اخر الروايات

رواية طائف في رحلة أبدية الفصل العاشر 10 بقلم تميمة نبيل

رواية طائف في رحلة أبدية الفصل العاشر 10 بقلم تميمة نبيل 

الفصل العاشر
تنفس قاصي بنفاذ صبر...
قبل أن يهدر بغضب
(ابتعد يا سليم)
سمعت تيماء صوت مسك يقول بهدوء و ترفع
(حتى أنا يا قاصي؟، لو طلبت منك أن تخفض سلاحك)
نظر قاصي الى مسك بطرف عينيه، قبل ان تظهر شبه ابتسامة باهتة على شفتيه، لكنه عاد و قتلها سريعا، حينها استدارت تيماء برأسها الى جدها صارخة
(جدي افعل شيئا، اجعل رجالك يقيدونه أو أي شيء، اامنعه من أن يتهور، أرجوك).
ظل سليمان الرافعي على جلسته، رأسه محنية فوق عصاه، لفترة قصيرة، قبل أن يرفع رأسه ناظرا الى أحفاده، و أبناءه، ثم نظر أخيرا الى عمران، و قال بصوت غير مفسر
(اذن فهو ابن زنا؟)
ارتبك عمران، و شحب وجهه قبل أن يقول بصوت مهتز (كانت مجرد نزوة يا حاج، كنت شابا، و من منا لم يخطىء؟) هدر قاصي بقوة
(لم تكن نزوة، كانت اغ) ا
لا أن صرخة سليمان الرافعي كانت أعلى و أقوى و أشد رغم سنوات عمره التي تجاوزت الثمانين.
(كفى يا قاصي، كفى)
صمت قاص بصعوبة، بينما صدره يعلو و يهبط بسرعة شديدة، بينما نظر سليمان الرافعي أمامه وهو
يقول دون أن يلتفت الى ابنه عمران
(أصدقك يا عمران)
شحب وجه الأحفاد جميعهم، مسك و تيماء و سليم، أما قاصي فقد بدا وجهه غير مفسر، مزيج من القسوة والقهر، الا ان سليمان قال بهدوء متابعا
(قد لا يستطيع أحد اجبارك على الإعتراف بابن زنا، حد الزاني الرجم حتى الموت، و أنت اعترفت أمامنا الآن بارتكاب الزنا).
شحب وجه عمران حتى الموت، لكنه ضحك بعدم تصديق ليقول بعدها بتعثر
(ماذا تقول يا حاج؟، كانت مجرد)
هنا هدر سليمان بصوت أفزعهم جميعا...
(اصمت، اصمت)
عم المكان صمت مرعب، قبل أن يتابع سليمان بصوت مجهد
(لطالما كنت بذرة فاسدة و كنت أقنع نفسي أنك ستتغير يوما، حتى ملأ الشيب رأسك و أنا لم أقتنع بعد) أ.
غمض عينيه و قد بان عليه العمر بوضوح في تلك اللحظة، قبل أن يسأل سؤالا مباشرا
(من أيضا يعلم بهذا الأمر؟)
ساد صمت طويل و الجميع ينظرون الى بعضهم في نظرات اتهام، فمن منهم أغفل الشبه الواضح بين عائلة قاصي و هذه العائلة، و العوائل هنا تتزاوج فيما بينها منذ عقود طويلة...
لذا تكون كل عائلة واضحة الملامح و التشابه، الا أن أحدا لم يحاول نبش الأمر، أحدا لم يهتم بالفتى مروض الخيول ابن الخاطئة التي ماتت مذبوحة على يد أخيها منذ سنوات...
قال سليمان دون انتظار الجواب
(سالم)
انتفض سالم مكانه وهو يقول بصوت خافت
(نعم يا حاج)
صمت سليمان عدة لحظات قبل أن يقول دون أن ينظر اليه.
(أنت من اهتممت به حين شب عن الطوق، ربما كنت قد تكفلت أنا بتعليمه، لكنك استلمته و أوجدت له العمل حتى لم يعد لك غنى عنه).
كان سالم ينقل عينيه بين قاصي و تيماء بكره أسود، قبل أن يقوم بصوت مشتد
(و ليتني لم أفعل يا حاج، لقد آويت أفعى سامة، لدغتني ما أن آمنت لها)
شحب وجه تيماء بشدة، و نظرت الى قاصي خوفا، لكن قاصي كان ثابتا، لم يلتفت الى سالم، بل كانت ملامحه صلبه، عيناه تنظران الى عيني تيماء، بينما السلاح لا يزال في يده موجها الى صدرها و كأنه و السلاح أصبحا جزءا واحدا، شعرت تيماء.
في تلك اللحظة أن العالم قد اختفى من حولهما و هي تقف أمامه مفتوحة الذراعين، و عيناه أصبحتا ملكا لها وحدها مجددا، فهمست بتوسل
(أرجوك، ابتعد)
ابتسمت شفتاه لها!، بهذا الموقف الكارثي المجنون، ابتسمت شفتاه لها فعلا!، ابتسامة خافتة حزينة، مالت لها شفته المشقوقة قليلا، لم تكن شبيهة للإبتسامة التي ابتسمها لمسك منذ لحظات...
بل كانت خاصة بها وحدها دون غيرها، تبا لحنان ابتسامتك في أشد الأوقات خطرا، و كأنه قد اختار أن يوهن ساقيها في تلك اللحظة بالذات كي تكف عن مجادلته، اختار سليمان تلك اللحظة كي يقطع حوارهما الصامت، قبل أن يقول بصلابة
(أعرفك أكثر مما تعرف نفسك يا سالم، لو لم يكن لديك فائدة عائدة من وراء الصبي لما اهتممت به لذرة)
انتفض سالم وهو يهتف مستنكرا.
(هل هذا جزائي يا حاج؟، بعد كل ما نالني من دنائته و تطاوله على حرمة بيتي؟)
رفع سليمان وجهه الى سالم ليقول بعد فترة طويلة.
(من تظن نفسك تحادث؟، إنه أنا، والدك، أعرف شرهك و أطماعك و كل نقطة ضعف كنت تستخدمها ضد أخيك...
الأرض هي غاية همك و كل مطمعك، يقتلك أنك لم تنجب الولد الذي يرثها، و أن الفتيات لدينا لا يرثن الارض، حاولت مرة و اثنتين و ثلاث و لم تفلح، لذا قررت في النهاية استخدام طابة تذل بها شقيقك)
بهت وجه سالم وهو يستمع الى والده، الذي تابع قائلا بهدوء
(أعترف بأنك لم تكن شديد الوطأة في الفساد مثله، الا أن أطماعك مختلفة، ثابتة، طويلة النفس)
تنهد سليمان وهو ينظر أرضا بتعب، قائلا و كأنه يكلم نفسه.
(كيف أغفلت الشبه الواضح كل تلك السنوات؟، متى ضعف بي النظر و كبر العمر؟، لم تكن تفوتني صغيرة أو كبيرة، كنت أعرف مكان خطوة كل منكما قبل أت تطئها قدمه).
صمت مجددا، و قد بدا شديد التعب و الإرهاق، قبل أن يرفع عينيه الى قاصي قائلا بخفوت (لا أستطيع قتل ابني، لا يمكنني فعلها، لم ألمس الدم يوما، و لن أستطيع البدء به، و لا أظنك ستفعل، ها هو أمامك و رجالي لن يحركوا ساكنا)
شهقت تيماء بصوت عال و هي لا تزال مكانها مفتوحة الذراعين ترفض التحرك من مكانها، بينما قال سليم بقوة
(لا يا قاصي، لا).
كانت عينا قاصي مسمرتين على وجه عمران الذي تحول الى مذهول بمنظر مخزي، و يده تحيد بالسلاح عن تيماء كي تطال عمران وحده، حينها هتفت مسك بقوة
(لم تكن أمك لترضى بذلك يا قاصي، نعم ستحقق العدل الا أنك ستضيع رحلتها الطويلة في سبيل الحفاظ عليك...
لقد حمتك بحياتها و ضحت بنفسها كي تحيا أنت، و انت ستقضي على حياتك لو فعلتها، أي أنك ستكون أنت و هي قد خسرتما حياتكما. لا واحد، عملية حسابية بسيطة...
و ما النتيجة؟، لا شيء، لقد عاش عمره و عاث فسادا، لا أظنك ستكسب الكثير بتلويث يدك بدمه)
ظل قاصي صامتا طويلا، قبل أن يقول بصوت ميت...
(لقد اغتصب أمي، و ها أنا أقف هنا و انطق هذه الجملة على مسمع عشرات الرجال، ماذا تتوقعين مني؟)
اقتربت مسك خطوة ثابتة دون أن تتوسله، و هي تقول بقوة
(لن تستطيع العدل بيدك، هذه جريمة لا يمكن اثباتها و قد مر عليها دهر)
هتف عمران بقوة.
(ماذا تريد؟، اسمي سأمنحه لك على العلن، و سأعوضك بالمال عن السنوات الماضية، ستخرج رابحا من تلك الصفقة)
التوت شفتي سليمان بتقزز وهو يبعد وجهه عن مرآى ابنه، بينما ابتسم قاصي بتلذذ و احتقار في آن واحد، ثم قال بهدوء
(اسمك يلوثني و لا أتشرف به، لم أستطع يوما نطقه كاملا، احتفظ به لنفسك و لتأخذ مالك معك الى قبرك)
اطرقت تيماء بعينيها و هي تهمس لنفسها مصدومة k r!
كل عام، كان قريبا مني كل عام من سنوات سفري! أغمضت عينيها بقوة و ألم، بينما هتف عمران
(افعل شيئا يا حاج، لا يمكنك تركي هكذا و أنت لديك كل هؤلاء الرجال و السلاح، افعل شيئا)
زم سليمان شفتيه وهو ينظر ارضا. قبل أن يضرب الأرض بعصاه لينهض واقفا، قائلا
(نعم سأفعل)
ثم نادى أحد الغفر ليقول بعدها
(خذوه من هنا الى مخزن المواشي، قيدوه و اطلب محامي العائلة، افعلوا معه كل ما يجب الى أن يصل المحامي...
فحين يصل أريده أن يكون مستعدا للتنازل عن كل قرش من أملاكه، ثم يخرج بعدها من البلد كلها و لو عاد أردوه قتيلا على الفور...
أما إن لم يكن مستعدا فدعوه هناك تحت حراسة، يوم، اثنين، اسبوع، عام، الى أن ينتهى عمره الذي أفناه في تدنيس كل مكان يذهب اليه)
مر سليمان بقاصي فوقف بينه و بين تيماء، ليقول بخفوت متعب
(لا أظنك تقتله يا ولدي، انت حفيدي، فلا تعاقبني على تقدم عمري و ضعف نظري و اغفالي، بفقدك مجددا).
تحرك مبتعدا عنه دون أن ينتظر الجواب، لكن قبل أن يخرج الباب، نادى قائلا
(حين أعود أريد أربعتكم فقط هنا، سالم و مسك و تيماء و قاصي، أحتاج للتفكير قليلا)
ثم خرج بوقار، قبل أن يرى جميع الأعمام الرجال وهم يقتادون عمران الذي كان أكبر و اكثر و هنا من النجاح في المقاومة، بينما كانت ملامحه مخزية وهو يهتف متوسلا
(يا حاج، يا حاج).
ارتمت ذراع قاصي الى جانبه وهو لا يزال ممسكا بسلاحه، و حينها ترك لملامحه حرية التعبير عن مشاعره، كم بدا وجهه في تلك اللحظة لوحة لن يستطيع أعظم الفنانين رسمها بدقة، أمسك سليم بذراعه يقول بقوة
(أحسنت يا قاصي، لن تندم، لن تندم)
نظر اليه قاصي بصمت وهو يتنفس بسرعة و تعب، و كأنه عاد للتو من سباق مضن، ثم قال بصوت غريب، خافت، مشتد على حافة الخطر
(اذن لماذا لا أشعر بالراحة؟).
شد سليم على ذراعه ليقول بقوة و اصرار
(لا بأس، لا بأس، كل هذا سيمر، صدقني)
قالت مسك بهدوء و ثقة
(لديك غاية أكبر، فعلت كل هذا لأجلها، هل ستتركها الآن بعد أن وصلت الى هذه النقطة؟) رفع قاصي عينيه الى عيني تيماء الباكيتين بعد أن ارتمت جالسة على الكرسي من خلفها...
قبل أن تجش ببكاء عنيف، دافنة وجهها بين كفيها، بدأ باقي الأعمام في الخروج واحدا تلو الآخر وهم يشعرون بالذهول من صدمة ما حدث أمامهم للتو...
و أخاهم الذي سيق في لحظة أمام أنظارهم الى مخزن المواشي!، بينما قاصي يقف أمامهم بسطوة لم يضيعها عذاب عينيه المشتعلتين، يتحدى أيا منهم في الكلام معه، لكن أحدا لم يفعل، كانو أكثر توترا من المحاولة...
و لم يبقى في القاعة سوى خمسة أفراد فقط، ظل قاصي واقفا مكانه ينظر الى تيماء التي كانت منخطرة في بكاء عنيف...
فعقد حاجبيه و التوى حلقه بتشنج قبل أن يطرق الأرض فجأة وهو يندفع للخروج سريعا، رفعت تيماء وجهها المحمر المغرق بالدموع و هي تسمع خطوات قاصي القوية...
فرأته وهو يخرج، حينها لم تستطع منع نفسها من الفقز واقفة لتجري خلفه...
الا أنها و قبل أن تتحرك وجدت نفسها وجها لوجه مع سالم الرافعي...
و على الرغم من عينيها المتورمتين من البكاء ووجهها الأحمر، الا أنها رفعت ذقنها بكبرياء و تحدي، تنظر اليه طويلا، كانت نظرته لها باردة، جليدية، لم يظهر بها أي أثر لعاطفة الابوة، و هذا ما كانت تنتظره منه تماما...
تكلم سالم ليقول بصوت قاسي.
(ستجرين خلفه، اليس كذلك؟، بعد كل ما تدعين الوصول اليه، . ها أنت تركضين خلف شخص لم يكن أكثر من خادم عندي، بالكاد أشعر بالشفقة عليه، ابن زنا، لا يمكنك التغير أبدا، العبث بدمك و زيك هذا لن يخدعني كما خدع والدي، أنا آسف لانك ابنتي)
ظلت تيماء تنظر اليه ببرود ملامح، بعكس عينيها اللتين تحولتا الى شظيتين من لهب أخضر داكن، و ساد صمت قليل قبل أن تقول بخفوت، لكنها شددت على كل حرف من حروف كلماتها.
(و أنا أخجل من أبوتك و اسمك الملتصق باسمي، قاصي كان محظوظا بأنه ولد متطهرا من اسم دنس شرف والدته، أما أنت فقد اجبرني اسمك على الالتصاق بك كل يوم من أيام حياتي)
ابتسم سالم ابتسامة اكثر قسوة، قبل أن يمد يده ليجذب كم سترتها الفخمة بقوة كادت أن تمزقها، وهو يقول.
(ليس اسمي فقط، بل أجبرت نفسك مسكينة على تحمل تدفق مالي عليكما انت و أمك) تراجع وجهها الشاحب للخلف قليلا و كأنه ضربها في مقتل، و لم تحيد عيناها عن عينيه و هي تبصق فجأة في الأرض بصقة وهمية، الغرض منها التحقير و هي تقول بصلابة
(هذا هو رأيي بمالك)
اتسعت عينا سالم بغضب، قبل أن يمد يده ليصفعها بقوة على وجهها جعلتها تترنح قليلا، هتفت مسك بقوة و صدمة
(أبي، لا تفعل).
بينما وقف سليم بينهما بسرعة وهو يهتف بتوتر و استنكار
(لا داعي لهذا يا عمي، إنها ابنتك)
نظر سالم الى تيماء التي استقامت تنظر اليه بتحد كاره، و هي تلهث من شدة الغضب، بينما انخفضت يدها من على وجنتها الحمراء و هي ترفض أن تظهر أي ذرة ضعف، و استمرت بينهما النظرات في حرب ضارية من التحدي و القسوة، الى أن استدار سالم يريد الخروج، لكن ليس قبل أن يمسك بكتفي مسك بقوة متوترة، و قال بحنان متشنج الصوت و الغضب.
(حمد لله على سلامة وصولك يا قرة عيني، سأراك فيما بعد، اما الآن فيجب أن أبتعد عنها، قبل أن أرتكب جريمة)
ثم اندفع خارجا بعنف تاركا ثلاثتهم، لكن تيماء لم تنتظر، مجرد نظرة واحدة الى مسك، التي حظيت للتو بلقب
قرة عيني من والدها...
بينما حظيت هي بصفعة، لكنها لم تتخاذل و تنهار، ولى زمن البكاء على الأب المنشود، لا يهمها الآن سوى اللحاق بقاصي، بادلتها مسك بنظرة صامتة، لا تنم عن شيء...
لا تشبه نظرة مسك القديمة الودودة، لا تسبه اللطف و الرقة، بل مجرد نظرة فاترة و هي تقول بهدوء خافت
(كيف حالك يا تيماء؟، مر وقت طويل منذ رأيتك آخر مرة)
للحظات وقفت تيماء مكانها تبتسم، تبتسم بسخرية سوداء و هي تهز رأسها قليلا، قبل أن تقول بصوت جامد
(كما ترين، لست في أفضل حالاتي، و تحديدا مرت اربعة سنوات منذ أن رأيتك آخر مرة).
ارتفع حاجب مسك و هي ترمقها بهدوء قبل أن تقول بصوت ناعم لكن شديد الأنفة
(لو تنتظرين مني التعاطف أو الشفقة، فللأسف لقد نفذ المخزون لدي)
ارتجفت شفتي تيماء قليلا، قبل أن تقول ببرود جارح
(لا أنتظر منك شيئا، اكتشفت الآن انك لم تكوني سوى كما مهملا في حياتي).
لم يبد على مسك أنها قد اهتمت بالإهانة، فهزت كتفها بلامبالاة، جعلت تيماء تتنفس بصوت متحشرج مختنق و هي تهز رأسها يأسا لتندفع خارجة، لكن و ما أن تجاوزت مسك ببضع خطوات حتى قالت الأخيرة بصوت أكثر برودا
(و أنا اكتشفت أنك كذلك بالنسبة لي في وقت أبكر، لذا كنت محظوظة عنك).
وقفت تيماء مكانها قليلا، بوجهها الشاحب ووجنتها المتورمة، قبل ان تكمل جريها دون ان تنظر للخلف، بقت مسك و سليم بعد خروج الجميع في صمت قاتم، ثقيل، الى أن ارتفع حاجبي مسك وهي تقول بفتور
(جو عائلي رائع بصراحة، كان هذا المشهد الأول الذي وصلت عليه، فماذا ينتظرني بعد؟) قال سليم بتوتر.
(و عليكم السلام و رحمة الله و بركته يا مسك، طالت غيبتك و اشتقنا لك)
نظرت اليه مسك بحاجب مرفوع، قبل أن تقول ببساطة
(أنا لم ألقى عليك التحية!) زم سليم شفتيه وهو يقول بصبر
(كانت هذه اشارة لتلك) ظلت مسك واقفة تنظر اليه مجددا، ثم قالت بهدوء
(آه حسنا، أنا لست ذكية في التقاط الإشارات)
أغمض سليم عينيه وهو يزيد من التسبيح على سبحته قبل ان يقول بصبر أوشك على النفاذ.
(لن أستفز هذه المرة يا مسك، فلا تحاولي، حاولي فقط معاملة الباقين بلطف، ترين بنفسك ما مررنا به للتو، و كل منا به ما يكفيه عوضا عن الشعور بتعاليك الميؤس منه).
ثم تحرك مبتعدا عنها بينما ظلت هي واقفة مكانها تتأمل نفس المكان، الذي لا يزال على نفس شكله منذ طفولتها قديما، عريقا، هسمت مسك أخيرا بخفوت كل منا به ما يكفيه، هذه عبارة سليمة تماما، خرجت تيماء ركضا من البيت و هي تدير راسها يمينا و يسارا بحثا عنه، الا أن لمحت ظهره من بعيد، يقف في الحديقة، بجوار سيارة فخمة، فلم تفكر قبل الجري اليه دون أن تلحظ تغير ملابسه، وصلت اليه لاهثة فهتفت من على بعد بضعة خطوات.
(قاصي)
استدار الكيان الرجولي الضخم اليها ببطىء، قبل أن تجفل بقوة و هي ترى بأنه ليس قاصي، بل كان شابا له نفس الهيئة، يشبهه تماما، لا ليس تماما، لا يشبهه، كانت ملامحهما قريبة و الهيئة واحدة، لكن عيني ذلك الواقف أمامها كانتا وقحتين جدا، لا تشبهان عيني قاصي من قريب أو من بعيد، تراجعت تيماء خطوة و هي تمسح وجنتها بظاهر يدها، قبل أن تقول بانقباض
(آسفة، ظننتك شخصا آخر).
مرت عيناه عليها ببطىء و جرأة مما جعلها تقشعر نفورا...
قبل أن تصعدا الى عينيها و تتأملان لونهما الفيروزي وسط دموعها التي بللتهما و جعلت منهما بحرا عميقا، ثم قال مبتسما بعنجهية
(هذا من حسن حظي، أن أرى فتاة بجمالك تناديني بعد أن تجرأ أحدهم على ابكائها)
مد يده اليها قائلا بلهجة لم تعجبها
(راجح الرافعي)
نظرت الى يده بصمت، قبل أن تقول بخفوت
(أنا لا اصافح باليد، اعذرني).
تركته دون أن تطيل معه الحوار، و خطت تتجاوزه مسرعة تبحث عن قاصي، نظر راجح اليها في ابتعادها متأملا كل جزء منها بحرية. مبتسما ابتسامة فجة، قبل أن يستدير على صوت بدور تقول بحدة
(راجح، الى ماذا تنظر؟، هيا بنا) استدار ينظر الى بدور التي كانت قد خرجت للتو من السيارة، لم يفقد ابتسامته...
حتى وهو يقترب منها الى أن مال عليها و همس في أذنها
(لا تحادثيني مجددا بتلك الطريقة، كي لا أغضب منك و قد جربت غضبي مرة).
ابتلعت بدور ريقها، قبل أن تومىء برأسها هامسة بخفوت
(حاضر)
ربت على وجنتها قائلا بنعومة
(فتاة عاقلة) تركها و استدار لينادي أحد الغفر الذي جاءه مسرعا، فسأله بصلف
(أين أبي؟، الحاج عمران الرافعي) ابتلع الغفير ريقه و تلعثم وهو يتأتىء في الكلام، خائفا، فعقد راجح حاجبيه ليقول آمرا
(ماذا بك؟، اتحولت الى صنم؟، هل هم مع جدي؟)
تراجع الرجل للخلف وهو يهتف بقلق
(اعذرني، اعذرني يا سيد راجح، لا أعلم).
نظر اليه راجح بدهشة وهو يهرول مبتعدا، ثم قال بغضب
(تبا لأشكال مثل هذه البشر، أغبياء و لا جدوى منهم في الحياة)
هدر مناديا بقسوة على أي من الغفر كي ينزل له حقائب، ووقف مستندا الى السيارة، منتظرا أن يأتي أحد هؤلاء الرعاع كي يريه مقامه، وصلت تيماء جريا الى نهاية الحديقة، و هي تبحث عنه يائسة، تبا له، هل قدماه ملحقتان بالعجل؟
لقد اختفى تماما، انحنت قليلا مستندة بكفيها الى ساقيها و هي تلهث بتعب...
قبل أن تستقيم ناظرة حولها، أخذت تدور بيأس و هي ترسل عينيها للحديقة المظلمة، الى أن رأته واقفا من بعيد، اتسعت عيناها و أسرعت اليه، هذه المرة قلبها هو الذي نادى عليه لم تخطه أبدا، كيف تخطئه و قد انتفض قلبها انتفاضته المعروفة، وصلت اليه لاهثة حتى وقفت خلفه، و قبل أن تنطق كان قد استدار اليها بقوة قائلا
(أريد أن أضمك الى صدري)
انتفضت تيماء و هي تسمع نبرته القوية الأقرب للعنف...
بينما كانت ملامحه التي سيطر عليها طويلا كانت معذبه، و عيناه، عيناه الجمرتان، أطفأ جمرهما، بريق الدموع الحبيسة!
عيناه تدمعان!
و جسده كله يرتجف بوضوح من شدة ضخامته، فغرت تيماء شفتيها، قبل أن تبتلع غصة شديدة الألم في حلقها، لتهمس بألم (لا، لا استطيع) اقترب منها قاصي خطوة مندفعا ثم توقف وهو يهمس بشراسة
(أحتاج أن أضمك الى صدري بقوة، بقوة، أرجوك).
أغمضت تيماء عينيها بألم دون أن تخشاه، و همست مجددا و هي تبكي بصمت
(لا يمكن هذا يا قاصي، لن أفعل)
فتحت عينيها لتجده يمد يديه اليها و كأنه سيخطفها الى صدره بالقوة، لكن ذراعاه توقفتا في الهواء، قبل أن تسقطا الى جانبيه وهو ينظر اليها كلها، نظرة أفلحت دائما في اشعارها بأنهما باتا كيانا واحدا...
رفعت تيماء يدها و كأنها تريد أن تلامس فكه المشتد، لكنها توقفت في الهواء كذلك، فأغمض قاصي عينيه وهو يهمس بقسوة.
(المسيني)
همست تيماء مبتسمة بألم
(لا استطيع)
سحب قاصي نفسا أجشا، قبل أن يفتح عينيه و ينظر الى عينيها طويلا، قبل أن يقول بصوته الأجش العميق
(اشتقت اليك تيمائي المهلكة)
تأوهت تيماء بصوت متحشرج...
تيمائي المهلكة، كان هذا هو اللقب الذي منحه لها مع بداية نموها الأنثوي، كلما كانت تكبر يوما و تزداد أنوثة، كانت تشعر بشيء غريب مختلف في نظراته، تلك النظرات التي حاول جاهدا اخفائها، لكنها كنت تضبطه كثيرا.
وهو ينظر اليها في الخفاء، تتوتر ملامحه، يفغر شفتيه و هي تتمايل مع لحن جيتاره...
و مع أول مرة همس فيها بذلك اللقب...
تيمائي المهلكة، وقفت أمامه لتقول بصدمة
تعرف بأنني لا أحب معنى اسمي، فلماذا تزيد من كرهي له.!، حينها رد عليها بكلمات لم تنساها يوما
أنت أرض أينعت جمالا، فأهلكت الأعين بسحرها، أفاقت من ذكراها على صوته يقول باحتياج أخافها (اشتقت الى حبيبتي، اشتقت للأرض التي انتمي اليها).
عضت تيماء على شفتها السفلى و هي تهمس بعذاب
(كفى، كفى، أنت لا زلت تحت تأثير صدمة ما حدث) ضاقت عينا قاصي بعذاب لم يهدأ أبدا، و قال بقوة (لقد فعلت ذلك لأجلك)
تسمرت مكانها و اتسعت عينيها قبل أن تهمس بذهول
(لاجلي أنا؟، ما هذا الذي تقوله؟)
رفع قاصي قبضتين مضموتين. و كأنهما كفتي ميزان، يقارن بينهما، ثم قال بقسوة
(بين القوة، و نبذ الدم، كان ليث و سليم، حرب بداخلي طالت لسنوات)
هزت تيماء برأسها قائلة بصعوبة.
(لا أفهم، ماذا تقصد؟)
كان لا يزال رافعا قبضتيه، فمد واحدة منهما ليقول بقسوة
(كان ليث هو الحارس الذي يقنعني بالأقتصاص، أما سليم فكان من يمسك بي و يمنعني) هزت تيماء وجهها بصعوبة و كأنها تفك شفرة طلاسم، قبل أن تهمس بحيرة
(لا أفهم، من هو ليث؟، و سليم أحد أبناء أعمامي، لكنني لم أفهم)
تقدم منها قاصي رافعا القبضة التي تمثل ليث، ليقول بقسوة وهو يضمها أكثر حتى ابيضت مفاصل أصابعه.
(كان المفترض أن أقتله، و أريق دمه، و انال حق أمي)
ارتجفت تيماء بشدة و اتسعت عيناها، بينما تابع قاصي بصوت مشتد
(بينما كان سليم يمنعني، يحذرني من طريق الدم، فأنا لا أملك الدليل. و لا مجال للخطأ في الدم)
صمت قليلا قبل أن يهمس بشراسة
(هتفت به أن الدليل هو أمي، لن تكذب، فرد على بخفوت أن هذا ليس دليلا لأريق الدم على يدي)
صمت قاصي مجددا وهو يحني رأسه لاهثا، قبل أن يتابع بحدة.
(فضربته حتى نزفت أنفه، لكنه لم يحيد عن رأيه)
رفعت تيماء يدها الى فمها الشاهق المرتجف، بينما استدار قاصي ليضرب بقبضنه التي تمثل راي ليث لوحا من الزجاج خلفه ليهشمه بقوة فصرخت تيماء مرتعبة، بينما وقف قاصي بصمت و قبضته تنزف مع لهاثه السريع، يوليها ظهره المتشنج، فهتفت تيماء بقوة
(اهدا، اهدا يا قاصي).
كانت دائما تفلح في تهدئة غضبه المستعر، على الرغم من سنوات عمرها التي تصغره بعشرة اعوام كاملة الا انها كانت تنجح في تهدئته، لكنها الآن متشنجة أكثر منه...
لا تعلم ان كانت ستفلح في ايقاف رغبته الحالية في العنف...
ساد صمت مخيف و هي تهمس برقة
(اهدا، انظر الى و اهدأ)
ظل صامتا عدة لحظات ليهمس بعدها أخيرا متابعا بجهد
(الى أن ظهرت لي غاية أكبر، نافست رغبتي في الدم و قهرتها).
عم سكون مقبض المكان، لم يقطعها سوى صوت حشرات ليلية صغيرة، قبل أن يستدير اليها لينظر لعينيها طويلا، طويلا جدا، قبل أن يقول بهدوء مجهد
(أنت كنت غايتي يا تيماء)
فغرت شفتيها المرتجفتين، بينما امتلأت عيناها دموعا، وهو يتابع قائلا
(فعلت هذا لأحصل على اسم عائلتك بدلا من الدم، و تصبحين لي)
اقترب منها خطوة ليقول بخفوت مضني.
(هل تدركين التضحية التي قمت بها؟، أن أراه يخرج أمامي على قدميه حيا!، ليس هذا فحسب، بل أخرج أنا موصوما باسمه خلف اسمي!)
أطبقت تيماء بكفها على فمها المرتعش، بينما أغمضت عينيها على سيل من الدموع، قبل أن تسمع صوته يقول بألم
(غايتي هي أرضي، و أنت أرضي يا تيماء، ستحملين أطفالي و أكون أنا دارك).
رفعت تيماء كلتا يديها لتغطي بهما وجنتيها و كأنها تصرخ هلعا على الرغم من أنها لم تصدر صوتا، بل كانت تنظر اليه بوهن و دوار، فتحت فمها لتهمس باسمه، الا أن صوت أحد الغفر أتى من خلفها ليقول صارما.
(سيد قاصي، الحاج سليمان يريدكما أنت و الآنسة، على الفور)، كانت قد سبقته الى قاعة أخرى ضيقة، أشار اليها الغفير، فدخلت بقدمين تتعثران، و هي ترى سالم، جالسا و ذراعه ممتدة على ظهر المقعد التي كانت تجلس عليه مسك، قريبه من أحضانه، بينما ليس هناك أحدا آخرا سوى سيلمان الرافعي، حتى دون غفره...
مستندا الى عصاه، شارد الذهن، مهموم الفكر، مثقل الكتفين، تحركت تيماء لتجلس على أبعد كرسي عن سالم و مسك، بينما دخل قاصي بعد فترة مناسبة، متجنبا النظر اليها كي لا تفضحها عيناه...
و جلس على كرسي أبعد من الجميع، أربعتهم تجنبوا النظر الى بعضهم، و كل منهم متجمد الوجه، صلب الملامح...
الى أن رفع سليمان وجهه أخيرا لينظر اليهم، قبل أن يقول بهدوء حازم
(سالم)
رفع سالم رأسه ليقول بتوتر
(آمرني يا حاج).
قال سليمان بصوت سلطوي
(لقد شاركت في دم والدة قاصي ظلما)
رأت تيماء قبضتي قاصي تشتدان على ركبتيه، فارتجفت و دعت الله الا ينفعل، لكنها كانت أهدأ قليلا، فلقد أمرته أن يسلمها سلاحه قبل أن يدخلا الى جدهما، و قد فعل...
وضعه في كفها الممتد، و هي تتجنب النظر اليه، بينما كانت تعلم ان شفتاه تبتسمان لها في أحلك المواقف، هتف سالم بقوة
(أنا يا والدي، انت تظلمني)
رفع سليمان يده كي يوقف سالم الكلام...
ثم قال بصوت جهوري
(عليك دين لقاصي، و ستعوضه، و خير تعويض هو اغلى ما لديك، مسك ستكون لابن عمها قاصي، و مهرها أرض تجري بها الخيل و لا تبلغ نهايتها، مني لهما قد لا يرث قاصي. لكنني سأمنحه في حياتي ما سيعوضه من أرضي، و جزء منها لك، فماذا قلت؟)
اتسعت عينا تيماء بذهول، و هي تهتف بقسوة محتدة
(ماذا؟)
و كانت أول من أفاق بشراسة، تلاها مسك و سالم وهما يهتفان
(ماذا؟)
بينما هتف قاصي بشراسة
(و تيماء؟).
رد الجد وهو ينظر الى تيماء، ظنا منه أن قاصي يسأل عن مصيرها، بينما هو في الواقع يخبره واقعا أن تيماء لن تكون الا له، (تيماء ستختار احد ابناء اعمامها...
لم أنسى ما وعدتها به في خضم ما حدث) نهض سليمان من مكانه وهو يقول بصرامة.
(لقد كبرت ابنتك يا سالم. و آن لها نسيان خطبتها الأولى و الزواج، و قاصي هو خير من يناسبها)
خرجت مسك مندفعة تضرب الأرض بكعبي حذائيها، بينما شعرها يطاير مندفعا حول وجهها بعنف، و قاصي يسرع خلفها حتى امسكها من ذراعها و ادارها اليه بالقوة...
فاغرق شعرها الحريري وجهها قبل ان يستقر بالكاد ملامسا كتفيها...
رفعت عينيها اليه و هي تهتف بغضب
(ما الذي حدث للتو؟، ما دخلي أنا يا قاصي؟).
قال قاصي بقوة محاولا تهدئتها
(اهدئي يا مسك، سأحل الأمر، لا تخافي)
هتفت مسك بعنف و ألم
(، لقد ساعدتك يا قاصي، فما ذنبي أنا؟، أنت تعرف أن أمر جدي كالسيف، لا تنقصني المزيد من المآسي، لا تنقصني أقسم بالله لا تنقصني)
أمسك قاصي بكلتا قبضتيها معا بين كفيه وهو يهمس ناظرا الى عينيها بوعد، ليقول محاولا أن يبث بها الهدوء
(أعلم، أعلم، لا تخشين شيئا، أقسم الا يؤذيك شيئا في هذه الدنيا و أنا حي).
واقفة مكانها متسمرة، تنظر تيماء الى قاصي وهو يمسك بكفي مسك بين قبضتيه!
يقطع لها وعدا و عيناه في عينيها، و هي تبدو كمن فقدت كل غرورها و سلمت كبريائها أمامه! لم تصدق تيماء ما تراه أمامها!
قاصي ممسكا بكفي مسك بين يديه!، شعرت بنار حارقة تكوي أحشائها، بينما اندفعت دمائها بأوردتها عنيفة كالحمم، شعور غريب بالغثيان اكتنفها من هول ما ترى و تشعر في تلك اللحظة، ساقتها خطاها اليهما...
و ما أن رآها قاصي حتى أخفض كفي مسك لينظر الى تيماء طويلا، حينها رفعت مسك عينيها للسماء و هي تهتف بقسوة و غضب
(يجب أن اذهب، ابتعدا عني كلاكما) سحبت كفيها من بين يدي قاصي، قبل ان تندفع كالفرس الغير مروضة مبتعدة عنهما، نظرت تيماء في اثرها ببرود...
قبل ان تعيد عينيها الى قاصي و قد لفهما جو صقيعي، طال الصمت قبل أن تقول بصوت لا تعبير له (كيف لم ترفض على الفور؟) ضاقت عينا قاصي قليلا وهو ينظر اليها متفرسا بها، قبل أن يقول أخيرا...
(و لماذا أرفض؟ و على الفور أيضا؟) اتسعت عينا تيماء و هي تنظر اليه بعدم تصديق، قبل أن تهتف بغضب و جنون
(لا أعرف تحديدا، ربما لأنك منذ ما يقل عن ساعة أخبرتني أنك فعلت ما فعلت لأصبح ملكا لك!).
فتح قاصي فمه ليجيب، الا أنه عاد و صمت وهو يدقق النظر اليها أكثر، ثم قال بصوت قاطع
(و هل تريدين مني الرفض لأنك ستكونين؟، ملكا لي؟)
تسمرت تيماء مكانها و هي تنظر اليه بصدمة، لقد غافلها السؤال...
و لم تحسب له حسابا، سؤال أعادها من الكابوس الذي تحياه الى الواقع الذي أتت منه، إنها على وشك الزواج و السفر.
حياتها المستقرة التي عملت طويلا على التخطيط لها، بينما هنا عالما من الجنون يحيط بها و يهزم قوتها، رفع قاصي اصبعه فجأة ليلامس الكدمة بزاوية شفتيها و التي لم يراها سابقا في الظلام، الا أنها فرت منه الغزال الخائف، بينما احتدت نظراته بشدة و بان العنف على وجهه وهو يهمس بوحشية
(من فعل بك هذا؟)
رفعت تيماء يدها تتلمس الكدمة في وجنتها بشرود، قبل أن تقول بخفوت.
(أخبرتك أنني اكره الإهانة يا قاصي، و ها أنا نلتها مجددا)
احتدمت عيناه و زادت وحشيتهما، قبل أن يهمس بشراسة
(سأنال لك حقك)
قالت تيماء بقوة و حدة
(كم حقا تنوي أن تناله؟، كفى يا قاصي كفى، كان مجيئي الى هنا هو اكبر خطوة مجنونة قمت بها في حياتي)
صمتت تلتقط أنفاسها المتحشرجة الغاضبة، النارية المنفعلة، ثم اشارت باصبعها الى حيث كان جدها و هتفت بقوة
(ستدخل الآن و تخبر جدي أنك ترفض الزواج من مسك).
قال قاصي بسرعة و قوة أكبر من قوتها اضعافا
(و اخبره أنني أريدك أنت؟، و ستكونين لي؟)
عاد وجهها ليمتقع قبل أن ترفع كلتا يداها الى جبهتها، ثم أخفضتهما بعنف و هي تنظر اليه طويلا قبل أن تقول بخفوت
(لا، لا يا قاصي، لن أكون لك) استعرت عيناه بنظرات أخافتها، فهمست بخفوت أكبر و كأنه ترجي
(لا تنظر إلى هكذا، ليس لك الحق في أن تخيفني)
قال قاصي بصوت أسود، حالك السواد كجناح غراب في الظلام...
(و هل أخيفك؟، أذكر يوما كنت تهمسين فيه لي، قد تخيف العالم، لكنك لن تخيفني، فاستسلم و لا تحاول ابعادي، سأظل كظلك )
بهت وجهها أكثر و هي تسمع منه اقرار استسلامها المحارب
سأظل كظلك، قالت تيماء بخفوت متداع و هي تتجنب النظر اليه...
(كان هذا في الماضي، انساه يا قاصي، انسى الماضي بكل آثامه و مآسيه، و انساني معه) قال قاصي بقسوة ووحشية
(اذن لا دخل لك بزواجي أو عدمه من مسك) نظرت اليه مصعوقة...
غير مصدقة لتحول حاله من ساعة لأخرى، لكنها هتفت همسا بألم
(كنت تمسك يدها!، كنت تمسك يدها يا قاصي؟، كيف أمكنك ذلك؟)
نظر قاصي متلذذا بعينيها المعذبتين، قبل أن يقول ببرود جليدي
(و اذا!، لقد أمسكت كفها مرارا من قبل)
فغرت تيماء شفتيها بذهول و اتسعت عينيها ارتياعا و هي تهمس
(ماذا؟، كيف تقف هنا أمامي و تنطق بهذا؟)
اقترب منها وهو يهدر همسا بوحشية كي يصل صوته الى أذنيها المصدومتين.
(لأنها الحقيقة، لقد أمسكت بكف أختك مسك من قبل عددا لا يحصى من المرات)
كانت تيماء تهز رأسها نفيا بعدم تصديق، بينما شحب وجهها تماما، الى أن هتفت أخيرا بقوة و ألم
(أنت تقرفني، تقرفني، اياك و الإقتراب مني مجددا، اياك).
استدارت لتجري مبتعدة عنه، بينما وقف هو مكانه، ينظر اليها و قبضتاه تجعلان من الصخر طمي بالمقارنة، و النفس بصدره لاهث بالعذاب، لقد ضحى بدم أمه لأجلها، أهو الندم؟، أم مرارة الإختيار، انهى صلاته و هي من خلفه، كما عودها منذ أن تزوجا، ليجلس بعدها مرتاحا، ممسكا بسبحته بين أصابعه، يسبح و يستغفر، بينما نهضت هي، انهى أذكاره ليأخذ نفسا مرتاحا قبل أن يقول بخفوت حزين.
(كانت ليلة صعبة يا سوار، آلمتني و أوجعت نفسي)
قالت سوار من خلفه
(أعلم أن صداقتك بقاصي كان لها الأثر فيما تشعر به الآن)
قال سليم وهو يحرك حبات السبحة بين أصابعه دون أن ينهض أو أن يلتفت اليها...
(ليست الصداقة هي السبب، كنا ثلاثة اصدقاء، انا و ليث و راجح، الا أن ليث و راجع فرقت بينهما الأيام في وقت أبكر، لنصبح أنا و قاصي و ليث أصدقاء، دائرة تدور و تبدل البشر، ما بين حال لحال، لقد ضغطنا عليه اكثر من اللازم، أنا و ليث، كل منا متشبث برأيه و نسينا ألمه و عذابه) همست سوار بخفوت من خلفه
(لا أصدق أن قاصي و راجح أخوة) قال سليم بقلق.
(و لن يصدق راجح أيضا، اتسائل متى ستهب عاصفته و عاصفة راجح تأتي على الأخضر و اليابس و لا تسبب غير الدمار)
همست سوار مجددا من خلفه...
(سليم، كفى كلاما و تعال لترتاح).
الا أن سليم بقى مكانه أرضا وهو يحرك حبات سبحته قائلا بخفوت
(سأبقى قليلا يا سوار، ليهدىء الإستغفار مما أشعر به)
همست سوار...
(لما لا أحاول أنا أن أهدئك، لعلي أفلح و اكسب ثواب نيل رضا زوجي)
عقد سليم حاجبيه، قبل أن يستدير اليها قليلا، لكنه تسمر مكانه على صورة أذهلت كيانه، كانت سوار مستلقية على السرير الواسع ذو الأربع أعمدة، كما لم يراها من قبل...
فقد كانت ترتدي قميصا حريرا أحمر اللون بأشد درجاته قتامة...
ليتناقض مع بياض بشرتها التي لا يدخر القميص جهدا في اخفاء ذراعيها و نحرها، بينما انسدل شعرها مرتاحا على جانبها كله حتى وصل الى فخذها بسواده الحريري، اتسعت عينا سليم بانبهار أوجع قلبها، و همس بخفوت
(سوار!)
مدت سوار يده اليها و هي تقول مبتسمة بإغراء
(تعال الي).
نهض سليم من مكانه ببطىء و عينيه عليها لا تبارحانها، الى أن وصل لحافة السرير فوقف عنده بعبائته البيضاء التي تماثل جبينه الناصع لونا، قال أخيرا بخفوت
(لا تفعلي ذلك يا سوار)
تعمدت إخفاء ابتسامتها و هي تهمس بدلال
(الا تراني جميلة يا سليم؟)
تنهد بصمت، ثم قال أخيرا بهدوء
(تعلمين جيدا أنك جزء من الجمال نفسه)
ابتسمت سوار لتقول بصوتها ذو النغم الشجي القوي (اذن تعال و تمتع بجمال زوجتك).
لم يبتسم سليم، بل ظهر في عينيه شيئا آخر، شبيه بالتسليم بالقدر، ثم قال بخفوت
(ليس عليك فعل هذا، لا أريدك أن تفعلي).
هذه المرة زالت ابتسامتها بصدق و هي تستقيم جالسة، ثم قالت بقوة (ان كنت لا تريدني فقل ذلك فحسب) لم يهتز سليم لعنفوانها، بل قال بخفوت (لا ترغمي نفسك يا سوار، أخبرتك من قبل) قالت سوار بنفس القوة (هل تراني مرغمة الآن؟) نظر اليها سليم و عيناه تنحدران عليها رغما عنه، ثم همس بإختناق (لا، لا يبدو عليك ذلك).
ابتسمت سوار مجددا، ثم أمسكت بكفه لتشده اليها بقوتها البدنية، فسقط مستلقيا على جانبه، مواجها لها، بينما قالت برقة
(اذن دع لي القرار كما طلبت مني)
كانت عينا سليم مترددتين، متألمتين، فرفعت سوار أصابعها لتمس العقدة الصغيرة بين حاجبيه و هي تهمس له
(ربما لم نقع معا في احدى قصص الحب يا سليم، لكن بيننا شيء جميل، سيكون أجمل بوجود طفل).
نظر اليها سليم بسرعة مصدوما، و لسانه يهمس بداخله ذرية ضعافا، همست سوار و هي تقترب منه اكثر
(بماذا تفكر؟، مما تخشى؟ )
نظر سليم اليها قبل أن يقول بخفوت وهو يبعد شعرها الناعم عن جانب وجهها
(أخشى عليك من الوجع).
اتسعت عينيها قليلا، قبل أن تنفج ضاحكة و هي ترجع وجهها للخلف فيظهر له خط عنقها الطويل، ليمتع عينيه، ثم قالت بمرح (سليم بالله عليك، الفتيات هنا يتزوجن في سن الثالثة عشر، بينما أنا اقترب من الثلاثين، و تخاف على من الوجع؟، بالله عليك لو سمعك أحد لضحك على طيبة قلبك) همست روحه بتردد بينما تبسمت شفتاه بصمت لم تفهمي قصدي يا سوار، أخشى عليك من ألم لم تحسبي له حساب، فلماذا الآن؟، لماذا؟ تنهد سليم وهو يستغفر الله همسا، و يستعيذ من الشيطان، اقتربت منه سوار.
و هي تحيط عنقه بذراعها الغض، لتهمس بالقرب من شفتيه
(اجعلني زوجتك يا سليم، حلالك و اعطني طفل، و لتكن الصداقة بيننا أقوى من أي قصة عشق)
ابتلع سليم ريقه وهو يضعف أمام سحرها المجنون، و لم يستمر تردده أكثر من لحظة، ليطبق بعدها على شهرها وهو يقبل شفتيها بعاطفة مجتاحة و خالصة...
أغمضت سوار عينيها وهو يميل بها الى أن استلقت على فراشهما الزوجي...
بينما يداه ترسمان على جسدها الحريري جسورا من المشاعر، التي لم يعرفاها سابقا، شس


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close