رواية طائف في رحلة أبدية الفصل التاسع 9 بقلم تميمة نبيل
الفصل التاسع
: راقبته وهو يغلق أزرار قميصه باعتداد أقرب للغرور، نظرات عينيه الفجتين دائما، كانتا الآن متكاسلتان بإكتفاء مرضي، و كأنه قد نال للتو وجبة مرضية، ليست وجبة شديدة الفخامة، الا أنها فقط مرضية، هكذا هي ترى نفسها، جذبت بدور الغطاء حتى ذقنها بأصابع مرتجفة و هي ترمقه بنفس حالة الهلع الصامتة بعد كل مرة، رفع راجح عينيه المغرورتين اليها و قال بلا مبالاة، كانت تشعر بها و تدمر دائما...
(هل ستستلقين عندك طويلا؟، يجب أن نتحرك حالا في طريق السفر عودة للبلد، علينا أن نكون ببيت الرافعية قبل المغيب و إن كنت أشك أن نستطيع).
ابتلعت بدور ريقها بتوتر و هي تتأمل جسده الضخم قوي العضلات. ووسامته الفجة ككل ما به، راجح الرافعي كان حلم لكل فتاة تقع عيناها عليه، ربما ليس أكثر الرجال وسامة، الا أنه بالتأكيد يمتلك جاذبية صريحة أقرب للعبث الصريح، نظراته التي لا تعرف الخجل أو الحياء، و التي تشعر أي أنثى بأنوثتها، عينان تكاد ان تنطا بالرغبة الحسية لكل ما تراه و تقدره، أسبلت جفنيها فوق عينيها الحزينتين و و هي تتمسك بالغطاء الأبيض جيدا حول جسدها العاري بأصابع مرتجفة. و كأنها بهذه الحركة تنفي ما يحدث بينها و بين راجح، انتفض جسدها برهبة ما يحدث بينهما منذ عام كامل، عادت لترفع عينيها اليه لتراقب غروره، و عنجهيته الواثقة من قدراته، لم تصدق مدى سعادة حظها حين أخبرتها أمها أن راجح ابن عمها قد خطبها رسميا، صحيح أنه يكبرها باثني عشر عاما كاملة، الا أنه كان على الرغم من ذلك مطمع معظم بنات العائلة، و متأكدة هي بأنه مطمع الفتيات من خارج العائلة كذلك، و على الرغم من ذلك لم يتزوج حتى الثالثة و الثلاثين من عمره، الى أن فجأها هي بخطبتها دون غيرها، تعلم أنها جميلة بطريقة ما، أو على الأقل هذا هو ما تغذي به أمها ثقتها المزعزعة بنفسها، لكنها لم تكن متميزة بشيء، بل على العكس، ساقها العرجاء كانت هي دائما ما يلفت النظر اليها، و ليس جمالها، لذا لم تصدق حظها فعلا حين خطبها راجح، و عقد قرانه عليها سريعا، انتفضت بدور من أفكارها الشاردة البائسة على صوت راجح الذي قصف متحولا الى الفظاظة و لهجة الأمر.
(بدور!، توقفي عن احلام اليقظة التي تنتابك تلك و انهضي لتعدي نفسك، لقد تأخرنا)
لعقت بدور شفتيها المرتجفتين و سارعت بالإيماء طائعة دون كلام، لكن قبل ان تتحرك، بدتت مترددة، متخاذلة، تريد النطق، الى أن همست أخيرا بصوت بدى اشبه بالتوسل دون ان تدري، (
راجح، متى سيتم زفافنا؟).
لم يبدو عليه انه قد سمعها وهو يتابع تحضير نفسه، بإغداقها بكمية ضخمة من رذاذ عطره الذي يشابهه في الفجاجة، اوشكت بدور أن تلقي عليه السؤال مجددا بتوتر أكبر حين شكت أنه لم يسمعها، الا أنه قال بهدوء دون ان يلتفت اليها
(ما الذي جعلك تفكرين بالزفاف الآن؟) ا
تسعت عيناها بهلع لم تقصد اظهاره، بينما تمسكت أصابعها أكثر بالغطاء و كأنه يمنحها سترا خادعا، ثم قالت متلعثمة بقلق.
(لقد مضى عام على عقد قراننا يا راجح، لو، لو، علم أبي بما يحدث بيننا، فقد يقتلني، ستكون كارثة لو فضح أمري)
رفع راجح عينيه الوقحتين الى عينيها الضائعتين في المرآة، ثم قال ببرود
(و من أين له أن يعلم؟، نحن نتقابل هنا، على بعد مئات الأميال من والدك، حيث كليتك) عضت بدور على شفتيها و هي تنظر اليه متضرعة، ثم همست بخفوت.
(أخشى أن يراني أحد مثلا، أو أن، أو أن يحدث شيء ما، لم نحسب له حساب) عاد لينظر اليها بنفس الوقاحة، قبل أن يقول بهدوء يماثل في وقاحته وقاحة عينيه...
(الا تتناولين حبوب منع الحمل بإنتظام؟) احمر وجهها بشدة و أخفضت وجهها. مخفية عينيها عن عينيه الجريئتين، غير مصدقة لبساطة سؤاله. تماما كبساطة الأمر الذي وجهه لها منذ عام بالإنتظام على تلك الحبوب، كأي متزوجين اعتادا على بعضهما، ارتجف جسدها حين قال راجح بصوت أعلى كي ينبهها من شرودها، دون أن يرحم خجلها الذي لم يمت على الرغم من العام الذي مر بينهما وهو يعاشرها به...
(الا تفعلين؟).
همست بدور دون أن ترفع عينيها اليه
(بلى)
عادت ملامحه المشتدة لتلين ببرود، وهو يبتسم قائلا
(جيد، لا مشكلة اذن).
تجرأت بدور على رفع عينيها اليه مجددا و هي تقول بخفوت. الا أنه بدا أكثر اصرارا، و خوفا، (راجح أرجوك سرع من موعد الزفاف، أنت تعلم أن أن ما يحدث بيننا لن يرضي والدانا أو جدنا، ستكون كارثة في العائلة، كما، كما أنني أشعر أن ما يحدث بيننا خاطىء) ظلت عيناه تحاصرانها بصمت، و هي لا تستطيع تفسير نظراتهما، قبل أن يقول بابتسامة متملقة، أوهنتها
(كيف يكون خطأ؟، ألست زوجتي؟) همست بدور بترجي.
(لكنه يخالف العرف، و يحط من قدر أبي، و في عوائلنا ستصبح كارثة لو عرف الأمر، أنت تعرف أن العروس يجب أن تزف الى بيت زوجها في حفل يرفع رأس والدها يستمر لسبع أيام كاملة، و اطلاق الأعيرة، و الولائم).
كان صوتها قد بدأ يخفت تدريجيا و تشرد عيناها و هي تتحسر على تلك المنزلة التي ضيعتها على نفسها، حتى بعد الزفاف، لن تنسى أنها كانت له خلال فترة عقد القران بمنتهى السهولة، قال راجح بخفوت أكبر و قد تغيرت نبرة صوته و تحولت الى نغمة أكثر عبثا...
(هذا موضوع جدي تماما، على أن تتحدثي به و أنت مستلقية مكانك على هذا النحو، هممم) رفعت بدور وجهها اليه بسرعة و هي تتعرف على تلك النغمة بسهولة، لتراه يتقرب منها و عيناه تتحولان الى الجوع مجددا بعد الشبع، و من الجوع الى النهم، ذلك هو راجح، زوجها كما يفترض، تراجعت قليلا حتى التصق ظهرها بالسرير من خلفها، بينما هو يقترب و عيناه تترصادانها كالنمر. حتى وصل اليها فجلس على حافة السرير بجوارها وهو يميل بالقرب منها حتى لفحت أنفاسه ذات العطر المحفوظ بشرتها الحساسة، لاسعة نهاية أطرافها العصبية، مما جعلها ترتعش على الفور في ردة فعل مألوفة، و تمسكت بالغطاء أكثر و أكثر و هي ترفعه حتى ذقنها، ضحك راجح وهو يهمس بخفوت ملامسا فكها الناعم بشفتيه الشهوانيتين...
(الا ترين بأنك قد تأخرت قليلا في اظهار هذا الخجل الشهي و الرغبة المفاجئة في الإحتشام؟) أغمضت عينيها بأسى و هي تبعد وجهها عنه بغير مقاومة فعلية، هامسة بمرارة
(أرجوك لا تقل هذا)
اقترب منها أكثر. بينما تحركت شفتاه تعرفان سبيلهما حق المعرفة، فيضعفان من عزمها الزائل أكثر ليهمس في أذنها مزمجرا
(معك حق، لا داعي للقول، فالفعل أشهى)
مالت برأسها للخلف و هي تئن متوسلة.
(لا يا راجح، كفى أرجوك، يجب أن نغادر الآن، سنتأخر).
الا أنه كالعادة، لا يسمع الا رغباته، بينما باقي الأصوات بالنسبة له تضيع هباءا، حاولت جاهدة التمسك بالغطاء، الا أنه كان أكثر منها قوة وهو يبعده بسيطرة، ليلحق به قميصه، بعد ساعتين، كانت بدور تجلس بجواره في السيارة شاردة، تنظر من نافذتها الجانبية و رأسها مستند بتعب الى زجاجها، المقاومة عبثية مع راجح، هذا ما اكتشفته منذ المرة الأولى التي عاشرها بها، يومها كانت مسحورة بذهول بقبلاته المجتاحة على شفتيها المتبتلتين، و اللتين لما تعرفا معنى العشق من قبل، المرة الأولى التي اصطحبها فيها من كليتها بعد عقد قرانهما، كم كانت سعادتها مشرقة بخجل و هي تتباهى بزوجها الوسيم أمام صديقاتها بعد سنوات قليلة، كانت ترى بها الإرتباط من حولها في الجامعة، و قصص الحب شديدة التعقيد، دون أن تجرؤ يوما على خوض التجربة...
فهذا كان معناه أن تندلع كارثة في العائلة لو حدث و ارتبطت بزميل لها من خارج نطاق اسم الرافعية، لذا نائت بنفسها منذ البداية عن أي محاولة، لكن في الحقيقة، لم تكن هناك أي محاولات حثيثة تتقدم لها. فقد كانت تمثل صورة الفتاة العرجاء، الصامتة المتباعدة، التي لا تمتلك حضورا طاغيا أو شعبية مثيرة للنظر بأي شكل، مجرد جاذبية شكلية لم يلتفت اليها احد، لذا كان اليوم الذي جاء فيه راجح الى كليتها بعد عقد قرانهما بشهرين...
هو أجمل يوم بحياتها، فقط في بدايته، لا تزال تتذكر تفاصيل هذا اليوم جيدا...
يوم الذي هاتفها به، و أخبرها بنبرة تسلطية ذكورية غير مبالية تماما، بأنه في الخارج و ينتظرها ليقلها معه...
حينها عرفت الإبتسامة طريقها لوجهها الأقرب للطفولية الحزينة، وشعرت بنفسها كفراشة تخرج من شرنقتها المغبرة أخيرا...
للمرة الأولى تشعر بنفسها جميلة و هي تخرج بتباه و تسير اليه برشاقة متسارعة، و كأن عرجها قد اختفى فجأة، لن تنسى وقفته المهيبة مستندا الى سيارته الفخمة...
و لن تنسى نظرات أغلب الفتيات اليه بانبهار وهو يبدو متشاغلا عنهن بصلف، لن تنسى أنها همست لنفسها بعدم تصديق تتوجه سعادة متباهية هذا الوسيم، هو زوجي...
لن تنسى نظرته لها حين رفع رأسه اليها فجأة من على بعد، كانت نظرة غامضة، لم تستطع تفسيرها أبدا كانت خالية من الإبتسامة، متفرسة بكل تفاصيلها بجرأة، و مع هذا كانت تفتقد الى الرقة، بل كانت، كانت أقرب الى غضب مستتر، غضب جعلها ترتجف قليلا و تتعثر بخطواتها، لكن ابتسامته ما أن وصلت اليه أدفأت قلبها، على الرغم من عبثيتها و جرأة فحواها، ذلك اليوم أخذها الى شقته هنا في المدينة، بدلا من أن يصطحبها للبيت الذي تسكنه مع مجموعة من نساء البلد أتين خصيصا لخدمتها و محاوطتها بأمر من والدها كي تكمل دراستها الجامعية وحدها في المدينة، فقد كان والدها يستقر في بلده منذ مولده على عكس كثير من الأعمام ممن سافروا الى المدن و الى الخارج، والدها شديد الصرامة و البأس، قسوته في بعض الأحيان تكاد أن تكون أقرب الى البطش و العنف، ووالدتها لم تسلم من بطشه في الكثير من سنوات حياتها معه...
و قرار ان تكمل دراستها متغربة وحدها في المدينة كان أقرب للمعجزة...
لم تظن أنها ستتحقق أبدا. و بالعودة الى راجح في ذلك اليوم، كانت تتبعه كالمسحورة، حتى وهو يطلب منها المجىء الى شقته كي تراها، كانت تسير خلفه مغمضة العقل، بينما عينيها متسعتان، تتشربان من جاذبية رجولته الفجة، على تلك الأريكة الأنيقة، و هي تجلس مرتبكة و كفيها متشابكين، مخفضة وجهها الأحمر، كان هو جالسا بعنجهية بالقرب منها و بينهما مسافة مطمئنة، ظهره مستندا للخلف و ذراعه مرتاحة على ظهر الأريكة، يضع ساقا فوق أخرى وهو يتأملها بصمت مربك...
بينما دخان سيجارته الذي ينفثه، يجعل وعيها يدور قليلا، رفعت عينيها اليه...
لتجد أنه لم يبتسم، فقط كان يرمقها بتلك النظرات الغامضة، قبل أن يرمي سيجارته بعيدا غير عابئا أن حطت و ماذا أتلفت، و اقترب منها، ارتجفت بدور بقوة و هي تتذكر هول المشاعر التي انتابتها وهو يقتحم شفتيها اللتين لم تعرفا معنى القبلات يوما...
اعصار لفها و جعلها تقع به دون هوادة أو رحمة، أغمضت بدور عينيها و هي تتذكر هتافها برعب أرجوك يا راجح كفى، لا تفعل...
الا أنه بدا في تلك اللحظة كالمجنون، و صم أذنيه عن توسلاتها، بينما عضلاته القوية هزمت كل مقاومة لها شر هزيمة، نعم أول مرة بينهما كانت ضد رغبتها، على الأقل بعد الدقائق الأولى التي استسلمت فيها لمشاعر لم تعرفها من قبل، لكن ما حدث فيما بعد كان بالتأكيد ضد ارادتها، على أنه لم يستخدم العنف تماما...
لكنه نجح في هزيمة كل محاولات مقاومتها الضعيفة، لا يزال نحيبها هذا اليوم يزعج أذنها بصخبه، و ملابسها الممزقة المرمية أرضا ترهق عينيها، كان هو نهما و شديد الإنفعال...
بينما كانت هي واهنة الأوصال، مضعضعة القوى، من بعدها لم يتوقف راجح عن نيالها كزوجته، حتى اعتادته و اعتادت العلاقة معه، و كأنها أمر مسلم به، يطمئنها دائما بأنها زوجته و أنه لا داعي للقلق...
لكن العرف له رأي آخر، هامة والدها لها اعتبار، لم تشأ يوما أن تحنيها، على الرغم من قسوته، أغمضت بدور عينيها و قد انسابت منها دمعة ندم، فسارعت الى مسحها بظاهر يدها، فالتفت اليها راجح.
ليقول بعدم اهتمام.
(ماذا بك؟)
نظرت اليه بدوراليه منتفضة و سارعت بالقول
(لا شيء، مجرد ذرة غبار آلمت عيني)
لم يعبأ راجح، او على الأرجح لم يسمع جوابها، كانت عيناه على الطريق، ضيقتان، باردتان كالجليد، بينما روحه أبعد ما يكون عن البرود...
بل كانت تحترق مستعرة وهو لا يرى أمام طريقه سوى العينين العسليتين القويتين، سوار، تلك اللعنة التي ولدت و دمغته بتعويذة سحر، لا يستطيع التحرر منها حتى الآن...
ضاقت عيناه أكثر وهو يزيد من سرعة السيارة، بينما صوتها القوي الذي لم يفقد يوما نعومته على الرغم من صلابته، يداعب أذنيه و يزهق غروره، تسارعت انفاسه وهو يراها أمامه بكل بهائها الجلي، تلك الملكة التي طارت من بين أصابعه و لم يستطع نيلها...
كان مخطئا حين ظن بأن امتلاكه لها كان أمرا مسلما به، و غباءه في تقدير قدرات خصمه الحقيقة جعله يخسر تلك الحرب، لم يكن الخصم هو سليم يوما، بل كانت سوار نفسها، فتحت فمها لتجيب، الا أن الكلمات توقفت في حلقها و ماتت منصهرة و هي ترى القادم و الذي دخل الى المكان بهيمنة و سيطرة، ذلك المهندم بعد ترويض فرس جامحة منذ ساعتين فقط...
ذلك اللذي دخل و عيناه مسلطتان على عينيها بقسوة، بينما هالة من الرجولة تحيط به وهو يتقدم و كأنه يملك المكان...
قاصي الحكيم...
ساد صمت قصير المكان، صمت مشحون و متوتر، بينما قال قاصي بصوت واثق هادىء
(السلام عليكم يا كبير الرفاعية).
كان سلامه موجها الى جدها وحدها، مما يعد هذا أقرب للإهانة للكثير من المتواجدين، فنظرت تيماء بصدمة الى جدها و هي تتوقع منه أن يطرده و أن يطردها معه كذلك، كيف يفعل ذلك؟، بل لماذا يفعل هذا؟، الآن سيطردها جدها، أو ربما سيذيقها بعض مما أذاقها والدها منه قديما، الا انها انتفضت مذهولة و هي تسمع صوت جدها الرخيم وهو يقول بصوته الرخيم
(وعليكم السلام و رحمة الله، اجلس يا قاصي).
كانت تيماء فاغرة شفتيها لا تعرف ما يحدث بالضبط، ألا يعد مجرد عاملا لديهم؟، و مما أكد ظنها، هو صوت والدها الذي اندفع يقول هاتفا بقوة
(ماذا يفعل هذا هنا يا حاج سليمان؟، ماذا يفعل هذا الحقير هنا؟، مجرد وجوده هنا باجتماع عائلي ما هو الا إهانة لنا، إن لم يغادر حالا فسأغادر أنا)
ساد صوت همسات متوترة، و الأعمام ينقلون أنظارهم بين سالم، و قاصي.
الذي بقى مكانه صامتا بوجه ذو ملامح غامضة، ناظرا أرضا، لا خوفا أو شعور بالإهانة، انما تيماء تعرفه جيدا، فهو يخفض عينيه فقط حين لا يكون له القدرة على ترويض نظراته المستعرة، كانت ترتجف فعليا، ووجدت نفسها تشد بيديها على كفي جدها التي لا تزال ممسكة بهما...
و قفزت في جلوسها على صوت ضرب جدها للأرض بعصاه القوية، تلك الضربة التي تذكرها جيدا و لم تنقص قوة صلابتها بذرة، ثم هدر صوته بسلطة.
(منذ متى يهين أحد منكم ضيوفي يا سالم؟ )
الا أن سالم هتف بقوة هو الآخر
(إنه ليس من الضيوف يا حاج، ما هو الا مجرد وضيع ابن ح)
هدر صوت سليمان بقوة زلزلت الجدران بصداها
(اياك يا سالم بإكمال ما تنوي قوله، لا يهان من هو بدار سليمان الرافعي)
أشتد احمرار وجه سالم غضبا مجنونا وهو يرمق قاصي بنظرات تقتل بسم زعاف...
الا أن تيماء لم تهتم به في تلك اللحظة، بل كان كل اهتمامها المذعور منصب على قاصي على قاصي وحده، كان وجهه لا يزال مخفضا...
هو الوحيد القادر على اخفاض وجهه بينما تظل القوة مهيمنة على الهالة المحيطة به، لكنها رأت بوضوح اشتداد فكه، قبضتيه المضمومتين بقوة، عضلاته النافرة المتشنجة...
استطاعت أن تشعر بالنار في داخله تلفحها محرقة، منذ ساعة واحدة...
سمعت احدى العاملات بالدار تتكلم عنه، تتكلم عن الفتى مروض خيول الرافعية...
كانت كبيرة في السن و لا تزال تراه مجرد فتى، الفتى البائس الشرس، حين سألتها عنه أخرى أصغر سنا، فأجابتها بهدوء
قاصي الحكيم!
منذ سنوات و هو متواجد في هذه البلد باستمرار، و كأنه يرفض مغادرتها، من له مثل وضعه كان ليغادرها هربا من نظرة الناس اليه، الا أنه لم يفعل، بل كان يعود دوما، يعود متحديا كل من يجرؤ على الإساءة اليه، أتذكر وهو صبي...
كان يدخل في حروب ضارية مع الجميع، حتى مع من هم أكبر منه عمرا، و كان يخرج مصابا نازفا، الا أنه لم يستسلم يوما، و يوما بعد يوم تحولت شراسته في الدفاع الى قوة...
حتى زادت انتصاراته في حروبه الصغيرة، و بات الجميع يعلم أن من يدخل معه في تحدي يخرج منه خاسرا مهزوما...
صمتت قليلا ثم همست بخفوت لقد قطع لسان أحدهم ذات يوم، شهقت الأخرى و الأصغر سنا و هي تضع يدها على صدرها، بينما أومأت المرأة قائلة.
أحدهم نعت امه بلفظ شائن، و لقبه بابن حرام، لم يظن أن قاصي لم يعد ذلك الصبي الذي يتعارك بالعصي و الحصى، بل أشتد عوده و زادت شراسته في الدفاع، لذا قطع لسانه دون رأفة، قالت الصغرى.
و ماذا عنها؟، أمه؟، تنهدت تلك المرأة و هي تقول بخفوت أتذكرها، كانت مليحة و طيبة القلب، لكنها كانت بسيطة العقل كذلك، اختفت ذات يوم، و سمعنا أنها سافرت من بلد الى بلد، الى أن عاد أخاها ذات يوم مبشرا بأنه قد غسل يديه بدمها، المسكينة، عاشت سنواتها الأخيرة تفر من منفى الى آخر و في النهاية لحقها القدر، في تلك اللحظة كانت تيماء تستمع اليهما خارج المطبخ و هي مستندة الى الجدار، و رأسها متراجع للخلف، مغمضة العينين و يدها على صدرها...
نعم لقد كبرت على يديه، سنوات قليلة جدا الا أنها نقلتها أمامه من الطفولة الى الشباب، و باتت تعلم أن أمه خط أمر بالنسبة اليه، لا يسمح مطلقا بالكلام عنها، و كلما كبرت يوما، علمت أن هناك من هم ابناء غير شرعيين، لذا استنتجت الأمر وحدها منذ سنوات، و لم تعيره أهمية، لم يكن يهمها في ذلك الوقت سواه، قاصي فقط، دون أي ألقاب، لكنها لم تصدق أن يقطع لسان أحد!
ألم تعرفه حقا؟، أم عرفت منه ما أرادت رؤيته لا غير، أفاقت تيماء من شرودها الحزين على صوت والدها يقول برفض
(اعذرني يا حاج، أنا سأنسحب الآن، لن يجمعني بهذا الشخص مكان واحد)
الا أن قبضة جدها اشتدت على يدها حتى تألمت من قوة تلك القبضة المجعدة، و سمعت صوته يقول بشدة
(لا يغادر أحد من ابنائي المكان و أنا حي يا سالم، انتظر حتى وفاتي و افعل ما شئت، فهي لم تعد بعيدة).
قال سالم بصوت قاتم مكتوم، بينما عيناه القاسيتان ترمقان قاصي بنظرة حاقدة مهينة
(أطال الله عمرك يا ابي)
رفع قاصي عينيه في عيني سالم بنظرة تحكي الكثير فيها من التحدي، و القوة، و الثقة التي اكتسبها بالطريقة الصعبة و فرضها فرضا على من حوله، قبل أن يقول سليمان الرافعي بصوت قوي سلطوي
(اجلس يا قاصي)
لكن قبل أن يلتفت الى تيماء مجددا، قال بصوت عال وهو ينظر الى أبناءه و أحفاده.
(لقد طلب مني قاصي الحضور اليوم لأمر يخصه يريد قوله أمامكم، و دار الرافعية لا تطرد ضيفا حتى لو يوم العائلي، و لقد ذكرتها سابقا و سأكررها، قاصي في حمايتي، فلا يحاول أحدكم التطاول عليه)
نظر الى الجميع، ليرى من سيحاول الإعتراض على أوامره، الا أن أحدا لم يجرؤ على معارضة كبير الرافعية، لذا نظر راضيا، ثم قال بصوت آمر.
(اتخذ مقعدا يا قاصي و اجلس، ليس هناك من أسرار، بل الليلة ليلة فرح عندنا و مرحب بك) نظرت تيماء اليه مصعوقة وهو يسير بتمهل و ثقة الى ان جلس على أحد المقاعد، ثم رفع عينيه الى عينيها مباشرة، حاولت جاهدة ابعاد عينيها، صدقا حاولت...
لكنها فشلت، و كأنه دائما يرمي شباكا مسيطرة على نظراتها فيأسرها الى قربه. دون حتى أن يحرك اصبعا واحدا، انتفضت مجددا على صوت جدها وهو يربت على كفها قائلا بهدوء به بعض الدلال.
(الآن أخبريني عنك يا صغيرة، كيف أصبحت و ان كنت أراك في أفضل حال كما تمنيت دائما)
نظرت تيماء بذهول الى جدها و هي لا تزال فاغرة الشفتين، شاحبة بدرجة كبيرة، و طال بها النظر اليه. قبل أن ترمش بعينيها و هي تهز رأسها قليلا كي تجلي تفكيرها المزعزع...
ثم ابتلعت ريقها و هي تخفض وجهها قليلا...
كيف ستفعل ذلك بوجود قاصي؟، لم تتخيل هذا ولو في أسوأ كوابيسها، همست لنفسها دون صوت.
ياللهي!، انقذني، لكنها رفعت وجهها الشاحب الى جدها، ذو الوجه المتغضن و مع ذلك لم يفقد قوته، لحيته ازدادت بياضا رغم أنها كانت بيضاء يوم رأته، الا أنها كانت رمادية، تمنحه الهيبة و الوقار، همست تيماء بخفوت
(سأبدأ في التحضير لرسالة الدكتوراة، أنوى نيالها من الخارج ان شاء الله، قد يطول سفري هذه المرة يا جدي).
ما هذا الغباء الذي تقوله؟، ما علاقته بأي شيء؟، الا أن جدها لم يظهر عليه الإستهجان أو حتى اللامبالاة، بل قال بصوت فخور
(ماشاء الله، ماشاء الله، أولاد عمك ناولها في عمر أكبر منك، أما الفتيات فقلة منهم من اهتمت و ثابرت، أما أنت فكأختك مسك تماما، قوية، صلبة، من عصب الرافعية، لقد أفلح سالم في تورثكما دم هذه العائلة).
لم تستطع تيماء منع الإبتسامة الساخرة من الظهور على شفتيها، لم يكن هناك أي فضل لسالم الرافعي في نشأتها سوى تمرير بعض الجينات المنسوبة لهذه العائلة...
و هذا ما يدركه جدها، و لم يجد بالفعل أي ميزة أبوية له غيرها ليشيد بها، على الأقل بالنسبة لها، أما مع مسك فالأمر مختلف...
فمسك كانت و ستظل دائما ضياء عينه، تعلم هذا منذ سنوات طويلة، و توقفت عن الإهتمام بالأمر منذ آخر مواجهة بينهما...
رفعت تيماء وجهها الحزين الى جدها حين ناداها كي تستفيق من شرودها، ثم قال بهدوء
(آن الأوان كي تعودي الى عائلتك يا صغيرة، الا أن تعمدي الى السفر و الابتعاد من جديد كطائر مهاجر بلا وطن!)
أسبلت تيماء جفنيها و قالت بهدوء خافت
(الطريق يرسم نفسه يا جدي، و يناسب طموحي، لدي هدف و أريد تحقيقه)
قال جدها مبتسما بهدوء و رضا ظاهريين.
(ليس لي أن أمنعك عن تحقيق هدفك، فالأمر سيكون بين يدي زوجك، فأحسني الإختيار) ارتجفت تيماء و هي تشعر بعيني قاصي تتسلطان عليها أكثر بعد كلمات جدها، و نارهما تلفحها بشدة، ياللهي تكاد أن تشعر به يرمقها دون رحمة، لكنها لم تكن لتخافه، ما تخافه ليس الأذى من قاصي، ما تخافه هو الضعف، و قد اتخذت قرارا ذات يوم و اقسمت عليه، الا تضعف أبدا، لذا رفعت وجهها الى جدها و ابتسمت بصمت، قبل أن تقول بخفوت و تمهل كي يسمعها قاصي بوضوح قبل جدها.
(هذا ما أردت مكالمتك به يا جدي، هناك أمر خاص أريد أن اتحدث معك به)
قال سليمان بهدوء مبتسما) أيا كان ما تريدينه يا صغيرة تكلمي براحة، أم أنه سر؟)
نظرت اليه و قلبها يدق بقوة و عنف، كم تمنت لو ترد عليه بالايجاب و تخبره بأنه سر لعل و عسى أن تنجح في الانفراد به، فتطلب منه طلبها، ثم تهرب سريعا، و تتجنب مواجهة قاصي، الذي اكتشفت أنه كان، ينتظرها! تبا يا قاصي، تبا، لكنها لم تعتاد الهرب...
فلتقطع عرقا ليسيح دمه و تنهي الأمر مهما بلغ ألمها، و الذي كانت تعتقد أنه سكن منذ سنوات طويلة، رفعت تيماء ذقنها و شجعت نفسها قائلة بهدوء و بصوت أعلى نبرة قليلا
(ليس هناك أي أسرار يا جدي)
صمتت قليلا تلتقط نفسها قبل أن تقول و هي تشد على كف جدها
(لي زميل لي في الجامعة، في الواقع هو استاذ، كان استاذي قبل أن يصبح زميلي الآن، وهو من أسرة محترمة عريقة، طلب أن).
بينما هي تتكلم، شعرت بقاصي يتحرك من مكانه، دون أن ينهض، الا أنها شعرت بجسده القوي ينتفض! لمحته بطرف عينيها، و رأت وجهه يرتفع، بينما ازداد وهج نظارته الصامتة، فأغمضت عينيها متشبثة بالقوة و تابعت بصوت أكثر صلابة
(طلب مني ابلاغك بأن).
لكن هذه المرة لم يكن قاصي هو السبب في مقاطعتها، بل سليمان الرافعي، الذي شعرت بيده فجأة تطبق على كفها بقوة، فرفعت وجهها اليه لتجد ان الرضا قد تبخر من ملامح وجهه. و ظهر الاستياء عليه...
بينما تحولت نظرات عينيه الى نظرة اقرب للقسوة. للمرة الأولى، لكنه حين تكلم، قال بصوت عال سعيد مخالف لنظرة الرفض في عينيه
(قبل أن تتابعي كلامك يا صغيرة، لما لا أبدأ أنا بحكم العمر؟).
أجفلت تيماء قليلا و هي ترى عدم الرضا بوضوح على ملامحه، و كأنه قد فهم تماما فحوى حوارها. مثلما فهمه قاصي، لكنها لم تجد سوى أن تجيب بهدوء
(طبعا يا جدي، تفضل)
امسك بساعدها الرقيق يشد عليه وهو يتأمل وجهها مبتسما، قبل أن يشير بعصاه الى أفراد عائلتها المتجمعين بقاعته الخاصة قائلا بقوة
(أنت يا صغيرة قد كبرت و اصبحت عروسا ترفع الرأس، هؤلاء هم أبناء عمومتك، اختاري منهم زوجا لك).
للحظات لم تستوعب، لم تستوعب ما نطق به و كأنه تكلم بلغة غريبة عليها، لكن الكلام الذي علا بعدها كان دليلا على أن ما سمعته صحيحا، فنظرت بذهول الى أفراد عائلتها وهو يتحدثون بدهشة و تعجب فيما بينهم...
بعضهم مبتسم و البعض الآخر مستنكر وجودها من الأساس، بينما الشباب منهم ليسو مستائين أبدا، فقد علت وجوههم نظرات تشبه نظرات الاستعداد للتزاوج، خاصة و أن أمامهم أنثى جذابة الملامح. غريبة الشكل عن معظم بنات عمومتهم، بعينيها الفيروزيتين...
قد ترضي غرور أي منهم حين تختاره دون الباقين، وحده فريد هو من كان ينظر بهدوء الى ما يحدث وهو يقضم عصا من البقسماط قدمت له قبل أن يدخل...
استقرت عينا تيماء على وجه والدها الذي ازداد لونه الداكن و كأن سوادا قد انتشر به، ليزيدها نفورا منه، على الأرجح أنه يراها قد احتلت مكانة كانت تخص مسك ابنته وحدها...
شيئا ما جعلها تحرك عينيها عنه في اتجاه آخر، اتجاه جذبها كمغناطيس لا سبيل للفرار من قوته، فاصطدمنا بعيني قاصي...
حينها فغرت شفتيها أكثر و تراجعت قليلا لهول ما رأت بهما، كان ظهره قد انتصب في جلسته...
و تحفزت عضلاته الضخمة بتشنج، بينما استعرت عيناه في ذهول بدا أقرب للرغبة في قتل أحدهم، وهو ينقل نظراته المصعوقة بينها و بين جدها، ارتجف قلبها بين أضلعها و هي تراه لم يكن مستعدا لما سمعه للتو، إنها المرة الأولى التي ترى بها قاصي غير مستعدا لشيء ما...
و كأن الأمور قد خرجت عن نطاق سيطرته لأول مرة...
عاد جدها ليشد على يدها، فأقافت من هذه المسرحية الهزلية على صوته الذي يقول راضيا انما لا يخلو من الحزم و الصلابة، و كأنها لهجة تحمل شيئا ما، كتحذير خفي...
(اختاري يا تيماء، أرى أن كلا منهم الآن يتخيل نفسه سعيد الحظ)
كانت تنظر اليه بذهول ظهر على وجهها بملامح من الغباء، و قد غادرتها القدرة على النطق، رمشت تيماء بعينيها قبل ان تتكلم ببطىء، كي يحاول جدها أن يفهمها بوضوح.
(جدي، أنت لم تسمع ما جئت كي أخبرك به بعد، أنا)
قاطعها جدها قائلا بصوت اكثر وضوحا
(اختاري زوجك أولا، لنقرأ الفاتحة، ثم بعدها لنسمع ما تودين قوله)
هزت رأسها قليلا و هي ترفع يدها الى جبهتها الباردة المتعرقة، اي موقف هذا الذي وضعت به للتو؟، على العلن أمام عدد ضخم من أشد الرجال، أعمامها، الأشقاء و الغير أشقاء، و أبناء أعمامهم، و الشباب الأصغر سنا من ابنائهم، و هم المفروض من عليها أن تختار بينهم...
كيف ترفض بلباقة أمام هذا الحشد محرجة جدها؟، تكلم جدها قائلا مجددا بسرور وهو يشير بعصاه.
(ربما لم تتعرفي عليهم بعض، انظري اولا الى العازبين ممن ستختارين منهم، زاهر ابن عمك الاكبر مهندس زراعي، ولقد أصبح حديثا من أعمدة هذه العائلة، بعد أن استقر هنا منذ عدة سنوات، و هذا أمين ابن عمك راشد، يدير تجارة والده حديثا ايضا بعد أن عمل معه لسنوات منذ طفولته، بينما الذي يجلس هناك هذا هو عرابي ابن عمتك مشيرة و ابن ابن عم والدك، وهو مهندس ناجح و لديه شركة ضخمة، مستقر في المدينة، لكنه لا ينقطع عن زيارة البلد ابدا).
صمت قليلا عابسا، ثم تنحنح قائلا بعدم رضا و كأنه يحاول الا تسمعه
(أما هذا الذي يجلس هناك في الطرف، هذا المتفرج و الذي لم يتوقف عن تناول العصي في يده، متناثر الشعر هذا، فهو فريد، ابن عمك غانم و شقيق سوار، طبيب مستقر في المدينة، الا أنه متمرد قليلا، سيتعبك جدا في الواقع).
أبعد فريد البقسماط عن فمه عابسا وهو يسمع نبرة جده التي اختلفت عين تحدث عنه، بينما كانت تيماء تنظر اليه و هي لا تزال في حالة من حالات الطفو فوق سطح هذا الكابوس الذي تعيشه، أغمضت تيماء عينيها و هي تقول بصلابة خافتة
(جدي، أعطني فرصة رجاءا)
الا أن جدها قاطعها قائلا بهدوء ووضوح
(أنت لن تخرجي من هنا الا و أنت مخطوبة لواحد من أبنائنا، آن أوان عودتك يا صغيرة).
فتحت عينيها فجأة و هي تنظر اليه بصمت مشتد الحدة، العبارة الأخيرة جعلت عضلات جسدها تتحفز بقوة، و أنفاسها تتسارع بغضب حاولت إخفاءه...
كانت عيناها شديدة الشبه في تلك اللحظة بعيني جدها وهو يبادلها النظر بنظرة أكثر صلابة، لكنها لم تكن لتستسلم رغم فظاعة الموقف، لذا رفعت وجهها أكثر و قالت
(أنا).
صمتت فجأة و هي تشعر بمن كان يراقبها مصعوقا يتحرك و ينهض من مكانه، فالتفتت و هي ترى قاصي واقفا، و عيناه عليها، قبل أن يتحرك تجاههما ببطىء و تحفز...
تسمرت تيماء مكانها و هي تتسائل بذهول
ما الذي يفعله هذا المجنون؟، هل ينوي ايقاف ما يحدث؟، ترحب بهذا بشدة لكنها لا تثق بطبيعة تصرف قاصي، فقد يتسبب في احداث كارثة!
أرادت أن تأمره بأن يعود مكانه، و أنها كفيلة بأن تحرر نفسها من هذا المأزق، فقد كان قاصي دائما فرسا جامحا مع الجميع، مروضا على يديها وحدها، لكنها لم تستطع النطق أمام هذا الجمع، فقط اعتمدت على عينيها اللتين طالما فهم نظرتهما...
و أمرته بهما أن يعود الى مكانه، لكن عيناه جوابت عينيها، و رفضتا الإمتثال للأمر، كانتا صارختي النظرة، و ملامحه تنذر بالشر، بينما صدره يعلو و يهبط بسرعة، كان غريبا، غريبا جدا، و كأنه كان ينتوي شيئا بينما قرر أن يسارع به قبل موعده، توقفت أنفاس تيماء تماما و هي ترى خطورة الوضع، بينما بدأ السكون يعم المكان والجميع يرون اقتراب قاص بتحفز من جدها، جدها الذي انتبه الى اقترابه، فرمقه بصمت قبل أن يقول بصوت أجش.
(ماذا تريد يا قاصي؟)
الا أن قاصي لم يجب، بل ظلت عيناه على تيماء ووجهه متصلب، فاقد للروح و الحياة، بعكس عينيه الغامضتين، المحتدتين بقوة ممتزجة بعذاب خفي، لا يراه الا هي فقط!، توقف قاصي على بعد عدة خطوات قليلة منهما وهو ينظر اليهما بصمت...
بينما عم السكون المكان كله، و فجأة مد قاصي يده الى ظهره، و أخرج سلاحا من حزام بنطاله ليوجهه ناحيتهما...
بينما أقل ما يقال عن عينيه في تلك اللحظة، انهما كانتا فاقدتي أي أثر للرحمة!، لم تصدق تيماء منظر السلاح في يد قاصي و كأنها في فيلم اشد هزلية، فصرخت صرخة صغيرة و هي تتراجع للخلف قليلا في جلستها، بينما سمعت صوت أسلحة الغفر من خلفها ترتفع في وجه قاصي، بعد عدة لحظات من الصدمة، و بدأ الهتاف المستنكر مما يحدث...
ظنت تيماء أن قاصي قد وصل الى مرحلة قصوى من الجنون و فقد السيطرة على نفسه و قرر تهديدهما بالسلاح، الا انها بعد لحظة واحدة فقط، أدركت أن فوهة السلاح لم تكن موجهة اليها و جدها، بل كانت منحرفة عنها بمقدار مقعد، مقعد واحد فقط...
و حين أدارت عينيها المذعورتين قليلا، رأته يصوب السلاح تجاه الرجل الذي يجلس بجوارها بعد مقعد واحد، رجل ذو هيبة لا تختلف عن باقي المتواجدين، لكن عينيه كانتا تشبهان عيني أفعى خطيرة وهو يبادل قاصي النظر، لم تعرف من هو، لكن على ما يبدو أنه أحد أعمامها، فهو شديد الشبه بوالدها...
ضرب سليمان الرافعي بعصاه على الأرض مجددا بقوة وهو يهدر بقوة
(كفى، لا أريد صوتا).
عم سكون جزئي المكان المشتعل، بينما لم تتوقف الهمهمات الهلعة، بينما نظر سليمان الى قاصي بعينين نافذتين وهو يقول بصرامة
(ما هذا الذي تفعله يا قاصي؟).
الا أن قاصي لم يجبه، و لم ينظر اليه، بل كانت عيناه مصوبتان على هذا العم الذي يجلس بجوارها، و هو يبادله النظر بنظرة جامدة، تحمل في طياتها الحقد، كانت بينهما موجات من الكره و الإنتقام، ثم قال قاصي فجأة بصوت هادىء تماما، الا أنه صلب و كأنه الصوت الأخير و لا حديث بعده...
(برىء سمعة أمي، الآن، و أمام الجميع).
نقلت تيماء عينيها بينهما بذهول، بينما بقى هذا العم مكانه، صامتا، لا يتحرك، لم يهتز، لكن عيناه كانتا شديدتي البرود بدرجة أثارت النفور بنفسها، أما سليمان الرافعي فقد اكتفى بالنظر بينهما بصمت ليدرس ملامح كلا منهما...
قبل أن يهدر بصوت قاتم
(أغلقوا باب هذه القاعة، على الفور، لا أريد لأي غريب الدخول الى هنا).
هرول أحد الغفر الى الباب ليغلقه، الا أنه سمح أولا للشابة التي وصلت للتو بالدخول قبل أن يغلق الباب و يحكم رتاجه، وقفت مسك عند الباب، تنظر بذهول الى المشهد الذي وصلت لتراه في تلك اللحظة، قاصي واقفا أمام جدها، ممسكا بسلاح و مصوبا اياه الى عمها عمران الرافعي، همست مسك بذهول دون أن يسمعها أحد ياللهي، ماذا تفعل يا قاصي؟
أما سليمان الرافعي، فكان ينظر الى قاصي برباطة جأش، مستندا الى عصاه، ثم قال أخيرا بصوت قوي
(تعرف يا قاصي أن رجالي من الممكن أن يردوك قتيلا على الفور)
شهقت تيماء بذعر و هي تلتفت خلفها لترى صفا من الأسلحة المصوبة الى قاصي، ثم عادت و استدارت اليه هاتفة برعب
(لااا، أخفض سلاحك أرجوك)
الا أن جدها ربت على يدها ليقول ناظرا الى قاصي.
(لا تخافي يا صغيرة، لا يستطيع أن يمس أحد فرد من أفراد عائلتي بسوء، أنت في أمان. )
لا لم تكن في أمان، لن تكون في أمان أبدا و هي تتخيل صورة قاصي مرميا أرضا و الدم يسيل من جسده، شهقت مجددا و هي ترفع يدها الى فمها، نهض سليم من مكانه و سبحته بيده، ليقترب من قاصي بسرعة قائلا بلهجة حذرة كمن يهمس لفرس شرس.
(وحد الله يا قاصي و اخفض سلاحك، لا تقدم الدم)
لم يلتفت اليه قاصي، بل توحدت عيناه مع عيني ذلك العم المدعو عمران الرافعي، وهو يقول (الدم سبق و سال ظلما يا سليم، و أنت تعرف ذلك، و العدل في أن يسيل دمه المدنس كذلك)
اقترب سليم خطوة أخرى وهو يقول مترجيا
(لا يا قاصي، أبعد سلاحك و استعذ بالله من الشيطان)
الا أن قاصي قال بصوت حاد كالسيف المصقول (أمثاله لا يختلفون عن الشياطين).
هدر سليمان الرافعي بقوة (ماذا تعرف عن هذا الأمر يا سليم؟)
أطرق سليم بوجهه بعيدا عن وجه جده، بينما تسارعت أصابعه على السبحة وهو يستغفر الله همسا، و حين طال الصمت ضرب سليمان الأرض مجددا و صرخ عاليا صرخة هزت جدران المكان
(ماذا يعلم الجميع و أنا لا أعلمه؟، هل انخفضت هامتي و بت لا أعلم ما يدور من حولي؟)
التفت اليه سليم بصمت ولسانه لا يزال يستغفر الله همسا، قبل أن يقول بخفوت.
(اخفض السلاح يا قاصي، لا تفعل ما ستندم عمرك كله على اقترفته يداك)
هز قاصي رأسه نفيا وهو ينظر الى عمران دون أن يحيد بعينيه عن العينين الحاقدتين، ثم قال بخفوت بدا كمشرط حاد في الحرير
(بل العدل أن يعاقب على ما اقترفته يداه، بدمه يسيل على يدي، ستكون تلك اللذة التي انتظرتها طويلا).
اقترب سليم مجددا وهو يحاول ان يتفاهم معه و كأنه يراضي طفلا صغيرا (لن تجد اي لذة، صدقني، اخفض السلاح قبل ان تجد هذه اللذة تحولت الى مرار كالعلقم) قال قاصي بصوت كالجليد الصلب
(ليس قبل أن يبرىء سمعة أمي، فليعترف أمام الجميع أنها لم تكن خاطئة)
نظر سليمان الى عمران طويلا بتفكير صامت، قبل أن يقول بصوت غريب.
(هل قاصي يكون ابنك؟، لن تستطيع اخفاء هذا لو قررت التحقق من الأمر يا عمران) ظلت عينا عمران على عيني قاصي، قبل أن يرفع كتفه قائلا بصوت بدا منفرا، مثيرا للتقزز
(و اذا!، ابن زنا، لا أحد يجبرني على الإعتراف بابن زنا، كانت نزوة و مرت و الخاطئة هي أمه).
دون تفكير ضرب قاصي عدد من الأعيرة النارية، وهو يبدو مخيف الهيئة و النظرة، مما جعل تيماء تصرخ عاليا و هي تضع كفيها على أذنيها و تحني رأسها على ركبة جدها، مرتعبة من رؤية المنظر، لكن بعد عدد من الصرخات...
لم تسمع شيئا، فتجرأت على رفع وجهها الشاحب المذعور، لترى قاصي واقفا مكانه بنفس الهيئة دون أن تتحرك به شعرة، لكن عيناه، ياللهي، بدا مرعبتين أكثر...
نظرت بهلع الى عمها، فوجدته قد تراجع للخلف وقد ارتسم الذعر على ملامحه بأبشع صوره، و قد فقد سيطرته اخيرا...
حيث كان يلهث غير مصدقا أن الاعيرة النارية مرت فوق رأسه تماما، عم صمت مرعب المكان و الكل مذهول، بينما كان قاصي هو أول من تكلم، فقال بصوت خفيض النبرة...
شديد في ارعابه...
(أنا أجيد التصويب إن كنت لا تعلم، فلا تعيد ما قلته للتو، فلا أضمن أن تظل رأسك فوق عنقك المرة المقابلة لو اهتزت أعصابي و اختلت أصابعي)
شهقت تيماء زفيرا كان مكتوما، فخرج بصوت بدا كالتأوه، قال سليمان الرافعي، بهدوء غريب، ذو سطوة جبارة...
(أريد أن يخرج الجميع و يبقى أبنائي فقط).
بدا الجميع ينظرون الى بعضهم بقلق، و حاول بعضهم الكلام، الا أن سليمان رفع يده قائلا بقوة (لا مزيد من الكلام، فقط أبنائي، و قاصي و سليم و مسك) بدأ أبناء الأعمام و الأحفاد في المغادرة، الا أن سليمان قال قبلا بصوت آمر (لا أريد لكلمة مما ذكرت هنا أن تخرج من هذا الباب) أومأ البعض. و همهم البعض الآخر، الى أن خرج آخرهم و أغلق الغفير الباب مجددا خلفهم، كانت تيماء لا تزال مبهوتة مكانها و هي تمسك بكف يدها منذ فترة طويلة و كأنها تتشبث بها، بينما عيناها المعذبتين لم تتركا قاصي للحظة، انتبه اليها سليمان الرافعي، ثم قال بصوت بدا أقل سطوة و أكثر تعبا...
(لماذا لم تنفذي أمري و تخرجي يا صغيرة؟، ليس عليك التواجد هنا)
انتفضت تيماء ناظرة اليه ثم قالت بتوسل
(سأبقى، أرجوك، دعني أبقى)
نظر اليها جدها طويلا، قبل أن يومىء برأسه مجددا، ثم رفع عينيه الى قاصي ليقول بصوت مثقل بالهم
(أخفض سلاحك في حضرتي يا قاصي).
الا أن قاصي بدا كمن فقد السمع او الطاعة، كان محاطا بعالم يخصه وحده، عالم من الحقد و النشوة معا، كانت عيناه تفيضان بهما و هما تراقبان ذعر عمران الرافعي للمرة الأولى، ثم قال بصوت مشتد، صلب، باتر كالشفرة السارقة
(اربعة و ثلاثون عاما، اضطررت لانتظارها كاملة كي احيا تلك اللحظة، اربعة و ثلاثون عاما، سن متأخر جدا كي أنال منك، الا أنه كان على أن أشحذ كل قوة و كل سلاح عندي كي أكون قادرا على مواجهتك).
نظرت تيماء الى عمران الذي أخذ يلهث بصوت خشن، بينما تابع قاصي قائلا
(دم أمي الذي رأيته بعيني يسيل في خط حاد ببطىء. من عنقها الذي ينشطر بسكين أشد حدة، أشرف من دمك الذي سأريقه الآن، لكن ليس قبل أن تعترف).
أخذ يلهث بتحشرج، و عيناه تتسعان، بينما ملامحه المتغضنة بدت أكبر من سنه، على أنه أكبرهم بالفعل، سنوات طويلة مضت، اربعة و ثلاثون عاما فعلا!، عمر فوق العمر، سنوات قفزت بعمره الى الستينات من عمره، و لم يظن أن حادثة بسيطة كهذه ستطارده لتقف أمامه مجسدة و فاضحة بهذا الشكل العلني، قال عمران بصوت خشن، كريه
(بماذا أعترف؟).
كانت ملامح قاصي قاسية، قاسية كالرخام البارد، الا أن فكه التوى رغم عنه، و كأنما لمحت تيماء شفتيه و قد خانتاه و ارتجفتا للحظة، الا أن صوته بدا قاصفا وهو يقول
(أمي، لم تكن خاطئة، كانت مغتصبة)
أغمض سليمان الرافعي عينيه وهو يحني رأسه ليستند بها على كلتا كفيه فوق عصاه الواقفة أرضا، بينما همست تيماء بعذاب
(قاصي).
لم تدرك أن دموعها كانت قد انسابت من عينيها على وجنتيها بصمت، أما مسك فقد كانت واقفة مكانها، مستندة بظهرها الى الباب، تنظر اليه بحزن، مر وقت طويل، قبل أن يتمكن عمران من افتعال ضحكة متحشرجة، قصيرة، ثم قال بصوت خائب
(اغتصاب!، من تظنها كانت؟، عاملة جاهلة، حافية القدمين، من هي تلك ليغتصبها عمران الرافعي!).
عادت أصابع قاصي لتشتد على زناد السلاح، أما ملامحه فللمرة الأولى فقدت السيطرة على جمودها الجليدي، و عيناه اشتعلتا أكثر، و فكه بدا و كأنه يلتوى بإرادة شخص آخر، لا إرادته هو، كل عضلة به كانت مشتدة، و غير متحكم بها، سحب ابهامه الزناد، حينها لم تدري تيماء الا و هي تقفز واقفة أمام عمها فاتحة ذراعيها صارخة (لا يا قاصي، استحلفك بالله، أرجوك لا تفعل) تسمر مكانه و عيناه عليها، لكنه قال بصرامة (ابتعدي يا تيماء) صرخت دون أن تتحرك من مكانها (لن أبتعد، لو استعطت أن ترديني قتيلة قبله فلتفعل) ساد صمت طويل قبل أن يقول بصوت خافت (أنت لا تعلمين من تدافعين عنه) هزت رأسها يأسا و هي تهمس بمرارة و عذاب (أدافع عن من يا أحمق!، لو تحرك ابهامك حركة أخرى ستسقط صريعا قبل حتى أن تصبه برصاصة واحدة).
لم يبدو على قاصي الإهتمام بل قال بفتور ميت (لا بأس في ذلك اذن، ثمن بخس في سبيل المحاولة)
اقترب سليم المرتاع، ليقف بجوارها وهو يقول
(اذن تخطاني أنا أيضا).
: راقبته وهو يغلق أزرار قميصه باعتداد أقرب للغرور، نظرات عينيه الفجتين دائما، كانتا الآن متكاسلتان بإكتفاء مرضي، و كأنه قد نال للتو وجبة مرضية، ليست وجبة شديدة الفخامة، الا أنها فقط مرضية، هكذا هي ترى نفسها، جذبت بدور الغطاء حتى ذقنها بأصابع مرتجفة و هي ترمقه بنفس حالة الهلع الصامتة بعد كل مرة، رفع راجح عينيه المغرورتين اليها و قال بلا مبالاة، كانت تشعر بها و تدمر دائما...
(هل ستستلقين عندك طويلا؟، يجب أن نتحرك حالا في طريق السفر عودة للبلد، علينا أن نكون ببيت الرافعية قبل المغيب و إن كنت أشك أن نستطيع).
ابتلعت بدور ريقها بتوتر و هي تتأمل جسده الضخم قوي العضلات. ووسامته الفجة ككل ما به، راجح الرافعي كان حلم لكل فتاة تقع عيناها عليه، ربما ليس أكثر الرجال وسامة، الا أنه بالتأكيد يمتلك جاذبية صريحة أقرب للعبث الصريح، نظراته التي لا تعرف الخجل أو الحياء، و التي تشعر أي أنثى بأنوثتها، عينان تكاد ان تنطا بالرغبة الحسية لكل ما تراه و تقدره، أسبلت جفنيها فوق عينيها الحزينتين و و هي تتمسك بالغطاء الأبيض جيدا حول جسدها العاري بأصابع مرتجفة. و كأنها بهذه الحركة تنفي ما يحدث بينها و بين راجح، انتفض جسدها برهبة ما يحدث بينهما منذ عام كامل، عادت لترفع عينيها اليه لتراقب غروره، و عنجهيته الواثقة من قدراته، لم تصدق مدى سعادة حظها حين أخبرتها أمها أن راجح ابن عمها قد خطبها رسميا، صحيح أنه يكبرها باثني عشر عاما كاملة، الا أنه كان على الرغم من ذلك مطمع معظم بنات العائلة، و متأكدة هي بأنه مطمع الفتيات من خارج العائلة كذلك، و على الرغم من ذلك لم يتزوج حتى الثالثة و الثلاثين من عمره، الى أن فجأها هي بخطبتها دون غيرها، تعلم أنها جميلة بطريقة ما، أو على الأقل هذا هو ما تغذي به أمها ثقتها المزعزعة بنفسها، لكنها لم تكن متميزة بشيء، بل على العكس، ساقها العرجاء كانت هي دائما ما يلفت النظر اليها، و ليس جمالها، لذا لم تصدق حظها فعلا حين خطبها راجح، و عقد قرانه عليها سريعا، انتفضت بدور من أفكارها الشاردة البائسة على صوت راجح الذي قصف متحولا الى الفظاظة و لهجة الأمر.
(بدور!، توقفي عن احلام اليقظة التي تنتابك تلك و انهضي لتعدي نفسك، لقد تأخرنا)
لعقت بدور شفتيها المرتجفتين و سارعت بالإيماء طائعة دون كلام، لكن قبل ان تتحرك، بدتت مترددة، متخاذلة، تريد النطق، الى أن همست أخيرا بصوت بدى اشبه بالتوسل دون ان تدري، (
راجح، متى سيتم زفافنا؟).
لم يبدو عليه انه قد سمعها وهو يتابع تحضير نفسه، بإغداقها بكمية ضخمة من رذاذ عطره الذي يشابهه في الفجاجة، اوشكت بدور أن تلقي عليه السؤال مجددا بتوتر أكبر حين شكت أنه لم يسمعها، الا أنه قال بهدوء دون ان يلتفت اليها
(ما الذي جعلك تفكرين بالزفاف الآن؟) ا
تسعت عيناها بهلع لم تقصد اظهاره، بينما تمسكت أصابعها أكثر بالغطاء و كأنه يمنحها سترا خادعا، ثم قالت متلعثمة بقلق.
(لقد مضى عام على عقد قراننا يا راجح، لو، لو، علم أبي بما يحدث بيننا، فقد يقتلني، ستكون كارثة لو فضح أمري)
رفع راجح عينيه الوقحتين الى عينيها الضائعتين في المرآة، ثم قال ببرود
(و من أين له أن يعلم؟، نحن نتقابل هنا، على بعد مئات الأميال من والدك، حيث كليتك) عضت بدور على شفتيها و هي تنظر اليه متضرعة، ثم همست بخفوت.
(أخشى أن يراني أحد مثلا، أو أن، أو أن يحدث شيء ما، لم نحسب له حساب) عاد لينظر اليها بنفس الوقاحة، قبل أن يقول بهدوء يماثل في وقاحته وقاحة عينيه...
(الا تتناولين حبوب منع الحمل بإنتظام؟) احمر وجهها بشدة و أخفضت وجهها. مخفية عينيها عن عينيه الجريئتين، غير مصدقة لبساطة سؤاله. تماما كبساطة الأمر الذي وجهه لها منذ عام بالإنتظام على تلك الحبوب، كأي متزوجين اعتادا على بعضهما، ارتجف جسدها حين قال راجح بصوت أعلى كي ينبهها من شرودها، دون أن يرحم خجلها الذي لم يمت على الرغم من العام الذي مر بينهما وهو يعاشرها به...
(الا تفعلين؟).
همست بدور دون أن ترفع عينيها اليه
(بلى)
عادت ملامحه المشتدة لتلين ببرود، وهو يبتسم قائلا
(جيد، لا مشكلة اذن).
تجرأت بدور على رفع عينيها اليه مجددا و هي تقول بخفوت. الا أنه بدا أكثر اصرارا، و خوفا، (راجح أرجوك سرع من موعد الزفاف، أنت تعلم أن أن ما يحدث بيننا لن يرضي والدانا أو جدنا، ستكون كارثة في العائلة، كما، كما أنني أشعر أن ما يحدث بيننا خاطىء) ظلت عيناه تحاصرانها بصمت، و هي لا تستطيع تفسير نظراتهما، قبل أن يقول بابتسامة متملقة، أوهنتها
(كيف يكون خطأ؟، ألست زوجتي؟) همست بدور بترجي.
(لكنه يخالف العرف، و يحط من قدر أبي، و في عوائلنا ستصبح كارثة لو عرف الأمر، أنت تعرف أن العروس يجب أن تزف الى بيت زوجها في حفل يرفع رأس والدها يستمر لسبع أيام كاملة، و اطلاق الأعيرة، و الولائم).
كان صوتها قد بدأ يخفت تدريجيا و تشرد عيناها و هي تتحسر على تلك المنزلة التي ضيعتها على نفسها، حتى بعد الزفاف، لن تنسى أنها كانت له خلال فترة عقد القران بمنتهى السهولة، قال راجح بخفوت أكبر و قد تغيرت نبرة صوته و تحولت الى نغمة أكثر عبثا...
(هذا موضوع جدي تماما، على أن تتحدثي به و أنت مستلقية مكانك على هذا النحو، هممم) رفعت بدور وجهها اليه بسرعة و هي تتعرف على تلك النغمة بسهولة، لتراه يتقرب منها و عيناه تتحولان الى الجوع مجددا بعد الشبع، و من الجوع الى النهم، ذلك هو راجح، زوجها كما يفترض، تراجعت قليلا حتى التصق ظهرها بالسرير من خلفها، بينما هو يقترب و عيناه تترصادانها كالنمر. حتى وصل اليها فجلس على حافة السرير بجوارها وهو يميل بالقرب منها حتى لفحت أنفاسه ذات العطر المحفوظ بشرتها الحساسة، لاسعة نهاية أطرافها العصبية، مما جعلها ترتعش على الفور في ردة فعل مألوفة، و تمسكت بالغطاء أكثر و أكثر و هي ترفعه حتى ذقنها، ضحك راجح وهو يهمس بخفوت ملامسا فكها الناعم بشفتيه الشهوانيتين...
(الا ترين بأنك قد تأخرت قليلا في اظهار هذا الخجل الشهي و الرغبة المفاجئة في الإحتشام؟) أغمضت عينيها بأسى و هي تبعد وجهها عنه بغير مقاومة فعلية، هامسة بمرارة
(أرجوك لا تقل هذا)
اقترب منها أكثر. بينما تحركت شفتاه تعرفان سبيلهما حق المعرفة، فيضعفان من عزمها الزائل أكثر ليهمس في أذنها مزمجرا
(معك حق، لا داعي للقول، فالفعل أشهى)
مالت برأسها للخلف و هي تئن متوسلة.
(لا يا راجح، كفى أرجوك، يجب أن نغادر الآن، سنتأخر).
الا أنه كالعادة، لا يسمع الا رغباته، بينما باقي الأصوات بالنسبة له تضيع هباءا، حاولت جاهدة التمسك بالغطاء، الا أنه كان أكثر منها قوة وهو يبعده بسيطرة، ليلحق به قميصه، بعد ساعتين، كانت بدور تجلس بجواره في السيارة شاردة، تنظر من نافذتها الجانبية و رأسها مستند بتعب الى زجاجها، المقاومة عبثية مع راجح، هذا ما اكتشفته منذ المرة الأولى التي عاشرها بها، يومها كانت مسحورة بذهول بقبلاته المجتاحة على شفتيها المتبتلتين، و اللتين لما تعرفا معنى العشق من قبل، المرة الأولى التي اصطحبها فيها من كليتها بعد عقد قرانهما، كم كانت سعادتها مشرقة بخجل و هي تتباهى بزوجها الوسيم أمام صديقاتها بعد سنوات قليلة، كانت ترى بها الإرتباط من حولها في الجامعة، و قصص الحب شديدة التعقيد، دون أن تجرؤ يوما على خوض التجربة...
فهذا كان معناه أن تندلع كارثة في العائلة لو حدث و ارتبطت بزميل لها من خارج نطاق اسم الرافعية، لذا نائت بنفسها منذ البداية عن أي محاولة، لكن في الحقيقة، لم تكن هناك أي محاولات حثيثة تتقدم لها. فقد كانت تمثل صورة الفتاة العرجاء، الصامتة المتباعدة، التي لا تمتلك حضورا طاغيا أو شعبية مثيرة للنظر بأي شكل، مجرد جاذبية شكلية لم يلتفت اليها احد، لذا كان اليوم الذي جاء فيه راجح الى كليتها بعد عقد قرانهما بشهرين...
هو أجمل يوم بحياتها، فقط في بدايته، لا تزال تتذكر تفاصيل هذا اليوم جيدا...
يوم الذي هاتفها به، و أخبرها بنبرة تسلطية ذكورية غير مبالية تماما، بأنه في الخارج و ينتظرها ليقلها معه...
حينها عرفت الإبتسامة طريقها لوجهها الأقرب للطفولية الحزينة، وشعرت بنفسها كفراشة تخرج من شرنقتها المغبرة أخيرا...
للمرة الأولى تشعر بنفسها جميلة و هي تخرج بتباه و تسير اليه برشاقة متسارعة، و كأن عرجها قد اختفى فجأة، لن تنسى وقفته المهيبة مستندا الى سيارته الفخمة...
و لن تنسى نظرات أغلب الفتيات اليه بانبهار وهو يبدو متشاغلا عنهن بصلف، لن تنسى أنها همست لنفسها بعدم تصديق تتوجه سعادة متباهية هذا الوسيم، هو زوجي...
لن تنسى نظرته لها حين رفع رأسه اليها فجأة من على بعد، كانت نظرة غامضة، لم تستطع تفسيرها أبدا كانت خالية من الإبتسامة، متفرسة بكل تفاصيلها بجرأة، و مع هذا كانت تفتقد الى الرقة، بل كانت، كانت أقرب الى غضب مستتر، غضب جعلها ترتجف قليلا و تتعثر بخطواتها، لكن ابتسامته ما أن وصلت اليه أدفأت قلبها، على الرغم من عبثيتها و جرأة فحواها، ذلك اليوم أخذها الى شقته هنا في المدينة، بدلا من أن يصطحبها للبيت الذي تسكنه مع مجموعة من نساء البلد أتين خصيصا لخدمتها و محاوطتها بأمر من والدها كي تكمل دراستها الجامعية وحدها في المدينة، فقد كان والدها يستقر في بلده منذ مولده على عكس كثير من الأعمام ممن سافروا الى المدن و الى الخارج، والدها شديد الصرامة و البأس، قسوته في بعض الأحيان تكاد أن تكون أقرب الى البطش و العنف، ووالدتها لم تسلم من بطشه في الكثير من سنوات حياتها معه...
و قرار ان تكمل دراستها متغربة وحدها في المدينة كان أقرب للمعجزة...
لم تظن أنها ستتحقق أبدا. و بالعودة الى راجح في ذلك اليوم، كانت تتبعه كالمسحورة، حتى وهو يطلب منها المجىء الى شقته كي تراها، كانت تسير خلفه مغمضة العقل، بينما عينيها متسعتان، تتشربان من جاذبية رجولته الفجة، على تلك الأريكة الأنيقة، و هي تجلس مرتبكة و كفيها متشابكين، مخفضة وجهها الأحمر، كان هو جالسا بعنجهية بالقرب منها و بينهما مسافة مطمئنة، ظهره مستندا للخلف و ذراعه مرتاحة على ظهر الأريكة، يضع ساقا فوق أخرى وهو يتأملها بصمت مربك...
بينما دخان سيجارته الذي ينفثه، يجعل وعيها يدور قليلا، رفعت عينيها اليه...
لتجد أنه لم يبتسم، فقط كان يرمقها بتلك النظرات الغامضة، قبل أن يرمي سيجارته بعيدا غير عابئا أن حطت و ماذا أتلفت، و اقترب منها، ارتجفت بدور بقوة و هي تتذكر هول المشاعر التي انتابتها وهو يقتحم شفتيها اللتين لم تعرفا معنى القبلات يوما...
اعصار لفها و جعلها تقع به دون هوادة أو رحمة، أغمضت بدور عينيها و هي تتذكر هتافها برعب أرجوك يا راجح كفى، لا تفعل...
الا أنه بدا في تلك اللحظة كالمجنون، و صم أذنيه عن توسلاتها، بينما عضلاته القوية هزمت كل مقاومة لها شر هزيمة، نعم أول مرة بينهما كانت ضد رغبتها، على الأقل بعد الدقائق الأولى التي استسلمت فيها لمشاعر لم تعرفها من قبل، لكن ما حدث فيما بعد كان بالتأكيد ضد ارادتها، على أنه لم يستخدم العنف تماما...
لكنه نجح في هزيمة كل محاولات مقاومتها الضعيفة، لا يزال نحيبها هذا اليوم يزعج أذنها بصخبه، و ملابسها الممزقة المرمية أرضا ترهق عينيها، كان هو نهما و شديد الإنفعال...
بينما كانت هي واهنة الأوصال، مضعضعة القوى، من بعدها لم يتوقف راجح عن نيالها كزوجته، حتى اعتادته و اعتادت العلاقة معه، و كأنها أمر مسلم به، يطمئنها دائما بأنها زوجته و أنه لا داعي للقلق...
لكن العرف له رأي آخر، هامة والدها لها اعتبار، لم تشأ يوما أن تحنيها، على الرغم من قسوته، أغمضت بدور عينيها و قد انسابت منها دمعة ندم، فسارعت الى مسحها بظاهر يدها، فالتفت اليها راجح.
ليقول بعدم اهتمام.
(ماذا بك؟)
نظرت اليه بدوراليه منتفضة و سارعت بالقول
(لا شيء، مجرد ذرة غبار آلمت عيني)
لم يعبأ راجح، او على الأرجح لم يسمع جوابها، كانت عيناه على الطريق، ضيقتان، باردتان كالجليد، بينما روحه أبعد ما يكون عن البرود...
بل كانت تحترق مستعرة وهو لا يرى أمام طريقه سوى العينين العسليتين القويتين، سوار، تلك اللعنة التي ولدت و دمغته بتعويذة سحر، لا يستطيع التحرر منها حتى الآن...
ضاقت عيناه أكثر وهو يزيد من سرعة السيارة، بينما صوتها القوي الذي لم يفقد يوما نعومته على الرغم من صلابته، يداعب أذنيه و يزهق غروره، تسارعت انفاسه وهو يراها أمامه بكل بهائها الجلي، تلك الملكة التي طارت من بين أصابعه و لم يستطع نيلها...
كان مخطئا حين ظن بأن امتلاكه لها كان أمرا مسلما به، و غباءه في تقدير قدرات خصمه الحقيقة جعله يخسر تلك الحرب، لم يكن الخصم هو سليم يوما، بل كانت سوار نفسها، فتحت فمها لتجيب، الا أن الكلمات توقفت في حلقها و ماتت منصهرة و هي ترى القادم و الذي دخل الى المكان بهيمنة و سيطرة، ذلك المهندم بعد ترويض فرس جامحة منذ ساعتين فقط...
ذلك اللذي دخل و عيناه مسلطتان على عينيها بقسوة، بينما هالة من الرجولة تحيط به وهو يتقدم و كأنه يملك المكان...
قاصي الحكيم...
ساد صمت قصير المكان، صمت مشحون و متوتر، بينما قال قاصي بصوت واثق هادىء
(السلام عليكم يا كبير الرفاعية).
كان سلامه موجها الى جدها وحدها، مما يعد هذا أقرب للإهانة للكثير من المتواجدين، فنظرت تيماء بصدمة الى جدها و هي تتوقع منه أن يطرده و أن يطردها معه كذلك، كيف يفعل ذلك؟، بل لماذا يفعل هذا؟، الآن سيطردها جدها، أو ربما سيذيقها بعض مما أذاقها والدها منه قديما، الا انها انتفضت مذهولة و هي تسمع صوت جدها الرخيم وهو يقول بصوته الرخيم
(وعليكم السلام و رحمة الله، اجلس يا قاصي).
كانت تيماء فاغرة شفتيها لا تعرف ما يحدث بالضبط، ألا يعد مجرد عاملا لديهم؟، و مما أكد ظنها، هو صوت والدها الذي اندفع يقول هاتفا بقوة
(ماذا يفعل هذا هنا يا حاج سليمان؟، ماذا يفعل هذا الحقير هنا؟، مجرد وجوده هنا باجتماع عائلي ما هو الا إهانة لنا، إن لم يغادر حالا فسأغادر أنا)
ساد صوت همسات متوترة، و الأعمام ينقلون أنظارهم بين سالم، و قاصي.
الذي بقى مكانه صامتا بوجه ذو ملامح غامضة، ناظرا أرضا، لا خوفا أو شعور بالإهانة، انما تيماء تعرفه جيدا، فهو يخفض عينيه فقط حين لا يكون له القدرة على ترويض نظراته المستعرة، كانت ترتجف فعليا، ووجدت نفسها تشد بيديها على كفي جدها التي لا تزال ممسكة بهما...
و قفزت في جلوسها على صوت ضرب جدها للأرض بعصاه القوية، تلك الضربة التي تذكرها جيدا و لم تنقص قوة صلابتها بذرة، ثم هدر صوته بسلطة.
(منذ متى يهين أحد منكم ضيوفي يا سالم؟ )
الا أن سالم هتف بقوة هو الآخر
(إنه ليس من الضيوف يا حاج، ما هو الا مجرد وضيع ابن ح)
هدر صوت سليمان بقوة زلزلت الجدران بصداها
(اياك يا سالم بإكمال ما تنوي قوله، لا يهان من هو بدار سليمان الرافعي)
أشتد احمرار وجه سالم غضبا مجنونا وهو يرمق قاصي بنظرات تقتل بسم زعاف...
الا أن تيماء لم تهتم به في تلك اللحظة، بل كان كل اهتمامها المذعور منصب على قاصي على قاصي وحده، كان وجهه لا يزال مخفضا...
هو الوحيد القادر على اخفاض وجهه بينما تظل القوة مهيمنة على الهالة المحيطة به، لكنها رأت بوضوح اشتداد فكه، قبضتيه المضمومتين بقوة، عضلاته النافرة المتشنجة...
استطاعت أن تشعر بالنار في داخله تلفحها محرقة، منذ ساعة واحدة...
سمعت احدى العاملات بالدار تتكلم عنه، تتكلم عن الفتى مروض خيول الرافعية...
كانت كبيرة في السن و لا تزال تراه مجرد فتى، الفتى البائس الشرس، حين سألتها عنه أخرى أصغر سنا، فأجابتها بهدوء
قاصي الحكيم!
منذ سنوات و هو متواجد في هذه البلد باستمرار، و كأنه يرفض مغادرتها، من له مثل وضعه كان ليغادرها هربا من نظرة الناس اليه، الا أنه لم يفعل، بل كان يعود دوما، يعود متحديا كل من يجرؤ على الإساءة اليه، أتذكر وهو صبي...
كان يدخل في حروب ضارية مع الجميع، حتى مع من هم أكبر منه عمرا، و كان يخرج مصابا نازفا، الا أنه لم يستسلم يوما، و يوما بعد يوم تحولت شراسته في الدفاع الى قوة...
حتى زادت انتصاراته في حروبه الصغيرة، و بات الجميع يعلم أن من يدخل معه في تحدي يخرج منه خاسرا مهزوما...
صمتت قليلا ثم همست بخفوت لقد قطع لسان أحدهم ذات يوم، شهقت الأخرى و الأصغر سنا و هي تضع يدها على صدرها، بينما أومأت المرأة قائلة.
أحدهم نعت امه بلفظ شائن، و لقبه بابن حرام، لم يظن أن قاصي لم يعد ذلك الصبي الذي يتعارك بالعصي و الحصى، بل أشتد عوده و زادت شراسته في الدفاع، لذا قطع لسانه دون رأفة، قالت الصغرى.
و ماذا عنها؟، أمه؟، تنهدت تلك المرأة و هي تقول بخفوت أتذكرها، كانت مليحة و طيبة القلب، لكنها كانت بسيطة العقل كذلك، اختفت ذات يوم، و سمعنا أنها سافرت من بلد الى بلد، الى أن عاد أخاها ذات يوم مبشرا بأنه قد غسل يديه بدمها، المسكينة، عاشت سنواتها الأخيرة تفر من منفى الى آخر و في النهاية لحقها القدر، في تلك اللحظة كانت تيماء تستمع اليهما خارج المطبخ و هي مستندة الى الجدار، و رأسها متراجع للخلف، مغمضة العينين و يدها على صدرها...
نعم لقد كبرت على يديه، سنوات قليلة جدا الا أنها نقلتها أمامه من الطفولة الى الشباب، و باتت تعلم أن أمه خط أمر بالنسبة اليه، لا يسمح مطلقا بالكلام عنها، و كلما كبرت يوما، علمت أن هناك من هم ابناء غير شرعيين، لذا استنتجت الأمر وحدها منذ سنوات، و لم تعيره أهمية، لم يكن يهمها في ذلك الوقت سواه، قاصي فقط، دون أي ألقاب، لكنها لم تصدق أن يقطع لسان أحد!
ألم تعرفه حقا؟، أم عرفت منه ما أرادت رؤيته لا غير، أفاقت تيماء من شرودها الحزين على صوت والدها يقول برفض
(اعذرني يا حاج، أنا سأنسحب الآن، لن يجمعني بهذا الشخص مكان واحد)
الا أن قبضة جدها اشتدت على يدها حتى تألمت من قوة تلك القبضة المجعدة، و سمعت صوته يقول بشدة
(لا يغادر أحد من ابنائي المكان و أنا حي يا سالم، انتظر حتى وفاتي و افعل ما شئت، فهي لم تعد بعيدة).
قال سالم بصوت قاتم مكتوم، بينما عيناه القاسيتان ترمقان قاصي بنظرة حاقدة مهينة
(أطال الله عمرك يا ابي)
رفع قاصي عينيه في عيني سالم بنظرة تحكي الكثير فيها من التحدي، و القوة، و الثقة التي اكتسبها بالطريقة الصعبة و فرضها فرضا على من حوله، قبل أن يقول سليمان الرافعي بصوت قوي سلطوي
(اجلس يا قاصي)
لكن قبل أن يلتفت الى تيماء مجددا، قال بصوت عال وهو ينظر الى أبناءه و أحفاده.
(لقد طلب مني قاصي الحضور اليوم لأمر يخصه يريد قوله أمامكم، و دار الرافعية لا تطرد ضيفا حتى لو يوم العائلي، و لقد ذكرتها سابقا و سأكررها، قاصي في حمايتي، فلا يحاول أحدكم التطاول عليه)
نظر الى الجميع، ليرى من سيحاول الإعتراض على أوامره، الا أن أحدا لم يجرؤ على معارضة كبير الرافعية، لذا نظر راضيا، ثم قال بصوت آمر.
(اتخذ مقعدا يا قاصي و اجلس، ليس هناك من أسرار، بل الليلة ليلة فرح عندنا و مرحب بك) نظرت تيماء اليه مصعوقة وهو يسير بتمهل و ثقة الى ان جلس على أحد المقاعد، ثم رفع عينيه الى عينيها مباشرة، حاولت جاهدة ابعاد عينيها، صدقا حاولت...
لكنها فشلت، و كأنه دائما يرمي شباكا مسيطرة على نظراتها فيأسرها الى قربه. دون حتى أن يحرك اصبعا واحدا، انتفضت مجددا على صوت جدها وهو يربت على كفها قائلا بهدوء به بعض الدلال.
(الآن أخبريني عنك يا صغيرة، كيف أصبحت و ان كنت أراك في أفضل حال كما تمنيت دائما)
نظرت تيماء بذهول الى جدها و هي لا تزال فاغرة الشفتين، شاحبة بدرجة كبيرة، و طال بها النظر اليه. قبل أن ترمش بعينيها و هي تهز رأسها قليلا كي تجلي تفكيرها المزعزع...
ثم ابتلعت ريقها و هي تخفض وجهها قليلا...
كيف ستفعل ذلك بوجود قاصي؟، لم تتخيل هذا ولو في أسوأ كوابيسها، همست لنفسها دون صوت.
ياللهي!، انقذني، لكنها رفعت وجهها الشاحب الى جدها، ذو الوجه المتغضن و مع ذلك لم يفقد قوته، لحيته ازدادت بياضا رغم أنها كانت بيضاء يوم رأته، الا أنها كانت رمادية، تمنحه الهيبة و الوقار، همست تيماء بخفوت
(سأبدأ في التحضير لرسالة الدكتوراة، أنوى نيالها من الخارج ان شاء الله، قد يطول سفري هذه المرة يا جدي).
ما هذا الغباء الذي تقوله؟، ما علاقته بأي شيء؟، الا أن جدها لم يظهر عليه الإستهجان أو حتى اللامبالاة، بل قال بصوت فخور
(ماشاء الله، ماشاء الله، أولاد عمك ناولها في عمر أكبر منك، أما الفتيات فقلة منهم من اهتمت و ثابرت، أما أنت فكأختك مسك تماما، قوية، صلبة، من عصب الرافعية، لقد أفلح سالم في تورثكما دم هذه العائلة).
لم تستطع تيماء منع الإبتسامة الساخرة من الظهور على شفتيها، لم يكن هناك أي فضل لسالم الرافعي في نشأتها سوى تمرير بعض الجينات المنسوبة لهذه العائلة...
و هذا ما يدركه جدها، و لم يجد بالفعل أي ميزة أبوية له غيرها ليشيد بها، على الأقل بالنسبة لها، أما مع مسك فالأمر مختلف...
فمسك كانت و ستظل دائما ضياء عينه، تعلم هذا منذ سنوات طويلة، و توقفت عن الإهتمام بالأمر منذ آخر مواجهة بينهما...
رفعت تيماء وجهها الحزين الى جدها حين ناداها كي تستفيق من شرودها، ثم قال بهدوء
(آن الأوان كي تعودي الى عائلتك يا صغيرة، الا أن تعمدي الى السفر و الابتعاد من جديد كطائر مهاجر بلا وطن!)
أسبلت تيماء جفنيها و قالت بهدوء خافت
(الطريق يرسم نفسه يا جدي، و يناسب طموحي، لدي هدف و أريد تحقيقه)
قال جدها مبتسما بهدوء و رضا ظاهريين.
(ليس لي أن أمنعك عن تحقيق هدفك، فالأمر سيكون بين يدي زوجك، فأحسني الإختيار) ارتجفت تيماء و هي تشعر بعيني قاصي تتسلطان عليها أكثر بعد كلمات جدها، و نارهما تلفحها بشدة، ياللهي تكاد أن تشعر به يرمقها دون رحمة، لكنها لم تكن لتخافه، ما تخافه ليس الأذى من قاصي، ما تخافه هو الضعف، و قد اتخذت قرارا ذات يوم و اقسمت عليه، الا تضعف أبدا، لذا رفعت وجهها الى جدها و ابتسمت بصمت، قبل أن تقول بخفوت و تمهل كي يسمعها قاصي بوضوح قبل جدها.
(هذا ما أردت مكالمتك به يا جدي، هناك أمر خاص أريد أن اتحدث معك به)
قال سليمان بهدوء مبتسما) أيا كان ما تريدينه يا صغيرة تكلمي براحة، أم أنه سر؟)
نظرت اليه و قلبها يدق بقوة و عنف، كم تمنت لو ترد عليه بالايجاب و تخبره بأنه سر لعل و عسى أن تنجح في الانفراد به، فتطلب منه طلبها، ثم تهرب سريعا، و تتجنب مواجهة قاصي، الذي اكتشفت أنه كان، ينتظرها! تبا يا قاصي، تبا، لكنها لم تعتاد الهرب...
فلتقطع عرقا ليسيح دمه و تنهي الأمر مهما بلغ ألمها، و الذي كانت تعتقد أنه سكن منذ سنوات طويلة، رفعت تيماء ذقنها و شجعت نفسها قائلة بهدوء و بصوت أعلى نبرة قليلا
(ليس هناك أي أسرار يا جدي)
صمتت قليلا تلتقط نفسها قبل أن تقول و هي تشد على كف جدها
(لي زميل لي في الجامعة، في الواقع هو استاذ، كان استاذي قبل أن يصبح زميلي الآن، وهو من أسرة محترمة عريقة، طلب أن).
بينما هي تتكلم، شعرت بقاصي يتحرك من مكانه، دون أن ينهض، الا أنها شعرت بجسده القوي ينتفض! لمحته بطرف عينيها، و رأت وجهه يرتفع، بينما ازداد وهج نظارته الصامتة، فأغمضت عينيها متشبثة بالقوة و تابعت بصوت أكثر صلابة
(طلب مني ابلاغك بأن).
لكن هذه المرة لم يكن قاصي هو السبب في مقاطعتها، بل سليمان الرافعي، الذي شعرت بيده فجأة تطبق على كفها بقوة، فرفعت وجهها اليه لتجد ان الرضا قد تبخر من ملامح وجهه. و ظهر الاستياء عليه...
بينما تحولت نظرات عينيه الى نظرة اقرب للقسوة. للمرة الأولى، لكنه حين تكلم، قال بصوت عال سعيد مخالف لنظرة الرفض في عينيه
(قبل أن تتابعي كلامك يا صغيرة، لما لا أبدأ أنا بحكم العمر؟).
أجفلت تيماء قليلا و هي ترى عدم الرضا بوضوح على ملامحه، و كأنه قد فهم تماما فحوى حوارها. مثلما فهمه قاصي، لكنها لم تجد سوى أن تجيب بهدوء
(طبعا يا جدي، تفضل)
امسك بساعدها الرقيق يشد عليه وهو يتأمل وجهها مبتسما، قبل أن يشير بعصاه الى أفراد عائلتها المتجمعين بقاعته الخاصة قائلا بقوة
(أنت يا صغيرة قد كبرت و اصبحت عروسا ترفع الرأس، هؤلاء هم أبناء عمومتك، اختاري منهم زوجا لك).
للحظات لم تستوعب، لم تستوعب ما نطق به و كأنه تكلم بلغة غريبة عليها، لكن الكلام الذي علا بعدها كان دليلا على أن ما سمعته صحيحا، فنظرت بذهول الى أفراد عائلتها وهو يتحدثون بدهشة و تعجب فيما بينهم...
بعضهم مبتسم و البعض الآخر مستنكر وجودها من الأساس، بينما الشباب منهم ليسو مستائين أبدا، فقد علت وجوههم نظرات تشبه نظرات الاستعداد للتزاوج، خاصة و أن أمامهم أنثى جذابة الملامح. غريبة الشكل عن معظم بنات عمومتهم، بعينيها الفيروزيتين...
قد ترضي غرور أي منهم حين تختاره دون الباقين، وحده فريد هو من كان ينظر بهدوء الى ما يحدث وهو يقضم عصا من البقسماط قدمت له قبل أن يدخل...
استقرت عينا تيماء على وجه والدها الذي ازداد لونه الداكن و كأن سوادا قد انتشر به، ليزيدها نفورا منه، على الأرجح أنه يراها قد احتلت مكانة كانت تخص مسك ابنته وحدها...
شيئا ما جعلها تحرك عينيها عنه في اتجاه آخر، اتجاه جذبها كمغناطيس لا سبيل للفرار من قوته، فاصطدمنا بعيني قاصي...
حينها فغرت شفتيها أكثر و تراجعت قليلا لهول ما رأت بهما، كان ظهره قد انتصب في جلسته...
و تحفزت عضلاته الضخمة بتشنج، بينما استعرت عيناه في ذهول بدا أقرب للرغبة في قتل أحدهم، وهو ينقل نظراته المصعوقة بينها و بين جدها، ارتجف قلبها بين أضلعها و هي تراه لم يكن مستعدا لما سمعه للتو، إنها المرة الأولى التي ترى بها قاصي غير مستعدا لشيء ما...
و كأن الأمور قد خرجت عن نطاق سيطرته لأول مرة...
عاد جدها ليشد على يدها، فأقافت من هذه المسرحية الهزلية على صوته الذي يقول راضيا انما لا يخلو من الحزم و الصلابة، و كأنها لهجة تحمل شيئا ما، كتحذير خفي...
(اختاري يا تيماء، أرى أن كلا منهم الآن يتخيل نفسه سعيد الحظ)
كانت تنظر اليه بذهول ظهر على وجهها بملامح من الغباء، و قد غادرتها القدرة على النطق، رمشت تيماء بعينيها قبل ان تتكلم ببطىء، كي يحاول جدها أن يفهمها بوضوح.
(جدي، أنت لم تسمع ما جئت كي أخبرك به بعد، أنا)
قاطعها جدها قائلا بصوت اكثر وضوحا
(اختاري زوجك أولا، لنقرأ الفاتحة، ثم بعدها لنسمع ما تودين قوله)
هزت رأسها قليلا و هي ترفع يدها الى جبهتها الباردة المتعرقة، اي موقف هذا الذي وضعت به للتو؟، على العلن أمام عدد ضخم من أشد الرجال، أعمامها، الأشقاء و الغير أشقاء، و أبناء أعمامهم، و الشباب الأصغر سنا من ابنائهم، و هم المفروض من عليها أن تختار بينهم...
كيف ترفض بلباقة أمام هذا الحشد محرجة جدها؟، تكلم جدها قائلا مجددا بسرور وهو يشير بعصاه.
(ربما لم تتعرفي عليهم بعض، انظري اولا الى العازبين ممن ستختارين منهم، زاهر ابن عمك الاكبر مهندس زراعي، ولقد أصبح حديثا من أعمدة هذه العائلة، بعد أن استقر هنا منذ عدة سنوات، و هذا أمين ابن عمك راشد، يدير تجارة والده حديثا ايضا بعد أن عمل معه لسنوات منذ طفولته، بينما الذي يجلس هناك هذا هو عرابي ابن عمتك مشيرة و ابن ابن عم والدك، وهو مهندس ناجح و لديه شركة ضخمة، مستقر في المدينة، لكنه لا ينقطع عن زيارة البلد ابدا).
صمت قليلا عابسا، ثم تنحنح قائلا بعدم رضا و كأنه يحاول الا تسمعه
(أما هذا الذي يجلس هناك في الطرف، هذا المتفرج و الذي لم يتوقف عن تناول العصي في يده، متناثر الشعر هذا، فهو فريد، ابن عمك غانم و شقيق سوار، طبيب مستقر في المدينة، الا أنه متمرد قليلا، سيتعبك جدا في الواقع).
أبعد فريد البقسماط عن فمه عابسا وهو يسمع نبرة جده التي اختلفت عين تحدث عنه، بينما كانت تيماء تنظر اليه و هي لا تزال في حالة من حالات الطفو فوق سطح هذا الكابوس الذي تعيشه، أغمضت تيماء عينيها و هي تقول بصلابة خافتة
(جدي، أعطني فرصة رجاءا)
الا أن جدها قاطعها قائلا بهدوء ووضوح
(أنت لن تخرجي من هنا الا و أنت مخطوبة لواحد من أبنائنا، آن أوان عودتك يا صغيرة).
فتحت عينيها فجأة و هي تنظر اليه بصمت مشتد الحدة، العبارة الأخيرة جعلت عضلات جسدها تتحفز بقوة، و أنفاسها تتسارع بغضب حاولت إخفاءه...
كانت عيناها شديدة الشبه في تلك اللحظة بعيني جدها وهو يبادلها النظر بنظرة أكثر صلابة، لكنها لم تكن لتستسلم رغم فظاعة الموقف، لذا رفعت وجهها أكثر و قالت
(أنا).
صمتت فجأة و هي تشعر بمن كان يراقبها مصعوقا يتحرك و ينهض من مكانه، فالتفتت و هي ترى قاصي واقفا، و عيناه عليها، قبل أن يتحرك تجاههما ببطىء و تحفز...
تسمرت تيماء مكانها و هي تتسائل بذهول
ما الذي يفعله هذا المجنون؟، هل ينوي ايقاف ما يحدث؟، ترحب بهذا بشدة لكنها لا تثق بطبيعة تصرف قاصي، فقد يتسبب في احداث كارثة!
أرادت أن تأمره بأن يعود مكانه، و أنها كفيلة بأن تحرر نفسها من هذا المأزق، فقد كان قاصي دائما فرسا جامحا مع الجميع، مروضا على يديها وحدها، لكنها لم تستطع النطق أمام هذا الجمع، فقط اعتمدت على عينيها اللتين طالما فهم نظرتهما...
و أمرته بهما أن يعود الى مكانه، لكن عيناه جوابت عينيها، و رفضتا الإمتثال للأمر، كانتا صارختي النظرة، و ملامحه تنذر بالشر، بينما صدره يعلو و يهبط بسرعة، كان غريبا، غريبا جدا، و كأنه كان ينتوي شيئا بينما قرر أن يسارع به قبل موعده، توقفت أنفاس تيماء تماما و هي ترى خطورة الوضع، بينما بدأ السكون يعم المكان والجميع يرون اقتراب قاص بتحفز من جدها، جدها الذي انتبه الى اقترابه، فرمقه بصمت قبل أن يقول بصوت أجش.
(ماذا تريد يا قاصي؟)
الا أن قاصي لم يجب، بل ظلت عيناه على تيماء ووجهه متصلب، فاقد للروح و الحياة، بعكس عينيه الغامضتين، المحتدتين بقوة ممتزجة بعذاب خفي، لا يراه الا هي فقط!، توقف قاصي على بعد عدة خطوات قليلة منهما وهو ينظر اليهما بصمت...
بينما عم السكون المكان كله، و فجأة مد قاصي يده الى ظهره، و أخرج سلاحا من حزام بنطاله ليوجهه ناحيتهما...
بينما أقل ما يقال عن عينيه في تلك اللحظة، انهما كانتا فاقدتي أي أثر للرحمة!، لم تصدق تيماء منظر السلاح في يد قاصي و كأنها في فيلم اشد هزلية، فصرخت صرخة صغيرة و هي تتراجع للخلف قليلا في جلستها، بينما سمعت صوت أسلحة الغفر من خلفها ترتفع في وجه قاصي، بعد عدة لحظات من الصدمة، و بدأ الهتاف المستنكر مما يحدث...
ظنت تيماء أن قاصي قد وصل الى مرحلة قصوى من الجنون و فقد السيطرة على نفسه و قرر تهديدهما بالسلاح، الا انها بعد لحظة واحدة فقط، أدركت أن فوهة السلاح لم تكن موجهة اليها و جدها، بل كانت منحرفة عنها بمقدار مقعد، مقعد واحد فقط...
و حين أدارت عينيها المذعورتين قليلا، رأته يصوب السلاح تجاه الرجل الذي يجلس بجوارها بعد مقعد واحد، رجل ذو هيبة لا تختلف عن باقي المتواجدين، لكن عينيه كانتا تشبهان عيني أفعى خطيرة وهو يبادل قاصي النظر، لم تعرف من هو، لكن على ما يبدو أنه أحد أعمامها، فهو شديد الشبه بوالدها...
ضرب سليمان الرافعي بعصاه على الأرض مجددا بقوة وهو يهدر بقوة
(كفى، لا أريد صوتا).
عم سكون جزئي المكان المشتعل، بينما لم تتوقف الهمهمات الهلعة، بينما نظر سليمان الى قاصي بعينين نافذتين وهو يقول بصرامة
(ما هذا الذي تفعله يا قاصي؟).
الا أن قاصي لم يجبه، و لم ينظر اليه، بل كانت عيناه مصوبتان على هذا العم الذي يجلس بجوارها، و هو يبادله النظر بنظرة جامدة، تحمل في طياتها الحقد، كانت بينهما موجات من الكره و الإنتقام، ثم قال قاصي فجأة بصوت هادىء تماما، الا أنه صلب و كأنه الصوت الأخير و لا حديث بعده...
(برىء سمعة أمي، الآن، و أمام الجميع).
نقلت تيماء عينيها بينهما بذهول، بينما بقى هذا العم مكانه، صامتا، لا يتحرك، لم يهتز، لكن عيناه كانتا شديدتي البرود بدرجة أثارت النفور بنفسها، أما سليمان الرافعي فقد اكتفى بالنظر بينهما بصمت ليدرس ملامح كلا منهما...
قبل أن يهدر بصوت قاتم
(أغلقوا باب هذه القاعة، على الفور، لا أريد لأي غريب الدخول الى هنا).
هرول أحد الغفر الى الباب ليغلقه، الا أنه سمح أولا للشابة التي وصلت للتو بالدخول قبل أن يغلق الباب و يحكم رتاجه، وقفت مسك عند الباب، تنظر بذهول الى المشهد الذي وصلت لتراه في تلك اللحظة، قاصي واقفا أمام جدها، ممسكا بسلاح و مصوبا اياه الى عمها عمران الرافعي، همست مسك بذهول دون أن يسمعها أحد ياللهي، ماذا تفعل يا قاصي؟
أما سليمان الرافعي، فكان ينظر الى قاصي برباطة جأش، مستندا الى عصاه، ثم قال أخيرا بصوت قوي
(تعرف يا قاصي أن رجالي من الممكن أن يردوك قتيلا على الفور)
شهقت تيماء بذعر و هي تلتفت خلفها لترى صفا من الأسلحة المصوبة الى قاصي، ثم عادت و استدارت اليه هاتفة برعب
(لااا، أخفض سلاحك أرجوك)
الا أن جدها ربت على يدها ليقول ناظرا الى قاصي.
(لا تخافي يا صغيرة، لا يستطيع أن يمس أحد فرد من أفراد عائلتي بسوء، أنت في أمان. )
لا لم تكن في أمان، لن تكون في أمان أبدا و هي تتخيل صورة قاصي مرميا أرضا و الدم يسيل من جسده، شهقت مجددا و هي ترفع يدها الى فمها، نهض سليم من مكانه و سبحته بيده، ليقترب من قاصي بسرعة قائلا بلهجة حذرة كمن يهمس لفرس شرس.
(وحد الله يا قاصي و اخفض سلاحك، لا تقدم الدم)
لم يلتفت اليه قاصي، بل توحدت عيناه مع عيني ذلك العم المدعو عمران الرافعي، وهو يقول (الدم سبق و سال ظلما يا سليم، و أنت تعرف ذلك، و العدل في أن يسيل دمه المدنس كذلك)
اقترب سليم خطوة أخرى وهو يقول مترجيا
(لا يا قاصي، أبعد سلاحك و استعذ بالله من الشيطان)
الا أن قاصي قال بصوت حاد كالسيف المصقول (أمثاله لا يختلفون عن الشياطين).
هدر سليمان الرافعي بقوة (ماذا تعرف عن هذا الأمر يا سليم؟)
أطرق سليم بوجهه بعيدا عن وجه جده، بينما تسارعت أصابعه على السبحة وهو يستغفر الله همسا، و حين طال الصمت ضرب سليمان الأرض مجددا و صرخ عاليا صرخة هزت جدران المكان
(ماذا يعلم الجميع و أنا لا أعلمه؟، هل انخفضت هامتي و بت لا أعلم ما يدور من حولي؟)
التفت اليه سليم بصمت ولسانه لا يزال يستغفر الله همسا، قبل أن يقول بخفوت.
(اخفض السلاح يا قاصي، لا تفعل ما ستندم عمرك كله على اقترفته يداك)
هز قاصي رأسه نفيا وهو ينظر الى عمران دون أن يحيد بعينيه عن العينين الحاقدتين، ثم قال بخفوت بدا كمشرط حاد في الحرير
(بل العدل أن يعاقب على ما اقترفته يداه، بدمه يسيل على يدي، ستكون تلك اللذة التي انتظرتها طويلا).
اقترب سليم مجددا وهو يحاول ان يتفاهم معه و كأنه يراضي طفلا صغيرا (لن تجد اي لذة، صدقني، اخفض السلاح قبل ان تجد هذه اللذة تحولت الى مرار كالعلقم) قال قاصي بصوت كالجليد الصلب
(ليس قبل أن يبرىء سمعة أمي، فليعترف أمام الجميع أنها لم تكن خاطئة)
نظر سليمان الى عمران طويلا بتفكير صامت، قبل أن يقول بصوت غريب.
(هل قاصي يكون ابنك؟، لن تستطيع اخفاء هذا لو قررت التحقق من الأمر يا عمران) ظلت عينا عمران على عيني قاصي، قبل أن يرفع كتفه قائلا بصوت بدا منفرا، مثيرا للتقزز
(و اذا!، ابن زنا، لا أحد يجبرني على الإعتراف بابن زنا، كانت نزوة و مرت و الخاطئة هي أمه).
دون تفكير ضرب قاصي عدد من الأعيرة النارية، وهو يبدو مخيف الهيئة و النظرة، مما جعل تيماء تصرخ عاليا و هي تضع كفيها على أذنيها و تحني رأسها على ركبة جدها، مرتعبة من رؤية المنظر، لكن بعد عدد من الصرخات...
لم تسمع شيئا، فتجرأت على رفع وجهها الشاحب المذعور، لترى قاصي واقفا مكانه بنفس الهيئة دون أن تتحرك به شعرة، لكن عيناه، ياللهي، بدا مرعبتين أكثر...
نظرت بهلع الى عمها، فوجدته قد تراجع للخلف وقد ارتسم الذعر على ملامحه بأبشع صوره، و قد فقد سيطرته اخيرا...
حيث كان يلهث غير مصدقا أن الاعيرة النارية مرت فوق رأسه تماما، عم صمت مرعب المكان و الكل مذهول، بينما كان قاصي هو أول من تكلم، فقال بصوت خفيض النبرة...
شديد في ارعابه...
(أنا أجيد التصويب إن كنت لا تعلم، فلا تعيد ما قلته للتو، فلا أضمن أن تظل رأسك فوق عنقك المرة المقابلة لو اهتزت أعصابي و اختلت أصابعي)
شهقت تيماء زفيرا كان مكتوما، فخرج بصوت بدا كالتأوه، قال سليمان الرافعي، بهدوء غريب، ذو سطوة جبارة...
(أريد أن يخرج الجميع و يبقى أبنائي فقط).
بدا الجميع ينظرون الى بعضهم بقلق، و حاول بعضهم الكلام، الا أن سليمان رفع يده قائلا بقوة (لا مزيد من الكلام، فقط أبنائي، و قاصي و سليم و مسك) بدأ أبناء الأعمام و الأحفاد في المغادرة، الا أن سليمان قال قبلا بصوت آمر (لا أريد لكلمة مما ذكرت هنا أن تخرج من هذا الباب) أومأ البعض. و همهم البعض الآخر، الى أن خرج آخرهم و أغلق الغفير الباب مجددا خلفهم، كانت تيماء لا تزال مبهوتة مكانها و هي تمسك بكف يدها منذ فترة طويلة و كأنها تتشبث بها، بينما عيناها المعذبتين لم تتركا قاصي للحظة، انتبه اليها سليمان الرافعي، ثم قال بصوت بدا أقل سطوة و أكثر تعبا...
(لماذا لم تنفذي أمري و تخرجي يا صغيرة؟، ليس عليك التواجد هنا)
انتفضت تيماء ناظرة اليه ثم قالت بتوسل
(سأبقى، أرجوك، دعني أبقى)
نظر اليها جدها طويلا، قبل أن يومىء برأسه مجددا، ثم رفع عينيه الى قاصي ليقول بصوت مثقل بالهم
(أخفض سلاحك في حضرتي يا قاصي).
الا أن قاصي بدا كمن فقد السمع او الطاعة، كان محاطا بعالم يخصه وحده، عالم من الحقد و النشوة معا، كانت عيناه تفيضان بهما و هما تراقبان ذعر عمران الرافعي للمرة الأولى، ثم قال بصوت مشتد، صلب، باتر كالشفرة السارقة
(اربعة و ثلاثون عاما، اضطررت لانتظارها كاملة كي احيا تلك اللحظة، اربعة و ثلاثون عاما، سن متأخر جدا كي أنال منك، الا أنه كان على أن أشحذ كل قوة و كل سلاح عندي كي أكون قادرا على مواجهتك).
نظرت تيماء الى عمران الذي أخذ يلهث بصوت خشن، بينما تابع قاصي قائلا
(دم أمي الذي رأيته بعيني يسيل في خط حاد ببطىء. من عنقها الذي ينشطر بسكين أشد حدة، أشرف من دمك الذي سأريقه الآن، لكن ليس قبل أن تعترف).
أخذ يلهث بتحشرج، و عيناه تتسعان، بينما ملامحه المتغضنة بدت أكبر من سنه، على أنه أكبرهم بالفعل، سنوات طويلة مضت، اربعة و ثلاثون عاما فعلا!، عمر فوق العمر، سنوات قفزت بعمره الى الستينات من عمره، و لم يظن أن حادثة بسيطة كهذه ستطارده لتقف أمامه مجسدة و فاضحة بهذا الشكل العلني، قال عمران بصوت خشن، كريه
(بماذا أعترف؟).
كانت ملامح قاصي قاسية، قاسية كالرخام البارد، الا أن فكه التوى رغم عنه، و كأنما لمحت تيماء شفتيه و قد خانتاه و ارتجفتا للحظة، الا أن صوته بدا قاصفا وهو يقول
(أمي، لم تكن خاطئة، كانت مغتصبة)
أغمض سليمان الرافعي عينيه وهو يحني رأسه ليستند بها على كلتا كفيه فوق عصاه الواقفة أرضا، بينما همست تيماء بعذاب
(قاصي).
لم تدرك أن دموعها كانت قد انسابت من عينيها على وجنتيها بصمت، أما مسك فقد كانت واقفة مكانها، مستندة بظهرها الى الباب، تنظر اليه بحزن، مر وقت طويل، قبل أن يتمكن عمران من افتعال ضحكة متحشرجة، قصيرة، ثم قال بصوت خائب
(اغتصاب!، من تظنها كانت؟، عاملة جاهلة، حافية القدمين، من هي تلك ليغتصبها عمران الرافعي!).
عادت أصابع قاصي لتشتد على زناد السلاح، أما ملامحه فللمرة الأولى فقدت السيطرة على جمودها الجليدي، و عيناه اشتعلتا أكثر، و فكه بدا و كأنه يلتوى بإرادة شخص آخر، لا إرادته هو، كل عضلة به كانت مشتدة، و غير متحكم بها، سحب ابهامه الزناد، حينها لم تدري تيماء الا و هي تقفز واقفة أمام عمها فاتحة ذراعيها صارخة (لا يا قاصي، استحلفك بالله، أرجوك لا تفعل) تسمر مكانه و عيناه عليها، لكنه قال بصرامة (ابتعدي يا تيماء) صرخت دون أن تتحرك من مكانها (لن أبتعد، لو استعطت أن ترديني قتيلة قبله فلتفعل) ساد صمت طويل قبل أن يقول بصوت خافت (أنت لا تعلمين من تدافعين عنه) هزت رأسها يأسا و هي تهمس بمرارة و عذاب (أدافع عن من يا أحمق!، لو تحرك ابهامك حركة أخرى ستسقط صريعا قبل حتى أن تصبه برصاصة واحدة).
لم يبدو على قاصي الإهتمام بل قال بفتور ميت (لا بأس في ذلك اذن، ثمن بخس في سبيل المحاولة)
اقترب سليم المرتاع، ليقف بجوارها وهو يقول
(اذن تخطاني أنا أيضا).