنزل عمتهما قمر حتى يقدما التهنئة لسهير ومنذر لما رافقها إلى هناك أبداً.. وما يثير حيرتها بل تعجبها هو إصراره على عدم ذهابها إلى بيت عمتها لزيارة سهير بمفردها أبداً.. وكان يشدد بقوة على وجود والدتها معها.. ولم يسمح لها بالذهاب وحدها إلا بعد عودة منذر إلى العمل.. وكان عذره أنه لا يصح إزعاج العروسين بلا داعي..

كانت الحيرة تفتك بها.. هل تذهب إليه مرة أخرى؟.. هل تتركه لانعزاله عنها؟.. إن كبريائها يأبى عليها أن تسعى هي إليه بعد اعترافها بحبه وصده وجموده الذي اتبع تلك الليلة.. وقلبها لا يرحمها يصرخ طالباً قربه..

تدعو وتبتهل كل ليلة حتى يأتي لجناحها.. لا ليبتعد عن نعمات, بل كي تراه فقط وتسأله عن الخطأ الذي ارتكبته ويعاقبها عليه.. بل يعاقبهما معاً.. فهي ترى التعاسة مرتسمة على ملامحه بوضوح.. ترى رؤوف الذي كانت تخشاه وتهابه عندما تقدم للزواج منها, وليس رؤوف الذي اقتربت منها وعاشت معه أحلى لحظات عمرها...

لمحت شاشة هاتفها تضيء باسم سهير.. تجاهلت نورا الهاتف فحالتها لا تسمح بمحادثة شقيقتها التي تبدو مؤخراً كمن سُلب منه شيء ثمين, أو كمن تبحث عن حلم مفقود.. وهذا يزيد من حنق نورا, فهي ترى أن قصة حب منذر وسهير انتهت كما الحكايات الأسطورية "وعاشا في سعادة الى الابد".. فلماذا ترى انطفاء البريق في عينيها؟.. وتلمس ضياع رونقها ومرحها الطبيعي.. هل الحب هو أسطورة في الحكايات والكتب فقط؟.. هل هو سراب لا يمكن الإمساك به؟.. وهل ما تحمله من أحاسيس ومشاعر لرؤوف هو نتيجة وهم أو تعود؟.. وماذا عن مشاعر سهير ومنذر؟.. هل هي وهم أيضاً؟.. إنها تشعر أن شقيقتها تعيسة, ترى ذلك بوضوح على وجهها ولا تجد لذلك مبرر منطقي يقنع عقلها قبل قبلها...

تساقطت دموعها على وجنتيها بلا شعور منها عندما لمحت طيفه يراقبها من خلف نافذة مكتبه كعادته مؤخراً.. لا تدري إلى ماذا يهدف؟.. أو ماذا يدور بعقله؟.. لماذا يراقبها ولكنه يمتنع عن التواصل معها؟؟.. هل رؤوف العابس والمتجهم هو من سيحل محل رؤوف الرقيق الدافئ والعابث أحياناً الذي عرفته منذ زواجهما؟..

مسحت دموعها بظهر يدها وهي تدعو الله أن تصل الى حل أو اجابة شافية

لكل تساؤلاتها...

عادت شاشة هاتفها تضيء باسم سهير فالتقتت الهاتف لتجيبها, في محاولة منها للهروب من واقعها..

*****************

أغلق رؤوف ستائر نافذته بقوة بعد أن لمح حركة نورا وهي تمسح دموعها, وامتدت أصابعه في الهواء وبحركة لا إرادية ليمسح دموعها ولكنه أخفضها ببطء عندما لاحظ عدم جدوى حركته تلك, يعلم أنها حزينة وغاضبة ولكنه عاجز عن التواصل معها, مشاعره مبهمة وغير واضحة, بل وغير مفهومة..

عندما صفعه تصريحها البرئ بالحب شعر بأنه أجبر على خوض غمار بحر هائج لا يعرف أبسط مبادئ السباحة به.. لم يعرف بم يجبها أو ما الذي تنتظره منه, فهو طوال حياته مع جده استوعب منطقه ومبدأه بألا يأخذ أي شيء من المسلمات.. كل شيء له ثمن وله مقابل, فتفضيل جده له عن باقي أحفاده_ حتى على عمه عبد السلام_ وعطفه عليه كان بسبب طاعة رؤوف له وامتثاله لجميع أوامره.. فكان يسعى جاهداً لنيل درجاته العلمية كاملة واتقان الفنون والمهارات التجارية التي يكلفه بها جده كلما تاق لربتة على الكتف أو ضمه بسيطة تشعره بالأمان, وأخيراً كلل طاعته له بزواجه من نعمات للحفاظ على أملاك العائلة.. وللحفاظ على راحة بال جده.. حينها شعر رؤوف بأنه رد جميل جده كاملاً ودفع ثمن تفضيله له بالكامل.. وحتى نعمات كان مدركاً أن وراء موافقتها على الزواج منه هدف خفي وهو تحقيق حلمها بالأمومة وكان يعلم أنها تغرقه في أنوثتها حتى تصل لحلمها, وعندما فشل في تحقيق ذلك الحلم أصبحت تغدق عليه حنانها وأمومتها حتى تحتفظ به هو.. الرجل والزوج الذي بقي لها في الحياة كما أخبرته ليلة زفافه على نورا... هذه هي حياته التي ألفها وتآلف معها.. يقدم الثمن مقابل ما يحصل عليه من عواطف سواء كانت ربتة على الكتف.. أو عواطف أكثر حميمية... لكن هي نورا.. ما الذي قدمه لها حتى تمنحه ذلك الاعتراف؟.. ماذا يستطيع أن يمنحها مقابل قلبها الذي تزعم أنه سقط في حبه؟.. هل يمنحها قلبه بالمقابل؟.. هو لا يدري إذا كان يستطيع ذلك أو إذا كان يملك قلباً من الأساس؟.. وإذا فعل إلن تكون خيانة لنعمات؟.. فكيف يسقط معها في الحب ولا يفعل مع نعمات؟.. أليست نعمات هي زوجته الأولى؟.. ألم يستمر زواجهما خمسة عشر عاماً؟..ألم تكن هي المرأة الأولى في حياته من حولته من شاب هادئ إلى الرجل الذي تظن نورا أنها سقطت معه في الحب؟.. فكيف يحب نورا, ولا يحبها هي؟.. أي منطق في هذا؟.. أنه يتساءل إذا ما كانت مشاعره نحو نورا هي مشاعر حب!!.. لعله فقط إحساس بالتملك نحوها دعمه إدراكه أنه رجلها الأول والوحيد.. لا ينكر أنه شعور وإحساس رائع بأن يكون هو الرجل الوحيد الذي مر بحياتها, ولكنه بالتأكيد ليس حباً فمعرفته بأنه لم يكن الوحيد في حياة نعمات لم تؤرقه يوماً.. صحيح أنه أحس بشعور غير مريح على الإطلاق, بل ان كلمة غير مريح هي بسيطة... فلقد كان شعوراً حارقاً بإقصاء منذر من الحياة عندما ظن لوهلة أنها كانت متعلقة به, ومعرفته اللاحقة بأن ارتباط سهير بمنذر كان تتويج لقصة حب طويلة هي من أنقذت منذر من نوبات غضبه الغير مفسرة.. لكنه لن يتوقف أمام تلك النقاط الصغيرة فهو لطالما آمن بأن الحب ما هو إلا مجموعة من الأشعار وكلمات الأغاني التي يخدع بها الصبية الفتيات الغريرات.. ولكن في الواقع.. في الحياة.. في حياته هو كما أعتقد دائماً.. الإحترام والمودة هما أساس الزواج المتين.. كزواجه من نعمات تماماً...

عادت أفكاره مرة أخرى لنورا, فمنذ اعترافها الصاعق تعمد هو البعد عنها واظهار الجفاء لها حتى يعود لسابق عهده.. لرؤوف ما قبل قمر, كلا ليست قمر بل نورا.. يجب عليه أن يتذكر جيداً.. أنها نورا.. ابنة عمه التي تزوجها حتى ينجبا معاً وريث عائلة الجيزاوي.. يجب عليه نسيان جنون القمر وما جره عليه من فقدان لذاته, بل أنه عندما يراجع مواقفه معها في الفترة السابقة يجد أنه كاد أن يفقد عقله.. لقد انجرف خلف تجربة جديدة.. حياة جديدة معها, حتى ظن أن ما يحدث له هو الحب؟.. ولكن تلك هي مجرد أوهام وعبث يفقده عقله وتركيزه, لقد تعرض للتقريع والتأنيب من جده بسبب العقد الأخير الذي أبرمه في الأسكندرية لموافقته على أحد الشروط التي ما كان لينظر له مرتين لو كان في كامل تركيزه, ولكن عقله كان هائماً في سمرائه الصغيرة وتصرفاتها المجنونة فوقع العقد بدون مراجعة متأنية وكانت النتيجة درس طويل من جده في إدارة الأعمال وتوقيع العقود نزل على رأسه ولأول مرة منذ التحق بالشركة.. كلا.. يجب أن يوقف هذا الجنون.. هذا الهوس بها يجب أن ينتهي وتعود حياته هادئة.. روتينية.. حسناً ومملة قليلاً.. لكنها الحياة التي عرفها ويريد أن يستكملها وعلى نورا أن تنضم لها وفقاً لطريقته وشروطه..

تحرك متوجهاً نحو جناحها فقد آن آوان المواجهة فإن أراد أن يسترد شخصيته الضائعة فلابد من المواجهة...

*****************

كانت نورا غارقة في ذكرياتها السعيدة معه في الأسكندرية تحاول التغلب على آلام قلبها الذي سببها جفاؤه نحوها.. تذكرت ذلك اليوم الذي طاوعها فيه بالتمشية على كورنيش الأسكندرية متشابكي الأيدي عندما داهمتهما الأمطار.. كانت قطرات بسيطة ولكنه أخذ يتذمر بانزعاج بينما تضحك بسعادة وهي ترفع وجهها ليستقبل قطرات المطر.. مما جعله يتوقف عن تذمره لينظر إليها بتعجب انقلب لذهول عندما طلبت منه أن يتناولا المثلجات تحت المطر.. وهي تعده بأنها تجربة لن ينساها أبداً.. ووافقها مجبراً تحت إلحاحها الشديد, ابتسمت برقة عندما تذكرت احمرار وجنتيه وهو يبتسم بطفولية تقريباً ويعترف بأنها كانت تجربة مثيرة حقاً...

دلف رؤوف بهدوء إلى جناحهما يحاول السيطرة على أفكاره الفوضوية عنما لمحها جالسة بسكون على الأريكة شاردة عما حولها.. أخذ يتأملها بشوق وجرت عيناه على جسدها في لهفة وتوق ظهرا في نظراته التي ظهر فيها بوضوح اشتياقه وحنينه لها, لكنه تذكر ما الذي أتى به هنا فتحكم بصعوبة في مشاعره المهتاجة ليسيطر على رغباته التي تحثه على إلقاء كل أمور العقل خلف ظهره ليتقدم ويأخذها بين ذراعيه ويتناسى كل شيء آخر,

يا الله كم اشتاق لها وإلى الشعور بها بين ذراعيه.. لقد ابتعد لفترة طويلة والآن كل خلية بجسده تدعوه إلى ضمها لصدره والارتواء من حبها حتى يكتفي ولا يظن أنه سيفعل يوماً.. وكاد أن يفعل حين لمعت في رأسه فكرة أن ما يشعره نحوها ما هي إلا رغبات جسدية بحتة وأنه يجب عليه أن يكون أقوى واصلب من تلك الرغبات الحياتية, ولا يجب أن يخضع لسلطان أنوثتها عليه, بل يجب أن يخضعها هي لما يريد.. فقست نظرات عينيه واستدعى الغضب الذي شعر به عندما استمع لساعة من الزمن لتقريع ولوم جده له على إهماله في عقد الصفقة الأخيرة.. وتحرك ليقترب منها.. بينما انتفضت نورا في مكانها عندما ظهر رؤوف أمامها فجأة وكأنه خرج من أفكارها ليتجسد أمامها بوسامته الرجولية وطوله المهيب ولكن كان به شيء مختلف.. شيء لم تعتده منذ زواجهما ورغم ذلك لم تستطع إلا أن ترمقه بشوق لم تحاول اخفائه, فهو أخيراً تنازل وجاء ليراها..

كادت أن تعبر عن فرحتها بوجوده وتلقي بنفسها بين ذراعيه عندما لاحظت جمود عينيه.. ذلك ما كان متغير به.. فاللمعة التي اعتادتها في عينيه ونظراته الحميمة لها قد اختفت ليحل محلها جمود وغضب اخافاها بشدة حتى أنها وقفت بارتجاف وهي تسأله:

ـ رؤوف.. ماذا بك؟.. لما تبدو غاضباً هكذا؟..

لمح رؤوف نظرة الخوف والقلق في عينيها وقفز قلبه داخل صدره يريد أن يضمها ويطمئنها بأن كل شيء على ما يرام.. ولكن كلا.. يجب أن تعتاد على ذلك الوجه منه, ليس القسوة ولكن الحزم الصارم والبعد عن اللهو والعبث..

ـ ليس بي شيئاً.. لماذا تعتقدين أنني غاضباً؟..

رمقته بحيرة لا تدري بما تجيبه.. هل تخبره بأن نظراته غاضبة.. وجهه غاضب.. كل خلية به تبدو غاضبة..

ـ حسناً.. أنت تتجنبني تقريباً منذ أسبوعين.. وعندما تأتي إليّ الآن أراك مقطباً هكذا.. إذاً ماذا تريدني أن أعتقد؟..

زفر بحنق وهو يقول:

ـ لست غاضباً.. حسناً.. لكني أريد محادتثتك في أمر هام..

صمت قليلاً سامحاً لنفسه بتأملها وهو يدرك أنه ليس لديه أدنى فكرة عما سيقوله لها..

استحثته نورا على الاسترسال في الكلام:

ـ حسناً.. رؤوف, أنا أسمعك.

ابتلع ريقه وهو يحاول ترتيب أفكاره ليقول:

ـ أنه بشأن ما أخبرتني به مؤخراً..

ضاقت عينا نورا وهي تستوعب أنه يتكلم عن تصريحها بحبه.. فابتسمت بمرارة وهي تقول باستفهام:

ـ تقصد عن حبي لك؟

اندفع في الكلام بدون إرادة:

ـ نورا.. استمعي إليّ.. أنتِ اختلط عليكِ الأمر.. لقد رسخ موقفي منكِ يوم وفاة عمي في ذهنك ليجعلك تصوريني في صورة فارسك.. ومع الوقت ظننتِ أنكِ سقطتِ في الحب معي, ولكن الحقيقة أنكِ تتوهمين ذلك فحسب.. فأنتِ تعشقين خيالاً تصورتيه لسنوات..

أخذت نورا تنظر له بذهول.. وكادت أن تصرخ به..

" من أنت؟.. أين رؤوف؟.. وماذا فعلت به؟"..

هل هو جاد؟.. هل قال ما سمعته حقاً؟!.. بعد جفاء أكثر من أسبوعين تنازل وجاء إليها من أجل أن يقنعها أن مشاعرها نحوه وهم.. سراب.. خيال عاشته وصدقته.. لم تعرف بما تجبه!!.. كانت رغبتها قوية في صفعه, بل ضربه هي تريد فعلاً أن تضربه وتركله وتخمش وجهه الوسيم, ثم تبكي.. نعم أنها تريد البكاء, بل النحيب على سذاجتها وضعف قلبها الأبله الذي أحب ذلك الرجل, ولكنها بدلاً من ذلك.. سألته باستخفاف تقريباً:

ـ هل أتيت الآن لتخبرني بما يجب عليّ أن أشعر به نحوك؟..

أجابها بهدوء وهو يغض النظر عن أسلوبها الساخر:

ـ كلا.. ولكني شعرت أنه عليّ توضيح ذلك.. حتى تفهمين كلامي عندما أخبرك.. أنني أقدرك وأحترمك بالطبع فأنتِ ابنة عمي قبل أن تكوني زوجتي..

قاطعته نورا بخوف:

ـ هل تحاول تخبرني أنك تريد الطلاق؟..

كانت الكلمة مثل لكمة قوية أصابته في مقتل فجذبها من ذراعها بقسوة وهو يصيح بغضب:

ـ لا أريد أن أسمع تلك الكلمة منكِ مرة أخرى أبداً.. هل فهمتِ؟..

جذبت ذراعها منه وهي تصيح به بدورها:

ـ كلا.. كلا لم أفهم.. إذا كنت تريد الإستمرار في تلك الزيجة فما الداعي لكلامك السابق؟..

تنفس رؤوف بقوة يحاول الوصول إلى هدوئه المعتاد والذي تسلبه منه بسهولة تامة:

ـ أنا أريد الوصول إلى بعض التفاهم.. بعض الإستقرار.. أفهم أنكِ صغيرة تريدين ترديد كلمات الحب والغزل.. وتريدين أن تسمعيها في المقابل.. وقصة حب سهير ومنذر التي عاصرتِ تطوراتها لا ريب أنها جعلتك ترسمين قصتك الخاصة وتعيشينها.. هذا شيء أتفهمه..

سألته بسخرية مريرة وهي تفكر جدياً في إعمال أظافرها في وجهه حتى تشوه وسامته الواضحة:

ـ حقاً!!.. كم أنا سعيدة أنك تتفهم شطحات مراهقتي وأوهامي الخيالية... ماذا أتيت لتخبرني به رؤوف؟.. كن صريحاً معي وتوقف عن المراوغة..

اجابها بهدوء:

ـ لا داعي للسخرية.. أنا أحاول أن أضع أسس لحياتنا.. فلا داعي للسخرية الآن.. فقط أنني أريد لحياتنا معاً كزوجين أن تكون هادئة ومستقرة.. لا مجال للعواطف المشبوبة وجنون المشاعر, لكن هذا لا ينفي وجود الود والإحترام والتقدير بيننا.. هل تفهميني؟..

أجابته بغضب:

ـ نعم.. أفهمك.. أنك تريد مني أن أتوقف عن حبك..

اوقفته عندما حاول مقاطعتها:

ـ أو ادعاء وتوهم حبك كما تظن..

ثم ارتفع صوتها وهي تحاول السيطرة على عبراتها حتى لا تبكي أمامه:

ـ حسناً.. أعتقد أن هذا سهل للغاية.. سوف أضغط زر الإيقاف فيتوقف قلبي عن حبك.. أليس هذا ما تريد؟!!

صاح بها في غضب:

ـ قمر.. راقبي كلماتك.. وتوقفي عن السخرية.

همست بشراسة:

ـ لا تناديني قمر وأنت تخبرني أنني اتوهم حبك, وأتخيل غرامي بك.. لا تناديني قمر..

ـ نورا.. أنا صارحتك بذلك من أجلك.. حتى لا يتحطم قلبك عندما تدركين أنني أختلف عن الفارس الذي تظنينه..

نظرت إليه وهي تحاول استيعاب كلامه.. لقد ظنت دائماً أن الرجال يحاولون اقناع النساء بالحب, وليس العكس.. لماذا يرفض حبها إذاً ويحاول إقناعها بأنه وهم.. وحتى لو كان وهم كما يظن, ماذا يضيره لو تركها مُضَللة في وهمها.. أم أنه يخشى التمتع بفكرة حبها له ثم فقدان ذلك الحب بعد ذلك.. هل الحرمان هو ما يخشاه؟.. لمع في ذهنها كلام أمها "امنحيه الفرصة ليتعرف على مشاعر لم يعرفها من قبل, بل لم يكن يعترف بوجودها من الأساس"..

"فقط امنحيه المساحة ليعيش سنوات سلبت منه, وهو سيكون طوع بنانك"..

تنهدت بألم وهي تحاول التغلب على أشجان قلبها والاستماع إلى نصيحة أمها.. وقررت منحهما فرصة معاً.. حتى يستطيعا الوصول لتفاهم مشترك:

ـ حسناً.. لقد فهمت ماذا تريد قوله.. ولكن دعنا نتفق على أن نختلف..

وتقدمت لتقترب منه قليلاً وهي تأخذ وجهه بين يديها:

ـ حبي لك ليس وهماً.. أو خيال اصطنعته لأعيش فيه.. لن أسحب اعترافي بحبك.. فأنا أحبك بالفعل..

لمحت نفس التعبير العاجز الذي ارتسم في عينيه عند سماعه لاعترافها أول مرة, ولكنها أجبرت نفسها على الكلام:

ـ أنت لا تريد سماع كلمات العشق والغرام.. ولا تريد ترديدها.. فليكن.. لك هذا.. ولكن.. تأكد أن مشاعري حقيقية.. ليست وهماً أو خيالاً أو حلم طفولي سخيف.. تقبل تلك الحقيقة ودعنا نستكمل حياتنا في هدوء كما تريد..

قاطعها مردداً:

ـ ولكن...

لكنها قاطعته بحسم:

ـ بدون لكن.. أنت رجل أعمال يا رؤوف, وتلك صفقة رابحة.. صدقني.. فاقبل بها.

صمت قليلاً لا يعرف ما عليه قوله أو فعله.. بقدر ما يحتاج لأن يضمها بين ذراعيه الآن إلا أنه لا يستطيع.. لا يستطيع فعل ذلك بها بعد أن ألقى بحبها في وجهها.. لذا غمغم بصوت خافت:

ـ سأعود للنوم في جناحنا عند أول الأسبوع..

أومأت له برأسها فهي استنفذت كل قدرتها على التحاور وتريده فقط أن يبتعد عن عينيها الآن حتى لو كان هذا معناه ذهابه إلى نعمات..

***************

صعد رؤوف بتثاقل إلى الطابق الأعلى.. يشعر أن ليس به قدرة على مواجهة نظرات نعمات وتصرفاتها الغريبة مؤخراً.. وفي نفس الوقت غير قادر على البقاء في الغرفة مع نورا بدون لمسها.. وضمها وتقبيلها.. آه.. فليتوقف عن تلك الأفكار.. ويلتزم بما اتفقا عليه.. حياة هادئة ومستقرة...

دخل الغرفة عند نعمات التي لم تتوقع صعوده إليها بعدما لمحته وهو يذهب إلى جناح نورا... فكادت أن تصيح به دهشة من وجوده, ولكنها ابتلعت دهشتها.. وهي تراه يتحرك في الغرفة بتثاقل ليسحب ملابسه ويتوجه للحمام..

ابتسمت لنفسها بسعادة.. فيبدو أن تظاهرها بمداهنة نورا واعتذارها عما بدر منها بشأن مقطع الفيديو قد اتى بثماره وأعاد لها رؤوف القديم ولو جزئياً فهو لم يعد يرى نعمات بمظهر الزوجة الشريرة التي ترغب في التنغيص على الزوجة الصغيرة, بل أنه عاد ليراها كامرأة طيبة اخطأت خطأ واعتذرت عنه والدليل على ذلك محاولته تعويضها عن الأيام التي قضاها برفقة نورا.. كان هذا ما تظنه نعمات أو ما تحاول إيهام نفسها به متناسية أن رؤوف سافر بوجه وعاد بوجه آخر تماماً.. فهو حتى لم يعد كما كان قبل زواجه بنورا.. فلقد تحول إلى نسخة باهتة وحائرة من الرجل الذي كانه.. ولكنها لم تهتم.. فجُل اهتمامها أن يفقد رؤوف شغفه بنورا.. وهي كفيلة بعد ذلك باسترداد رؤوف القديم زوجها للخمسة عشر عاماً الماضية..

لمحته يخرج من الحمام ليستلقي على الفراش وهو يضع يديه خلف رأسه.. ويغمض عينيه بإرهاق.. كانت تتحرق شوقاً لتعرف لماذا تخلى عن ليلته برفقة سمرائه الصغيرة ليصعد إليها ولكنها ابتلعت فضولها وهي تسأله حتى تجذب انتباهه اليها:

ـ أريد أن أغير لون شعري إلى الأسود, ما رأيك؟..

فتح رؤوف عينيه بدهشة وهو يسألها:

ـ لقد كنت أظن أنكِ فخورة بلونه الأحمر؟!!

أجابته بصوت خافت لم يسمعه..

"ذلك قبل أن أكتشف عشقك للشعر الأسود"..

ثم رفعت صوتها ليسمعه:

ـ آه.. نوع من التغيير, ما رأيك؟

أجابها ببرود وهو يغمض عينيه مرة أخرى ويسحب الغطاء ويلتحف به منهياُ المناقشة:

ـ افعلي ما يريحك, نعمات.. افعلي ما يريحك..

سكتت نعمات بعدما أدركت عزوفه عن الكلام وأغمضت عينيها في ألم يائس وهي تدرك فشلها معه تلك الليلة... لتلحقها بمثيلاتها من الليالي السابقة..

**************

مرت ثلاث أسابيع أو أكثر قليلاً بعد محادثة رؤوف لنورا.. كانت تنتظره فيها أن يأتي لجناحهما كما صرح, ولكنه استمر في التباعد والجفاء.. وكأنه يخشى الاقتراب منها أو لا يعرف كيف يبدأ تلك الحياة الرتيبة التي يريدها معها..

وهي تحملت.. وتحملت.. حتى فاض كيلها وبلغ بها الحنق ذروته.. وكانت مجرد رؤيته وهو يتهرب من التساؤلات في عينيها تثير جنونها.. وكاد صبرها أن ينفذ منه وهي تمنحه العذر تلو الآخر.. ولكنه مستمر في مسلسل البعاد والجفاء.. وكأنه غير قادر على الإلتزام بما أخبرها به من البعد عن جنون العواطف والمشاعر المشبوبة.. كان هذا استنتاجها والعذر الذي تمنحه اياه بدلاً من أن تقتله أو تشوهه تلك الفكرة التي كانت تراودها بشدة كلما لمحت ابتسامته لنعمات حتى وهي تراها ابتسامة عادية تكاد تكون رسمية, بل وصفراء أيضاً.. ولكنها لا تهتم يكفي أنه يبتسم لنعمات في حين أنه حتى لا ينظر إليها..

أضاءت شاشة هاتفها باسم سهير.. موعد محادثتهما الليلية التي تتبادلان فيها الأخبار.. لكن نورا تجاهلتها.. فهي تشعر أن سهير ترواغها تحاول الوصول لشيء لا تدركه نورا.. وهي ليست في مزاج الآن لتبادل الأحاديث..

**********

ألقت سهير الهاتف بحنق عندما لم تحصل على اجابة من نورا.. كانت تريد الكلام معها.. تريد اخراج ما بداخلها.. تحاول أن تصل لاجابة لتساؤلاتها العديدة.. هتفت في غيظ...

"لماذا لا تجيبي على الهاتف يا نورا؟.. أين أنتِ؟"

ابتسمت لنفسها بسخرية وهي تفكر.. وحتى لو اجابت نورا على هاتفها ما الذي كنتِ تنوين قوله لشقيقتك الصغرى؟.. كم مرة من قبل حاولتِ مصارحتها والأخذ بمشورتها ولكنكِ جبنتِ؟.

صرخت بها أعماقها..

"بل خجلت.. كيف أصارح شقيقتي بشيء كهذا؟.. بل كيف أصارح أي شخص آخر؟.. ماذا ينبغي عليّ قوله؟.. نورا.. أخبريني كيف تُسعِدين زوجك وتَسعَدين معه؟.. كيف تصلين الى هذا الشعور الذي طالما صممتِ أذني بشأنه.. لماذا أشعر دائماً بالنقص؟.. وما هو الشيء الناقص؟"..

لقد أصبحت تتهرب من منذر بشتى الوسائل والأعذار.. فما يبدأ بينهما جميلاً ومثيراً ينتهي بها وقد وصلت لقمة عصبيتها وغضبها.. وما يثير حنقها أنه كان يبدو سعيداً ومكتفياً.. كان هكذا على الأقل في البداية قبل أن تنتقل عدوى نزقها وعصبيتها إليه.. فأصبحا يصيحان في وجه بعضهما لأتفه الأسباب.. ومن يراهما وهما منغمسان في الشجار لا يصدق أبداً أنه مر شهران بالكاد على زواجهما.. خاصة أن تلك الشجارات دائماً تلي الليالي التي تتفنن فيها سهير في الهروب من منذر ورغباته فيستيقظ صباحاً بمزاج أسود عاصف وهي بدورها لا تحاول مهادنته بل تهاجمه بضراوة وكأنها تتبنى أسلوب الهجوم خير وسيلة للدفاع.. فهي تدرك تقصيرها نحوه وتشعر به ولكنها لا تريد أن تعترف به.. تريد أن تحيا في حلمها العذري.. بأن ذلك لا يهم وأن حب منذر سيبقى كما كان قبل زواجهما.. راسخاً... قوياً وثابتاً.. ولكنها عندما ترى عصبيته لتهربها من واجبتها نحوه يثار غضبها وتصب عصبيتها عليه فهو لا يريد إلا سعادته.. ولا يبغي إلا اشباع رغباته حتى لو كانت ضد مشيئتها هي.. فكانت ترضخ أحياناً لما يريد تجنباً لمشاجرة جديدة.. ولكن للأسف هناك دائماً ذلك الشيء الناقص.. تلك النكهة المفقودة والتي لا يستطيع كلاهما وضع يده عليها ولكن في أعماقهما كلاهما يحمل اتهام للآخر بسلبه تلك النكهة الغامضة والنتيجة تكون أعصابهما هما الاثنان في الصباح التالي وكأنها وصلت لدرجة الاحتراق فلا يحتمل أحدهما من الآخر حتى كلمة صباح الخير... وهكذا وجدت سهير أن أفضل الحلول هو التهرب من منذر ومن نظراته ورغباته واتهاماته... فأصبحت بعد حوالي شهرين من زواجها تجيد اصطناع النوم ببراعة تحسدها عليها ممثلات السنيما...

مر الوقت عليها بدون أن تشعر به وهي تتحرك في غرفتها بدون هدف فلمحت الساعة وهي تتجه الى النافذة فأدركت أن الوقت متأخر بالفعل.. فغمغمت بحرج لنفسها..

"يا الهي.. إن الوقت متأخر بالفعل لابد أن نورا كانت برفقة رؤوف.. كم هذا محرج"..

ادراكها للوقت جاء معه ادراك آخر وهو اقتراب وصول منذر إن لم يكن قد وصل بالفعل ويقضي سهرته مع والدته كما اعتاد في اليومين الآخرين رغبة منه في تجنبها وتجنب الشجار معها... من كان يصدق أن حب السنين يتحول في أيام إلى تلك المشاجرات والمشاحنات.. هل من المعقول أن يتحول الحلم إلى كابوس بتلك السرعة... هل ستستمر تلك المسرحية الهزلية بينهما طويلاً.. ألا يوجد ولو بصيص أمل في تحسن الأوضاع..

سمعت خطواته تقترب من باب الجناح فأسرعت بالاندساس في الفراش.. وتقمص دور النائمة كما اعتادت كل ليلة.. شعرت بحركته في الغرفة وهو يبدل ملابسه.. ويتحرك هنا.. وهناك.. ثم صعقها صوته وهو يقول:

ـ إذا ظننت للحظة أنني انخدعت بتمثيلك النوم كل ليلة, تكونين بلهاء.. أنا فقط أمرر ذلك بإرادتي.. تحركي يا مدام وأعدي الطعام لزوجك المنهك في العمل.. ولا يرغب منكِ سوى بطعام محترم يسد رمقه..


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close