رواية طائف في رحلة أبدية الفصل الثامن 8 بقلم تميمة نبيل
الفصل الثامن
كانت سوار تراقب ما يحدث من احدى شرفات القصر الكبيرة و عيناها تلمعان بالفخر، و صدرها ممتلىء زهوا و هي تهمس مبتسمة
(بسم الله ماشاء الله، حفظك يالله يا ابن خالي، و حماك من شر العين يا ليث).
قفز قاصي من على ظهر الفرس وهو يشدد الإمساك بلجامها، لاهثا متعبا، و جانب صدره ينزف و العرق يلمع على جسده...
فقال ليث لاهثا هو الآخر...
(جرحك عميق يا قاصي، اهتم به)
رفع قاصي كفه ليصافح ليث بقوة وهو يلهث قائلا
(ظهورك جاء بوقته)
ربت ليث على عنق الفرس وهو ينظر اليها باعجاب قائلا، كنت امر من ارضكم فقط...
توترت شفتي قاصي وهو يسمع كلمة ارضكم، و اشتدت صلابة فكه الا أنه لم يرد، بينما قال ليث بتعب.
(اعتن بنفسك)
ثم ابتعد ببطىء، بينما وقف قاصي بجوار وجه الفرس، ينظر اليها بعينين مظلمتين، عاقدا حاجبيه، و يده تربت على أنفها بحنان، ليهمس لها بخشونة
(اهدئي الآن، أنا أيضا لم أحب ذلك، لكنه يقربني اليك، ارتاحي)
ظل يربت على أعلى أنفها الحريري الأسود و هي تميل اليه، فهمس لها
(جميلة أنت، كبريائك و بهائك يخطفان قلبي)
رفع عينيه فجأة في اتجاه محدد، كان قد حدده قبل أن يبدأ حربه مع الفرس...
فنظر مباشرة الى العينين الفيروزيتين، و كم كانتا باكيتين!، و منذ متى؟
أما هي فلم تهرب على الفور، بل ظلت واقفة مكانها تؤكد لعينيها انه لم يصب بأذى فادح...
لم تلحظ الدموع التي بللت وجهها و هي تقف عند السياج ممسكة به، تنظر اليه من بعيد...
ان الأوان كي تبعدي عينيك يا تيماء، الان
و بالفعل اسبلت جفنها و هي تتراجع، لكنه لم يكن ليتركها تهرب هذه المرة...
فمع اول خطوة تراجعتها، كان قد اتخذ قراره و سلم لجام الفرس الى احد عمال الاسطبلات الأقوياء...
ثم رأته تيماء يتجه ناحيتها و عيناه عليها لا تتركانها...
فاستدارت بسرعة و ابتعدت عنه، تنوي الهرب، لكن الى متى؟
هذه الزيارة القاتمة، خطت عليها المواجهة التي لا مفر منها...
وجدت قدميها تسوقانها بعيدا، على امتداد الأرض المفتوحة، بعيدا عن حواجز القصر...
و صوت اقدام قوية خلفها ترعبانها، لكنها لم تسرع الخطا، فقط دست كفيها المرتجفين في جيبي سترتها الثقيلة، و رفعت غطاء الرأس الفرو فوق حاجبها...
كانت تنتفض كليا و الصوت يزداد وضوحا من خلفها، الا أنها رفضت الشعور بالضعف، او على الأقل اظهاره...
شعرت بالتعب من عمق انفعالاتها، فقررت الوقوف و المواجهة هنا...
لذا التفتت جانبا تنظر الى الأرض الممتدة الخضراء، و لونها الذي يتحول الى ذهبي قاتم و ألوان المغيب تزينها، و أشجار النخيل من بعيد تتوج جمالها...
بينما صوت الخطوات الواثقة من خلفها لا يسمح لها بحرية التمتع بكل هذا الجمال الممتد أمامها...
شعرت به يقف خلفها مباشرة، حيث توقف صوت خطواته
و صوت أنفاسه يصل أذنيها كلحن صاخب متسارع...
حينها التفتت اليه بقوة و هي تصرخ به بغضب كل الساعات المضنية السابقة.
(هل جننت؟، ما هذا الذي فعلته؟، كدت أن تقتل نفسك)
كانت عيناه تملآن نظره منها، وهما تطوفان حول ملامح وجهها الفتية، تلك البيضاء و المشربة بلون وردي لم تفقده على مدى السنوات...
و فراء غطاء رأس سترتها يحيط بوجهها فيزيدها جاذبية و جمال...
أما هو فقد كان عاري الصدر، نازف الجرح، قوي بدرجة مهلكه و عروق ذراعيه تظهران لعينيها، تثيران شفقة بقلبها لا تعلم سببها...
و كأنها قوة جبرية، ليست من اختياره...
لم يجبها على الفور، بل ابتسمت شفتاه وهو يقول بخفوت
(كم كبرت!، و كم أصبحت بهجة للنظر و دواء لكل روح تنظر اليك)
فغرت شفتيها المرتجفتين بشدة، و بهت غضبها في لحظة، بينما انتفض قلبها بعنف قاس من مجرد عبارة قصيرة...
ساد صمت طويل بينهما، يقطعه صوت الطيور من فوقهما عائدة الى أعشاشها مع المغيب...
الى أن قالت تيماء أخيرا بصوت تدربت ان تفقده الحياة كذبا...
(ماذا تفعل هنا يا قاصي؟)
ضاقت عيناه قليلا دون أن تفقد شفتيه ابتسامتهما الصغيرة الشاردة، قبل أن يقول دون مقدمات و بوضوح أذهلها
(انتظرك)
اتسعت عينا تيماء بصدمة، قبل أن تقول بخفوت
(هل كنت تعلم بقدومي؟)
قال قاصي بخفوت مبتسم، بينما عينيه تستعران.
(كنت أنتظرك كل عام، و آتي اليك خصيصا علني أراك، لكن هذا العام علمت بأنني سأراك لأول مرة منذ ثلاث سنوات)
كانت الصدمات تتوالى عليها بقوة، لكن صدمة واحدة جعلتها تقول متلعثمة
(ثلاث سنوات!، نحن لم نرى بعضنا منذ، منذ، منذ)
قال قاصي يقاطعها بصوت متهم رغم أنه لم يفقد هدوءه...
(منذ أن أبعدتني عنك؟)
هل يتهمها؟، هل يتهمها حقا؟
قالت بصوت قوي رغم الألم.
(أنت تعرف أنه لم يكن أمامي خيار غيره يا قاصي، لقد قطعت عهد، و كان على الإلتزام به)
قال قاصي بصوت غير متسامح، قاسي
(عهد بالفراق عني، بإقصائي من حياتك)
ابتلعت غصة بحلقها قبل أن تقول بقوة
(و أنت قطعت نفس العهد)
قال قاصي بقوة قاطع
(لم أتعهد يوما بالفراق عنك، فأنا لا أقطع عهدا يستحيل على تنفيذه)
انتفضت مجددا و هي تتراجع خطوة أمام هول مشاعره و عنفها على ملامح وجهه رغم هدوء ملامحه المتصلبة...
لماذا الآن؟، لماذا الآن بعد كل هذه السنوات؟
قال قاصي بصوت أكثر خفوتا و الإبتسامة المريرة على شفتيه
(تعهدت بتركك، و أضفت الى حين بنفسي)
تأوهت تيماء بصمت و هي تغمض عينيها، بينما قلبها يعلن ألما وصل الى أقصاه...
قال قاصي وهو ينظر الى ملامحها الساكنة بألم
(ثلاث سنوات في السفر يا تيماء)
فتحت عيناها لتنظران اليه من خلف بحر فيروزي قاتم، قبل أن تقول بخفوت
(كيف و متى رأيتني قبلها؟).
ابتسمت شفتيه المشقوقتين بجرح نافذ، ليقول بعد فترة
(كيف، بكل مكان، و متى، كلما استبد بي الشوق، بكليتك، خارج بيتك، تقريبا في كل مكان خطت قدماك اليه)
اتسعت عيناها بذهول و هي تسمعه، قبل ان تهمس بصوت واه
(لماذا؟، لماذا لم تبتعد؟)
اختفت ابتسامته، و باتت شفتيه خطا واحدا من الإتهام، وهو يقول
(تسأليني كيف لم أبتعد؟، و أنا الذي كنت أسأل نفسي كيف امتلكت تلك القوة على الإبتعاد دون النظر الى الوراء ولو لمرة واحدة).
اتهامه ضرب صدرها بقوة، فهتفت متألمة
(لا مجال لسؤالك يا قاصي، لو كنت تشعر بي و تعرفني بكل تلك الخصوصية التي تدعيها لما وقفت الآن أمامي و اتهمتني)
صمتت تتنفس بسرعة و عنف قبل أن تعاود الهتاف بقسوة و هي تشير باصبعها في اتجاه القصر
(و لما كنت أتيت الى هنا و أنت تعلم بأنني سآتي، أم أنك نسيت ما تعرضت له بآخر مرة رأيتك بها؟)
اشتعلت جمرتا عينيه البركانيتين وهو يهمس بشراسة، و صدره يعلو و يهبط بذكرى سوداء مريرة.
(كفى، اصمتي)
الا أنها صرخت بقوة
(لا، لن أصمت، طالما أنت تقف هنا بكل غرورك و تتهمني، فسأذكرك بما نلته هنا في هذا المكان يا قاصي، لقد ذقت الذل و تجرعت الألم لأيام بدت كسنوات مظلمة بطيئة، ارتعبت من الموت في بدايتها و تمنيته قبل نهايتها رحمة بي)
صمتت تلهث أمام عينيه المشتعلتين نارا سوداء و عذاب صامت، بينما تابعت تقول بألم.
(كيف تأتي الى هنا تحديدا، بعد كل هذه السنوات و تتهمني؟، ماذا كان على أن أفعل؟، لقد كتبت لي فرصة للنجاة، و كان على أن أتمسك بها)
اختنق صوتها فجأة، و شعرت بالدموع تتجمع أمام عينيها فأبعدت عنها صورة عيناه المشتعلة بجنون و الم...
يالهي!، لقد بكت مرتين اليوم!، بعد سنوات أقسمت الا تبكي مجددا أبدا...
ابتلعت الغصة في حلقها و هي تهمس بمعجزة
(ابتعد أرجوك يا قاصي، فقط لبضع ساعات، و سأختفي من هذه الحياة للأبد).
عضت على شفتيها و هي تخفض وجهها، ثم قالت بصوت أكثر قسوة و تحكما دون ان تنظر اليه
(لقد كبرت يا قاصي، كبرت و لا اتحمل الإهانة، لست خائفة، فقد عاهدت نفسي على أن اهزم خوفي من اي مخلوق بعد ما تعرضت له على يد أبي، لكن لن أتحمل اي مهانة، فقد كبرت عليها ووجودك هنا قد يعيد الماضي و يتسبب لي ما لن أتغاضى عنه هذه المرة)
ساد الصمت بينهما طويلا، قبل أن ترفع رأسها لتنظر اليه بشجاعة ثم قالت بهدوء زائف.
(بعض الذكريات عليك قتلها يا قاصي، فلماذا تعاود نبشها؟)
لم يرد على الفور وهو ينظر اليها بعينين تخيفان الجميع الا هي، لم تكن لتخاف عينيه ابدا...
لكنه حين تكلم قال كلمة واحدة
(لقد انتظرتك)
ارتجفت شفتيها بشدة، لكنها رفعت ذقنها لتقول بخفوت
(اذن هذا خطأك، فأنا لم أفعل)
ضاقت عيناه و خبت نظرتهما قليلا، و علمت أنها قد أوجعته بضربة غير متوقعة، لكنها ستعيدها لو تطلب الأمر، فقالت بخفوت أكبر و هي تهز كتفيها.
(كنت طفلة، و كبرت، أنا آسفة)
صمتت للحظة قبل ان ترفع يديها لتضيف اللمسة الاخيرة قائلة بتعجب زائف
(ماذا تخيلت غير ذلك؟، ماذا توقعت؟)
لم يرد، و عرفت أنه لن يرد، صدمته لن تكون اكبر من صدمتها بوجوده، و انتظاره لها خلال سنوات سفرها...
لذا. استدارت و تجاوزته بخطا عملت جاهدة على ان تكون ثابته، و حينها تركت العنان لدموعها الغزيرة الصامتة و هي تعض على شفتيها، بينما بقى هو مكانه، فلم تسمع خطواته خلفها...
لكن فجأة هدر صوته بقوة شقت الصمت المؤلم
(تخيلت الكثير يا تيماء، عشت على التخيل الذي لم أملك غيره، أما التوقع فواحد)
تسمرت تيماء مكانها و الدموع تتجمد بردا على وجنتيها اللاهبتين...
لحظة واحدة، قبل أن تطلق ساقيها للريح...
(ليث، ليث)
وصله الصوت الودود المألوف لديه، وهو يسير متمهلا، ممسكا بلجام حصانه...
فتسمر مكانه للحظة، هامسا بداخله بروح قاتمة
ليس الآن،
لكنه تمكن من الإلتفات مبتسما ليراه مقبلا...
سليم الرافعي رغم أنه يصغره بخمسة أعوام، الا أنه كان من أعز أصدقائه هنا في البلد، ما أن يعودا اليها و يتقابلان من جديد...
سليم هو الروح الأكثر نقاءا في كل من عرفهم...
لطالما كان مختلفا، مسالما و صالحا...
يحيا عالما خاص به، يناجي ربه اينما كان دون حتى ان يدرك من حوله...
وصل سليم اليه مبتسما و سبحته بيده بينما عبائته البيضاء تزيده بهاءا، و ابتسامته الحنونة تضيء وجهه لكل من حوله...
انه يقدر هذا الشخص تقديرا لم يقدره لغيره من قبل، ربما لأنه لم يعرف أحدا بنفس شخصيته و روحه سابقا، و يشك في أن يفعل لاحقا...
تكلم سليم مبتسما ببشاشة تنير القلب.
(كيف تغادر دون أن تلقي التحية؟، لم نعهدك شديد الجفاء بتلك الصورة!، أم غيرك السفر و بلاد الغربة؟)
تعمقت ابتسامة ليث وهو يمد يده ليصافح سليم بقوة و يشده الى عناق من طال سفره...
بينما الشوق كان من نصيب شخص واحد فقط...
هتف ليث بقوة صارمة مازحة كي يبعد الاسم عن تفكيره
(كيف حالك يا فتى؟، اشتقت اليك يا صاحب العنزة)
ضحك سليم وهو يقول
(الا زلت تتذكر عنزتي المسكينة؟)
قال ليث ضاحكا، خارج أسوار القلب المظلم.
(و من ينسى العنزة التي كانت ترافقك لكل مكان في احدى العطلات الى أن ماتت دون أن تذبح، بأمر منك)
ضحك سليم وهو يقول
(كانت طيبة، و محبة للغاية)
بهتت الضحكة من على شفتي ليث ليقول بهدوء خافت
(بل أنت هو الطيب يا سليم)
قال سليم وهو يربت مبتسما على كتف ليث قائلا
(يا طيب و أين أنت؟، طال غيابك أشهرا طويلة منذ آخر مرة أتيت بها لزيارتنا؟، ألم تشتاق الينا و الى أرضك، ألم تشتاق الى ابنة عمتك على الأقل؟).
تصلب جسد ليث على الفور و ابقائه ملامحه هادئة كان معجزة في حد ذاتها...
و قال بهدوء
(كيف حالها؟، أنت تعلم أن قدرها لدي من قدر أمها رحمها الله)
ربت سليم على كتفه مجددا وهو يقول بهدوء
(رحمها الله، سوار تسأل عنك باستمرار، كنت معلمها و الأقرب لها في العائلة يا ليث)
التوت شفتا ليث في ابتسامة لم يطالها المرح، قبل أن يقول
(لولا العمل، لما ابتعدت)
أومأ سليم برأسه صامتا وهو يحرك حبات سبحته، شاردا...
ثم التفت الى ليث قائلا بهدوء
(لا تقطع صلة رحمك في ابنة عمتك يا ليث، انها امانة)
عقد ليث حاجبيه وهو يقول بخفوت
(لن أقطع صلة رحمي أبدا يا سليم، طالما بصدري نفس يتردد، لماذا تقول ذلك؟)
نظر اليه سليم طويلا قبل أن يقول
(أوصيك بها، فلا تتركها)
اتسعت عينا ليث للحظة، قبل أن يقول بعدم فهم
(سوار ليست وحدها، سأظل دائما ابن خالها و سأتواجد ما أن تحتاجني، أما عنك و جدك وأعمامها فجميعكم حولها لماذا توصيني أنا بها؟).
نظر سليم الى عيني ليث بعينين صافيتين، قبل أن يقول بهدوء
(جميعهم حولها نعم، لكن القانون أحيانا يضعف البصيرة حين يكون صارما دون تفكير، دون روح، أخشى أن يجبروها على ما تكره)
ازداد انعقاد حاجبي ليث بقلق و صدره ينقبض بعنف، قبل أن يقول
(وأين أنت يا سليم؟، لماذا يشعرني كلامك بالقلق؟)
ابتسم سليم وهو ينظر الى ليث دون أن يتعكر صفاء عينيه، ليقول بهدوء
(أشعر بدنو الأجل يا ليث)
انتفض جسد ليث الضخم وهو يقول بقوة.
(لا اله الا الله، اذكر الله يا سليم، ما هذا الذي تقوله؟)
الا أن سليم لم يفقد ابتسامته وهو يقول
(قد لا تجمعنا الأرض مجددا يا ليث، و يطول الفراق هذه المرة، لكن تذكر وصيتي لك، و لا تضيعها)
كان ليث يلهث بالمعنى الحرفي للكلمة، فأمسك بكتفي سليم وهو يقول بقوة
(وحد الله يا سليم، و توقف عن هذا الكلام)
الا ان سليم قال مبتسما وهو يربت على كف ليث فوق كتفه.
(لا اله الا هو، و من لنا سواه، هو الواحد القهار، خلق الكون، سبحن الله، سبحن الله)
انتفض ليث مجددا بطريقة لم يعهدها بنفسه. فاندفع ليعانق سليم بقوة و قد فقد القدرة على النطق...
الا من قول
(اعتن بنفسك يا سليم، و سأراك قريبا يا صديقي)
و دون كلمة اخرى كان قد اعتلى جواده، ليضرب لجامه و ينطلق به بكل قوته...
يجري به على طول امتداد الأرض الواسعة وهو يميل الى عنق الجواد ليزيد من سرعته. فبدا كالريح العاصفة، عيناه الصقريتان تضيقان فلا تبصران من الطريق الا وجه سليم...
و قلبه يدعو الله أن يجعل يومه أولا، فالأمانة كبيرة، اكبر من احتماله...
أما سليم فقد وقف ينظر الى الأرض الخضراء الساحرة، و عيناه تسبحان بخالق هذا الجمال و لسانه يهمس
يآ عالم السر لا يدري به أحد. ومعطي الحمد من بالحمد لباك.
إياك نعبد لا خوفا ولا طمعا. لكن حنينا إلى أنوار رؤياك
الله الله في روح تحن. وفي قلب يئن. بنار الشوق ناجاك
بحق طه وآل البيت ترحمني. وإن تحاسب على ذنبي فرحمآك.
دخلت تيماء من باب القصر و هي تلهث بعنف، و قد نال منها التعب و قسوة المشاعر التي عاشتها للتو...
أما دموعها فقد تجمدت على وجنتيها الشاحبتين شحوب الأموات...
اندفعت الى القاعة تبحث عن سوار، و بالفعل وجدتها تجلس بجوار النافذة المفتوحة، تراقب آخر شعاع يخبو للنهار...
قالت تيماء بقوة و هي تلهث
(متى سأقابل جدي؟، أرجوك أخبريني)
استدارت سوار تنظر اليها بدهشة، قبل أن تقول.
(أبشري اذن، بعد ساعتين فقط، سيجتمع بأبناءه أولا، ثم باقي العائلة فيما بعد)
أومأت تيماء بوجهها و هي تهمس بقوة و اصرار
(جيد، جيد)
قالت سوار مبتسمة
(و قد سأل عنك بالإسم)
اتسعت عينا تيماء و تسمرت مكانها، ثم همست بشحوب
(حقا؟)
قالت سوار بلطف
(نعم، يريد أن يراك مع ابنائه، أنت و مسك، لكن مسك لم تصل بعد حتى الآن، لقد هاتفتها و هي في طريقها للوصول ان شاء الله).
تحركت تيماء بتعب الى ان ارتمت جالسة بجوار سوار، ثم قالت بخفوت
(أتعلمين لماذا يريد رؤيتنا أنا و مسك دون باقي الاحفاد؟)
قالت سوار
(حسنا سأخبرك بسر، لدى جدي دائما فتاة مفضلة، جميع الأبناء يختارون زوجاتهم من بنات الأعمام، الا تلك الفتاة المفضلة لديه، فهو يمسكها من يدها، و يقول لها بصوته المهيب، هاؤلاء أبناء أعمامك، اختاري منهم زوجك)
اتسعت عينا تيماء بذهول، قبل أن تقول بصدمة.
(أنت تمزحين!، يجعل فتاة تختارزوجها؟)
قالت سوار
(ليست أي فتاة، بل المفضلة لديه، فعل ذلك مع ابنة واحدة من بناته، و فعلها مع والدة مسك فاختارت ابنه سالم، الذي هو والدك، ثم فعلها مجددا معي)
شردت نظراتها قليلا و هي تنظر من النافذة الى الليل الشاحب، ثم قالت بخفوت
(وقتها لم يكن هناك من الذكور الذين يكبرونني سنا و غير متزوجين سوى سليم و راجح، فاخترت سليم)
كان الذهول يلف تيماء بقوة، فقالت بعدم تصديق.
(وقفت أمام الجميع و اخترت زوجك؟)
نظرت سوار اليها بصمت قبل أن تقول مصححة
(اخترت سليم، و لم أندم يوما على اختياري)
رمشت تيماء بعينيها قبل أن تقول بخفوت
(و ماذا سيحدث اليوم اذن؟)
هزت سوار كتفيها و هي تقول
(على الأرجح سيخير مسك، فقد لمح لي أن هناك فرحا قريبا)
قالت تيماء بحيرة
(مسك مخطوبة)
قالت سوار بنفاذ صبر.
(منذ متى لم تتواصلا؟، لقد عقد قرانها على ابن عم لنا، لكن لم يحدث نصيب و أصرت على أن يطلقها، و كانت هذه سابقة في العائلة، لكن مسك كانت لها مكانة خاصة، لذا تم عقد صلح بيت العمين و انتهى بفسخ عقد القران)
همست تيماء ضائعة
(كل هذا حدث لمسك و انا لا اعرف!)
قالت سوار بخفوت حزين.
(لقد تغيرت كلتانا، بعد موت أمي، ثم لحقها أبي بعد شهرين فقط حزنا عليها، فلم يتحمل فراقها، و موت والدة مسك بعد مرض طويل مضني، نعم تغيرنا)
ظلت تيماء تنظر اليها طويلا...
اذن فمسك ستختار زوجها اليوم، لكن من سيكون من أبناء أعمامها؟
و ماذا عنها هي؟، كيف ستفتح موضوعها معه، كلما أسرعت، كلما أسرع رحيلها، و انتهى عذابها...
مرت الساعتان و كأنهما دهرين كامليين...
و ها هي تقف أمام القاعة القديمة، الآن فقط ستقلب هذه الصفحة من حياتها للأبد...
رفعت ذقنها و عدلت من ملابسها الأنيقة ووشاحها، قبل أن تخطو بأناقة و ثقة للداخل...
كانت القاعة بها العديد الرجال الأقوياء، يتشابهون في المجمل...
رأت فريد الذي لوح لها مبتسما ما أن التقت أعينهما، فابتسمت له بمودة و تابعت خطواتها الأنيقة...
بينما ساد الصمت من حولها و الجميع يتأملونها بدهشة، فقد كانت مختلفة الشبه عنهم...
الا أن قوانين الوراثة تمنحها الكثير من صفات العائلة...
أقسمت تيماء الا تتوتر، بل ستكون تيماء، فقط تيماء دون لقب او نسب...
ستكون قوية في انهاء الأمر بسرعة...
توقفت للحظة حين أبصرت والدها، كان يجلس في نهاية القاعة، كان مكتفا ذراعيه...
يحدق بها مجبرا، عيناه تتهربان منها، الا أنهما لا تبتعدان وهما تسترقان النظر اليها...
ياللهي، كم شاخ و بدا اكبر سنا!
أين ذلك الذي أرعبها يوما؟
استجمعت تيماء كل نفورها و احتقارها و ركزتهما في نظرة واحدة رمقته بها، نظرة حملت تشفي و انتصار، نظرة حملت كل سعادة تلك اللحظة، لا لشيء سوى لأن تحط من قدره، و تتواجد هنا رغم عنه وهو يجلس صاغرا لا يملك حيلة، ثم ابعدت وجهها عنه بترفع...
و نظرت الى المقعد الضخم المواجه لها، فتوقف قلبها، ثم ابتسمت...
كان جدها يجلس هناك، ذلك الرجل الذي رأته مرة واحدة فقط و منحها فرصة أخرى للحياة متدخلا بسطوته...
نعم هو، لقد كبر قليلا و ظهر العمر أكثر على ملامحه، الا أنه لم يفقد ذرة من هيبته...
ابتسم ذلك المهيب، سلطاني الهيئة...
و قال بصوت ارسل صداه الى آذان الحاضرين، صوت عميق، مرتاح، راض
(تعالي يا ابنة سالم، اقتربي مني أخيرا يا حفيدة سليمان الرافعي).
أسرعت تيماء بخطواتها الرشيقة اليه أمام اندهاش الجميع، و ما أن وصلت اليه، حتى مد لها كفه لتقبل ظاهرها...
بقت تيماء مكانها تشعر بالرفض الداخلي، فهي لم تقبل يد مخلوق من قبل...
الا أن نظرة تحذيرية من فريد، جعلتها ترضخ على مضض و تنحني لتقبل ظاهر يده...
شعرت فجأة بيده الأخرى توضع على قمر رأسها المحنى و هو يقول برضا
(كبرت، كبرت و صرت مدعاة للفخر بك).
رفعت تيماء وجهها مزهوا اليه فلم يترك يدها، بل جذبها لتجلس بجواره وربت على كفها في يده وهو يقول متأملا اياها على مهل
(كيف حالك يا صغيرة عرائس عائلة الرافعي؟)
هل عرف ما ستحدثه عنه؟، أم انه استنتج فقط؟
فتحت فمها لتجيب، الا أن الكلمات توقفت في حلقها و ماتت منصهرة و هي ترى القادم و الذي دخل الى المكان بهيمنة و سيطرة...
ذلك المهندم بعد ترويض فرس جامحة منذ ساعتين فقط...
ذلك اللذي دخل و عيناه مسلطتان على عينيها بقسوة، بينما هالة من الرجولة تحيط به وهو يتقدم و كأنه يملك المكان...
قاصي الحكيم..
كانت سوار تراقب ما يحدث من احدى شرفات القصر الكبيرة و عيناها تلمعان بالفخر، و صدرها ممتلىء زهوا و هي تهمس مبتسمة
(بسم الله ماشاء الله، حفظك يالله يا ابن خالي، و حماك من شر العين يا ليث).
قفز قاصي من على ظهر الفرس وهو يشدد الإمساك بلجامها، لاهثا متعبا، و جانب صدره ينزف و العرق يلمع على جسده...
فقال ليث لاهثا هو الآخر...
(جرحك عميق يا قاصي، اهتم به)
رفع قاصي كفه ليصافح ليث بقوة وهو يلهث قائلا
(ظهورك جاء بوقته)
ربت ليث على عنق الفرس وهو ينظر اليها باعجاب قائلا، كنت امر من ارضكم فقط...
توترت شفتي قاصي وهو يسمع كلمة ارضكم، و اشتدت صلابة فكه الا أنه لم يرد، بينما قال ليث بتعب.
(اعتن بنفسك)
ثم ابتعد ببطىء، بينما وقف قاصي بجوار وجه الفرس، ينظر اليها بعينين مظلمتين، عاقدا حاجبيه، و يده تربت على أنفها بحنان، ليهمس لها بخشونة
(اهدئي الآن، أنا أيضا لم أحب ذلك، لكنه يقربني اليك، ارتاحي)
ظل يربت على أعلى أنفها الحريري الأسود و هي تميل اليه، فهمس لها
(جميلة أنت، كبريائك و بهائك يخطفان قلبي)
رفع عينيه فجأة في اتجاه محدد، كان قد حدده قبل أن يبدأ حربه مع الفرس...
فنظر مباشرة الى العينين الفيروزيتين، و كم كانتا باكيتين!، و منذ متى؟
أما هي فلم تهرب على الفور، بل ظلت واقفة مكانها تؤكد لعينيها انه لم يصب بأذى فادح...
لم تلحظ الدموع التي بللت وجهها و هي تقف عند السياج ممسكة به، تنظر اليه من بعيد...
ان الأوان كي تبعدي عينيك يا تيماء، الان
و بالفعل اسبلت جفنها و هي تتراجع، لكنه لم يكن ليتركها تهرب هذه المرة...
فمع اول خطوة تراجعتها، كان قد اتخذ قراره و سلم لجام الفرس الى احد عمال الاسطبلات الأقوياء...
ثم رأته تيماء يتجه ناحيتها و عيناه عليها لا تتركانها...
فاستدارت بسرعة و ابتعدت عنه، تنوي الهرب، لكن الى متى؟
هذه الزيارة القاتمة، خطت عليها المواجهة التي لا مفر منها...
وجدت قدميها تسوقانها بعيدا، على امتداد الأرض المفتوحة، بعيدا عن حواجز القصر...
و صوت اقدام قوية خلفها ترعبانها، لكنها لم تسرع الخطا، فقط دست كفيها المرتجفين في جيبي سترتها الثقيلة، و رفعت غطاء الرأس الفرو فوق حاجبها...
كانت تنتفض كليا و الصوت يزداد وضوحا من خلفها، الا أنها رفضت الشعور بالضعف، او على الأقل اظهاره...
شعرت بالتعب من عمق انفعالاتها، فقررت الوقوف و المواجهة هنا...
لذا التفتت جانبا تنظر الى الأرض الممتدة الخضراء، و لونها الذي يتحول الى ذهبي قاتم و ألوان المغيب تزينها، و أشجار النخيل من بعيد تتوج جمالها...
بينما صوت الخطوات الواثقة من خلفها لا يسمح لها بحرية التمتع بكل هذا الجمال الممتد أمامها...
شعرت به يقف خلفها مباشرة، حيث توقف صوت خطواته
و صوت أنفاسه يصل أذنيها كلحن صاخب متسارع...
حينها التفتت اليه بقوة و هي تصرخ به بغضب كل الساعات المضنية السابقة.
(هل جننت؟، ما هذا الذي فعلته؟، كدت أن تقتل نفسك)
كانت عيناه تملآن نظره منها، وهما تطوفان حول ملامح وجهها الفتية، تلك البيضاء و المشربة بلون وردي لم تفقده على مدى السنوات...
و فراء غطاء رأس سترتها يحيط بوجهها فيزيدها جاذبية و جمال...
أما هو فقد كان عاري الصدر، نازف الجرح، قوي بدرجة مهلكه و عروق ذراعيه تظهران لعينيها، تثيران شفقة بقلبها لا تعلم سببها...
و كأنها قوة جبرية، ليست من اختياره...
لم يجبها على الفور، بل ابتسمت شفتاه وهو يقول بخفوت
(كم كبرت!، و كم أصبحت بهجة للنظر و دواء لكل روح تنظر اليك)
فغرت شفتيها المرتجفتين بشدة، و بهت غضبها في لحظة، بينما انتفض قلبها بعنف قاس من مجرد عبارة قصيرة...
ساد صمت طويل بينهما، يقطعه صوت الطيور من فوقهما عائدة الى أعشاشها مع المغيب...
الى أن قالت تيماء أخيرا بصوت تدربت ان تفقده الحياة كذبا...
(ماذا تفعل هنا يا قاصي؟)
ضاقت عيناه قليلا دون أن تفقد شفتيه ابتسامتهما الصغيرة الشاردة، قبل أن يقول دون مقدمات و بوضوح أذهلها
(انتظرك)
اتسعت عينا تيماء بصدمة، قبل أن تقول بخفوت
(هل كنت تعلم بقدومي؟)
قال قاصي بخفوت مبتسم، بينما عينيه تستعران.
(كنت أنتظرك كل عام، و آتي اليك خصيصا علني أراك، لكن هذا العام علمت بأنني سأراك لأول مرة منذ ثلاث سنوات)
كانت الصدمات تتوالى عليها بقوة، لكن صدمة واحدة جعلتها تقول متلعثمة
(ثلاث سنوات!، نحن لم نرى بعضنا منذ، منذ، منذ)
قال قاصي يقاطعها بصوت متهم رغم أنه لم يفقد هدوءه...
(منذ أن أبعدتني عنك؟)
هل يتهمها؟، هل يتهمها حقا؟
قالت بصوت قوي رغم الألم.
(أنت تعرف أنه لم يكن أمامي خيار غيره يا قاصي، لقد قطعت عهد، و كان على الإلتزام به)
قال قاصي بصوت غير متسامح، قاسي
(عهد بالفراق عني، بإقصائي من حياتك)
ابتلعت غصة بحلقها قبل أن تقول بقوة
(و أنت قطعت نفس العهد)
قال قاصي بقوة قاطع
(لم أتعهد يوما بالفراق عنك، فأنا لا أقطع عهدا يستحيل على تنفيذه)
انتفضت مجددا و هي تتراجع خطوة أمام هول مشاعره و عنفها على ملامح وجهه رغم هدوء ملامحه المتصلبة...
لماذا الآن؟، لماذا الآن بعد كل هذه السنوات؟
قال قاصي بصوت أكثر خفوتا و الإبتسامة المريرة على شفتيه
(تعهدت بتركك، و أضفت الى حين بنفسي)
تأوهت تيماء بصمت و هي تغمض عينيها، بينما قلبها يعلن ألما وصل الى أقصاه...
قال قاصي وهو ينظر الى ملامحها الساكنة بألم
(ثلاث سنوات في السفر يا تيماء)
فتحت عيناها لتنظران اليه من خلف بحر فيروزي قاتم، قبل أن تقول بخفوت
(كيف و متى رأيتني قبلها؟).
ابتسمت شفتيه المشقوقتين بجرح نافذ، ليقول بعد فترة
(كيف، بكل مكان، و متى، كلما استبد بي الشوق، بكليتك، خارج بيتك، تقريبا في كل مكان خطت قدماك اليه)
اتسعت عيناها بذهول و هي تسمعه، قبل ان تهمس بصوت واه
(لماذا؟، لماذا لم تبتعد؟)
اختفت ابتسامته، و باتت شفتيه خطا واحدا من الإتهام، وهو يقول
(تسأليني كيف لم أبتعد؟، و أنا الذي كنت أسأل نفسي كيف امتلكت تلك القوة على الإبتعاد دون النظر الى الوراء ولو لمرة واحدة).
اتهامه ضرب صدرها بقوة، فهتفت متألمة
(لا مجال لسؤالك يا قاصي، لو كنت تشعر بي و تعرفني بكل تلك الخصوصية التي تدعيها لما وقفت الآن أمامي و اتهمتني)
صمتت تتنفس بسرعة و عنف قبل أن تعاود الهتاف بقسوة و هي تشير باصبعها في اتجاه القصر
(و لما كنت أتيت الى هنا و أنت تعلم بأنني سآتي، أم أنك نسيت ما تعرضت له بآخر مرة رأيتك بها؟)
اشتعلت جمرتا عينيه البركانيتين وهو يهمس بشراسة، و صدره يعلو و يهبط بذكرى سوداء مريرة.
(كفى، اصمتي)
الا أنها صرخت بقوة
(لا، لن أصمت، طالما أنت تقف هنا بكل غرورك و تتهمني، فسأذكرك بما نلته هنا في هذا المكان يا قاصي، لقد ذقت الذل و تجرعت الألم لأيام بدت كسنوات مظلمة بطيئة، ارتعبت من الموت في بدايتها و تمنيته قبل نهايتها رحمة بي)
صمتت تلهث أمام عينيه المشتعلتين نارا سوداء و عذاب صامت، بينما تابعت تقول بألم.
(كيف تأتي الى هنا تحديدا، بعد كل هذه السنوات و تتهمني؟، ماذا كان على أن أفعل؟، لقد كتبت لي فرصة للنجاة، و كان على أن أتمسك بها)
اختنق صوتها فجأة، و شعرت بالدموع تتجمع أمام عينيها فأبعدت عنها صورة عيناه المشتعلة بجنون و الم...
يالهي!، لقد بكت مرتين اليوم!، بعد سنوات أقسمت الا تبكي مجددا أبدا...
ابتلعت الغصة في حلقها و هي تهمس بمعجزة
(ابتعد أرجوك يا قاصي، فقط لبضع ساعات، و سأختفي من هذه الحياة للأبد).
عضت على شفتيها و هي تخفض وجهها، ثم قالت بصوت أكثر قسوة و تحكما دون ان تنظر اليه
(لقد كبرت يا قاصي، كبرت و لا اتحمل الإهانة، لست خائفة، فقد عاهدت نفسي على أن اهزم خوفي من اي مخلوق بعد ما تعرضت له على يد أبي، لكن لن أتحمل اي مهانة، فقد كبرت عليها ووجودك هنا قد يعيد الماضي و يتسبب لي ما لن أتغاضى عنه هذه المرة)
ساد الصمت بينهما طويلا، قبل أن ترفع رأسها لتنظر اليه بشجاعة ثم قالت بهدوء زائف.
(بعض الذكريات عليك قتلها يا قاصي، فلماذا تعاود نبشها؟)
لم يرد على الفور وهو ينظر اليها بعينين تخيفان الجميع الا هي، لم تكن لتخاف عينيه ابدا...
لكنه حين تكلم قال كلمة واحدة
(لقد انتظرتك)
ارتجفت شفتيها بشدة، لكنها رفعت ذقنها لتقول بخفوت
(اذن هذا خطأك، فأنا لم أفعل)
ضاقت عيناه و خبت نظرتهما قليلا، و علمت أنها قد أوجعته بضربة غير متوقعة، لكنها ستعيدها لو تطلب الأمر، فقالت بخفوت أكبر و هي تهز كتفيها.
(كنت طفلة، و كبرت، أنا آسفة)
صمتت للحظة قبل ان ترفع يديها لتضيف اللمسة الاخيرة قائلة بتعجب زائف
(ماذا تخيلت غير ذلك؟، ماذا توقعت؟)
لم يرد، و عرفت أنه لن يرد، صدمته لن تكون اكبر من صدمتها بوجوده، و انتظاره لها خلال سنوات سفرها...
لذا. استدارت و تجاوزته بخطا عملت جاهدة على ان تكون ثابته، و حينها تركت العنان لدموعها الغزيرة الصامتة و هي تعض على شفتيها، بينما بقى هو مكانه، فلم تسمع خطواته خلفها...
لكن فجأة هدر صوته بقوة شقت الصمت المؤلم
(تخيلت الكثير يا تيماء، عشت على التخيل الذي لم أملك غيره، أما التوقع فواحد)
تسمرت تيماء مكانها و الدموع تتجمد بردا على وجنتيها اللاهبتين...
لحظة واحدة، قبل أن تطلق ساقيها للريح...
(ليث، ليث)
وصله الصوت الودود المألوف لديه، وهو يسير متمهلا، ممسكا بلجام حصانه...
فتسمر مكانه للحظة، هامسا بداخله بروح قاتمة
ليس الآن،
لكنه تمكن من الإلتفات مبتسما ليراه مقبلا...
سليم الرافعي رغم أنه يصغره بخمسة أعوام، الا أنه كان من أعز أصدقائه هنا في البلد، ما أن يعودا اليها و يتقابلان من جديد...
سليم هو الروح الأكثر نقاءا في كل من عرفهم...
لطالما كان مختلفا، مسالما و صالحا...
يحيا عالما خاص به، يناجي ربه اينما كان دون حتى ان يدرك من حوله...
وصل سليم اليه مبتسما و سبحته بيده بينما عبائته البيضاء تزيده بهاءا، و ابتسامته الحنونة تضيء وجهه لكل من حوله...
انه يقدر هذا الشخص تقديرا لم يقدره لغيره من قبل، ربما لأنه لم يعرف أحدا بنفس شخصيته و روحه سابقا، و يشك في أن يفعل لاحقا...
تكلم سليم مبتسما ببشاشة تنير القلب.
(كيف تغادر دون أن تلقي التحية؟، لم نعهدك شديد الجفاء بتلك الصورة!، أم غيرك السفر و بلاد الغربة؟)
تعمقت ابتسامة ليث وهو يمد يده ليصافح سليم بقوة و يشده الى عناق من طال سفره...
بينما الشوق كان من نصيب شخص واحد فقط...
هتف ليث بقوة صارمة مازحة كي يبعد الاسم عن تفكيره
(كيف حالك يا فتى؟، اشتقت اليك يا صاحب العنزة)
ضحك سليم وهو يقول
(الا زلت تتذكر عنزتي المسكينة؟)
قال ليث ضاحكا، خارج أسوار القلب المظلم.
(و من ينسى العنزة التي كانت ترافقك لكل مكان في احدى العطلات الى أن ماتت دون أن تذبح، بأمر منك)
ضحك سليم وهو يقول
(كانت طيبة، و محبة للغاية)
بهتت الضحكة من على شفتي ليث ليقول بهدوء خافت
(بل أنت هو الطيب يا سليم)
قال سليم وهو يربت مبتسما على كتف ليث قائلا
(يا طيب و أين أنت؟، طال غيابك أشهرا طويلة منذ آخر مرة أتيت بها لزيارتنا؟، ألم تشتاق الينا و الى أرضك، ألم تشتاق الى ابنة عمتك على الأقل؟).
تصلب جسد ليث على الفور و ابقائه ملامحه هادئة كان معجزة في حد ذاتها...
و قال بهدوء
(كيف حالها؟، أنت تعلم أن قدرها لدي من قدر أمها رحمها الله)
ربت سليم على كتفه مجددا وهو يقول بهدوء
(رحمها الله، سوار تسأل عنك باستمرار، كنت معلمها و الأقرب لها في العائلة يا ليث)
التوت شفتا ليث في ابتسامة لم يطالها المرح، قبل أن يقول
(لولا العمل، لما ابتعدت)
أومأ سليم برأسه صامتا وهو يحرك حبات سبحته، شاردا...
ثم التفت الى ليث قائلا بهدوء
(لا تقطع صلة رحمك في ابنة عمتك يا ليث، انها امانة)
عقد ليث حاجبيه وهو يقول بخفوت
(لن أقطع صلة رحمي أبدا يا سليم، طالما بصدري نفس يتردد، لماذا تقول ذلك؟)
نظر اليه سليم طويلا قبل أن يقول
(أوصيك بها، فلا تتركها)
اتسعت عينا ليث للحظة، قبل أن يقول بعدم فهم
(سوار ليست وحدها، سأظل دائما ابن خالها و سأتواجد ما أن تحتاجني، أما عنك و جدك وأعمامها فجميعكم حولها لماذا توصيني أنا بها؟).
نظر سليم الى عيني ليث بعينين صافيتين، قبل أن يقول بهدوء
(جميعهم حولها نعم، لكن القانون أحيانا يضعف البصيرة حين يكون صارما دون تفكير، دون روح، أخشى أن يجبروها على ما تكره)
ازداد انعقاد حاجبي ليث بقلق و صدره ينقبض بعنف، قبل أن يقول
(وأين أنت يا سليم؟، لماذا يشعرني كلامك بالقلق؟)
ابتسم سليم وهو ينظر الى ليث دون أن يتعكر صفاء عينيه، ليقول بهدوء
(أشعر بدنو الأجل يا ليث)
انتفض جسد ليث الضخم وهو يقول بقوة.
(لا اله الا الله، اذكر الله يا سليم، ما هذا الذي تقوله؟)
الا أن سليم لم يفقد ابتسامته وهو يقول
(قد لا تجمعنا الأرض مجددا يا ليث، و يطول الفراق هذه المرة، لكن تذكر وصيتي لك، و لا تضيعها)
كان ليث يلهث بالمعنى الحرفي للكلمة، فأمسك بكتفي سليم وهو يقول بقوة
(وحد الله يا سليم، و توقف عن هذا الكلام)
الا ان سليم قال مبتسما وهو يربت على كف ليث فوق كتفه.
(لا اله الا هو، و من لنا سواه، هو الواحد القهار، خلق الكون، سبحن الله، سبحن الله)
انتفض ليث مجددا بطريقة لم يعهدها بنفسه. فاندفع ليعانق سليم بقوة و قد فقد القدرة على النطق...
الا من قول
(اعتن بنفسك يا سليم، و سأراك قريبا يا صديقي)
و دون كلمة اخرى كان قد اعتلى جواده، ليضرب لجامه و ينطلق به بكل قوته...
يجري به على طول امتداد الأرض الواسعة وهو يميل الى عنق الجواد ليزيد من سرعته. فبدا كالريح العاصفة، عيناه الصقريتان تضيقان فلا تبصران من الطريق الا وجه سليم...
و قلبه يدعو الله أن يجعل يومه أولا، فالأمانة كبيرة، اكبر من احتماله...
أما سليم فقد وقف ينظر الى الأرض الخضراء الساحرة، و عيناه تسبحان بخالق هذا الجمال و لسانه يهمس
يآ عالم السر لا يدري به أحد. ومعطي الحمد من بالحمد لباك.
إياك نعبد لا خوفا ولا طمعا. لكن حنينا إلى أنوار رؤياك
الله الله في روح تحن. وفي قلب يئن. بنار الشوق ناجاك
بحق طه وآل البيت ترحمني. وإن تحاسب على ذنبي فرحمآك.
دخلت تيماء من باب القصر و هي تلهث بعنف، و قد نال منها التعب و قسوة المشاعر التي عاشتها للتو...
أما دموعها فقد تجمدت على وجنتيها الشاحبتين شحوب الأموات...
اندفعت الى القاعة تبحث عن سوار، و بالفعل وجدتها تجلس بجوار النافذة المفتوحة، تراقب آخر شعاع يخبو للنهار...
قالت تيماء بقوة و هي تلهث
(متى سأقابل جدي؟، أرجوك أخبريني)
استدارت سوار تنظر اليها بدهشة، قبل أن تقول.
(أبشري اذن، بعد ساعتين فقط، سيجتمع بأبناءه أولا، ثم باقي العائلة فيما بعد)
أومأت تيماء بوجهها و هي تهمس بقوة و اصرار
(جيد، جيد)
قالت سوار مبتسمة
(و قد سأل عنك بالإسم)
اتسعت عينا تيماء و تسمرت مكانها، ثم همست بشحوب
(حقا؟)
قالت سوار بلطف
(نعم، يريد أن يراك مع ابنائه، أنت و مسك، لكن مسك لم تصل بعد حتى الآن، لقد هاتفتها و هي في طريقها للوصول ان شاء الله).
تحركت تيماء بتعب الى ان ارتمت جالسة بجوار سوار، ثم قالت بخفوت
(أتعلمين لماذا يريد رؤيتنا أنا و مسك دون باقي الاحفاد؟)
قالت سوار
(حسنا سأخبرك بسر، لدى جدي دائما فتاة مفضلة، جميع الأبناء يختارون زوجاتهم من بنات الأعمام، الا تلك الفتاة المفضلة لديه، فهو يمسكها من يدها، و يقول لها بصوته المهيب، هاؤلاء أبناء أعمامك، اختاري منهم زوجك)
اتسعت عينا تيماء بذهول، قبل أن تقول بصدمة.
(أنت تمزحين!، يجعل فتاة تختارزوجها؟)
قالت سوار
(ليست أي فتاة، بل المفضلة لديه، فعل ذلك مع ابنة واحدة من بناته، و فعلها مع والدة مسك فاختارت ابنه سالم، الذي هو والدك، ثم فعلها مجددا معي)
شردت نظراتها قليلا و هي تنظر من النافذة الى الليل الشاحب، ثم قالت بخفوت
(وقتها لم يكن هناك من الذكور الذين يكبرونني سنا و غير متزوجين سوى سليم و راجح، فاخترت سليم)
كان الذهول يلف تيماء بقوة، فقالت بعدم تصديق.
(وقفت أمام الجميع و اخترت زوجك؟)
نظرت سوار اليها بصمت قبل أن تقول مصححة
(اخترت سليم، و لم أندم يوما على اختياري)
رمشت تيماء بعينيها قبل أن تقول بخفوت
(و ماذا سيحدث اليوم اذن؟)
هزت سوار كتفيها و هي تقول
(على الأرجح سيخير مسك، فقد لمح لي أن هناك فرحا قريبا)
قالت تيماء بحيرة
(مسك مخطوبة)
قالت سوار بنفاذ صبر.
(منذ متى لم تتواصلا؟، لقد عقد قرانها على ابن عم لنا، لكن لم يحدث نصيب و أصرت على أن يطلقها، و كانت هذه سابقة في العائلة، لكن مسك كانت لها مكانة خاصة، لذا تم عقد صلح بيت العمين و انتهى بفسخ عقد القران)
همست تيماء ضائعة
(كل هذا حدث لمسك و انا لا اعرف!)
قالت سوار بخفوت حزين.
(لقد تغيرت كلتانا، بعد موت أمي، ثم لحقها أبي بعد شهرين فقط حزنا عليها، فلم يتحمل فراقها، و موت والدة مسك بعد مرض طويل مضني، نعم تغيرنا)
ظلت تيماء تنظر اليها طويلا...
اذن فمسك ستختار زوجها اليوم، لكن من سيكون من أبناء أعمامها؟
و ماذا عنها هي؟، كيف ستفتح موضوعها معه، كلما أسرعت، كلما أسرع رحيلها، و انتهى عذابها...
مرت الساعتان و كأنهما دهرين كامليين...
و ها هي تقف أمام القاعة القديمة، الآن فقط ستقلب هذه الصفحة من حياتها للأبد...
رفعت ذقنها و عدلت من ملابسها الأنيقة ووشاحها، قبل أن تخطو بأناقة و ثقة للداخل...
كانت القاعة بها العديد الرجال الأقوياء، يتشابهون في المجمل...
رأت فريد الذي لوح لها مبتسما ما أن التقت أعينهما، فابتسمت له بمودة و تابعت خطواتها الأنيقة...
بينما ساد الصمت من حولها و الجميع يتأملونها بدهشة، فقد كانت مختلفة الشبه عنهم...
الا أن قوانين الوراثة تمنحها الكثير من صفات العائلة...
أقسمت تيماء الا تتوتر، بل ستكون تيماء، فقط تيماء دون لقب او نسب...
ستكون قوية في انهاء الأمر بسرعة...
توقفت للحظة حين أبصرت والدها، كان يجلس في نهاية القاعة، كان مكتفا ذراعيه...
يحدق بها مجبرا، عيناه تتهربان منها، الا أنهما لا تبتعدان وهما تسترقان النظر اليها...
ياللهي، كم شاخ و بدا اكبر سنا!
أين ذلك الذي أرعبها يوما؟
استجمعت تيماء كل نفورها و احتقارها و ركزتهما في نظرة واحدة رمقته بها، نظرة حملت تشفي و انتصار، نظرة حملت كل سعادة تلك اللحظة، لا لشيء سوى لأن تحط من قدره، و تتواجد هنا رغم عنه وهو يجلس صاغرا لا يملك حيلة، ثم ابعدت وجهها عنه بترفع...
و نظرت الى المقعد الضخم المواجه لها، فتوقف قلبها، ثم ابتسمت...
كان جدها يجلس هناك، ذلك الرجل الذي رأته مرة واحدة فقط و منحها فرصة أخرى للحياة متدخلا بسطوته...
نعم هو، لقد كبر قليلا و ظهر العمر أكثر على ملامحه، الا أنه لم يفقد ذرة من هيبته...
ابتسم ذلك المهيب، سلطاني الهيئة...
و قال بصوت ارسل صداه الى آذان الحاضرين، صوت عميق، مرتاح، راض
(تعالي يا ابنة سالم، اقتربي مني أخيرا يا حفيدة سليمان الرافعي).
أسرعت تيماء بخطواتها الرشيقة اليه أمام اندهاش الجميع، و ما أن وصلت اليه، حتى مد لها كفه لتقبل ظاهرها...
بقت تيماء مكانها تشعر بالرفض الداخلي، فهي لم تقبل يد مخلوق من قبل...
الا أن نظرة تحذيرية من فريد، جعلتها ترضخ على مضض و تنحني لتقبل ظاهر يده...
شعرت فجأة بيده الأخرى توضع على قمر رأسها المحنى و هو يقول برضا
(كبرت، كبرت و صرت مدعاة للفخر بك).
رفعت تيماء وجهها مزهوا اليه فلم يترك يدها، بل جذبها لتجلس بجواره وربت على كفها في يده وهو يقول متأملا اياها على مهل
(كيف حالك يا صغيرة عرائس عائلة الرافعي؟)
هل عرف ما ستحدثه عنه؟، أم انه استنتج فقط؟
فتحت فمها لتجيب، الا أن الكلمات توقفت في حلقها و ماتت منصهرة و هي ترى القادم و الذي دخل الى المكان بهيمنة و سيطرة...
ذلك المهندم بعد ترويض فرس جامحة منذ ساعتين فقط...
ذلك اللذي دخل و عيناه مسلطتان على عينيها بقسوة، بينما هالة من الرجولة تحيط به وهو يتقدم و كأنه يملك المكان...
قاصي الحكيم..