رواية المعلم الفصل السادس 6 بقلم تسنيم المرشدي
رواية المعلِم
الفصل السادس
_________________________________________________
جلس ريان أمام والده وطلب من شقيقه المكوث معهم، تنهد ثم قال بنبرة تريد الخلاص:
اتسعت مقلتي هاني بدهشة وهتف بعدم تصديق ممزوج بالذهول:
_ بجد؟
أماء ريان رأسه مؤكدًا حديثه، نهض هاني بحماس شديد، تقوس ثغر ريان ريان بإبتسامة ظنًا أنه سيبادله عناق، نهض هو الآخر لكي يعانقه، لكنه تفاجئ بولوجه إلى غرفته، ارتخت ملامح ريان بيأس وفقدان أمل فهذا هو أخيه ولن يتغير قط.
ولج هاني غرفته مسرعًا، اقترب من زوجته الحبيبة وحاوطها من ظهرها ثم رفع يده أمام عينيها:
_ مفتاح شقتنا يا روحي
_اتسعت خضروتاها بدهشة واستدارت إليه بجسدها ورددت بعدم تصديق:
_ بجد، ريان وافق يعطينا الشقة اللي فوق؟
هز هاني رأسه بإنكار وقال موضحًا:
_ لا دي شقة تانية بيقول بعيدة عن هنا نص ساعة، بس مش مهم المهم أن بقى لينا شقة لوحدنا
استشاطت غيظًا مما يفعله ذاك الريان حتى يُبعدها عنه، لكن لا لن تخضع إلى تصرفاته الحمقاء وتعلن إستسلامها بتلك السهولة التي يتوقعها فالطريق ما زال طويلًا حتى تصل إلى قلبه ولن تتركه قط.
تنهدت بغضب ثم أخذت المفتاح من بين يدي زوجها بعصبية وهرولت إلى الخارج مندفعة بريان قائلة بوقاحة:
_ متشكرين يا معلم ريان إحنا مش بنشحت منك، أنا مبسوطة هنا ومش همشي بالسهولة اللي أنت مفكرها دي، أخوك عندك أهو لو عايز يمشي هو يتفضل لكن أنا لأ
اقتربت منه وانحنت بجسدها لتكون في مستواه وأمسكت يده ثم وضعت بها المفتاح وهي ترمقه بنظرات مشتعلة ثم عادت لغرفتها مرة أخرى تحت نظرات هاني المصدومة.
بربك ماذا تفعلي أيتها المجنونة البلهاء، أترفض الآن وهي من طالبت بتلك الشقة، أليست هي من أذاقته مرارة الحياة فقط لكي تحصل على تلك الشقة، لقد افتعلت العديد من الأكاذيب الفارغة لكي تمنعه من التقرب منها حتى تملُك تلك الشقة! إذا ماذا حدث الآن؟
ولج خلفها وأغلق الباب بعنف واندفع بها بنبرةٍ حادة:
_ ينفع أفهم إيه اللي أنتِ عملتيه ده؟ مش دي الشقة اللي كنتي هتموتي عليها؟!
رمقته شزرًا وهي تسحق أسنانها بغضب وصاحت به:
_ أنا عايزة الشقة اللي فوق مش التانية
رفع حاجباه بذهول مستنكرًا تصرفاتها المبهمة بالنسبة له وتمتم بعدم تصديق:
_ يسلام! هي فرقت يعني، فوق من تحت مش المهم إننا في الآخر هنتلم لوحدنا في شقة
تأففت رنا بضيق بائن ثم أولته ظهرها متوعد لريان متمتمة بداخلها:
_ ماشي يا ريان عايز تبعدني عنك، ده بُعدك، بكرة أنت اللي هتجيلي راكع تتمني رضايا استنى عليا بس مش رنا الدمنهوري اللي يضحك عليها
خارج الغرفة، تنهد ريان مستاءً وهتف عاليًا:
_ أنا كده عملت اللي عليا يا حج
_ عداك العيب يابني
قالها ماهر بآسى لما حدث، بينما استأذن ريان ثم صعد إلى الأعلى، كاد أن يفتح باب شقته لكنه تراجع وفضل المكوث مع صديقه قليلًا قبل أن يقابل ذات الرداء الفضفاض، ظهرت على ثغره إبتسامة ساخرة عندما وصفها بذلك الوصف.
هبط سريعًا إلى الأسفل قبل أن تشعر بوجوده، وقام بالإتصال على صديقه خالد وقال:
_ إيه يابني أنت فين؟
_أنا في البيت في حاجة؟
قالها خالد وهو يطالع زوجته آية ( زوجته ) بحُب، فأجابه ريان بتوسل:
_ طيب ما تنزل تقعد شوية على القهوة أنا مش عايز أطلع البيت من بدري كده!
رمقته آية بنظرات رافضة تمامًا لتلك الفكرة، ابتسم خالد على تصرفاتها ثم هتف قائلًا:
_ خمس دقايق وهتلاقيني عندك، سلام
ابتعدت عنه وقد اعتلى الغضب تقاسيم وجهها وصاحت به:
_ هتنزل وتسيبني يا خالد؟ ماشي براحتك يلا قوم روح لصاحبك
تعالت ضحكاته ثم جذبها لأحضانه مرة أخرى، حاولت التملص من بين ذراعيه لكنه أبى أن يتركها وقال بحدةٍ مصطنعة:
_ما تهدي بقى، ريان مش بيطلب نقعد في القهوة غير قليل جدًا وغالبًا بيكون مخنوق من حاجة فطبيعي أقف معاه ولا إيه يا يويو؟
تنهدت مصطنعة الحزن:
_ خلاص خلاص أنا لحظة كمان وهشفق عليه
لكزها خالد في ذراعها مرددًا بمزاح:
_ اتلمي يابت ويلا قومي حضريلي هدوم على لما أخد دوش سريع
غمز إليها بعيناه بينما قهقهت هي بدلال، بادلها خالد الضحك هو الآخر وهتف مازحًا:
_ إلعب يا سمك
نهضت آية من جانبه وتعمدت أن تتغنج بجسدها أمامه ربما يشعر بالندم حيالها، استدارت إليه ورمقته بطرف عيناها:
_ أنت الخسران أصلًا مش أنا
زم شفاه بحزن زائف وردد مستاءً:
_ عارف والله بس خليها عليكي المرة دي، يلا بقى اعملي اللي قولتلك عليه بسرعة
أرسل إليها قُبلة في الهواء ثم دلف المرحاض لينعم بإستحمام سريع
أنهى حمامه وتوجه للخارج، ارتدى ثيابه التي أحضرتها آية ثم أقترب منها وقبل طرف شفتيها بنعومة شديدة:
_ سلام يا حبيبي
اقتربت هي منه وقبلته في وجنته قائلة برقة:
_ متتأخرش ..
أماء رأسه ثم غادر المنزل متوجهًا إلى المقهى الذي يجلسان به دومًا، وصل إلى ريان وجلس مقابله وقال متسائلًا بإهتمام:
_ مالك يا بني أنت مش بتطلب نقعد هنا غير لما بيكون في حاجة؟
زفر ريان أنفاسه بضجر بائن وهتف مغيرًا مسار الحوار:
_ لا عادي عايز أسهر معاك بس مش أكتر ..
رفع خالد حاجبيه بعدم تصديق:
_ مممم هحاول أصدقك، تلعب طاولة؟
ظهرت إبتسامة عريضة على ثغر ريان وهتف بغرور:
_ وحشِتك الخسارة؟
انفجر خالد ضاحكًا وأجابه من بين ضحكاته:
_ ده أنا هقطعك يا عراقي بس أصبر عليا بس
مر ياسر وألقى التحية عليهم وردد مرحبًا:
_ مساء الخير يا رجالة
إلتوى ثغر ريان بإبتسامة وسأله بفضول:
_ راجع منين كده في الوقت ده؟
اقترب ياسر منهم وسحب مقعد وجلس بينهم وأجاب ريان بإيجاز:
_ مفيش كنت عند بنت عمي في الفندق
ضيق ريان عينيه عليه عاقدًا حاجبيه بغرابة وسأله متعجبًا:
_ هي بنت عمك قاعدة في فندق ليه؟
حمحم ياسر بحرج وهتف موضحًا:
_ أهلي مش قابلينها مع إن هي والله محترمة جدًا وهادية وتتحب و...
صمت ياسر من تلقاء نفسه عندما أدرك وقوعه بالحديث ورأى خالد وريان يرمقانه بنظراتهم المتعجبة ثم انفجرا كليهما ضاحكين، أسرع خالد بالحديث ساخرًا:
_ ده العراقي الصغير وقع ولا حد سمى عليه
تابع ريان مضيفًا على حديث صديقه:
_ أنت نويت يابني على الجواز بالسرعة دي؟
عقد ياسر حاجبيه بتعجب وتسائل بفتور:
_ هو مش مسألة جواز أكيد في الوقت ده، ده أنا لسه عارفها من يومين بس أنا مرتاح لها دي كل الحكاية
ردد خالد وهو يُكمل لُعبه مع ريان دون أن ينظر إلى ياسر:
_ مرتاح لها وبعدها مرحلة إعجاب وبعدها تدخل على الانجذاب وهوبا تقع في الحب يا عزيزي
تقوس ثغر ياسر بإبتسامة خجولة وقد تلونت وجنتيه بالحُمرة خجلًا، ثم تساءل ريان بغرابة:
_ وليه يعني ميتجوزهاش على طول بدل اللفة دي كلها؟
رمقاه كليهما بنظرات مبهمة لم يستطيع تفسيرها حتى شعر ريان أنه افتعل شيئًا فادحًا بسبب نظراتهما، ابتلع ريقه وسألهما بحيرة:
_ في إيه بتبصولي كده ليه؟
أجابه ياسر موضحًا:
_ جواز من غير حب إزاي، دي تبقى حياة شكلها إيه دي؟
أضاف خالد لحديث ياسر قائلًا بنبرة متريثة:
_ يابني في ناس بتدخل حياتك تتحكم في دقات قلبك، تلاقي قلبك هادي وأول لما يشوفهم يعمل مهرجانات جوا كأنه مش بيشتغل غير في وجودهم
ردد ريان ساخرًا:
_ يا سلام هو البني ادمين كمان اللي بقت بتتحكم في دقات القلب يا سبحان الله!
عقد خالد ما بين حاجبيه بغرابة وهتف سؤاله بفضول شديد:
_انت محستش الأحاسيس دي مع المدام قبل الجواز ولا إيه؟
شعر ريان لوهلة بالخجل الشديد لأنه لا يعلم عن ماذا يتحدثون، انجذاب وإعجاب ماذا؟ أليس مفهوم الحب هو الزواج؟ أهناك شيئًا آخر يجهله؟
كاد أن يسألهما لكنه تراجع فمن الممكن أن يقع في موضع سخرية بينهما، لا ليس من الضروري أن يسألهما عن شيء، تنهد بضجر وشد تعابير وجهه وتلك كانت طريقته دومًا للهروب من أي حوار، بينما ضحك خالد على حالته وأردف بثقة:
_ عارف أنا الوش ده طلاما خَشِب كده يبقي إحنا دخلنا في منطقة محظورة، كمل لعب يا ريان أحسن ..
واصل كليهما اللعب بينما استأذن ياسر وهم بالمغادرة وتركهما يُكملان سهرتهما بمفردهما.
_________________________________________________
استيقظت بنشاط في الساعة السادسة صباحًا، ارتدت ثيابها التي أعدتها أمس استعدادًا للتقديم بالجامعة، ابتسمت بحماسٍ فهي لا تطيق الإنتظار،
أمسكت هاتفها وقامت بالإتصال على ياسر، وقفت في الشرفة قيد انتظار إجابته بفروغ صبر، لم تمر إلا ثوانٍ معدودة حتى استمعت لنبرته الرخيمة:
_ عنود أنتِ كويسة؟
ابتسمت لإهتمامه بها وأجابته بنبرة رقيقة:
_ الحمدلله، بس أنا كنت عايزة منك طلب!
اعتدل من نومه وأجبر جميع حواسه على الإصغاء لها لتضيف هي قائلة:
_ الدراسة قربت تبدأ وأنا محتاجة أقدم وإلا السنة هتروح عليا ينفع تساعدني لأني طبعًا معرفش الأماكن هنا
ابتسم بسعادة لأنه أول من لجئت إليه وطالبت بمساعدته، ربما لأنها لا تعرف شخص آخر، تجهمت تعابير وجهه عندما صارح نفسه بتلك الحقيقة، تنهد بحرارة ثم أجابها:
_ تمام خمس دقايق وهكون عندك
نهض وهو يتثاءب بكسل ثم ولج المرحاض، سكب بعض المياه على وجهه ومن ثم عاد لغرفته وارتدى سريعًا حتى يذهب إلى تلك الصغيرة التي سلبت عقله تمامًا.
إلتوى ثغره بإبتسامة عذبة عندما تذكر ملامح وجهها الخجولة وآخرى لإبتسامتها الرقيقة التي لا تتعدى شفتيها الورديتان.
شعر بنبضات قلبه التي تزداد عُنفوانًا عن ذي قبل وتمنى لو يحطم تلك الجدران التي تفصل بينهم ويصل إليها في أقل من الثانية.
تنهد بحرارة وأغمض عيناه مُشكلًا إبتسامة على ثغره وهو يراها أمامه في عالمه الخاص به، فتح عيناه ليتفاجئ بوالدته ترمقه بغرابة من أمره وتساءلت وهي تضع يدها على ذقنها:
_ أنت واقف عندك بتضحك على إيه؟
ابتلع ريقه ثم غادر من أمامها دون أن يتفوه بكلمة، رمقته بتعجب وسارت خلفه هاتفه بحنق:
_ أنت هتفضل متكلمنيش لأمتى إن شاء الله، كل ده عشان حتة البت اللي لا نعرف أصلها ولا فصلها، حِكم ياما هنشوف
التفت إليها اليها ورمقها بنظرات مشتعلة وقال بغضب يحاول كبحه:
_ البت دي بنت عمي يعني عرضي وعرضكم قبل مني، دي حتى لو جاية من الشارع وملهاش أهل وطلبت مساعدتنا لازم نعُولها ونحميها، ما بالك بقى ببنت عمي يعني واحدة من العيلة تعملوا فيها كده؟! لو أنتوا قاسيين أنا مش قاسي وهقف جمبها!
وضعت يديها على صدرها رافعة إحدى حاجبيها واندفعت به:
_مالك محموق لها أوي كده ليه اوعى تكون لعبت في دماغك يا حيلة!
زفر أنفاسه بضجر بائن لذلك الحوار المثير للجدل، حاول أن يتحلى بالصبر قدر المستطاع وأجابها بهدوء:
_ البنت دي أنا هتجوزها يا أمي
شهقت سعاد بصدمة وهي تضرب بيدها على صدرها:
_ يلهوي تتجوزها!! تتجوز تربية أجانب والله أعلم لو كانت بكيستها ولا لأ؟!
ضيق عيناه بغرابة من أمرها وصاح بها مندفعًا ولم يستطيع السيطرة على كبح غضبه أكثر من ذلك:
_ كيس إيه ومشمع إيه، تربية الأجانب دي أنا مشوفتش واحدة في ربع احترامها هنا في بلدي، وآه هتجوزها ما أنتوا رافضينها وأنا لازم أقف جنبها بس مش بصفتي ابن عمها، لا بصفتي جوزها اللي هيحميها منكم
رمقها ياسر بنظرات تحدي تدل على إصراره الكبير على قراره ثم تركها وغادر المنزل، لطمت هي على صدرها بقوة مرة أخرى ورددت بحسرة:
_ يتجوزها! الحرباية لافت على ابني لحد ما وقعت الشاب اللي زي الورد هتعمل زي أمها أخدت أبوه من وسط عيلته ومات ومحدش يعرف عنه حاجة العقربة!
اعتدلت في وقفتها لتكون أكثر جرأة وشموخ وواصلت حديثها قائلة بتحدٍ:
_ لكن ده بعُدها الحرباية دي، ده الحيلة هو فيه غيره عشان تيجي تاخده كده على الجاهز
أسرعت خُطاها وولجت غرفتها، وقفت أمام زوجها وهتفت بصياح:
_ أنت لازم تتصرف أنا ابني هيضيع مني، الحرباية لدغته بسمها وأنا لا يمكن أسيبه يضيع حياته بإيده
وضع منصور يده على فمها ليجبرها على الصمت وردد متسائلًا:
_ ششش في إيه ماسورة وانفجرت، حرباية إيه اللي بتتكلمي عنها؟
زفرت أنفاسها وقالت بنبرة سريعة لم يفهم منها شيء:
_ البت اللي بتقول إنها بنت أخوك دي
_ مالها؟
تساءل منصور بعدم استيعاب للأمر بعد، بينما أجابته سعاد وهي تسحق أسنانها بغضب عارم:
_ إبنك عايز يتجوزها!!
_ نعم؟!
صاح بها مندفعًا وهو يسحق أسنانه بغضب، رمقها بنظراته التي لا توحي بالخير ثم صاح متوعدًا لها:
_ ده يكون آخر يوم في عمرها، عايزة تعمل في ابني زي ما أمها علمت في أخويا
أنهى جُملته ثم غادر سريعًا وهو يتوعد لها بداخله، تفاجئ ياسر بوقوفها على باب الفندق مُشكلة ابتسامة عذبة مختلفة تمامًا عن ذي قبل مليئة بالنشاط والحيوية ظاهرة برائتها وكأنها طفلة.
بربك ماذا تقول أنت؟! هي بالفعل طفلة، ابتسم لها وألقى التحية عليها بحماسة:
_ صباح الخير، أنتِ واقفة هنا ليه؟
أخذت نفسًا بحماس شديد في خلاياها محافظة على ابتسامتها الهادئة التي ازدادت إشراقة وأجابته بنبرة متحمسة:
_ صباح النور، مش قادرة استنى لحظة كمان عايزة أروح أقدم حالًا أنت متعرفش أنا بحلم باللحظة دي من امتى
شعرت بتلك الحرارة المنبعثة من وجهها عندما رأته يتعمد النظر إليها بعيناه اللامعة وكأنها تروي له قصة، لما كل هذا الإهتمام الذي يبادر به نحوها دائمًا، لم تنكر أنها أحبت نظراته التي تحمل الفخر كما كان يفعلا والديها دائما بنظراتهم المرموقة قبل أن يخبراها رأيهما.
تنهدت وأردفت بإرتباك خجِل:
_ هتفضل تبصلي كتير؟
_ لآخر يوم في عمري!
قالها ياسر بلا وعي منه، رمقته بإندهاش واضح لتصريحه لها، اتسعت مقلتيها بذهول كما خفق قلبها بعُنف.
لم يكترث ياسر لما تفوه به ولن يعتذر هذه المرة فتلك البندقتين تربكانه دائمًا ولا يدري ما عليه قوله أمامها، لكن تلك المرة لم يشعر بالضجر وكأنه يريد الخلاص من لهيبه المشتعل بداخله وليحدث ما يحدث.
تعمد أن يطالعها بعذوبة عاشقًا لذات البندقيتين التي آذابت قلبه وسار مُتيم بها، نعم أيام قليلة لم تجمع بينهم أي مواقف تتعدى حاجز المعقول لكنه لأول مرة يسمح لفتاة بأن تسلب عقله وروحه بلا إرادة منه.
أحبها كما هي ولا يتمنى غيرها إمرأته، هي صغيرة لكنها نجحت بعفويتها بسلب قلبه منه دون إرادة وكأن قلبه بات خاليًا إلا من دونها.
رفعت يدها الصغيرة أمام وجهه تشير إليه محاولة تنبيه أو ربما إيفاقته من تلك الدوامة التي غرق بها، ابتلع ريقه وأردف بنبرة شغوفة:
_ يلا بينا؟
أماءت رأسها برفض وتابعت متسائلة بإستفسار:
_ يعني إيه اللي أنت قولته حالًا؟
تعجب ياسر من سذاجتها أو ربما تعمدها لجهل ما قاله حتى تجبره على البوح بمشاعره، لكن لا ليس وقت مصارحة الآن، لننهي إجراءات إلتحاقك بالجامعة أولًا يا صغيرتي ومن ثم نبوح لاحقًا.
_ يلا عشان منتأخرش
أردف بها وهو مشكل إبتسامة على ثغره تحت نظراتها المبهمة عليه، حاول أن يتماسك أمامها قدر الإمكان حتى لا ينفجر ضاحكًا بينما لم تعلق عنود عليه ربما ليس بالوقت المناسب لتفسير ما قاله.
سحبت نفسًا عميق وسارت بجواره تاركة بعض المسافة بينهم وما إن خطت خطوة حتى شعرت بحرارة الصفعة التي دوت على وجهها.
رفعت بصرها لتعرف هويته وتفاجئت بعمها منصور هو من صفعها، ترقرقت الدموع في عينيها وهي ترمقه بنظراتها البريئة بينما تفاجئ ياسر بفعلة والده، اقترب منه وهو لا زال مصدومًا وهتف بعدم تصديق:
_ أنت بتضربها ليه هي عملت لك إيه؟
أمسك منصور بذراعه وأجبره على الإبتعاد عنها وقال وهو يرمقها بنظرات مشتعلة:
_ ده جزاتها لما فكرت تخطفك من أهلك زي أمها خطافة الرجالة اللي أخدت أخويا معاها ومنعته عننا
دنا منصور منها وأردف من بين أسنانه المتلاحمة:
_ بس ده بُعدك يابت أنتِ، ابني خط أحمر أخرك تحلمي بيه، تتمنيه، لكن تطوليه مش هنولهالك
أجهشت في البكاء وهي لا تعي عن ماذا يتحدث ذاك الرجل، لكنها لن تضعف أمامه مطلقًا، كفكفت عبراتها بأناملها ثم عدلت من وقفتها لتكون أكثر جُرأة وشجاعة ورفعت سبابتها في وجهه محذرة:
_ أنا أمي مش خطافة رجالة أنا أمي حبت أبويا، وده سبب أنه يسيبكم ويروح لها، بس أنتوا هتعرفوا إيه عن الحب ياحرام صعبت عليا
صمتت من تلقاء نفسها عندما دوت صفعة أخرى على وجهها لكن تلك المرة كانت أشرس وأعنف، اقترب منها منصور وجذبها من حجابها هاتفًا بغضبٍ:
_ أنا هوريكي أنا هعمل فيكي إيه، عشان مش حتة بت زيك اللي تتكلم معايا أنا كده، أنا مبصعبش على حد يروح أمك
تفاجئ الجميع بمرور منصور في المنطقة وبيده فتاة صوت صراخها عالٍ يدوي في المكان، حاول ياسر منعه مرارًا لكن محاولاته بائت بالفشل الذريع، فوالده أقسم أن يهينها أمام الجميع لكي تترك تلك البلدة وتفر هاربة خشية من أفعاله معها.
ألقى بها منصور في منتصف المنطقة، تجمع حشد كبير من أهالي المنطقة إثر صياحهم ليعلموا حقيقة تلك الضجة.
فهتف ياسر بتوسل:
_ يا بابا كفاية اللي بتعمله ده أنا عمري ما هسامحك أبدًا
رمقه منصور شزرًا وقد لوى ثغره متصنع الحزن وخيبة الأمل وصاح بنبرة مرتفعة:
_ سمعتوا يا ناس، سمعتوا ابني الحيلة بيقولي إيه، عشان حتة بت جاية تخطفه زي ما أمها خطفت أخويا قبل كده، شاهدين على اللي بيحصل عشان محدش يلومني على اللي هيحصل مني، ده مهما كان ابني برده، ابني اللي بيقولي مش مسامحك عشانها!
وقعت على مسامع ريان تلك الضجة الخارجية، نهض وتوجه إلى الخارج حيث تفاجئ بالحشد الهائل من سُكان المنطقة واقفين أمامه.
نادى علي أحد عماله بصوت جهوري وسأله عما يحدث:
_ هو في إيه يابني، إيه اللمة دي؟
رفع العامل كتفه وأردف:
_ مش عارف بس بيقولوا الحج منصور بيتخانق
عقد ريان ما بين حاجبيه ثم سار مهرولًا نحوهم، اجتاز ذاك الحشد الهائل بصعوبة بالغة، وأخيرًا وصل لآخر نقطة ليتفاجئ بمنصور يصفع فتاة مُلقاه على الأرض تصرخ بشدة.
ركض نحوهم وأمسك بذراع منصور قبل أن يصفعها للمرة التي لا يعلم كم عددها، رمقه ريان بنظرات مشتعلة وصاح به هدرًا:
_ إيه اللي أنت بتعمله ده يا عم منصور، أنت بتضرب بنت في الشارع وفي منطقتي؟
ابتلع منصور ريقه وحرر ذراعه من بين قبضتي ريان، وعاد ببصره إلى عنود وبصق على وجهها بتقزز، صعق ريان من تصرفاته الوقحة وأسلوبه المهين حيال تلك الفتاة.
وقف ريان مُشكلًا حاجز بين منصور وبين الفتاة وأجبره على الإبتعاد قائلًا بإندفاع:
_ احترم نفسك بقى، لولا صلة القرابة اللي بينا كان ليا تصرف تاني معاك
احتدت نظرات منصور على ريان وهتف بغضب:
_ أنت إزاي بتكلمني كده المفروض تحترمني ده أنا راجل كبير قد أبوك
سحق ريان أسنانه لهذا المختل وأجابه بنبرة حادة ممزوجة بالخجل لكونه قريبه:
_ وهو في راجل كبير يمد ايده على بنت في الشارع كده وسط الناس؟
أجابه منصور بحنق يريد إنهاء هذا التحقيق السخيف:
_ بنت أخويا وبربيها محدش له دعوة
اتسعت حدقتي ريان بصدمة شديدة وأردف ولا زال في حالة ذهول تام مسيطر على تقاسيم وجهه:
_ بنت أخوك! يعني عرضك وتعمل فيها كده في الشارع؟
حاول منصور العودة إلى عنود لكن منعه ريان و أبى أن يفتح له مجالًا للعودة إليها واضعًا إحدى يده على صدر منصور محذرًا:
_ أقف مكانك يا راجل يا كبير يا عاقل
بحث ريان بسودتاه على ياسر وما أن رآه حتى صاح به مندفعًا بصوت جهوري:
_ تعالي هنا
حرر ياسر نفسه من بين ذراعي هؤلاء الرجال الذي أمرهم منصور بالإمساك به حتى لا يمنعه عما يفعله بتلك اللعينة، أسرع ياسر نحو عنود مباشرة وجلس القرفصاء مقابلها، انسدلت قطرة من عيناه على حالتها المذرية، لم يتمنى أن تُهان بهذا الشكل مطلقًا، زفر أنفاسه بضجر بائن وردد بنبرة محتنقة:
_ أنتِ كويسة؟
لم ترفع بندقيتاها هذه المرة وظلت تبكي بحرقة، لم تكن بتلك الشجاعة التي ظنت أنها تمتلكها، كيف ستواجه كل هذا الحشد من الناس بعد أن هانها ذلك الرجل المدعو عمها بهذا الشكل المُشين، أين كرامتها؟ أين كبريائها التي تتحلى به، لم تتوقف قطرات عينيها عن النزول قط، ياليته طعنها بخنجر ولم يفعل ذلك بها.
_ خد بنت عمك وامشوا يا ياسر وادخل عندي المكتب
قالها ريان بنبرة آمره ليومأ ياسر رأسه موافقًا ثم مد يده إليها:
_ تعالي معايا
رفعت عنود رأسها ومررت أنظارها على الجميع بحياء شديد، صعقت من هذا الكم الهائل الذي يشاهدها، وضعت يدها أمام وجهها تخفيه من نظراتهم التي تتآكلها بشراهة ظاهرة.
استشف ريان خجلها من خلف تصرفاتها، رفع بصره على الجميع وصاح هاتفًا بحدة:
_ يلا كل واحد يروح مكان ما جه، مش عايز حد هنا
بدأ الجميع في الإنسحاب واحد تلو الآخر حتى بات المكان خاليًا إلا من عنود وياسر وريان ومنصور.
شهيقًا أخذه ياسر بقوة وأردف بنبرة موجوعة:
_ الناس مشوا تقدري تقومي
أزالت عنود إحدى يدها عن وجهها لتتأكد من صحة حديثه وعندما تأكدت أزالت كلتى يديها عن وجهها، مد ياسر يده مرة أخرى بنية المساعدة لكنها أبت كعادتها ونهضت بمفردها تحت نظرات ريان المتعجبة من تلك الفتاة التي ترفض ملامسة الجنس الآخر.
تنهد وتحدث موجه حديثه لياسر مرددًا بنبرة آمرة:
_ يلا يا ياسر ادخل المكتب وأنا جاي وراك حالًا
أماء ياسر بقبول ثم نهض وأردف موجهًا حديثه إلى عنود بنبرة حنونة:
_ تعالي معايا
نظر ريان حيث يقف منصور وقال بنبرة متريثة تحمل من العتاب و اللوم قدرًا:
_ إيه اللي عملته ده ياعم منصور تضرب بنت أخوك بالمنظر المهين ده في الشارع وسط منطقتك، دي لو بنت من الشارع منعملش معاها كده لكن دي عرضك ومن دمك وفوق كل ده أمانة أخوك إزاي تعاملها كده؟
تأفف منصور بضجر بائن و أجابه بفتور:
_ ريان أطلع أنت منها، واحدة عايزة تخطف ابني مني زي ما أمها سبق وعملتها وأنا مش هسمح اللي حصل زمان يحصل تاني مش هسكت ده ابني الحيلة
ضيق ريان عيناه على منصور بعدم تصديق أيعقل أن الفتاة التي ترفض ملامسة الرجال وخصيصًا ياسر، فلقد رآها بنفسه أكثر من مرة ترفض ملامسته هي ذاتها من تريد سرقته من عائلته!
تنهد بعدم راحة، فمهما يحدث لا يصح ما فعله ذاك المنصور بها، لا يليق ولا يتماشى مع أعرافهم، أبتعد ريان عنه قليلًا وهتف بصرامة:
_ ده مش مبرر أنك تضربها، عمومًا أنا سمعت منك هروح أسمع منهم ونحل المشكلة دي، بس لازم تعتذرلها على الأقل
انفجر منصور ضاحكًا وهتف بسخرية:
_ لا دا أنت اتجننت على الآخر
رمقه ريان شزرًا ثم أولاه ظهره وغادر وتركه بمفرده، انعكست تعابير وجهه منصور إلى الغضب العارم وتوعد بداخله لتلك الفتاة اللعينة، فهي لم ترى بعد ما سيفعله بها.
عاد ريان بأدراجه إلى مكتبه وجلس على مقعده بعد أن طلب مشروبات طازجة مرحبًا بضيوفه.
تنهد مستاءً وتساءل بإهتمام:
_ ممكن أفهم أبوك إزاي يعمل كده؟
نظر ياسر إلى عنود التي كانت تجلس على طرف المقعد مقابله تفرك أصابعها بتوتر شديد خافضة رأسها بخجل ممزوج بالصدمة التي لم تتخطاها بعد، تنهد بألم لحالتها المثيرة للشفقة ثم أجاب ريان بنبرة محتقنة:
_ مش عارف، مش عارف
_ معلش في اللي هقوله بس هو قالي إنه خايف تاخدك منهم، هو إيه اللي حصل عشان يقول ولا حتى يفكر في كده؟
ازدرد ياسر ريقه بتوتر وهو يتذكر أنه صرح لوالدتها عن فكرة زيجته من عنود، لم يتوقع قط أن تكون ردة فعل والده قاسية لهذا الحد.
لعن غبائه لأنه من تسبب في وضعها في ذلك الوضع المُشين، كيف له أن يخبره بأنه العامل الرئيسي لوضعها في ذاك الوضع؟ كيف سيواجه عيناها بعد ذلك، هل ستسامحه؟ أم ستعود من حيث جاءت وتتركه وحيداً بعد أن وقع في حب تلك البندقيتان ولا يتحمل بعدها بعد الأن.
ما تلك الأنانية التي يفكر بها، أيفكر بنفسه فقط، لكن لا يجب أن يخبرها ويترك لها حرية التصرف وإن عادت لبلدتها سيتمنى لها الخير دائمًا ويطلب من الله أن يرفق بقلبه وينزل سكينه عليه لكي لا يشعر بألم فراقها.
_ أنا عارف هو عمل كده ليه أنا السبب!
صاح بها ياسر وهو يحاول الهرب من عيناها التي رمقته غير مصدقة ما قاله، بينما تساءل ريان بعدم استيعاب:
_ بسببك؟! أنت عملت إيه بالظبط؟
سحب ياسر نفسًا فالحديث بات ثقيلًا أمام بندقيتاها، زفر أنفاسه بخجل منها وتابع مضيفًا:
_ أنا قولت لأمي إني هتجوزها
اتسعت مقلتي عنود بصدمة لما وقع على مسامعها، نهضت ورمقته بعدم تصديق وصاحت به بجدية:
_ إيه اللي أنت بتقوله ده، جواز إيه اللي بتتكلم عنه؟
نهض ياسر هو الآخر بينما لم يبرح ريان مكانه يشاهد ما يحدث في صمت، ابتلع ياسر ريقه بحرج كبير وأردف موضحًا بنبرة شغوفة:
_ أنا حبيتك من أول يوم شوفتك فيه، والله أنا قولت كده عشان أخليكي جنبي وكمان عشان أحميكي منهم، إنك تكوني مراتي وقتها هيعملوا ألف حساب قبل ما يتكلموا بس معاكي، هقدر أأمن لك بيت تقعدي فيه وهساعدك وهقف جنبك وأنتِ حلالي
_ بس أنا عمري ما فكرت في الجواز خالص، أنا كل هدفي إني أخلص تعليمي وبعدين اشتغل، وأنا عن نفسي مش عايزاك تساعدني أنا أقدر أعمل كل حاجة لوحدي من غيرك، كفاية إهانة من وقت ما جيت مشوفتش غيرها
هتفت بهم عنود بنبرة محتقنة ممزوجة بخيبة الأمل بينما شعر ياسر بغصة مريرة في حلقه، ابتلع ريقه مراراً وأردف بتوسل:
_ وافقي وأنا مش همنعك من أي حاجة، هخليكي تكملي تعليمك وهساعدك في كل حاجة، هعوضك عن غياب أهلك وهعملك كل اللي تتمنيه بس وافقي
رددت بنبرة جامد ممزوجة بالغضب:
_ أنا محدش يقدر يعوضني عن أهلي مهما كان مين، وأنا مش محتاجة مساعدتك متشكرة ليك
نهض ريان ورمقها بحدة وهتف بجدية:
_ أنتِ مش في أمريكا اللي جاية منها يا آنسة، أنتِ في مصر يعني محدش هيسيبك في حالك، قُعادك لوحدك وخروجك ودخولك هيجيبلك صداع وكلام ملوش آخر، وهيطلع عليكي كلام متتمنيش إنك تسمعيه، الحل الوحيد إنك توافقي على جوازك من ياسر وأنا أضمنه براقبتي، مش عشان قرايب، بس هو فعلاً إنسان محترم وبيخاف ربنا وهيراعي ربنا فيكي، وأنا هساعدكم ومني ليكم شقة كاملة من مجاميعها هدية لأخويا الصغير
رمقه ياسر ممتنًا وأردف بشعور من الأمل قد تجدد بداخله:
_ متشكر جدًا يا ريان بجد مش عارف أقولك إيه
بادله ريان ابتسامة ودودة ليتخلص من ذلك الحوار سريعًا، تفاجئ كليهما بعنود مندفعة بهما بتذمر:
_ أنت بتشكره على إيه، وأنت شقة إيه اللي بتقول عليها، أنتوا بتبيعو وتشتروا فيا بصفتكم إيه أصلًا؟
ألقت عنود كلماتها ثم غادرت المكان مهرولة إلى الخارج تجر قدميها بثقل، تخبطت بين أفكارها ومشاعرها التي تجتاحها، تشعر أنها طفلة صغيرة تائهة تريد العودة إلى وطنها التي تنتمي إليها وإلى عائلتها تلقي بنفسها بين أحضناهم لكن أين هم الأن؟
يتبع..
السابع من هنا