رواية طائف في رحلة أبدية الفصل الخامس 5 بقلم تميمة نبيل
الفصل الخامس
(مرحبا تيماء، لقد مر وقت طويل)
تسمرت تيماء مكانها و أغمضت عينيها...
بينما اشتعلت العينان الرجوليتان خلفها بجمرتين من اللهب...
هل هذا حقيقي؟، أم أنها تتوهم؟
نعم ربما كانت تتوهم، فلقد غرقت في بحر من الذكريات خلال ساعات السفر الطويلة...
ربما جعلها ذلك تحيا الماضي من جديد بخيالها...
و حين بدأت تقنع نفسها بتلك النظرية، و هي تهمس
اللهم اجعله وهما، لكن انتفاضتها القلبية، تلك الإنتفاضة التي لن تخطئها أبدا؟
حينها انبعث الصوت الخافت المزلزل من خلفها، صوت لا يقبل النسيان، يرفضه...
(ستضطرين للإلتفات في النهاية، تعلمين أنك ستفعلين. )
و لم تكن في حاجة لسماع صوته للمرة الثالثة حتى انتهى الشك، فتركت لقلبها حرية الإستسلام أخيرا، فتحت عينيها ببطىء دون أن تستدير، بينما نظراته النارية تلفح ظهرها...
فهمست بصوت لا يسمع.
قاصي، لم تعرف كيف سمع همستها ذات الحنين المتأوه، فرد عليها التحية بمثلها و همس بصوته الحارق و الريح تصفر من حوله و تختلط بنبرته الخافتة
تيماء، أغمضت عينيها و هي تبتلع الغصة المؤلمة بحلقها، الإنتفاضة تزيد و تتدافع...
الا أنها تمكنت من قمعها و هي تستدير ببطىء بدا و كأنه استغرق أعواما، بل دهور...
قبل أن تستقر أمامه مخفضة الوجه، و صدرها ينتفض بعنف...
رفعت وجهها اخيرا، ثم عينيها، فالتقتا بعينيه!، حينها تزلزل كيانها كله دفعة واحدة
نعم، هو قاصي...
لن تتوه عينيها عن الجمرتين المشتعلتين بعينيه، و اللتين اشتعلتا الآن كحمم بركانية ما ان التقتا عينيها
طال بهما الصمت و كأنهما يتذوقان تلك النظرة بعد سنوات طويلة، و كأنها لم تمر...
تحركت عيناها دون ارادة منها تتأمله بصدمة...
لن تخطىء عيناها عينيه و لن تخطىء اذناها صوته، لكن هذا اللذي يقف أمامها كادت أن تخطئه للمرة الأولى!
اتسعت عيناها و هي تميل بوجهها دون ان تشعر، لتبحث عن قاصي الذي تعرفه في هذا الرجل
كان طويلا، ضخما، بعض الجروح تعلو وجهه، و احداها يشق شفته العليا...
مفتول العضلات بدرجة أكبر مما كانت تتذكر!
فغرت تيماء شفتيها و دون تفكير همست بصدمة
(لقد قصصت شعرك!).
لم يرد قاصي على الفور، لكن شفتيه ابتسمتا وهو ينظر اليها نظرات اخافتها من هول اشتعال الذكريات بهما...
آه ياقاصي، مرت الأعوام و لم تتغير ابتسامتك الخفية و لم تختفي لمحة الحنان منها و التي تتناقض مع جمرتي عينيك
قال قاصي أخيرا بصوت خافت مداعب و عيناه تشملانها بنظرة بدت، مدمرة
(دائما تغارين من شعري، وهو أول ما تلاحظينه، حتى بعد مرور الأعوام)
تأوهت دون صوت، فصوته وحده يدغدغها...
و بينما كان الجو من حولهما شديد البرودة، الا أن كيانها كان يشتعل، و النار تستعر بها...
لقد اختفى الزحام فجأة، و تاه أفراد العائلة المتناثرين من أمام عينيها و هي تنظر اليه بعدم تصديق...
فقد كانت تقف أمام قاصي الحكيم...
خرج صبيان صغيران من باب القصر المفتوح فجأة وهما يركضان، فارتطم أحدهما بظهرها، قبل أن يتابعا طريقهما طلبا للهو...
لكن هذه الارتطامة كانت كفيلة بدفعها اليه، حتى كادت تسقط على صدره...
الا أن كفيه امتدتا لتمسان مرفقيها في اللحظة الأخيرة لتوقفان سقوطها...
فارتعشت شفتيها و هي ترفع أصابعها تمس بهما الوشاح حول وجهها المخفض المحمر...
بينما استقرت عيناها على حلقه الذي تحرك بصعوبة و بحركة نافرة قبل أن يبعد كفيه عنها فجأة، كما مسها فجأة...
ثم قال أخيرا مازحا بصوته الخافت المدمر
(كبرت يا تيماء، لكن لا تكبرين على السقوط فوق صدري)
انتفضت للمرة الثالثة و هي ترفع وجهها الأحمر اليه بصدمة...
لكن عيناه كانتا تلاحقان طرف الوشاح الوردي وهو يتطاير مع الريح الباردة التي تزيد من احمرار وجهها...
الكنزة الوردية تحت السترة بلون الزيتون الأخضر، بينما دست كفيها الصغيرين في جيبيها حتى تخفي ارتجاف أصابعها عن عينيه المشتعلتين...
الى أن رآها تتراجع فجأة للخلف خطوتين و هي تهمس بارتجاف
(يجب أن أدخل)
عقد حاجبيه، و توهجت الجمرتين بعينيه أكثر وهو يقول بخفوت قاس محذرا
(تيماااااء).
الا أنها تراجعت خطوتين أخرتين مكررة و هي ترتجف بشكل ظاهر، تحول الى انتفاضات أشبه بالذعر.
(يجب أن أدخل)
و دون أن تنتظر منه الرد كانت قد استدارت واندفعت هاربة الى داخل القصر و كأن شياطين الأرض تلاحقها...
صوت حذائيها يضربان الأرض الخشبية القديمة و التي قد يصل عمرها الى مئة عام...
و يتردد صداهما بين الجدران العتيقة المحملة بصورة غير ملونة، لأفراد آخرين من العائلة على الأرجح لم يعودوا من سكان هذه الحياة معهم...
لكنها لم ترى الصور، و لم تسمع الصدى...
فقد كان كيانها كله يصرخ بذعر.
قاصي هنا!، قاصي فعلا هنا!، ازدادت سرعة خطواتها و علو صوتها و هي تهرول ناظرة الى الألواح الخشبية التي تغطي الأرض دون أن تبصر حقيقة، الى أن ارتطمت فجاة بجسد أنثوي، قبل أن تسندها يد قوية و صوت ناعم يقول
(على مهلك)
رفعت تيماء وجهها لترى نفسها أمام شابة جميلة، شديدة الجاذبية...
ترتدي عباءة سوداء شرقية فضفاضة تغطيها من قمة رأسها و حتى أخمص قدميها، دون أن تخفي كمال قسماتها، و جمال عينيها العسليتين صريحتي النظر...
رمشت تيماء بعينيها و هي تقول بتردد خافت
(آنا آسفة، هل آذيتك؟)
ابتسمت الشابة و قالت بهدوء
(الحمد لله مرت الصدمة على خير، لكن على ما يبدو أنك أنت من تحتاجين السؤال، هل أنت بخير؟)
رفعت تيماء عينين متسعتين و همست بتشوش
(هل أنا بخير؟).
كانت و كأنها تحدث نفسها، فقالت الشابة بهدوء
(أنت تبدين شاحبة للغاية، ياللهي هل ستصابين بالإغماء؟)
كان العالم بالفعل يدور من حول تيماء فرفعت يدها المرتجفة الى جبهتها و هي تغمض عينيها...
فأمسكت الشابة بذراعها بيد قوية لا تتناسب مع جمال ملامحها الرقيق و قالت بدعم
(من المؤكد أنك آتية من سفر بعيد، تعالي معي لترتاحي).
رفعت تيماء وجهها الشاحب الى الشابة الممسكة بها بقوة، و من قوة يديها عرفت تيماء أنها لن تقع أرضا، و هذا أراحها الى حد ما، فسلمت لها أمر قيادتها و هي تعلن الهدنة مع روحها المذعورة لبضعة لحظات
أدخلتها الشابة الى قاعة مصغرة من القاعة الخارجية...
ذات أرضية خشبية مصقولة و لامعة، سقفها عال جدا، تتدلى من الثريات الشرقية بديعة الشكل...
بينما يزين الأرابيسك الخشبي كل شيء في المكان، بدئا من الأثاث العربي و حتى أطر النوافذ الطويلة المتتالية...
كانت الفخامة تحيط بالمكان من خارجه و حتى داخله و بنفس الوقت تشعرها أنها نقلتها الى زمن آخر داخل فيلم قديم، في بلاد بعيدة...
أجلستها الشابة على احدى المقاعد الضخمة الوثيرة، ثم انحنت اليها تقول باهتمام
(كيف تشعرين الآن؟)
رفعت تيماء وجهها الشاحب اليها، لكنها تدبرت الإيماء ببطىء و هي تقول بخفوت.
(أنا بخير، لقد كانت رحلة طويلة فعلا)
ابتسمت الشابة مما زادها جمالا، و قالت بلطف
(لا أضمن لك الراحة قريبا، فستقابلين جموعا من البشر قبل أن تصعدي لإحدى الغرف)
استقامت لتنادي فجأة بصوت قوي
(يا أم سعيد)
جائتها احدى الخدم مسرعة و هي تقول
(تحت أمرك يا سيدة سوار)
التفتت سوار الى تيماء لتقول مبتسمة
(أكرمي ضيفتنا يا أم سعيد، فلقد أتت من مسافة بعيدة و هي متعبة، أريني أفضل ما عندك هيا).
اسرعت الخادمة تبتعد بينما عادت سوار الى تيماء التي كانت غائمة العينين، شاردة بعيدا...
فجلست في المقعد المجاور لها و سألتها و هي تراقبها بإهتمام
(ابنة من أنت؟)
انتفضت تيماء و هي تنظر اليها، بلحظة واحدة مزق السؤال المفاجىء شباك العناكب الذي احاط عقلها لدقائق...
كان هذا السؤال كفيلا بأن يعيد اليها شيئا من صلابتها، و يذكرها بشخصها و قوتها...
فرفعت ذقنها لتقول بإباء
(أنا تيماء).
ضيقت سوار عينيها و هي تقول باهتمام مجددا
(تيماء، اسم جميل، من اسمائنا، لكن ابنة من؟، للحظة خدعتني عينيك فظننتك زوجة غريبة أو خطيبة أحد الأحفاد، لكن شيئ ما أخبرني بأنك لست ضيفة، بل من أهل البيت)
زمت تيماء شفتيها و هي تنظر الى عيني سوار العسليتين، قبل أن تقول باختصار
(أنا من العائلة نعم، أنا ابنة ثريا)
عقدت سوار حاجبيها و هي تتسائل
(من ثريا؟، ابنة من؟).
أغمضت تيماء عينيها و هي تهز رأسها بنفور، هذا السؤال يثير أعصابها و يجعلها متحفزة لضرب أحدهم، رغم أنها مدركة كونه مجرد سؤال للتعارف...
اخذت نفسا قويا في النهاية قبل أن ترفع رأسها و تقول بصوت مشتد
(زوجة سالم الرافعي)
كانت أسنانها تصطك دون أن يظهر ذلك على شفتيها المضموتين، قبضتها مغلقة حتى ابيضت مفاصل أصابعها...
الغضب أبعد اللون الغائم عن عينيها، و حولهما الى شعلتين من اللون الفيروزي، و هي ترى اتساع عيني سوار التي قالت بدهشة
(أنت ابنة عمي سالم اذن؟، ماشاء الله، لم أعلم أن ابنته الأخرى باتت شابة الى هذا الحد، لقد مرت سنوات طويلة على زواجه دون أن نشعر بها اذن)
حاولت تيماء السيطرة على كل ذرة نفور بداخلها، حتى تصلبت ملامحها بدرجة مؤلمة و باتت كتمثال رخامي بارد.
الا أن سوار وضعت القشة الأخيرة، فقالت مبتسمة و هي تتأملها
(لقد احسن تربيتك، و إن كنت بعيدة عنا)
حينها فقدت تيماء ذرة السيطرة المتبقية لديها فانتفضت قائلة بقوة
(أنا لم يربيني أحد)
تراجعت سوار للخلف قليلا مرتفعة الحاجب، بينما وقفت أم سعيد التي كانت قد وصلت بصينية تحمل أطباق الحلوى و أكواب الشراب الملون، و هي تنظر اليها بنفس الحاجب المرفوع...
نقلت تيماء عينيها بينهما قبل أن تتمالك نفسها قائلة بهدوء.
(لقد ربيت نفسي بنفسي، الحياة مدرسة)
مطت ام سعيد شفتيها لسوار و هي تظن أنها تفعل ذلك في الخفاء، فقالت تيماء بهدوء
(أم سعيد، هل تقربين للعم الطيب الذي أوصلني من المحطة الى هنا؟)
عقدت ام سعيد حاجبيها و قالت دون تفكير
(عبد الكريم؟، نعم انه ابن عمي)
ابتسمت تيماء و هي تقول ببشاشة
(سبحن الله، لا تعلمين كيف استنتجت الأمر)
ثم مدت ذقنها و هي تتفحص محتويات الصينية. قبل أن تقول.
(هل تنوين تقديم النذر اليسير منها لي، أم ستقومين بالتقاط صورة لك مع الصينية و نشرها على موقع التواصل؟)
فغرت أم سعيد شفتيها و هي تقول عاقدة حاجبيها
(ها؟، ما هذا الذي تقولين عنه؟)
قالت تيماء ببساطة و هي تلتقط قطعة حلوى من إحدى الأطباق لتدسها في فمها
(انه مكان للفضائح العلنية، لكن يمكنك نشر صورتك به ليراها العالم)
رفعت أم سعيد طرف وشاحها بيدها الحرة، لتغطي وجهها أسفل عينيها المذعورتين و هي تولول.
(للللللليييييييييي)
رفعت تيماء حاجبها و هي تقول
(هل هذه زغرودة؟)
مطت سوار شفتيها و هي تلتقط الصينية من يد أم سعيد قائلة بحزم
(اذهبي الى المطبخ يا أم سعيد و أشرفي على اعداد الطعام، الكميات ضخمة و أخبريني ان احتجت الى مزيد من الفتيات كي نتصرف مبكرا)
غادرت أم سعيد مهرولة، بينما التفتت سوار الى تيماء التي كان فمها ممتلىء بالطعام. و تبادلها النظر ببراءة...
فقالت سوار بعتب.
(كدت أن تصيبين المرأة المسكينة بنوبة قلبية، هلا ترأفت بالناس هنا رجاءا، لا يزال هذا اليوم الأول لك و لا نريد ضحايا)
قالت تيماء من بين أكلها
(أنا لن أطيل البقاء)
ضيقت سوار عينيها و هي تتأملها بدقة، قبل أن تقول باهتمام
(هل جدي هو الذي طلب رؤيتك؟)
قالت تيماء ببساطة
(الحقيقة الرغبة مشتركة بيننا، و تصادف ان كان هذا هو الوقت المناسب)
قالت سوار و هي تومىء برأسها مفكرة.
(ربما اذن لن تطيلي البقاء بالفعل، من يعلم، و ربما تذهبين و ترجعك قدميك الى هنا مجددا)
ابتسمت تيماء و هي تقول بتأكيد
(ما أن تطىء قدمي القطار في طريق العودة، سيكون من المستحيل الرجوع الى هنا، أنا أريد جدي بشيء هام ثم سأنصرف لحياتي الخاصة)
ظلت سوار تتأملها قليلا قبل أن تقول ببطىء خافت
(ربما)
رفعت تيماء وجهها و هي تقول بقوة محتدة قليلا
(ليس هناك من ربما، هذا ما سيحدث)
قالت سوار بقوة تفوق قوة تيماء.
(ماذا قلت يا فتاة؟، قدمي مشيئة الله و اسكتي)
نظرت تيماء اليها بقنوط بينما وجنتها منتفخة و ممتلئة بالحلوى، و عينيها مظلمتين تطلبان الشجار في تلك اللحظة، الا ان سوار تأففت و هي تقول بخفوت
(أنت حقا تبدين كالشوكة في الخاصرة، لقد خرجت عن أعصابي بسببك خلال الدقائق الأولى، و هذا ليس طبعي)
نظرت الى تيماء بطرف عينيها، قبل ان تتابع بحدة
(ابتلعي ما بفمك)
قالت تيماء تلقائيا بحدة مماثلة
(حاضر، على مهلك).
استندت سوار بظهرها الى المقعد بفخامة و هي تتأمل تيماء باستياء، ثم قالت أخيرا بصرامة
(و شيء آخر، حين يسألك أحد آخر ابنة من أنت، تجيبي باسم ابيك، و ليس اسم أمك. لأن هذا عيب كبير، فهمت؟)
برقت عينا تيماء بنفور أكبر، لدرجة أن القشعريرة أصابت بشرتها الحساسة...
و هذا ما أغضبها حقا، كانت تظن أنها قد تصالحت مع نفسها منذ سنوات، لكن ذكر ابيها و دوره في حياتها لا يزال يعيدها الى حالة التمرد القديم، و هي تكره تلك الحالة...
لقد تعبت جدا الى ان استطاعت بناء كيانها و شخصيتها المستقلة، و على تلك الشخصية أن تكون باردة و غير متأثرة بأي عوامل عاطفية تافهة، و أولها مسألة غير ذات قيمة مثل مسألة ال، الأبوة...
أسبلت تيماء جفنيها و هي تقبض أصابعها و تشبكهما...
تلك السفرة لم تكن القرار الأمثل، لم يمر على وجودها ساعة و ها هي تنهار لمرتين متتاليتين...
أقصاهما، قاصي...
رفعت عينيها الى البعيد و هي لا تزال تتسائل
هل قابلت قاصي الحكيم فعلا؟، هل هو خارج هذه الغرفة مباشرة؟، هل حقا يفصلهما باب فقط؟، أرادت السؤال عنه بجنون...
لقد أوشكت أن ترمي بالحرص جانبا و تسأل تلك الشابة سوار عن قاصي، من المؤكد أنها موسوعة هنا و تعرف الجميع...
شردت عينا تيماء و هي تتسائل بجنون صامت.
هل عاد ليعمل لدى سالم الرافعي؟، هل هذا معقول؟، لكم شعرت بالخيبة حين وصلت الى تلك النقطة الصادمة...
لم تتخيل أبدا أن يتنازل و يعود للعمل لدى سالم بعد كل الذي كان...
هل لا يزال يقل مسك من مكان لآخر؟، أيزال يحمل لها حقائبها؟
رفعت تيماء عينيها المظلمتين الى البعيد و هي تهمس لنفسها
(كم عمره الآن؟، الرابعة و الثلاثين؟، حقا، هل مر كل هذا الوقت؟)
قالت سوار بهدوء.
(من هو الذي تتسائلين عن عمره؟، أنا والله الحمد أعرف تسعين بالمئة من أفراد العائلة، على الرغم من أن عددهم يزيد عن المئة)
نظرت اليها تيماء بصمت متبلد، و الروح هائجة تريد رمي الإسم بجنون، قاصي...
الا انها غالبت نفسها بصلابة تحسد عليها و قالت بفتور
(أنا أتناقش مع نفسي، بعض الخصوصية النفسية)
لم ترد سوار على الفور، ثم قالت أخيرا.
(كان يجب أن أحزر بأنك أخت مسك، فهي ماشاء الله، تحمل نفس جينات الفظاظة الأقرب للتراجع الذهني)
ارتفع حاجبي تيماء و هي تقول بخفوت
(مسك؟، هل هي هنا؟)
قالت سوار ببرود
(لم تأتي بعد، ربما ستصل آخر النهار)
شردت تيماء قليلا و هي تفكر بمسك، لقد اشتاقت اليها بالفعل، لقد تواصلت معها دون مقابلة من بعد المرة الأولى، عن طريق الهاتف و البريد فقط...
كانت محادثات قصيرة و غير شخصية تماما، الا أنها كانت لطيفة و تبهج الروح...
لكن منذ فترة توقفت مسك تماما عن التواصل معها، و هذا ما عزز رغبة الإبتعاد لدى تيماء
الإبتعاد عن كل ما يخص اسم سالم الرافعي...
ربما كان انقطاع مسك عنها خير لها، و مع ذلك لا تنكر أنها اشتاقت للطفها...
انتفضت تيماء على صوت سوار و هي تقول مستاءة
(لا تختلف عنك، صحيح كلاكما تحملان جينات و موروثات عمي سالم بجدارة. ).
برقت عينا تيماء رفضا و زاد نفور جسدها، الا أنها آثرت السلم و قالت رافضة
(لا أظنك منصفة بحق مسك، فهي غاية في اللطف)
نظرت اليها سوار بصمت، ثم قالت بلهجة ذات مغزى
(مسك صديقتي و أنا أحبها، لكن متى كانت آخر مرة تواصلت معها؟)
تنهدت تيماء بحرج قبل أن تقول باختصار
(منذ فترة، أنا سافرت و هي انشغلت، الحياة مشاغل)
اومأت سوار بوجهها متفهمة، ثم قالت بحذر بطىء.
(اذن ربما عليك تهيئة نفسك بأن البشر يتغيرون قليلا في البعد)
عقدت تيماء حاجبيها بحيرة، و هي تسمع كلمات سوار الغريبة
هل من الممكن أن تتغير شخصية لطيفة مثل مسك؟..
تلك الشخصية النادرة التي تجمع بين الكبرياء و الرقي و اللطف، مما يؤلها لتحصل على هيئة ملوكية بجدارة، فكيف تتغير و كل المقومات تؤهلها كي تكون سعيدة و معطاءة؟
نهضت سوار من مكانها و هي تقول بود.
(قد يأخذني الكلام معك طويلا، بينما هناك عمل لا ينتهي قبل وصول المزيد من الأفواج، لذا سأتركك الآن قليلا ثم أعود اليك، هل ستجدين صعوبة في التآلف مع الباقين؟)
نظرت اليها تيماء بصمت...
هي لم تأتي هنا كي تتآلف مع الباقين، لقد أتت في مهمة محددة و ستتجنب الدخول في وهم العائلة المترابطة هذا بكل جهدها، لذا قالت بهدوء رافعة ذقنها بكرامة.
(سأجد طريقة ما، لا تقلقي، لكن هل كل هذا العدد من سلالة أعمامي؟، كيف تمكنوا من فعل هذا؟)
ارتفع حاجبي سوار و هي تقول بشك.
(سلالة!، أنت تتكلمين مثل عم عبد الكريم حين يكون في الاسطبل!، عامة، هناك أعمامك و أبناء أعمامهم، جدك الرافعي أنجب الكثير من الذكور من عدة زيجات، و كذلك فعل أشقائه، على أنه الوحيد المتبقي على قيد الحياة منهم فليمنحه الله الصحة، لكن ستتعرفين على أبنائهم و بناتهم و أطفالهم أيضا، لكن أشك في أن تتذكريهم من مرة واحدة، الآن سأتركك ثم أعود اليك بعد حين، حاولي الا تستفزي العاملين هنا).
استدارت لتغادر الا أن تيماء نادتها قائلة
(لم تعرفيني بنفسك)
التفتت اليها سوار و هي تقول بزهو
(أنا سوار، لم أظن أن هناك من لم يعرفني بعد في هذه العائلة)
قالت تيماء تستفز وهم العائلة بداخل تلك المزهوة بها
(ابنة من؟)
ارتفع حاجبي سوار بصدمة، قبل أن ترفع اصابعها قائلة بفخر
(ابنة وهدة الهلالي)
كان دور تيماء كي يرتفع حاجبيها بتبلد و هي تفكر.
ألم تعرف نفسها بأمها للتو؟، الا أن سوار كانت قد اختفت فجأة كما ظهرت فجأة، فنظرت تيماء الى أرجاء القاعة الواسعة و هي تهمس
(ما تلك الحياة الغريبة، أناس عصريون بينما آخرين يرتدون الزي القديم، لكن لهجتهم تدل على تعليم عالي و معرفتهم بعدة لغات على الأقل!، الدراسة هنا ستكون غنية و البحث رائع، لكن للأسف النهاية قد اقتربت)
تراجعت للخلف و هي ترتاح قليلا مغمضة عينيها تسرح بعيدا، بعيدا جدا...
و الذكريات تلاحقها من كل صوب و اتجاه...
ذكرى اليوم الأول الذي عرفت به قاصي، ذلك اليوم الذي كاد ان ينتهي بكارثة في شقتها...
حين أوصلها الى أمها...
ابتسمت و هي تتذكر صورة أمها حين فتحت الباب، ناعسة العينين، مشعثة الشعر، ترتدي منامة ذات بنطال قصير يصل الى الركبتين...
بدت غير مستوعبة و هي تنظر الى تيماء في الخارج، و شاب يفوقها طولا يقف خلفها...
شاب غريب و مريب، شعره طويل، معقود في ذيل ناعم يصل الى كتفيه، بينما يده في جيب بنطاله الجينز و الأخرى تحمل حقيبة تيماء و كأنه يحمل فأر ميت...
حين تكلمت ثريا قالت بصوت خشن من النوم...
(تيماء!، ألست نائمة بالداخل؟)
مطت تيماء شفتيها و هي تقول
(هلا تأكدت من وجودي في الداخل رجاءا يا أمي، و إن وجدتيني في سريري فستكون غلطة و سنغادر من هنا آسفين).
بدت ثريا غير مستوعبة و كأنها ستذهب لتأكد من وجودها في سريرها بالفعل...
لكن قاصي تكلم أخيرا قائلا بصلابة
(لا تذهبي رجاءا، لقد هربت من البيت و أعدناها قبل أن تحدث كارثة)
اتسعت عينا ثريا بفزع و هي تقول غير مصدقة. و قد بدأت تفيق أخيرا
(هربت؟، كنت تنوين تركي يا تيماء؟)
التفتت تيماء ترفع وجهها الى قاصي. ثم همست بغضب من بين أسنانها
أيها الواشي، البغيض، النذل، أخفض قاصي وجهه اليها وهو يهمس بغيظ.
لفي لسانك و أغلقى فمك عليه كي لا أقصه لك، فأنا سأقود السيارة لمدة ست ساعات اليوم بسببك ذهابا و عودة، رمقته تيماء بعينين تشتعلان قبل أن تندفع دافعة أمها و هي تتجاوزها للداخل...
بينما تبعتها عينا ثريا بقلق و عدم فهم. قبل أن تستدير الى قاصي لتقول
(عفوا، لكن من انت، شكلك ليس غريبا عندي، لكن)
قال قاصي بهدوء.
(أنا قاصي الحكيم، أعمل لدى السيد سالم و منذ فترة ليست ببعيدة كلفني بإنهاء أي اجرائات خاصة بكما نيابة عنه)
رفعت ثريا ذقنها و هي تقول متذكرة
(آآه نعم، الشعر ليس غريبا علي)
قال قاصي عاقدا حاجبيه
(ما قصتكما مع الشعر؟)
زفر بنفاذ صبر قبل أن يقول بجدية
(سيدة ثريا، احتاج لأن أتكلم معك قليلا)
ردت ثريا بتوتر مترددة
(آآه، تفضل، ادخل).
كانت تيماء حينها تقف في الممر مستندة بكفيها للجدار و هي تنوي سماع ما سيقوله لأمها...
نظرت اليه بعين واحدة من خلف الجدار و هو يجلس بهيمنة أمام امها، كان فعلا مريب الشكل ووجوده يجعل كل ما حوله يتضائل مقارنة بشكله اللذي يحفر في الذاكرة...
رأته يستند بمرفقيه الى ركبتيه وهو يميل الى الأمام، مخفضا رأسه عدة لحظات مفكرا، قبل أن يرفعها قائلا بجدية.
(سيدة ثريا، تعليمات السيد سالم كانت واضحة في الا تحاول كلاكما التواصل معه على أن تكون كافة طلباتكما مجابة)
انقبضت أصابع تيماء فوق الجدار الأبيض، حتى كادت أظافرها أن تحفر به...
بينما عيناها تراقبان ملامح والدتها التي تحولت الى الشحوب و هي تبتلع ريقها و حلقها يتحرك بطريقة مثيرة للشفقة، أثارت النفور بنفسها...
ثم قالت بتوتر
(و هذا ما نفذناه، فماذا يريد بعد؟)
تنهد قاصي ثم قال.
(هذا ما لم تنفذه تيماء، لقد هربت من حاملة معها بعض أغراضها، تنتوي الإنتقال للبقاء معه)
اتسعت عينا ثريا بذعر و هي تستمع اليه، بينما تهدلت شفتيها بشكل أكثر نفورا و يدها ترتفع الى صدرها، قبل أن تقول أخيرا بهلع
(و هل نجحت في الوصول اليه؟، ماهذا السؤال. طبعا نجحت في الوصول اليه بدليل أنك هنا، ياللكارثة!)
شهقت بصوت وصل الى أذن تيماء قبل أن تهتف مذعورة
(هل هدد بقطع دعمه لنا؟، هل قطعه بالفعل؟).
ارتجفت شفتي تيماء و هي ترى أمها في هذا الموقف المخزي، و التقطت عيناها نظرة قاصي المستنكرة المذهولة قبل أن يقول بشدة غاضبة
(سيدة ثريا، ابنتك هربت اليوم في الصباح الباكر، و استقلت الحافلة وحدها و سافرت من مدينة لأخرى، و معها عنوان رجل غريب، أتدركين مدى خطورة ذلك؟)
احتدت عينا ثريا و هي تقول بشك
(عفوا، لكن هل لديك شكوى من طريقة رعايتي لطفلتي؟، هل هذا ما فهمته للتو أم انني مخطئة؟).
صمتت قليلا ثم قالت بقلق مرتعد
(هل هذا رأي سالم بعد أن رأى تيماء؟، أنني لا أجيد العناية بها لذلك سيقطع الدعم المادي عنا؟)
ضاقت عينا قاصي أكثر و قد بدا و كأنه فقد مهارة الكلام فجأة، فتراجع للخلف يستند بظهره...
ناظرا الى ثريا نظرة شاردة، لم تخطئها عيني تيماء المتفرستين به من خلف الجدار...
لكن فجأة وجدت العينين الناريتين تنظران اليها مباشرة...
و كأنه رفع عينيه الى عينيها بقصد، حينها تراجعت للخلف حتى اصطدمت بالجدار المقابل، قبل أن تهرع مبتعد عن مرمى نظراته...
لكن صوت ثريا لا يزال يصلها واضحا و هي تتابع أسئلتها المذعورة
(أخبرني بالله عليك، ماذا كان قرار سالم؟، لماذا أنت صامت بهذا الشكل؟)
فقال قاصي بعد فترة طويلة دمرت أعصابها
(قرار السيد سالم هو أن يمنحك فرصة أخيرة، على أن يتأكد تمام التأكيد أن ابنته لن تكرر ما فعلته و تعرض نفسها للخطر مجددا).
هتفت ثريا بصوت وصل الى تيماء واضحا...
(لن يحدث، لن يحدث مجددا، يمكنك أن تأكد له ذلك)
ساد صمت طويل، لم تستطع تيماء أن تعرف معه بماذا يفكر هذا القاصي...
لكنها سمعت صوته يتكلم مجددا...
(لكن لماذا هربت؟، هل هناك ما ضايقها؟)
قالت ثريا بصوت قلق
(لقد تشاجرنا بالأمس مجرد شجارا عاديا، نسيت شيئا تريده، أنت تعرف الأطفال)
حينها قال قاصي بصوت صلب
(ربما لم تعد طفلة، و هذا ما عليك الإنتباه اليه).
سمعت تيماء صوت ثريا يهتف فجأة باستياء
(من أنت لتعلمني طريقة التعامل مع طفلتي؟، كم عمرك أصلا يا فتى؟)
حينها قصف صوت قاصي يقول بنبرة بدت لأذنيها مخيفة
(و كم عمرك أنت؟)
ساد الصمت مجددا، و قد طال هذه المرة قبل أن تقفز تيماء لصوت أمها يهتف بقوة بتوتر شنيع
(هل كلفك سالم بمراقبة طريقة تعاملي مع تيماء؟)
أرهفت تيماء السمع بعينين متسعتين، قبل أن يصلها الجواب الصارم.
(نعم، بطريق غير مباشر، لكن ربما لن تقابليني مجددا)
ازداد اتساع عيني تيماء، لقد كان يكذب؟
ليس هذا هو ما أراده سالم!، لقد أمره حرفيا برميها لأقرب حافلة!، لماذا يفعل ذلك؟
حينها هتفت ثريا بصوت أعلى كي يصل الى تيماء
(تيمااااء، أعدي الشاي).
تأففت تيماء و هي تذهب الى المطبخ مرغمة، و بدأت بملىء الغلاية الكهربائية بالماء. ثم وقفت تنتظر و هي تضع كفيها على السطح الرخامي بينما عينيها شاردتين تفكران، هل ينوى مراقبتهما فعلا؟
من قرار عقله الخاص؟، أو ربما تكون له مصلحة في أن يوقف والدها المال الذي يرسله الى أمها...
فقد يعمل كواشي حقير. جبان، و تكون حينها هي السبب في أذية والدتها...
صحيح أنها لم تعد ترغب في الحياة معها، الا أنها لا تريد أذيتها...
صمعت صوت صفير الماء الساخن، فحضرت الأكواب قبل أن ترفع الغلاية الثقيلة، لكن بركة من الماء في الأرض، على ما يبدو ان ثريا قد خلفتها دون أن تهتم و تمسحها جعلت قدميها تنزلق قليلا ليسقط الماء الساخن على ذراعها كله...
صرخت تيماء بصوت عال من شدة الألم، لكنها أسرعت الى صنبور الماء لتضع ساعدها تحته...
بينما اندفع صوت أقدام قوية خلفها بسرعة، لتسمع صوته من خلفها يقول بقلق
(ماذا حدث؟).
لا تزال تيماء تتذكر تلك اللحظة حتى الآن، تلك اللحظة التي لم ترغب في الإستدارة اليه و بقت متسمرة مكانها و معصمها تحت الماء...
صوت ثريا كان يعلو من خلفه و هي تسألها كذلك عما أصابها بقلق...
لكنها لم تسمع سوى قاصي، ذلك الذي شهد اهانتها و نبذها من والدها، لذا كانت كرامتها الفتية كانت مدمرة في تلك اللحظة...
و لا تزال تتذكر اقترابه منها أكثر وهو يقول بخفوت
(أرني معصمك).
لكنها لم ترد عليه، فوجدت اليد الخشنة السمراء تمتد من خلفها لتلتف حول معصمها الأبيض الرقيق...
لتقلبه الى باطنه...
لا تزال حتى تلك اللحظة تتذكر أول مشاعر أنثوية انتابتها في حياتها كلها...
هل يمكن لأي شابة ان تتذكر اللحظة الأولى التي تحولت بها الى أنثى!، تشك في ذلك...
لكنها تتذكر تلك اللحظة حية حتى اليوم، وهو يديرها اليه، فرفعت اليه عينيها الفيروزيتين المغروقتين بالبكاء...
لتتسمر عيناه عليهما، و معصمها بيده...
تكاد عيناها ترسمان الذكرى لفمه الفاغر و الذي بدا و كأنه يتنفس بقوة...
و لا تزال تتذكر توسلها الباكي الهامس للمرة الأولى بحياتها لمخلوق
(أرجوك لا تؤذي أمي، و لا تعمل جاسوس لدى أبي)
الآن و بعد عشر سنوات...
ها هي تجلس في المقعد الوثير العتيق، و يداها مستريحتان على ذراعيه...
رأسها المتراجعة للخلف سارحة في بحر الذكريات و عينيها المغمضتين ترسمان الصور...
(مرحبا تيماء، لقد مر وقت طويل)
تسمرت تيماء مكانها و أغمضت عينيها...
بينما اشتعلت العينان الرجوليتان خلفها بجمرتين من اللهب...
هل هذا حقيقي؟، أم أنها تتوهم؟
نعم ربما كانت تتوهم، فلقد غرقت في بحر من الذكريات خلال ساعات السفر الطويلة...
ربما جعلها ذلك تحيا الماضي من جديد بخيالها...
و حين بدأت تقنع نفسها بتلك النظرية، و هي تهمس
اللهم اجعله وهما، لكن انتفاضتها القلبية، تلك الإنتفاضة التي لن تخطئها أبدا؟
حينها انبعث الصوت الخافت المزلزل من خلفها، صوت لا يقبل النسيان، يرفضه...
(ستضطرين للإلتفات في النهاية، تعلمين أنك ستفعلين. )
و لم تكن في حاجة لسماع صوته للمرة الثالثة حتى انتهى الشك، فتركت لقلبها حرية الإستسلام أخيرا، فتحت عينيها ببطىء دون أن تستدير، بينما نظراته النارية تلفح ظهرها...
فهمست بصوت لا يسمع.
قاصي، لم تعرف كيف سمع همستها ذات الحنين المتأوه، فرد عليها التحية بمثلها و همس بصوته الحارق و الريح تصفر من حوله و تختلط بنبرته الخافتة
تيماء، أغمضت عينيها و هي تبتلع الغصة المؤلمة بحلقها، الإنتفاضة تزيد و تتدافع...
الا أنها تمكنت من قمعها و هي تستدير ببطىء بدا و كأنه استغرق أعواما، بل دهور...
قبل أن تستقر أمامه مخفضة الوجه، و صدرها ينتفض بعنف...
رفعت وجهها اخيرا، ثم عينيها، فالتقتا بعينيه!، حينها تزلزل كيانها كله دفعة واحدة
نعم، هو قاصي...
لن تتوه عينيها عن الجمرتين المشتعلتين بعينيه، و اللتين اشتعلتا الآن كحمم بركانية ما ان التقتا عينيها
طال بهما الصمت و كأنهما يتذوقان تلك النظرة بعد سنوات طويلة، و كأنها لم تمر...
تحركت عيناها دون ارادة منها تتأمله بصدمة...
لن تخطىء عيناها عينيه و لن تخطىء اذناها صوته، لكن هذا اللذي يقف أمامها كادت أن تخطئه للمرة الأولى!
اتسعت عيناها و هي تميل بوجهها دون ان تشعر، لتبحث عن قاصي الذي تعرفه في هذا الرجل
كان طويلا، ضخما، بعض الجروح تعلو وجهه، و احداها يشق شفته العليا...
مفتول العضلات بدرجة أكبر مما كانت تتذكر!
فغرت تيماء شفتيها و دون تفكير همست بصدمة
(لقد قصصت شعرك!).
لم يرد قاصي على الفور، لكن شفتيه ابتسمتا وهو ينظر اليها نظرات اخافتها من هول اشتعال الذكريات بهما...
آه ياقاصي، مرت الأعوام و لم تتغير ابتسامتك الخفية و لم تختفي لمحة الحنان منها و التي تتناقض مع جمرتي عينيك
قال قاصي أخيرا بصوت خافت مداعب و عيناه تشملانها بنظرة بدت، مدمرة
(دائما تغارين من شعري، وهو أول ما تلاحظينه، حتى بعد مرور الأعوام)
تأوهت دون صوت، فصوته وحده يدغدغها...
و بينما كان الجو من حولهما شديد البرودة، الا أن كيانها كان يشتعل، و النار تستعر بها...
لقد اختفى الزحام فجأة، و تاه أفراد العائلة المتناثرين من أمام عينيها و هي تنظر اليه بعدم تصديق...
فقد كانت تقف أمام قاصي الحكيم...
خرج صبيان صغيران من باب القصر المفتوح فجأة وهما يركضان، فارتطم أحدهما بظهرها، قبل أن يتابعا طريقهما طلبا للهو...
لكن هذه الارتطامة كانت كفيلة بدفعها اليه، حتى كادت تسقط على صدره...
الا أن كفيه امتدتا لتمسان مرفقيها في اللحظة الأخيرة لتوقفان سقوطها...
فارتعشت شفتيها و هي ترفع أصابعها تمس بهما الوشاح حول وجهها المخفض المحمر...
بينما استقرت عيناها على حلقه الذي تحرك بصعوبة و بحركة نافرة قبل أن يبعد كفيه عنها فجأة، كما مسها فجأة...
ثم قال أخيرا مازحا بصوته الخافت المدمر
(كبرت يا تيماء، لكن لا تكبرين على السقوط فوق صدري)
انتفضت للمرة الثالثة و هي ترفع وجهها الأحمر اليه بصدمة...
لكن عيناه كانتا تلاحقان طرف الوشاح الوردي وهو يتطاير مع الريح الباردة التي تزيد من احمرار وجهها...
الكنزة الوردية تحت السترة بلون الزيتون الأخضر، بينما دست كفيها الصغيرين في جيبيها حتى تخفي ارتجاف أصابعها عن عينيه المشتعلتين...
الى أن رآها تتراجع فجأة للخلف خطوتين و هي تهمس بارتجاف
(يجب أن أدخل)
عقد حاجبيه، و توهجت الجمرتين بعينيه أكثر وهو يقول بخفوت قاس محذرا
(تيماااااء).
الا أنها تراجعت خطوتين أخرتين مكررة و هي ترتجف بشكل ظاهر، تحول الى انتفاضات أشبه بالذعر.
(يجب أن أدخل)
و دون أن تنتظر منه الرد كانت قد استدارت واندفعت هاربة الى داخل القصر و كأن شياطين الأرض تلاحقها...
صوت حذائيها يضربان الأرض الخشبية القديمة و التي قد يصل عمرها الى مئة عام...
و يتردد صداهما بين الجدران العتيقة المحملة بصورة غير ملونة، لأفراد آخرين من العائلة على الأرجح لم يعودوا من سكان هذه الحياة معهم...
لكنها لم ترى الصور، و لم تسمع الصدى...
فقد كان كيانها كله يصرخ بذعر.
قاصي هنا!، قاصي فعلا هنا!، ازدادت سرعة خطواتها و علو صوتها و هي تهرول ناظرة الى الألواح الخشبية التي تغطي الأرض دون أن تبصر حقيقة، الى أن ارتطمت فجاة بجسد أنثوي، قبل أن تسندها يد قوية و صوت ناعم يقول
(على مهلك)
رفعت تيماء وجهها لترى نفسها أمام شابة جميلة، شديدة الجاذبية...
ترتدي عباءة سوداء شرقية فضفاضة تغطيها من قمة رأسها و حتى أخمص قدميها، دون أن تخفي كمال قسماتها، و جمال عينيها العسليتين صريحتي النظر...
رمشت تيماء بعينيها و هي تقول بتردد خافت
(آنا آسفة، هل آذيتك؟)
ابتسمت الشابة و قالت بهدوء
(الحمد لله مرت الصدمة على خير، لكن على ما يبدو أنك أنت من تحتاجين السؤال، هل أنت بخير؟)
رفعت تيماء عينين متسعتين و همست بتشوش
(هل أنا بخير؟).
كانت و كأنها تحدث نفسها، فقالت الشابة بهدوء
(أنت تبدين شاحبة للغاية، ياللهي هل ستصابين بالإغماء؟)
كان العالم بالفعل يدور من حول تيماء فرفعت يدها المرتجفة الى جبهتها و هي تغمض عينيها...
فأمسكت الشابة بذراعها بيد قوية لا تتناسب مع جمال ملامحها الرقيق و قالت بدعم
(من المؤكد أنك آتية من سفر بعيد، تعالي معي لترتاحي).
رفعت تيماء وجهها الشاحب الى الشابة الممسكة بها بقوة، و من قوة يديها عرفت تيماء أنها لن تقع أرضا، و هذا أراحها الى حد ما، فسلمت لها أمر قيادتها و هي تعلن الهدنة مع روحها المذعورة لبضعة لحظات
أدخلتها الشابة الى قاعة مصغرة من القاعة الخارجية...
ذات أرضية خشبية مصقولة و لامعة، سقفها عال جدا، تتدلى من الثريات الشرقية بديعة الشكل...
بينما يزين الأرابيسك الخشبي كل شيء في المكان، بدئا من الأثاث العربي و حتى أطر النوافذ الطويلة المتتالية...
كانت الفخامة تحيط بالمكان من خارجه و حتى داخله و بنفس الوقت تشعرها أنها نقلتها الى زمن آخر داخل فيلم قديم، في بلاد بعيدة...
أجلستها الشابة على احدى المقاعد الضخمة الوثيرة، ثم انحنت اليها تقول باهتمام
(كيف تشعرين الآن؟)
رفعت تيماء وجهها الشاحب اليها، لكنها تدبرت الإيماء ببطىء و هي تقول بخفوت.
(أنا بخير، لقد كانت رحلة طويلة فعلا)
ابتسمت الشابة مما زادها جمالا، و قالت بلطف
(لا أضمن لك الراحة قريبا، فستقابلين جموعا من البشر قبل أن تصعدي لإحدى الغرف)
استقامت لتنادي فجأة بصوت قوي
(يا أم سعيد)
جائتها احدى الخدم مسرعة و هي تقول
(تحت أمرك يا سيدة سوار)
التفتت سوار الى تيماء لتقول مبتسمة
(أكرمي ضيفتنا يا أم سعيد، فلقد أتت من مسافة بعيدة و هي متعبة، أريني أفضل ما عندك هيا).
اسرعت الخادمة تبتعد بينما عادت سوار الى تيماء التي كانت غائمة العينين، شاردة بعيدا...
فجلست في المقعد المجاور لها و سألتها و هي تراقبها بإهتمام
(ابنة من أنت؟)
انتفضت تيماء و هي تنظر اليها، بلحظة واحدة مزق السؤال المفاجىء شباك العناكب الذي احاط عقلها لدقائق...
كان هذا السؤال كفيلا بأن يعيد اليها شيئا من صلابتها، و يذكرها بشخصها و قوتها...
فرفعت ذقنها لتقول بإباء
(أنا تيماء).
ضيقت سوار عينيها و هي تقول باهتمام مجددا
(تيماء، اسم جميل، من اسمائنا، لكن ابنة من؟، للحظة خدعتني عينيك فظننتك زوجة غريبة أو خطيبة أحد الأحفاد، لكن شيئ ما أخبرني بأنك لست ضيفة، بل من أهل البيت)
زمت تيماء شفتيها و هي تنظر الى عيني سوار العسليتين، قبل أن تقول باختصار
(أنا من العائلة نعم، أنا ابنة ثريا)
عقدت سوار حاجبيها و هي تتسائل
(من ثريا؟، ابنة من؟).
أغمضت تيماء عينيها و هي تهز رأسها بنفور، هذا السؤال يثير أعصابها و يجعلها متحفزة لضرب أحدهم، رغم أنها مدركة كونه مجرد سؤال للتعارف...
اخذت نفسا قويا في النهاية قبل أن ترفع رأسها و تقول بصوت مشتد
(زوجة سالم الرافعي)
كانت أسنانها تصطك دون أن يظهر ذلك على شفتيها المضموتين، قبضتها مغلقة حتى ابيضت مفاصل أصابعها...
الغضب أبعد اللون الغائم عن عينيها، و حولهما الى شعلتين من اللون الفيروزي، و هي ترى اتساع عيني سوار التي قالت بدهشة
(أنت ابنة عمي سالم اذن؟، ماشاء الله، لم أعلم أن ابنته الأخرى باتت شابة الى هذا الحد، لقد مرت سنوات طويلة على زواجه دون أن نشعر بها اذن)
حاولت تيماء السيطرة على كل ذرة نفور بداخلها، حتى تصلبت ملامحها بدرجة مؤلمة و باتت كتمثال رخامي بارد.
الا أن سوار وضعت القشة الأخيرة، فقالت مبتسمة و هي تتأملها
(لقد احسن تربيتك، و إن كنت بعيدة عنا)
حينها فقدت تيماء ذرة السيطرة المتبقية لديها فانتفضت قائلة بقوة
(أنا لم يربيني أحد)
تراجعت سوار للخلف قليلا مرتفعة الحاجب، بينما وقفت أم سعيد التي كانت قد وصلت بصينية تحمل أطباق الحلوى و أكواب الشراب الملون، و هي تنظر اليها بنفس الحاجب المرفوع...
نقلت تيماء عينيها بينهما قبل أن تتمالك نفسها قائلة بهدوء.
(لقد ربيت نفسي بنفسي، الحياة مدرسة)
مطت ام سعيد شفتيها لسوار و هي تظن أنها تفعل ذلك في الخفاء، فقالت تيماء بهدوء
(أم سعيد، هل تقربين للعم الطيب الذي أوصلني من المحطة الى هنا؟)
عقدت ام سعيد حاجبيها و قالت دون تفكير
(عبد الكريم؟، نعم انه ابن عمي)
ابتسمت تيماء و هي تقول ببشاشة
(سبحن الله، لا تعلمين كيف استنتجت الأمر)
ثم مدت ذقنها و هي تتفحص محتويات الصينية. قبل أن تقول.
(هل تنوين تقديم النذر اليسير منها لي، أم ستقومين بالتقاط صورة لك مع الصينية و نشرها على موقع التواصل؟)
فغرت أم سعيد شفتيها و هي تقول عاقدة حاجبيها
(ها؟، ما هذا الذي تقولين عنه؟)
قالت تيماء ببساطة و هي تلتقط قطعة حلوى من إحدى الأطباق لتدسها في فمها
(انه مكان للفضائح العلنية، لكن يمكنك نشر صورتك به ليراها العالم)
رفعت أم سعيد طرف وشاحها بيدها الحرة، لتغطي وجهها أسفل عينيها المذعورتين و هي تولول.
(للللللليييييييييي)
رفعت تيماء حاجبها و هي تقول
(هل هذه زغرودة؟)
مطت سوار شفتيها و هي تلتقط الصينية من يد أم سعيد قائلة بحزم
(اذهبي الى المطبخ يا أم سعيد و أشرفي على اعداد الطعام، الكميات ضخمة و أخبريني ان احتجت الى مزيد من الفتيات كي نتصرف مبكرا)
غادرت أم سعيد مهرولة، بينما التفتت سوار الى تيماء التي كان فمها ممتلىء بالطعام. و تبادلها النظر ببراءة...
فقالت سوار بعتب.
(كدت أن تصيبين المرأة المسكينة بنوبة قلبية، هلا ترأفت بالناس هنا رجاءا، لا يزال هذا اليوم الأول لك و لا نريد ضحايا)
قالت تيماء من بين أكلها
(أنا لن أطيل البقاء)
ضيقت سوار عينيها و هي تتأملها بدقة، قبل أن تقول باهتمام
(هل جدي هو الذي طلب رؤيتك؟)
قالت تيماء ببساطة
(الحقيقة الرغبة مشتركة بيننا، و تصادف ان كان هذا هو الوقت المناسب)
قالت سوار و هي تومىء برأسها مفكرة.
(ربما اذن لن تطيلي البقاء بالفعل، من يعلم، و ربما تذهبين و ترجعك قدميك الى هنا مجددا)
ابتسمت تيماء و هي تقول بتأكيد
(ما أن تطىء قدمي القطار في طريق العودة، سيكون من المستحيل الرجوع الى هنا، أنا أريد جدي بشيء هام ثم سأنصرف لحياتي الخاصة)
ظلت سوار تتأملها قليلا قبل أن تقول ببطىء خافت
(ربما)
رفعت تيماء وجهها و هي تقول بقوة محتدة قليلا
(ليس هناك من ربما، هذا ما سيحدث)
قالت سوار بقوة تفوق قوة تيماء.
(ماذا قلت يا فتاة؟، قدمي مشيئة الله و اسكتي)
نظرت تيماء اليها بقنوط بينما وجنتها منتفخة و ممتلئة بالحلوى، و عينيها مظلمتين تطلبان الشجار في تلك اللحظة، الا ان سوار تأففت و هي تقول بخفوت
(أنت حقا تبدين كالشوكة في الخاصرة، لقد خرجت عن أعصابي بسببك خلال الدقائق الأولى، و هذا ليس طبعي)
نظرت الى تيماء بطرف عينيها، قبل ان تتابع بحدة
(ابتلعي ما بفمك)
قالت تيماء تلقائيا بحدة مماثلة
(حاضر، على مهلك).
استندت سوار بظهرها الى المقعد بفخامة و هي تتأمل تيماء باستياء، ثم قالت أخيرا بصرامة
(و شيء آخر، حين يسألك أحد آخر ابنة من أنت، تجيبي باسم ابيك، و ليس اسم أمك. لأن هذا عيب كبير، فهمت؟)
برقت عينا تيماء بنفور أكبر، لدرجة أن القشعريرة أصابت بشرتها الحساسة...
و هذا ما أغضبها حقا، كانت تظن أنها قد تصالحت مع نفسها منذ سنوات، لكن ذكر ابيها و دوره في حياتها لا يزال يعيدها الى حالة التمرد القديم، و هي تكره تلك الحالة...
لقد تعبت جدا الى ان استطاعت بناء كيانها و شخصيتها المستقلة، و على تلك الشخصية أن تكون باردة و غير متأثرة بأي عوامل عاطفية تافهة، و أولها مسألة غير ذات قيمة مثل مسألة ال، الأبوة...
أسبلت تيماء جفنيها و هي تقبض أصابعها و تشبكهما...
تلك السفرة لم تكن القرار الأمثل، لم يمر على وجودها ساعة و ها هي تنهار لمرتين متتاليتين...
أقصاهما، قاصي...
رفعت عينيها الى البعيد و هي لا تزال تتسائل
هل قابلت قاصي الحكيم فعلا؟، هل هو خارج هذه الغرفة مباشرة؟، هل حقا يفصلهما باب فقط؟، أرادت السؤال عنه بجنون...
لقد أوشكت أن ترمي بالحرص جانبا و تسأل تلك الشابة سوار عن قاصي، من المؤكد أنها موسوعة هنا و تعرف الجميع...
شردت عينا تيماء و هي تتسائل بجنون صامت.
هل عاد ليعمل لدى سالم الرافعي؟، هل هذا معقول؟، لكم شعرت بالخيبة حين وصلت الى تلك النقطة الصادمة...
لم تتخيل أبدا أن يتنازل و يعود للعمل لدى سالم بعد كل الذي كان...
هل لا يزال يقل مسك من مكان لآخر؟، أيزال يحمل لها حقائبها؟
رفعت تيماء عينيها المظلمتين الى البعيد و هي تهمس لنفسها
(كم عمره الآن؟، الرابعة و الثلاثين؟، حقا، هل مر كل هذا الوقت؟)
قالت سوار بهدوء.
(من هو الذي تتسائلين عن عمره؟، أنا والله الحمد أعرف تسعين بالمئة من أفراد العائلة، على الرغم من أن عددهم يزيد عن المئة)
نظرت اليها تيماء بصمت متبلد، و الروح هائجة تريد رمي الإسم بجنون، قاصي...
الا انها غالبت نفسها بصلابة تحسد عليها و قالت بفتور
(أنا أتناقش مع نفسي، بعض الخصوصية النفسية)
لم ترد سوار على الفور، ثم قالت أخيرا.
(كان يجب أن أحزر بأنك أخت مسك، فهي ماشاء الله، تحمل نفس جينات الفظاظة الأقرب للتراجع الذهني)
ارتفع حاجبي تيماء و هي تقول بخفوت
(مسك؟، هل هي هنا؟)
قالت سوار ببرود
(لم تأتي بعد، ربما ستصل آخر النهار)
شردت تيماء قليلا و هي تفكر بمسك، لقد اشتاقت اليها بالفعل، لقد تواصلت معها دون مقابلة من بعد المرة الأولى، عن طريق الهاتف و البريد فقط...
كانت محادثات قصيرة و غير شخصية تماما، الا أنها كانت لطيفة و تبهج الروح...
لكن منذ فترة توقفت مسك تماما عن التواصل معها، و هذا ما عزز رغبة الإبتعاد لدى تيماء
الإبتعاد عن كل ما يخص اسم سالم الرافعي...
ربما كان انقطاع مسك عنها خير لها، و مع ذلك لا تنكر أنها اشتاقت للطفها...
انتفضت تيماء على صوت سوار و هي تقول مستاءة
(لا تختلف عنك، صحيح كلاكما تحملان جينات و موروثات عمي سالم بجدارة. ).
برقت عينا تيماء رفضا و زاد نفور جسدها، الا أنها آثرت السلم و قالت رافضة
(لا أظنك منصفة بحق مسك، فهي غاية في اللطف)
نظرت اليها سوار بصمت، ثم قالت بلهجة ذات مغزى
(مسك صديقتي و أنا أحبها، لكن متى كانت آخر مرة تواصلت معها؟)
تنهدت تيماء بحرج قبل أن تقول باختصار
(منذ فترة، أنا سافرت و هي انشغلت، الحياة مشاغل)
اومأت سوار بوجهها متفهمة، ثم قالت بحذر بطىء.
(اذن ربما عليك تهيئة نفسك بأن البشر يتغيرون قليلا في البعد)
عقدت تيماء حاجبيها بحيرة، و هي تسمع كلمات سوار الغريبة
هل من الممكن أن تتغير شخصية لطيفة مثل مسك؟..
تلك الشخصية النادرة التي تجمع بين الكبرياء و الرقي و اللطف، مما يؤلها لتحصل على هيئة ملوكية بجدارة، فكيف تتغير و كل المقومات تؤهلها كي تكون سعيدة و معطاءة؟
نهضت سوار من مكانها و هي تقول بود.
(قد يأخذني الكلام معك طويلا، بينما هناك عمل لا ينتهي قبل وصول المزيد من الأفواج، لذا سأتركك الآن قليلا ثم أعود اليك، هل ستجدين صعوبة في التآلف مع الباقين؟)
نظرت اليها تيماء بصمت...
هي لم تأتي هنا كي تتآلف مع الباقين، لقد أتت في مهمة محددة و ستتجنب الدخول في وهم العائلة المترابطة هذا بكل جهدها، لذا قالت بهدوء رافعة ذقنها بكرامة.
(سأجد طريقة ما، لا تقلقي، لكن هل كل هذا العدد من سلالة أعمامي؟، كيف تمكنوا من فعل هذا؟)
ارتفع حاجبي سوار و هي تقول بشك.
(سلالة!، أنت تتكلمين مثل عم عبد الكريم حين يكون في الاسطبل!، عامة، هناك أعمامك و أبناء أعمامهم، جدك الرافعي أنجب الكثير من الذكور من عدة زيجات، و كذلك فعل أشقائه، على أنه الوحيد المتبقي على قيد الحياة منهم فليمنحه الله الصحة، لكن ستتعرفين على أبنائهم و بناتهم و أطفالهم أيضا، لكن أشك في أن تتذكريهم من مرة واحدة، الآن سأتركك ثم أعود اليك بعد حين، حاولي الا تستفزي العاملين هنا).
استدارت لتغادر الا أن تيماء نادتها قائلة
(لم تعرفيني بنفسك)
التفتت اليها سوار و هي تقول بزهو
(أنا سوار، لم أظن أن هناك من لم يعرفني بعد في هذه العائلة)
قالت تيماء تستفز وهم العائلة بداخل تلك المزهوة بها
(ابنة من؟)
ارتفع حاجبي سوار بصدمة، قبل أن ترفع اصابعها قائلة بفخر
(ابنة وهدة الهلالي)
كان دور تيماء كي يرتفع حاجبيها بتبلد و هي تفكر.
ألم تعرف نفسها بأمها للتو؟، الا أن سوار كانت قد اختفت فجأة كما ظهرت فجأة، فنظرت تيماء الى أرجاء القاعة الواسعة و هي تهمس
(ما تلك الحياة الغريبة، أناس عصريون بينما آخرين يرتدون الزي القديم، لكن لهجتهم تدل على تعليم عالي و معرفتهم بعدة لغات على الأقل!، الدراسة هنا ستكون غنية و البحث رائع، لكن للأسف النهاية قد اقتربت)
تراجعت للخلف و هي ترتاح قليلا مغمضة عينيها تسرح بعيدا، بعيدا جدا...
و الذكريات تلاحقها من كل صوب و اتجاه...
ذكرى اليوم الأول الذي عرفت به قاصي، ذلك اليوم الذي كاد ان ينتهي بكارثة في شقتها...
حين أوصلها الى أمها...
ابتسمت و هي تتذكر صورة أمها حين فتحت الباب، ناعسة العينين، مشعثة الشعر، ترتدي منامة ذات بنطال قصير يصل الى الركبتين...
بدت غير مستوعبة و هي تنظر الى تيماء في الخارج، و شاب يفوقها طولا يقف خلفها...
شاب غريب و مريب، شعره طويل، معقود في ذيل ناعم يصل الى كتفيه، بينما يده في جيب بنطاله الجينز و الأخرى تحمل حقيبة تيماء و كأنه يحمل فأر ميت...
حين تكلمت ثريا قالت بصوت خشن من النوم...
(تيماء!، ألست نائمة بالداخل؟)
مطت تيماء شفتيها و هي تقول
(هلا تأكدت من وجودي في الداخل رجاءا يا أمي، و إن وجدتيني في سريري فستكون غلطة و سنغادر من هنا آسفين).
بدت ثريا غير مستوعبة و كأنها ستذهب لتأكد من وجودها في سريرها بالفعل...
لكن قاصي تكلم أخيرا قائلا بصلابة
(لا تذهبي رجاءا، لقد هربت من البيت و أعدناها قبل أن تحدث كارثة)
اتسعت عينا ثريا بفزع و هي تقول غير مصدقة. و قد بدأت تفيق أخيرا
(هربت؟، كنت تنوين تركي يا تيماء؟)
التفتت تيماء ترفع وجهها الى قاصي. ثم همست بغضب من بين أسنانها
أيها الواشي، البغيض، النذل، أخفض قاصي وجهه اليها وهو يهمس بغيظ.
لفي لسانك و أغلقى فمك عليه كي لا أقصه لك، فأنا سأقود السيارة لمدة ست ساعات اليوم بسببك ذهابا و عودة، رمقته تيماء بعينين تشتعلان قبل أن تندفع دافعة أمها و هي تتجاوزها للداخل...
بينما تبعتها عينا ثريا بقلق و عدم فهم. قبل أن تستدير الى قاصي لتقول
(عفوا، لكن من انت، شكلك ليس غريبا عندي، لكن)
قال قاصي بهدوء.
(أنا قاصي الحكيم، أعمل لدى السيد سالم و منذ فترة ليست ببعيدة كلفني بإنهاء أي اجرائات خاصة بكما نيابة عنه)
رفعت ثريا ذقنها و هي تقول متذكرة
(آآه نعم، الشعر ليس غريبا علي)
قال قاصي عاقدا حاجبيه
(ما قصتكما مع الشعر؟)
زفر بنفاذ صبر قبل أن يقول بجدية
(سيدة ثريا، احتاج لأن أتكلم معك قليلا)
ردت ثريا بتوتر مترددة
(آآه، تفضل، ادخل).
كانت تيماء حينها تقف في الممر مستندة بكفيها للجدار و هي تنوي سماع ما سيقوله لأمها...
نظرت اليه بعين واحدة من خلف الجدار و هو يجلس بهيمنة أمام امها، كان فعلا مريب الشكل ووجوده يجعل كل ما حوله يتضائل مقارنة بشكله اللذي يحفر في الذاكرة...
رأته يستند بمرفقيه الى ركبتيه وهو يميل الى الأمام، مخفضا رأسه عدة لحظات مفكرا، قبل أن يرفعها قائلا بجدية.
(سيدة ثريا، تعليمات السيد سالم كانت واضحة في الا تحاول كلاكما التواصل معه على أن تكون كافة طلباتكما مجابة)
انقبضت أصابع تيماء فوق الجدار الأبيض، حتى كادت أظافرها أن تحفر به...
بينما عيناها تراقبان ملامح والدتها التي تحولت الى الشحوب و هي تبتلع ريقها و حلقها يتحرك بطريقة مثيرة للشفقة، أثارت النفور بنفسها...
ثم قالت بتوتر
(و هذا ما نفذناه، فماذا يريد بعد؟)
تنهد قاصي ثم قال.
(هذا ما لم تنفذه تيماء، لقد هربت من حاملة معها بعض أغراضها، تنتوي الإنتقال للبقاء معه)
اتسعت عينا ثريا بذعر و هي تستمع اليه، بينما تهدلت شفتيها بشكل أكثر نفورا و يدها ترتفع الى صدرها، قبل أن تقول أخيرا بهلع
(و هل نجحت في الوصول اليه؟، ماهذا السؤال. طبعا نجحت في الوصول اليه بدليل أنك هنا، ياللكارثة!)
شهقت بصوت وصل الى أذن تيماء قبل أن تهتف مذعورة
(هل هدد بقطع دعمه لنا؟، هل قطعه بالفعل؟).
ارتجفت شفتي تيماء و هي ترى أمها في هذا الموقف المخزي، و التقطت عيناها نظرة قاصي المستنكرة المذهولة قبل أن يقول بشدة غاضبة
(سيدة ثريا، ابنتك هربت اليوم في الصباح الباكر، و استقلت الحافلة وحدها و سافرت من مدينة لأخرى، و معها عنوان رجل غريب، أتدركين مدى خطورة ذلك؟)
احتدت عينا ثريا و هي تقول بشك
(عفوا، لكن هل لديك شكوى من طريقة رعايتي لطفلتي؟، هل هذا ما فهمته للتو أم انني مخطئة؟).
صمتت قليلا ثم قالت بقلق مرتعد
(هل هذا رأي سالم بعد أن رأى تيماء؟، أنني لا أجيد العناية بها لذلك سيقطع الدعم المادي عنا؟)
ضاقت عينا قاصي أكثر و قد بدا و كأنه فقد مهارة الكلام فجأة، فتراجع للخلف يستند بظهره...
ناظرا الى ثريا نظرة شاردة، لم تخطئها عيني تيماء المتفرستين به من خلف الجدار...
لكن فجأة وجدت العينين الناريتين تنظران اليها مباشرة...
و كأنه رفع عينيه الى عينيها بقصد، حينها تراجعت للخلف حتى اصطدمت بالجدار المقابل، قبل أن تهرع مبتعد عن مرمى نظراته...
لكن صوت ثريا لا يزال يصلها واضحا و هي تتابع أسئلتها المذعورة
(أخبرني بالله عليك، ماذا كان قرار سالم؟، لماذا أنت صامت بهذا الشكل؟)
فقال قاصي بعد فترة طويلة دمرت أعصابها
(قرار السيد سالم هو أن يمنحك فرصة أخيرة، على أن يتأكد تمام التأكيد أن ابنته لن تكرر ما فعلته و تعرض نفسها للخطر مجددا).
هتفت ثريا بصوت وصل الى تيماء واضحا...
(لن يحدث، لن يحدث مجددا، يمكنك أن تأكد له ذلك)
ساد صمت طويل، لم تستطع تيماء أن تعرف معه بماذا يفكر هذا القاصي...
لكنها سمعت صوته يتكلم مجددا...
(لكن لماذا هربت؟، هل هناك ما ضايقها؟)
قالت ثريا بصوت قلق
(لقد تشاجرنا بالأمس مجرد شجارا عاديا، نسيت شيئا تريده، أنت تعرف الأطفال)
حينها قال قاصي بصوت صلب
(ربما لم تعد طفلة، و هذا ما عليك الإنتباه اليه).
سمعت تيماء صوت ثريا يهتف فجأة باستياء
(من أنت لتعلمني طريقة التعامل مع طفلتي؟، كم عمرك أصلا يا فتى؟)
حينها قصف صوت قاصي يقول بنبرة بدت لأذنيها مخيفة
(و كم عمرك أنت؟)
ساد الصمت مجددا، و قد طال هذه المرة قبل أن تقفز تيماء لصوت أمها يهتف بقوة بتوتر شنيع
(هل كلفك سالم بمراقبة طريقة تعاملي مع تيماء؟)
أرهفت تيماء السمع بعينين متسعتين، قبل أن يصلها الجواب الصارم.
(نعم، بطريق غير مباشر، لكن ربما لن تقابليني مجددا)
ازداد اتساع عيني تيماء، لقد كان يكذب؟
ليس هذا هو ما أراده سالم!، لقد أمره حرفيا برميها لأقرب حافلة!، لماذا يفعل ذلك؟
حينها هتفت ثريا بصوت أعلى كي يصل الى تيماء
(تيمااااء، أعدي الشاي).
تأففت تيماء و هي تذهب الى المطبخ مرغمة، و بدأت بملىء الغلاية الكهربائية بالماء. ثم وقفت تنتظر و هي تضع كفيها على السطح الرخامي بينما عينيها شاردتين تفكران، هل ينوى مراقبتهما فعلا؟
من قرار عقله الخاص؟، أو ربما تكون له مصلحة في أن يوقف والدها المال الذي يرسله الى أمها...
فقد يعمل كواشي حقير. جبان، و تكون حينها هي السبب في أذية والدتها...
صحيح أنها لم تعد ترغب في الحياة معها، الا أنها لا تريد أذيتها...
صمعت صوت صفير الماء الساخن، فحضرت الأكواب قبل أن ترفع الغلاية الثقيلة، لكن بركة من الماء في الأرض، على ما يبدو ان ثريا قد خلفتها دون أن تهتم و تمسحها جعلت قدميها تنزلق قليلا ليسقط الماء الساخن على ذراعها كله...
صرخت تيماء بصوت عال من شدة الألم، لكنها أسرعت الى صنبور الماء لتضع ساعدها تحته...
بينما اندفع صوت أقدام قوية خلفها بسرعة، لتسمع صوته من خلفها يقول بقلق
(ماذا حدث؟).
لا تزال تيماء تتذكر تلك اللحظة حتى الآن، تلك اللحظة التي لم ترغب في الإستدارة اليه و بقت متسمرة مكانها و معصمها تحت الماء...
صوت ثريا كان يعلو من خلفه و هي تسألها كذلك عما أصابها بقلق...
لكنها لم تسمع سوى قاصي، ذلك الذي شهد اهانتها و نبذها من والدها، لذا كانت كرامتها الفتية كانت مدمرة في تلك اللحظة...
و لا تزال تتذكر اقترابه منها أكثر وهو يقول بخفوت
(أرني معصمك).
لكنها لم ترد عليه، فوجدت اليد الخشنة السمراء تمتد من خلفها لتلتف حول معصمها الأبيض الرقيق...
لتقلبه الى باطنه...
لا تزال حتى تلك اللحظة تتذكر أول مشاعر أنثوية انتابتها في حياتها كلها...
هل يمكن لأي شابة ان تتذكر اللحظة الأولى التي تحولت بها الى أنثى!، تشك في ذلك...
لكنها تتذكر تلك اللحظة حية حتى اليوم، وهو يديرها اليه، فرفعت اليه عينيها الفيروزيتين المغروقتين بالبكاء...
لتتسمر عيناه عليهما، و معصمها بيده...
تكاد عيناها ترسمان الذكرى لفمه الفاغر و الذي بدا و كأنه يتنفس بقوة...
و لا تزال تتذكر توسلها الباكي الهامس للمرة الأولى بحياتها لمخلوق
(أرجوك لا تؤذي أمي، و لا تعمل جاسوس لدى أبي)
الآن و بعد عشر سنوات...
ها هي تجلس في المقعد الوثير العتيق، و يداها مستريحتان على ذراعيه...
رأسها المتراجعة للخلف سارحة في بحر الذكريات و عينيها المغمضتين ترسمان الصور...