رواية المعلم الفصل الخامس 5 بقلم تسنيم المرشدي
رواية المعلِم
الفصل الخامس
_________________________________________________
أوصدت باب غرفتها بعد أن أخبرته بعدم ملكيتها لرقم مصري، جلست على الفراش تستنشق أنفاسها وتحاول ترتيب أفكارها جيدًا قبل أن تشرع في البدء فيما تريد.
ذهب ياسر إلى معرض ريان لكنه قد أغلق منذ زمن، حتمًا سيكون مغلق في مثل هذه الساعة المتأخرة، تنهد مستاءً ثم سحب هاتفه من جيب بنطاله وقام بالإتصال على ريان الذي أجابه بصوت ناعس:
_ خير يا ياسر حصل حاجة؟
حمحم ياسر بحرج بائن لم يأبى أن يضع نفسه في مثل ذلك الموقف المخجل لكن لابد وأن يفعلها، سحب نفسًا عميق وقال بإرتباك خجِل:
_ خير مفيش حاجة بس أنت كنت قولتلي هتزود لي القبض وأنا محتاج فلوس لأن بنت عمي ااا..
قاطعه ريان بنبره رخيمة:
_ هو المعرض قفل صح؟
أجابه ياسر بحرج وهو يطالع باب المعرض الموصد:
_ أه أنا واقف قدامه أهو
اعتدل ريان في جلسته وفرك ذقنه براحتي يده وقال مختصرًا حديثه:
_ طيب تعالي تحت البيت وأنا هقابلك
إلتوى ثغر ياسر بإمتنان شديد، تنهد براحة ممزوجة بالسعادة التي تغلغلت لأعماق قلبه:
_ متشكر يا ريان أنا مش عارف أقولك إيه أنت ونعمة الأخ
ردد ريان بإقتضاب:
_ ده حقك، يلا تعالى
نهض ريان بكسل وقام برش بعض المياه على وجهه لكي يستعيد وعييه كاملًا بينما أسرع ياسر خُطاه إلى منزل ريان.
_________________________________________________
_ أنا محروج منك أوي بس حقيقي مضطر لولا وجود بنت عم.."
هتف ياسر بحرج بائن بينما قاطعه ريان بنبرة جدية:
_ يابني مش مضطر تشرح أنت أخويا الصغير يا ياسر، مش الصغير أوي يعني أنا كده كبرت نفسي أوي
هتف ريان مازحًا بينما انفجر ياسر ضاحكًا على دُعابته وربت على كتفه ممتنًا:
_ ربنا يخليك ليا يا ريان أنا أبويا نفسه مش بيعمل معايا اللي أنت بتعمله ده
( ياسر منصور العراقي، يبلغ من العمر السادس والعشرون، طويل القامة رفيع الجسد، يمتلك عيون ردماية اللون ذات لمعة مميزة، بشرته حنطيه وشعره فحمي طويل بعض الشيء، الإبن البكري لوالديه ولديه شقيقة تدرس الإعدادية تُسمى ( أماني )
ابتسم ريان بود وردد متسائلًا:
_ يلا روح شوف أنت رايح فين
شكره ياسر مرارًا ثم غادر، يريد شراء كل ما يوجد أمامه فقط من أجل ابنة عمه التي هزت كيانه منذ اللقاء الأول لهم.
تقوس ثغره بحماس بعدما أنهى جميع مشترياته وتوجه مباشرةً إلى الفندق، قرع بابها بعد أن استأذن من موظف الإستقبال بالصعود إليها بعدما أفصح عن هويته.
توجست خيفة في نفسها أثر طرقات الباب في ذلك الوقت المتأخر من الليل، تمنت لو أن بإمكانها الإتصال بـ ياسر حتى تكون في حمايته، ماذا؟! ياسر ؟ لما تفكر به الآن ؟
ازدردت ريقها بخوف أكبر عندما تكررت الطرقات، زفير وشهيق فعلت هي بتوجس، توجهت نحو الباب بخطى متمهلة وهتفت متسائلة:
_ مين؟
_ أنا ياسر
هتف بها ياسر بنبرة متحمسة لرؤية طيفها بفارغ الصبر، وضعت عنود يدها على صدرها وزفرت أنفاسها براحة ثم فتحت الباب بعد أن عدلت من حجاب رأسها واستقبلته مرحبة بخجل، تقوس ثغر ياسر عفويًا منه عندما ظهرت امام مرأى عينيه.
رفع المشتريات بالقرب منها بينما ضاقت بعينيها عليه بغرابة:
_ إيه ده؟
ابتلع ريقه وأجابها بتوتر جلي قائلًا:
_ ده آكل أكيد مأكلتيش بقالك فترة، وده خط اشتريته عشان لو احتجتي لأي حاجة تكلميني
أبتسم و تابع مضيفًا:
_ أنا ركبته على موبايلي وسجلتلك رقمي عليه
ابتسمت عنود رغمًا عنها، لا تدري لما يُضحكها هذا الشاب باستمرار، تصرفاته العفوية التي يتعامل بها تجبرها على الإبتسام وربما بعض الإعجاب به.
دقت أسارير السعادة قلبه عندما ابتسمت لا يدري معني تلك الابتسامة التي رُسمت على شفتيها الورديتين لكن يكفي أنها ابتسمت له فقط.
أخذت عنود الحقائب البلاستيكية ورمقته ممتنة:
_ متشكرة جدًا You are very Kind، أنت لطيف جدًا
فغر ياسر فاهه ببلاهة وردد بسعادة:
_ أنتِ ألطف
انفجرت عنود ضاحكة على أسلوبه الطريف بينما شعر ياسر بالحرج وهتف مختصرًا حديثه:
_ طيب أنا همشي لو احتجتي حاجة رقمي معاكي
هزت رأسها بإيماءة خفيفة بينما أولاها هو ظهره ثم توقف واستدار إليها قائلًا بلُطف:
_ تصحبي على خير
إلمتعت بندقتاها وأجبرت شفاها على الإبتسام ورددت بخجل:
_ Good night ياسر
يا لا روعة إسمه، يالا جمال حروفه، شعر بأنه يمتلك إسم ملكي بعد نطقها لإسمه، كم نطقته بلُطف ورِقة، أراد أن يسمعه مرة أخرى، كأنها تعزف سيفمونية وليست فقط تنطق اسمه، أهو يبالع أم تلك هي لوعة الحب؟!
توردت وجنتيها بالحُمرة الصريحة خجلًا من أنظاره المُثبتة عليها، كما تعجبت أيضًا من تركيزه الشديد بها.
_أنت روحت فين؟
هتفت متسائلة بحياء وهي تلوح بيدها أمام وجهه، بينما ردد ياسر عفويًا منه بنبرة رخيمة:
_ فيكي!
اتسعت حدقتاها بذهول مما تفوه به لتوه، وهربت ببصرها بعيدًا عنه، انتبه ياسر لما قاله وقد تلونت وجنتيه بالحُمرة بسبب زلة لسانه التي أوقعت به وبدى كالطفل أمامها.
حمحم بحرج و استأذن بالمغادرة وركض مهرولًا خارج الفندق.
أوصدت الباب بإحكام ووقفت خلفه تبتسم على ما بدر منه، نظراته لها وعفويته معها تسبب لها حالة من الغرابة الممتعة أو ربما تعجبها!
ضربت رأسها بخفة مُشكلة إبتسامة متهكمة:
_ إعجاب إيه بس، روحي نامي أحسن لك
ألقت بجسدها المتهالك على الفراش وعانقت الوسادة بقوة حتى باتت في ثُبات عميق دون بذل مجهود.
_________________________________________________
عاد ريان لمنزله على مضضٍ، أوقفه حارس البناية قائلًا بصوت متحشرج:
_ الأسانسير اتصلح يا معلم
أماء إليه ريان برأسه ثم سار بإتجاه المصعد وولج فيه، ثم ضغط على زر الطابق الذي يسكن به.
تفاجئ بتوقف المصعد عند طابق منزل والده، كاد أن يضغط على زر الصعود مرة أخرى لربما حدث عُطل ما لكنه صعق عندما رآها أمامه بتلك الهيئة.
لابد وأنها جنُت تمامًا، أهي واقفة أمامه بقميص نومها الذي يبرز مفاتنها! أوصد عيناه وهتف بعصبية:
_ أمشي غوري من قدامي أصل ورحمة أمي هفضحك وما هيهمني حد
لم تعبأ لتهديداته وولجت المصعد وهي تتغنج بجسدها بكل وقاحة، ضغطت على زر الصعود للطابق الأخير ( السطح ) واقتربت منه بدلال مُشكلة إبتسامة ماكرة:
_ أنت يعني لما تغمض عينك مش هقدر أقرب منك؟!
إلتصقت بصدره البارز أسفل ذاك القميص الرمادي، سمحت ليدها بالتسلل أسفل ثيابه وتحسست صدره بنعومة، شعر هو برجفة قوية في أوصاله اثر لماستها عليه، خفقات قلبه تزداد عُنفًا مع مرور يديها الناعمتين على جسده.
أوصدت رنا عينيها متلذذة بتلك اللحظة التي لا تحدث كثيرًا، أمسكت بيده ووضعتها على خصِرها وأطلقت آنه لم تدري سببها أهي من فرط السعادة أم بسبب ضغطه على خصِرها.
فتحت عينيها لتتفاجئ بسودتاه يرمقانها بغضب عارم كاد أن يفتكها من شدته، دفعها ريان مستنكرًا تصرفاتها الوقحة التي تعدت اللامعقول وأسرع خارج المصعد وهبط إلى منزله هاربًا منها.
وقف خلف الباب يستنشق الصعداء، تلاحقت نبضات قلبه بعنف، حاول أن يمحي تلك اللعينة من ذاكرته لكنها لا تذهب، لأ تبرح عقله، جسدها يراوده حتى وهو موصد العينين، لماستها هزت جوارحه.
هز رأسه طاردًا تلك الأفكار التي حتمًا ستهلكه، سحق أسنانه بغضب شديد وهو لا يدري ماذا يفعل حتى يُهدِئ من روعه، لابد وأن يفرغ تلك الشحنة مع زوجته، نعم هذا الحل الوحيد أمامه!
ولج غرفته ولعن تلك العباءة التي تمنى أن يقطعها نصفين حتى لا تعود وترتديها مرة أخرى، اقترب منها بتهمل، جلس بجوارها على الفراش وتحسس ساقيها من أعلى ثيابها، وما أن رفع طرف ثوبها حتى استيقظت دينا في ذعر وأعادت تغطيه قدميها مرة أخرى وهتفت بحنق:
_ في إيه أنت بتعمل إيه؟
اقترب منها وتحسس قدميها برغبة يحاول خلع العباءة لكنها أبت وابتعدت عنه متسائلة بجمود:
_ في إيه يا ريان مالك؟
رمقها بنظرات مشتعلة، لقد كانت جامدة لا تلين بشتى الطرق، لماذا لا تفعل مثل اللعينة رنا؟، أهي لا تعلم كيفية إغراء زوجها مثل رنا، نفخ ريان بضجر لأنه بسبب تصرفاتها يعود تفكيره بالأخير إلى رنا.
نهض وهو يتأفف بغضب عارم وولج مرحاض غرفته ثم فتح صنبور المياه الباردة ووقف أسفلها لعله يهدأ قليلًا.
عادت إلى غرفتها يائسة من ذاك الذي أرهق قلبها، جلست على الفراش وأغمضت عيناها وهي تعيد ما حدث منذ قليل، سرت رجفة قوية في أوصالها لم يسبق لها وأن شعرت بها من قبل حتى مع زوجها الذي يتفنن لكي يرضيها فقط.
شعرت بيداه الغليظة تتحسس ذراعها والأخرى تداعب خصلاتها المحررة، ابتسمت بسعادة لينهال على عنقها بقبلاته الناعمة وهتف بإسمها الذي يعتبره لغة عشق بينهم:
_ رنا ..
اتسعت مقلتيها بصدمة عندما وقع على مسامعها نبرته التي تحفظها جيدًا، أصاب حدسها الأنثوي فهو هاني زوجها وليس ما تمنته، شهقت بصدمة متمتمة بعدم تصديق:
_ أنت!
ابتسم لها ببلاهة وقد عاد لما يفعله:
_ أيوة أنا أومال هيكون مين يعني؟!
حاولت الفرار من بين قبضتيه لكنه أبى فهو لن يبتعد عنها قبل أن يُكمل ما بدأه لتوه، لم تعد تنجح في مسايرة جسدها معه وكأنه يأبى لمساته عليه بعد لمسات ريان التي أجبرته هي على فعل ذلك، انسدلت دموعها رغمًا عنها وهو لم يعبأ لقطراتها الموجوعة قط.
_________________________________________________
أشرقت الشمس وملئت الأرض بنورها، استيقظ ريان اثرها، وضع يداه أمام عينه يحاول حجب ذلك الضوء، نهض من مكانه شاعرًا بصُداع شديد يعتلي رأسه.
ضغط براحتي يده على رأسه ربما يقلل من هذا الألم لكنه فشل، ولج غرفته وفتح درج الكومود وسحب منه أقراص مسكنة وتناول قرصين ثم ارتشف بعض المياه ورمق زوجته النائمة بإزدراء فهي لم تشعر من الأساس بعدم نومه بجوارها ألهذا الحد لا تعبأ له؟
شعر بالضيق يتغلغل تدريجيًا بداخله حتى تملك منه الغضب الشديد، أسرع في ارتداء ثيابه وهم بمغادرة المنزل قبل استيقاظها.
_________________________________________________
نهضت من جانبه وهي تشعر بآلام متفرقة في جسدها، ولجت المرحاض وحظت بإستحمام سريع، توجهت خارج الغرفة قبل أن يستيقظ وتُجبر على مسايراته لحين ذهابه، تقابلت مع يحيى في الممر الجانبي للغرف.
ابتسمت وهتفت بإهتمام زائف:
_ أحضرلك الفطار؟
رمقها يحيى بنظرات مشمئزة مختلطة بالإحتقار، شعرت بالغرابة من أمره فهي لم تعتاد تلك النظرات، عقدت ما بين حاجبيها وتساءلت بفتور:
_ في إيه بتبصلي كده ليه؟
كاد ينفجر بها ويعترف بأنه رآى قذراتها التي تفعلها مع أخيه لكنه تماسك حتى لا تقلب عليه الطاولة حتمًا تلك العقربة ستلدغ من يهد عُشها.
تنهد بضيق وحاول أن يجمع كلمات ليقولها:
_ أصل أنتِ عمرك ما حضرتي الفطار، دينا اللي بتنزل تحضره فاستغربت
ابتسمت رنا بتهكم وأجابته بإقتضاب:
_ أنت حبيبي يا يحيى ليك معزة خاصة عن الكل، ها تحب أحضرلك الفطار؟
اتسعت حدقتي يحيى بصدمة أهذا بمثابة اعتراف لحبه هو الآخر، ماذا تنوي فعل تلك اللعينة بعد؟
تركها وغادر سريعًا دون أن ينبس بحرف أسفل نظراتها المتعجبة من تصرفاته المبهمة التي تشهدها لأول مرة، لم تبالي كثيرًا وتابعت سيرها بتغنج نحو الباب لعلها تلمح طيف ريان وتهدئ من لهيب عشقها المتقد.
_________________________________________________
استيقظت بشعور مختلف كليًا، أتلك علامة على مكوثها أم ماذا؟ لا لن تتسرع في حكمها بالتأكيد ستظهر علامات أخرى تثبت أن مكوثها هنا الأفضل لها، لما تفكر فقط بالمكوث وليس بالمغادرة وكأن فكرة العودة قد حذفت من عقلها تماماً؟!
تنهدت بحرارة ثم ارتدت ثوب فضفاض نوعًا ما، ووقفت في شرفة الغرفة ذات المساحة الصغيرة التي تطل على جميع زوايا الحي التي تسكن به،
سمحت لعينيها بمشاهدة الأماكن جيداً وكأنها تحفظ معالمه لكي يَسهُل عليها التحرك بها، سحقًا لماذا يعود تفكيرها دائمًا بالمكوث؟
طردت أفكارها لكي لا تتسرع في أخذ قرارها، يجب التأني قبل أي خطوة مُقبلة عليها كما تعلمت من والدها.
شكلت ابتسامة على محياها عندما تذكرتهما وهتفت بألم:
_ ربنا يرحمهم ويسكنهم الفردوس الأعلى
عادت لتفحص كل ركن في المنطقة البسيطة التي لا زالت بعض منازلها بالحجارة الحمراء ويُفصِل بين الحجارة والأخرى لون رمادي.
والبعض الآخر من المنازل تقف على محارتها رمادية اللون، لمحت تلك اللوحة الضخمة التي يتوسطها إسم ( آل الريان ) للأثاث، رفعت بصرها على البناية الضخمة التي تعلو جميع البنايات الأخرى، وأيضًا يعتليها ( آل الريان ) بالتأكيد نفسه صاحب معرض الأثاث، صغت إلى قرع الباب، فتوجهت إليه بخطى متريثة ورددت متسائلة بنبرة مرتبكة فهي لم تعتاد المكان بعد:
_ مين؟
_ أنا ياسر
_هتف بنبرة متلهفة بينما فتحت له الباب بإبتسامة لم تتعدى شفاها، بادلها ياسر ابتسامة شغوفة ورفع يده نحوها قائلًا:
_ فطار بسيط
شعرت عنود بالخجل اتجاهه لا تدري لما، لكن يوجد به شيء يثير ارتباكها، شعرت بتلك الحرارة المنبعثة من وجهها فتأكدت أنه سار كالبندروة من فرط الخجل.
_استشف ياسر خجلها من تورُد وجنتيها، أسرع بالقول متسائلًا:
_ ها قررتي هتعملي إيه؟
رفعت بندقيتاها عليه بغرابة وأردفت:
_ لا لسه مش عارفة أكيد يعني مش هلحق أقرر في الكام ساعة اللي أصلًا أنا كنت نايمة فيهم
تنهدت ثم واصلت حديثها المسترسل:
_ بس أكيد هاخد قرار سريع عشان الدراسة قربت تبدأ وأنا لازم أقدم
رمقها ياسر بنظراته المبهمة التي لم تستطع عنود تفسيرها، تابع هو متسائلًا بفضول:
_ أنتِ عندك كام سنة؟
أجابته بتلقائية عابثة:
_ ١٨ سنة
اتسعت حدقتي ياسر بذهول وتمتم دون وعي منه:
- ١٨! أنتِ صغيرة أوي!
أبتسمت عنود بعذوبة وقد شعرت ببعض الحرج ليتابع ياسر مضيفًا:
_ أه شكلك صغير بس بصراحة متوقعتش أنك تكوني أقل من ٢٠ سنة وأنا اللي كنت ها...
صمت من تلقاء لنفسه، بينما رفعت بندقيتاها عليه ورمقته بعدم استعاب وأردفت متسائلة:
_ ها ايه؟
هز رأسه رافضًا متابعة حديثه وحاول تغير مسار الحوار:
_ لا ولا حاجة، أنتِ معاكي رقمي لو احتجتي لحاجة كلميني هجيلك على طول ..
حركت رأسها بإيماءة خفيف ممتنة له، أولاها ياسر ظهره وكاد أن يغادر لكنه توقف والتفت إليها:
_ هستني مكالمتك
عقدت عنود ما بين حاجبيها بغرابة:
_ ليه؟
حمحم بحرج بائن وأردف بنبرة متحشرجة:
_ تعرفيني قرارك!
إلتوى ثغرها بإبتسامة بشوشة بينما غادر وهو يشعر بالسعادة قد دقت طبول قلبه لظهور تلك الصغيرة في حياته، لكنها أصغر مما توقع فبأي صفة ستقبل به في حياتها؟ وبأي صفة يريد هو التقرب منها، كأخ لها أم شئ آخر كحبيب مثلاً أو ربما زوج!
انفجر ضاحكًا على تفكيره الساذج وما زاده إلا حماس لما هو أتٍ.
_________________________________________________
وصل ريان إلى ورشته الصغيرة التي بدأ منها، رحب به المسؤل عنها ( رفعت ) بحفاوة واستقبله استقبال حار:
_ معلم ريان بنفسه هنا دي الدنيا نورت والله اتفضل يا معلم
ابتسم ريان بتكلف ثم جلس على المقعد الخشبي وأشار لرفعت بالجلوس أمامه.
أمر رفعت أحد عماله بجدية:
_ هات حاجة سقعة للمعلم ريان بسرعة
رد عليه ريان مسرعًا:
_ ملوش لزوم يا معلم رفعت أنا جاي في حوار كده وماشي علي طول
اعتدل رفعت في جلسته وأجبر حواسه على الإنتباه جيدًا وسأله بإهتمام:
_ خير يا معلم حوار إيه؟
تنهد ريان ثم ارتشف القليل من الماء الموضوع أمامه وبدأ في حديثه مباشرةً:
_ عديت بالصدفة على ورشة الحج منصور ابن عم أبويا ولقيتها فاضية..
صمت ريان من تلقاء نفسه عندما رأى علامات التوتر قد اعتلت وجه الآخر، زفر أنفاسه بضيق و تابع حديثه مضيفًا بحزم:
_ ولما سألته الورشة فاضية كده ليه قالي إنك مش بتبعت له شغل، خير حصل حاجة عشان تمنع الشغل من عنده كده فجاءة؟
شهيق وزفير فعل رفعت بتوتر ثم قرر مصارحته بحقيقة الأمور وله حرية التصرف:
_ يا معلم ريان أنا كنت بعمل اللي أمرتني بيه، وكنت ببعت له بالعشر أوض في اليوم على إني أستلمهم آخر الأسبوع، آخر الأسبوع يجي وألاقيه لسه بيبدأ في أول أوضة وأنت عارف إن شغلنا بيكون اتفاقات على مواعيد معينة وكنا اتأخرنا في كذا طلبية والناس بقت تشتكي وهددوني إنهم مش هيتعاملوا معانا تاني، وقتها دورت على واحد بديل ليه وفي نفس الوقت ببعتله الأوضة اللي كان بيقعد فيها بالأسبوعين طلاما كده كده مش بيعمل غيرها
تفاجئ ريان بحديث رفعت فياسر لم يبلغه بالأمر كاملًا، ربما ليس لديه علم وإلا كان أخبره به، تنهد بضجر بائن ثم نظر إلى رفعت قائلًا بنبرة متريثة:
_ أنا لأني بحترمك وعارف إنك قاصد مصلحة الشغل مش هطول في الكلام بس بعد كده أي حاجة تحصل ترجعلي فيها قبل ما تاخد قرار من نفسك والكمية اللي كنت بتبعتها ابعتها تاني وأنا هتكلم معاه بنفسي
أماء رفعت رأسه بالإيجاب بينما نهض ريان وقال:
_ بعد إذنك
غادر المكان سريعًا واستقل سيارته وعاد بها إلى معرضه ليختلي بنفسه قليلًا ليرتب حسابات حياته التي انقلبت رأسا على عقب.
________________________________________________
انتهزت رنا فرصة انشغال دينا في إعداد الغداء وأخذت مفاتيح منزلها وانسحبت إلى الخارج بهدوء وحذر لكي لا يلاحظها أحد.
صعدت إلى الأعلى وفتحت باب المنزل وولجت بخُطى متمهلة، أوصدت الباب خلفها برفق ثم تسللت داخل غرفته وما إن وقفت في منتصفها حتى تغلغلت رائحة عطره التي تعشقها إلى أنفها الصغير.
اقتربت من خزانته وفتحتها، أخذت تتحسس ثيابه وجميع أشيائه بيدها، جذبت أحد قيمصانه وعانقته بشدة كأنه هو من يعانقها وليس مجرد ثوب خالي من البدن، توجهت نحو المرآة وأمسكت بعطره، رفعته بالقرب من أنفها وظلت تستنشق عبير رائحته التي بالتأكيد ستجن قريبًا إن لم يسمح لها بالتقرب منه والإستمتاع بكل أشيائه.
أعادت أنينة العطر مكانها، وتفحصت الغرفة سريعًا ثم هبطت إلى الأسفل قبل أن يُفضح أمرها.
_________________________________________________
جلس ريان على مقعد مكتبه يرتشف قهوته الخالية من الدسم، نظر إلى حيث الباب عندما سمع طرقاته، سمح للطارق بالدخول وإذا به يحيى، إلتوى ثغره بإبتسامة باهتة وأشار إليه بالجلوس، جلس يحيى بالمقعد المقابل له وتعابير وجهه لا تبشر بالخير.
وضع ريان فنجان قهوته على مكتبه ونهض من مكانه وجلس بالمقعد المقابل لأخيه وتساءل بتوجس:
_ في إيه وشك مقلوب كده ليه، حصل حاجة؟
تنهد يحيى بضيق عارم ممزوج بالخجل، كيف له أن يصارح شقيقه الأكبر في هذا الموضوع، هو ليس بتلك الجرأة حتى يتحدث معه بتلك الخصوصية، لكن لم يكن أمامه سوى أن يبوح بما يوجد داخله ربما يدله ريان على الصواب.
رفع عيناه على ريان وأردف بحرج:
_ أنا سمعت كل اللي رنا قالته امبارح!
اتسعت مقلتي ريان بصدمة جلية، أيعقل أن رآه معها في تلك الحالة التي كانت عليها، ابتلع ريقه وهو لا زال مندهشًا ولا يدري ماذا يجيبه.
تابع يحيى حديثه وهو يفرك أصابعه بعصبية:
_ كنت طالع لك السطح وسمعتها وهي بت...
لم يستطيع يحيى إكمال حديثه بينما تنهد ريان ببعض الراحة لأنه لم يرى ما حدث في المصعد حتمًا كان سيصعق أكثر من ذلك.
مال ريان بجسده للأمام لكي يكون أقرب إليه، وضع يده على فخذ يحيى متحدثًا بنبرة متريثة:
_ أنت جايلي ليه يا يحيى، أكيد شوفتني وأنا بصدها ولا أنت شاكك فيا و..
قاطعه يحيى مبررًا قصده:
_ لا لا شاكك فيك إيه بس، أنا مصدوم الموضوع مش سهل عليا وبصراحة أنا معتش طايق أبص لها بقيت قرفان منها أوي، و مش عارف هقدر أمثل في تعاملي معاها لحد امتى، ريان أنا جايلك عشان أقولك إديهم الشقة أنا معتش عايز أشوف وشها تاني
سحب ريان نفسًا عميقًا وعاد بظهره للخلف ورد على أخيه بحنقٍ:
_ سبق ورفضت بحجة إنها شقتك بس الصراحة إني مش عايز البني آدمة دي في البيت من الأساس، ما أنا كنت قولتلهم ماشي خدوها وكنت جبتلك واحدة أحسن منها مليون مرة بس أنا مش قابلها في البيت ولو كنت مش قابلها قيراط دلوقتي مش قابلها ٢٤ قيراط، أنا عايز أبعدها عني بأي طريقة وفي نفس الوقت هاني صعبان عليا إنه يعيش مخدوع مع واحدة زي دي بس أنا عارف إنه مش هيصدقني لو قولتله، فأنا اللي هقدر أعمله حاليًا ني أجبله شقة بعيدة، وبعيدة أوي كمان
أومأ يحيى رأسه مؤيدًا قرار أخيه:
_ أيوة يا ريان ياريت في أقرب فرصة، ياريت قبل ما الكلية تبدأ لأني مش عايز حاجة تشغلني عنها
ربت ريان على فخذ يحيى مشكلًا ابتسامة عريضة على ثغره:
_ أيوة كدا يا باشمهندس، اوعى تيأس في يوم أنا في ضهرك ديما لحد ما تخلص دراستك
ابتسم يحيى بإمتنان ووضع يده على يد أخيه الموضوعة على فخذه وأردف بحنو:
_ ربنا يخليك ليا يا ريان أنا من غير تشجعيك ووقفتك جنبي مكنتش دخلت الكلية اللي بحلم بيها من صغري
نهض ريان واقترب منه وجذبه من ذراعه وعانقه بشدة:
_ أنا شايف نفسي فيك يا يحيى، أنت بتعمل اللي أنا مقدرتش أعمله، بنجاحك مش هندم في يوم إني مكملتش تعليمي وحصل اللي حصل عشان أشوفك ناجح
شد يحيى على ظهر أخيه بقوة وأردف بحماس:
_ ربنا يقدرني وأفرحك يا حبيبي
_________________________________________________
وقفت عنود تضبط حجابها بعدما انتهت من ارتداء ثيابها، قررت أن تحاول ثانيةً مع عائلة والدها ربما تلين قلوبهم وتتغلب صلة الرحم عليهم ويقبلوا بها بينهم.
وقفت أمام ذلك الباب التي غادرته أمس بعد أن تلقت صفعة قوية على وجهها، شعرت بنفس ألم الصفعة وتحسست وجنتها بحزن وكادت أن تغادر لكنها صمدت فهي ستحاول لآخر لحظة فتلك وصية والدها.
قرعت الجرس، وبعد برهة فُتح الباب من قِبل فتاة صغيرة، ابتسمت لها عنود ثم قالت:
_ ممكن أقابل أونكل منصور
رمقتها الفتاة بتفحص ثم تساءلت بفضول:
_ أنتِ مين وعايزة بابا في إيه؟
اتسعت ابتسامتها عندما تأكدت من هوية الفتاة، كم تمنت أن تمكث بينهم أفضل لها من أن تعود وتمكث بمفردها، تنهدت بحرارة وأجابتها قائلة:
_ أنا عنود بنت ع...
قاطعتها سعاد مندفعة بها:
_ أنتِ تاني، انتِ محرمتيش يابت أنتِ، عايزة تضربي تاني عشان تخلي عندك دم؟
صعقت عنود من ذلك الهجوم عليها، حاولت أن تتماسك قدر المستطاع فهي أولًا وأخيرًا تحاول فقط من أجل والدها، وإذا فشلت بمحاولاتها ستعود إلى حيث جاءت على الفور.
تنهدت ثم ردت عليها بإحترام:
_ لو سمحتي اسمعيني أنا مش عايزة حاجة منكم، أنا بس عايزاكم تقبلوني بينكم ومش هكلف أي حد حاجة أنا هشتغل وهصرف على نفسي بس يكفيني إني أكون وسط أهلي مش أكتر
وضعت سعاد يدها في منتصف خصِرها رافعة إحدى حاجبيها مرددة بتهكم:
_ لا يابت صدقتك أنا، ده أنتِ تربية أجانب يابت يعني الله أعلم انتِ بنت سيف ولا بنت واحد تاني
اتسعت مقلتي عنود بصدمة أكبر، أغمضت عينيها تحاول جاهدة ألا تزفر دموعها وتظهر ضعيفة أمامها، ثم أعادت فتح عيونها على صوته الجهوري:
_ أنتوا واقفين على الباب كده ليه؟
تساءل منصور ثم تفاجئ عندما رآها مرة أخرى، تجهمت تعابير وجهه وصاح بها هدرًا:
_ أنتِ جاية تعملي هنا إيه، ما تغوري للمكان اللي أنتِ جاية منه ومتقرفيناش معاكي ومش عشان ابني حنين معاكي تفتكري إني هسمح لك تضحكي عليه لا أنسي
صمت منصور فتابعت سعاد مضيفة بتهديد:
_ ده أنا آكلك بسناني لو فكرتي تقربي من ابني
أجهشت عنود في البكاء لأولئك الناس عديمي الرحمة، لكن لا لن تسمح لهم بإهانتها فلقد بلغت ذروة تحملها، كفكفت عبراتها بأناملها واعتدلت في وقفتها أمامهم بشموخٍ:
_ أنا مش همشي من هنا دي بلدي زي ماهي بلدكم!
رمقتهم عنود بنظرات مشتعلة ثم غادرت سريعًا هذا المكان الذي يسبب لها الضيق، عادت إلى غرفتها بالفندق واستلقت بجسدها على الفراش وهي تعيد ما قالته متعجبة من أمرها:
_ أنا ليه قولتلهم إني هقعد هنا، مش ده خالص اللي كنت مخططة له، أنا كنت همشي لو فشلت معاهم ليه قولت كده، وليه أصلًا عايزة أكمل هنا، وأنا متأكدة إني هقابل مشاكل كتير؟!
أغمضت عينيها مخفية بندقتاها خلف جفنيها تحاول فهم ذاتها، نهضت وتوجهت إلى شرفة الغرفة وأستندت بمرفقيها على سورها وهي تطالع المنطقة بشغف:
_ ربنا أراد اني أكمل هنا فيكي، يا تري هيحصلي إيه؟
هزت رأسها برفض لما تقوله متمتمة بندم:
_ أستغفر الله العظيم إيه اللي أنا بقوله ده، ربنا يدبرلي أمري
عادت لتستكشف ثغر أخرى في ذلك الحي البسيط التي ستمكث به.
_________________________________________________
حل الليل سريعًا، علم ياسر ما حدث لعنود من شقيقته الصغرى، تدفقت الدماء في عروقه غضبًا لما فعلاه والديه بتلك الصغيرة.
سحق أسنانه بغضب ثم هرول خارج المنزل متجهًا إلى الفندق، طرق باب غرفتها ووقف قيد انتظار ظهورها، فتحت هي دون أن تعرف هوية الطارق وكأنها تثبت لنفسها مدى قوتها وتغلبها على خوفها.
شكلت ابتسامة على ثغرها عندما رأت ياسر، فهي كانت على دراية بأنه من يطرق بابها، بينما لم تتغير تعابير وجه ياسر كثيرًا وتحدث بنبرة محتقنة:
_ أنا عرفت اللي عملوه فيكي أنا آس...
قاطعته ورددت قائلة:
_ متتأسفش لو سمحت ده مش ذنبك هما اللي المفروض يعتذروا، والأيام بينا طويلة يمكن يندموا في يوم ويعتذروا
ضيق عيناه عليها متسائلًا بإهتمام:
_ أفهم من كلامك إنك هتقعدي هنا ومش هترجعي؟
أماءت رأسها مؤكده حديثه، انعكست ملامحه إلى السعادة وهتف بنبرة مرتفعة بحماس شديد:
_ كويس إنك قررتي تفضلي هنا، أنا كنت هزعل أوي لو رجعتي
ضيقت بندقتاها عليه متسائلة بفضول:
_ هتزعل! ليه؟
نظر إليها بحرج فهو منذ أن رآها لا يفعل شيء سوى أن يقع بلسانه معها، تنهد ثم حاول تغير مسار الحوار بنبرة خجولة:
_ جبتلك عشا، أنا عارف إن الغدا على الفندق عشان كده مجتش وقت الغدا أوعي تفتكري إني نسيتك، أنا قولتلك أنتِ في حمايتي ولسه عند كلامي
تقبلت عنود تغيره للحوار وبادلته إبتسامة عذبة لحديثه التي لم يفشل قط في إسعادها، شكرته ممتنة لإهتمامه وذوق تعامله معها ثم أوصدت الباب بعدما تأكدت من مغادرته.
_________________________________________________