رواية دوائي الضرير كامله وحصريه بقلم نرمين ابراهيم
تعريف الشخصيات...
#عاصم. ..
رجل في اوائل الثلاثينات.. يعمل في بلدتهم التي تقع في إحدى محافظات الصعيد.. يدير املاك عائلته بعدما تركها له والده بسبب سوء حالته الصحية و تفرغه لعمله الاصلي كعمدة للبلدة..
طويل القامة.. ذو جسد عريض و عضلات مثقولة بدقة بفعل الالعاب الرياضية اولا.. و عمله في زراعة الارض ثانياً..
تزوج من إبنة عمه و لكنها طلبت الطلاق و بالفعل تم الانفصال بعد أقل من عام واحد فقط من الزواج و لكن دون أطفال..
#سارة..
فتاة جميلة في السادسة والعشرون من عمرها.. تعمل طبيبة نفسية في إحدى المصحات العلاجية بالقاهرة.. سافرت للولايات المتحدة الامريكية مع عائلتها لتكمل دراساتها هناك بعد معادلة الثانوية العامة و اختارت مجال الطب النفسي..
تعرضت لحادث تركها بإعاقة ليست بسيطة.. تأقلمت مع حالتها الجديدة و لكنها أصرت علي العودة و العمل بمصر..
طولها متوسط.. ذات شعر اسود و عيونها كالليل تحاوطها أهدابها السوداء الكحيلة فتجعل النظر إليها متعة لا يمل منها....
#هدى...
شقيقة عاصم الصغرى.. تصغره بحوالي الثمان سنوات.. فتاة هادئة تدرس في عامها الرابع في كلية الفنون الجميلة..
شعرها بني و عيون عسلية.. طولها متوسط.. تعرضت لحادث ايضا تركها بعاهة و عقدة نفسية لا تستطيع تخطيها...
#آسر..
شقيق سارة الاكبر.. يكبرها بأربع سنوات.. يعمل مهندس في إحدى شركات البترول.. يحب عمله جداً..
يشبه شقيقته جدا في ملامحها و روحها المرحة.. يحبها كثيراً حتى انه ترك عمله في الولايات المتحدة حتى يرافقها في عودتها لمصر.
قامته أطول منها بكثير.. يحب الالعاب الرياضية كثيرا و كان لها الفضل في تقسيم عضلات جسده بشكل واضح و مثير...
#جميل...
والد سارة.. أستاذ جامعي يقوم بتدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها.. سافر الي الولايات المتحدة حيث كان يعمل بإحدى الجامعات هناك كأستاذ لمادة اللغة العربية..
حيث حصل علي فرصة عقد لتدريس العربية لغير الناطقين بها.. و ذهبت معه عائلته كلها..
#سعاد..
والدة سارة.. اخذت منها الكثير من ملامحها الرقيقة و طبعها الهاديء و المرح في نفس الوقت.. تبلغ الخمسون من عمرها..
#هنية...
والدة عاصم.. سيدة بسيطة من قرى الصعيد و لكنها تحب اولادها كثيرا.. تعيش لأجل عائلتها الصغيرة..
#عبد_الرحمن...
والد عاصم.. عمدة بلدتهم.. يحترمه و يوقره الجميع.. رجل ستيني وقور.. هاديء و صبور.. لا يتخذ اي قرارات متهورة بل يتفكر جيدا في كل الامور.. و هذه اهم الصفات المشتركة بينه و بين ولده وحيده..
كانت دواءه رغم عجزها
و كان امانها رغم خوفه
الفصل الاول...
في القاهرة...
في مستشفي الدكتور صبري للطب النفسي.. الدكتور صبري هو شقيق الحاجة هنية.. خال هدى و عاصم.. يعمل كطبيب نفسي و له مشفي خاص للأمراض النفسية و العصبية.. يعمل معه خيرة الاطباء النفسيين في مصر و الشرق الأوسط كله..
كان بمكتبه و معه سارة جميل.. إحدى الاطباء الذين يعملون لديه و هو يراها افضلهم علي الاطلاق.. كان يحاول ان يقنعها بالسفر لكفر الصوالحة لدى شقيقته حتي تتابع حالة هدى بنفسها...
صبري: خلاص بقي يا سارة.. ماتوجعيش قلبي..
سارة: انا اللي ماوجعش قلبك برضه يا د/صبري..
صبري: يا بنتي بقولك دي بنت اختي و حالتها محتاجة رعاية نفسية خاصة.. و انا شايف انك انسب واحدة تقوم بالمهمة دي.
سارة: يا د/صبري.. يا د/صبري انا ماعنديش اي مشكلة اني اتابع حالتها زي ما انت عايز.. و بدون مقابل حتي.. دي برضه تبقي بنت اختك.
بس هنا في المستشفى مش انا اللي اروح اعيش في مكان غريب ماعرفش فيه حد و حضرتك عارف ان ده هايبقي صعب بالنسبالي جدا..
ارجوك اعفيني و كلف حد غيري بالمهمة دي.
صبري(مسايساً): طيب قوليلي انتي مين ممكن يقوم بالمهمة دي غيرك.. و طبعا انتي عارفة ان ماينفعش دكتور راجل و يعيش هناك لأنهم صعايدة و دى حاجة صعبة.
و بعدين البنت مرت بأزمة عاطفية مصاحبة للحادثة و انا مش عايزها تتعلق بالدكتور و يرجع يقولها انا دكتورك بس و نرجع لنقطة الصفر تاني.
سارة: مش لازم دكتور راجل..
صبري(وضع كفيه فوق بعضهما مسايساً لها مرة أخرى): قوليلي انتي مين ممكن يسافر الاعارة دي زي ما انتي مسمياها غيرك.. ده انتو كلكو علي بعض اربع دكاترة ستات..
ثم أخذ يعد على إصبعه و هو يفسر حال كل منهن...
صبري: چني مخطوبة و بتجهز لفرحها اللي كمان شهر و نص و حتي لما تتجوز مش معقول اقولها سيبي بيتك و عريسك يا عروسة و سافري الصعيد..
ياسمين و نهي متجوزين و واحدة حامل و اصلا بتخدم حماتها اللي عايشة معاها و التانية محتاسة بالـ 3 قرود اللي مخلفاهم..
سارة: ااه.. فمافيش قدام حضرتك غير سارة الغلبانة الوحدانية اللي ماورهاش حد.. صح.. ليه هو حضرتك ناسي اني عايشة مع آسر اخويا ولا ايه..
صبري: و الله مش قصدي.. بس حتي لو ظروفك زيهم كنت هاختارك برضه.. لان انتي بجد احسنهم.. ها قولتي ايه؟؟
و بعدين تعالي هنا هو فين آسر اخوكي ده.. ده احنا دافنينه سوا.. ده شغال في اخر الدنيا و بيجيلك مرة كل شهرين صح ولا ايه؟؟
سارة(بتلجلج): برضه.. مش مبرر..
صبري: لا مبرر.. اهو حتي بدل ما انتي قاعدة لوحدك.. تغيري جو و تشتغلي.. ها وافقي بقي وحياة عيالك.
سارة(ضيقت عينها متصنعة الغيظ): هي وصلت لعيالي.. شكرا يا دكتور.. شكرا يا مستشفي.. شكرا يا مصر..
صبري: مصر ايه يا بت انتي.. هاتودينا في داهية.. ها قولتي ايه.. وافقي بقي نشفتي ريقي.. بقالي شهر بتحايل عليكي..
سارة: ماشي.. كلمني عن الحالة.. و اقرر بعدين..
صبري: حبيبتي.. هو انا قلتلك انك حبيبتي قبل كدة..
سارة: لا حضرتك ما قلتش.. بس انا ممكن اقول للمدام انك قلت..
تراجع هو بخوف مصطنع نظراً لغيرة زوجته الشديدة عليه إلا من سارة فهي تعرفها جيداً و تعاملها كأبنتها...
صبري: اخرسي ده انا بكرهك من كل قلبي..
سارة(ضحكت بمرح): ههههههههههه.. طيب خلينا في الحالة.. كلمني عنها..
صبري: هدى.. بنت اختي.. 23 سنة.. كانت بتدرس في كلية فنون جميلة في جامعة القاهرة بس طبعا وقفت بعد الحادثة..
كانت خلصت امتحانات سنة تالتة في كليتها و حبت تعمل مفاجأة لأهلها و خطيبها و تفجاءهم بوصولها خصوصا انها كانت ماشافتهمش طول الترم..
فقررت ترجع في سوبرچيت بس للأسف مالقيتش حجز.. او بمعني أصح راحت الموقف اكتشفت انها لازم تحجز قبل معاد الاتوبيس.. و هي ماتعرفش دة لأنها متعودة ان ابوها الحاج عبد الرحمن بيبعتلها العربية كل مرة تاخدها و توديها.
المهم فضلت واقفة شوية تشوف هاتعمل ايه لحد ما قررت انها ترجع السكن تاني و تفكر براحتها.. و هي خارجة سمعت حد بيقول سوهاج سوهاج..
عرفت انه ميكروباص و بيروح سوهاج.. فقالت بس انا هاركب ميكروباص.. و ركبت فعلا.. و في الطريق السواق كان سايق علي سرعة عالية جدا.. لكن فجأة فردة كاوتش فرقعت.. طبعا الباقي سهل تعرفيه..
سارة: حادثة طبعا.
تنهد صبري و اعتدل في جلسته..
صبري: ايوة.. للأسف العربية اتقلبت.. عدد الوفيات كان تقريبا 9 و اللي نجيو 5 بس.. منهم هدى..
الحادثة للأسف اتسببت في كسر في العامود الفقري.. بعدها طبعا عملت كذا عملية عشان الدكاترة يقدرو يصلحو الكسر ده..
و فعلا ضهرها بقي كويس جدا.. والمفروض انها كانت تبدأ جلسات العلاج الطبيعي عشان تقدر تتحرك بكل سهولة زي الاول..
سارة: تمام.. طيب ايه المشكلة.. يعني علي حسب كلام حضرتك ان هدى محتاجة دكتور علاج طبيعي مش نفسي.. ولا انا فهمت غلط؟؟
صبري: لا مافهمتيش غلط ولا حاجة.. المشكلة انها مش عايزة تعمل جلسات العلاج الطبيعي..
سارة(بتعجب و دهشة): ليه؟؟
صبري: لما هدى عملت الحادثة و دخلت في دوامة العمليات دي.. الموضوع ده خد اكتر من 6 شهور عمليات بس..
هدى كانت مخطوبة لواحد من البلد هناك.. كانو بيحبو بعض او ده اللي كانت هي حساه و ده خلاها تحبه اوي و تتعلق بيه جدا.
لكن للأسف اول ما عملت الحادثة ماعداش اسبوعين و كان سايبها...
سارة(رفعت حاجبيها بدهشة شديدة): الندل.. الواطي..
صبري(ضحك مقهقهاً): ههههههههههه.. بالظبط كدة..
سارة: و هو ده واحد يتزعل عليه اصلا.. دة واطي و جبان..
صبري(بتأكيد): معاكي حق.. لكن للأسف هي مافكرتش كدة.. هي انهارت و فقدت الامل في الحياة.. و كانت بتدخل العمليات و تتعالج و هي زي الألة.. لا بتتكلم ولا بتاكل ولا بتشرب.. مجرد ألة..
سارة: و بعد فترة العلاج دي.. ايه اللي حصل؟؟
صبري: ولا اي حاجة.. لما كانت بتتعالج في المستشفي كان ضد ارادتها.. بتتبنج و تدخل العمليات تخرج تاخد علاجها كله حقن لأنها كانت بترفض تاخد اي برشام او هي اصلا مابقاش ليها نفس تعيش..
و لما دخلت مرحلة العلاج الطبيعي كانت دي هي فرصتها للتمرد.. رفضت العلاج الطبيعي و الجلسات حتي دواها ماكنتش بتاخده غير بطلوع روح.. ماكنتش بتاخده غير لما عاصم يقعد يتحايل عليها كتير..
سارة: مين عاصم؟؟
صبري: اخوها الكبير.. روحها فيه و هو بيموت فيها.. علاقتهم قوية جدا..
سارة: تمام.. يبقى لازم نخليها تنسى الواطي ده.. و ترجع تتمسك بالحياة تاني.. يعني حضرتك عايزني بس اقنعها تتعالج... صح؟؟
صبري: تمام..
سارة: ممكن تكلمني عن البيت عندها شوية.. يعني عيلتها.. مين عايش معاها.. يعني..
صبري: هدى عايشة مع امها.. اللي هي اختي.. الحاجة هنية.. ست طيبة و حتة سكرة.. دمها خفيف و هاتحبيها اوي اوي.. انا واثق..
و ابوها الحاج عبد الرحمن.. يبقي عمدة بلدهم.. راجل طيب و بيحب بيته و ولاده و مراته جدا.. ممكن يعمل اي حاجة عشانهم..
و اخيرا بقي عاصم.. اخوها الكبير زي ما قولتلك. بيحبها جدا و بيتعامل معاها على انها بنته مش بس اخته.. مابيستحملش عليها الهوا..
لما تعبت كان هو اللي بيشيلها عشان ينقلها لاي مكان من السرير للحمام.. او من اوضتها لاوضة الاشعة لما تكون مزرجنة و مش عايزة تروح.. يعني..
سارة: شكله بيحبها اوي.. بيفكرني بآسر اخويا.. المهم. هانسافر امتي؟؟
صبري(غير مصدق): بجد.. يعني وافقتي خلاص..؟
سارة(بتكبر مصطنع): اه وافقت.. ما انت حضرتك صعبت عليا و صعبت عليا البت الغلبانة دي.. اهو نكسب فيها ثواب..
صبري(مقهقهاً): ههههههههه.. ربنا يجعله في ميزان حسناتك يا ستي.. عموماً انا هاتصل بيهم عشان نروحلهم في اقرب فرصة..
سارة: اتفقنا.. عن إذنك..
تركته و ذهبت الى مكتبها...
و في سوهاج...
في منزل عريق في إحدي مدن الصعيد.. منزل كبير نحت الزمن عليه الكثير من الذكريات و الاحداث.. منزل عائلة الحاج عبد الرحمن المنياوي.. عمدة قرية الصوالحة بمحافظة سوهاج..
كانت تجلس في إحدى شرفات المنزل بالطابق الاول ابنتهم الوحيدة.. هدى..
كانت بداخل غرفتها بالطابق الأرضي حيث كانت تجلس علي ذلك الكرسي المدولب الذي أصبح صديقها و انيس وحدتها.. كانت تنظر الي الفراغ بوجه حزين و عيون منطفئة و وجه شاحب من كثرة أحزانها.. لم تتحدث كثيراً منذ ذلك الحادث الذي تركها قعيدة ملازمة لذلك الكرسي المتحرك..
راقبتها والدتها بحسرة و حزن علي إبنتها المسكينة التي انطفأت في ربيع عمرها.. تحسرت الام علي ضحكة ابنتها التي تبدلت بدموع الألم.. و علي حالها الذي تبدل من البهجة و النجاح الي الموت البطيء.
لم تشعر بدموعها التي اغرقت وجهها الا عندما شعرت بيد حنونة تربت علي كتفها.. فنظرت لتجده زوجها الذي لم يقل حزنه عنها علي ابنته...
عبد الرحمن: مالك يا حاچة؟؟ عاتبكي ليه عاد؟؟
هنية: لا ما هابكيش ولا حاجة.. سلامتك.
عبد الرحمن: عاتخبي عني ولا ايه يا ام عاصم؟؟ جوليلي مالك؟؟
نظرت هنية نحو ابنتها بحزن و اجابته..
هنية: يعني مانتش عارف مالي يا حاج؟؟.. جلبي بيتجطع علي هدى و اني شايفاها بتدبل كل يوم عن اللي جبله و احنا ماعرفينش نعملها حاچة..
عبد الرحمن(تنهد بحزن و اتجه ليجلس الي أحد الكراسي): اييييييييه... و مين سمعك يا ام عاصم.. والله كل ما بشوفها بحس ان الدنيا بقت اضيق من خرم الابرة..
بس ارچع اجول ان ده ابتلاء من ربنا و افضل ادعيلها ان ربنا يفك كربها و يزيح عنها و عنا..
هنية: و نعم بالله.. ربنا يشفيكي يا هدى يا بت بطني و يطمني عليكي انتي و اخوكي عاصم جادر يا كريم..
عبد الرحمن: ايوة كدة ادعيلها و ربنا ان شاء الله هايشفيها و يعافيها و عمره ما يؤذينا فيها ابداً..
ياللا بجى.. جومي ياللا چهزيلنا الفطور من يدك الحلوة دي.. عشان نروحو نشوفو مصالحنا.. ياللا.
هنية: الفطور چاهز من بدري.. ده انا كنت چاية احاول اخليها تخرچ من اوضتها و تاچي تفطر معانا.. صعبان عليا حبستها دي..
عبد الرحمن: ماشي.. روحي انتي حطي الوكل و صحي عاصم و اني هادخلها اشوفها..
تركته هنية و اتجهت لتقوم بتجهيز طاولة الافطار.. و توجه هو لإبنته كي يحاول ان يخرجها من عزلتها قليلاً.. هذا إن أعطته الفرصة...
طرق الباب عدة طرقات خفيفة و لكنه لم يتلقي اي رد كالعادة.. ففتح الباب و دخل ليجدها قد اغلقت النافذة التي كانت فتحتها الخادمة رغماً عنها فتحة صغيرة بناءاً علي طلبها..
لم تشعر هدى بوالدها عندما دخل الي الغرفة.. تنهد بحزن و ذهب ليجلس بجانبها..
كانت تجلس علي كرسيها الذي أصبح رفيق وحدتها حتي تفاجئت به يربت علي كف يدها المستند علي يد الكرسي..
هدى(و عادت من شرودها): بابا..؟
عبد الرحمن: ايوة بابا يا ست هدى اللي مطنشاه و ماعيزاش تردي عليه..
هدى(بحرج): يا خبر يا بابا العفو.. و انا اقدر برضه.. بس هو حضرتك دخلت امتي اصلا ؟؟
عبد الرحمن: فضلت اخبط و انتي ما عاترديش.. فتحت الباب و دخلت و فضلت اكلمك و انادي عليكي و انتي مش اهنا واصل.. سرحانة في ايه بجى يا جمر انتي..
هدى: ولا حاجة يا بابا.. هاكون سرحانة في ايه يعني.. عادي.
عبد الرحمن(ربت علي وجنتها بحنان): عاتكدبي عليا ولا ايه يا بت هنية؟؟
هدى(ابتسمت بحزن حتى تغير الموضوع): دلوقت بقيت بنت هنية.. لو سمعتك دلوقتي مش هاتسكتلك..
عبد الرحمن: و انا يهمني اياك ؟؟ سيبك انتي.. هي بتچهز الفطور انما ايه.. علي مزاچك.. ايه رأيك بقي تطلعي تفطري معانا..
هدى: لا يا بابا معلش.. انا اصلا ماليش نفس.
عبد الرحمن: كيف يعني مالكيش نفس دي.. لا انتي لازماً تتغذي و تاكلي زين.. عشان العلاچ بتاعك..
هدى: و هايفيد بايه العلاج يا بابا.. ما انا بقالي اكتر من سنة باخد علاج و مافيش فايدة.
عبد الرحمن: لا يا بتي.. لا.. اوعاكي تجولي كده.. ديه امتحان من ربنا.. و يمكن فيه خير..
هدى(بانفعال): خير؟؟ انهي خير.. انا عملت حادثة و اتشليت.. سيبت كليتي لأني مابقتش عارفة اروحها ولا اتابع محاضراتي أصلا..
و خطيبي اللي المفروض بيحبني سابني حتي قبل ما اخرج من المستشفي..
حياتي اتدمرت و مستقبلي مش باينله ملامح.. و جاي تقولي خير.. خير ايه بس يا بابا..
عبد الرحمن: يا بتي ماتجوليش اكده حرام عليكي..
هدى(و بدأت دموعها في التسابق على وجنتها): بابا انا عارفة ان حضرتك بتقول كدة بس عشان تصبرني.. لكن صدقني مافيش اي حاجة ممكن تهون عليا حالي ولا تصبرني..
عبد الرحمن: سيبيها علي الله.. و صدقيني بكرة تعرفي ان ربنا يستحيل يعمل فينا شر ابداً..
ها.. ماعتجوميش تفطري معانا برضيك؟؟
هدى: لا يا بابا.. معلش.. سيبني براحتي.. ماتضغطش عليا ارجوك.
عبد الرحمن(اتنهد بحزن): براحتك يا بتي.. براحتك..
خرج عبد الرحمن ليترك ابنته لأفكارها و حزنها الذي اصبح لا يفارقها منذ ذلك الحادث المشئوم.
خرج عبد الرحمن ليجد زوجته تنتهي من إعداد طاولة الافطار.. فاتجه نحوها و جلس في مكانه علي رأس المائدة لتراه هنية و تفهم سبب ضيقه و حزنه... فتتنهد بيأس بدورها و تجلس بجانبه و تسأله..
هنية: برضك مارضيتش تخرج معاك.. صوح؟؟
عبد الرحمن: معلش.. سيبيها براحتها.. اللي حصل لها ماهواش شوية يا حاچة.. بكرة ربنا يفرچها..
هنية: يارب..
عبد الرحمن: امال فين عاصم.. لساه نايم لحد دلوجيت؟؟
هنية: لا.. صحي و بيلبس و زمانه نازل..(ثم رفعت صوتها لتنادي على إحدى خادمات القصر)فاطنة.. بت يا فاطنة..
لتركض فتاة صغيرة في اواخر عقدها الثاني ترتدي جلباب صعيدي و تغطي شعرها بطرحة صغيرة..
فاطمة: ايوة يا ستي الحاچة..
هنية: سيدك عاصم صحي؟؟
فاطمة: ايوة.. و زماناته نازل اها..
هنية: طيب روحي استعجليه.. و هاتيلي عدة القهوة عشان اچهز قهوة ابوكي العمدة.. ياللا همي..
فاطمة: حاضر.
اما بالاعلى.. في إحدي غرف ذلك المنزل الذي يجمع تلك الاسرة الصغيرة المُحبة..
كانت غرفة عاصم.. الابن الاكبر للعمدة عبد الرحمن المنياوي.. لم يكن صباح هذا اليوم مختلفاً عما سبقه او عما سيليه..
فقد كانت عادته ان يستيقظ من نومه في تمام الساعة السادسة ليشرب كوب اللبن الدافيء الذي تعده له والدته و تضعه بجانبه كأول شيء تفعله في يومها..
ثم يقوم بممارسة بعض الرياضة البسيطة كتمارين الضغط و الملاكمة علي كيس التدريبات المخصص لذلك و نط الحبل..
ثم يتجه الي المرحاض و يأخذ حمامه.. يخرج ليرتدي ملابسه المكونة من الجلباب الصعيدي التقليدي و عليه عبائته الصوفيه و على رأسه عمامته التقليدية لتكتمل طلته المهيبة..
نظر لنفسه في المرآة حتي يمشط شعره لتمر عليه ذكرياته مع زوجته السابقة و ابنة عمه عبير..
فقد اعتادها تحضر له كوب اللبن و توقظه في موعده المحدد.. تعد له حمامه و تجهز ملابسه و تساعده في ارتدائها..
كانت تفعل له ذلك كل يوم.. الي ان...
الى ان تبدلت احوالهما بسبب ذلك الشيء الذي لم يكن له ذنب فيه.. فقد كانت حياتهما مستقرة.. حسناً لم يكن بينهما ذلك الحب الذي يسبب رعشة اليدين عندما يتلامسان.. او الذي يجعل احدهما لا يحرر الاخر من حصار عينيه.. او يجعل القلب يرجف بمجرد نظرة بسيطة من الشريك.
و لكنهما كانا لبعضهما منذ الصغر حسب عادات و تقاليد عائلتهما و اتما زواجهما عندما كبرا..
لكنها عندما تركته بتلك الطريقة المهينة و طلبها للطلاق بكل طاقتها.. عينيها التي لم ترمش امام المأذون الذي طلب منها ان تفكر مرة اخرى..
و لكنها فاجأت الجميع بردها...
"عبير: لا يا سيدنا الشيخ مافيش فايدة.. احنا متفقين واني مارايداهوش.."
جرحته الكلمة في صميم كرامته لكنها لم تمس قلبه و كان هو مرتاحاً لذلك.. فجرح القلب هو ما لا يستطيع ان يداويه..
نفذ لها ما أرادت و تم الطلاق و تركها و طوى صفحتها للأبد..
استفاق من ذكرياته علي طرق علي الباب ليعيده الى الواقع مرة اخرى..
عاصم: ايوة.. مين.
فاطمة: اني فاطنة يا سي عاصم.. ستي الحاچة بتقولك الفطور جاهز.. و هي بتعمل القهوة ليك و لسيدي الحاچ.
عاصم: طيب جوليلهم نازل اها..
نزلت فاطمة ليتبعها هو فيجد والداه يجلسان يتناولان فطورهما في جو حزين صامت كالعادة.. فيذهب لهما...
عاصم(يقبل يد والده): صباح الخير يا بوي.
عبد الرحمن: صباح النور يا ولدي.. كيفك؟؟
عاصم: بخير طول ما انتو بخير(نظر لوالدته و قبل رأسها و يدها) صباح الخير يا اما..
هنية: صباح النور يا نور عيني.. اجعد ياللا عشان تفطر.. انت اتأخرت النهاردة..
عاصم: معلش راحت عليا نومة.
هنية: راحت عليك نومة؟؟ من امتي؟؟
عاصم: واه يا اما.. راحت عليا نومة بجولك.. كنت اچرمت ولا اچرمت..
هنية: لا يا ولدي ماقصدش.. بس اصل اول مرة ماتجومش في معادك..
عاصم: معلش.. كنت تعبان شوية..
هنية: الف سلامة عليك..
عاصم: هي هدى فين اومال؟؟ مارضيتش تخرج برضيك؟؟
عبد الرحمن(تنهد بحزن لحال ابنته): لا مارضياش.. دخلتلها و برضك مافيش فايدة..
عاصم: يا اما ما تكلمي اخوكي ده اللي عاملي فيها دكتور و ياما هنا ياما هناك و هو ماعرفش يعمل لها حاچة... و كل يومين يبعتلنا دكتور و يروح زي جلته..
هنية: كلمته و الله.. قالي هايتصل تاني كمان كام يوم يكون لقي دكتور چديد..
عاصم: يا مسهل.. هاجوم اطل علي هدى عبال ما تعمليلي القهوة.
هنية: ماشي يا ولدي.
في القاهرة...
في مستشفي الدكتور صبري للطب النفسي.. الدكتور صبري هو شقيق الحاجة هنية.. خال هدى و عاصم.. يعمل كطبيب نفسي و له مشفي خاص للأمراض النفسية و العصبية.. يعمل معه خيرة الاطباء النفسيين في مصر و الشرق الأوسط كله..
كان بمكتبه و معه سارة جميل.. إحدى الاطباء الذين يعملون لديه و هو يراها افضلهم علي الاطلاق.. كان يحاول ان يقنعها بالسفر لكفر الصوالحة لدى شقيقته حتي تتابع حالة هدى بنفسها...
صبري: خلاص بقي يا سارة.. ماتوجعيش قلبي..
سارة: انا اللي ماوجعش قلبك برضه يا د/صبري..
صبري: يا بنتي بقولك دي بنت اختي و حالتها محتاجة رعاية نفسية خاصة.. و انا شايف انك انسب واحدة تقوم بالمهمة دي.
سارة: يا د/صبري.. يا د/صبري انا ماعنديش اي مشكلة اني اتابع حالتها زي ما انت عايز.. و بدون مقابل حتي.. دي برضه تبقي بنت اختك.
بس هنا في المستشفى مش انا اللي اروح اعيش في مكان غريب ماعرفش فيه حد و حضرتك عارف ان ده هايبقي صعب بالنسبالي جدا..
ارجوك اعفيني و كلف حد غيري بالمهمة دي.
صبري(مسايساً): طيب قوليلي انتي مين ممكن يقوم بالمهمة دي غيرك.. و طبعا انتي عارفة ان ماينفعش دكتور راجل و يعيش هناك لأنهم صعايدة و دى حاجة صعبة.
و بعدين البنت مرت بأزمة عاطفية مصاحبة للحادثة و انا مش عايزها تتعلق بالدكتور و يرجع يقولها انا دكتورك بس و نرجع لنقطة الصفر تاني.
سارة: مش لازم دكتور راجل..
صبري(وضع كفيه فوق بعضهما مسايساً لها مرة أخرى): قوليلي انتي مين ممكن يسافر الاعارة دي زي ما انتي مسمياها غيرك.. ده انتو كلكو علي بعض اربع دكاترة ستات..
ثم أخذ يعد على إصبعه و هو يفسر حال كل منهن...
صبري: چني مخطوبة و بتجهز لفرحها اللي كمان شهر و نص و حتي لما تتجوز مش معقول اقولها سيبي بيتك و عريسك يا عروسة و سافري الصعيد..
ياسمين و نهي متجوزين و واحدة حامل و اصلا بتخدم حماتها اللي عايشة معاها و التانية محتاسة بالـ 3 قرود اللي مخلفاهم..
سارة: ااه.. فمافيش قدام حضرتك غير سارة الغلبانة الوحدانية اللي ماورهاش حد.. صح.. ليه هو حضرتك ناسي اني عايشة مع آسر اخويا ولا ايه..
صبري: و الله مش قصدي.. بس حتي لو ظروفك زيهم كنت هاختارك برضه.. لان انتي بجد احسنهم.. ها قولتي ايه؟؟
و بعدين تعالي هنا هو فين آسر اخوكي ده.. ده احنا دافنينه سوا.. ده شغال في اخر الدنيا و بيجيلك مرة كل شهرين صح ولا ايه؟؟
سارة(بتلجلج): برضه.. مش مبرر..
صبري: لا مبرر.. اهو حتي بدل ما انتي قاعدة لوحدك.. تغيري جو و تشتغلي.. ها وافقي بقي وحياة عيالك.
سارة(ضيقت عينها متصنعة الغيظ): هي وصلت لعيالي.. شكرا يا دكتور.. شكرا يا مستشفي.. شكرا يا مصر..
صبري: مصر ايه يا بت انتي.. هاتودينا في داهية.. ها قولتي ايه.. وافقي بقي نشفتي ريقي.. بقالي شهر بتحايل عليكي..
سارة: ماشي.. كلمني عن الحالة.. و اقرر بعدين..
صبري: حبيبتي.. هو انا قلتلك انك حبيبتي قبل كدة..
سارة: لا حضرتك ما قلتش.. بس انا ممكن اقول للمدام انك قلت..
تراجع هو بخوف مصطنع نظراً لغيرة زوجته الشديدة عليه إلا من سارة فهي تعرفها جيداً و تعاملها كأبنتها...
صبري: اخرسي ده انا بكرهك من كل قلبي..
سارة(ضحكت بمرح): ههههههههههه.. طيب خلينا في الحالة.. كلمني عنها..
صبري: هدى.. بنت اختي.. 23 سنة.. كانت بتدرس في كلية فنون جميلة في جامعة القاهرة بس طبعا وقفت بعد الحادثة..
كانت خلصت امتحانات سنة تالتة في كليتها و حبت تعمل مفاجأة لأهلها و خطيبها و تفجاءهم بوصولها خصوصا انها كانت ماشافتهمش طول الترم..
فقررت ترجع في سوبرچيت بس للأسف مالقيتش حجز.. او بمعني أصح راحت الموقف اكتشفت انها لازم تحجز قبل معاد الاتوبيس.. و هي ماتعرفش دة لأنها متعودة ان ابوها الحاج عبد الرحمن بيبعتلها العربية كل مرة تاخدها و توديها.
المهم فضلت واقفة شوية تشوف هاتعمل ايه لحد ما قررت انها ترجع السكن تاني و تفكر براحتها.. و هي خارجة سمعت حد بيقول سوهاج سوهاج..
عرفت انه ميكروباص و بيروح سوهاج.. فقالت بس انا هاركب ميكروباص.. و ركبت فعلا.. و في الطريق السواق كان سايق علي سرعة عالية جدا.. لكن فجأة فردة كاوتش فرقعت.. طبعا الباقي سهل تعرفيه..
سارة: حادثة طبعا.
تنهد صبري و اعتدل في جلسته..
صبري: ايوة.. للأسف العربية اتقلبت.. عدد الوفيات كان تقريبا 9 و اللي نجيو 5 بس.. منهم هدى..
الحادثة للأسف اتسببت في كسر في العامود الفقري.. بعدها طبعا عملت كذا عملية عشان الدكاترة يقدرو يصلحو الكسر ده..
و فعلا ضهرها بقي كويس جدا.. والمفروض انها كانت تبدأ جلسات العلاج الطبيعي عشان تقدر تتحرك بكل سهولة زي الاول..
سارة: تمام.. طيب ايه المشكلة.. يعني علي حسب كلام حضرتك ان هدى محتاجة دكتور علاج طبيعي مش نفسي.. ولا انا فهمت غلط؟؟
صبري: لا مافهمتيش غلط ولا حاجة.. المشكلة انها مش عايزة تعمل جلسات العلاج الطبيعي..
سارة(بتعجب و دهشة): ليه؟؟
صبري: لما هدى عملت الحادثة و دخلت في دوامة العمليات دي.. الموضوع ده خد اكتر من 6 شهور عمليات بس..
هدى كانت مخطوبة لواحد من البلد هناك.. كانو بيحبو بعض او ده اللي كانت هي حساه و ده خلاها تحبه اوي و تتعلق بيه جدا.
لكن للأسف اول ما عملت الحادثة ماعداش اسبوعين و كان سايبها...
سارة(رفعت حاجبيها بدهشة شديدة): الندل.. الواطي..
صبري(ضحك مقهقهاً): ههههههههههه.. بالظبط كدة..
سارة: و هو ده واحد يتزعل عليه اصلا.. دة واطي و جبان..
صبري(بتأكيد): معاكي حق.. لكن للأسف هي مافكرتش كدة.. هي انهارت و فقدت الامل في الحياة.. و كانت بتدخل العمليات و تتعالج و هي زي الألة.. لا بتتكلم ولا بتاكل ولا بتشرب.. مجرد ألة..
سارة: و بعد فترة العلاج دي.. ايه اللي حصل؟؟
صبري: ولا اي حاجة.. لما كانت بتتعالج في المستشفي كان ضد ارادتها.. بتتبنج و تدخل العمليات تخرج تاخد علاجها كله حقن لأنها كانت بترفض تاخد اي برشام او هي اصلا مابقاش ليها نفس تعيش..
و لما دخلت مرحلة العلاج الطبيعي كانت دي هي فرصتها للتمرد.. رفضت العلاج الطبيعي و الجلسات حتي دواها ماكنتش بتاخده غير بطلوع روح.. ماكنتش بتاخده غير لما عاصم يقعد يتحايل عليها كتير..
سارة: مين عاصم؟؟
صبري: اخوها الكبير.. روحها فيه و هو بيموت فيها.. علاقتهم قوية جدا..
سارة: تمام.. يبقى لازم نخليها تنسى الواطي ده.. و ترجع تتمسك بالحياة تاني.. يعني حضرتك عايزني بس اقنعها تتعالج... صح؟؟
صبري: تمام..
سارة: ممكن تكلمني عن البيت عندها شوية.. يعني عيلتها.. مين عايش معاها.. يعني..
صبري: هدى عايشة مع امها.. اللي هي اختي.. الحاجة هنية.. ست طيبة و حتة سكرة.. دمها خفيف و هاتحبيها اوي اوي.. انا واثق..
و ابوها الحاج عبد الرحمن.. يبقي عمدة بلدهم.. راجل طيب و بيحب بيته و ولاده و مراته جدا.. ممكن يعمل اي حاجة عشانهم..
و اخيرا بقي عاصم.. اخوها الكبير زي ما قولتلك. بيحبها جدا و بيتعامل معاها على انها بنته مش بس اخته.. مابيستحملش عليها الهوا..
لما تعبت كان هو اللي بيشيلها عشان ينقلها لاي مكان من السرير للحمام.. او من اوضتها لاوضة الاشعة لما تكون مزرجنة و مش عايزة تروح.. يعني..
سارة: شكله بيحبها اوي.. بيفكرني بآسر اخويا.. المهم. هانسافر امتي؟؟
صبري(غير مصدق): بجد.. يعني وافقتي خلاص..؟
سارة(بتكبر مصطنع): اه وافقت.. ما انت حضرتك صعبت عليا و صعبت عليا البت الغلبانة دي.. اهو نكسب فيها ثواب..
صبري(مقهقهاً): ههههههههه.. ربنا يجعله في ميزان حسناتك يا ستي.. عموماً انا هاتصل بيهم عشان نروحلهم في اقرب فرصة..
سارة: اتفقنا.. عن إذنك..
تركته و ذهبت الى مكتبها...
و في سوهاج...
في منزل عريق في إحدي مدن الصعيد.. منزل كبير نحت الزمن عليه الكثير من الذكريات و الاحداث.. منزل عائلة الحاج عبد الرحمن المنياوي.. عمدة قرية الصوالحة بمحافظة سوهاج..
كانت تجلس في إحدى شرفات المنزل بالطابق الاول ابنتهم الوحيدة.. هدى..
كانت بداخل غرفتها بالطابق الأرضي حيث كانت تجلس علي ذلك الكرسي المدولب الذي أصبح صديقها و انيس وحدتها.. كانت تنظر الي الفراغ بوجه حزين و عيون منطفئة و وجه شاحب من كثرة أحزانها.. لم تتحدث كثيراً منذ ذلك الحادث الذي تركها قعيدة ملازمة لذلك الكرسي المتحرك..
راقبتها والدتها بحسرة و حزن علي إبنتها المسكينة التي انطفأت في ربيع عمرها.. تحسرت الام علي ضحكة ابنتها التي تبدلت بدموع الألم.. و علي حالها الذي تبدل من البهجة و النجاح الي الموت البطيء.
لم تشعر بدموعها التي اغرقت وجهها الا عندما شعرت بيد حنونة تربت علي كتفها.. فنظرت لتجده زوجها الذي لم يقل حزنه عنها علي ابنته...
عبد الرحمن: مالك يا حاچة؟؟ عاتبكي ليه عاد؟؟
هنية: لا ما هابكيش ولا حاجة.. سلامتك.
عبد الرحمن: عاتخبي عني ولا ايه يا ام عاصم؟؟ جوليلي مالك؟؟
نظرت هنية نحو ابنتها بحزن و اجابته..
هنية: يعني مانتش عارف مالي يا حاج؟؟.. جلبي بيتجطع علي هدى و اني شايفاها بتدبل كل يوم عن اللي جبله و احنا ماعرفينش نعملها حاچة..
عبد الرحمن(تنهد بحزن و اتجه ليجلس الي أحد الكراسي): اييييييييه... و مين سمعك يا ام عاصم.. والله كل ما بشوفها بحس ان الدنيا بقت اضيق من خرم الابرة..
بس ارچع اجول ان ده ابتلاء من ربنا و افضل ادعيلها ان ربنا يفك كربها و يزيح عنها و عنا..
هنية: و نعم بالله.. ربنا يشفيكي يا هدى يا بت بطني و يطمني عليكي انتي و اخوكي عاصم جادر يا كريم..
عبد الرحمن: ايوة كدة ادعيلها و ربنا ان شاء الله هايشفيها و يعافيها و عمره ما يؤذينا فيها ابداً..
ياللا بجى.. جومي ياللا چهزيلنا الفطور من يدك الحلوة دي.. عشان نروحو نشوفو مصالحنا.. ياللا.
هنية: الفطور چاهز من بدري.. ده انا كنت چاية احاول اخليها تخرچ من اوضتها و تاچي تفطر معانا.. صعبان عليا حبستها دي..
عبد الرحمن: ماشي.. روحي انتي حطي الوكل و صحي عاصم و اني هادخلها اشوفها..
تركته هنية و اتجهت لتقوم بتجهيز طاولة الافطار.. و توجه هو لإبنته كي يحاول ان يخرجها من عزلتها قليلاً.. هذا إن أعطته الفرصة...
طرق الباب عدة طرقات خفيفة و لكنه لم يتلقي اي رد كالعادة.. ففتح الباب و دخل ليجدها قد اغلقت النافذة التي كانت فتحتها الخادمة رغماً عنها فتحة صغيرة بناءاً علي طلبها..
لم تشعر هدى بوالدها عندما دخل الي الغرفة.. تنهد بحزن و ذهب ليجلس بجانبها..
كانت تجلس علي كرسيها الذي أصبح رفيق وحدتها حتي تفاجئت به يربت علي كف يدها المستند علي يد الكرسي..
هدى(و عادت من شرودها): بابا..؟
عبد الرحمن: ايوة بابا يا ست هدى اللي مطنشاه و ماعيزاش تردي عليه..
هدى(بحرج): يا خبر يا بابا العفو.. و انا اقدر برضه.. بس هو حضرتك دخلت امتي اصلا ؟؟
عبد الرحمن: فضلت اخبط و انتي ما عاترديش.. فتحت الباب و دخلت و فضلت اكلمك و انادي عليكي و انتي مش اهنا واصل.. سرحانة في ايه بجى يا جمر انتي..
هدى: ولا حاجة يا بابا.. هاكون سرحانة في ايه يعني.. عادي.
عبد الرحمن(ربت علي وجنتها بحنان): عاتكدبي عليا ولا ايه يا بت هنية؟؟
هدى(ابتسمت بحزن حتى تغير الموضوع): دلوقت بقيت بنت هنية.. لو سمعتك دلوقتي مش هاتسكتلك..
عبد الرحمن: و انا يهمني اياك ؟؟ سيبك انتي.. هي بتچهز الفطور انما ايه.. علي مزاچك.. ايه رأيك بقي تطلعي تفطري معانا..
هدى: لا يا بابا معلش.. انا اصلا ماليش نفس.
عبد الرحمن: كيف يعني مالكيش نفس دي.. لا انتي لازماً تتغذي و تاكلي زين.. عشان العلاچ بتاعك..
هدى: و هايفيد بايه العلاج يا بابا.. ما انا بقالي اكتر من سنة باخد علاج و مافيش فايدة.
عبد الرحمن: لا يا بتي.. لا.. اوعاكي تجولي كده.. ديه امتحان من ربنا.. و يمكن فيه خير..
هدى(بانفعال): خير؟؟ انهي خير.. انا عملت حادثة و اتشليت.. سيبت كليتي لأني مابقتش عارفة اروحها ولا اتابع محاضراتي أصلا..
و خطيبي اللي المفروض بيحبني سابني حتي قبل ما اخرج من المستشفي..
حياتي اتدمرت و مستقبلي مش باينله ملامح.. و جاي تقولي خير.. خير ايه بس يا بابا..
عبد الرحمن: يا بتي ماتجوليش اكده حرام عليكي..
هدى(و بدأت دموعها في التسابق على وجنتها): بابا انا عارفة ان حضرتك بتقول كدة بس عشان تصبرني.. لكن صدقني مافيش اي حاجة ممكن تهون عليا حالي ولا تصبرني..
عبد الرحمن: سيبيها علي الله.. و صدقيني بكرة تعرفي ان ربنا يستحيل يعمل فينا شر ابداً..
ها.. ماعتجوميش تفطري معانا برضيك؟؟
هدى: لا يا بابا.. معلش.. سيبني براحتي.. ماتضغطش عليا ارجوك.
عبد الرحمن(اتنهد بحزن): براحتك يا بتي.. براحتك..
خرج عبد الرحمن ليترك ابنته لأفكارها و حزنها الذي اصبح لا يفارقها منذ ذلك الحادث المشئوم.
خرج عبد الرحمن ليجد زوجته تنتهي من إعداد طاولة الافطار.. فاتجه نحوها و جلس في مكانه علي رأس المائدة لتراه هنية و تفهم سبب ضيقه و حزنه... فتتنهد بيأس بدورها و تجلس بجانبه و تسأله..
هنية: برضك مارضيتش تخرج معاك.. صوح؟؟
عبد الرحمن: معلش.. سيبيها براحتها.. اللي حصل لها ماهواش شوية يا حاچة.. بكرة ربنا يفرچها..
هنية: يارب..
عبد الرحمن: امال فين عاصم.. لساه نايم لحد دلوجيت؟؟
هنية: لا.. صحي و بيلبس و زمانه نازل..(ثم رفعت صوتها لتنادي على إحدى خادمات القصر)فاطنة.. بت يا فاطنة..
لتركض فتاة صغيرة في اواخر عقدها الثاني ترتدي جلباب صعيدي و تغطي شعرها بطرحة صغيرة..
فاطمة: ايوة يا ستي الحاچة..
هنية: سيدك عاصم صحي؟؟
فاطمة: ايوة.. و زماناته نازل اها..
هنية: طيب روحي استعجليه.. و هاتيلي عدة القهوة عشان اچهز قهوة ابوكي العمدة.. ياللا همي..
فاطمة: حاضر.
اما بالاعلى.. في إحدي غرف ذلك المنزل الذي يجمع تلك الاسرة الصغيرة المُحبة..
كانت غرفة عاصم.. الابن الاكبر للعمدة عبد الرحمن المنياوي.. لم يكن صباح هذا اليوم مختلفاً عما سبقه او عما سيليه..
فقد كانت عادته ان يستيقظ من نومه في تمام الساعة السادسة ليشرب كوب اللبن الدافيء الذي تعده له والدته و تضعه بجانبه كأول شيء تفعله في يومها..
ثم يقوم بممارسة بعض الرياضة البسيطة كتمارين الضغط و الملاكمة علي كيس التدريبات المخصص لذلك و نط الحبل..
ثم يتجه الي المرحاض و يأخذ حمامه.. يخرج ليرتدي ملابسه المكونة من الجلباب الصعيدي التقليدي و عليه عبائته الصوفيه و على رأسه عمامته التقليدية لتكتمل طلته المهيبة..
نظر لنفسه في المرآة حتي يمشط شعره لتمر عليه ذكرياته مع زوجته السابقة و ابنة عمه عبير..
فقد اعتادها تحضر له كوب اللبن و توقظه في موعده المحدد.. تعد له حمامه و تجهز ملابسه و تساعده في ارتدائها..
كانت تفعل له ذلك كل يوم.. الي ان...
الى ان تبدلت احوالهما بسبب ذلك الشيء الذي لم يكن له ذنب فيه.. فقد كانت حياتهما مستقرة.. حسناً لم يكن بينهما ذلك الحب الذي يسبب رعشة اليدين عندما يتلامسان.. او الذي يجعل احدهما لا يحرر الاخر من حصار عينيه.. او يجعل القلب يرجف بمجرد نظرة بسيطة من الشريك.
و لكنهما كانا لبعضهما منذ الصغر حسب عادات و تقاليد عائلتهما و اتما زواجهما عندما كبرا..
لكنها عندما تركته بتلك الطريقة المهينة و طلبها للطلاق بكل طاقتها.. عينيها التي لم ترمش امام المأذون الذي طلب منها ان تفكر مرة اخرى..
و لكنها فاجأت الجميع بردها...
"عبير: لا يا سيدنا الشيخ مافيش فايدة.. احنا متفقين واني مارايداهوش.."
جرحته الكلمة في صميم كرامته لكنها لم تمس قلبه و كان هو مرتاحاً لذلك.. فجرح القلب هو ما لا يستطيع ان يداويه..
نفذ لها ما أرادت و تم الطلاق و تركها و طوى صفحتها للأبد..
استفاق من ذكرياته علي طرق علي الباب ليعيده الى الواقع مرة اخرى..
عاصم: ايوة.. مين.
فاطمة: اني فاطنة يا سي عاصم.. ستي الحاچة بتقولك الفطور جاهز.. و هي بتعمل القهوة ليك و لسيدي الحاچ.
عاصم: طيب جوليلهم نازل اها..
نزلت فاطمة ليتبعها هو فيجد والداه يجلسان يتناولان فطورهما في جو حزين صامت كالعادة.. فيذهب لهما...
عاصم(يقبل يد والده): صباح الخير يا بوي.
عبد الرحمن: صباح النور يا ولدي.. كيفك؟؟
عاصم: بخير طول ما انتو بخير(نظر لوالدته و قبل رأسها و يدها) صباح الخير يا اما..
هنية: صباح النور يا نور عيني.. اجعد ياللا عشان تفطر.. انت اتأخرت النهاردة..
عاصم: معلش راحت عليا نومة.
هنية: راحت عليك نومة؟؟ من امتي؟؟
عاصم: واه يا اما.. راحت عليا نومة بجولك.. كنت اچرمت ولا اچرمت..
هنية: لا يا ولدي ماقصدش.. بس اصل اول مرة ماتجومش في معادك..
عاصم: معلش.. كنت تعبان شوية..
هنية: الف سلامة عليك..
عاصم: هي هدى فين اومال؟؟ مارضيتش تخرج برضيك؟؟
عبد الرحمن(تنهد بحزن لحال ابنته): لا مارضياش.. دخلتلها و برضك مافيش فايدة..
عاصم: يا اما ما تكلمي اخوكي ده اللي عاملي فيها دكتور و ياما هنا ياما هناك و هو ماعرفش يعمل لها حاچة... و كل يومين يبعتلنا دكتور و يروح زي جلته..
هنية: كلمته و الله.. قالي هايتصل تاني كمان كام يوم يكون لقي دكتور چديد..
عاصم: يا مسهل.. هاجوم اطل علي هدى عبال ما تعمليلي القهوة.
هنية: ماشي يا ولدي.