رواية إغواء حواء الفصل الثاني 2 بقلم شروق حسن
يا ربّ، ما خاب مَن ناداك، ولا رُدّ من وقف عند بابك،
مساكين يا ربّ، نطرق بابك، نمدّ إليك قُلُوبنا الخاوية،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشخصيات:
_قاسم طاحون: طبيب جراح، زوجته "أهلة الأرماني"، أبنائه "غيث، مُغيث، حوراء، فيروزة"
_صهيب طاحون: لواء شرطة، زوجته "حبيبة الأرماني"، أبنائه "يزيد، سديم".
_يحيى الديب: زوجته "يمنى شاهين"، أبنائه "آسر، آلاء".
_رائد محروس الجعان: زوجته "ملك"، و"يامن" ابنه الوحيد.
_فور تشارلي: زوجته "سهيلة محروس الجعان"، أبنائه "نوح وعائشة"
_آلبرت تشارلي: زوجته "مهرائيل سمير" وأبنائه "ماكسيم وأولغا".
_"معاذ، سما": أبناء "أنس وريماس الأرماني"، وأشقاء لأولاد "قاسم طاحون".
ملحوظة: الجزء الثاني لا يمت بصلة للجزء الأول، وجميع الأحداث ستخص الأبناء بصفة عامة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنتهي متعة الحياة حينما تغرز في مستنقع الذلات، ويسيل دمع عينك بوقوفك على منحدر الويلات، فلا تعلم أتُنادي قلبك لينتشلك من الهلاك، أم تُنادي عقلك ليُنفض عنك ألم الذكريات!
_"شمس".
الاسم الذي اخترق أذنها بعنفٍ كالصواعق، لا تعرف صاحبته، ولا تدري شخصها، لكنها بمجرد النظر إلى عينيها البلورية تشعر بنيران تشتعل داخليهما، لا تعرف أهي نيران حقد أم شر! ابتعدت "آلاء" عن محيط شمس الذي تُثبتها من كتفيها، ثم أردفت بصوتٍ جاهدت على أن تجعله ثابتًا رغم وهنه:
_أنتِ ماسكاني كدا ليه؟ سيبيني أمشي.
ابتسامة جانبية ارتسمت على جانب فم "شمس"، والتي تركتها وتنحت جانبًا، مشيرة بكفها نحو الخارج، كدعوة صريحة لها بالذهاب، رمقتها "آلاء" باستغراب في البداية، لكنها لم تُطيل النظر إليها وولت هاربة من المكان بأكمله!
وقفت إحدى صديقات "شمس" من مكانها، وتقدمت منها أثناء قولها المذهول:
_أنتِ بتهزري يا "شمس"؟ إزاي سيبتيها تمشي بالسهولة دي!
تعدتها الأخيرة واتجهت برشاقة نحو الأريكة الجلدية الوثيرة لتجلس عليها، واضعة قدمًا فوق الأخرى، وشفتيها تحتبس سيجارًا ترتشفه ببرود، قبل أن تنفث دخانه ونظراتها شاردة به، ومن ثَم قالت:
_دا مش غايتنا، إحنا كان هدفنا "آسر" من البداية علشان ميفضحناش، لكن أخته لأ.
طالعها أصدقائها باستغراب، فتحدث أحدهم، والذي يُدعىٰ "جمال" قائلًا بسخرية:
_كإنك بقيتي حنينة!
_كإنك بقيت سخيف!
ردت جُملته بجُملة أخرى، جعلت جبينه يتغضن بضيق، قبل أن يهتف ساخطًا:
_"سكن" اتقبض عليها.
أخذت نفسًا آخر من سيجارها ثم نفثته مُجددًا وقالت:
_عارفة، بس كلها يومين وأخوها هيطلعها.
لتتشدق إحدى صديقاتها:
_هي مش بنت عمك؟ ما تـ...
وقبل أن تُكمِل الأخيرة حديثها، سددت لها "شمس" نظرة نارية جعلتها تبتلع المُتبقي من كلماتها، "شمس" التي لا يعرفون لها هوية أو نقطة ضعف، كالعنقاء ترفض الخنوع أو الانحناء، لكن شخصيتها مُريبة لحدٍ كبير، وكأنها لغز وهُم اللاعبون، أو ربما الجاني وهُم المجني عليه! وقفت من مكانها بعد أن أنهت ما أتت لأجله، وما كادت أن تذهب، حتى استمعت إلى صوت "جمال" يسألها:
_راحة فين ما لسه بدري!
_همشي زهقت.
_طيب استني بس! أنتِ محدش عارفلك لا عنوان ولا رقم تليفون ولا حتى قرايب، بتختفي فجأة زي ما بتظهري فجأة، رسينا على أي حاجة!
التفتت إليه ترمقه بعينين باردتين تُشبه الثليج، وصل صقيعها إليهم من خلال برودتها، كانوا ينتظرون أي إجابة منها، لكنها تركتهم ورحلت تطرق بكعب حذائها مُبتعدة عنهم، خصلاتها الفحمية الطويلة تتطاير من خلفها، فتتماشى مع فستانها الأسود الذي يصل إلى ركبتيها!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتوانى الفؤاد بالاستغناء حينما يشعر بأن المكان ليس مكانه، وأن الجميع ينبذه، وأن الجدران لا تعرفه، وأن النفوس أصبحت تمقطه، وأن جميع الأشياء التي يُحبها تخلت عنه.
تبدد الظلام من السماء وحل محله شمس الوجود، لكن مازالت الروح غارقة في ظُلمتها، يقف أمام مرآة مرحاضته، ينظر إلى صورته المُنعكسة، وشحوب وجهه الظاهر، أفكاره السوداوية تنعكس على عينيه الغارقة في جحيمها، كل شيء حوله خانق ويطبق على أنفاسه بطريقة مُهلكة، لكنه وبالرغم من ذلك فإنه يُقاوِم، هو "مؤمن راشد السباعي"، الذي نجىٰ من اكتئابه المُزمن، لتقع والدته ضحيته، مما يدفعها إلى إنهاء حياتها!
صدم وجهه بكتلة كبيرة من المياة حتى توقظه، يُريد الهرب من موجات أفكاره، لكن في كل مرة يُحاول الوصول إلى التل، يجد شيئًا خفيًا يسحبه إلى القاع! تنهد بعمقٍ وهو يُسير نحو غرفته، ليستدعيه صوت هاتفه الذي صدح رنينه في الأرجاء، نظر إلى شاشته فوجدها إحدى طبيبات المشفى التي يعمل بها، فزفر بضيق لعلمه بإعجابها الظاهر به، لكنه ليس مُستعدًا لخض أيًا من تلك الصراعات الآن، لذلك أغلق الهاتف في وجهها وأكمل إرتداء ثيابه مُتجاهلًا إياها.
مرت ساعة كاملة، ارتدى بها ثيابه ورش عطره ببزخ ثم انطلق إلى المشفى التي وصل إليها في وقتٍ قياسي، وحينما خطت قدماه الطابق الذي يعمل به، استمع إلى صوت زميلته توقفه بقولها المُعاتب:
_برن عليك يا دكتور "مؤمن" مش بترد! قلقتني عليك.
حاول عدم إحراجها قائلًا:
_معلش يا دكتورة "راندا" مسمعتهوش، دا غير إني مش فاضي الحقيقة الفترة دي خالص.
_طيب حضرتك كويس؟ بقالك كام يوم مش مظبوط وباين على وشك التعب.
كانت تتحدث بلهفة حقيقية وخوف نابع من قلبها غير مُزيف، مما جعله يُشفق عليها وعلى مشاعرها التي تُهلكها مع الشخص الخطأ، هو إنسان يُجاهد للنجاة، وهي فتاة مُفعمة بالحيوية، وقعت مع شخصه الكئيب وأحبته دون أي دواعي أمنية، لاحظت شرودها الطويل به، فاحمرت وجنتاها خجلًا وهي تُناديه:
_دكتور "مؤمن"؟!
رمش بعينيه عدة مرات ليعود إلى واقعه، قبل أن يقول باختصار:
_آسف، ورايا شغل كتير لازم أمشي.
تركها وغادر جاعلًا إياها تتحرق بنار شوقها ومحبتها إليه، ليتها تعلم بتعلقها الشديد به، طاقة الدفيء التي تشعر بها عند رؤيته تجعلها تتمنى لو يُحيط بها ليبثها شوقه، لكنها لا تعلم بأنه إنسان فارغ، وداخله بارد مثل خارجه!
وصل "مؤمن" إلى غرفة "آسر"، كعادته يدلف ليطمئن عليه كل صباح ويتبادل معه أطراف الحديث، كما كان يفعل مُسبقًا عِندَ زيارته لـ"مُغيث" في المنزل، دخل ليجده جالسًا على فراشه، هائمًا في الفراغ من حوله، وجهه باهت كالأموات، وعينه فقدت بريقها الفعَّال، اهتزت حدقتي "آسر" حينما شعر بوجود "مؤمن"، لتنتقل نظراته إليه تلقائيًا ويتسائل بأمل:
_"آلاء" جت؟
هز "مؤمن" رأسه بالنفي، لينطفيء بريق عيني "آسر" مُجددًا، ليعود الأول ويشحنه بطاقة من الأمل بقوله:
_بس "مُغيث" أكدلي إنه هيقنعها قريب أوي، متقلقش، عايزك تقاوم علشان لما تيجي تلاقيك "آسر" بتاع زمان، مش مجرد جثة بتتحرك قدامها وخلاص.
لم يُجبه "آسر"، وإنما عاد لحالة صمته مُجددًا، يُفكِّر هل ستسامحه شقيقته أم ستظل نابذة إياه بسبب فعلته المُخزية، كم يتمنى أن يعود به الزمان ليترك طريق الضلال الذي تسبب في خسارته لعائلته، يا ليته لم يسقط في غرام أفعى كانت سببًا في هلاكه، لكن هل سينفع التمني الآن؟ هل سيُعيد له شقيقته؟ هل سيُعيد له عائلته؟ هل سيُضمد جُرحه الغائر؟، فما كانت الآجابة سوى النفي، النفي على كل الأسئلة بشتى معانيها.
حاول "مؤمن" انتشاله من حالته مرة أخرى فقال مُمازحًا:
_طيب بذمتك قعدتك مع ولاد عمك مش واحشاك؟ تصدق يا ولا يا "آسر" اللي حصلك دا ممكن يكون بسبب إيه؟
رمقه "آسر" بعينين ضائقتين بسبب إفساده لجلسته، فقال مُتذمرًا:
_بسبب إيه يا خفيف؟
ليرد عليه "مؤمن" ضاحكًا:
_بسبب سرقتك للدُرة من أرض عمي "رامي" أنت والواد "يامن".
ارتسمت ابتسامة صغيرة على ثُغر "آسر" الذي أجابه قانطًا:
_آخر مرة أبويا هزقني بسببه، دول مكانوش كام كوز دُرة اللي اتهزق علشانهم.
_كام كوز دُرة يا مفتري؟ دا أنت كنت بتروح تجيب خط دُرة كامل وتطلع على السطوح وتيجي تقولنا شاريهم، وبعد ما ناكلهم تقولنا إن أنت سارقهم، لأ والمعفن "يامن" يعوم على عومك ويتقطع علشان نصدقكم، أهو دا أخرة المشي الشمال، أنت محجوز هنا، وهو محامي فاشل مش لاقي اللي يعبره.
ضحك "آسر" رغمًا عنه على كم تلك الذكريات والحقائق، كم يشعر بالحنين القاتل لتلك الأيام، ضحكاته ومشاكساته مع أبناء عمومته، ضحكاتهم التي كانت تصدح صداها في جميع الأرجاء، قصهم لكل ما يؤرقهم عندما يجتمعون، وياليته روىٰ لهم ما كان يفعله، لربما لم يكن سيصل لتلك الحالة! تنهد باشتياق وهو يقول بأعين مُلتمعة:
_ياريتنا كُنا فضلنا صغيرين.
ليتشدق "مؤمن" قائلًا بحذر:
_بس في الأيام دي مكناش صغيرين يا "آسر"، كنا رجالة كُبار، الفرق سنة واحدة بس انشغلنا فيها عن بعض، ولما نرجع تاني ونتجمع نلاقيك في الحالة دي؟
_غصب عني يا "مؤمن"، والله العظيم غصب عني.
قال جُملته بقهر تحشرج به صوته بخشونة عكست مُعاناته، ليضغط "مؤمن" على كفه ويقول:
_وعلشان عارفك فأنا مُتأكد إنه غصب عنك، ما تجرب تحكيلي!
هز "آسر" رأسه نافيًا وقال بشجن:
_مش عايز، مش عايز ومش قادر، سيبني لوحدي يا "مؤمن" بعد إذنك.
انصاع "مؤمن" لرغبته بعد أن رأى خطوط الألم تعود لتتشكل على تقاسيم وجهه، يعلم أنه يُعاتب نفسه، بل ويصفعها بقوة وكأنه يؤدبها، لذلك ما كان عليه سوى الخروج وتركه ليُفكر مُجددًا، وهو ذهب لمواكبة عمله من جديد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تظن أن الحياة تُنافسك، بينما في الحقيقة أن غباء عقلك هو أكبر عدو لك.
يقف في شرفة نافذته، يضع الهاتف على أذنه بينما يستمع إلى الطرف الآخر بجبينٍ مُتغضن، هو "يامن" ابن "رائد وملك"، محامٍ ناجح، أو هكذا هو يظن!
نفخ "يامن" بسخطٍ قبل أن يقول:
_يا عم "أيمن" اسمعني ومتزعقش الله يكرمك، مش كلبة اللي هتفرَّق ما بينا!
ليأتيه صوت "أيمن" من على الجانب الآخر وهو يُصيح فيه بغضب:
_كلبة إيه يا بني آدم أنت؟ بقولك بنتي اتحبست بسببك!
رد عليه "يامن" مُعاتبًا:
_ما هو ميصحش اللي بنتك عملته برضه يا عم "أيمن"، يعني إيه تسرق كلبة بنت وزير الداخلية علشان متأثرة بموت كلبتها؟ هي في الأول وفي الآخر سوء تربية مش ذنبي أنا.
_سوء تربية يا فاشل يا ضلالي يا حيوان؟ وديني وما أعبد لو بنتي ما خرجت من السجن النهاردة قبل بكرة يا محامي الندامة أنت؛ لهكون موديك في ستين داهية، وأديني حذرتك.
كان المدعو "أيمن" يصيح به بغضب هائل، قبل أن يُنهي حديثه ويغلق الهاتف بوجهه دون أن يُعطيه فرصة للتبرير أو للرد، وأي رد سيقوله، وهو الذي كُلِفَ أن يُدافع عن ابنته لأخذها أحد الكلاب المُشابهة لكلبها الراحل، وبدلًا من أن يُثبت برائتها وسوء حالتها النفسية جراء موت جروها، أثبت القضية عليها أكثر وأكد بالأدلة على سرقتها لأكثر من جروٍ لأشخاصٍ آخرين، لتُسجن بسبب براعته _كما يقول_!
نفخ "يامن" بضيق قبل أن يرمي هاتفه على الفراش ويُتمتم بغيظ:
_يعني مش عارفين تربوا ولادكم وجايين تلوموني؟ فيها إيه يعني لما تتسجن كام يوم وأهو بالمرة تتعلم الأدب؟ دا انتوا عالم غريبة!
انتفض من مكانه على صوت والدته يأتي من جانبه وهي تقول بيأس:
_عوض عليا عوض الصابرين يارب، واقف بتكلم في نفسك ليه يا حبيبي؟ اتجننت!
نظر "يامن" إلى "ملك" وقال بضيق:
_أنا مش عارف ليه الدنيا بقت وحشة كدا يا ماما، ربنا يهدي كل حرامي ونصاب وقتال قتلة عشان العملية بتوسع مني على الآخر ومش عارف اسيطر عليها.
ضيقت "ملك" عينيها بشكٍ أثناء سؤالها الحَذِر:
_قضية جديدة باظت منك صح؟
_لأ طبعًا أنتِ بتقولي إيه؟ قضية إيه دي اللي تبوظ مني؟ دا أنا أشهر محامي في العيلة أنتِ متعرفيش ولا إيه؟
لوت "ملك" جانب فمها وهي تُجيبه ساخطة:
_أشهر محامي في العيلة علشان مفيش غيرك يا ضنايا.
مط "يامن" شفتيه بضيقٍ وهو يُطالع والدته التي ترمقه باتهامٍ مُنتظرة تقريره، ليزفر وهو يتشدق باعتراف:
_طيب خلاص ماشي، القضية فعلًا باظت مني، بس متقلقيش أنا بطور من نفسي.
وبالطبع لم تُصدق جُملته الأخيرة، لذلك سألته بسخرية:
_ويا ترى طورت من نفسك إزاي بقى إن شاء الله؟
_يعني القضية اللي فاتت حبست موكلي أربع سنين، المرة دي تلت شهور بس.
صفقت له "ملك" بفخرٍ بانَ واضحًا داخل عينيها، ابنها يكبر أمامها لحظة بلحظة، بل ويُطور مهراته في حبس موكلينه أيضًا! يالفخرها به!
_آه صح كنتِ جاية ليه؟
تسائل بها "يامن" بعد أن أمسك بهاتفه مجددًا، لتقول بتذكر:
_آه يا ربي دا أنا نسيت كنت جاية ليه! المهم ولاد عمك كلهم اتجمعوا ورايحين يقنعوا "آلاء" تروح تزور "آسر" في المصحة، فكانوا عايزينك تروح معاهم.
اتسعت حدقتي "يامن" بصدمة وقال صارخًا:
_وكل دا واقفة معايا ومقولتليش يا ماما؟ أنتِ بتهزري يا ست أنتِ؟
قال جُملته ثم هرول راكضًا نحو الخارج حتى يلحق بأبناء عمومته، فيما وقفت "ملك" مكانها تُتمتم باستنكار:
_كنت واقفة اسمع إنجازاتك اللي تشرَّف يا حبيبي، جتك وكسة توكسك وأنت طالع لأبوك.
صمتت قليلًا تُفكّر في حديثها، قبل أن يتحول استنكار وجهها إلى هيامٍ عاشق، ثم تمتمت بحب:
_بس الفرق إن أبوك في قلبي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حينما تجتمع الأسود مع الوحوش لإقناعك على أمرٍ ما بالغ الأهمية، فإنك تفقد أعصابك من قوة الضغط على كاهليك، وهذا مع حدث معها، "آلاء" المُحاصَرة من قِبل أبناء عمومتها، "مُغيث، غيث، يزيد، معاذ، ويامن"، وحينما كادت أن تفقد عقلها، صرخت فيهم بغضب أخرسهم جميعًا:
_خلاص بقى كفاية صداع واخرجوا برا.
صمتوا جميعًا ينظرون لبعضهم البعض كتشجيع لواحدٍ مُنهم أن يتحدث، وحينما بادرَ "يامن" للحديث، قاطعته قائلة بتحذير:
_أنت بالذات متتكلمش خالص وخلي اقتراحاتك الغبية لنفسك.
زوىٰ "يامن" حاجبيه بضيقٍ وهو يُصيحُ بها:
_جرا إيه يا بت أنتِ هو محدش قادر عليكِ ولا إيه! هو إحنا عشان عمالين ندلع ونطبطب هتسوقي فيها، لأ بقولك إيه اظبطي كدا في نهارك الأزرق دا، متنسيش إننا أكبر منك يعني واجب عليكِ تحترمينا.
كان الجميع يجلس بالصالون المفتوح وبعيدًا عنهم قليلًا يجلس "يحيى"، والذي نادى عليه مُحذرًا بصرامة:
_"يامــــــــــن"!!
توترت معالم "يامن" الذي ابتسم بارتباك وهو يقول:
_حبيبي يا عمي.
نفخت "آلاء" بضجر من تلك الحالة التي وصلت إليها، لا تُصدِق بأنهم أمامها الآن لزيارة شخصٍ كان من أحب الأشخاص على قلبها.. ومازال! لكن فؤادها في تلك اللحظة ملكوم جريح، حتى أنها هربت بصعوبة ليلة أمس من مصيرٍ كاد أن يُهلكها في عشيةٍ وضحاها بسبب يأسها، ياليتهم يشعروا بنبض قلبها المُتألم، هي مُشتاقة لأخيها حد اللعنة، لكنها أصبحت تخافه وترهبه، كل مشاهد تلك الليلة تجتاحها فتُسبب لها الاشمئزاز رغمًا عنها.
قرأوا صراعها الذي يتأرجح داخل عينيها، فقال "غيث" بحنان:
_والله إحنا عارفين إنه قرار صعب عليكِ، بس "آسر" ميستاهلش كدا.
سددت له نظرة مُعاتبة، فوضَّح حديثه أكثر قائلًا:
_هو أكيد غِلط وكلنا عارفين، وعاتبناه وقاطعناه مُدة كبيرة، بس هو بجد محتاجنا الفترة دي أوي، مينفعش نسيبه لدماغه، ممكن يأذي نفسه.
ارتبكت لقسوة حديثه، وارتجف فؤادها خوفًا على أخيها، لكن ما بالها أن تفعل في تلك الحالة؟ رفعت أنظارها نحو "معاذ" الذي قال بدعم:
_ومتقلقيش إحنا كلنا هنكون معاكِ ومش هنسيبك لوحدك، بس ساعديه المرة دي بس على الأقل!
أدخل "يزيد" ذاته في الحديث مُتسائلًا بصوتٍ حاسم:
_"آلاء".. أنتِ مش شايفة إن "آسر" يستاهل المساعدة؟ كرهتيه؟ لو كرهتيه فعلًا مش هنخليكِ تشوفيه تاني وهنسرفه برا أحسن.
رمقه الجميع بدهشة لقسوة سؤاله، ونتاجًا لذلك، هبطت دموع "آلاء" بغزارة، تلتها شهقات مُتتالية مذبوحة، عن أي كرهٍ يتحدث وهي التي تموت آلاف المرات لتُعيد الزمان حتى تشعر بدفئ أحضانه، هي التي حُرمت من حنانٍ بالغ وتبدَّل بنيرانٍ حارقة! تابعها الجميع بشجنٍ يائسين من حالة بؤسها الصعبة، عدا "يزيد" الذي كان صلب الوجه.
شعرت "آلاء" بمن يُعانقها، واستمعت إلى صوت همهمات والدها تُهدئها، يبدو بأنه استمع إلى صوت بكائها، لذلك قرر تخفيف حِملها، مرت دقائق هدأت فيهم قليلًا، حتى سمعته يقول بحنانٍ لم يطغي على حُزنه:
_خلاص كفاية عياط، لو مش عايزة تزوري أخوكِ محدش هيجبرك على حاجة.
وكفتاةٍ اشتاقت إلى أخيها حد اللعنة، هتفت بتقرير رغم خوفها:
_أنا عايزة أزور "آسر" يا بابا.
زفر الجميع بارتياح، ها قد نجحوا بصعوبة بالغة في جعلها توافق على رؤية "آسر"، والآن لم يتبقى سوى اللحظة الأصعب، لحظة المواجهة!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يُجزىٰ المرء بأفعاله، ويجني ثمار ما حصده طيلة السنوات السابقة، فما كان عليه سوى أن يحصد ثمارًا صالحة؛ حتى لا يجني أفعالًا فاحشة!
_يعني إيه الكلام دا يا "حازم"؟ أختي هتفضل محبوسة كدا كتير!
هتف بها "خالد" الذي كان مُهتاجًا وواصلًا إلى أقصى مراحل غضبه، بعد أن تم القبض على شقيقته بتهمة الدعارة، بل وتُتاجر بالفتيات أيضًا! حاول "حازم" تهدئة "خالد" وغضبه، فقال:
_يا "خالد" أكيد ليها حل متقلقش، المهم دلوقتي نعرف إذا كانت فعلًا أختك ليها علاقة بالموضوع دا ولا لأ.
رمقه "خالد" بشررٍ غاضب، فبرر له "حازم" بيأس:
_وإلا إيه اللي خلاها تكون موجودة في شقة مشبوهة زي دي!
نفخ "خالد" بعصبية، لا يكاد أن يُصدِّق بأنها هُنا من أجل شقيقته! وبتُهمة أقل ما يُقال عنها بأنها فاحشة! ضغط على عينيه بقوة يُحاول ألا يُفكر في تلك الأوقات التي جمعته مع شقيقته، حينما كانت في حالة انهيارٍ تام وهي تصرخ ببرائتها، بالتأكيد تم تلفيق تلك التهمة عليها والدافع قوي للغاية، لكنه خفي، وأول ما فكَّر فيه "خالد" هو:
_مين الظابط اللي ماسك قضيتها؟
_"يزيد طاحون"، ودا لو هتتفاهم معاه يُفضَّل يكون بالراحة علشان هو مش سهل أبدًا.
قطب "خالد" جبينه باستغرابٍ وهو يسأله:
_مش دا ابن اللواء "صهيب طاحون"؟
_بالظبط كدا، ابن حِتة تقيلة في الداخلية علشان كدا بقولك بالراحة معاه.
أومأ له "خالد" بصمت لعدة لحظات، قبل أن يُتمتم بغيظٍ يائس:
_طب ما دا أبوه كان في قسم الجرايم، إيه جاب ابنه أداب دا بس؟ ولا هو على حظي!
التوىٰ ثُغر "حازم" كاشفًا عن ابتسامة ساخرة، مكانة "خالد" ليست بالقليلة بتاتًا، بل أن عائلته من أكبر العائلات في المدينة، لكن هُنا.. الأولوية لصاحب النفوذ واحترامه واجبًا لا مفر منه، تركه "خالد" وغادر بعد أن وعده الأول بإبلاغه عن كل جديد، واتجه نحو مكتب شخصٍ آخر، وهو "يزيد طاحون".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحيانًا لا تدري أعليك الهرب من الناس، أم من ذاتك!
دلفت إلى المشفى بخطواتٍ واثقة، بعد أن أبلغت "مؤمن" عن قدومها وهو رحب بذلك كثيرًا، لطالما كانت "سماء" أقرب فتيات عمومته إليه، هي التي يتحدث معها دون أن يخاف أن تفهمه بطريقة خاطئة، كانت تحتوي كل مخاوفه المُبعثرة وتُحولها إلى أفكار مُرتبة، مكانتها لديه كشقيقته الكُبرى، ولحظها العَثِر أحبته، رغم أنها تكبر بعامٍ أو أقل.
وقفت أمام باب غرفته المُحتجز بها، تخشى الدخول ورؤيته بحالة مُزرية، هي التي عهدته مُمتلئًا بالحيوية والحماس، أنحت مخاوفها جانبًا ودلفت دون انتظار، ومع أول نظرة تبادلت بينهما، شعرت بنبض قلبها النافر يتقافز بين أضلعها، لا تعلم أهو اشتياق أم شفقة، أم أنه حب لم يقل بالرغم من الفروق بينهما.
تقدمت منه حتى جلست على المقعد الخشبي المُجاور لفراشه، هو يُطالعها بأسف، وهي ترمقه بعتاب، هو يرجوها بأن تسمعه، وهي تتوسله الحديث، الحديث كان صاخب جدًا بينهما رغم صمت الأفواه، وأول مَن بدأ بالحديث هو "آسر" الذي قال بوهن:
_اتأخرتي ليه كل دا؟
هو بالفعل كان ينتظر قدومها منذ عدة أشهر، لكنها خيبت ظنه ولم تأتي، كان يود أن يُشاركها فحوى ألمه كعادته، الوحيدة التي كان مستعدًا للحديث معها، استمع إلى تنهيدتها في محاولةٍ منها للسيطرة على مشاعرها، ومن ثَم أجابته:
_معلش يا "آسر" كنت مشغولة أوي، المهم طمني عنك عامل إيه دلوقتي؟
زاغت أنظاره بتيهة وهو يُجيبها:
_مش عارف، كل حاجة حواليا بايظة بسببي، أنا ضيعت حاجات كتير من إيدي بسبب غبائي، مكنتش متوقع إني هوصل لهنا، متخيلتش أوصَّل أهلي وأصلكوا للحالة اللي انتوا فيها دي، أنا بقيت مكسوف أواجه، حتى بابا برفض أشوفه لما يجي يزورني عشان مش قادر أواجهه وأحط عيني في عينه.
_كان إيه لازمته الطريق اللي أنت مشيت فيه دا يا "آسر"؟! أنا ياما حذرتك وأنت مسمعتش كلامي، قولتلك إني مش مرتاحة لصحابك الجُداد دول وأنت مسمعتنيش، وفوق دا كله خبيت عليا إنهم بيشربوا وسِكتهم مش مظبوطة، ليه دا كله من الأول؟ مخوفتش على نفسك؟ طيب بلاش أنت، مخوفتش على أهلك؟ أبوك، أمك، وأختك؟ مفكرتش إحساسهم هيبقى إيه لما يعرفوا إن ابنهم مُدمن؟
حديثها كان مُتتابع، لم تُعطِه فرصة للرد أو الجواب، صوتها كان هادئًا لكن كلماتها تجلده بسوط الندم والاحتقار لذاته، هو الذي لم يعهد ذاته ضعيفًا من قبل، الآن يحني رأسه أمامها شاعرًا بالخزي والخذلان، فنادته بصوتٍ عالٍ وحاسم بالوقت ذاته:
_ارفع راسك يا "آسر" وجاوبني، هتفوق لنفسك إمتى؟ مش كفاية دلع لحد كدا بقى؟ عايز تعمل فينا إيه تاني ما تفوق!
رفع رأسه ورد بصوتٍ مُنهك:
_أنا عايز أشوف "آلاء"، مش هتحسن غير ما هي تسامحني، أنا مش قادر أعيش وهي زعلانة مني، "آلاء" دي بنتي مش أختي، أنا لحد دلوقتي مش عارف أنا عملت فيها كدا إزاي!
تنهدت "سما" بعنفٍ رافعة رأسها للأعلى لتُسيطر على انفعالاتها، قبل أن تعود بنظرها إليه قائلة باقتضاب:
_هتيجي أنا متأكدة، احتمال بكرة أو بعده، ببس ياريت تكون أنت جاهز للمواجهة وتفوق لنفسك قبل ما كل حاجة تضيع من إيدك.
أومأ لها بعد أن أعطته الكثير من الأمل الذي بث الحيوية لجسده، لقد عانى لأشهر وحده يجلد نفسه بسوط الندم، وها هو على مقربة من تصحيح خطأ اقترفه في لحظة طيش، ارتسمت على شفتيه ابتسامة واهنة وهو يسألها:
_أنتِ عاملة إيه؟
يسألها عن حالها وحالها بين يده، ذلك المغفل الذي لا يعتبرها سوى شقيقته هي تعتبره الكون بأكمله، آه لو يُبصر لذلك الكم الهائل من المشاعر التي تُكِنها إليه! لصفع نفسه على غبائه، رتبت كل تلك الأفكار على هيئة جُملة واحدة وهي:
_الحمد لله بخير يا "آسر"، طول ما أنت كويس هفضل أنا كمان كويسة.
_الله يخليكِ ويكرمك ويسترك يارب.
ضحكة خرجت رغمًا عنها على حديثه، لتقول بعدها بيأس:
_مش هتبطل أسلوب الشحاتة دا بقى؟ أما الإنسان دا فيه طبع حقير.
ليرد عليها ضاحكًا:
_يا ستي بتكسف مش بعرف أرد على الكلام دا، وبعدين دا جزاتي إني بدعيلك.
_لأ يا عم مش غلطان متاخدهاش على صدرك أوي كدا حقك عليا، قوم فوق بقى وصحصح كدا واطلبلنا أكل خلي عندك دم شوية أنا على لحم بطني من الصبح.
قالتها وهي تخلع چاكيت بذلتها الرسمية، لتظل بالبنطال الأسود الكلاسيكي الذي يعلوه بلوزة مُهندمة بيضاء اللون، فيما قال هو بتردد:
_مش معايا فلوس، استني هعزمك من فلوس الواد "مؤمن" هقوم أناديله.
اتجه نحو الباب وطرق عليه، ثم طلب من المُمرضة مُناداة "مؤمن"، والذي كان على مقربة من غرفته في حال حدث أي تراجع في حالته كما حدث المرة السابقة مع "مُغيث"، لكن ما رآه جعله مذهولًا للغاية، حالته أصبحت أفضل، ليست بكثير، لكن أفضل مما كان عليه من قبل، شعر بالحيوية تسري بين كلماته على عكس حديثه البارد والمُقتضب في السابق، وهذا ما جعله يستبشر خيرًا في حالته، التي بالفعل ستُصبح أفضل إن قابل شقيقته.
_أنت طلباتك كِترت على فكرة وأنا مطاوعك وفاتحلك المستشفى أوتيل خمس نجوم!
هتف بها "مؤمن" باستنكار حينما استمع إلى طلب "آسر"، ليقول الأخير مُحذرًا:
_اسمع الكلام يا حبيبي احسنلك، ولا تكون عايزني أفكرك بالماضي بتاعك؟ طب فاكر البت اللي....
كتم "مؤمن" فاهه بسرعة وهو يهمس إليه بعصبية:
_اسكت يالا الله يخربيتك هتفضحني في المستشفى، خلاص اخرس هجيبلك اللي أنت عايزه.
دفعه بعيدًا وهو ينظر إليه شزرًا، في حين طالعه "آسر" بشماتة قبل أن يعود أدراجه نحو "سما" التي كانت تتابعهم باستغراب من بعيد، وحينما اقترب قائلًا مُبتسمًا:
_تفاوضت معاه بكل أدب واحترام وتقدير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا شيء يُضاهي استمتاعك بالحياة بعدما قررت الاستغناء والتخلي، بل ومسح كل شيء من ذاكرتك التي كانت تمتليء بالكثير من القاذورات، كانت "سچىٰ" تجلس أمام شاشة التلفاز بعد أن استرخت ليلة أمس، نظرت حولها لمحتويات الشقة المُجهزة بطريقة فخمة على أحدث طراز، غامت عيناها بابتسامة حالمة، كم كانت تتمنى أن تنعم بمنزل مثل هذا، مع أبٍ يُحبها وأم تعتني بها، لكن الحياة صفعتها مُبكرًا، جاعلة إياها تُعاني منذ أن كانت صغيرة، لذلك قررت الهرب من منزلها اللعين، مع حبك دور المريضة فاقدة للذاكرة، مُحتفظة بسرها الأعظم الذي جعلها تفر هاربة!
امتلأت عينها بدموعِ القهر والحزن، هي كأي فتاة كانت تتمنى لو أن تُصبِح امرأة مُدللة من قِبَل عائلتها، لكن عائلتها كانت السبب الأساسي في معاناتها، تنفست بعمقٍ في محاولةٍ منها لطرد تلك الأفكار التي بدأت تُداهمها، ثم وثبت من مكانها واتجهت نحو المرآة تُطالع ذاتها، بشرتها الخمرية التي تتماشي مع عينيها البُندقية الواسعة، لترسم ابتسامة واسعة على ثُغرها الصغير قبل أن تميل على المرآة وتُقبلها بنرجسية، ومن ثَم تمتمت:
_مش حرام الدنيا تيجي على واحدة زي القمر كدا؟ متزعليش يا بت يا "جوجا" أكيد في حاجة أحسن مستنياكِ.
كانت تعلم بأنها تضحك على ذاتها بحديثها، لا شيء سيكون بخير أبدًا، خاصةً مع وجود أخيها، ذلك الفاسق الذي من المؤكد يبحث عنها الآن، لقد دمرت مخططاته وولت هاربة من جحيمه وجحيم أبويه، تلك الحياة هي الأفضل، ستظل تدعي بأنها فاقدة للذاكرة حتى تنعم بالأمان ولو لوقتٍ قصير!
استمعت إلى صوت جرس الباب، فغطت خصلاتها بحجاب رأسه ومن ثَم اتجهت لفتحه، ليظهر من خلفه "قاسم" مع زوجته "أهِلَّة"، ابتسمت بارتباك قبل أن تتنحى جانبًا وهي تقول:
_أهلًا يا عمو، أهلًا يا طنط اتفضلوا.
دلف "قاسم" ومن خلفه دلفت "أهلة" التي قالت:
_استني متقفليش الباب "فيروزة" هتجيب ليكِ الأكل دلوقتي.
تبعتها "سچىٰ" وهي تقول بحرج:
_ملهوش لزوم اللي بتعملوه دا والله، كتر خيركم لحد كدا، أنا حقيقي مش عارفة أشكركم إزاي على اللي عملتوه معايا.
جلسوا جميعًا فناظرها "قاسم" بود قبل أن يقول:
_ولا شكر ولا حاجة، أنتِ زي بناتي برضه وفي نفس سنهم تقريبًا، علشان كدا ساعدتك واترتحتلك.
رمقته بامتنان، فيما أضافت "أهلة" حديثًا فوق حديثه بنبرة تجمع بين التحذير واللين كعادتها:
_وعلشان كدا بتمنى يا "سچىٰ" تقدري مساعدتنا ليكِ ومتخبيش أي حاجة عننا مهما كانت بسيطة، لو افتكرتي حاجة ياريت تيجي تقوليلنا على طول، إحنا عيلة عانت كتير أوي في حياتها، واجهنا مشاكل وصعوبات ملهاش أول من آخر، ووجودك وسطنا ملهوش معنى ولا تعريف، فياريت اللي يجي من وراكِ يكون خير، وخير وبس، لإني الحقيقة مش هسمح لأي حاجة تمس ولادي ولا ولاد إخواتي بأي حاجة، فاهماني؟
هز "قاسم" رأسه يائسًا من تحجر رأس زوجته العنيد، لقد أخبرها قبل أن يأتي إلى هُنا تكون تكون لطيفة مع الفتاة حتى لا تُشعرها بعدم القبول، لكنها فعلت ما في رأسها وأخافت الفتاة التي كانت تُناظرها بعينين مُرتبكتين، أمسك "قاسم" بيد "أهلة" يضغط عليها بلُطف، ثم نظر إلى "سچىٰ" يقول باسمًا:
_المهم تكوني مبسوطة معانا يا "سچىٰ" ومتحسيش بأي غرابة.
رمقته "سچىٰ" باستنكارٍ ونظراتها تنتقل بينه وبين زوجته، فضحك "قاسم" بيأسٍ وهو يقول:
_أنا مش عارف أثبتلك إزاي إن هي طيبة والله، بس هسيبك أنتِ وضميرك بقى عشان أنا معنديش كلام يتقال.
اعترضت "أهلة" قائلة بضجر:
_وأنا عملت إيه يعني لكل دا؟ دا أنا كنت بنصحها!
_أنتِ كدا يا حبيبتي بتهدديها مش بتنصحيها أبدًا، ربنا يهديكِ أنتِ وعيالك يارب.
قال جُملته الأخيرة وهو يضحك، فقالت "أهلة" بضيق:
_يوه بقى يا "قاسم" معملتش حاجة!
ابتسمت "سچىٰ" لذلك التناغم الدائر بينهما، بالرغم من رهبتها ناحيتهما، إلا أن حبهما يظهر داخل أعينهما بطريقة آسرة!
انتبهت للفتاتين اللاتين دلفا من الباب، واحدة منهما هي "فيروزة" التي قابلتها ليلة أمس، عفويتها كانت لطيفة ومُمتعة، على عكس الأخرى التي تُعتبر نسخة شبابية من والدتها التي تقف أمامها، حتى نظراتها الباردة التي كانت تُحطيها هي نفسها.
وضعت "فيروزة" الطعام على الطاولة وقالت بابتسامة واسعة مُفعمة بالحيوية:
_اتفضلي يا "سچىٰ" أكلك، ماما عملته ليكِ بإيديها زي ما بتعملنا.
نظرت "سچىٰ" نحو "أهلة" تشكرها بامتنان:
_تسلم إيدك يا طنط، بجد محدش كان هيعمل معايا اللي انتوا بتعملوه.
وأخيرًا ابتسمت "أهلة" لها، بعد أن بدأت مُحاولاتها لمُعاملتها بطريقة طيبة، فقالت بود:
_اعتبرينا هنا أهلك وأي حاجة هتطلبيها هتلاقيها على طول.
انتهت "أهلة" من حديثها وهي تبتسم لها، ثم أشار "قاسم" نحو ابنته الكُبرى يُعرف عنها بفخرٍ لم تتذوقه من قبل:
_دي بنتي الكبيرة "حوراء".
مدت "حوراء" يدها لتُصافحها، مع محافظتها لمعالم وجهها الجامدة، فنكزتها "فيروزة" في جانبها وهي تقول بضجر:
_ما تضحكي ياختي! هو أنتِ هتاخد مخالفة لو ضحكتي؟
زفرت "حوراء" بضيق، مما جعل "سچىٰ" تشعر بالحرج الشديد ظنًا منها بأن وجودها غير مرغوب به، لتُبرر لها "فيروزة" قائلة بابتسامة مُتسعة:
_معلش أصل هي لسه مفركشة جديد فتلاقي جرحها لسه ملمش.
وهُنا صاحت بها "حوراء" بغضب:
_بت أنتِ متخلنيش اتجنن عليكِ دلوقتي، سيبيني في حالي أنا فيا اللي مكفيني ومش طايقة حد.
_لأ بقولك إيه مشاكلك العاطفية دي تطلعيها على حد غيري، إنما هتطلعيها عليا أنا وديني وما أعبد أفضحكم هنا في العمارة وأجيبلكم مصيبة.
_طيب لو جدعة اعمليها يا "فيروزة" وأنا هجيبك من شعرك، أصل مبقاش غيرك يا شبر ونص اللي يتكلم.
وما كادت "فيروزة" أن تُجيبها بحديثٍ لاذع يُشبه خاصتها، حتى استمعت إلى صوت "قاسم" الذي يقول بسخرية:
_الله الله على التربية والأخلاق الحميدة، كملوا يا حبايبي خناق، أجيبلكم مطاوي وسكاكين تكملوا خناق بيها أحسن؟
لترد عليه "حوراء" بانفعال:
_يا بابا ما هي اللي متربتش!
حدجها بنظرة نارية حارقة جعلتها ترتبك في حديثها وتقول:
_قصدي إن حضرتك ربتها أحسن تربية بس قلة أدبها دا مجهود شخصي منها.
زفر "قاسم" بغضب، فأشار بعينيه نحو الخارج وهو يقول بصرامة:
_برا انتوا الاتنين.
فاعترضت "فيروزة" بقولها:
_بس أنا لسه مقعدتش مع "سچىٰ" واتعرفت عليها!
_و"سچىٰ " مش عايزة تشوف خِلقتك، اطلعي برا.
تمتم بها "قاسم" ببرود، لتمط "فيروزة" شفتيها بضيق قبل أن تنطلق نحو الخارج بخُطىٰ غاضبة، فيما مدت "حوراء" يدها الحاملة لعدة حقائب وقالت بضجر:
_دي شوية هدوم ليكِ استخدميها دلوقتي لحد ما نجيبلك غيرهم.
أخذتهم "سچىٰ" من بين يديها، وقبل أن تشكرها تركتها "حوراء" واتجهت نحو الخارج بخُطىٰ غاضبة هي الآخرى!
نظر "قاسم" جهتها وقال مُبتسمًا:
_ملكيش دعوة بالتخلف اللي حصل من شوية دا واقعدي كُلي وغيري هدومك، وبكرة هبعتهم ليكِ يقعدوا معاكِ، تمام؟
_تمام.
نبست بها بامتنانٍ صادق، فودعته هو و"أهلة" بشكرٍ نابع من أعماق قلبها، وبعد رحيلهما، بدأت بتناول طعامها بنهم، رامية حاضرها وماضيها خلف ظهرها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دائمًا ما كانت تلك العائلة كعودٍ واحد لا يقبل الكسر، ولا تقبل التفكك، متماسكين كمغناطيس، لا يتنافروا مهما تشابهت الأقطاب، لكن ماذا إن تم رنيهم بسهامٍ غادرة تتسبب في فك تلك العقدة؟ ماذا إن تم حصد أول بذرة لتفككهم؟
كان "معاذ" جالسًا في مكتبه الخاص بالشركة لوقتٍ متأخر، مهووس بالعمل كعادته، ومهما حاول "صهيب" أو "قاسم" ردعه ولو قليلًا، يعود ليعمل كماكينة تتحرق للعمل، رفع رأسه عن جهاز الحاسوب حينما استمع إلى صوت طرق الباب، وبعدها دخلت سكرتيرته الخاصة حاملة مظروف صغير بين يديها، اقتربت منه ومن ثَم وضعته أمامه وهي تقول بلباقة:
_الظرف دا وصل لحضرتك يا مستر "معاذ".
زوىٰ ما بين حاجبيه باستغراب وهي يسألها:
_متعرفيش مين اللي بعته؟
هزت رأسها نفيًا، فقال مُتفهمًا:
_خلاص روحي أنتِ دلوقتي.
ذهبت من أمامه وأغلقت الباب خلفها، في حين أمسك هو بالمظروف يُقلِّب فيه بجبينٍ مُقطب، حتى قرر فتحه، لتصدمه الصور التي قابلته، عدة صور مُلتقطة بعدسة عالية الجودة، يظهر بها شاب في أواخر العشرينات مُمدًا على الأرض الصلبة ومن بين شفتيه تخرج رغاوٍ سامة، وبجانبه تقف فتاة شابة تُطالعه بشماتة جلية تتزامن مع ابتسامتها الواسعة، وما جعل الرجفة تُصيب فؤاده، هي الاسماء المُدونة على الصور من الأسفل:
"أنس نادر الأرماني" و "ريماس صفوت الأرماني"، والديه!!!