اخر الروايات

رواية إغواء حواء كامله وحصريه بقلم شروق حسن

رواية إغواء حواء كامله وحصريه بقلم شروق حسن 


•(الفصل الأول)
•(إغـواء حـواء)
•(كهفٌ كالهلاك)
ليست جميع الشموس مُبهجة، والليل ليس بدوامه حزينًا، فأحيانًا يُشرِق الليل فتُنار ظُلمته، وأحيانًا يَظلُم النهار وتختفي بهجته، وتارةً أخرى تحرقك الشمس بلهيب حرارتها الخادعة، هي فقط مسألة قلوب، إن سعدت أنارت، وإن حزنت أظلمت!
يقف مُنتظرًا أن تختفي الإشارة الحمراء لينطلق بسيارته إلى وجهته التي حددها في لحظة حاسمة، شرد بعقله مُتذكرًا تلك المواقف العصيبة التي مرت بها العائلة حتى كادت أن تتفك، الجميع في حالة تأهُب ملحوظ، والحُزن يُسيطر على حياتهم بمُبالغة، لا يعلم متى ستذهب تلك الغمامة الحارقة، كل الذي يعلمه الآن أنهم في ورطة كبيرة!
هُم بين ليلة وضحاها وجدوا أنفسهم يُحاربون الظلام، هواءٌ داكن ليس له صاحب أو صديق، وكأن السماء انشقت فرمتهم بسهامٍ من الحُزن والخذلان، كالرابطة المُتلاصقة كانوا، والآن هُم متفككين كعُشبٍ أخضر دُهِسَ حتى تفتت! فزهد لونه وتبدد رحيقه، حتى مظهره بات باهتًا غير مُغري كما كان في سابق عهده!
استفاق "مُغيث" من شروده على صوت نفير سيارة تأتي من خلفه، ليكتشف بأن الإشارة تحولت إلى اللون الأخضر، مما يعني انطلاق الجميع لقضاء أشغالهم، نفخ بضيقٍ قبل أن ينطلق بسيارته مرة أخرى، وبعد وقتٍ ليس بالكثير وصل إلى المكان المُحدد "مصحة نفسية لعلاج الإدمان"، ثبَّت نظراته على اللوحة المُدون عليها اسم المكان مُتخيلًا حال "آسر" الآن، لقد تغيَّرت أفعاله كثيرًا في الفترة الأخيرة التي سبقت معرفتهم بإدمانه، وذلك بعد أن حاول الإعتداء على شقيقته قِصرًا بعد تجرعه لرشفة زائدة ومُشاهدته لإحدى الأفلام المُنافية للدين والحياء!
أمرٌ غريب على أبناء تلك العائلة لكنه حدث! سار في رواق المشفى بعد أن رحَّب به صديقه الطبيب "مؤمن راشد"، لقد درسا معًا في المرحلة الإعدادية والثانوية وتفرقا في الجامعة، فالتحق "مُغيث" بكُلية الطب البشري، وكذلك التحق "مؤمن" بنفس الجامعة لكنه تخصص طبيبًا نفسيًا في مجال أراد دخوله وبشدة لسببٍ ما يُخفيه عن الجميع، وقف "مغيث" أمام الغرفة المُحتبس داخلها "آسر" ناظرًا لـ"مؤمن" الذي تمتم بدوره آسفًا:
_للأسف حالته النفسية بتسوء ومش مُتقبل أي علاج.
أخفض "مُغيث" رأسه للأسفل بأسى وتهدل كتفاه حُزنًا، وكأنه ينقصه هذا الحديث! آه لو يعلم لِمَ قد يفعل "آسر" هذا ليصل إلى تلك الحالة! زفر بضيقٍ وحاول استعادة ثباته قبل أن يرفع رأسه مُجددًا نحو "مؤمن" وأردف بإصرار:
_عايز أقابله.
_مش هيبقى في مصلحتك!
نطق بها "مؤمن" بحذر، ليُعاود "مغيث" القول بإصرارٍ أكبر:
_وأنا بقولك عايز أقابله يا "مؤمن"، فيه حاجات كتير محتاج أفهمها منه، حاسس عقلي هيشت مني.
كان "مؤمن" يشعر بذلك الصراع الذي يدور داخله، كل انفعالات جسده التقطها بعيني خبير ماهر في مهنته، لذلك أومأ له ببطئ قبل أن يُحذره بصرامة:
_بس لو مالقتش منه أي استجابة اخرج يا "مُغيث" وبلاش تضغط عليه، هو دلوقتي في مرحلة تخليه يهاجم كل اللي حواليه من غير ما يحط في حساباته مين دا وعايز إيه.
وكأنه بذلك الحديث يضع ملحًا حارًا على جُرحٍ غائر لم يلتئم؛ فيحرقه، سار "مُغيث" خطوتان حتى وقف قبالة باب الغرفة مُباشرةً، حاجز خشبي يفصل بينه وبين صديق لم يكن سوى شقيق في يومٍ من الأيام، أو ربما كانا كروحٍ واحدة انقسمت بعد الكثير من الزلات! مد "مُغيث" يده وفتح الباب بتحفز ثم دخل إليه وأغلقه خلفه مُجددًا.
وبينما في عالمٍ آخر، كان "آسر" مُتمددًا على الفراش بعينين مُتعلقتين في السماء الظاهرة من خلف النافذة، شعر بدخول أحدهم إلى الغرفة فرجَّح بأنه "مُغيث" نظرًا لقدومه عدة مراتٍ من قبل، لكن في كل مرة كان يرفض مُقابلته هربًا من إجابة السؤال المُتوقع طرحه، أغمض عيناه مُطلقًا زفرة ضائقة فشعر بجلوس "مُغيث" على طرف الفراش، وأتبعه حديثه المُتشنج:
_ماتنفخش ياخويا وحياة أمك عشان أنت على تكة معايا.
رمقه "آسر" ساخرًا بطرف عينيه قبل أن يعتدل بجسده الذي نحف كثيرًا عما كان عليه من قبل، ناهيك عن شحوب وجهه وذلك الإسمرار الكثيف الذي حاوط جفناه، حاول "مُغيث" مُساعدته لضعف بنيته الجسدية لكن "آسر" دفعه رافضًا أي معروف يُقدَم له، مما جعل الأول يهتف به بضيق:
_إيه اللي حصلك يا "آسر" أنت ماكنتش كدا!
_إيه اللي جابك؟!
جاوب على سؤاله بسؤالٍ آخر ووجهه الجامد يُطالع وجه "مُغيث" المُتحدي بشراسة، مما دفعه إلى جوابه:
_جاي أشوف أخويا إيه اللي شقلب حاله كدا، مستحيل تكون دا أنت، زي ما يكون بقيت واحد تاني أنا معرفهوش!
ابتسامة ألم ارتسمت على ثُغرِ "آسر" وغمامة من الحزن قد حاوطت عيناه، آه لو يعلم هو ما الذي أصابه؟ كل ما يعلمه بأنه قد أحب فقط وسار في طريقِ العشق، فبدلًا من أن يتجرع حُبًا خالصًا تجرع سمومًا مُخدرة، مرة خلف الأخرىٰ وانساق في دربٍ مليءٍ بالذلات.
زفر "مُغيث" بضيق حينما طال صمت "آسر" وتيقن بأنه لن يُجيبه، على الأقل الآن لذلك فضَّل تغيير الحوار واقترب منه قليلًا ليسأله بصوت هامس:
_طيب سيبك من دا كله وقولي! ضربت حُقن ولا موصلتش للمرحلة دي لسه؟
رفع إليه أنظاره ليُطالعه بتعجب عن قُرب، فبرر له "مُغيث" بقوله:
_أصلي طول عُمري نفسي أجربها بس أنت عارف إني عندي فوبيا من الحُقن.
_مش عيب عليك تبقى دكتور شحط كدا ما شاء الله وتقولي بخاف من الحُقن؟!
تلك الكلمات الساخرة كانت تصعد من فاهِ "آسر" الذي بدأ يظهر عليه أعراض الإنسحاب مُجددًا، فرد عليه "مُغيث" بمزاحٍ في محاولة ليُنسيه ألمه:
_أنا أمسك مشرط وأشرَّح آه، إنما الحُقن دي مش سكتي.
لم يستطيع "آسر" مُجاراته في مزاحه، وإنما جزَّ على أسنانه بألمٍ ساحق وهو يشعر بكلِ خلية في جسده تكادُ أن تُسحَق، طالعه "مُغيث" بقلق وهو يراه يتلوىٰ بجسده في الفراش وجسده بدأ بصب العرق الغزير رغم برودة الأجواء، اقترب منه "مُغيث" يضمه إليه بذراعيه القويتين حتى يمنع تلويه في حين صاح به "آسر" بصراخٍ مُتعب:
_خليهم يدوني الجرعة يا "مغيث"، جرعة واحدة بس بالله عليك هموت مش قادر.
حاول "مُغيث" تكبيله أكثر لكن حركته كانت تزداد جنونًا ومُهاجمته له بدأت أن تكون أكثر شراسة حينما رفض الأخير مطلبه، وفي تلك الأثناء أيقن "مُغيث" بأنه لن يستطيع السيطرة عليه وحده، لذلك نادىٰ على الطبيب بصراخ:
_"مؤمن" تعالى بســــــــــرعة.
لم تمر سوى ثوانٍ معدودة وهرع إليه "مؤمن" ومعه طاقم المُمرضين بأكمله، حاوطوه جميعًا ونظر "مؤمن" إلى "مُغيث" المذهول وطلب منه بعجالة:
_اخرج يا "مغيث" أنت دلوقتي.
خرج "مغيث" من الغرفة بعد محاولات مُستميتة من "مؤمن" والمُمرضين، أُغلِقَ الباب وبقى هو واقفٌ بالخارج يستمع إلى صوت صديقه يصرخ باستجداء قسم ظهره، خلف هذا الباب أحب الأشخاص على فؤاده يتألم حد الممات وهو عاجزٌ عن تقديم المساعدة التي يستحقها له، لطالما تشاركا اللعب، الضحك، المرح، الحزن، البكاء، والآن لا يستطيع مُشاركته ألمه! بالرغم من أنه يشاركه ألمه النفسي لكن ماذا عن جسده الذي يتفتت قسوةً! والأهم من ذلك.. ماذا عن قلبه الذبيح؟
خرج إليه "مؤمن" بعد دقائق مرت كالدهرِ عليه، حيث عمَّ الصمت وخفتت الصرخات تدريجيًا حتى اختفت تمامًا، رمقه "مُغيث" بنظراتٍ مُتلهفة ترجوه أن يُسمِعه ما يسُّره، لكن "مؤمن" هزَّ رأسه آسفًا وهو يُتمتم بأسىٰ:
_أعراض انسحاب المُخدر مش بتاخد وقت طويل، لكن حالته النفسية مش مساعداه يتعافىٰ، هو محتاج سبب قوي يخليه يكافح وهو للأسف مش عايز يساعد نفسه.
غامت عينيّ "مُغيث" بشرودٍ يغلبه الحزن، قبل أن يرفع أنظاره نحو الأخير الذي هتف مُقترحًا بحذر:
_فيه حل واحد أعتقد هيساعده يتخطىٰ شوط العلاج بنتيجة ملحوظة، بس صعب.
رمقه "مُغيث" بتساؤل، فيما استطرد "مؤمن" حديثه بهدوء:
_أخته "آلاء"، خصوصًا إنه مش بيبطل يطلب يشوفها.
"آلاء"؟! شقيقته الصغرىٰ التي كاد أن ينتهكها أشد انتهاك؟ هو لم يُحاول الاعتداء عليها فحسب، بل ترك بفؤادها وصمة خوف يُغلفه الرعب حتى باتت تمقطه، "آلاء" ابنة "آسر" الروحية بالرغم من فارق السن الصغير، كان يُدللها كابنته بالمعنى الحرفي، قدمها كانت لا تخط مكانًا دون أن تسبقها قدمه هو الآخر، لطالما كان يحميها من نسمات الهواء الباردة خوفًا من أن تمرض، وبعد أن كان يطير معها لأعالي السماء الوردية، دفعها أرضًا بقسوة بصواعق الأمطار القاتلة!
زفر "مُغيث" بضيقٍ وهو يهز رأسه نفيًا وأضاف:
_أعتقد هيبقى صعب، "آلاء" دلوقتي حالتها النفسية مش أحسن حاجة ورافضة تسمع أي حاجة عن الموضوع دا، وكأنها كِرهته!
_حاول يا "مُغيث" تتكلم معاها، مجرد محاولة لو نِجحت هتساعدنا كتير.
أومأ له الأخير إيجابًا بعينين يملؤهما الأسىٰ، قبل أن يُغادر المشفى بعد وعده لـ"مؤمن" أن يُحاول الحديث إلى ابنة عمه "يحيى"، وآه من "يحيى" الذي يتلوىٰ من نيران حسرته على "آسر"، نفض تلك الأفكار عن رأسه وصعد سيارته مُنطلقًا بها إلى المشفى ليُباشر عمله الذي تأخر عليه اليوم، وفي جبعته الكثير والكثير من الأسئلة التي لا حصر لها!
راقب رحيله عينان صقريتين مُشبعة بغضبٍ يُطلِق لهيبًا حارقًا، حينما أخرج هاتفه من جيب بنطاله ووضعه على أذنه لينتظر قليلًا، حتى هتف بتخطيط:
_لسه ماشي من المستشفى أهو، خلي عينك عليه.
_"مُغيث طاحون"🙁 ابن"قاسم طاحون"، طبيب جراح امتهن بمهنة أبيه حُبًا وشغفًا ومهارة، يُعتبر من أمهر الجراحين في مدينته، شابٌ مجتهد صاحب السابعة والعشرون ربيعًا، تجرعَ جميع صفات أبيه رشفةً بـ رشفةٍ حتى بات كنسخة شبابية منه، بجسده الرشيق الذي يظهر أسفل ثيابه، وبشرة وجهه الخمرية المائلة للإسمرار، وممزوجة بعينين سمراويتين صقرية حادة، مع ذقن مُهذبة أضفت على هيئته وقارًا وصلابة في الوقتِ ذاته).
_"مؤمن السباعي":(طبيب نفسي يعمل في إحدى المستشفيات الخاصة بعلاج الإدمان، يخفي الكثير خلف برود وجهه وجمود عينه، مُتعدد الشخصيات ومُتقلب المزاج، مَن يراه يغرق في عسل عيناه الصافي، ذات بشرة بيضاء باهتة وحاجبين كثيفين، خصلات شعره سوداء لكنها مُختلطة بشُعيرات فضية لامعة تُزيده هيبة مع أعوام عمره السابعة والعشرين).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أقسىٰ ما يمر على الإنسان هو شعوره بالوحدة، تكتم أنين فؤادك الصاخب خلف قناع يظن مَن يراه أنك تحمل العالم بين كفيك فرحًا، وتُخفي شيب رأسك بابتسامة تخدع الجميع، لكن ماذا عن مرآتك؟ هل ستُخفي حُزنك عنها أيضًا، أم ستتحرر من ذاك القناع المزيف؟.
تأوه طفيف خرج من بين شفتيها عقب أن سقطت نُقطة صغيرة من النحاس المُنصهر على ظهر يدها، طالعت "شمس" تشوه يدها بسبب تلك المعادن التي تُصِر على صناعتها بنفسها في ورشة والدها، حِرفة ورثتها أبًا عن جد ورفضت رفضًا قاطعًا أن تتركها، بل وأصرت على تعلمها أيضًا، حتى باتت من أمهر الحرفيين في صناعة تلك الخواتم والإكسسوارات اللامعة.
كان وجهها مملوء بالأسىٰ، لذلك رمت قطعة النحاس أرضًا ثم خلعت عنها خوذة رأسها واتجهت إلى المقعد لترتمي عليه بانهاك، التفكير يكاد أن يُهلكها حقًا، أتت على تلك الحياة لتجد ذاتها مُجبرة على تحمل معيشتها البائسة، بلا أم، بلا حياة آمنة، وبلا مأوى! كل ما لديها الآن هي تلك الورشة التابعة لأبيها ومحلها الصغير الذي تعرض به مصوغاتها التي تصنعها، وغير ذلك! صراعٌ لا ينطفيء.
وقع بصرها على هاتفها فالتقطته بهدوء، تعلم ماذا تريد أن ترى الآن، تريد إشعال تلك النيران المُشتعلة داخل صدرها أكثر قبل أن تنخمد، تريد تذكير ذاتها بسهام الغدر التي صُوِبَت لها ولأبيها، أن تعيش في كَبِد المُعاناة كل يوم عن ذي قبل حتى لا تنطفيء مشاعرها الثائرة، توقفت عيناها على إحدى الصور فاشتعلت زُمردية عيناها بنيرانٍ عكست لهيب قلبها، فيما اشتدت عضلة فكها في رؤية لاحتمالها ما لا يمكن تحمُّله، قبل أن تُطلق العنان لزفرتها بالصعود، نعم.. فهي كل ذاك الوقت كانت تكتم تنفسها وكأنها تُعاقب ذاتها على ذنبٍ ليست بفاعلته!
خرجت من معرض الصور بصعوبة بالغة بعد أن حاولت السيطرة على ذاتها، ثم فتحت تطبيق جهة الاتصال وقصدت رقمًا بعينه، صاحبه كان الدفيء والجحيم في الوقتِ ذاته، البرد والنار، الصيف والشتاء، السماء والأرض، وما بينهما كان أعاصير مُدمرة!
بشتىٰ الطُرق حاولت حجب نداء عقلها، لكنها في النهاية اتبعته وضغطت على الرقم ليأتيها صوت الرنين المتواصل قبل أن يُفتح الخط على الناحية الأخرى وصوت أنثوي يسأل عن هوية المُتصل، لتكون إجابة "شمس" الحاسمة التي عكست جحيم روحها:
_نهايتك قربت.. استنيني أنا مش ناسياكِ.
بضعة كلمات كانت تحمل الدمار بين طياتها، بل والقسوة المُشيبة للرؤوس، أغلقت الهاتف بعد كلماتها تلك ثم هبت في مكانها على بغتة، تُحاول إخراس أصوات عقلها التي تزأر داخلها بوحشية قاتلة، رفعت كفيها تُمسِك بهما جانبي رأسها وهي تئن بألم، تلك المشاهد التي تغزو مخيلتها الآن تُضيف مُلحًا على جرحٍ لم يلتئم بعد، أتدري ماذا؟ هو لن يتلئم طيلة حياتها!
مرت الدقائق بطيئة كالدهر ومازالت على نفسِ الحالة، حتى بدأت تهدأ رويدًا وتتلاشىٰ الذكريات عن رأسها، تنفست بعمقٍ للحظاتٍ قبل أن تقف شامخة كأنها لم تكن تُعاني منذ قليل، وعلى عكس قوة ملامحها خانتها دمعة مُتحررة أبت سجن القوة الواهي، قبل أن تمسحها بعنفٍ وتهمس بثقة:
_"شمس نصر الدين" متتحِنيش أبدًا.
لم تكن تلك مجرد كلمات عابرة، بل إنها تُمليها على أذنها كل فترة لتستعيد بها قوتها التي تتسرب عبر آلامها المثقوبة، انتقلت بأبصارها لمن دخل لتوه، جزت على أسنانها بحقدٍ حينما رأت واحدًا من أكره الأشخاص على قلبها يتقدم منها بابتسامته الباردة حتى توقف قِبالتها، وقبل أن يفتح فاهه للحديث، باغتته بصفعة لم تكن بالحُسبان، مُشعِلة في فؤاده لهيبًا من النيران القاتلة، لكنها لم تُعطي بالًا لنظراته، وإنما تقدمت هي منه خطوة أخرى وقالت بما يُشبه الهمس:
_المرة اللي فاتت حذرتك بلساني، المرة دي حذرتك بإيدي، صدقني المرة الجاية هتلاقي سيخ الحديد لابس في عينيك.
ظلَّ الأخير على جموده عدا عيناه التي كانت تنطق بألف وعيد ووعيد، تشققت شفتاه عن ابتسامة صغيرة بعيدة كل البُعد عن آدميتها، قبل أن تمتد يده ليجذب بها خصلاتها المخفية أسفل حجابها القصير، قرَّب وجهها الجامد من وجهه غصبًا تحت مقاومتها ثم هتف بفحيح:
_القلم دا هتدفعي حسابه تقيل أوي يا "شمس"، بس مش دلوقتي، حسابك تِقل ودفترك اتملىٰ وقرَّب اليوم اللي هتدفعي فيه كل فواتير بجاحتك وقلة أدبك.
_عارف أمك؟!
غمغمت بها بابتسامة باردة رغم ذلك الألم الذي يحتل رأسها من قوة قبضته، فيما اشتدت قبضته هو أكثر غيظًا من ردودها المُستفزة، وخاصةً حينما أكملت هي:
_ابقى سلملي عليها.
دفعها بعيدًا كخرقة بالية لكنها وازنت جسدها سريعًا ووقفت شامخة تتحديه بعينيها الجامحة كعنقاء ترفض الخضوع أو الهزيمة، في حين رفع سبابته أمام وجهها تزامنًا مع قوله المُحذر:
_الغلطة في قاموس "خالد نصر الدين" بفورة، وأنتِ غلطاتك كِترت أوي.
ظهر الاستهزاء على وجهها ولم تُضيف كلمة أخرى على حديثه، فاستدار هو ليُغادر بخ
ُطىٰ غاضبة لاحقه صوتها الذي قال هازئًا:
_نورتنا يا حضرة الظابط!
تابعت رحيله بعينين باردتين قبل أن تتحول إلى عاصفة هوجاء من الأزرق الداكن، وكأن زَبِد البحر امتزج مع الأمواج فبات شديد السِحر والخطورة! أغمضت عيناها في محاولةٍ منها لعدم السير خلف حديث عقلها مرة أخرى، لكنها و_كالعادة_ فشلت، لذلك انحنت بجذعها لتحمل هاتفها الذي سقط منها ثم هاتفت إحدى الأرقام وانتظرت لثوانٍ بفؤادٍ ينبض بعنف، قبل أن تأتيها الإجابة من الطرف الآخر بعد لحظاتٍ عديدة، لتقول هي بحسم:
_عايزة أبلغ عن بيت دعارة في حي الـ (****) واللي بتديره هي "سكن نصر الدين".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لسنا سواسية، قد نكون من نفسِ الجِنس، لكن أنا إنسان وأنت حيوان الطَبع.
في كافيه عام.. تجلس هي على مقعدها أمام الطاولة تُطالع توتره بعينين باردتين، وتستمع إلى أسبابه المُضحكة بملامح وجه هادئة مع ابتسامة صغيرة تُزيد من توتر الأخير، خاصةً مع حديثه الذي _من المفترض_ أن يتسبب في حزنها الآن، لكنها وكعادتها لديها جزءًا لا مُبالي لن يتزحزح حتى وإن احترق العالم وانقلب رأسًا على عقب! اتسعت ابتسامة "حوراء" عقب انتهائه من الحديث وغمغمت قائلة:
_خَلصت؟!
أومأ لها بهدوء تحت نظراتها الصقرية التي تلتقط كل صغيرة وكبيرة تصدُر منه، قبل أن تُعيد هي حديثه برتمٍ بطيء وكأنها تحفظه:
_يعني أنت عايز تفهمني إن أنت خلاص مبقتش مرتاح معايا بسبب أسلوبي البارد وإنك مش عارف تتعايش مع طريقتي، صح؟!
_دا حقيقي.
هتف بها بثباتٍ مُنفعل وهي مازالت تدرس انفعالاته بعينيها الواسعتين، اقتربت منه بجذعها حتى استندت بمرفقها على الطاولة وقالت مُبتسمة:
_صحيح هي "مها" عاملة إيه؟!
اتسعت عيناه لوهلة وهو يُطالعها بعدم تصديق دامَ للحظات، قبل أن يُغمغم بتوتر:
_مـ.. "مها"؟! "مها" مين؟!
غمزته بمشاكسة وكأن الأمر لا يعنيها وهي تقول:
_الجامدة اللي أنت ماشي معاها!!
كان التوتر قد بلغ مبلغه منه، هو يعهدها ذكية بدرجة تُبهره كل مرة عن المرة التي تسبقها، لكنه لم يتوقع بتاتًا أن تعلم عن هذا الأمر تحديدًا، وهو الذي حرص كل الحِرص أن يكون الموضوع في غاية السرية، لكن "حوراء" لم تُبالي بكل هذا وعرضت أوراقها الرابحة أمامه بكل سلاسة، وما زاد الطين بلة هو استطرادها لحديثها بنبرة غامضة أثارت الشكوك داخله:
_بس تصدق يا دكتور "رحيم"! لايقة عليك أوي، غازية ودكتور.
حاول "رحيم" مُداراة توتره خلف قناع قوته الواهي حينما ردعها بقوله الصارم:
_بعد إذنك يا "حوراء" أنا مسمحلكيش تغلطي أكتر من كدا، وعلى العموم طريقنا نهايته خِلصت لحد كدا، وفي الأول وفي الآخر دا نصيب.
وقفت "حوراء" في مكانها حاملة حقيبة يدها بين كفها، ثم رمقته بنظرة مُتهكمة بعد أن قالت بوقاحة تُشبه وقاحة أبيها تمامًا:
_طيب ابقى سلملي على النصيب الله يكرمك ووصيه إني مشوفش وشك تاني، أصلها مش ناقصة رمرمة.
قالتها ثم غادرت من أمامه بخُطىٰ واثقة، تاركة إياه غارقًا في صدمته من كلماتها الوقحة!
_"حوراء طاحون": (النسخة المُعاكسة لـ"أهلة الأرماني"، عينان سوداوية واسعة كعين المها في اتساعها ولمعانها، شخصية صلبة لا تنحني أو تنكسر، مُتبجحة، وقحة، غير مُبالية، لكنها في الوقت ذاته تملك قلبًا رقيقًا كالقش)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جالسٌ هو على مقعده في المكتب الفسيح الخاص به يُشمر عن قميصه الأبيض الذي فُتِحَ أول زريْن منه، ونظر بعينين حادتين نحو حاسوبه، وتحديدًا تلك المعلومات التي أتته من عدة سويعات، اعتدل "غيث" في مكانه ثم مد يده ليلتقط بها هاتف المكتب ليضعه على أذنه، ثم تحدث بحسم:
_ابعتيلي "سما" ومعاها ملف آخر صفقة يا "ميادة".
تشدق بكلماته ثم أغلق الهاتف دون أن يُضيف كلمة أخرى، كوَّر قبضته التي أسند بها ذقنه وهو يُفكر مليًا في تلك المعلومات التي تسربت للشركات المُنافسة لهم، وتلك المعلومات محفوظة مع "سما" فقط، لكن كيف تسربت؟ ومتى خرجت من الأساس؟ ومَن الذي حصل عليها؟ كلها أسئلة تدور داخل رأسه بإجاباتٍ مجهولة سيحصل عليها بعد قليل.
لن يسمح بأي طريقةٍ كانت أن يذهب مجهودهم هباءًا بسبب خطأ سهو من أي شخص، تلك الشركة من الأساس تابعة لوالدته "أهلة" من البداية، حينما كانت تُديرها هي وكلتا خالاته "يمنى وملك" أثناء محاولاتهم لتدمير سوق "مختار الأرماني"، لكن بالطبع "قاسم وأهلة" أخفوا الحقيقة عن جميع أبنائهم، مكتفيين بإخبارهم بأن الشركة كانت سببًا في خسارتهم أموالًا هائلة لذلك اضطروا لإغلاقها، وها هي الآن بعد مرور خمسة أعوام على افتتاحها تُصنَف الشَرِكة من أهم الشركات في السوق المصرية.
قطع خلوته دخول "سما" بملامح وجه مُقتطبة أثناء حملها للملف المطلوب بين يديها، ترتدي زي العمل الرسمي الخاص بها والذي كان عبارة عن بذلة سوداء نسائية أنيقة وأسفلها قميص أبيض اللون، وحافظت على حجابها ليكون مُتماشيًا مع نفس درجة القميص البيضاء، تقدمت منه أكثر وانفرجت شفتاها في نية للحديث، لكن "غيث" رفع سبابته يمنعها من الاسترسال وهو يقول:
_مُخك ودفترك وافتكريلي مين اللي شافك وأنتِ بتعيني الملف.
ردت عليه "سما" بثقة تزامنًا مع جلوسها على المقعد الذي أمامه:
_أنا مش بعين حاجة قدام حد أنا مش واثقة فيه، لكن اللي كانوا معايا وقتها هما "آسر" و"فيروزة".
تسائل مُجددًا وهو يُطالعها بشك:
_متأكدة ماكنش فيه حد تاني معاكم؟!
هزت رأسها نفيًا قائلة بحسم:
_أنا عارفة كويس أنا بقول إيه.
عاد "غيث" بظهره ليستند على مقعده براحة، عقله يعمل في كل الاتجاهات وبكل الطُرق، "فيروزة" من المستحيل أن تفعلها، كذلك "آسر" يستبعده تمامًا، لكن ماذا إن لم يكن في عقله؟ هو لا يشك به على الإطلاق، لكنه يضع شكه في إدمانه الذي أذهب عقله وعمىٰ بصيرته عنهم جميعًا، جرفه التيار في عاصفة هوجاء أنتجت الخراب داخله وخارجه، فجعلته كالمُسخ مُشوه الأخلاق وسيء الصفات، وشخصية "آسر" الأساسية بعيدة تمامًا عن هذا العبث!
_بتفكر في إيه؟!
أخرجته "سما" من شروده بحديثها، فرفع عيناه إليها يرمقها بتفكيرٍ دام لثوانٍ قبل أن يقول بغموض:
_أنا محتاج أعرف حاجات مينفعش تتعرف.
احتل العبث وجهها وهي تقول بنبرة ساخرة:
_دا العِجل في بطن أمه ولا إيه؟
تشنج وجهه وهو يرميها بالأوراق، مُتشدقًا بابتسامة صفراء:
_لأ استظراف وسخافة أنا مش عايز، يلا اتكلي على الله كملي شُغلك.
هبت "سما" من مكانها وضحكاتها تدوي بعلو، سيطرت على ذاتها بعد لحظاتٍ قائلة لـ"غيث" قبل أن تتركه وتغادر:
_احتمال أروح أزور "آسر" النهاردة.
وكأنها ترمي تلك الكلمات وتهرب من نظراته المُشفقة التي لاحقتها، تابعها "غيث" بعينيه حتى اختفت من أمام ناظريه تمامًا، يعلم أن أخته تُعاني الآن من حبٍ منثور عليه الغبار، ورغم أنها تكبر "آسر" بعدة أشهر ليست بالكثيرة، إلا إنها لم تمنع ذاتها في وقوعها في وحل حبه الذي لطخ طُهر فؤادها وفتته إلى نثرات، أطلق "غيث" زفيرًا حارًا يعكس حُزنًا على رفيقه، نيرانٌ تنبش في وجدانه للأخذ بثأره مِن مَن خدعوه، لكن عليه إيجادهم أولًا!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دائمًا ما تكون الصدفة كنصيب، أو ربما كمُصيب!
توقفت سيارة "مُغيث" على بغتةٍ بعد أن صدم جسد فتاة ظهرت أمامه من العدم، جحظت عيناه هلعًا قبل أن يهبط من سيارته مُهرولًا إلى جسدها المسچي أرضًا كالجثة الهامدة، تجمهر الناس من حوله يلقون على مسامعه بعض الكلمات التي لم يسمعها من الأساس! كل همه كانت تلك التي أمامه، والتي حملها على ذراعيه ووضعها في السيارة على عجالة، وبعدها انطلق بها إلى المشفى حيث كان ذاهب، ولحُسن حظه كان على مقربة كبيرة منها.
وصل إلى المشفى بعد دقائق لا تُعَد ونادىٰ بصوتٍ جهوري أثناء حمله لها:
_تــرولي هنا بسرعــــــة.
سُمعة "مُغيث" في المشفىٰ كطبيب ماهر يتردد صداها في كل ركنٍ وكل جانب في أنحاء المشفى، لذلك لبىٰ الأطباء ندائه سريعًا وسارعوا في جلب عربة الترولي له، واضعين الفتاة عليها وانتقلوا بها إلى غرفة الفحص سريعًا.
مرت الدقائق عديدة يفحصها "مُغيث" بعناية شديدة، حتى خلع ماسك وجهه سامحًا لزفرته المُرتاحة في الصعود، رفعت إليه المُمرضة أنظارها قائلة باطمئنان:
_الحمد لله يا دكتور إن البنت سليمة ومفيهاش حاجة، هي بس كدمة وشكلها من الخضة أُغمى عليها.
تمتم "مُغيث" بالحمد في راحة شديدة بعد أن ذهبت المُمرضة من أمامه، وتسلل الاطمئنان له وكأن حِملًا ثقيلًا كان موضوعًا على كاهله، لكنه لا يُنكِر شعوره بالذنب تجاه تلك الفتاة الشاحبة أمامه وما تسبب به لها، ضيَّق عيناه بحذر حينما جذب نظره ذلك السلسال المُعلق على جيدها من الذهب، ليقرأ الاسم المُدون عليه بصوتٍ مسموعٍ نسبيًا:
_"سـچـىٰ"؟
وعلى ناحيتها هي.. كانت تُصارع، اسمها الذي تردد يُعيدها لنقطة الصفر، حيث وجود تلك الوحوش التي تكالبت عليها مُستغلين ضعفها، تُقاوم وتصرُخ وتستغيث لكن لا من مُغيث، ارتعد جسدها برعشة واضحة حينما رأت أنياب ذلك الوحش الذي يقترب في نية لنهشها، وهي تعود بأقدامها للخلف هلعًا، نظرت حولها بتشوش حينما استمعت لاسمها يتردد من جديد، تُحاول البحث عن نقطة نجاة تنتظرها لكنها لا تراها!
بينما كان "مُغيث" يُتابعها بعينين قلقتين وهو يُلاحظ ارتعاشة جسدها الظاهرة والعرق الذي يتصبب بغزارة من جبينها، تسارعت وتيرة تنفسها وباتت كمَن تُهرول لآلاف الأميال دون راحة، نادها للمرة الثالثة على التوالي فانتفضت جالسة بعد صرخة دوت في أرجاء الغرفة، تحرك صدرها صعودًا وهبوطًا ونظرها يجوب الغرفة بحثًا عن منجىٰ، حتى توقفت عيناها على "مُغيث" الذي يُطالعها بحذر، والذي غمغم مُتسائلًا بتروٍ:
_"سـچـىٰ "؟!
رمقته بتيهة ومازال عقلها تحت تأثير كابوسها، حتى هزت رأسها بجهلٍ قائلة بصوتٍ مبحوح:
_معرفش.
زوىٰ ما بين حاجبيه بتساؤل، فيما وضَّحت هي حديثها حينما استطردت قائلة:
_مـ.. معرفش أنا مين.
جحظت عينيّ "مُغيث" أثناء انتفاضته في وقفته، وتلقائيًا وجد ذاته يضرب على صدره بصدمة وهو يصرخ:
_يا مُصيبي! فقدتي الذاكرة؟!!
تأوهت بضعفٍ نتيجة لصداع رأسها التي نتج عن إصابتها، ثم غمغمت بضيقٍ ممزوج بنفاذ صبرها ووقاحتها:
_أنت شكلك غبي وهتتعبني معاك.
_أفندم؟!
نبس بها "مُغيث" بتشنج وهو يُطالعها باستنكارٍ جلي، فيما تجاهلت هي سخطه ووضحت له حالتها بقولها اللامبالي:
_أنا فاقدة الذاكرة بقالي شهر بسبب حادثة، ولحد دلوقتي مش عارفة أنا مين ولا عارفة فين هما أهلي، ملقتش غير السلسلة اللي معايا دي وشكله كدا والله أعلم دا اسمي.
عبث! كل ما يحدث معه الآن عبث صريح، من أين صعدت له تلك ولِمَ أخرجها القدر في طريقه؟ أطلق زفيرًا حارًا من بين رئتيه وهو يرمقها بنظراتٍ بانت شاملة، لتزوي حاجبيها بغضبٍ وهي تصرخ به:
_عينك يا أستاذ لأخرمهالك! إيه مشوفتش واحدة حلوة قبل كدا؟!
_اركني واسكتي.
غمغم بها ساخطًا بعد أن أشاح بيده أمام وجهها ومن ثَم تركها وغادر على وعدٍ بالقدوم لها بعد انتهائه من دوامه.
_"سـچـىٰ ":(فتاة مجهولة... حتى الآن، لربما خلفها حياة جميلة، أو ربما أعاصير مُدمرة!)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يكن هروبي سوى خوفًا من فقدانك، فبعد أن أغدقتني بعاطفة حنانك جِئت وسحبت عني غطاء ستري، جعلتني عارية في مواجهة الريح الذي يلقفني لأتخبط بين جدران تشتتي وحيرتي، فلجأتُ للحل الأمثل، وهو الهرب!
_الأميرات بس هما اللي بيلبسوا التاج.
ذكرىٰ بعيدة سحبت "آلاء" رغمًا عنها، صعدت من مصدر كان كل الأمان والطمأنينة لها، واليوم هو هاجس مُخيف تخشى الاقتراب منه، أغمضت عيناها بقوة ومشاهد ذلك اليوم الذي حاول فيه "آسر" الاعتداء عليها لا تنفك أن تترك رأسها ولو لثانية واحدة، هزت رأسها بعنفٍ وكأنها بذلك تُحاول إخراج قساوة ما عايشته مُسبقًا، لكن رغمًا عنها دهستها قدم الذكرىٰ وأغرقتها في موجها العاتي!
_عودة للوقت السابق_
كانت تُعِد الصالون لجلستهم التي خططوا لها فجأة بعد خروج والديها، استمعت إلى صوت باب غرفة أخيها يُفتح ببطئٍ، لتتسع ابتسامتها تلقائيًا حينما هتفت بحماس:
_يلا يا "آسر" اخرج هاتلنا الشيبسي والتسالي قبل ما بابا وماما ييجوا من برا.
ضحك بخفة وهو يقترب منها حتى توقف قبالتها، ثم مال على جبينها يلثمه بحبٍ، وبعدها تمتم قائلًا:
_ماشي يا ستي، بس أنتِ جهزي الفشار وفيلم حلو زيك كدا لحد ما آجي، بس احتمال أتأخر شوية يعني.
انطفأت الحماسة من على وجهها وحلَّ الضيق مكانه، وبالطبع هذا لم يخفى على عينيه الواقعة في حب شقيقته من قديم الأزل، انفرجت شفتاه ليهم بمصالحتها، لكنه أطبقهما مُجددًا حينما عاودت الابتسام بخفة مرة أخرى وهتفت برجاء:
_ماشي براحتك يا حبيبي، بس علشان خاطري لو ليا خاطر عندك بلاش تروح لصحابك اللي أنت بقيت تخرج معاهم في الفترة الأخيرة، أنا مش برتاح ليهم يا "آسر" وشكلهم مُريب.
حينها لاحظت اهتزاز بؤبؤيّ عينيه بتوتر، وبالرغم من إدراكها أن حديثه التالي سيكون كذبًا حينما وعدها بعدم الذهاب لرفاقه الفاسدين، إلا إنها عانقته بحب قائلة بمزاحٍ لم يخلو من قلقها عليه:
_وخلي بالك من نفسك يا واد لتقعد تتشقط وأنت حليوة كدا!
تعالت ضحكاته بانطلاق قبل أن يغمزها مُشاكسًا حينما قال بمرح:
_متخافيش أخوكِ أسد يا بت.
تابعته بثُغرٍ باسم لكن بعينين قلقتين، مدى اقترابها بـ"آسر" لم يكن بين أخ وشقيقته فقط، بل بين روح وانعكاسها، وهي الآن ترىٰ أن أخيها يخفي خلفه الكثير لكنه لا يُبرِح عنها، تنهدت برفق قبل أن تستدير لتُجهز الجلسة حتى يأتي وتعد رقائق الذرة المُملحة لهما.
مرت الدقائق، تلتها دقائق أخرى، ثم ساعة واثنتان وهو لم يأتي بعد، سيطر القلق عليها وهي ترمي هاتفها بعصبية بعد أن هاتفته مائة مرة تقريبًا، وحتى الآن هو لم يُجيب على اتصالاتها، فكرت في مهاتفة أبيها وبالفعل عزمت على تنفيذ فكرتها، لكنها توقفت حينما وجدت باب المنزل يُفتَح و"آسر" يدلف منه بعد ساعتين كاملتين قضاهما بالخارج، لتتجه إليه بخُطىٰ سريعة وهي تقول بسخط:
_هو دا اللي مش هتتأخر يا "آسر"؟! دا أنت بقالك ساعتين برا!
اقترب منها "آسر" يُعانقها دون الحديث، فانفكت عُقدة حاجبيها ولانت تقاسيم وجهها ظنًا منها بأنه يُصالحها، ابتسمت بخفة حينما طبع قُبلة خفيفة على وجهها مما جعلها تقول ضاحكة:
_خلاص اتصالحت، فين التسالي اللي كنت رايح تجيبها بقى؟!
لم يُجيبها، بل ظل على حالته يلثم وجهها بقُبلات مُتتابعة، جعلتها تشعر بالريبة من تصرفاته الغريبة، ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تُحاول دفعه عنها لكنه لا يتزحزح من مكانه، وإنما يُشدد من ضمها أكثر وقُبلاته تزداد جُرأة عن تلك المُتحفظة التي عهدتها منه دومًا، حاولت دفعه مرارًا لكن النتيجة كانت واحدة، مما جعلها تصرخ به بحدة:
_ابعد كدا يا "آسر" مالك في
ه إيه؟! أنت سكران؟!!
وبالرغم من صراخها إلا أنه لم يُبالي بها، بل شرع في إتمام ما بدأه تحت صرخاتها التي دوت في أرجاء المنزل كاملًا حتى استمعت إلى صوت الباب العنيف أثناء مُقاومتها لأخيها الذي كاد أن يُتمم انتهاكه لها، وأخيرًا شعرت بجسده يُدفع عنها بقوة و"يمنى" تُغطيها بجسدها أثناء توجيهها لنظراتها المصدومة نحو ابنها!! و"آلاء" كانت في وادٍ آخر وعالم بعيد كل البُعد عن الجميع، وآخر ما استمعت إليه قبل أن تفقد وعيها هو صوت سباب "يحيى" أثناء انقضاضه على ابنه يُسدد له اللكمات رغم ذهوله، و"قاسم" يُحاول باستماتة إبعاد صديقه عن "آسر" حتى لا يقتله في ذروة انفعاله.
_عودة للحاضر_
لم يكن الخوف في قاموسها مكتوبًا، والآن باتَ جزءًا منها ممزوجًا بحسرتها، ضمت "آلاء" رُكبتاها إلى صدرها وكأنها بذلك تحمي ذاتها من ذكرى تُفتتها إلى أشلاء، كل ذرَّة في جسدها تُنادي أخاها للقدوم، وكل خلية عقل بها تردعها بقسوة لتُذكرها بجُرمه معها، عزاؤها الوحيد بأن كان مخمورًا ليس بعقله، لكنها لا تسطيع نسيان ما حدث، والأدهى.. لا تستطيع نسيان مَن فعل!
تململت في فراشها بعد راحة وعقلها يأخذها جولة أخرى إلى تلك الذكرى القريبة، وتحديدًا بعد أن تم اكتشاف إدمان "آسر" للعقاقير المُخدرة منذ فترة ليست بالقليلة، هذا الذي دفعه إلى تلك الفِعلة أثناء غياب وعيه وتسليم عقله للشيطان، ليُقرر "قاسم" أخذه إلى مصحة نفسية دون إخبار "يحيى"، والذي ثارت ثائرته بعد أن علم ما فعله "قاسم" دون عِلمه..
_عودة للوقت الماضي_
حينما تصل بأحلامك إلى عنانِ السماء وتبدأ بنسج أحلامك الوردية، فـ تهتز الأرض من أسفلك ثم ينقض البناء العالي الوردي فوق جسدك فيُفتته لأشلاء، حينها فقط تتعلم أن الأحلام لا تستطيع لمس السماء!
انفلت غضب "يحيى" ليحرق الأرض واليابس حتى صاح مُهددًا:
_أنا قولت آخر كلام عندي يا "قاسم"، ابني يخرج من المصحة يا إما وقسمّا بالله كل اللي بينا هينتهي، أنا ابني مش مجنون.
طالعه "قاسم" بعينين يملؤهما الغضب والضيق معًا، عيناه الحادة تعكسان ما سيتلوه لسانه، ولم يُكذِّب "يحيى" ظنه عندما تحدث "قاسم" بصراخٍ وغضبٍ أشد وهو يدفع صديقه للخلف من صدره بكل قوته:
_ابنك مش مجنون بس مُدمن، ولا عايزني أخرجه علشان يحاول يغتصب أخته من تاني؟!
بعض الكلمات كالقبور، وبعض الأماني مُستحيلة، لو سُجنا في غُرفةٍ بعيدة عن البشر سيطولنا أذاهم مهما ابتعدنا وامتدت المسافات، فالطائر رغم حُريته يقومون باصطياده؛ لسجنه، والأسد رغم جبروته فهو طليقٌ في الغابة، وتلك هي الحياة، تترنح ما بين القفص والحُرية، إما أن تظل ضعيفًا وترضى بسجنك، وإما أن تفرض قوتك للنجاة!
طالعه "يحيى" بنظرات وشت بكم غضبه، لكنها صُبغت بالألم العنيف، و"يُمنى" تبكي بعنفٍ داخل أحضان "أهلة"، و"آلاء" تقف بارتعاش تنتظر قرار "قاسم" برعبٍ من فكرة عودة شقيقها للمنزل مُجددًا، وهُناك يوجد " قاسم" الذي ينظر للوضع بأكمله بعجز، إن استمع إلى حديث صديقه؛ فالخسارة ستكون فادحة، وإن عارضه؛ فالخسارة ستكون صديقه بذاته!
لكن "قاسم" سار خلف تحكيم عقله وضميره، إن قام بإخراج "آسر" ستحدث كوارث بالمعنى الحرفي، وبالرغم أن "يحيى" قاطعه لعدة أيام، إلا أنه رضخ في النهاية لذلك القرار بقلبٍ مُتألم وروحٍ نازفة!
_عودة للحاضر_
وقفت "آلاء" من مضجعها بعد أن فشلت فشلًا ذريعًا في النوم، واتجهت بخطواتها سير نحو غرفة والديها، فتحت الباب برفقٍ فوجدت والدتها تجلس شاردة على المقعد في الشرفة، و"يحيى" يتمدد على الفراش يُطالع سقف الغرفة بشرود، وبعد أن استمع إلى صوت صرير الباب وجَّه نظراته إليها، ليبتسم لها ابتسامة باهتة وهو يقول:
_تعالي يا "آلاء".
دخلت "آلاء" بخُطىٰ مُترددة حتى وصلت إلى فراشه، فيما مدَّ "يحيى" ذراعه إليها ليحثها على النوم داخل أحضانه، فلم تنتظر لثانية قبل أن تقفز على فراشه ليُحيط بها ويضمها بكل قوته، يعلم الآن أن صغيرته تُعاني مثلما يُعاني هو، يعلم بأنها قد هوت من مُرتفع شاهق العُلو لتهبط مُتفتتة إلى أعماق البحر هي وروحها!
_أنا عايزة أنام يا بابا، بقالي كتير أو منمتش.
همست بها بتعبٍ حقيقي يُسيطر على روحها، لقد أُنهِكَت وتفتت وتبعثرت لأشلاء بعد أن كانت تحتضن الحب والأمان، ضمها "يحيى" إليه أكثر وهمسها يُهشمه، ماذا عساه أن يفعل في تلك الحالة، أيُداوي جروحه؟ أم يُطيِّب روح زوجته؟ أم يُطبطب على جرح ابنته؟ أم يذهب ويُعاتب ابنه؟ لا يعلم ماذا عليه أن يفعل في تلك الحالة، هو في حربٍ على وشك خسارتها إن لم يستفيق في أسرع وقت، والخسارة ستكون فادحة!
كانت "يمنى" تُتابعهما بأعين مليئة بالحسرة، هي هُنا مع عائلتها، لكن فلذة كبدها الأول يُعاني الويلات ولا تستطيع رؤيته، تكادُ أن تُصاب بالجنون لولا دعم "يحيى" لها ووعده بإعادة "آسر" لأحضانها من جديد، ولأول مرة لا تستطيع إحتواء أحزان عائلتها، فالمُصاب جلل!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انتهىٰ "مُغيث" من دوامه وعاد لغرفة "سـچـىٰ" ليطمئن عليها ثم يعود إلى منزله، طرق باب الغرفة بهدوء فاستمع إلى صوتها الخافت يأمره بالدخول، دخل عليها فوجدها تقف أمام النافذة تُتابع القمر بعينين هادئتين تعكس شعاع عيناها البُندقية، اقترب منها حتى وقف قبالتها وتسائل بهدوء:
_بقيتي أحسن دلوقتي تقدري تخرجي؟!
أومأت له بالإيجاب، فقال باسمًا بعد أن تسلل شعور الراحة إليه:
_طيب الحمد لله، ألف سلامة عليكِ يا آنسة.
قالهًا مُبتسمًا بهدوء، قبل أن يستدير في نية للذهاب، وبالفعل خرج من الغرفة وسار في رواق المشفى بخُطى ثابتة، لكن ما لفت انتباهه وريبته في الوقت ذاته هو ذلك الظل الذي يتبعه حيثما ذهب، ابتلع ريقه بقلق ونظر أمامه لأروقة المشفى الخالية، ليأتي بذاكرته ذلك المشهد المُخيف من أحد أفلام الرعب عن مشفى مسكونة بالجان، وتلقائيًا وجد ذاته يهمس برعب:
_أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض والسماء وهو السميع العليم.
وعقب جُملته استدار مُسرعًا ليراها بابتسامتها البلهاء، نعم إنها "سـچـىٰ"، تلك المجهولة لِمَ تتبعه وتبتسم إليه بتلك الطريقة الغبية؟ زوىٰ ما بين حاجبيه بتعجب وسألها مُستغربًا:
_أنتِ ماشية ورايا ليه؟!
_جاية معاك.
ببساطة شديدة أجابته وابتسامتها الغبية _من وجهة نظره_ تتسع أكثر، ليتشنج وجهه باستنكارٍ وهو يُغمغم:
_جاية معايا فين؟!
هزت كتفيها وهي ترمقه بجهلٍ قائلة:
_معرفش، مكان ما تروح أنا هاجي معاك.
ازداد سخط وجهه ونظراته المُستهجنة مازالت تُصوَّب نحوها، فرد عليها بغيظٍ وهو يجز على أسنانه بغيظ:
_لأ ما أنا مش وزير الإسكان علشان تقوليلي هاجي معاك، روحي شوفي أنتِ مين ولا راحة فين يا ماما بعد عني الله يكرمك.
حدجته ببراءة كانت بعيدة كل البُعد عن وقاحتها صباح اليوم، ثم هتفت برجاء:
_بس أنا معنديش حد أروحله، خُدني معاك وأوعدك مش هعمل حاجة وهقعد باحترام.
هز رأسه نفيًا وهو يقول بحسم:
_لأ طبعًا مش هينفع، أولًا علشان أهلي، هقولهم أنتِ مين وصفتك إيه؟! ثانيًا علشان عيلتي، إحنا عايشين في بيت عيلة ومليان رجالة، ثالثًا أنا إيه يضمني إن أنتِ أمينة؟! مش يمكن نصابة وبتضحكي عليا! رابعًا..
_رابعًا عشان خاطري.
قاطعته بها سريعًا وهي تُطالعه برجاءٍ خالص تلك المرة، رجاؤها لمع في بندقيتيها لينعكس مدى مُعاناتها في إيجاد مأوىٰ مُناسب لها طيلة الفترة الماضية، زفر "مُغيث" بضيقٍ وصمت يُفكر للحظات، لا يعلم لِمَ وضع إحدى شقيقتيه مكانها وشعر نحوها بالأسى! لذلك أومأ لها مُستسلمًا وهو يقول:
_تعالي.
تهللت أساريرها بسعادة عارمة وهي تُهرول خلفه لتُساير خطواته السريعة، ومن ثَم قالت:
_شكرًا يا دكتور آ....
تلعثمت في آخر جُملتها، ليقول:
_"مُغيث".
التمع الإعجاب بجَوزيّ البندق داخل مقلتيها من وقع اسمه على أذنيها، قبل أن تستطرد حديثها قائلة:
_شكرًا يا دكتور "مُغيث"، أنا بجد مش عارفة أشكرك إزاي، وأنا أوعدك لما ألاقي أهلي هعوضك باللي أنت عايزه، ادعي بس أكون من عيلة غنية عشان أنا نفسي هفاني على الفلوس الفترة دي أوي.
زفر "مغيث" بسخطٍ من ثرثرتها اللامتناهية، حتى زفر بنفاذ صبرٍ قائلًا:
_ينفع تسكتي الله يكرمك لحد ما أفكر هقول لأبويا إيه عليكِ!!
صمتت "سـچـىٰ" بالفعل وهي تُراقب انفعالات وجهه أثناء سيرها بجانبه، كان هادئًا على عكس صخب أفكاره، لم تشعر بتروس ذهنه التي لم تتوقف لحظة عن التفكير حتى وصل إلى سيارته، صعدها ليجلس أمام المِقوَد وهي جاورته من الناحية الأخرى، وبعدها انطلق بسيارته نحو منزله، مُصاحبًا معه أفكاره، صراعاته، وشخصٌ جديد لربما يضفي تأثيرًا هائلًا على حياته!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجميع يأتيه رسالة غزل في البريد، إلا هو.. قد أتاه للتو رسالة تهديد!
ارتشف "يزيد" رشفة لا بأس بها من فنجان قهوته أثناء قرائته للرسالة بعينيه، إلتوى ثُغره بابتسامة مُتهكمة قبل أن يرمي بتلك الورقة جانبًا، لقد أتى اليوم الذي يُهدَد به "يزيد صهيب طاحون"! إنه لأمرٍ مُهين لضابط في مثل مهارته حقًا! أنهى فنجان قهوته مُصدرًا همهمة مُتلذذة من بين شفتيه، قبل أن يسير بخُطىً وئيدة نحو شرفة مكتبه في مبنى المُديرية الخاصة بعمله، كل شيء يسير على ما يرام حتى الآن، هذا إن تجاهل رسالة التهديد تلك بالطبع!
أخرج علبة سجائره من داخل جيب بنطاله قبل أن يضع واحدة بين شفتيه ويُشعلها بهدوء، أخذ نفسًا عميقًا منها ثم زفره على مهلٍ وعيناه تُتابع ذرات الدُخان المُبعثرة من حوله، ليتحول هدوء وجهه إلى حقدٍ على بغتةٍ وذاكرته تُعيد له الآلاف من المشاهد التي يمقتها، منذ أن قرر أن يأخذ مسيرة أبيه العملية وهو يرى بأمِ عينه تلك الجرائم التي تشيب لها الرؤوس، لكنه صامد مُتصلب حتى الآن.
غامت عيناه في ديجور السماء المُعتم الذي انعكس داخل بؤبؤيه، كل شيء قاتم وكئيب تلك الفترة تحديدًا، ليس عليه فقط، بل على جميع أفراد الأسرة الجريحة، استمع إلى رنة هاتفه التي أخرجته من عتمة أفكار، التقطه على مهل ليجد المُتصل لم يكن سوى "مغيث" والذي ما إن أجاب حتى هتف الأخير قائلًا بتعب:
_"آسر" طالب يقابل "آلاء".
_والعمل؟!
تسائل بها "يزيد" في ضيق، قبل أن يُضيف "مُغيث" قائلًا:
_"آلاء" رافضة اسمع سيرته أصلًا بسبب عملته المهببة معاها، خايفة منه ومش عارفة تاخد أي خطوة في الموضوع.
فكَّر "يزيد" في حديثه للحظاتٍ قبل أن يُنار عقله بفكرة استوطنت دهاليزه وقال:
_سيبلي موضوع "آلاء" دا وأنا هتصرف فيه وهقنعها، المهم "آسر" عامل إيه النهاردة؟!
ثبَّت "مُغيث" أنظاره على الطريق أمامه ومن ثَم أجابه:
_الدكتور قالي إن أعراض انسحاب المُخدر مش بتاخد كتير، بس حالته النفسية مأثرة على استجابته للعلاج، علشان كدا طلب إن "آلاء" تيجي تزوره.
_طيب خلاص متشيلش هَم موافقة "آلاء" وروح ارتاح أنت دلوقتي.
هَمَّ "مُغيث" أن يُجيبه، لكن قاطعه صوت "سـچـىٰ" التي تسائلت بفضول بعد أن اعتدلت في جلستها:
_ما تحكيلي الحكاية اللي بتتكلموا عنها دي شكلها حلوة.
رمقها "مُغيث" بسخطٍ بطرف عينيه جعلتها تُناظره بتوتر وهي تعود بعينيها جهة الطريق، في حين شهق "يزيد" بصدمة على الناحية الأخرى وهو يسأله بعدم تصديق:
_نساء؟! معاك نساء يا فاسق يا صفيق؟!!
زجره "مغيث" بقوله الناقم:
_نساء مين يا عم اخرس بقى، دي باينها بلوة من بلاوي الزمن.
حدجته "سـچـىٰ" بنظراتٍ ساخطة مُربعة مرفقيها أمام صدرها، فيما أكمل "مغيث" حديثه مع "يزيد" حتى انتهيا من مكالمتهما تزامنًا مع توقف سيارة "مغيث" أسفل العمارة التي يقطن بها، نظرت "سـچـىٰ" للمكان بتمعن بعينيها البُندقية المُنطفئة _كعهدها_ رغم ارتسام إمارات الفضول القاتل على تقاسيم وجهها، هبطت من السيارة بعدما هبط "مُغيث" هو الآخر وراقبته بتردد حينما وقف على أعتاب عمارته يرمقها بتعجب وأده بسؤاله:
_أكيد مش مكسوفة تيجي ورايا يعني!
ابتلعت "سـچـىٰ" ريقها بصعوبة ولقطات مُشوشة تمر على ذهنها بدون ملامح، لكنها وبالرغم من ذلك كانت مُنفرة، تقدمت منه بخطىٰ وئيدة وتشدقت وهي تنظر للعمارة من خلفه:
_أنت.. أنت ساكن مع مين؟!
ضيَّق عيناه في محاولةٍ منه أن يقرأ سطور خوفها المكتوبة داخل حدقتيها، بارعٌ هو في قراءة العيون، لكن كيف سيقرأ مَن أمامه وهي تائهة من الأساس! زفر بهدوءٍ أثناء اعتداله مُنتصبًا في وقفته وهو يُجيبها:
_مع والدي ووالدتي وإخواتي وأعمامي وولادهم، ندخل بقى ولا فيه تحقيق تاني!
شبَّكت أصابعها معًا وهي تُعاود سؤاله بخوفٍ أنثوي فطري:
_طيب هما طيبين ولا لأ؟ يعني هما هيتقبلوا وجودي معاهم ولا هكون تقيلة؟
لا يعلم لِمَ رآها في تلك اللحظة تحديدًا كطفلة ضالة غشىٰ خوفها من الفراق على طبيعتها، فما كان منه إلا أن يبتسم بهدوء ليُزيح جليد قلقها الفطري وقال:
_مش هتلاقي أطيب وأحن منهم، وصدقيني مش بقول كدا علشان هما أهلي، بس عيلتي فعلًا أحن عيلة في الوجود.
استطاع أن يُذيب خوفها بكلماته البسيطة واتبعته للداخل، صعدت معه الدرج بفؤادٍ يطرق توترًا، هي التي ظلت تترنح بين جدران الحياة كلقيطة منبوذة الآن تجد المكان الذي يأويها، ذاكرتها ممحوة لكنها تشعر بعين قلبها أن حياتها في السابق لم تكن بالرائعة أبدًا، وذلك يظهر على تلك العلامات الموجودة على جسدها!
وقفت خلف "مغيث" بعد أن طرق جرس منزله وانتظرت بفؤادٍ خافق حتى فُتِح الباب أخيرًا، وظهر من خلفه رجلًا يافع الطول ببشرته المائلة للاسمرار قليلًا، تكذب إن وصفته بالعجوز، بل تظلمه تلك الخصلات البيضاء التي تغزو معظم شعره تقريبًا وذقنه البيضاء التي يتخللها بعض الخصيلات السوداء، كان وقورًا ومُهيبًا بالوقت ذاته، لكن عيناه تفيض حنانًا وفيرًا تجوعه هي، وازدادت هيبته حينما رأته يتحدث لابنه يقول:
_نص ساعة تأخير كمان وكنت هتبات في الشارع.
استدار يدلف ثانيةً فبدا لها وكأنه لم يراها بسبب طول "مُغيث" المُهيب الذي يخفيها، فدلف ابنه خلفه وقال ضاحكًا:
_يا بابا نفسي أقنعك إني كبرت وبقيت دكتور، هو أنا مش مالي عينك؟
_لأ مش مالي عيني.
قالها وهو يرمي بجسده على الأريكة ذات الطراز الكلاسيكي الفخم، فاتبعه "مغيث" ظنًا منه أن "سـچـىٰ" تتبعه وهو يقول:
_يا بابا عيب عليك كلامك دا والله، المهم فين ماما؟!
_أنا أهو يا حبيب أمك.
قالتها "أهلة" وهي تأتي من ناحية المطبخ تحمل طبقًا مُندثًا بالحلوى اللذيذة، وآخر يحتوي على فطيرة التفاح التي يعشقها حبيب فؤادها الأول، وضعتهما على الطاولة الزجاجية ثم جلست بجانب "قاسم" الذي أمسك بكفها ثم لثمه برقة، قبل أن يشكرها على مجهودها غامزًا إياها بمشاكسة وهو يقول:
_كفاءة.
_حبيبي يا "قاسم".
تمتمت بها بحبٍ وهي تُطالعه بعشقٍ يزداد جنونًا مع مرور الثواني لا الدقائق، قطع وصل نظراتهما ابنهما "مُغيث" الذي قال بصوتٍ عالٍ نسبيًا:
_يا حَج "قاسم".. يا حجة "أهلة".. ركزوا معايا الله يكرمكم في اللي أنا
عايزكم فيه.
_ارغـي.
قالها أبيه بعد أن اعتدل ورمقه بجدية هو ووالدته، فيما بدأ "مغيث" الحديث قائلًا:
_دلوقتي "سـچـىٰ" معايا و...
قاطعه "قاسم" قبل أن يُكمِل حديثه يقول:
_وهي فين "سـچـىٰ" اللي معاك؟!
بتر "مُغيث" بقية حديثه بعد سؤال أبيه، استدار خلفه فلم يجد "سچى" التي كانت تتبعه منذ قليل، فوقف في مكانه باستغراب وهو يُتمتم:
_هي راحت فين دي كانت ورايا!
اتجه نحو الخارج فوجدها مازالت واقفة في مكانها لم تتحرك منه، فسألها بتعجب:
_أنتِ عليكِ غرامة سير ولا إيه؟ مجيتيش ورايا ليه؟
طالعته بحرجٍ وهي تُبرر:
_حسيت إن شخصيتي الحقيقية خجولة فقولت إما اتقمص الشخصية.
تشنج وجهه باستنكارٍ حتى شعر برغبته العارمة في حدفها من أعلى الدرج، ماذا تعني بحديثها العابث هذا حقًا! تنفس بعمقٍ قبل أن يبتسم لها باصفرار ويُشير للداخل بكفيه، وهو يهمس من بين أسنانه بغيظ:
_اتفضلي ادخلي يا آنسة "سچىٰ" بدل ما أبويا يطردني أنا وأنتِ، وعلى فكرة يعملها عادي جدًا.
دلفت للداخل بخُطىٰ بطيئة وعيناها تفحصان المكان بروية، بدايةً من الأثاث الكلاسيكي الراقي والذي تتراوح ألوانه ببن الأسود والرمادي، ونهايةً بألوان الحائط الكريمية المُزينة ببراويز راقية، ثبتت أنظارها وانتقلت تنظر إلى زوجين من العيون تُطالعانها بتفحص دقيق، لا تعلم لما شعرت بنظراتهما تخترقنها حتى أرادت الهرب من أمامهما، لكنها تتلاطم بين أمواج حياتها الواهية الآن، لا تعلم إلى أي مرسىٰ ستقف سفينتها، لذلك ابتلعت ريقها بحرجٍ وهي تهمس:
_السلام عليكم، إزيكم عاملين إيه؟
وقف كُلًا من "قاسم وأهلة" بعد أن ردا السلام، وبنظراتهما المُهتمة حولها يُحاولان قراءة ما خلفها، الشيء الذي جعل "سچىٰ" تتوتر في وقفتها وتقول بتذبذب:
_هو انتوا بتبصولي كدا ليه؟ أمشي طيب؟
نظر "مغيث" لوالديه باستجداء، فتفهم "قاسم" موقفه وابتسم بخفة في محاولةٍ منه لتخفيف توترها، لذلك أشار نحو أحد المقاعد وقال بود:
_تعالي يا "سچىٰ" اتفضلي اقعدي.
تقدمت "سچىٰ" بتروٍ وجلست على المقعد، لكنها مازالت تشعر بالقلق الشديد حيالهما، خاصةً "أهِلَّة"، والتي تُطالعها كأنها ستنقض على أحد أبنائها، غريزتها الأمومية تجعلها تشعر بعد الراحة حيالها أبدًا، وروح الصحفية داخلها تود أن تخترقها لكشف مكنوناتها المُختبئة، لكن مهلًا، الوقت سينقضي وستعلم كل ما تُريد علمه.
حمحم "مُغيث" لجذب الانتباه ناحيته مُجددًا، وحينما نجح في ذلك، بدأ بشرح كل ما حدث معه، وتفاصيل مُقابلته مع "سچىٰ" التي أُغشيَ عليها أثر خوفها المُفاجيء، حتى أنه أعلمهم عن كونها فاقدة لذاكرتها، لكن بصفة مؤقتة، ولحقيقة الحديث لم يدخل عقل كليهما، بقيَت هُناك حلقة ناقصة تشغر عقليهما المُنهَك بتفكيره.
لم يظهر الاقتناع عليهما فقالت "سچىٰ" بحرج:
_والله يا عمو هو دا اللي حصل، ولو حضرتك شاكك فيا أو مش مرتاح لوجودي أنا ممكن أمشي مفيش أي مشكلة، بس أنا بجد معنديش أي مكان أبات فيه الفترة دي، عارفة إنها وقاحة مني إني أقول كدا، بس فعلًا أنا معنديش حل تاني.
تنهد "قاسم" يُفكِّر بعمق، خبرته في البشر تجعله يرفض مساعدتها، لكن تلك الأخلاق ليست من شيمه، لذلك سيوافق على رعايتها، لكن في الوقت ذاته ستظل أسفل ناظريه حتى يطمئن لها، لكن المشكلة الأصعب الآن هي زوجته "أهِلَّة"، والتي تخاف على أولادها خوفًا جمًا، رافضة اقتراب أي شخصٍ قد يُشكل خطرًا على حياتهم، أمسك بكفها يُحذرها برقة لتخفيف حدة نظراتها نحو الفتاة التي تكاد تنصهر خجلًا، ومن ثَم قال بابتسامة هادئة:
_تمام يا "سچىٰ"، للأسف مفيش هنا في البيت شقق فاضية، لكن العمارة اللي جنبنا هي كمان بتاعتنا بس للولاد، فعلشان كدا ممكن تقعدي في واحدة من الشقق دي لحد ما تبقي كويسة.
رمقته "أهِلَّة" بحدة، لكنه مازال يُحذرها بنظراته بألا تفعل أي تهور يُخجِل الفتاة، لاحظت "سچىٰ" حالة "أهِلَّة" المُتأهبة فقالت بخجل:
_يعني.. لو حضرتك مش موافقة أو متضايقة من وجودي أنا ممكن أمشي عادي.
زوت "أهِلَّة" ما بين حاجبيها بضيق، لا تعلم بما تُجيبها، لكنها حقًا تخشى على أولادها كثيرًا، تريد أن تُخبرها بأن تذهب، لكن في الوقت ذاته غريزتها الأمومية جعلتها تتخيل إحدى بناتها في مثل موقفها، حينها ستتمنى بالتأكيد أن ينتشلها أحدهم من ضياعها بدلًا من التخبط في أودية الحياة التائهة، لذلك حاولت بقدر المُستطاع أن تبتسم لها، ومن ثَم قالت:
_لأ أكيد مش متضايقة من وجودك، أنا بس مش بثق في حد بسهولة، علشان كدا اعذريني.
ابتسم لها "سچىٰ" بامتنان، فيما ناظرها "قاسم" براحة وقال:
_خليكِ هنا يا "سچىٰ" لحد ما أروح أجيب مفاتيح البيت من "رائد"، وشوية وهتلاقي "فيروزة" خارجة من أوضتها.
لم تعلم هوية الاسمين المذكورين، لكنها أماءت له بالرغم من ذلك، أمسك "قاسم" بيد "أهلة" وخرجا معًا مُتجهين لشقة "رائد"، فيما ظل "مغيث" مع "سچىٰ"، والذي بدوره قال:
_على فكرة ماما طيبة جدًا، ميغركيش الوش اللي رسمته ليكِ دا، هي بس بتخاف علينا أوي، وشغلها كصحفية زمان مخليها تدقق في كل كبيرة وصغيرة علشان تحافظ علينا، لكن هي وبابا مفيش أحن منهم.
رسمت "سچىٰ" ابتسامة صغيرة على ثغرها وهي تُجيبه:
_مفيش مشكلة، ربنا يخليهم ليك.
وعلى الجانب الآخر، وتحديدًا في غرفة "فيروزة"، وثبت من مكانها تصرخ عبر الهاتف:
_يعني إيه يا "أولغا" مش هتقدروا تنزلوا قريب؟ مش قولتي على آخر الأسبوع هتكونوا موجودين هنا؟
لتُجيبها "أولغا" بعربيتها المُتكسرة قليلًا:
_يا بنتي ما قولتلك بابا مش فاضي، ولو ضغطت عليه هيطردني من البيت، دا كفاية نكد ماما عليه، مربياله ومربيالنا الرعب كلنا.
نفخت "فيروزة" بضيقٍ وهي تُجيبها:
_والله طنط "مهرائيل" دي ليها الجنة، عايشة وسط عالم كـ...
_بنت!! عيب متغلطيش في عيلتي قدامي أنا مسمحش بكدا أبدًا.
_اتوكسي أنتِ وعيلتك.
وبعدها لم تُعطيها فرصة للرد، وإنما أغلقت الهاتف بوجهها من شدة الغيظ، لقد حطموا أمالها في إجتماعٍ جميع يُعيد إليها ليالي الطفولة المُرهفة، خاصةً "نوح" الذي تعلقت به تعلقًا شديدًا منذ الصغر، ابن عمها "يونس"، وفي روايةٍ أخرى، فهو ابن عمها "فور".
خرجت من الغرفة بعد أن جففت خصلاتها المُبتلة، بعد أن أخذت حمامًا دافئًا يُزيل عن جسدها تعب اليوم، لتُفاجئ بوجود "مغيث" مع إحدى الفتيات يتناولان أطراف الحديث معًا، لتضرب على صدرها شاهقة وهي تقول:
_يا ليلك الأسود يا "مُغيث"! ويا ترى جايب خمرة ومخدرات ولا الليلة هتبقى أورديحي كدا؟
التوى جانب فمه بابتسامة ساخرة وهو يُجيبها بتهكم:
_لأ جايب عصير جوافة، تشربي؟
تقدمت منهما " فيروزة" على الفور وطالعت "سچىٰ" الجالسة بنظراتٍ طويلة، لتهمس الأخيرة في سرها:
_هي العيلة دي مريبة ليه كدا! أنا عايزة أمشي.
جلست "فيروزة" بالقرب منها وتسائلت بفضول:
_اسمك إيه يا عسل؟
_"سچىٰ ".
_ويا ترى جاية لوحدك ولا "مُغيث" أجبرك على دا؟ يا بنتي اتقي الله الطريق اللي أنتِ ماشية فيه دا مش كويس، افرضي موتي لقدر الله وأنتِ بتعملي العمل الفاحش دا! طب أخويا فاسق وأنا عارفة، لكن أنتِ باين عليكِ بنت ناس متربيين ومش وش فسق وفچور.
تشنج وجه "مغيث" حنقًا وهو يقول:
_أنتِ بتهببي إيه يا بت أنتِ؟ بقولك إيه روحي شوفي مذاكرتك وحِلي عن دماغي.
رمقته "فيروزة" باشمئزاز، وتجاهلته ناظرة لـ"سچىٰ" لتُكمِل سلسلة نصحها إليها، لكن "سچىٰ" قاطعتها هي الأخرى بقولها:
_حِلي عن دماغي أنا كمان.
قالتها بعد أن ضجرت من كم الضغط الذي تعرضت إليه اليوم، بعد أن شعرت بأن قوتها لم تعد تكفي، بعد أن أوشكت على الاستسلام من كل شيء وأي شيء، أتى في تلك اللحظة "قاسم"، الذي شاورها وقال مُبتسمًا:
_تعالي معايا يا "سچىٰ".
وبالفعل ذهبت معه، إلى مكانٍ جديد لا تعرفه، وأشخاص غريبة عليها، حتى الجدران تستجدها، كل شيءٍ حولها مُريب، لكنها ستخوض التجربة بنفسها، كما خاضت هي الكثير من قبل!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل شيء يفرض سيطرته عليك، توضع في المكان رغمًا عن إرادتك، وتضطر أنت لاحقًا بمحاربة الأشياء من حولك.
الساعة الثانية صباحًا، الجميع نيام، والصمت يعم كل الأماكن، الرياح خافتة، والبرودة لذيذة، كما تلك التجربة المُختلفة من نوعها بالنسبة لها، "آلاء" التي نجحت في التسلل من منزلها لمقابلة زميلة لها عرفتها منذ عدة أيام، أيامٌ ليست بالقليلة، كذلك الضرر لم يكن قليل، لأول مرة في حياتها تقف أمام هذا الصرح المخيف، ذلك المهلى الذي يعاكس الطبيعة الصامتة والليل الساكن، لتكون أجوائه مُشتعله بداخله وخارجه!
ترددت قدماها تزامنًا مع توتر نظراتها التي تكتسح معالمها، وبالوقت ذاته تود تجربه شيء جديد يُخرجها من حالتها الكئيبة، لقد ملت من مثالية عائلتها المُفرطة، والتي لم تنفعها بشيء في النهاية، وها هي ذي، تقف بعد أن قررت كسر حاجز المثالية والتحرر من كل العادات التي مقطتها في الفترة الأخيرة.
حسمت أمرها على الإقدام، ستلهو حتى تنسى، لاحظتها إحدى صديقاتها فنادتها على الفور، لتتقدم منهم وشريط ذكرياتها العفيفة مع عائلتها يمر أمام عينيها، ضحكاتهم، حبهم، نُصحهم، وخوفهم عليها، ومع كل تلك المشاعر التي اجتاحتها توقفت قدماها عن السير، وكُلٌ من عقلها وقلبها يُنهرها حتى لا تُكمِل، لكن نفسها تحثها على الإكمال!
تشوشت الرؤية أمامها كُليًا وصُمَّت أذناها عن الاستماع لنداء صديقاتها، وبعد لحظات، عاد إليها عقلها المعمي، لتنظر حولها مُتفاجئة من النقطة التي أوصلتها إلى هُنا، لذلك قررت المغادرة بعد أن عادت لوعيها، لا تريد لعائلتها أن تُعاني من جديد، خاصةً والديه اللذان يتجرعون مرارة فقدان "آسر" بسبب سوء صُحبته، استدارت لتعود أدراجها وهي تُعنِّف نفسها على تهورها، لكنها توقفت مكانها جراء تلك اليدين الأنثوية التي ثبتتها من كتفيها، وثُغرها المطلي بالأحمر القاني يبتسم بمكرٍ وهي تقول:
_راحة فين يا حبيبتي! أنتِ مفكرة دخول الحمام زي خروجه؟
اتسعت عيني "آلاء" برعب، تشعر وكأنها دلفت إلى كهفٍ مُظلم لن تخرج منه إلا بصعود روحها! اخترقت أذنها صوت إحدى الفتيات والتي هتفت بنداء:
_"شمس"!


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close