رواية طائف في رحلة أبدية الفصل الرابع 4 بقلم تميمة نبيل
الفصل الرابع
بعد عشر سنوات...
انحنت و هي جالسة على حافة فراشها لتغلق سحاب حذائها عالي الساقين الأنيق و الذي يستطيل تحت تنورتها السوداء الطويلة التي تماثله أناقة، ثم نهضت برشاقة و هي تتقدم في غرفتها الجميلة المرتبة الى أن وصلت الى مرآتها...
وقفت تنظر الى ملابسها الأنيقة بعين التقييم، و المتكونة من التنورة الطويلة السوداء و سترتها القصيرة الحمراء الكلاسيكية، و قميصها الأبيض المغلق بأزرار لؤلؤية من تحتها...
ثم مدت يدها لتتناول وشاحها الأحمر، لتلفه حول وجهها و تثبت حجابها الذي زادها جمالا...
جعل احمراره يزيد من تألق عينيها الفيروزيتين...
اليوم من أسعد الأيام بحياتها، إن لم يكن الأسعد على الإطلاق...
فحياتها لم تحتوي على أيام ذات أحداث سعيدة قوية تعلق في الذاكرة...
باستثناء ذلك اليوم البعيد، منذ عشرة اعوام تقريبا...
اليوم الذي تصادف أن تقابل فيه مسك و...
رمشت تيماء بعينيها و هي تهز رأسها بقوة مبعدة تلك الذكريات التي لا داعي لها عن ذهنها...
فاليوم يوم مميز بحياتها...
تستطيع القول أن اليوم هو محطة انطلاقها الى عالم آخر، و حياة أخرى...
اليوم هو اليوم الأول بعد عودتها من منحتها للخارج، حيث أنهت رسالة الماجيستير الخاصة بها بتفوق...
كانت تتألق في سنوات دراستها في الخارج...
و قد كانت تلك المنحة نقلة حضارية في حياتها...
ثلاث سنوات في الخارج غيرت منها و من شخصها، و رسمت لها طريقها و احلامها...
لقد عادت من الخارج انسانة مختلفة، تلقت خلال سنوات منحتها الكثير مما تمنت أن تراه في بلادها، الا أنها عملت على الحفاظ على كل ما يميز شرقيتها، حتى أنها زادت نفسها بما لم تكن تتصف به قبلا...
بمراهقتها لم تكن تكترث لشيء...
لم تكترث لقانون أو عادات...
بالكاد تعلمت الصلاة و حافظت على الخمس فروض لكن أحيانا كان يضيع منها فرض أو اثنان...
كانت متفوقة دراسيا طوال عمرها...
لكن كان ينقصها الشخصية و الكيان، كان ينقصها الإنتماء...
و هذا هو ما تعلمته خلال سنوات منحتها على الرغم من قلتها...
هناك تعلمت التحضر، لكنها عرفت حضارة بلادها...
هناك عشقت التمدن، لكن عشق دينها كبر في قلبها بسرعة قصوى...
هناك ازداد حبها للدراسة، فتحول الحب الى نهم، حتى اصبحت كالوحش لا يوقفه الا الإستزادة...
اليوم في يوم ميلادها الرابع و العشرين...
أصبحت من أصغر من حصلوا على درجة الماجستير بعد منحة ثلاث سنوات في الخارج تلت تخرجها بتفوق مباشرة...
و هي تحضر على الفور لرسالة الدكتوراة التي تنوي نيل درجتها من الخارج أيضا...
فمما زاد من نجاحاتها المتعلقة بما أجبرها به القدر، أن أستاذ بكليتها تقدم لطلب يدها للزواج...
علي أن يعقدا قرانهما و يسافرا للخارج مباشرة، حيث سيكملان معا طريقهما العلمي في الخارج...
ابتسمت تيماء لصورتها ثم قالت بخفوت متألق
(لقد أصبحت على أول الطريق يا تيماء، انها بداية الإستقلال، ستتحررين اقتصاديا من سالم الرافعي، حينها ستقطعين الصلة الأخيرة به، و تبدأين بناء كيان تيماء الخاص)
علي الرغم من أن مال والدها وفر لها أكثر مما كانت تتمنى، على أن يكون الثمن هو ابتعادها للأبد...
لكنها كانت تحلم دائما باليوم الذي تتوقف فيه عن قبض هذا الثمن الغير مشرف
همست لنفسها مجددا بصلابة...
(لا يا تيماء، عيناك لا تجيدان اخفاء الألم، لذا اقتليه بداخلك، لأنني لن أسمح لأحد بأن يراه).
ابتسمت بالقوة و الغصب لصورتها الأنيقة، و قامت بتكملتها بكل ثقة بارتداء ساعة معصم ثمينة، و أمسكت بحقيبة تنافسها ثمنا، ثم اتجهت برشاقة الى حيث هاتفها تنوي أخذه الا أن صوت رنين مميز جعلها تعقد حاجبيها، فقد كان هذا رنين وصول بريد الكتروني...
التقطت تيماء هاتفها و فتحت رسالة البريد الالكتروني و كما توقعت، كانت من نفس الشخص
رسالة عملية مختصرة، تناسب شخصية البيئة التي أتت منها.
الإجتماع العائلي في نهاية الاسبوع، نتمنى رؤيتك به، جدك يطلب رؤيتك، فحاولي المجيء هذا العام...
ابن عمك k- r
رفعت تيماء عينيها الصارمتين لأعلى و هي تزفر بقوة
هذه الرسالة تصلها بانتظام، تقريبا منذ ثلاث سنوات، كل شهرين أو ثلاث...
رسالة مختصرة من أحد أبناء عمها يذكرها بالإجتماع العائلي...
باتت تعرف جيدا أن هناك اجتماع عائلي ضخم يعقد كل عام في يوم محدد و في بلد والدها...
يتم تجميع كل أفراد العائلة به، المتغتربين و المسافرين، و ساكني المدن...
الجميع يتجمعون في بيت كبير العائلة...
و حتى الآن لا يزال جدها على قيد الحياة...
لقد رأته مرة واحدة فقط، مرة لا تزال ذكراها المريرة محفورة في ذهنها...
و مع ذلك تحمل بداخلها امتنان عميق لهذا الرجل...
أخذت تيماء نفسا مرتجفا و هي تجلس على حافة السرير، عيناها الفيروزيتين تحولتا الى لون غائم، أقرب للرمادي...
علي الرغم من رغبتها الشديدة في رؤية جدها ولو لمرة واحدة ثانية...
الا أنها قطعت على نفسها عهد أن تبتعد عن تلك البلد نهائيا...
لكن ابن عمها هذا لا يمنحها الفرصة للنسيان أبدا...
يظل كل فترة يرسل اليها رسائله الباردة، يذكرها بالإجتماع العائلي...
وصلها فجأة رنين جديد، لرسالة بريد الكتروني جديدة...
عقدت تيماء حاجبيها و هي تنظر الى هاتفها بحذر، ماذا بعد؟، هل أخطأ و أرسل الرسالة مرتين؟
فتحت الرسالة لتقرأها، و فجأة ارتفع حاجبيها بذهول مما هو مرسل
حاولي عصر ليمونة على نفسك هذه المرة رجاءا، لربما حينها تنازلت و أتيت
اتسعت عينا تيماء و هي تتأكد من الكلمات قبل أن تقول
(ابن عمي يستخف ظله!)
ابتسمت رغما عنها و افلتت من بين شفتيها ضحكة و هي تهز رأسها، ثم لم تلبث أن عقدت حاجبيها و هي تهمس بتفكير
(ترى من من بين أبناء عمي يبدأ اسمه بحرف كاف؟، و لماذا لا يكتب اسمه كاملا؟).
أطرقت برأسها و هي تفكر في تلك الرسالة...
لقد تجاهلت كل الرسائل الماضية و لم تحاول حتى التفكير بها، لكن هذه المرة مختلفة
لقد طلب منها أيمن أستاذها في الكلية موعدا كي يقابل والدتها...
أيمن من اسرة كبيرة، وهو يعلم بأن عائلتها تماثل عائلته عراقة، لكن عائلته هو من هنا، من مدينتها الساحلية، و هذا من حسن حظها...
لكن الآن ما العمل؟، كيف تأتي له بعائلة تقابل عائلته؟
هل تتنازل و تدهس كرامتها و تطلب ذلك من والدها؟
التمعت عيناها فجأة و رفعت وجهها و هي تهمس برفض قاطع
(والله لن يحدث أبدا، حتى ولو فشلت تلك الخطبة)
لكن كان هناك حلا واحدا، يلاقي استحسان من رغبتها الدفينة...
الحل هو جدها...
تتمنى أن تقابله ولو لمرة واحدة اخرى، و هل هناك ما هو أفضل من هذه المناسبة؟..
و هل هناك من يشرفها اكثر من كبير عائلة الرافعي!
هذا بالإضافة الى أنها ستكون ضربة الى والدها في الصميم...
ستتجاهله كأنه لم يكن...
عند هذه النقطة تحول اللون الفيروزي في عينيها الى بحر براق اللون من التلذذ.
طرقت تيماء باب غرفة والدتها، ثم دخلت، لتقف مكانها مستندة بمرفقها الى مقبض الباب و هي تتأمل أمها بصمت...
كانت أمها لا تزال تحمل ملامح طفلة حتى في سنها هذا، و رغم بعض التجاعيد الرقيقة التي بدأت في الظهور على وجهها...
الا أن عينيها الخضراوين و شعرها البني الناعم، و جسدها اللذي لا يزال نحيفا، يجعلون منها طفلة...
أما شخصيتها فكانت أيضا شخصية طفلة، لكن في الجانب السلبي من الطفولة...
شديدة الإعتمادية على الغير، سلبية و متطلبة...
كثيرة الانهيارات العاطفية المملة...
أنانية في المجمل...
لكن رغم كل ذلك، كانت تيماء تحبها، و ستظل تحب أمها دائما...
قالت تيماء بهدوء
(صباح الخير ثريا)
استدارت ثريا الى تيماء و قالت بحبور و هي ترفع احد الفساتين قائلة
(جئت بوقتك تيموءة، أنا اثق بذوقك، من أجمل، الفستان الذي أرتديه أم هذا؟).
نظرت تيماء الى الفستان الذي كانت أمها ترتديه و الذي هو بالكاد يلامس ركبتيها، بلون أزرق منقوش بأمواج خضراء، أما المرفوع في يدها فهو يماثل الأول طولا إن لم يكن أقصر، لكن لونه وردي غامق...
رفعت تيماء احدى حاجبيها الا أنها لم تفقد أعصابها، بل قالت بهدوء
(طبعا لن تخرجي بهما خارج البيت، أليس كذلك؟)
عقدت ثريا حاجبيها و هي تستدير الى المرآة قائلة بعدم اقتناع.
(طبعا لن أرتديهما خارج البيت، كفي عن لعب دور الوصي علي، هذا يضايقني)
قالت تيماء بابتسامة صغيرة
(الوردي أجمل يا ثريا، و أيضا الفساتين التي جلبتها لك من الخارج، انها غالية الثمن جدا)
زمت ثريا شفتيها كالأطفال و هي تقول بضيق
(انها واسعة جدا، تخفي جسدي تماما، أنا لم أكبر الى هذا الحد)
صمتت قليلا و هي تتأمل نفسها في المرآة، ثم همست فجأة بشرود كئيب.
(أم تراني كبرت؟، لقد ظهرت العروق الزرقاء بساقي، لقد كانتا أجمل ما بجسدي)
اتقربت تيماء منها ببطىء، ثم لفت ذراعيها حول عنق أمها من الخلف و هي تهمس برقة
(أنت تبدين أصغر مني يا أمي)
ضربتها ثريا على كفها و هي تقول
(نبهتك أكثر من مرة أن تتوقفي عن مناداتي بلقب أمي هذا، أنت تزيديني عمرا بينما أبدو كشقيقتك)
ضحكت تيماء بيأس، كان هذا التبيه يؤلمها قديما خاصة و أن أمها كانت صارمة به، و لا تمزح.
، الا أنه بات يضحكها الآن...
شردت ثريا مجددا بحزن مرير و هي تتشبث بذراعي تيماء قائلة بيأس
(لقد ضاع شبابي يا تيموءة)
نعم لقد ضاع شبابها...
لم تدعي تيماء يوما أن أمها هي الأم المثالية، لكن على الرغم من ذلك فقد تعرضت أمها الى ظلم فادح...
لقد اشطرت والد تيماء منذ أن ولدت و منذ أن طلق ثريا الا تتزوج مجددا و الا أوقف الدعم المادي الهائل الذي يمدهما به...
و ثريا كانت أجبن و أكثر سلبية من أن تجازف بالعودة لحياة الشقاء من جديد...
لذا امتثلت لأوامره و تفرغت الى تربية ابنتها...
علي أن الواقع يقول أن تيماء هي من كانت تقوم برعاية والدتها منذ سنوات طويلة...
نظرت تيماء الى عيني ثريا الحزينتين الشاردتين في المرآة...
و رغم عنها امتلأت عينيها الفيروزيتين بدموع القهر، تلك الدموع التي ترفض أن تنساب خارج حدقتيها فتمنحها الراحة، بل تزيد من غصة حلقها...
خرجت تيماء من باب بنايتهما، الا أنها ما أن وجدت الرجل الواقف يويلها ظهره...
حتى ضربت الأرض بقدمها دون صوت من الغيظ...
ثم حاولت التسلل قبل أن يراها، الا أنها سمعت صوته يهتف فجأة
(آنسة تيماء، آنسة تيماء)
وقفت تيماء مكانها و هي ترفع عينيها للسماء هامسة
لن ننتهي، لن ننتهي، كيف أتخلص منه، استدارت اليه مبتسمة بابتسامة عريضة و هي تقول بحبور زائف
(صباح الخير يا عم ابراهيم، كيف الحال).
اقترب منها الرجل متوسط العمر بشوش الوجه وهو يقول بسعادة غامرة
(صباح الورد للورد يا اجمل عيون في الحي)
وقف أمامها و قال مبتسا بحرج
(آآآآ كيف الأحوال؟)
تنفست تيماء محاولة الصبر، ثم قالت برقة
(كصينية بقلاوة يا عم ابراهيم)
ابتسم الرجل و قال سعيدا
(جيد، جيد)
صمت بحرج أكبر قبل أن يقول مترددا
(آآآآآ و كيف حال، السيدة الوالدة)
تنهدت تيماء و هي تهمس لنفسها
ها قد أتينا الى مربط الفرس...
ردت بهدوء.
(بخير، أبلغها سلامك كل يوم)
تحمس الرجل و قال بلهفة
(حقا، و ما هو ردها؟)
قالت تيماء
(تقول من فضلك زد القشدة قليلا في الفطائر، و بالنسبة لصينية البطاطس، تريد ابلاغك أن تستبدل اللحم الضأن باللحم البقري، و زد من حلقات الطماطم، و افتح مشواة الفرن لمدة خمس دقائق فوقها بعد أن تنتهي)
أخرج ابراهيم دفتر ملاحظاته و أخذ يسجل ما تقوله تيماء وهو يوازن اللفة في يده...
كاتبا بكل اخلاص وهو يقول بجدية تامة.
(من عيني اليمنى قبل اليسرى، طلبات السيدة أم تيماء أوامر)
ابتسمت تيماء و هي تقول
(آآآه و شيء آخر يا عم ابراهيم، أنت تعرف أن أمي أصبحت ثقيلة الحركة، فهلا أحضرت لنا معك من السوق رأسين من الكرنب، لكن اخترهما بعناية، زاهيتي الخضار و قلبهما أبيض)
قال ابراهيم بلهفة
(غالي و الطلب رخيص، هل أقم بحشوهما للسيدة أم تيماء؟)
تصنعت تيماء الحرج و هي تقول
(أمي لا تريد أن تتعبك أكثر يا عم ابراهيم).
هتف الرجل بصوت عال وهو يرفع اصبعا محاربا لأعلى، جعل تيماء تنظر حولها و هي تريد أن تنشق الأرض و تبتلعها
(والله لو قالت هذا مجددا لهاجرت من هذا الحي، إنها تهينني، كلنا تحت أم السيدة أم تيماء، كله الا السيدة أم تيماء، كله الا السيدة أم تيماء، والله كله الا السيدة أم)
هتفت تيماء بقوة
(فهمنا، فهمنا يا عم ابراهيم، فضحتنا، قصدي أفحمتنا، هيا اذهب للسوق قبل الزحام)
انصرف الرجل مبتهجا الا أنها نادته.
(عم ابراهيم، هل هذه اللفة في يدك لنا؟)
نظر الرجل بذهول الى اللفة التي كاد أن ينساها، فقدمها لها مسرعا وهو يقول
(هذه بعض لقيمات القاضي، تطيب لفم السيدة أم تيماء)
أخذتها تيماء منه و هي تقول
(سلمت يداك يا عم ابراهيم، أمي ستفرح للغاية)
ظل ابراهيم مكانه يلوح لها، الى أن استقلت سيارتها و انطلقت بها...
تناولت تيماء لقيمة قاضي من اللفة المفتوحة بجوارها أثناء قيادتها، قائلة و فمها ممتلىء.
(اعذريني يا أمي، ليس معنى رفضك للزواج أن نكسر بخاطر الرجل الطيب، على الأقل الى أن اتعلم منع طريقة صنع لقيمات القاضي).
طرقت الباب بهدوء و ما أن سمعت صوته المهذب حتى فتحته و دخلت مبتسمة لتقول برقة
(صباح الخير دكتور أيمن)
نهض من خلف مكتبه في الجامعة وهو ينظر اليها مبتسما، قائلا بسعادة
(أهلا بالأستاذة رسميا، و عن قريب سنقول الدكتورة تيماء)
شبكت اصابع كفيها باحساس عال بالفخر، ثم قالت بزهو
(فليتقبل الله منك يا دكتور أيمن)
مد كفه قائلا بلهجة مرحبة
(تفضلي اجلسي، لحظة و اتفرغ لك).
جلست تيماء على أحد المقعدين أمام المكتب، بينما عاد هو الى كرسيه و انشغل بتصحيح ورقة اجابة كانت في يده...
استغلت تيماء الفرصة كي تتأمله مليا عن قرب...
لم يكونا يوما مرتبطين عاطفيا، لقد نبذت العاطفة بعيدا منذ سنوات طويلة، و بقى لها عقلها فقط...
و عقلها وجد أن الدكتور أيمن هو الفرصة التي كانت تنتظرها منذ قديم الأزل...
معه ستكون شريكة مساوية له، ماديا و علميا...
لا مجرد علقة تحتاج الى الامداد المادي الأقرب الى الإحسان، مهما بلغت ضخامته...
لم تدري أن شفتيها المكتنزتين باحمرار طبيعي، قد انحدرتا في شرود حزين...
تلك الانتفاضة القلبية...
كلما جائتها ذكرى قديمة...
كانت تضحك و تضحك و تضحك، و هي تهتف
توقف يا قاصي، توقف يا مجنوووووووون
رمشت تيماء بعينيها و هزت رأسها بالقوة كي تنفض تلك الذكرى بعيدا، لكنها قفزت حين سمعت صوت أيمن يقول.
(لماذا تنتفضين يا تيماء؟، هل تشعرين بالبرد؟)
ابتسمت بارتجاف و هزت رأسها نفيا، و قد فقدت صوتها فجأة...
الا أنها تشعر بالبرد، تشعر بالبرد الشديد...
كلما تواجدت مع ايمن ينتابها الشعور بالبرد، بعكس قاصي، كانت تشتعل معه...
أطرقت بوجهها و هي تهمس لنفسها
توقفي عن ذلك، اتقي الله كي يفتح لك طريقا بعيدا عن كل ذلك، قال ايمن بتهذيب
(اذن، متى سنقابل والدك يا أستاذة، موعد سفري اقترب و لدينا العديد من الإجراءات).
نظرت اليه تيماء بصمت، و هي تفكر شاردة
لماذا لا يحاول التودد لي، ربما بعد الخطبة؟، أو ربما بعد عقد القران، الصواب صواب فلا تعودي للخطأ من جديد يا تيماء، ابتسمت بشحوب و ردت عليه بصوت خافت
(بل ستقابل الأفضل، ستقابل جدي، كبير عائلة الرافعي، لكن سأسافر أنا أولا كي أمهد الأمر له).
لو كانت حياتها تجري مثل تلك المزارع الخضراء التي يختلط خضارها بصفار الجبال من خلفها في دوامة شبيهة بعجلة ملاه الأطفال الصاخبة، لفاقتها سرعة...
حياتها كانت كهذا القطار الذي تستقله، سريعة و متأرجحة...
لكن آن الأوان كي تصل الى محطتها الأخيرة...
أرجعت تيماء رأسها للخلف و راقبت الأراضي الخضراء المتسارعة أمامها، و من اللا مكان انبعث صوت جيتاره يعزف بأذنها...
جيتاره الذي لا ينتمي لهذه الأرض...
جسده وهو يرقص بحماقة و هي ترقص من خلفه...
شهقت فجأة ضاحكة، فنظر الرجل الجالس أمامها اليها بتوجس و هي تضحك وحيدة لنفسها...
حينها رفعت يدها تغطي بها فمها و هي تحمر خجلا...
ثم نظرت الى النافذة مجددا، قبل أن تبهت ابتسامتها و تختفي خلف شحوب الذكرى...
و هي تصرخ يوما بعيدا بقوة
لاااااااااا يا قاصي، إنه أبي، لا تفعل.
لقد داست أرض هذه البلد مرة واحدة في حياتها، و أقسمت بعدها الا تعيدها مجددا...
لكن ها هي تحنث بقسمها مرغمة، لكن ربما كانت هذه نقطة النهاية...
النهاية التي ستنطلق منها الى بداية جديدة، بعيدة جدا.
متربعا على الأريكة الشرقية، و بيده سبحته التي لا يغادرها أبدا...
عيناه مغمضتان و هو يسبح بعالم آخر...
بينما كانت هي تجلس على كرسيها الخشبي المطعم المتأرجح، مستندة بذقنها الى كفها...
تتأمله بعبائته البيضاء، و عمامته التي تماثلها بياضا
تستمع لصوته الشجي يتلو ابتهالاته...
ربي، اللهي، دموع العين جارية و القلب تحرقه في أضلعه النار إن ضل قلبي
فقلبي أنت تعرفه، أو كان ذنبي عظيم، فأنت الغفار...
يا مؤنسي في وحدتي، يا منقذي في شدتي.
يا سامعا لندائي...
فاذا دجي ليلي و طال ظلامه، ناديت يا رب فكنت ضيائي
أغمضت سوار عينيها و هي تستمع اليه بقلب يرجف...
تلك الحياة الهادئة التي أتيح لها اختيارها، فاختارتها بنفسها...
السلام النفسي...
هي حياة من خمس سنوات كاملة...
خمس سنوات قضتها مع زوجها و ابن عمها، تلك الروح النقية المنزهة عن الكثير من الصغائر...
لم تعرف مثله يوما، و كأنه كان مقدرا لها، كي تسكن اليه...
بعيدا عن العاطفة و العشق...
ما بينهما مختلف، ما بينهما أرواح متآلفة تلاقت معا...
لم تسأل نفسها يوما إن كانت تحب سليم، لأنها تعلم الجواب دون الحاجة للسؤال...
و مع ذلك، اختارته بنفسها، دون حتى أن يختارها هو...
همست سوار أخيرا بصوت شديد الخفوت
(سليم، أعرف أنك تكره المقاطعة، لكن علينا أن ننزل للإجتماع العائلي، فمعظم أفراد العائلة قد وصلوا من السفر)
سكن سليم و فتح عينيه ينظر اليها، ثم ابتسم و قال بخفوت.
(لقد أخرتك)
ابتسمت هي الاخرى و همست
(التأخير معك رحلة بعيدة، ليتني أبقى بها دائما)
نهض سليم من مكانه و قال بصوته الحنون
(تعالي لنحسن واجب الضيافة، ثم نعود لرحلتنا)
مد لها كفه فتناولتها مبتسمة و نهضت من مكانها، كانت ترتدي العبائة السوداء الفضفاضة الحريرية...
انها تحسن عادات هذا البلد، على الرغم من انها نشأت نشأة عصرية متمدنة...
لكن منذ أن تزوجت، فقد قررت الإستقرار هنا بجانب جدها للأبد...
اقتربت سوار من المرآة و تناولت عقدها الذهبي الضخم، و حاولت اقفاله خلف عنقها...
و حين فشلت، جاء سليم من خلفها يساعدها، ليبعد شعرها الطويل الحالك السواد و الذي يصل الى أعلى ساقيها، و أقفل لها العقد الذهبي...
ثم نظر اليها قائلا بابتسامة صغيرة
(لو لم أكن أعرفك جيدا لظننت أنك من محبي الذهب و فخامته)
رفعت سوار يدها تتلمس هذا العقد الضخم، ثم قالت بخفوت.
(لا أحب الذهب، الا عقد أمي، يشعرني أني أشبهها، جزء منها، أحمل بعضا من تفاصيلها)
أمسك سليم بكتفيها وهو يقول
(انت فعلا تشبهينها، دون الحاجة للعقد، لكنه جميل عليك في كل الأحوال)
بقت سوار شاردة قليلا، ثم رفعت عينيها الى عيني سليم في المرآة، و قالت فجأة
(الليلة يا سليم، أريد أن أمنحك حقك الشرعي)
لم تتغير ملامحه، لم يجفل، بل ربت على كتفيها بحنان أذاب قلبها، ثم قال بخفوت
(لا أراك تتمنين ذلك يا سوار).
قالت بصوت خفيض
(أخبرتني أنه اختياري، و ها أنا اخترت)
قال سليم بهدوء
(لقد سبق و اخترتني و انتهى الأمر، وقفت أمام رجال العائلة و اخترت سليم الرافعي ابن عمك زوجا لك)
همست سوار بصوت متألم
(لكن لماذا لا تأخذ حقوقك مني؟)
ربت على كتفيها قائلا بخفوت.
(اسمعي سؤالك و أنت تعرفين الجواب، لا أريده حقا وواجب، يمكنني أخذه، لكنني لا أتطلع اليه، حين ترغبين به، ستجدين أنني أتمناه قبلك، و حتى هذا الحين لا أشعر أن هناك ما ينقصني، أحب حياتي معك كما هي، و لا أريد زوجة غيرك)
أخذت نفسا مرتجفا و هي تخفض رأسها قائلة
(سليم، منذ وفاة والدتي و أنا لست، لكن، أنا أريد أن اكون زوجتك، فقط ساعدني)
رفعت عينيها الى عينيه في المرآة و همست بترجي
(أرجوووك)
قال سليم بتعاطف.
(لماذا ترغمين نفسك و قد منحتك الحرية؟، لست متعبا أو معذبا، لدي عالمي الذي أحياه، و انت تشاركينني به)
أغروقت عيناها بالدموع و هي تهمس باختناق
(لكن هذه ليست حياة طبيعية)
قال سليم بثقة
(من قال هذا؟، ما يحدث داخل جدران غرفتنا هو شأن خاص بنا، و طالما ارتضيناه معا، فهو طبيعي مئة بالمئة)
استدارت سوار اليه ورفعت وجهها تنظر إلى عينيه بعينين مغروقتين بالدموع و همست بصدق من عمق قلبها.
(أنا أحبك يا سليم، أحبك جدا، أنت رجل لا مثيل لك)
أمسك بكتفيها يدعمها وهو يقول بحنان
(و أنا أحبك يا سوار، أنت ملكتي و زوجتي و صديقتي يا ابنة عمي)
مالت سوار اليه تستند الى كتفه الرحب و هي تغمض عينيها بحزن، بينما تلاعبت أصابعه بشعرها الطويل بدفىء...
هي حزينة فقط من أجله، لأنها لا تمنحه ما يسعد باقي الرجال، لأنه منحها الإختيار...
لقد شعر بها منذ أول ليلة لهما معا، خلف الباب المغلق...
و رفض أن تكون مجرد زوجة مغمضة العينين رافضة...
و منذ ذلك اليوم، أصبحت حياتها ناعمة كالنسيم، تسبح بها فوق السحاب معه...
هو يمنحها السعادة و الراحة، و يهون عليها فراق أمها...
لكنها تحرمه الكثير...
سليم لا يعرف الا الرضا، شفتيه لا تعرفان سوى الابتسامة و الحمد...
و لطالما تسائلت، هل هذا بشر كمثل من حوله؟
نزلت تيماء من القطار و هي تجر حقيبتها خلفها...
المحطة كانت قديمة الشكل و كأنها لم تتغير منذ عشرات السنين، الا ان رائحة البلد كانت تتداخل في أنفها بقوة ساحرة
رائحة تشبة النعناع و الريحان، أو شيء آخر من هذا القبيل لم تستطع تمييزه...
حتى هذه اللحظة لا تصدق أنها خدعت أمها و أوهمتها أنها مسافرة في مؤتمر، فقد أعتادت ثريا سفرها دائما...
تقدمت تيماء عدة خطوات و هي تنظر حولها، قبل أن تلمح اسمها مكتوبا بالخط العريض على لوحة بيضاء، كان يمسك بها أحد الغفر...
تيماء سالم الرافعي
بهت وجهها قليلا و هي تهمس لنفسها
(أبهذه البساطة أصبحت تيماء سالم الرافعي؟، عجبا!)
وصلت تيماء اليه حتى وقفت أمامه تماما و ابتسمت ببشاشة، ابتسامتها العريضة حتى ظهرت غمازتيها العميقتين...
لكن الرجل خشن الملامح لم يبدو عليه أنه قد رآها من الأساس وهو ينظر امامه متجهم الوجه
قالت تيماء بود
(السلام عليكم)
رمقها الرجل بنظرة متمعنة، قبل أن يقول بتوجس
(هل أنت عربية؟)
ظلت تيماء تبادله النظر قليلا قبل أن تقول ببساطة
(لا، أنا من بلاد الواق واق)
عبس الرجل وهو يقول
(و لماذا تتحدثين العربية؟)
ردت عليه تيماء بصوت هامس و بنبرة سرية
(لأنني في مهمة تقتضي التخفي)
قال الرجل بخشونة.
(وفقك الله، ثم استدار عنها وهو يرفع اللوحة عاليا)
فرفعت تيماء حاجبيها غير مصدقة، و هي تنظر الى ظهر الرجل، فعضت على شفتها قبل أن تربت على ظهره برفق
فاستدار ينظر من اللذي يربت على ظهره، و ما أن رآها حتى انتفض هاتفا
(استغفر الله العظيم، يا سيدتي أنا متوضىء).
ارتفع حاجبيها و هي ترى الجلباب الذي يرتديه و فوقه سترة صوفية، و فوقها شال من الصوف ملفوف حول كتفيه، و هذا يعني أن لمستها عليها أن تخترق على الأقل سبع حواجز قبل أن تصل اليه...
الا أنها قالت بصبر...
(اعذرنا يا سيدي، العتب على النظر، هل تنتظر أحد؟)
رد الرجل بخشونة قائلا
(الا تستطيعين القراءة؟)
ردت تيماء بهدوء
(انا أقرأ عربية متكسرة، عربية ذات فجوات، الا أنها تفي بالغرض، لكن ماذا عنك؟ هل تستطيع النظر؟).
قال الرجل بثقة
(نظري كالصقر)
قالت تيماء
(بسم الله ماشاء الله، حفظه الله لك، واضح، عامة أنا تيماء يا سيدي)
جاء دور الرجل كي يرتفع حاجبيه وهو ينظر اليها بذهول، ثم قال بعدم فهم
(تيماء من؟)
قالت تيماء بجدية
(الا تستطيع القراءة؟، أم أن أحدا ما كتب لك اللوحة؟)
نظر الرجل الى اللوحة يتأكد من الاسم، ثم نظر اليها عاقدا حاجبيه قبل أن يقول بتمعن
(هل هذه عينيك؟)
قالت تيماء بهدوء
(لا، لقد استأجرتهما من محل قطط).
لم تكن تيماء تعلم أن عينيها الفيروزيتين قد تألقتا بلون زاهي غريب، و من البرد احمرت وجنتاها فساعد الحجاب الوردي الداكن على منح بشرتها البيضاء لونا ورديا مشتعلا...
قال الرجل بتعجب
(لا تبدين من هنا)
قالت تيماء
(لا أنا من هناك، لكن بعد الظهيرة أبدو من هنا...
اسمع يا عم، لقد تسوست عظامي من البرد، هلا أكملنا حديثنا المشوق في السيارة؟، سيكون جدي ممتنا لك قبل أن أصله كاللحم المقدد).
رمقها الرجل مرة أخيرة، قبل أن يقول بخشونة...
(اتبعيني)
سارت تيماء خلفه، ثم قالت مقترحة
(يمكنك أن تخفض اللوحة، فأنا خلفك يا عم)
أخفض الرجل اللوحة دون أن ينظر اليها فهزت تيماء رأسها و تبعته صامتة تجر حقيبتها، ثم قالت بصوت عالي
(يا عم، لا تأخذ مني الحقيبة، فقد من الله على بالصحة، الله لا يحوجني الى أحد)
قال الرجل مطيعا
(حسنا)
ارتفع حاجباها و هي تهمس لنفسها.
هذا الرجل هو قريني في الحياة، لو بحثت في أصوله فسأجدني من نسله حقا، انه الشخص اللذي يفهم هذه الحياة فهما صحيحا،
انها ثالث مرة ترتطم بسقف السيارة على الطريق الصخري، مما جعلها تضحك وهي تقول
(أنت تقود بسرعة خطيرة، شاب في مثل سنك ليس عليه أن يكون متهورا بهذا الشكل)
قال الرجل دون أن ينظر اليها
(الحافظ هو الله)
ضحكت تيماء و هي تقول
(و نعم بالله، لكن سيكون لطيفا لو وصلنا الى جدي أحياء من فضلك)
قال الرجل.
(آمني بالله)
قالت تيماء
(و نعم بالله يا عم، لكنك ستوقنا في الترعة، هدىء السرعة من فضلك)
ضحكت تيماء و هي تراقب مزارع النخيل الممتدة من بعيد، ثم تنهدت قليلا قبل أن تذوي الضحكة، و همست لنفسها
أتضحكين يا تيماء؟، آخر مرة كنت بها هنا، كانت كارثة، أم نسيت؟، على ماذا تضحكين؟، أم تراك تضحكين على نفسك؟، حين أوقف الرجل السيارة أخيرا، و جدت تيماء نفسها أمام قصر عال، قصر يشبه القلاع...
يشعر الإنسان أمامه بالتضاؤل...
فتحت بواباته الضخمة لتدخل السيارة ببطىء، بينما كانت عيناها تتأملان ما حولها من جمال يسحر القلب...
و حين وقفت السيارة تماما، قال الرجل دون أن يستدير اليها...
(اصعدي أنت، و نحن سنحمل لك حقيبتك)
قالت تيماء منبهرة
(هذا كثير؟، لم أكن أظن أنك ستقدم هذا العرض أبدا، شكرا يا عم)
خرجت تيماء من السيارة و هي تتأمل الحدائق الواسعة، و التي كانت مزدحمة!
ارتفع حاجبيها و هي تجد عدد غير قليل من البشر المتفرقين، يتحادثون و يضحكون...
معظمهم من الشباب، عصريون في ملابسهم و هيئتهم، ليست معظم الفتيات محجبات...
ملامحهم شرقية جدا، الا أن ملابسهم على أحدث صيحة...
شباب و فتيات، يبدو أنهم يعرفون بعضهم...
ارتبكت تيماء فجأة، و شعرت بالوحدة، و بأنها لا تعرف أحد في هذا الجمع المهيب...
لكنها اخذت نفسا عميقا و قوت نفسها...
لقد سافرت منحة وحدها لمدة ثلاث سنوات، أتخاف الآن من مجرد اجتماع عائلي؟
صعدت تيماء السلالم الرخامية للقصر، و كان على قمتها مجموعة من الرجال و الشباب...
كانوا يتحدثون دون أن ينتبه احدهم اليها، فأخفضت رأسها و تجاوزتهم و هي تنوي الدخول للبهو سريعا...
لكن ما ان خطت خطوتين بعيدا عنهم...
حتى جائها صوت رجولي من خلفها جمد الدم في عروقها، و أصابها بالإنتفاضة القلبية المألوفة لديها...
(مرحبا تيماء، لقد مر وقت طويل)
تسمرت تيماء مكانها و أغمضت عينيها، بينما اشتعلت العينين الرجوليتين خلفها بجمرتين من اللهب
بعد عشر سنوات...
انحنت و هي جالسة على حافة فراشها لتغلق سحاب حذائها عالي الساقين الأنيق و الذي يستطيل تحت تنورتها السوداء الطويلة التي تماثله أناقة، ثم نهضت برشاقة و هي تتقدم في غرفتها الجميلة المرتبة الى أن وصلت الى مرآتها...
وقفت تنظر الى ملابسها الأنيقة بعين التقييم، و المتكونة من التنورة الطويلة السوداء و سترتها القصيرة الحمراء الكلاسيكية، و قميصها الأبيض المغلق بأزرار لؤلؤية من تحتها...
ثم مدت يدها لتتناول وشاحها الأحمر، لتلفه حول وجهها و تثبت حجابها الذي زادها جمالا...
جعل احمراره يزيد من تألق عينيها الفيروزيتين...
اليوم من أسعد الأيام بحياتها، إن لم يكن الأسعد على الإطلاق...
فحياتها لم تحتوي على أيام ذات أحداث سعيدة قوية تعلق في الذاكرة...
باستثناء ذلك اليوم البعيد، منذ عشرة اعوام تقريبا...
اليوم الذي تصادف أن تقابل فيه مسك و...
رمشت تيماء بعينيها و هي تهز رأسها بقوة مبعدة تلك الذكريات التي لا داعي لها عن ذهنها...
فاليوم يوم مميز بحياتها...
تستطيع القول أن اليوم هو محطة انطلاقها الى عالم آخر، و حياة أخرى...
اليوم هو اليوم الأول بعد عودتها من منحتها للخارج، حيث أنهت رسالة الماجيستير الخاصة بها بتفوق...
كانت تتألق في سنوات دراستها في الخارج...
و قد كانت تلك المنحة نقلة حضارية في حياتها...
ثلاث سنوات في الخارج غيرت منها و من شخصها، و رسمت لها طريقها و احلامها...
لقد عادت من الخارج انسانة مختلفة، تلقت خلال سنوات منحتها الكثير مما تمنت أن تراه في بلادها، الا أنها عملت على الحفاظ على كل ما يميز شرقيتها، حتى أنها زادت نفسها بما لم تكن تتصف به قبلا...
بمراهقتها لم تكن تكترث لشيء...
لم تكترث لقانون أو عادات...
بالكاد تعلمت الصلاة و حافظت على الخمس فروض لكن أحيانا كان يضيع منها فرض أو اثنان...
كانت متفوقة دراسيا طوال عمرها...
لكن كان ينقصها الشخصية و الكيان، كان ينقصها الإنتماء...
و هذا هو ما تعلمته خلال سنوات منحتها على الرغم من قلتها...
هناك تعلمت التحضر، لكنها عرفت حضارة بلادها...
هناك عشقت التمدن، لكن عشق دينها كبر في قلبها بسرعة قصوى...
هناك ازداد حبها للدراسة، فتحول الحب الى نهم، حتى اصبحت كالوحش لا يوقفه الا الإستزادة...
اليوم في يوم ميلادها الرابع و العشرين...
أصبحت من أصغر من حصلوا على درجة الماجستير بعد منحة ثلاث سنوات في الخارج تلت تخرجها بتفوق مباشرة...
و هي تحضر على الفور لرسالة الدكتوراة التي تنوي نيل درجتها من الخارج أيضا...
فمما زاد من نجاحاتها المتعلقة بما أجبرها به القدر، أن أستاذ بكليتها تقدم لطلب يدها للزواج...
علي أن يعقدا قرانهما و يسافرا للخارج مباشرة، حيث سيكملان معا طريقهما العلمي في الخارج...
ابتسمت تيماء لصورتها ثم قالت بخفوت متألق
(لقد أصبحت على أول الطريق يا تيماء، انها بداية الإستقلال، ستتحررين اقتصاديا من سالم الرافعي، حينها ستقطعين الصلة الأخيرة به، و تبدأين بناء كيان تيماء الخاص)
علي الرغم من أن مال والدها وفر لها أكثر مما كانت تتمنى، على أن يكون الثمن هو ابتعادها للأبد...
لكنها كانت تحلم دائما باليوم الذي تتوقف فيه عن قبض هذا الثمن الغير مشرف
همست لنفسها مجددا بصلابة...
(لا يا تيماء، عيناك لا تجيدان اخفاء الألم، لذا اقتليه بداخلك، لأنني لن أسمح لأحد بأن يراه).
ابتسمت بالقوة و الغصب لصورتها الأنيقة، و قامت بتكملتها بكل ثقة بارتداء ساعة معصم ثمينة، و أمسكت بحقيبة تنافسها ثمنا، ثم اتجهت برشاقة الى حيث هاتفها تنوي أخذه الا أن صوت رنين مميز جعلها تعقد حاجبيها، فقد كان هذا رنين وصول بريد الكتروني...
التقطت تيماء هاتفها و فتحت رسالة البريد الالكتروني و كما توقعت، كانت من نفس الشخص
رسالة عملية مختصرة، تناسب شخصية البيئة التي أتت منها.
الإجتماع العائلي في نهاية الاسبوع، نتمنى رؤيتك به، جدك يطلب رؤيتك، فحاولي المجيء هذا العام...
ابن عمك k- r
رفعت تيماء عينيها الصارمتين لأعلى و هي تزفر بقوة
هذه الرسالة تصلها بانتظام، تقريبا منذ ثلاث سنوات، كل شهرين أو ثلاث...
رسالة مختصرة من أحد أبناء عمها يذكرها بالإجتماع العائلي...
باتت تعرف جيدا أن هناك اجتماع عائلي ضخم يعقد كل عام في يوم محدد و في بلد والدها...
يتم تجميع كل أفراد العائلة به، المتغتربين و المسافرين، و ساكني المدن...
الجميع يتجمعون في بيت كبير العائلة...
و حتى الآن لا يزال جدها على قيد الحياة...
لقد رأته مرة واحدة فقط، مرة لا تزال ذكراها المريرة محفورة في ذهنها...
و مع ذلك تحمل بداخلها امتنان عميق لهذا الرجل...
أخذت تيماء نفسا مرتجفا و هي تجلس على حافة السرير، عيناها الفيروزيتين تحولتا الى لون غائم، أقرب للرمادي...
علي الرغم من رغبتها الشديدة في رؤية جدها ولو لمرة واحدة ثانية...
الا أنها قطعت على نفسها عهد أن تبتعد عن تلك البلد نهائيا...
لكن ابن عمها هذا لا يمنحها الفرصة للنسيان أبدا...
يظل كل فترة يرسل اليها رسائله الباردة، يذكرها بالإجتماع العائلي...
وصلها فجأة رنين جديد، لرسالة بريد الكتروني جديدة...
عقدت تيماء حاجبيها و هي تنظر الى هاتفها بحذر، ماذا بعد؟، هل أخطأ و أرسل الرسالة مرتين؟
فتحت الرسالة لتقرأها، و فجأة ارتفع حاجبيها بذهول مما هو مرسل
حاولي عصر ليمونة على نفسك هذه المرة رجاءا، لربما حينها تنازلت و أتيت
اتسعت عينا تيماء و هي تتأكد من الكلمات قبل أن تقول
(ابن عمي يستخف ظله!)
ابتسمت رغما عنها و افلتت من بين شفتيها ضحكة و هي تهز رأسها، ثم لم تلبث أن عقدت حاجبيها و هي تهمس بتفكير
(ترى من من بين أبناء عمي يبدأ اسمه بحرف كاف؟، و لماذا لا يكتب اسمه كاملا؟).
أطرقت برأسها و هي تفكر في تلك الرسالة...
لقد تجاهلت كل الرسائل الماضية و لم تحاول حتى التفكير بها، لكن هذه المرة مختلفة
لقد طلب منها أيمن أستاذها في الكلية موعدا كي يقابل والدتها...
أيمن من اسرة كبيرة، وهو يعلم بأن عائلتها تماثل عائلته عراقة، لكن عائلته هو من هنا، من مدينتها الساحلية، و هذا من حسن حظها...
لكن الآن ما العمل؟، كيف تأتي له بعائلة تقابل عائلته؟
هل تتنازل و تدهس كرامتها و تطلب ذلك من والدها؟
التمعت عيناها فجأة و رفعت وجهها و هي تهمس برفض قاطع
(والله لن يحدث أبدا، حتى ولو فشلت تلك الخطبة)
لكن كان هناك حلا واحدا، يلاقي استحسان من رغبتها الدفينة...
الحل هو جدها...
تتمنى أن تقابله ولو لمرة واحدة اخرى، و هل هناك ما هو أفضل من هذه المناسبة؟..
و هل هناك من يشرفها اكثر من كبير عائلة الرافعي!
هذا بالإضافة الى أنها ستكون ضربة الى والدها في الصميم...
ستتجاهله كأنه لم يكن...
عند هذه النقطة تحول اللون الفيروزي في عينيها الى بحر براق اللون من التلذذ.
طرقت تيماء باب غرفة والدتها، ثم دخلت، لتقف مكانها مستندة بمرفقها الى مقبض الباب و هي تتأمل أمها بصمت...
كانت أمها لا تزال تحمل ملامح طفلة حتى في سنها هذا، و رغم بعض التجاعيد الرقيقة التي بدأت في الظهور على وجهها...
الا أن عينيها الخضراوين و شعرها البني الناعم، و جسدها اللذي لا يزال نحيفا، يجعلون منها طفلة...
أما شخصيتها فكانت أيضا شخصية طفلة، لكن في الجانب السلبي من الطفولة...
شديدة الإعتمادية على الغير، سلبية و متطلبة...
كثيرة الانهيارات العاطفية المملة...
أنانية في المجمل...
لكن رغم كل ذلك، كانت تيماء تحبها، و ستظل تحب أمها دائما...
قالت تيماء بهدوء
(صباح الخير ثريا)
استدارت ثريا الى تيماء و قالت بحبور و هي ترفع احد الفساتين قائلة
(جئت بوقتك تيموءة، أنا اثق بذوقك، من أجمل، الفستان الذي أرتديه أم هذا؟).
نظرت تيماء الى الفستان الذي كانت أمها ترتديه و الذي هو بالكاد يلامس ركبتيها، بلون أزرق منقوش بأمواج خضراء، أما المرفوع في يدها فهو يماثل الأول طولا إن لم يكن أقصر، لكن لونه وردي غامق...
رفعت تيماء احدى حاجبيها الا أنها لم تفقد أعصابها، بل قالت بهدوء
(طبعا لن تخرجي بهما خارج البيت، أليس كذلك؟)
عقدت ثريا حاجبيها و هي تستدير الى المرآة قائلة بعدم اقتناع.
(طبعا لن أرتديهما خارج البيت، كفي عن لعب دور الوصي علي، هذا يضايقني)
قالت تيماء بابتسامة صغيرة
(الوردي أجمل يا ثريا، و أيضا الفساتين التي جلبتها لك من الخارج، انها غالية الثمن جدا)
زمت ثريا شفتيها كالأطفال و هي تقول بضيق
(انها واسعة جدا، تخفي جسدي تماما، أنا لم أكبر الى هذا الحد)
صمتت قليلا و هي تتأمل نفسها في المرآة، ثم همست فجأة بشرود كئيب.
(أم تراني كبرت؟، لقد ظهرت العروق الزرقاء بساقي، لقد كانتا أجمل ما بجسدي)
اتقربت تيماء منها ببطىء، ثم لفت ذراعيها حول عنق أمها من الخلف و هي تهمس برقة
(أنت تبدين أصغر مني يا أمي)
ضربتها ثريا على كفها و هي تقول
(نبهتك أكثر من مرة أن تتوقفي عن مناداتي بلقب أمي هذا، أنت تزيديني عمرا بينما أبدو كشقيقتك)
ضحكت تيماء بيأس، كان هذا التبيه يؤلمها قديما خاصة و أن أمها كانت صارمة به، و لا تمزح.
، الا أنه بات يضحكها الآن...
شردت ثريا مجددا بحزن مرير و هي تتشبث بذراعي تيماء قائلة بيأس
(لقد ضاع شبابي يا تيموءة)
نعم لقد ضاع شبابها...
لم تدعي تيماء يوما أن أمها هي الأم المثالية، لكن على الرغم من ذلك فقد تعرضت أمها الى ظلم فادح...
لقد اشطرت والد تيماء منذ أن ولدت و منذ أن طلق ثريا الا تتزوج مجددا و الا أوقف الدعم المادي الهائل الذي يمدهما به...
و ثريا كانت أجبن و أكثر سلبية من أن تجازف بالعودة لحياة الشقاء من جديد...
لذا امتثلت لأوامره و تفرغت الى تربية ابنتها...
علي أن الواقع يقول أن تيماء هي من كانت تقوم برعاية والدتها منذ سنوات طويلة...
نظرت تيماء الى عيني ثريا الحزينتين الشاردتين في المرآة...
و رغم عنها امتلأت عينيها الفيروزيتين بدموع القهر، تلك الدموع التي ترفض أن تنساب خارج حدقتيها فتمنحها الراحة، بل تزيد من غصة حلقها...
خرجت تيماء من باب بنايتهما، الا أنها ما أن وجدت الرجل الواقف يويلها ظهره...
حتى ضربت الأرض بقدمها دون صوت من الغيظ...
ثم حاولت التسلل قبل أن يراها، الا أنها سمعت صوته يهتف فجأة
(آنسة تيماء، آنسة تيماء)
وقفت تيماء مكانها و هي ترفع عينيها للسماء هامسة
لن ننتهي، لن ننتهي، كيف أتخلص منه، استدارت اليه مبتسمة بابتسامة عريضة و هي تقول بحبور زائف
(صباح الخير يا عم ابراهيم، كيف الحال).
اقترب منها الرجل متوسط العمر بشوش الوجه وهو يقول بسعادة غامرة
(صباح الورد للورد يا اجمل عيون في الحي)
وقف أمامها و قال مبتسا بحرج
(آآآآ كيف الأحوال؟)
تنفست تيماء محاولة الصبر، ثم قالت برقة
(كصينية بقلاوة يا عم ابراهيم)
ابتسم الرجل و قال سعيدا
(جيد، جيد)
صمت بحرج أكبر قبل أن يقول مترددا
(آآآآآ و كيف حال، السيدة الوالدة)
تنهدت تيماء و هي تهمس لنفسها
ها قد أتينا الى مربط الفرس...
ردت بهدوء.
(بخير، أبلغها سلامك كل يوم)
تحمس الرجل و قال بلهفة
(حقا، و ما هو ردها؟)
قالت تيماء
(تقول من فضلك زد القشدة قليلا في الفطائر، و بالنسبة لصينية البطاطس، تريد ابلاغك أن تستبدل اللحم الضأن باللحم البقري، و زد من حلقات الطماطم، و افتح مشواة الفرن لمدة خمس دقائق فوقها بعد أن تنتهي)
أخرج ابراهيم دفتر ملاحظاته و أخذ يسجل ما تقوله تيماء وهو يوازن اللفة في يده...
كاتبا بكل اخلاص وهو يقول بجدية تامة.
(من عيني اليمنى قبل اليسرى، طلبات السيدة أم تيماء أوامر)
ابتسمت تيماء و هي تقول
(آآآه و شيء آخر يا عم ابراهيم، أنت تعرف أن أمي أصبحت ثقيلة الحركة، فهلا أحضرت لنا معك من السوق رأسين من الكرنب، لكن اخترهما بعناية، زاهيتي الخضار و قلبهما أبيض)
قال ابراهيم بلهفة
(غالي و الطلب رخيص، هل أقم بحشوهما للسيدة أم تيماء؟)
تصنعت تيماء الحرج و هي تقول
(أمي لا تريد أن تتعبك أكثر يا عم ابراهيم).
هتف الرجل بصوت عال وهو يرفع اصبعا محاربا لأعلى، جعل تيماء تنظر حولها و هي تريد أن تنشق الأرض و تبتلعها
(والله لو قالت هذا مجددا لهاجرت من هذا الحي، إنها تهينني، كلنا تحت أم السيدة أم تيماء، كله الا السيدة أم تيماء، كله الا السيدة أم تيماء، والله كله الا السيدة أم)
هتفت تيماء بقوة
(فهمنا، فهمنا يا عم ابراهيم، فضحتنا، قصدي أفحمتنا، هيا اذهب للسوق قبل الزحام)
انصرف الرجل مبتهجا الا أنها نادته.
(عم ابراهيم، هل هذه اللفة في يدك لنا؟)
نظر الرجل بذهول الى اللفة التي كاد أن ينساها، فقدمها لها مسرعا وهو يقول
(هذه بعض لقيمات القاضي، تطيب لفم السيدة أم تيماء)
أخذتها تيماء منه و هي تقول
(سلمت يداك يا عم ابراهيم، أمي ستفرح للغاية)
ظل ابراهيم مكانه يلوح لها، الى أن استقلت سيارتها و انطلقت بها...
تناولت تيماء لقيمة قاضي من اللفة المفتوحة بجوارها أثناء قيادتها، قائلة و فمها ممتلىء.
(اعذريني يا أمي، ليس معنى رفضك للزواج أن نكسر بخاطر الرجل الطيب، على الأقل الى أن اتعلم منع طريقة صنع لقيمات القاضي).
طرقت الباب بهدوء و ما أن سمعت صوته المهذب حتى فتحته و دخلت مبتسمة لتقول برقة
(صباح الخير دكتور أيمن)
نهض من خلف مكتبه في الجامعة وهو ينظر اليها مبتسما، قائلا بسعادة
(أهلا بالأستاذة رسميا، و عن قريب سنقول الدكتورة تيماء)
شبكت اصابع كفيها باحساس عال بالفخر، ثم قالت بزهو
(فليتقبل الله منك يا دكتور أيمن)
مد كفه قائلا بلهجة مرحبة
(تفضلي اجلسي، لحظة و اتفرغ لك).
جلست تيماء على أحد المقعدين أمام المكتب، بينما عاد هو الى كرسيه و انشغل بتصحيح ورقة اجابة كانت في يده...
استغلت تيماء الفرصة كي تتأمله مليا عن قرب...
لم يكونا يوما مرتبطين عاطفيا، لقد نبذت العاطفة بعيدا منذ سنوات طويلة، و بقى لها عقلها فقط...
و عقلها وجد أن الدكتور أيمن هو الفرصة التي كانت تنتظرها منذ قديم الأزل...
معه ستكون شريكة مساوية له، ماديا و علميا...
لا مجرد علقة تحتاج الى الامداد المادي الأقرب الى الإحسان، مهما بلغت ضخامته...
لم تدري أن شفتيها المكتنزتين باحمرار طبيعي، قد انحدرتا في شرود حزين...
تلك الانتفاضة القلبية...
كلما جائتها ذكرى قديمة...
كانت تضحك و تضحك و تضحك، و هي تهتف
توقف يا قاصي، توقف يا مجنوووووووون
رمشت تيماء بعينيها و هزت رأسها بالقوة كي تنفض تلك الذكرى بعيدا، لكنها قفزت حين سمعت صوت أيمن يقول.
(لماذا تنتفضين يا تيماء؟، هل تشعرين بالبرد؟)
ابتسمت بارتجاف و هزت رأسها نفيا، و قد فقدت صوتها فجأة...
الا أنها تشعر بالبرد، تشعر بالبرد الشديد...
كلما تواجدت مع ايمن ينتابها الشعور بالبرد، بعكس قاصي، كانت تشتعل معه...
أطرقت بوجهها و هي تهمس لنفسها
توقفي عن ذلك، اتقي الله كي يفتح لك طريقا بعيدا عن كل ذلك، قال ايمن بتهذيب
(اذن، متى سنقابل والدك يا أستاذة، موعد سفري اقترب و لدينا العديد من الإجراءات).
نظرت اليه تيماء بصمت، و هي تفكر شاردة
لماذا لا يحاول التودد لي، ربما بعد الخطبة؟، أو ربما بعد عقد القران، الصواب صواب فلا تعودي للخطأ من جديد يا تيماء، ابتسمت بشحوب و ردت عليه بصوت خافت
(بل ستقابل الأفضل، ستقابل جدي، كبير عائلة الرافعي، لكن سأسافر أنا أولا كي أمهد الأمر له).
لو كانت حياتها تجري مثل تلك المزارع الخضراء التي يختلط خضارها بصفار الجبال من خلفها في دوامة شبيهة بعجلة ملاه الأطفال الصاخبة، لفاقتها سرعة...
حياتها كانت كهذا القطار الذي تستقله، سريعة و متأرجحة...
لكن آن الأوان كي تصل الى محطتها الأخيرة...
أرجعت تيماء رأسها للخلف و راقبت الأراضي الخضراء المتسارعة أمامها، و من اللا مكان انبعث صوت جيتاره يعزف بأذنها...
جيتاره الذي لا ينتمي لهذه الأرض...
جسده وهو يرقص بحماقة و هي ترقص من خلفه...
شهقت فجأة ضاحكة، فنظر الرجل الجالس أمامها اليها بتوجس و هي تضحك وحيدة لنفسها...
حينها رفعت يدها تغطي بها فمها و هي تحمر خجلا...
ثم نظرت الى النافذة مجددا، قبل أن تبهت ابتسامتها و تختفي خلف شحوب الذكرى...
و هي تصرخ يوما بعيدا بقوة
لاااااااااا يا قاصي، إنه أبي، لا تفعل.
لقد داست أرض هذه البلد مرة واحدة في حياتها، و أقسمت بعدها الا تعيدها مجددا...
لكن ها هي تحنث بقسمها مرغمة، لكن ربما كانت هذه نقطة النهاية...
النهاية التي ستنطلق منها الى بداية جديدة، بعيدة جدا.
متربعا على الأريكة الشرقية، و بيده سبحته التي لا يغادرها أبدا...
عيناه مغمضتان و هو يسبح بعالم آخر...
بينما كانت هي تجلس على كرسيها الخشبي المطعم المتأرجح، مستندة بذقنها الى كفها...
تتأمله بعبائته البيضاء، و عمامته التي تماثلها بياضا
تستمع لصوته الشجي يتلو ابتهالاته...
ربي، اللهي، دموع العين جارية و القلب تحرقه في أضلعه النار إن ضل قلبي
فقلبي أنت تعرفه، أو كان ذنبي عظيم، فأنت الغفار...
يا مؤنسي في وحدتي، يا منقذي في شدتي.
يا سامعا لندائي...
فاذا دجي ليلي و طال ظلامه، ناديت يا رب فكنت ضيائي
أغمضت سوار عينيها و هي تستمع اليه بقلب يرجف...
تلك الحياة الهادئة التي أتيح لها اختيارها، فاختارتها بنفسها...
السلام النفسي...
هي حياة من خمس سنوات كاملة...
خمس سنوات قضتها مع زوجها و ابن عمها، تلك الروح النقية المنزهة عن الكثير من الصغائر...
لم تعرف مثله يوما، و كأنه كان مقدرا لها، كي تسكن اليه...
بعيدا عن العاطفة و العشق...
ما بينهما مختلف، ما بينهما أرواح متآلفة تلاقت معا...
لم تسأل نفسها يوما إن كانت تحب سليم، لأنها تعلم الجواب دون الحاجة للسؤال...
و مع ذلك، اختارته بنفسها، دون حتى أن يختارها هو...
همست سوار أخيرا بصوت شديد الخفوت
(سليم، أعرف أنك تكره المقاطعة، لكن علينا أن ننزل للإجتماع العائلي، فمعظم أفراد العائلة قد وصلوا من السفر)
سكن سليم و فتح عينيه ينظر اليها، ثم ابتسم و قال بخفوت.
(لقد أخرتك)
ابتسمت هي الاخرى و همست
(التأخير معك رحلة بعيدة، ليتني أبقى بها دائما)
نهض سليم من مكانه و قال بصوته الحنون
(تعالي لنحسن واجب الضيافة، ثم نعود لرحلتنا)
مد لها كفه فتناولتها مبتسمة و نهضت من مكانها، كانت ترتدي العبائة السوداء الفضفاضة الحريرية...
انها تحسن عادات هذا البلد، على الرغم من انها نشأت نشأة عصرية متمدنة...
لكن منذ أن تزوجت، فقد قررت الإستقرار هنا بجانب جدها للأبد...
اقتربت سوار من المرآة و تناولت عقدها الذهبي الضخم، و حاولت اقفاله خلف عنقها...
و حين فشلت، جاء سليم من خلفها يساعدها، ليبعد شعرها الطويل الحالك السواد و الذي يصل الى أعلى ساقيها، و أقفل لها العقد الذهبي...
ثم نظر اليها قائلا بابتسامة صغيرة
(لو لم أكن أعرفك جيدا لظننت أنك من محبي الذهب و فخامته)
رفعت سوار يدها تتلمس هذا العقد الضخم، ثم قالت بخفوت.
(لا أحب الذهب، الا عقد أمي، يشعرني أني أشبهها، جزء منها، أحمل بعضا من تفاصيلها)
أمسك سليم بكتفيها وهو يقول
(انت فعلا تشبهينها، دون الحاجة للعقد، لكنه جميل عليك في كل الأحوال)
بقت سوار شاردة قليلا، ثم رفعت عينيها الى عيني سليم في المرآة، و قالت فجأة
(الليلة يا سليم، أريد أن أمنحك حقك الشرعي)
لم تتغير ملامحه، لم يجفل، بل ربت على كتفيها بحنان أذاب قلبها، ثم قال بخفوت
(لا أراك تتمنين ذلك يا سوار).
قالت بصوت خفيض
(أخبرتني أنه اختياري، و ها أنا اخترت)
قال سليم بهدوء
(لقد سبق و اخترتني و انتهى الأمر، وقفت أمام رجال العائلة و اخترت سليم الرافعي ابن عمك زوجا لك)
همست سوار بصوت متألم
(لكن لماذا لا تأخذ حقوقك مني؟)
ربت على كتفيها قائلا بخفوت.
(اسمعي سؤالك و أنت تعرفين الجواب، لا أريده حقا وواجب، يمكنني أخذه، لكنني لا أتطلع اليه، حين ترغبين به، ستجدين أنني أتمناه قبلك، و حتى هذا الحين لا أشعر أن هناك ما ينقصني، أحب حياتي معك كما هي، و لا أريد زوجة غيرك)
أخذت نفسا مرتجفا و هي تخفض رأسها قائلة
(سليم، منذ وفاة والدتي و أنا لست، لكن، أنا أريد أن اكون زوجتك، فقط ساعدني)
رفعت عينيها الى عينيه في المرآة و همست بترجي
(أرجوووك)
قال سليم بتعاطف.
(لماذا ترغمين نفسك و قد منحتك الحرية؟، لست متعبا أو معذبا، لدي عالمي الذي أحياه، و انت تشاركينني به)
أغروقت عيناها بالدموع و هي تهمس باختناق
(لكن هذه ليست حياة طبيعية)
قال سليم بثقة
(من قال هذا؟، ما يحدث داخل جدران غرفتنا هو شأن خاص بنا، و طالما ارتضيناه معا، فهو طبيعي مئة بالمئة)
استدارت سوار اليه ورفعت وجهها تنظر إلى عينيه بعينين مغروقتين بالدموع و همست بصدق من عمق قلبها.
(أنا أحبك يا سليم، أحبك جدا، أنت رجل لا مثيل لك)
أمسك بكتفيها يدعمها وهو يقول بحنان
(و أنا أحبك يا سوار، أنت ملكتي و زوجتي و صديقتي يا ابنة عمي)
مالت سوار اليه تستند الى كتفه الرحب و هي تغمض عينيها بحزن، بينما تلاعبت أصابعه بشعرها الطويل بدفىء...
هي حزينة فقط من أجله، لأنها لا تمنحه ما يسعد باقي الرجال، لأنه منحها الإختيار...
لقد شعر بها منذ أول ليلة لهما معا، خلف الباب المغلق...
و رفض أن تكون مجرد زوجة مغمضة العينين رافضة...
و منذ ذلك اليوم، أصبحت حياتها ناعمة كالنسيم، تسبح بها فوق السحاب معه...
هو يمنحها السعادة و الراحة، و يهون عليها فراق أمها...
لكنها تحرمه الكثير...
سليم لا يعرف الا الرضا، شفتيه لا تعرفان سوى الابتسامة و الحمد...
و لطالما تسائلت، هل هذا بشر كمثل من حوله؟
نزلت تيماء من القطار و هي تجر حقيبتها خلفها...
المحطة كانت قديمة الشكل و كأنها لم تتغير منذ عشرات السنين، الا ان رائحة البلد كانت تتداخل في أنفها بقوة ساحرة
رائحة تشبة النعناع و الريحان، أو شيء آخر من هذا القبيل لم تستطع تمييزه...
حتى هذه اللحظة لا تصدق أنها خدعت أمها و أوهمتها أنها مسافرة في مؤتمر، فقد أعتادت ثريا سفرها دائما...
تقدمت تيماء عدة خطوات و هي تنظر حولها، قبل أن تلمح اسمها مكتوبا بالخط العريض على لوحة بيضاء، كان يمسك بها أحد الغفر...
تيماء سالم الرافعي
بهت وجهها قليلا و هي تهمس لنفسها
(أبهذه البساطة أصبحت تيماء سالم الرافعي؟، عجبا!)
وصلت تيماء اليه حتى وقفت أمامه تماما و ابتسمت ببشاشة، ابتسامتها العريضة حتى ظهرت غمازتيها العميقتين...
لكن الرجل خشن الملامح لم يبدو عليه أنه قد رآها من الأساس وهو ينظر امامه متجهم الوجه
قالت تيماء بود
(السلام عليكم)
رمقها الرجل بنظرة متمعنة، قبل أن يقول بتوجس
(هل أنت عربية؟)
ظلت تيماء تبادله النظر قليلا قبل أن تقول ببساطة
(لا، أنا من بلاد الواق واق)
عبس الرجل وهو يقول
(و لماذا تتحدثين العربية؟)
ردت عليه تيماء بصوت هامس و بنبرة سرية
(لأنني في مهمة تقتضي التخفي)
قال الرجل بخشونة.
(وفقك الله، ثم استدار عنها وهو يرفع اللوحة عاليا)
فرفعت تيماء حاجبيها غير مصدقة، و هي تنظر الى ظهر الرجل، فعضت على شفتها قبل أن تربت على ظهره برفق
فاستدار ينظر من اللذي يربت على ظهره، و ما أن رآها حتى انتفض هاتفا
(استغفر الله العظيم، يا سيدتي أنا متوضىء).
ارتفع حاجبيها و هي ترى الجلباب الذي يرتديه و فوقه سترة صوفية، و فوقها شال من الصوف ملفوف حول كتفيه، و هذا يعني أن لمستها عليها أن تخترق على الأقل سبع حواجز قبل أن تصل اليه...
الا أنها قالت بصبر...
(اعذرنا يا سيدي، العتب على النظر، هل تنتظر أحد؟)
رد الرجل بخشونة قائلا
(الا تستطيعين القراءة؟)
ردت تيماء بهدوء
(انا أقرأ عربية متكسرة، عربية ذات فجوات، الا أنها تفي بالغرض، لكن ماذا عنك؟ هل تستطيع النظر؟).
قال الرجل بثقة
(نظري كالصقر)
قالت تيماء
(بسم الله ماشاء الله، حفظه الله لك، واضح، عامة أنا تيماء يا سيدي)
جاء دور الرجل كي يرتفع حاجبيه وهو ينظر اليها بذهول، ثم قال بعدم فهم
(تيماء من؟)
قالت تيماء بجدية
(الا تستطيع القراءة؟، أم أن أحدا ما كتب لك اللوحة؟)
نظر الرجل الى اللوحة يتأكد من الاسم، ثم نظر اليها عاقدا حاجبيه قبل أن يقول بتمعن
(هل هذه عينيك؟)
قالت تيماء بهدوء
(لا، لقد استأجرتهما من محل قطط).
لم تكن تيماء تعلم أن عينيها الفيروزيتين قد تألقتا بلون زاهي غريب، و من البرد احمرت وجنتاها فساعد الحجاب الوردي الداكن على منح بشرتها البيضاء لونا ورديا مشتعلا...
قال الرجل بتعجب
(لا تبدين من هنا)
قالت تيماء
(لا أنا من هناك، لكن بعد الظهيرة أبدو من هنا...
اسمع يا عم، لقد تسوست عظامي من البرد، هلا أكملنا حديثنا المشوق في السيارة؟، سيكون جدي ممتنا لك قبل أن أصله كاللحم المقدد).
رمقها الرجل مرة أخيرة، قبل أن يقول بخشونة...
(اتبعيني)
سارت تيماء خلفه، ثم قالت مقترحة
(يمكنك أن تخفض اللوحة، فأنا خلفك يا عم)
أخفض الرجل اللوحة دون أن ينظر اليها فهزت تيماء رأسها و تبعته صامتة تجر حقيبتها، ثم قالت بصوت عالي
(يا عم، لا تأخذ مني الحقيبة، فقد من الله على بالصحة، الله لا يحوجني الى أحد)
قال الرجل مطيعا
(حسنا)
ارتفع حاجباها و هي تهمس لنفسها.
هذا الرجل هو قريني في الحياة، لو بحثت في أصوله فسأجدني من نسله حقا، انه الشخص اللذي يفهم هذه الحياة فهما صحيحا،
انها ثالث مرة ترتطم بسقف السيارة على الطريق الصخري، مما جعلها تضحك وهي تقول
(أنت تقود بسرعة خطيرة، شاب في مثل سنك ليس عليه أن يكون متهورا بهذا الشكل)
قال الرجل دون أن ينظر اليها
(الحافظ هو الله)
ضحكت تيماء و هي تقول
(و نعم بالله، لكن سيكون لطيفا لو وصلنا الى جدي أحياء من فضلك)
قال الرجل.
(آمني بالله)
قالت تيماء
(و نعم بالله يا عم، لكنك ستوقنا في الترعة، هدىء السرعة من فضلك)
ضحكت تيماء و هي تراقب مزارع النخيل الممتدة من بعيد، ثم تنهدت قليلا قبل أن تذوي الضحكة، و همست لنفسها
أتضحكين يا تيماء؟، آخر مرة كنت بها هنا، كانت كارثة، أم نسيت؟، على ماذا تضحكين؟، أم تراك تضحكين على نفسك؟، حين أوقف الرجل السيارة أخيرا، و جدت تيماء نفسها أمام قصر عال، قصر يشبه القلاع...
يشعر الإنسان أمامه بالتضاؤل...
فتحت بواباته الضخمة لتدخل السيارة ببطىء، بينما كانت عيناها تتأملان ما حولها من جمال يسحر القلب...
و حين وقفت السيارة تماما، قال الرجل دون أن يستدير اليها...
(اصعدي أنت، و نحن سنحمل لك حقيبتك)
قالت تيماء منبهرة
(هذا كثير؟، لم أكن أظن أنك ستقدم هذا العرض أبدا، شكرا يا عم)
خرجت تيماء من السيارة و هي تتأمل الحدائق الواسعة، و التي كانت مزدحمة!
ارتفع حاجبيها و هي تجد عدد غير قليل من البشر المتفرقين، يتحادثون و يضحكون...
معظمهم من الشباب، عصريون في ملابسهم و هيئتهم، ليست معظم الفتيات محجبات...
ملامحهم شرقية جدا، الا أن ملابسهم على أحدث صيحة...
شباب و فتيات، يبدو أنهم يعرفون بعضهم...
ارتبكت تيماء فجأة، و شعرت بالوحدة، و بأنها لا تعرف أحد في هذا الجمع المهيب...
لكنها اخذت نفسا عميقا و قوت نفسها...
لقد سافرت منحة وحدها لمدة ثلاث سنوات، أتخاف الآن من مجرد اجتماع عائلي؟
صعدت تيماء السلالم الرخامية للقصر، و كان على قمتها مجموعة من الرجال و الشباب...
كانوا يتحدثون دون أن ينتبه احدهم اليها، فأخفضت رأسها و تجاوزتهم و هي تنوي الدخول للبهو سريعا...
لكن ما ان خطت خطوتين بعيدا عنهم...
حتى جائها صوت رجولي من خلفها جمد الدم في عروقها، و أصابها بالإنتفاضة القلبية المألوفة لديها...
(مرحبا تيماء، لقد مر وقت طويل)
تسمرت تيماء مكانها و أغمضت عينيها، بينما اشتعلت العينين الرجوليتين خلفها بجمرتين من اللهب