رواية ملاذ قلبي سكن كاملة وحصرية بقلم عائشة حسين
الفصل الأول
سَأَلْتني : أَيـن أَجدكَ؟
قلتُ : حيث أَنـتِ ... أَنـا أَكون
لسـتُ بعِيـداً عنـك ..
بل أَقـرب من طـرف العيون
ربما في دمـك أَكـون
أَو في قلبك أَنـا مـدفون ..!
لقائلها
بمنزل آل عامر بمحافظة قنا، أثناء تناولهم الفطور في تجمع عائلي
هتفت نفيسة زوجة الابن الأكبر للجد عمران
(مالك يا عمي شكلك رايج انهردِا ونفسك مفتوحة)
لوى فمه بإمتعاض، مغمغمًا بكلمات غير مفهومة لمن حوله وتلك المتربصة به قبل أن يرمي كلماته (وعايزه تسدي نفسي ليه يا مرت ولدي.؟ باكل من بيت أبوكي)
مصمصت نفيسة متنهدة بحنق وهي تبرر ضاغطة حروفها (مجصديش بس مش بعاده يعني)
غمغم الجد بقرف (يسد نفسك) ثم تابع بصوت مسموع ليزيد من حنقها (هو أنا مجولتلكمش)
استقرت النظرات فوق وجهه المُضي مترقبين خافقين الفؤاد بقلق، ليجيب سعد الابن البكر لولده رفعت (لا مجولتش يا جَدي)
تناول الجد قطعة من الفطير وغمسها بالجبن قائلًا بهدوء يناقض فرحته العظيمة (حمزة جاي بكره)
التفت الجميع لبعضهما بإستنكار، لتبادر نفيسة مندهشة مصدومة (حمزة واد ورد.؟)
صاح الجد بنبرة قوية متفاخرة (حمزة واد عبدالحكيم) نفض الابن الأكبر لعامر كفيه متسائلًا بإندهاش (ودا جاي ليه.؟ إيه فكره بينا دلوجت.؟ )
رمقه عامر ابنه بنظرة ساخطة غير راضية وهو يوضح بقوة (حمزة يجي فأي وجت المكان مكانه يا رفعت)
حمحم رفعت مرتبكًا يحاول التوضيح لكن عامر قطع الكلمات بإقرار غليظ (كلمته يجي يشوف المواشي ويباشر المزرعة مش معجول ندور على الغريب وهو جاعد وبعدين دا ملكه وحجه وحجق أبوه الغايب)
أجاب رفعت وكفيه ترتفعان عن الطعام في زهد (بس أحنا كلمنا أحسن البيطريين وجايين)
جاء صوت زوجة عامر سكينة من خلفه معترض بقوة (أبوه مالوش حج، سابه واختار طريجه من زمان)
إرتاحت نفيسة لتدخل عمتها واستحسنته، لينهض عامر من جلسته متجاهلًا كلماتها كأنه لم يسمعها
تناول عباءته وعصاه وغادر تاركًا كلماته تدور في الرؤس وتصفع الإدراك
هتف سعد بضحكة ساخرة (هو جدي كِبر وعيخترف)
هتف رفعت في ولده بحدة (اتأدب يا واد)
لوح سعد في امتعاض لا تروقه كلمات والده المعنفة التي جاءت على هوى جدته وأكدتها (سعد مغلطش، كني أبوك خترف صُح ومش هيجيبها لبر)
شرد الجميع مفكرين كل واحدٍ انشغل بأفكاره الخاصة،منتظرين ما توجد به عودة الابن الغائب
******
في القاهرة في حي من أحيائها متوسطة الرقي
هتف حمزة من بين أسنانه بغيظ وعدم رضى وهو ينتعل حذائه الفخم(مش فاهم سر إصرارك ياورد إني أروح المرة دي.. ما جدي دايمًا بيتصل)
تناولت كفه وتطلعت لخطواته بصمت قبل أن تعتنق نظراته هامسة بإبتسامة رائقة
(أبوك جلي خلي حمزة يروح)
كتم تأففه داخله قبل أن يسحب كفه ساخطًا، ضائقا بالوهم الذي يغلف حياتهما لتتابع ورد بإبتسامة مزيج مابين الفرح والترقب
(روح ياحمزة واسمع كلامي)
انحنى يلثم رأسها بطاعة وإمتثال بعدما يئس من الجدال (هروح يا ورد)، ليسألها بإهتمام
(زهرة هتيجي مِتى...؟)
قالت وهي تنهض تاركة كرسيها ملوحة في وجهه بلا مبالاة
(هتيجي متخافش سافر إنت بس بالسلامة وخلي بالك من نفسك)
هز رأسه مُحبطًا قبل أن يطيع (حاضر)
لتلتفت مبتسمة تطلب بشجن غريب (سلملي على راضية وسكينة يا حمزة)
مال فمه بعدم فهم وهو يسألها بينما يرتدي حقيبته خلف ظهره (مين سكينة..؟)
أوضحت بشرود وابتسامة حنين ارتكنت فوق ثغرها (بت عمتك يا حمزة)
لوح ضائقا وهو يندفع لباب الشقة (ماشي لو شوفتها)
قالت بنبرة تأكيديةقوية وابتسامة حملت إقرارًا (هتشوفها يعني هتروح فين..)
هز رأسه بسلام عابر وهو يغلق الباب خلفه، مُفكرًا لطالما كانت والدته غريبة الأطوار ترى مالا يراه وتسمع مالا يسمعه.. منذ أتى بها هنا ليكمل دراسته وهو يرفض العودة بأي يشكل، يظل جده يلح بإصرار ويرفض هو بحزم ناهيًا الأمر، يكتفي بزيارات قليلة بإقامة قصيرة على فترات متباعدة.. حتى أصابه الكسل والفتور وامتنع عن زيارتهم منذ أربعة أعوام مرت الآن ..
منذ أسبوع هاتفه جده ليستعين به في مزرعته، طالبًا منه العودة وبعدها ألحت ورد بإصرار، تخبره أن والده يريده أيضًا أن يذهب وطلب منها إقناعه حتى رضخ مرغمًا.
أما ورد فجلست فوق كرسيها الهزاز تهمس (ربنا يراضي جلبك يا حمزة)
أزاحت خصلاتها مفكرة قبل أن تغمغم من جديد(ربنا يحفظك ) اتسعت ابتسامتها حين ختمت كلماتها بلفظ تدليل خاص طرأ على أفكارها كأن أحدهم أملاه لها ووشوش به في أذنها لتغرق بعدها في شرودها
*******
في صباح اليوم التالي.. في قرية من قرى محافظة قنا
****
احتفالًا بهطول المطر، قررت السير وحدها بين الغيطان لاستقباله واحتضان نقاطه، تدندن بينما تضع بفمها مصاصة لو علمت أمها بفعلتها تلك أو رآها عمار لن يمر الأمر بسلام لكن ما الضرر على إية حال هي تنال الكثير من توبيخ والدتها وقسوة أخيها.. أمورها معقدة على الدوام لاتنجو من براثنهما ولا تكف هي عن عنادها.
مرت بجانبها سيارته، فالتفتت ناحية النافذة تستكشف، حاجبها يرتفع بأنفةٍبينما نظراتها تدقق في الجالس أمام المقود ناقمًا غليظ الملامح.. حانت منه التفاته لصاحبة أفضل مزاج اليوم.. فأقتربت مدققة النظر، لتفغر فمها بدهشة وتقترب غير مصدقة، طرقت زجاج النافذة ومازالت المصاص عالقة بفمها، تأفف وهو يفتح لها، تأملته قليلًا بإنبهار قبل أن تهز رأسها متسألة وهي تنزع عن فمها الحلوى (إنت حمزة عبد الحكيم)
رمقها بنظرة متباطئة مستكشفة قبل أن يجاوبها بحاجبين منعقدين في صرامة منفرة (أيوة)
قالت مبتسمة بفرحة وعقلها يرنو لوالدتها (أنا سكينة بت عمتك)
تذكر كلمات والدته فضيق عينيه يتأملها لدقائق قبل أن يرحب بفتور (أهلا يا سكينة)
سألته بحماس طفولي (رايح بيت جدي.؟)
قال وهو يستعد للقيادة من جديد(أيوة)
آتى حبيب قلب والدتها وعليها استغلال الفرص، يمكنها من خلاله أن تحصل على شي تريده أو مبلغًا من المال احتفالًا بقدوم مدلل قلب عمته...أفاقت على صوته يطلب بحنو متخليًا عن غلظته(تعالي اركبي أوصلك الجو صعب)
فكرت قليلًا ثم قالت بفرحة وحماس (ماشي يلا)
اتجهت ناحية السيارة، فتح لها الباب فجاورته متسائلة بعبث (أي رياح طيبة أتت بك يا ابن خالي.؟)
مال فمه بإبتسامة خشنة بينما يستعد للانطلاق وهو يقول بسخرية (هي مش رياح لا دا بهايم)
قطبت مستفهمة ليأتي دوره ويسألها(إنت ماشية لوحدك ليه فالجو دا.؟)
هزت كتفيها تقول ببساطة (الجو حلو جولت اتمشى)
هز رأسه وهو يسألها من جديد (فسنة كام بجا يا سكينة أصل أنا مش فاكرك خالص الصراحة.. شملها بنظرة خاطفة وهو يخمن بما استحق عليه سخطها واستجلب به حدتها (إعدادي)
حاورت بذكاء وهي تضيق عينيها فوق ملامحه ( إنت دكتور بهايم مش كدا..؟)
هز رأسه استحسانًا لمراوغتها ليقول بتأكيد (أيوة)
قالت بغلظة وهي ترمي أعقاب الحلوى من النافذة (أنا فثالثة ثانوي يا دكتور البهايم)
التقط مقصدها فصمت بغيظ، سرعان ما تبدلت ميزاجيتها برقت عيناها وهي تسأله بينما تتطلع لسقف السيارة (حمزة ينفع تفتحلي العربية وأطلع من فوج للمطر)
استنكر قولها وجنونها بساطتها معه رغم معرفتهما التي لا تتعدى الدقائق! ليقف بالسيارة قائلا (إنتِ تنزلي أحسن )
شملته بنظرة مستهينة غاضبة قبل أن تُنفذ بكرامة، فتحت الباب وغادرت سيارته موبخة (ماشي يا حمزة الكلب، واحد عايش مع بهايم هيبجا كِيف )
انطلق بسيارته تاركًا لها دون رغبة في الحديث أو إثنائها عما تفعل،يكره تلك البلدة منذ مات والده وتركهما لعمه وزوجته الماكرة التي ضيقت على والدته حتى اضطر للسفر بها بعيدًا، عانت والدته من زوجة عمه الكثير حتى وهنت وأصابها المرض ألا يكفيها موت حبيبها غدرًا وفجيعتها بفقده،تنهد بشجن مدركًا أنه قد وصل لموطن الوجع ومحط فجيعتهم ساحة المنزل الكبير الواسع متعدد الطوابق، يستجمع شتاته لتلك المقابلة.
***********
دخلت سكينة المنزل مهللة تبحث بعينها عن والدتها (يا أهل الدار.. يا أم عمار)
أوقفت مودة صرخاتها العالية بتأفف(بس بس في إيه)
لمعت عينا سكينة بمشاكسة وهي تقترب محيطة ذراع مودة بذراعها قائلة(أجولك على خبر حلو وتديني البلوزة الچديدة يا مودة.؟)
مال فم مودة بسخرية وهي تفك وثاق ذراعها مستهينة( جولي على حسب الخبر ياست سكينة)
وقفت سكينة في بهو المنزل الواسع تلف حول نفسها في دراما وهي تخبر أختها (خمني شوفت مين وأنا چاية من الدرس)
سخرت مودة وهي تبتعد عنها بلامبالاة لكلماتها(شوفتي مين يعني..؟)
عقدت سكينة ذراعيها أمام صدرها تقول (شوفت حبيب الجلب)
توقفت مودة عن السير ابتلعت ريقها بإرتباك وهي تسألها (جصدك مين.؟)
عضت سكينة شفتيها بمكر قبل أن تندفع منادية والدتها (يا راضية...)
أجابت والدتها التي كانت تجلس أمام الفرن بإنهاك (خير يا سكينة.؟)
حاوطت سكينة عنق والدتها من الخلف قائلة (جيبالك خبر يردلك روحك.. بس يدك على الحلاوة الأول )
وضعت راضية صواني الفايش المصفوفة داخل الفرن وأغلقت عليهم وهي تقول بينما تجفف حبات العرق عن جبينها(خبر إيه دِه... الي چايبك على ملا وشك.؟)
تدللت سكينة وهي تأخذ واحدة مما صنعت والدتها وتقضمها قائلة بجدية (أوعديني الأول)
تدخلت مودة مغتاظة منها ومن مراوغتها، وقلبها يهفو للخبر الذي تريد، ضربتها والدتها بساقها فتأوهت (آه.. لتستطرد بفم ممتلئ (مش هجول من غير ضمان)
أشاحت والدتها زاهدة في كلماتها حانقة من عنادها لتقترب جاذبة انتباهها(نفسك تشوفي مين بجالك مُدة.. ؟)
فتحت والدتها الفرن تطالع صنع يدها من الفايش وهي تتأفف ساخطة من شقاوة ابنتها (معيزاش أشوف حد)
هزت سكينة رأسها ترفق اسمه بنتهيدة هائمة (حتى لو كان واد خالي حمزة)
تلاقت النظرات فوق ملامحها تطلب تصديقًا، حدقت بها والدتها وهي تنتفض تطلب تأكيدًا(جولتي مين يا سكينة.؟)
أكدت سكينة وهي ترمش باتجاه أختها التي شردت على ذكر اسمه(حمزة دكتور البهايم الحيلة)
بسطت راضية كفها على قلبها مغمغمة باسمه في فرحة (واد أخوي حمزة. ثم التفتت تسألها ببريق من الدموع (شوفتيه فين يا ملكومة انطجي)
امتعضت وهي تحكي باستياء ناقدة أفعاله وعجرفته(جابلته عالطريج وركبت معاه بس نزلني جالي رايح بيت چدي )
تجاهلت والدتها ماحكت سوى أنه عاد ويمكنها رؤيته، بينما كانت مودة تُهدئ من روعها حتى لا يُكشف أمرها ويفتضح أمر حبها الخفي المتستر لحمزة..
إرتدت راضية حذائها في عجالة ثم سحبت عباءتها وخمارها ترتديهم قائلة (مودة خلي بالك من العيش هروح أشوف الغالي)
إعترضت مودة لحاجةً في نفسها (خليكِ يا أما وسكينة تروح تنادي عليه وتچيبه علشان تجعدي معاه براحتكم)
طالعتها راضية بصمت امتزج بتفكيرها رغم استحسانها للفكرة لكن جوعها لضمه بين ذراعيها أكبر واشتياقها له الكبير يمنعها ويفتك بصبرها.. لتعاجلها مودة (روحي يلا يا سكينة)
اعترضت سكينة مستغلة الأمر (إيه هو الي روحي ياسكينة وتعالي يا سكينة فين حلاوتي والي اتفجنا عليه.؟)
حاوطت مودة كتفيها تدفعها للأمام قائلة (هتروح يا أمااا اجعدي إنتِ). ثم همست لأختها (أنا هديكِ الحلاوة وكل حاچه بس روحي)
مدت سكينة كفها تطلب بفرحة (أخد الدفعة الأولى جبل ما أروح)
استسلمت مودة، سحبتها للحجرها نقدتها بما تريد بعد أن استولت سكينة على ما اختارته من أغراض أختها وغادرت، رغم أنها لا تحب مدلل عائلتها لكنها ممتنة للصدفة التي جمعتها به ومكنتها من أخذ الأموال وأغراض مودة بطيب خاطر..
وصلت منزل جدها ودخلته مهللة تعلن بصخبها الوصول، تلاقت النظرات الواجمة فوق صفحة وجهها قبل أن تندفع ناحية جدها مشاكسة(حمزة جالك يا جدي يكش ترضى عني)
رمقها جدها بإمتعاض وأشاح نافرًا منها لتتجه ناحية جدتها وتنحني مقبلة رأسها تقول بوداعة (حبيبتي ياستي يا غالية)
غمغم جدها بكلمات غير مفهومة بينما كانت ملامحه تكشف مدى ضيقه.. سألت وهي تراقب جمود حمزة وضيقة المُعلن عبر نظراته (فين خالي والعجربة مرته وابنها الضال)
لاح شبه ابتسامة فوق ثغر حمزة الساكن مكانه وألف رغبة للهرب تَنسج خيوطها داخل عقله
قالت الچدة وهي تنهض واقفة زاهدة الجلسة وابن ولدها (هيسيبوا أشغالهم يعني كل واحد راح لحاله..)
اتجهت سكينة ناحية حمزة بإستياء واضح فيبدو أن المقابلة كانت فاترة مُحبطة ومخيبة للآمال ولكم شعرت بالشفقة لأجل هذا الجامد قاسي الملامح بتعبيرات عميقة للحزن مما دفعها لأن تهتف بعد أن أجلت حنجرتها (أمي عيزاك ياحمزة شيعتني أنادي عليك) كلماتها تضافرت مع نظراتها تعده وتمنيه بين سطورهما بمقابلة جيدة تليق بغيابه، وربتة حانية فوق أوجاعه.
تضامن معها جدها الذي إستاء بشدة مما حدث لابن ولده والجفاء الذي قُبل به (روح يا ولدي عند عمتك زمانها هتموت وتشوفك.. وأبجا أرجع تاني نتحدت عشية)
نهض حمزة بتكاسل، يمشي بصحبة تلك الصاخبة التي تبدلت نظراتها فجأة من الغضب للشفقة وكأنه لم يفهم وحاولت تبديد الصمت بكلماتها (كنت مجهورة منك علشان سبتني ومشيت زي الكلبة.. بس بصراحة جيتك خدمتني كتير.. ثم أردفت بإبتسامة ساخرة (وبصراحة صعبت عليّ يا مسكين محدش عبرك)
رمقها بنظرة حادة زاويًا ما بين حاجبيه لتبتسم منتصرة وتشيح بعيدًا بينما التقط هو أنفاسه وعاد بنظراته للطريق
ظل صامتًا، شاردًا فيماحوله يضيق بثرثرتها الكثيرة وصخبها،طفوليتها ليفاجئها بسؤال(عندك كام سنة.؟)
رمقته بنظرة مشتعلة وهي تخبره من بين أسنانها (٢٠سنة ليه السؤال.. لو هتطلعلي بطاجة فأنا طلعت خلاص)
عاد لقوقعته وصمته وعزوفه الثقيل على قلبها من مجاراتها في حديثها والتباسط لتغمغم (الله يعين البهايم مستحملينك إزاي)
ابتسم لغمغماتها المسموعة له دون تعقيب لتكمل داخله حلقة من النفور والحزن، بعد مقابلة عمه الباردة وولده المتعجرف وجدته التي اكتفت بسلام فاتر .. لتأتي تلك الشعلة وتزيد العبث وعبء الزيارة على عاتقه.. غمغم بحزن (الله يسامحك ياورد)
تطلعت إليه سكينة قائلة (بيكلم نفسه يلا جعدة البهايم تعمل أكتر من كِده)
وقفت راضية أمام الباب بإشتياق منتظرة أن يطل عليها فترتوي روحها الظمأة برؤيته بعد أربعة أعوام من الغياب وامتناع ورفض من قِبله للمجيء والعودة وتكاسل عمار ورفضه الدائم أن يذهب بها عنده هو ووالدته.. حين لمحت فتاتها تهللت، وجدت في قربه ريح أخيها المتوفى قطعة قلبها وروحها الذي غادر هو وزجها ليتركانها فريسة للأيام وظهرًا ثقيل لحِمل يُعجزها.
حين أقترب اندفعت هي وعانقته بحرارة تحت نظرات سكينة الساخرة التي تتعقب ردود فعله بإهتمام.. للحق هذا الصموت أبدى عاطفة حارة تجاه والدتها، قبّل رأسها وكفها بحنو.. مسح جموده ورسم فوق ملامحه تعبير لطيف.. أدخلته والدتها لاتشبع من إعتناق ملامحه ولا تتركه نظراتها دون الإرتشاف من تأمله.
شيع الدار الواسعة بنظراته قبل أن يجاور عمته فوق أريكتها المحببة التي تصر كلما جاء أن يجلس فوقها.. رغم وسع المنزل والأثاث الحديث إلا أنها تحتفظ بها في ركن قصي يفضي على نافذة واسعة تطالع الحقول الخضراء.
مسحت راضية دموعها المسترسلة وهي تخبره بإشتياق فاضت به نظراتها ولمساتها الحنون لوجهه(بجيت كيف أبوك يا حمزة كني شيفاه جدامي)
اندفعت مودة شبه راكضة لتتوقف وتتباطء برزانة تحمحم قائلة (إزيك يا واد خالي عامل إيه وكيفها خالتي ورد)
أجاب حمزة بأدب وهو يغض بصرة عنها (الحمدلله بخير) فتوضح والدتها بفخر (دي مودة يا حمزة رابعة جامعة آداب تاريخ)
ثم أشارت لسكينة المزعورة أن يأتي دورها في التعريف (دي سكينة تالتة ثانوي ويارب تعديها بخير السنة دي) لوت سكينة فمها بإمتعاض
أشارت لهما (فين ضيافة ابن خالكم واه) تحركت مودة بحماس بينما بقيت سكينه مكانها تتأمله وتتابع بإهتمام لتقول راضية بعدما نهرتها بنظراتها لحنها تجاهلت بعناد (كيف ورد يا حمزة طمني عليها)
أجابها وهو يطالع سكينة بطرف عينيه (كويسه بتسلم عليكي وعلى سكينة)
توترت مودة التي جاءت تحمل صينية ضيافتها له مع ذكر اسم أختها التي هتفت هي الأخرى بدهشة وفرحة طفولية (بتسلم عليا أنا)
تجاهل حمزة سؤالها وهو يشارك عمته شجنها وذكرياتها بلطف وامتنان، قدمت مودة المشروب بإرتعاش وقلق ليشكرها حمزة بتأدب..
جلست سكينة بجانبه تهتف بفرحة غريبة وتباسط نهرتها عليه والدتها بنظراتها(حمزة في صور عندك لورد نفسي أشوفها)
أطبقت راضية شفتيها ونظراتها وتبريقاتها ترسل وعيد لسكينة لكنها تجاهلته كالعادة وضربت به عرض الحائط وتابعت التوسل لحمزة الذي لم يتقبل أفعالها أول الأمر لكنه رضخ احترامًا وأخرج هاتفه ليريها وقد وضع صورة والدته خلفية.. تناولت سكينة الهاتف بلهفة تتأمل الصورة بإنبهار طفولي أعجب الجالس بجانبها لتقول مفصحة عن إعجابها (واه دي طلعت چميلة زي ما بيجولوا ليه حج خالي يحبها كل الحب دا)
تنهدت راضية توافقها الرأي (ورد كل ما فيها حلو)
رفعت نظراتها تطالع حمزة قائلة (مواخدش منها غير عينيها)
حمحم بحرج من نظراتها المتفحصة، لتقول وهي تناوله الهاتف (شكرًا ابجا سلملي عليها وجولها تچي أشوفها)
حانت منه التفاتة ناحية مودة الجالسة بأدب لا ترفع نظراتها إلا لحاجه وضرورة تشبه عمته كثيرًا بشرة خمرية رائقة وأنف دقيق شفتين رفيعتين وشامة أسفل الذقن تزيد ملامحها حلاوة وبهاء بعكس تلك الأيقونة المشتعلة الجالسة بجانبه فهي تشبه جدته لأبيه كثيرًا بشرتها البيضاء وقوامها الممشوق بفتنة غابات الزيتون بعينيهاالتي تحرسهما أهداب طويلة غزيرة، أنفها الدقيق
وشفتيها المكتنزة بإغراء بلونهما الوردي الفاتح.. شديدة الجمال تلك الصغيرة الشقية.
نظر لساعته قائلا (همشي أريح في البيت ياعمة)
رفضت عمته وهي تتشبث به (خليك يا ولدي ييجي عمار ونتغدوا مع بعض)
امتنع بملامح متقلصة (لااا أكلت في الطريج ياعمة الحمد لله)
هتفت سكينة بإستنكار (تلاجيك ولا أكلت ولا خالي فطرك من الأساس)
نهرتها والدتها بحدة (سكينة)
لوحت بذراعها بإستياء قبل أن ترحل أخيرًا معتلية السلّم الذي يتوسط الدار قائلة(خرست سكينة وهتغور)
تعجب حمزة من أفعالها وكلماتها وعنادها الذي يظهر كالوميض بنظراتها تناقضها الشديد مع أختها وعمته وكأنها وحيدة متفردة حتى أن عمار لا يشببها بل دمث الخلق رزين.
جلست عمته قائلة (اجعد يا حمزة هناكل مع بعض وبعدين نروح لبيت جدك..على ما حد يروح ينضف البيت، أجعد أشبع جلبي منك يا غالي) امتثل لها وجلس، فزيارة بيت جده ثقيلة خانقة تستنزف طاقته لا ضرر إن تأخر وحاوط نفسه بدفء ومودة عمته.. التي أشارت لفتاتها الصامتة (اطلعي فوج يا مودة)
أطاعت الفتاة منسحبة لتلتفت العمة لحمزة مبررة متأسفة (متاخدش على خاطرك من سكينة يا حمزة هي كِده رأسها ناشفة ولسانها سابجها غُلبت معاها بس مفيش فايدة ربنا يهديها، أبوها كان مدلعها بزيادة ومبيرفضلهاش طلب وهو بس الي كان يجدر عليها واهو مات وسابلي همها التجيل، ونشفان دماغها الي مش نافع فيه حاچة خالص ياولدي وهتموتني فيوم بعمايلها ناجصة عمر)
قبل حمزة كفها هامسًا بحنو(بعيد الشر يا عمه، صغيرة تكبر وتعجل)
أفضحت العمة بيأس، تشاركه الهم (السنة الي فاتت والي قبلها مدخلتش الامتحان والسنة دي هنشوف)
سألها بإهتمام يطلب توضيحًا(مدخلتش ليه.؟)
تنهدت السيدة تقص عليه من نبأها(مخبراش يا ولدي هي بتتعب صُح ولا بتعند ولا إيه حكايتها) طمأنها بحنو وهو يربت فوق كفها المتغضنة (خير يا عمه ربنا يهديهالك)
قالت عمته بابتسامة واسعة وحنين (بجالي يومين بجهز للفايش كني جلبي حاسس بجيتك،عارفه إنك بتحبه)
ابتسم لها بإمتنان يهز رأسه مستحسنًا الكلام يلاقي داخله صدًا،متذكرًا أنه حقًا يحبه وبالأخص ما كانت تصنعه عمته لأجل والده وقد ورث هو منه حبه وحب عمته.
************
بداخل حجرتها كانت منبطحة على بطنها فوق الفراش تتذكر ملامح ورد بإعجاب تقارنها بملامح ولدها مدلل عمته، بينما كانت مودة منشغلة بأفكارها الخاصة التي تتعارك داخلها وتشدها كلا من ناحية فينقطع حبل صمودها، لماذا خصت ورد سكينة بالسؤال والسلام دونها
هتفت سكينة (مالك يا حزينة بتندبي ليه..؟)
دفعتها عنها مودة بضجر قائلة (مفيش سبيني فحالي وخليكِ فحالك )
لوحت سكينة مستهينة متجاهلة حزن الأخرى لا تدري بأفكارها التي غيمت إدراكها تتسائل عن سر سؤال ورد عن أختها.. وقفت سكينة أمام المرأة تطالع نفسها بإعجاب كما تفعل، محبة هي للحياة ولنفسها وجمالها
خلعت حجابها وفردت خصلاتها الطويلة تكلل جمالها الآخاذ بهذا التاج
حركت خصلاتها الغزيرة تحت نظرات مودة لتنهرها مودة بغلظة(هتجننك المراية... بطلي تجفي جدامها)
ضحكت سكينة قائلة مستفزة مودة (كنت محتاجة أشوف حاجه حلوة ملجتش أحلى مني.. بعد ما شوفت بيت جدك الي يسد النفس)
ضربتها مودة مستاءة من غرورها، لتجاورها سكينة متسائلة (إيه رأيك فحمزة.. ؟)
رمقتها مودة بنظرة غامضة طويلة قبل أن تلقي على مسامعها قولًا شديدًا أربكها(يشبه أبوه ويشبهك..)
قطبت سكينة لاتفهم مقصدها لتوضح مودة بإبتسامة (ورث خالي وإنت كمان.. كأنكم نصين)
ارتبكت سكينة أول الأمر لكنها سرعان ما تحدثت مستاءة متجاهلة (بجولك إيه كلامك الغريب دا مبفهموش يا بتاعة الفراعنة إنتِ)
ثم قفزت قائلة بحماس (هلبس وأروح مع أمي لعليا)
تريد مراقبة هذا المدلل ومعرفته عن قرب، غموضه يثير داخلها الفضول وحب الاستكشاف، لتسخر منها مودة وتصدمها بقرار والدتها(هنروح ننضف بيت حمزة)
لوحت سكينة ممتعضة مستخفة (مع نفسك بجا.. كدها يا دودو)
هزت مودة رأسها يائسة محبطة، فدائما ما تتنصل سكينة وتهرب وتتركها
نهضت تدعو لها بالهداية، تتركها للمرآة والأغاني والهاتف
*********
داخل منزل الجد في المساء
هتفت نفيسة زوجة عم حمزة من بين أسنانها وهي تمشط جسد حمزة الواقف(ازيك يا حمزة.؟ كيفها أمك)
وقف حمزة في تأدب، احنى رأسه يبادلها سلامها رغم ما علّق به من نفور ورغبة ملحة في التجاهل (الحمدلله يا مرات عمي)
مصمصت معترضة وهي تجلس في الكرسي المذهب قبالته بغرور (جولي يا ست نفيسة)
حملقت راضية فيها بغير رضا، نظراتها الحادة تحاول ردعها لكنها فشلت حين قابلتها السخرية والتجاهل من نفيسة، ليأتي دور تلك الشعلة النارية وتهتف بإنزعاج (ما يجولك يا آنسة نفيسة أحسن.. ثم غمغمت بحنق وتأفف (احنا مبنكبرش الحمار بجولة هوش) سئمت والدتها من مجابهتها زوجة خالها والعناد المستمر لها، والخلافات الكثيرة نتيجة عدم سكوت سكينة وطول لسانها الذي يجلب لهم المصائب على الدوام
صرخت نفيسة بوجهها في غضب (اتكتمي يا مجصوفة الرجبة)
هزت سكينة كتفيها قائلة مستفزة لها (نعم يا خالتي نفيسة)
راقب ما يحدث بصمت، إعجاب لمع بمقلتيه لتلك المتوهجة المثيرة للمشاكل فتات الحماقات الأولى ومنبع المصائب، قالت ما عجز عن قوله
وردت بما تستحقه زوجة عمه
توجهت نظرات نفيسة لراضية (نسيتي تربيها يا راضية)
انتفضت سكينة بغضب كارثي، ساخطة ناقمة تصيح معترضة (أنا أبوي مربيني أحسن تربية) تعجب حمزة من ذكرها والدها وخصها له بالتربية دون عمته لتقول نفيسة باصقة كلماتها كأنها تتشفى (اهو مات وهي معرفتش تربي)
احتد الأمر ونشب الصراع، جن جنون سكينة تلبسها مارد الغضب،أزعجتها نبرة نفيسة المتشفية وهي التي مازالت تعاني من فقد والدها وغيابه، لم يفق إلا وهو يمسك بكفها يسحبها لتعود جواره صامتة..
رحلت نظراتها المهتزة تجاهه، اشتبكت مع عينيه الدافئة المطمئنة فهدأت ببساطة لم تتوقعها وأمتثلت عائدة بصمت متراجعة عن عراكها.. ترك كفها فرفعتها أمام نظراتها تفرك أناملها مندهشة من ذلك الشعور الذي اخترقها فتت غضبها بسر غير مفهوم..
نهضت منتفضة تهمس بتوتر (هروح لعاليا)
لتعاود راضية لنفيسة بخنوع أغضب حمزة (معلش يا مرات اخوي حجك عليا صغيرة وطايشة)
وضعت نفيسة ساقًا فوق الأخرى قائلة (جوزيها يمكن تعجل وسيبك من التعليم طالما مش نافعة)
لم يرقه الحوار الدائر قطعه متسائلا يصرف تفكير عمته عن وساوس نفيسة (يلا ياعمة نشوف جدي)
نهضت راضية تستأذن نفيسة المغادرة ولم يفعلها حمزة فاستحق نقمة نفيسة وغضبها جوار نظراتها النارية ..
سحبته راضية لحجرة والدها، طرقا الباب فأذن لهما بالدخول، أقترب يضم حمزة ذاكرًا بحنين (طلته كيف أبوه يا راضية) هزت رأسها مؤكدة ونظراتها تهرول لابن أخيها بمحبة (أيوة يا بوي ربنا يبارك فيه)
جلس حمزة يتوسطهما فوق آريكة بسيطة منتظرًا أن يفضي جده بما جاء به إليهم..
سأله عن والدته بإبتسامة (كيفها ورد وكيف صحتها ياولدي.؟) أجابه حمزة بحنو (بخير يا جدي تسلم عليك)
هتف الرجل بنبرة تعثرت في الندم فخرجت هالكة(جصرت معاك كتير يا ولدي، حتى الي كنت ببعته بترفضه) مال فم حمزة بابتسامة ساخرة وأدها وقال برزانة وحكمة (الحمدلله مستورة يا جدي والخير كتير وفايض مش محتاج حاجه)
جده أراد أن يريح ضميره بحفنة من نقود يجود بها عمه رفعت عليهما مما كان يمتلكونه يومًا، أفاق على صوت جده الخشن يخبره بعزم (آن الأوان ترجع وتعيش وسطنا ومعانا)
انتفض حمزة ثائرًا (لاااا أنا جاي أشوفكم واطمن عليكم وأرجع)
رمق الأب ابنته بيأس وخيبة لتبتدر النقاش وهي تربت على كتف حمزة بحنو (ليه يا ولدي كفاية غربة، أرجع وسطنا نتونس بيك وتتونس بينا)
قال بصدق زاهدًا النقاش(معدش ينفع أنا هناك حياتي وشغلي)
قطع الجد كلماته موضحًا بحزن (هنا حياتك برضك، أحنا محتاجينك تمسك مالك ومال ابوك وخيره)
رفض بضيق (ماليش حاجه هنا أنا خدت الي لابوي ومشيت)فهمت راضيه مقصده فتأسفت فهو أخذ أمه وكفى لا يريد ما استحق عليه والده القتل
طرقات الباب انتشلتهما من الحديث والمناقشة العقيمة، صدره يتأجج ويتضخم بمشاعر غضب وحرقة، اختناق من تلك المحاصرة، دخلت سكينة مبتسمة تمرر نظراتها اللامعة فوق وجوههن لتضحك ساخرة (مالكم دي جلسة تحضير أرواح ولا إيه.؟)
كتم تأففه بينما لامت راضية فتاتها بنظراتها الساخطة،جلست أمامهما فوق كرسي قائلة (مودة خلصت تنضيف البيت)
تنهد حمزة ممتنًا فهو لا يريد أن يمكث هنا ولا يبيت بين جدران هذا البيت؛ نهض معتذرًا (هروح أرتاح يا جدي وبعدين نتكلم)
سأله الجد بإهتمام وهو يخبئ انكساره وانهزامه بين نظراته (اتعشيت يا ولدي.؟)
ابتسم قائلًا بحنو وهو ينحني ملثمًا كف جده بتقدير(هاكل حاجه خفيفة متجلجش)
ربت الجد فوق خصلاته قائلًا بعزم وإصرار (هنتكلم تاني يا حمزة) ضم حمزة شفتيه بيأس وضيق لينسحب راميًا موافقته (حاضر يا جدي)
سألت سكينة (هو ماله.؟)
نهضت والدتها أمسكت بذراعها نافضة (وإنتِ مالك يا ملكومة همي جدامي نمشي)
نفضت سكينة ذراع والدتها زافرة بضيق مغمغمة بكلمات غير مفهومة، مالت راضية تودع والدتها (تصبح على خير يا بوي)
قال وهو يتمدد (وإنتِ بخير اطفي النور معاكي)
أومأت طائعة، أطفأت الأنوار وغادرت بفتاتها للمنزل لتلحق بابن أخيها قبل أن ينام، ترسل له عشائه
**************
بعد مرور يومان، من مكوثة بينهما اختار أن يخرج للمزرعة ومعالجة بهائهما لينتهي من تلك الزيارة سريعًا وإلحاح جده ويعود.
لا تعرف لما تختارها والدتها دومًا لإرسال الطعام، رغم أن مودة ترغب في ذلك ولا تستطيع التفوه
وضعت عامود الطعام جانبًا متأففة ونظراتها تفتش عنه، حتى وجدته منشغلًا بعمله.. أقتربت منه تنتزعه من انهماكه بفظاظته (يا عم إنت) رفع رأسه يطالعها بنظرات قاتمة قبل أن يتجاهلها ويعود لعمله تاركًا سؤاله في الخلفية (نعم)
مدت له عامود الطعام قائلة بتعالي بغيض(عمتك بعتتلك الوكل دا)
هتف دون أن يوليها اهتمامه (حطي على الطربيزة في الأوضة)
تخصرت قائلة بإعتراض صُبغ بغرورها(إنت كمان هتشغلني يا بتاع المواشي إنت مش كفاية عمتك )
استقام جسده، فرده وهو يوليها وجهه بنظرات نارية ابتلعت ريقها بخوف انبت فوق جبينها حبات عرق وهي تتراجع للخلف بينما هو يخطو تجاهها بنظرات مسلطة كسيوف لا ترحمها، يخلع قفازاته ويرميها جانبًا.. تسلحت بسخافتها وهي تقول بتحدي غير عابئة (بعدين هتخلص امتى وتمشي أنا جرفت رايحه جايه أجبلك فالأكل)
جذب منها عامود الأكل بصمت يكتفي بتلك النظرات النارية المشتعلة ليميل فمها بغيظ وإستياء منه، دخل الحجرة وجلس حول الطاولة الصغيرة يفتحه وهو ينزل كمامته عن فمه.. دخلت خلفه تهتف برعونة (البقرة أكلت لسانك)
قال وهو يتأمل الطعام بشهية مُغلقة، وقد سئم فظاظتها وغرورها (محدش جبرك تيجي )
نطقت بغيظ (عمتك بتجبرني فكراني الخدامة بتاعتها)
قال بتهديد فظ يغيظها(خلاص هجولها متبعتش مش عايز أكل)
فغرت فمها مذهولة من رد فعله، لتضيق عينيها وترمية بالحماقات (إنت هتذلنا فداهية متاكلش..؟ اعمل الي تعمله...)
نهض زاهدًا الطعام والحوار متأففًا لا يطيق عنجهيتها ولا يستسيغ تباسطها معه ولولا عمته لعاملها كما يعامل بهائهم الثائرة.
تداركت الأمر مفكرة، لو فعلها حمزة لعاقبتها والدتها وحبستها في حجرتها.. أمها لا تتحمل أن يمس حمزة نصبٌ أو حزن فكيف إن علمت بأنها توبخه وتسخر منه كلما سنحت لها الفرصة... تنازلت مرغمة تبعته تهادنه(الغدا يا واد خالي متجبليش الأذى)
أمسك بقفاز جديد يرتديه مشيحًا عنها بتجاهل، فأمسكت بكفيه مانعةً (لا لا متلبسش تعالى اتغدى الله يكرمك)
انفلت الغضب من عقال سيطرته وتحكمة، صرخ غاضبًا وهو يدفع كفها الناعم الرقيق عنه (امشي يلا.. خدي أكلك معاكي وجولي لعمتي إني راجع انهردا مصر)
ضمت كفيها لصدره مرتجفة، لا تصدق ما تراه من هذا الصموت المتحامل، ترمش بأهدابها الطويلة مخافة أن يخونها ثباتها وتغدر بها سحابات الدموع.. لا تحب أن يراها هكذا.
طأطأ رأسها وغادرت من أمامه بخطوات واسعة تلملم الطعام ومعه دموعها الساقطة.
أحكمت من إغلاق العمود وغادرت، ليخلع عنه القفازات من جديد ويرميها ضائقًا بالوضع..
******
في بداية المساء
التقت به على باب المنزل، واقفًا متحيرًا كفه تمتد للباب فتتراجع بحرج لم تفهمه.. انتزعه صوتها المرح من شروده وقد نسيت ما فعلته وحدث وربما تجاهلته فهذا الحمزة لا يعنيها وليفعل ما يفعل مدلل عمته(أزيك يا داكتور.؟)
التفت مبتسمًا مُرحبًا قبل أن يخفض نظراته متأدبًا (ازيك يا بت عمتي.؟)
طرقت الباب وهي تسأله بإبتسامة (مخبطتش ليه دي أمي مستنياك من ساعة ما جولتلها )
ثم مالت هامسة بخبث (أنا رميت الأكل للبط وجولتلها أكلت وشبعت وعجبتك الفاصوليا)
قالتها ساخرة معجبة فخورة بما فعلت.
رمقها شزرًا محتفظًا بهدوئه وثباته، تجاهل
وهو ينظر لساعة معصمه قائلًا بحرج وهو يختلس منها نظرات قصيرة مرتبكة (الوجت مش مناسب بلغيها إني جيت..)أحرجته بفظاظة (كنت استنيت الوجت المناسب بدل ماتمشي وعمتك تعمل مناحة وتجرفنا )
أطبق شفتيه مُحرجًا من كلماتها، قبل أن يتراجع خطوتين ضائقًا منها وفظاظتها التي لمست وترًا حساسًا بقلبه، ادعى انشغاله بالهاتف وهو ينسحب (سلمي عليها جوليلها إني هاجي تاني جريب)
تداركت الأمر سريعًا، حملقت متفاجئةً برد فعله السريع مستوعبة كلماته نادمة (استني يا حمزة الله يكرمك هدخل وأناديها)
ضيق عينيه فوق ملامحها ولم يرقه تباسطها ولا كلماتها من الأساس مازال أثر استهانتها به عالق في نفسه يشبعه مرارة.
هتف بحدة وهو ينفض كفها التي أمسكت بمعصمة في بساطة أربكته(أنا ماشي الوجت اتأخر)
وقت مندهشة، ابتلعت ريقها بخوف وقد انزوى مرحها وتشققت ابتسامتها وهي تلمح ثورة مخبئة وغضب يزأر في نظراته يطالب بالإفراج عنه.
فُتح الباب لتلتقط أنفاسها تطالعه بتوسل قبل أن تهتف بوالدتها الواقفة (حمزة كان هيمشي يا أما)
رمقها بنظرة نارية قبل أن يتخطاها مندفعًا ناحية الباب يحتضن عمته ويقبل رأسها تلك التي تقبلت عطاياه بسعادة وإنتشاء، أدخلته وهي تخبره بفرحة (كنت مستنياك يا غالي يا واد الغالي)
ابتسم عائدًا لطبيعته متجاهلًا تلك التي ترميه بنظرات حادة مسممة لا يعرف لها سببًا
جاور عمته فوق آريكة متهالكة في مقدمة المنزل (هترجع تاني يا حمزة.؟ ولا هتمشي وتجول عدولي) أجابها بثبات وحزم (أنا وعدت جدي ياعمتي ومستحيل أخلف)
تعمقت النظر إليه متفاخرة بإبتسامة (كنه عبدالحكيم الي بيتكلم)
ابتسم بحنو قبل أن يصله استهزاء الأخرى وصخب ضحكاتها الساخرة وهي تخبر أختها مودة بصوت تعمدت يكون مسموعًا
_مين بره يا سكينة.؟
أخبرتها بضحكة مجلجلة واستهزاء لم يمر على قلبه مرور الكرام (دكتور البهايم النرفوز) ويظن أن عمته لم تلتقطه من شدة ما جرفتها الذكريات وغيبتها في عالمها، لكن وصلته هو
أسبل أهدابه يخفي غضبه عن نظرات عمته التي تتربص به، تحولت مقلتيه لجمرتين مشتعلتين بنقمة على تلك السكينة التي لا تحمل من اسمها أي قدر من السكينة بل سكّينة.
خرجت تحمل بين كفيها صينية وابتسامتها الساخرة مازالت تجاور ذاك الثغر الوردي المغري تتوسده فتزيده فتنة.
وضعته أمامه وهي تهديه نظره ماكرة متلاعبة ابتلعها وشكرها بفظاظة واستهزاء أغضبها (شكرًا يا سكّينة)
انقلبت نظراتها الرائقة لعواصف وهي توضح من بين أسنانها(سكينة يا واد خالي)
تناول ما وضعتها يمرر لها سخريتها وتهديده منه بهدوء وحذر يهمس (دكتور البهايم يعرف السكاكين أكتر، أسهل حاجه عنده مسكتها لو عايز، ويعرف البهايم زين وأنواعها)
رمقته أول الأمر بإعجاب اختلط بإنبهارها قبل أن تفغر فمها وقد وصلها مقصد كلماته وتوبيخه المتخفي.. حركت شفتيها بكلمات وأدتها قبل أن يمط شفتيه بإستهانة لها وإستعلاء بغيض منه.
تأففت بصوت مسموع نفثت حممها البركانية بوجهه قبل أن تغادر تشيعها كلمات أمها (مالها دي..؟)
ابتسم لإغضابها، راقه أن يقتص منها صاحبة الثغر المكتنز بفتنة الذي تلطخه وتطمس فتنته بكلماتها.
(سلملي على ورد )
قالتها عمته بشوق جارف، ليبتسم قائلًا (يوصل )
أكدّت بجدية (كتب كتاب عمار جرب لازم تيجوا يا حمزة دا أول فرحتي وعايزه ورد معايا أنا ماليش حبايب وأخوات غيركم)
وضع الكوب قائلًا يلتمس منها العذر (هشوف يا عمه بس موعدكيش ورد صحتها بجت متتحملش سفر)
تأسفت على حالها قبل أن تقول بلهفة (حاول لو جدرت، يمكن جلبي يعرف الفرح لما تتجمعوا حوليا)
هز رأسه موافقًا يهديها ابتسامة رائقة وقبلة دافئة فوق رأسها، منحته بها نظرة امتنان وتقدير لم تخلو من دموع السعادة.. شردت قليلًا وصمت هو لتقترب تشاركه ما يؤرقها ويحزنها
(سكينة جايلها عريس وربنا يسهل يمكن تبجا مع عمار)
قطب وهو يوليها اهتمامه يحاول إثنائها لا لرغبة سوى إنقاذ تلك الصغيرة (لسه صغيرة يا عمه ومخلصتش دراستها)
ربتت على كتفه تخبره بوقار (الجواز ستره ولو وافج هتكمل فبيته)
حاول جاهدًا وهو يفكر في تلك المجنونة (سبيها ياعمتي سكينة مش هتشيل مسئولية متظلمهاش)
تعمقت النظر إليه وداخلها يضج من نزاع الأفكار والشتات. همست (ربنا يسهل يا ولدي)
سألها غير مبالي (جريبنا.؟)
أمالت فمها تخبره بنفور (من أسيوط) استقر القلق في نفسه على تلك المشتعلة ليزهد التفكير والحيرة ويتجاهل قائلا (ربنا يتمملها على خير عقبال مودة )
نهض واقفًا يستأذن المغادرة فأمسكت به ترجوه (خليك يا ولدي شوية بتغيب عني وبتوحشك) ربت فرق كفها بحنو وهو ينحني ملثمًا رأسها لتلتقي نظراته بالواقفة خلفها بتحفز، تطلق شراراتها الغاضبة بوجهه وكلماته التوبيخية تتراقص في عقلها تطفو في نظراتها.
ابتسم مستفزًا لها قبل أن يغادرًا متجاهلًا لها متخطيًا وقوفها همست تستوقفه (لما ترجع ليك روجة يا دكتور)
أشرقت ملامحه وهو يبادلها الهمس بغرور وثقة مُفرطة لم تتوقعها من هذا الخجول الكئيب (هستنى روجتك يا بت عمتي أنا لها)
خرج عكس ما دخل.. يتلفت خلفه ليجدها واقفة تشيعه بغيظ جلب الضحكات لفمه والاستمتاع لروحة.. تقف متحفزة كقطة شرسة عالقة في غضبها لا تمرر كلماته ولا تترك انتقامها متناسية... ظن أنها ستظل هكذا حتى يعود مرةً أخرى.
سَأَلْتني : أَيـن أَجدكَ؟
قلتُ : حيث أَنـتِ ... أَنـا أَكون
لسـتُ بعِيـداً عنـك ..
بل أَقـرب من طـرف العيون
ربما في دمـك أَكـون
أَو في قلبك أَنـا مـدفون ..!
لقائلها
بمنزل آل عامر بمحافظة قنا، أثناء تناولهم الفطور في تجمع عائلي
هتفت نفيسة زوجة الابن الأكبر للجد عمران
(مالك يا عمي شكلك رايج انهردِا ونفسك مفتوحة)
لوى فمه بإمتعاض، مغمغمًا بكلمات غير مفهومة لمن حوله وتلك المتربصة به قبل أن يرمي كلماته (وعايزه تسدي نفسي ليه يا مرت ولدي.؟ باكل من بيت أبوكي)
مصمصت نفيسة متنهدة بحنق وهي تبرر ضاغطة حروفها (مجصديش بس مش بعاده يعني)
غمغم الجد بقرف (يسد نفسك) ثم تابع بصوت مسموع ليزيد من حنقها (هو أنا مجولتلكمش)
استقرت النظرات فوق وجهه المُضي مترقبين خافقين الفؤاد بقلق، ليجيب سعد الابن البكر لولده رفعت (لا مجولتش يا جَدي)
تناول الجد قطعة من الفطير وغمسها بالجبن قائلًا بهدوء يناقض فرحته العظيمة (حمزة جاي بكره)
التفت الجميع لبعضهما بإستنكار، لتبادر نفيسة مندهشة مصدومة (حمزة واد ورد.؟)
صاح الجد بنبرة قوية متفاخرة (حمزة واد عبدالحكيم) نفض الابن الأكبر لعامر كفيه متسائلًا بإندهاش (ودا جاي ليه.؟ إيه فكره بينا دلوجت.؟ )
رمقه عامر ابنه بنظرة ساخطة غير راضية وهو يوضح بقوة (حمزة يجي فأي وجت المكان مكانه يا رفعت)
حمحم رفعت مرتبكًا يحاول التوضيح لكن عامر قطع الكلمات بإقرار غليظ (كلمته يجي يشوف المواشي ويباشر المزرعة مش معجول ندور على الغريب وهو جاعد وبعدين دا ملكه وحجه وحجق أبوه الغايب)
أجاب رفعت وكفيه ترتفعان عن الطعام في زهد (بس أحنا كلمنا أحسن البيطريين وجايين)
جاء صوت زوجة عامر سكينة من خلفه معترض بقوة (أبوه مالوش حج، سابه واختار طريجه من زمان)
إرتاحت نفيسة لتدخل عمتها واستحسنته، لينهض عامر من جلسته متجاهلًا كلماتها كأنه لم يسمعها
تناول عباءته وعصاه وغادر تاركًا كلماته تدور في الرؤس وتصفع الإدراك
هتف سعد بضحكة ساخرة (هو جدي كِبر وعيخترف)
هتف رفعت في ولده بحدة (اتأدب يا واد)
لوح سعد في امتعاض لا تروقه كلمات والده المعنفة التي جاءت على هوى جدته وأكدتها (سعد مغلطش، كني أبوك خترف صُح ومش هيجيبها لبر)
شرد الجميع مفكرين كل واحدٍ انشغل بأفكاره الخاصة،منتظرين ما توجد به عودة الابن الغائب
******
في القاهرة في حي من أحيائها متوسطة الرقي
هتف حمزة من بين أسنانه بغيظ وعدم رضى وهو ينتعل حذائه الفخم(مش فاهم سر إصرارك ياورد إني أروح المرة دي.. ما جدي دايمًا بيتصل)
تناولت كفه وتطلعت لخطواته بصمت قبل أن تعتنق نظراته هامسة بإبتسامة رائقة
(أبوك جلي خلي حمزة يروح)
كتم تأففه داخله قبل أن يسحب كفه ساخطًا، ضائقا بالوهم الذي يغلف حياتهما لتتابع ورد بإبتسامة مزيج مابين الفرح والترقب
(روح ياحمزة واسمع كلامي)
انحنى يلثم رأسها بطاعة وإمتثال بعدما يئس من الجدال (هروح يا ورد)، ليسألها بإهتمام
(زهرة هتيجي مِتى...؟)
قالت وهي تنهض تاركة كرسيها ملوحة في وجهه بلا مبالاة
(هتيجي متخافش سافر إنت بس بالسلامة وخلي بالك من نفسك)
هز رأسه مُحبطًا قبل أن يطيع (حاضر)
لتلتفت مبتسمة تطلب بشجن غريب (سلملي على راضية وسكينة يا حمزة)
مال فمه بعدم فهم وهو يسألها بينما يرتدي حقيبته خلف ظهره (مين سكينة..؟)
أوضحت بشرود وابتسامة حنين ارتكنت فوق ثغرها (بت عمتك يا حمزة)
لوح ضائقا وهو يندفع لباب الشقة (ماشي لو شوفتها)
قالت بنبرة تأكيديةقوية وابتسامة حملت إقرارًا (هتشوفها يعني هتروح فين..)
هز رأسه بسلام عابر وهو يغلق الباب خلفه، مُفكرًا لطالما كانت والدته غريبة الأطوار ترى مالا يراه وتسمع مالا يسمعه.. منذ أتى بها هنا ليكمل دراسته وهو يرفض العودة بأي يشكل، يظل جده يلح بإصرار ويرفض هو بحزم ناهيًا الأمر، يكتفي بزيارات قليلة بإقامة قصيرة على فترات متباعدة.. حتى أصابه الكسل والفتور وامتنع عن زيارتهم منذ أربعة أعوام مرت الآن ..
منذ أسبوع هاتفه جده ليستعين به في مزرعته، طالبًا منه العودة وبعدها ألحت ورد بإصرار، تخبره أن والده يريده أيضًا أن يذهب وطلب منها إقناعه حتى رضخ مرغمًا.
أما ورد فجلست فوق كرسيها الهزاز تهمس (ربنا يراضي جلبك يا حمزة)
أزاحت خصلاتها مفكرة قبل أن تغمغم من جديد(ربنا يحفظك ) اتسعت ابتسامتها حين ختمت كلماتها بلفظ تدليل خاص طرأ على أفكارها كأن أحدهم أملاه لها ووشوش به في أذنها لتغرق بعدها في شرودها
*******
في صباح اليوم التالي.. في قرية من قرى محافظة قنا
****
احتفالًا بهطول المطر، قررت السير وحدها بين الغيطان لاستقباله واحتضان نقاطه، تدندن بينما تضع بفمها مصاصة لو علمت أمها بفعلتها تلك أو رآها عمار لن يمر الأمر بسلام لكن ما الضرر على إية حال هي تنال الكثير من توبيخ والدتها وقسوة أخيها.. أمورها معقدة على الدوام لاتنجو من براثنهما ولا تكف هي عن عنادها.
مرت بجانبها سيارته، فالتفتت ناحية النافذة تستكشف، حاجبها يرتفع بأنفةٍبينما نظراتها تدقق في الجالس أمام المقود ناقمًا غليظ الملامح.. حانت منه التفاته لصاحبة أفضل مزاج اليوم.. فأقتربت مدققة النظر، لتفغر فمها بدهشة وتقترب غير مصدقة، طرقت زجاج النافذة ومازالت المصاص عالقة بفمها، تأفف وهو يفتح لها، تأملته قليلًا بإنبهار قبل أن تهز رأسها متسألة وهي تنزع عن فمها الحلوى (إنت حمزة عبد الحكيم)
رمقها بنظرة متباطئة مستكشفة قبل أن يجاوبها بحاجبين منعقدين في صرامة منفرة (أيوة)
قالت مبتسمة بفرحة وعقلها يرنو لوالدتها (أنا سكينة بت عمتك)
تذكر كلمات والدته فضيق عينيه يتأملها لدقائق قبل أن يرحب بفتور (أهلا يا سكينة)
سألته بحماس طفولي (رايح بيت جدي.؟)
قال وهو يستعد للقيادة من جديد(أيوة)
آتى حبيب قلب والدتها وعليها استغلال الفرص، يمكنها من خلاله أن تحصل على شي تريده أو مبلغًا من المال احتفالًا بقدوم مدلل قلب عمته...أفاقت على صوته يطلب بحنو متخليًا عن غلظته(تعالي اركبي أوصلك الجو صعب)
فكرت قليلًا ثم قالت بفرحة وحماس (ماشي يلا)
اتجهت ناحية السيارة، فتح لها الباب فجاورته متسائلة بعبث (أي رياح طيبة أتت بك يا ابن خالي.؟)
مال فمه بإبتسامة خشنة بينما يستعد للانطلاق وهو يقول بسخرية (هي مش رياح لا دا بهايم)
قطبت مستفهمة ليأتي دوره ويسألها(إنت ماشية لوحدك ليه فالجو دا.؟)
هزت كتفيها تقول ببساطة (الجو حلو جولت اتمشى)
هز رأسه وهو يسألها من جديد (فسنة كام بجا يا سكينة أصل أنا مش فاكرك خالص الصراحة.. شملها بنظرة خاطفة وهو يخمن بما استحق عليه سخطها واستجلب به حدتها (إعدادي)
حاورت بذكاء وهي تضيق عينيها فوق ملامحه ( إنت دكتور بهايم مش كدا..؟)
هز رأسه استحسانًا لمراوغتها ليقول بتأكيد (أيوة)
قالت بغلظة وهي ترمي أعقاب الحلوى من النافذة (أنا فثالثة ثانوي يا دكتور البهايم)
التقط مقصدها فصمت بغيظ، سرعان ما تبدلت ميزاجيتها برقت عيناها وهي تسأله بينما تتطلع لسقف السيارة (حمزة ينفع تفتحلي العربية وأطلع من فوج للمطر)
استنكر قولها وجنونها بساطتها معه رغم معرفتهما التي لا تتعدى الدقائق! ليقف بالسيارة قائلا (إنتِ تنزلي أحسن )
شملته بنظرة مستهينة غاضبة قبل أن تُنفذ بكرامة، فتحت الباب وغادرت سيارته موبخة (ماشي يا حمزة الكلب، واحد عايش مع بهايم هيبجا كِيف )
انطلق بسيارته تاركًا لها دون رغبة في الحديث أو إثنائها عما تفعل،يكره تلك البلدة منذ مات والده وتركهما لعمه وزوجته الماكرة التي ضيقت على والدته حتى اضطر للسفر بها بعيدًا، عانت والدته من زوجة عمه الكثير حتى وهنت وأصابها المرض ألا يكفيها موت حبيبها غدرًا وفجيعتها بفقده،تنهد بشجن مدركًا أنه قد وصل لموطن الوجع ومحط فجيعتهم ساحة المنزل الكبير الواسع متعدد الطوابق، يستجمع شتاته لتلك المقابلة.
***********
دخلت سكينة المنزل مهللة تبحث بعينها عن والدتها (يا أهل الدار.. يا أم عمار)
أوقفت مودة صرخاتها العالية بتأفف(بس بس في إيه)
لمعت عينا سكينة بمشاكسة وهي تقترب محيطة ذراع مودة بذراعها قائلة(أجولك على خبر حلو وتديني البلوزة الچديدة يا مودة.؟)
مال فم مودة بسخرية وهي تفك وثاق ذراعها مستهينة( جولي على حسب الخبر ياست سكينة)
وقفت سكينة في بهو المنزل الواسع تلف حول نفسها في دراما وهي تخبر أختها (خمني شوفت مين وأنا چاية من الدرس)
سخرت مودة وهي تبتعد عنها بلامبالاة لكلماتها(شوفتي مين يعني..؟)
عقدت سكينة ذراعيها أمام صدرها تقول (شوفت حبيب الجلب)
توقفت مودة عن السير ابتلعت ريقها بإرتباك وهي تسألها (جصدك مين.؟)
عضت سكينة شفتيها بمكر قبل أن تندفع منادية والدتها (يا راضية...)
أجابت والدتها التي كانت تجلس أمام الفرن بإنهاك (خير يا سكينة.؟)
حاوطت سكينة عنق والدتها من الخلف قائلة (جيبالك خبر يردلك روحك.. بس يدك على الحلاوة الأول )
وضعت راضية صواني الفايش المصفوفة داخل الفرن وأغلقت عليهم وهي تقول بينما تجفف حبات العرق عن جبينها(خبر إيه دِه... الي چايبك على ملا وشك.؟)
تدللت سكينة وهي تأخذ واحدة مما صنعت والدتها وتقضمها قائلة بجدية (أوعديني الأول)
تدخلت مودة مغتاظة منها ومن مراوغتها، وقلبها يهفو للخبر الذي تريد، ضربتها والدتها بساقها فتأوهت (آه.. لتستطرد بفم ممتلئ (مش هجول من غير ضمان)
أشاحت والدتها زاهدة في كلماتها حانقة من عنادها لتقترب جاذبة انتباهها(نفسك تشوفي مين بجالك مُدة.. ؟)
فتحت والدتها الفرن تطالع صنع يدها من الفايش وهي تتأفف ساخطة من شقاوة ابنتها (معيزاش أشوف حد)
هزت سكينة رأسها ترفق اسمه بنتهيدة هائمة (حتى لو كان واد خالي حمزة)
تلاقت النظرات فوق ملامحها تطلب تصديقًا، حدقت بها والدتها وهي تنتفض تطلب تأكيدًا(جولتي مين يا سكينة.؟)
أكدت سكينة وهي ترمش باتجاه أختها التي شردت على ذكر اسمه(حمزة دكتور البهايم الحيلة)
بسطت راضية كفها على قلبها مغمغمة باسمه في فرحة (واد أخوي حمزة. ثم التفتت تسألها ببريق من الدموع (شوفتيه فين يا ملكومة انطجي)
امتعضت وهي تحكي باستياء ناقدة أفعاله وعجرفته(جابلته عالطريج وركبت معاه بس نزلني جالي رايح بيت چدي )
تجاهلت والدتها ماحكت سوى أنه عاد ويمكنها رؤيته، بينما كانت مودة تُهدئ من روعها حتى لا يُكشف أمرها ويفتضح أمر حبها الخفي المتستر لحمزة..
إرتدت راضية حذائها في عجالة ثم سحبت عباءتها وخمارها ترتديهم قائلة (مودة خلي بالك من العيش هروح أشوف الغالي)
إعترضت مودة لحاجةً في نفسها (خليكِ يا أما وسكينة تروح تنادي عليه وتچيبه علشان تجعدي معاه براحتكم)
طالعتها راضية بصمت امتزج بتفكيرها رغم استحسانها للفكرة لكن جوعها لضمه بين ذراعيها أكبر واشتياقها له الكبير يمنعها ويفتك بصبرها.. لتعاجلها مودة (روحي يلا يا سكينة)
اعترضت سكينة مستغلة الأمر (إيه هو الي روحي ياسكينة وتعالي يا سكينة فين حلاوتي والي اتفجنا عليه.؟)
حاوطت مودة كتفيها تدفعها للأمام قائلة (هتروح يا أمااا اجعدي إنتِ). ثم همست لأختها (أنا هديكِ الحلاوة وكل حاچه بس روحي)
مدت سكينة كفها تطلب بفرحة (أخد الدفعة الأولى جبل ما أروح)
استسلمت مودة، سحبتها للحجرها نقدتها بما تريد بعد أن استولت سكينة على ما اختارته من أغراض أختها وغادرت، رغم أنها لا تحب مدلل عائلتها لكنها ممتنة للصدفة التي جمعتها به ومكنتها من أخذ الأموال وأغراض مودة بطيب خاطر..
وصلت منزل جدها ودخلته مهللة تعلن بصخبها الوصول، تلاقت النظرات الواجمة فوق صفحة وجهها قبل أن تندفع ناحية جدها مشاكسة(حمزة جالك يا جدي يكش ترضى عني)
رمقها جدها بإمتعاض وأشاح نافرًا منها لتتجه ناحية جدتها وتنحني مقبلة رأسها تقول بوداعة (حبيبتي ياستي يا غالية)
غمغم جدها بكلمات غير مفهومة بينما كانت ملامحه تكشف مدى ضيقه.. سألت وهي تراقب جمود حمزة وضيقة المُعلن عبر نظراته (فين خالي والعجربة مرته وابنها الضال)
لاح شبه ابتسامة فوق ثغر حمزة الساكن مكانه وألف رغبة للهرب تَنسج خيوطها داخل عقله
قالت الچدة وهي تنهض واقفة زاهدة الجلسة وابن ولدها (هيسيبوا أشغالهم يعني كل واحد راح لحاله..)
اتجهت سكينة ناحية حمزة بإستياء واضح فيبدو أن المقابلة كانت فاترة مُحبطة ومخيبة للآمال ولكم شعرت بالشفقة لأجل هذا الجامد قاسي الملامح بتعبيرات عميقة للحزن مما دفعها لأن تهتف بعد أن أجلت حنجرتها (أمي عيزاك ياحمزة شيعتني أنادي عليك) كلماتها تضافرت مع نظراتها تعده وتمنيه بين سطورهما بمقابلة جيدة تليق بغيابه، وربتة حانية فوق أوجاعه.
تضامن معها جدها الذي إستاء بشدة مما حدث لابن ولده والجفاء الذي قُبل به (روح يا ولدي عند عمتك زمانها هتموت وتشوفك.. وأبجا أرجع تاني نتحدت عشية)
نهض حمزة بتكاسل، يمشي بصحبة تلك الصاخبة التي تبدلت نظراتها فجأة من الغضب للشفقة وكأنه لم يفهم وحاولت تبديد الصمت بكلماتها (كنت مجهورة منك علشان سبتني ومشيت زي الكلبة.. بس بصراحة جيتك خدمتني كتير.. ثم أردفت بإبتسامة ساخرة (وبصراحة صعبت عليّ يا مسكين محدش عبرك)
رمقها بنظرة حادة زاويًا ما بين حاجبيه لتبتسم منتصرة وتشيح بعيدًا بينما التقط هو أنفاسه وعاد بنظراته للطريق
ظل صامتًا، شاردًا فيماحوله يضيق بثرثرتها الكثيرة وصخبها،طفوليتها ليفاجئها بسؤال(عندك كام سنة.؟)
رمقته بنظرة مشتعلة وهي تخبره من بين أسنانها (٢٠سنة ليه السؤال.. لو هتطلعلي بطاجة فأنا طلعت خلاص)
عاد لقوقعته وصمته وعزوفه الثقيل على قلبها من مجاراتها في حديثها والتباسط لتغمغم (الله يعين البهايم مستحملينك إزاي)
ابتسم لغمغماتها المسموعة له دون تعقيب لتكمل داخله حلقة من النفور والحزن، بعد مقابلة عمه الباردة وولده المتعجرف وجدته التي اكتفت بسلام فاتر .. لتأتي تلك الشعلة وتزيد العبث وعبء الزيارة على عاتقه.. غمغم بحزن (الله يسامحك ياورد)
تطلعت إليه سكينة قائلة (بيكلم نفسه يلا جعدة البهايم تعمل أكتر من كِده)
وقفت راضية أمام الباب بإشتياق منتظرة أن يطل عليها فترتوي روحها الظمأة برؤيته بعد أربعة أعوام من الغياب وامتناع ورفض من قِبله للمجيء والعودة وتكاسل عمار ورفضه الدائم أن يذهب بها عنده هو ووالدته.. حين لمحت فتاتها تهللت، وجدت في قربه ريح أخيها المتوفى قطعة قلبها وروحها الذي غادر هو وزجها ليتركانها فريسة للأيام وظهرًا ثقيل لحِمل يُعجزها.
حين أقترب اندفعت هي وعانقته بحرارة تحت نظرات سكينة الساخرة التي تتعقب ردود فعله بإهتمام.. للحق هذا الصموت أبدى عاطفة حارة تجاه والدتها، قبّل رأسها وكفها بحنو.. مسح جموده ورسم فوق ملامحه تعبير لطيف.. أدخلته والدتها لاتشبع من إعتناق ملامحه ولا تتركه نظراتها دون الإرتشاف من تأمله.
شيع الدار الواسعة بنظراته قبل أن يجاور عمته فوق أريكتها المحببة التي تصر كلما جاء أن يجلس فوقها.. رغم وسع المنزل والأثاث الحديث إلا أنها تحتفظ بها في ركن قصي يفضي على نافذة واسعة تطالع الحقول الخضراء.
مسحت راضية دموعها المسترسلة وهي تخبره بإشتياق فاضت به نظراتها ولمساتها الحنون لوجهه(بجيت كيف أبوك يا حمزة كني شيفاه جدامي)
اندفعت مودة شبه راكضة لتتوقف وتتباطء برزانة تحمحم قائلة (إزيك يا واد خالي عامل إيه وكيفها خالتي ورد)
أجاب حمزة بأدب وهو يغض بصرة عنها (الحمدلله بخير) فتوضح والدتها بفخر (دي مودة يا حمزة رابعة جامعة آداب تاريخ)
ثم أشارت لسكينة المزعورة أن يأتي دورها في التعريف (دي سكينة تالتة ثانوي ويارب تعديها بخير السنة دي) لوت سكينة فمها بإمتعاض
أشارت لهما (فين ضيافة ابن خالكم واه) تحركت مودة بحماس بينما بقيت سكينه مكانها تتأمله وتتابع بإهتمام لتقول راضية بعدما نهرتها بنظراتها لحنها تجاهلت بعناد (كيف ورد يا حمزة طمني عليها)
أجابها وهو يطالع سكينة بطرف عينيه (كويسه بتسلم عليكي وعلى سكينة)
توترت مودة التي جاءت تحمل صينية ضيافتها له مع ذكر اسم أختها التي هتفت هي الأخرى بدهشة وفرحة طفولية (بتسلم عليا أنا)
تجاهل حمزة سؤالها وهو يشارك عمته شجنها وذكرياتها بلطف وامتنان، قدمت مودة المشروب بإرتعاش وقلق ليشكرها حمزة بتأدب..
جلست سكينة بجانبه تهتف بفرحة غريبة وتباسط نهرتها عليه والدتها بنظراتها(حمزة في صور عندك لورد نفسي أشوفها)
أطبقت راضية شفتيها ونظراتها وتبريقاتها ترسل وعيد لسكينة لكنها تجاهلته كالعادة وضربت به عرض الحائط وتابعت التوسل لحمزة الذي لم يتقبل أفعالها أول الأمر لكنه رضخ احترامًا وأخرج هاتفه ليريها وقد وضع صورة والدته خلفية.. تناولت سكينة الهاتف بلهفة تتأمل الصورة بإنبهار طفولي أعجب الجالس بجانبها لتقول مفصحة عن إعجابها (واه دي طلعت چميلة زي ما بيجولوا ليه حج خالي يحبها كل الحب دا)
تنهدت راضية توافقها الرأي (ورد كل ما فيها حلو)
رفعت نظراتها تطالع حمزة قائلة (مواخدش منها غير عينيها)
حمحم بحرج من نظراتها المتفحصة، لتقول وهي تناوله الهاتف (شكرًا ابجا سلملي عليها وجولها تچي أشوفها)
حانت منه التفاتة ناحية مودة الجالسة بأدب لا ترفع نظراتها إلا لحاجه وضرورة تشبه عمته كثيرًا بشرة خمرية رائقة وأنف دقيق شفتين رفيعتين وشامة أسفل الذقن تزيد ملامحها حلاوة وبهاء بعكس تلك الأيقونة المشتعلة الجالسة بجانبه فهي تشبه جدته لأبيه كثيرًا بشرتها البيضاء وقوامها الممشوق بفتنة غابات الزيتون بعينيهاالتي تحرسهما أهداب طويلة غزيرة، أنفها الدقيق
وشفتيها المكتنزة بإغراء بلونهما الوردي الفاتح.. شديدة الجمال تلك الصغيرة الشقية.
نظر لساعته قائلا (همشي أريح في البيت ياعمة)
رفضت عمته وهي تتشبث به (خليك يا ولدي ييجي عمار ونتغدوا مع بعض)
امتنع بملامح متقلصة (لااا أكلت في الطريج ياعمة الحمد لله)
هتفت سكينة بإستنكار (تلاجيك ولا أكلت ولا خالي فطرك من الأساس)
نهرتها والدتها بحدة (سكينة)
لوحت بذراعها بإستياء قبل أن ترحل أخيرًا معتلية السلّم الذي يتوسط الدار قائلة(خرست سكينة وهتغور)
تعجب حمزة من أفعالها وكلماتها وعنادها الذي يظهر كالوميض بنظراتها تناقضها الشديد مع أختها وعمته وكأنها وحيدة متفردة حتى أن عمار لا يشببها بل دمث الخلق رزين.
جلست عمته قائلة (اجعد يا حمزة هناكل مع بعض وبعدين نروح لبيت جدك..على ما حد يروح ينضف البيت، أجعد أشبع جلبي منك يا غالي) امتثل لها وجلس، فزيارة بيت جده ثقيلة خانقة تستنزف طاقته لا ضرر إن تأخر وحاوط نفسه بدفء ومودة عمته.. التي أشارت لفتاتها الصامتة (اطلعي فوج يا مودة)
أطاعت الفتاة منسحبة لتلتفت العمة لحمزة مبررة متأسفة (متاخدش على خاطرك من سكينة يا حمزة هي كِده رأسها ناشفة ولسانها سابجها غُلبت معاها بس مفيش فايدة ربنا يهديها، أبوها كان مدلعها بزيادة ومبيرفضلهاش طلب وهو بس الي كان يجدر عليها واهو مات وسابلي همها التجيل، ونشفان دماغها الي مش نافع فيه حاچة خالص ياولدي وهتموتني فيوم بعمايلها ناجصة عمر)
قبل حمزة كفها هامسًا بحنو(بعيد الشر يا عمه، صغيرة تكبر وتعجل)
أفضحت العمة بيأس، تشاركه الهم (السنة الي فاتت والي قبلها مدخلتش الامتحان والسنة دي هنشوف)
سألها بإهتمام يطلب توضيحًا(مدخلتش ليه.؟)
تنهدت السيدة تقص عليه من نبأها(مخبراش يا ولدي هي بتتعب صُح ولا بتعند ولا إيه حكايتها) طمأنها بحنو وهو يربت فوق كفها المتغضنة (خير يا عمه ربنا يهديهالك)
قالت عمته بابتسامة واسعة وحنين (بجالي يومين بجهز للفايش كني جلبي حاسس بجيتك،عارفه إنك بتحبه)
ابتسم لها بإمتنان يهز رأسه مستحسنًا الكلام يلاقي داخله صدًا،متذكرًا أنه حقًا يحبه وبالأخص ما كانت تصنعه عمته لأجل والده وقد ورث هو منه حبه وحب عمته.
************
بداخل حجرتها كانت منبطحة على بطنها فوق الفراش تتذكر ملامح ورد بإعجاب تقارنها بملامح ولدها مدلل عمته، بينما كانت مودة منشغلة بأفكارها الخاصة التي تتعارك داخلها وتشدها كلا من ناحية فينقطع حبل صمودها، لماذا خصت ورد سكينة بالسؤال والسلام دونها
هتفت سكينة (مالك يا حزينة بتندبي ليه..؟)
دفعتها عنها مودة بضجر قائلة (مفيش سبيني فحالي وخليكِ فحالك )
لوحت سكينة مستهينة متجاهلة حزن الأخرى لا تدري بأفكارها التي غيمت إدراكها تتسائل عن سر سؤال ورد عن أختها.. وقفت سكينة أمام المرأة تطالع نفسها بإعجاب كما تفعل، محبة هي للحياة ولنفسها وجمالها
خلعت حجابها وفردت خصلاتها الطويلة تكلل جمالها الآخاذ بهذا التاج
حركت خصلاتها الغزيرة تحت نظرات مودة لتنهرها مودة بغلظة(هتجننك المراية... بطلي تجفي جدامها)
ضحكت سكينة قائلة مستفزة مودة (كنت محتاجة أشوف حاجه حلوة ملجتش أحلى مني.. بعد ما شوفت بيت جدك الي يسد النفس)
ضربتها مودة مستاءة من غرورها، لتجاورها سكينة متسائلة (إيه رأيك فحمزة.. ؟)
رمقتها مودة بنظرة غامضة طويلة قبل أن تلقي على مسامعها قولًا شديدًا أربكها(يشبه أبوه ويشبهك..)
قطبت سكينة لاتفهم مقصدها لتوضح مودة بإبتسامة (ورث خالي وإنت كمان.. كأنكم نصين)
ارتبكت سكينة أول الأمر لكنها سرعان ما تحدثت مستاءة متجاهلة (بجولك إيه كلامك الغريب دا مبفهموش يا بتاعة الفراعنة إنتِ)
ثم قفزت قائلة بحماس (هلبس وأروح مع أمي لعليا)
تريد مراقبة هذا المدلل ومعرفته عن قرب، غموضه يثير داخلها الفضول وحب الاستكشاف، لتسخر منها مودة وتصدمها بقرار والدتها(هنروح ننضف بيت حمزة)
لوحت سكينة ممتعضة مستخفة (مع نفسك بجا.. كدها يا دودو)
هزت مودة رأسها يائسة محبطة، فدائما ما تتنصل سكينة وتهرب وتتركها
نهضت تدعو لها بالهداية، تتركها للمرآة والأغاني والهاتف
*********
داخل منزل الجد في المساء
هتفت نفيسة زوجة عم حمزة من بين أسنانها وهي تمشط جسد حمزة الواقف(ازيك يا حمزة.؟ كيفها أمك)
وقف حمزة في تأدب، احنى رأسه يبادلها سلامها رغم ما علّق به من نفور ورغبة ملحة في التجاهل (الحمدلله يا مرات عمي)
مصمصت معترضة وهي تجلس في الكرسي المذهب قبالته بغرور (جولي يا ست نفيسة)
حملقت راضية فيها بغير رضا، نظراتها الحادة تحاول ردعها لكنها فشلت حين قابلتها السخرية والتجاهل من نفيسة، ليأتي دور تلك الشعلة النارية وتهتف بإنزعاج (ما يجولك يا آنسة نفيسة أحسن.. ثم غمغمت بحنق وتأفف (احنا مبنكبرش الحمار بجولة هوش) سئمت والدتها من مجابهتها زوجة خالها والعناد المستمر لها، والخلافات الكثيرة نتيجة عدم سكوت سكينة وطول لسانها الذي يجلب لهم المصائب على الدوام
صرخت نفيسة بوجهها في غضب (اتكتمي يا مجصوفة الرجبة)
هزت سكينة كتفيها قائلة مستفزة لها (نعم يا خالتي نفيسة)
راقب ما يحدث بصمت، إعجاب لمع بمقلتيه لتلك المتوهجة المثيرة للمشاكل فتات الحماقات الأولى ومنبع المصائب، قالت ما عجز عن قوله
وردت بما تستحقه زوجة عمه
توجهت نظرات نفيسة لراضية (نسيتي تربيها يا راضية)
انتفضت سكينة بغضب كارثي، ساخطة ناقمة تصيح معترضة (أنا أبوي مربيني أحسن تربية) تعجب حمزة من ذكرها والدها وخصها له بالتربية دون عمته لتقول نفيسة باصقة كلماتها كأنها تتشفى (اهو مات وهي معرفتش تربي)
احتد الأمر ونشب الصراع، جن جنون سكينة تلبسها مارد الغضب،أزعجتها نبرة نفيسة المتشفية وهي التي مازالت تعاني من فقد والدها وغيابه، لم يفق إلا وهو يمسك بكفها يسحبها لتعود جواره صامتة..
رحلت نظراتها المهتزة تجاهه، اشتبكت مع عينيه الدافئة المطمئنة فهدأت ببساطة لم تتوقعها وأمتثلت عائدة بصمت متراجعة عن عراكها.. ترك كفها فرفعتها أمام نظراتها تفرك أناملها مندهشة من ذلك الشعور الذي اخترقها فتت غضبها بسر غير مفهوم..
نهضت منتفضة تهمس بتوتر (هروح لعاليا)
لتعاود راضية لنفيسة بخنوع أغضب حمزة (معلش يا مرات اخوي حجك عليا صغيرة وطايشة)
وضعت نفيسة ساقًا فوق الأخرى قائلة (جوزيها يمكن تعجل وسيبك من التعليم طالما مش نافعة)
لم يرقه الحوار الدائر قطعه متسائلا يصرف تفكير عمته عن وساوس نفيسة (يلا ياعمة نشوف جدي)
نهضت راضية تستأذن نفيسة المغادرة ولم يفعلها حمزة فاستحق نقمة نفيسة وغضبها جوار نظراتها النارية ..
سحبته راضية لحجرة والدها، طرقا الباب فأذن لهما بالدخول، أقترب يضم حمزة ذاكرًا بحنين (طلته كيف أبوه يا راضية) هزت رأسها مؤكدة ونظراتها تهرول لابن أخيها بمحبة (أيوة يا بوي ربنا يبارك فيه)
جلس حمزة يتوسطهما فوق آريكة بسيطة منتظرًا أن يفضي جده بما جاء به إليهم..
سأله عن والدته بإبتسامة (كيفها ورد وكيف صحتها ياولدي.؟) أجابه حمزة بحنو (بخير يا جدي تسلم عليك)
هتف الرجل بنبرة تعثرت في الندم فخرجت هالكة(جصرت معاك كتير يا ولدي، حتى الي كنت ببعته بترفضه) مال فم حمزة بابتسامة ساخرة وأدها وقال برزانة وحكمة (الحمدلله مستورة يا جدي والخير كتير وفايض مش محتاج حاجه)
جده أراد أن يريح ضميره بحفنة من نقود يجود بها عمه رفعت عليهما مما كان يمتلكونه يومًا، أفاق على صوت جده الخشن يخبره بعزم (آن الأوان ترجع وتعيش وسطنا ومعانا)
انتفض حمزة ثائرًا (لاااا أنا جاي أشوفكم واطمن عليكم وأرجع)
رمق الأب ابنته بيأس وخيبة لتبتدر النقاش وهي تربت على كتف حمزة بحنو (ليه يا ولدي كفاية غربة، أرجع وسطنا نتونس بيك وتتونس بينا)
قال بصدق زاهدًا النقاش(معدش ينفع أنا هناك حياتي وشغلي)
قطع الجد كلماته موضحًا بحزن (هنا حياتك برضك، أحنا محتاجينك تمسك مالك ومال ابوك وخيره)
رفض بضيق (ماليش حاجه هنا أنا خدت الي لابوي ومشيت)فهمت راضيه مقصده فتأسفت فهو أخذ أمه وكفى لا يريد ما استحق عليه والده القتل
طرقات الباب انتشلتهما من الحديث والمناقشة العقيمة، صدره يتأجج ويتضخم بمشاعر غضب وحرقة، اختناق من تلك المحاصرة، دخلت سكينة مبتسمة تمرر نظراتها اللامعة فوق وجوههن لتضحك ساخرة (مالكم دي جلسة تحضير أرواح ولا إيه.؟)
كتم تأففه بينما لامت راضية فتاتها بنظراتها الساخطة،جلست أمامهما فوق كرسي قائلة (مودة خلصت تنضيف البيت)
تنهد حمزة ممتنًا فهو لا يريد أن يمكث هنا ولا يبيت بين جدران هذا البيت؛ نهض معتذرًا (هروح أرتاح يا جدي وبعدين نتكلم)
سأله الجد بإهتمام وهو يخبئ انكساره وانهزامه بين نظراته (اتعشيت يا ولدي.؟)
ابتسم قائلًا بحنو وهو ينحني ملثمًا كف جده بتقدير(هاكل حاجه خفيفة متجلجش)
ربت الجد فوق خصلاته قائلًا بعزم وإصرار (هنتكلم تاني يا حمزة) ضم حمزة شفتيه بيأس وضيق لينسحب راميًا موافقته (حاضر يا جدي)
سألت سكينة (هو ماله.؟)
نهضت والدتها أمسكت بذراعها نافضة (وإنتِ مالك يا ملكومة همي جدامي نمشي)
نفضت سكينة ذراع والدتها زافرة بضيق مغمغمة بكلمات غير مفهومة، مالت راضية تودع والدتها (تصبح على خير يا بوي)
قال وهو يتمدد (وإنتِ بخير اطفي النور معاكي)
أومأت طائعة، أطفأت الأنوار وغادرت بفتاتها للمنزل لتلحق بابن أخيها قبل أن ينام، ترسل له عشائه
**************
بعد مرور يومان، من مكوثة بينهما اختار أن يخرج للمزرعة ومعالجة بهائهما لينتهي من تلك الزيارة سريعًا وإلحاح جده ويعود.
لا تعرف لما تختارها والدتها دومًا لإرسال الطعام، رغم أن مودة ترغب في ذلك ولا تستطيع التفوه
وضعت عامود الطعام جانبًا متأففة ونظراتها تفتش عنه، حتى وجدته منشغلًا بعمله.. أقتربت منه تنتزعه من انهماكه بفظاظته (يا عم إنت) رفع رأسه يطالعها بنظرات قاتمة قبل أن يتجاهلها ويعود لعمله تاركًا سؤاله في الخلفية (نعم)
مدت له عامود الطعام قائلة بتعالي بغيض(عمتك بعتتلك الوكل دا)
هتف دون أن يوليها اهتمامه (حطي على الطربيزة في الأوضة)
تخصرت قائلة بإعتراض صُبغ بغرورها(إنت كمان هتشغلني يا بتاع المواشي إنت مش كفاية عمتك )
استقام جسده، فرده وهو يوليها وجهه بنظرات نارية ابتلعت ريقها بخوف انبت فوق جبينها حبات عرق وهي تتراجع للخلف بينما هو يخطو تجاهها بنظرات مسلطة كسيوف لا ترحمها، يخلع قفازاته ويرميها جانبًا.. تسلحت بسخافتها وهي تقول بتحدي غير عابئة (بعدين هتخلص امتى وتمشي أنا جرفت رايحه جايه أجبلك فالأكل)
جذب منها عامود الأكل بصمت يكتفي بتلك النظرات النارية المشتعلة ليميل فمها بغيظ وإستياء منه، دخل الحجرة وجلس حول الطاولة الصغيرة يفتحه وهو ينزل كمامته عن فمه.. دخلت خلفه تهتف برعونة (البقرة أكلت لسانك)
قال وهو يتأمل الطعام بشهية مُغلقة، وقد سئم فظاظتها وغرورها (محدش جبرك تيجي )
نطقت بغيظ (عمتك بتجبرني فكراني الخدامة بتاعتها)
قال بتهديد فظ يغيظها(خلاص هجولها متبعتش مش عايز أكل)
فغرت فمها مذهولة من رد فعله، لتضيق عينيها وترمية بالحماقات (إنت هتذلنا فداهية متاكلش..؟ اعمل الي تعمله...)
نهض زاهدًا الطعام والحوار متأففًا لا يطيق عنجهيتها ولا يستسيغ تباسطها معه ولولا عمته لعاملها كما يعامل بهائهم الثائرة.
تداركت الأمر مفكرة، لو فعلها حمزة لعاقبتها والدتها وحبستها في حجرتها.. أمها لا تتحمل أن يمس حمزة نصبٌ أو حزن فكيف إن علمت بأنها توبخه وتسخر منه كلما سنحت لها الفرصة... تنازلت مرغمة تبعته تهادنه(الغدا يا واد خالي متجبليش الأذى)
أمسك بقفاز جديد يرتديه مشيحًا عنها بتجاهل، فأمسكت بكفيه مانعةً (لا لا متلبسش تعالى اتغدى الله يكرمك)
انفلت الغضب من عقال سيطرته وتحكمة، صرخ غاضبًا وهو يدفع كفها الناعم الرقيق عنه (امشي يلا.. خدي أكلك معاكي وجولي لعمتي إني راجع انهردا مصر)
ضمت كفيها لصدره مرتجفة، لا تصدق ما تراه من هذا الصموت المتحامل، ترمش بأهدابها الطويلة مخافة أن يخونها ثباتها وتغدر بها سحابات الدموع.. لا تحب أن يراها هكذا.
طأطأ رأسها وغادرت من أمامه بخطوات واسعة تلملم الطعام ومعه دموعها الساقطة.
أحكمت من إغلاق العمود وغادرت، ليخلع عنه القفازات من جديد ويرميها ضائقًا بالوضع..
******
في بداية المساء
التقت به على باب المنزل، واقفًا متحيرًا كفه تمتد للباب فتتراجع بحرج لم تفهمه.. انتزعه صوتها المرح من شروده وقد نسيت ما فعلته وحدث وربما تجاهلته فهذا الحمزة لا يعنيها وليفعل ما يفعل مدلل عمته(أزيك يا داكتور.؟)
التفت مبتسمًا مُرحبًا قبل أن يخفض نظراته متأدبًا (ازيك يا بت عمتي.؟)
طرقت الباب وهي تسأله بإبتسامة (مخبطتش ليه دي أمي مستنياك من ساعة ما جولتلها )
ثم مالت هامسة بخبث (أنا رميت الأكل للبط وجولتلها أكلت وشبعت وعجبتك الفاصوليا)
قالتها ساخرة معجبة فخورة بما فعلت.
رمقها شزرًا محتفظًا بهدوئه وثباته، تجاهل
وهو ينظر لساعة معصمه قائلًا بحرج وهو يختلس منها نظرات قصيرة مرتبكة (الوجت مش مناسب بلغيها إني جيت..)أحرجته بفظاظة (كنت استنيت الوجت المناسب بدل ماتمشي وعمتك تعمل مناحة وتجرفنا )
أطبق شفتيه مُحرجًا من كلماتها، قبل أن يتراجع خطوتين ضائقًا منها وفظاظتها التي لمست وترًا حساسًا بقلبه، ادعى انشغاله بالهاتف وهو ينسحب (سلمي عليها جوليلها إني هاجي تاني جريب)
تداركت الأمر سريعًا، حملقت متفاجئةً برد فعله السريع مستوعبة كلماته نادمة (استني يا حمزة الله يكرمك هدخل وأناديها)
ضيق عينيه فوق ملامحها ولم يرقه تباسطها ولا كلماتها من الأساس مازال أثر استهانتها به عالق في نفسه يشبعه مرارة.
هتف بحدة وهو ينفض كفها التي أمسكت بمعصمة في بساطة أربكته(أنا ماشي الوجت اتأخر)
وقت مندهشة، ابتلعت ريقها بخوف وقد انزوى مرحها وتشققت ابتسامتها وهي تلمح ثورة مخبئة وغضب يزأر في نظراته يطالب بالإفراج عنه.
فُتح الباب لتلتقط أنفاسها تطالعه بتوسل قبل أن تهتف بوالدتها الواقفة (حمزة كان هيمشي يا أما)
رمقها بنظرة نارية قبل أن يتخطاها مندفعًا ناحية الباب يحتضن عمته ويقبل رأسها تلك التي تقبلت عطاياه بسعادة وإنتشاء، أدخلته وهي تخبره بفرحة (كنت مستنياك يا غالي يا واد الغالي)
ابتسم عائدًا لطبيعته متجاهلًا تلك التي ترميه بنظرات حادة مسممة لا يعرف لها سببًا
جاور عمته فوق آريكة متهالكة في مقدمة المنزل (هترجع تاني يا حمزة.؟ ولا هتمشي وتجول عدولي) أجابها بثبات وحزم (أنا وعدت جدي ياعمتي ومستحيل أخلف)
تعمقت النظر إليه متفاخرة بإبتسامة (كنه عبدالحكيم الي بيتكلم)
ابتسم بحنو قبل أن يصله استهزاء الأخرى وصخب ضحكاتها الساخرة وهي تخبر أختها مودة بصوت تعمدت يكون مسموعًا
_مين بره يا سكينة.؟
أخبرتها بضحكة مجلجلة واستهزاء لم يمر على قلبه مرور الكرام (دكتور البهايم النرفوز) ويظن أن عمته لم تلتقطه من شدة ما جرفتها الذكريات وغيبتها في عالمها، لكن وصلته هو
أسبل أهدابه يخفي غضبه عن نظرات عمته التي تتربص به، تحولت مقلتيه لجمرتين مشتعلتين بنقمة على تلك السكينة التي لا تحمل من اسمها أي قدر من السكينة بل سكّينة.
خرجت تحمل بين كفيها صينية وابتسامتها الساخرة مازالت تجاور ذاك الثغر الوردي المغري تتوسده فتزيده فتنة.
وضعته أمامه وهي تهديه نظره ماكرة متلاعبة ابتلعها وشكرها بفظاظة واستهزاء أغضبها (شكرًا يا سكّينة)
انقلبت نظراتها الرائقة لعواصف وهي توضح من بين أسنانها(سكينة يا واد خالي)
تناول ما وضعتها يمرر لها سخريتها وتهديده منه بهدوء وحذر يهمس (دكتور البهايم يعرف السكاكين أكتر، أسهل حاجه عنده مسكتها لو عايز، ويعرف البهايم زين وأنواعها)
رمقته أول الأمر بإعجاب اختلط بإنبهارها قبل أن تفغر فمها وقد وصلها مقصد كلماته وتوبيخه المتخفي.. حركت شفتيها بكلمات وأدتها قبل أن يمط شفتيه بإستهانة لها وإستعلاء بغيض منه.
تأففت بصوت مسموع نفثت حممها البركانية بوجهه قبل أن تغادر تشيعها كلمات أمها (مالها دي..؟)
ابتسم لإغضابها، راقه أن يقتص منها صاحبة الثغر المكتنز بفتنة الذي تلطخه وتطمس فتنته بكلماتها.
(سلملي على ورد )
قالتها عمته بشوق جارف، ليبتسم قائلًا (يوصل )
أكدّت بجدية (كتب كتاب عمار جرب لازم تيجوا يا حمزة دا أول فرحتي وعايزه ورد معايا أنا ماليش حبايب وأخوات غيركم)
وضع الكوب قائلًا يلتمس منها العذر (هشوف يا عمه بس موعدكيش ورد صحتها بجت متتحملش سفر)
تأسفت على حالها قبل أن تقول بلهفة (حاول لو جدرت، يمكن جلبي يعرف الفرح لما تتجمعوا حوليا)
هز رأسه موافقًا يهديها ابتسامة رائقة وقبلة دافئة فوق رأسها، منحته بها نظرة امتنان وتقدير لم تخلو من دموع السعادة.. شردت قليلًا وصمت هو لتقترب تشاركه ما يؤرقها ويحزنها
(سكينة جايلها عريس وربنا يسهل يمكن تبجا مع عمار)
قطب وهو يوليها اهتمامه يحاول إثنائها لا لرغبة سوى إنقاذ تلك الصغيرة (لسه صغيرة يا عمه ومخلصتش دراستها)
ربتت على كتفه تخبره بوقار (الجواز ستره ولو وافج هتكمل فبيته)
حاول جاهدًا وهو يفكر في تلك المجنونة (سبيها ياعمتي سكينة مش هتشيل مسئولية متظلمهاش)
تعمقت النظر إليه وداخلها يضج من نزاع الأفكار والشتات. همست (ربنا يسهل يا ولدي)
سألها غير مبالي (جريبنا.؟)
أمالت فمها تخبره بنفور (من أسيوط) استقر القلق في نفسه على تلك المشتعلة ليزهد التفكير والحيرة ويتجاهل قائلا (ربنا يتمملها على خير عقبال مودة )
نهض واقفًا يستأذن المغادرة فأمسكت به ترجوه (خليك يا ولدي شوية بتغيب عني وبتوحشك) ربت فرق كفها بحنو وهو ينحني ملثمًا رأسها لتلتقي نظراته بالواقفة خلفها بتحفز، تطلق شراراتها الغاضبة بوجهه وكلماته التوبيخية تتراقص في عقلها تطفو في نظراتها.
ابتسم مستفزًا لها قبل أن يغادرًا متجاهلًا لها متخطيًا وقوفها همست تستوقفه (لما ترجع ليك روجة يا دكتور)
أشرقت ملامحه وهو يبادلها الهمس بغرور وثقة مُفرطة لم تتوقعها من هذا الخجول الكئيب (هستنى روجتك يا بت عمتي أنا لها)
خرج عكس ما دخل.. يتلفت خلفه ليجدها واقفة تشيعه بغيظ جلب الضحكات لفمه والاستمتاع لروحة.. تقف متحفزة كقطة شرسة عالقة في غضبها لا تمرر كلماته ولا تترك انتقامها متناسية... ظن أنها ستظل هكذا حتى يعود مرةً أخرى.