رواية المعلم الفصل الثالث 3 بقلم تسنيم المرشدي
رواية المعلِم
الفصل الثالث ...
_________________________________________________
تعالت ضحكات علي واقترب من ريان هامسًا بمزاح:
اقتربت هاجر من زوجها ولكزته في كتفه بقوة:
_ بقا كده يا علي ماشي، لينا بيت يلمنا
شعرت دينا بالحرج من أسلوب ريان الفظ معها أمام هاجر وزوجها وبدت منزعجة بعض الشيء لعدم اكتراثه لمظهرها أمام الجميع.
فتحت الباب بغيظ عارم عندما رأت تجمعهم حول ريان، فهي كانت تريد استقباله بمفردها لكن لم يشاء القدر تلك المرة، مهلًا عزيزي سنتذوق من العشق نفسه عاجلًا، شكلت ابتسامة على ثغرها ومن ثم رحبت بهم بحفاوة:
_ البيت نور يا هجورة، أزيك يا علي
ابتسمت هاجر وأجابتها بود:
_ منور بأهله يا رينو
بينما أجابها علي بإقتضاب فهي لا تروق له لطالما حاولت إثارة الجدل نحوها دومًا بتصرفاتها البلهاء:
_ الحمد لله
ولج الجميع وتعمدت رنا التباطئ حتى تسير بجانب ريان، كاد ريان أن يغلق الباب عند ولوج الجميع ولكنه تفاجئ بتلك اليد الموضوعة عليه لتغلق الباب بدلًا عنه أو معه لا يدري.
سحب يده مسرعًا بعد أن رمقها بنظرات مشتعلة وولج إليهم، حاولت رنا السيطرة على نبضات قلبها التي ازدادت عن معدلها الطبيعي بسبب لمسته الخشنة لطالما تمنت الشعور بمذاقها المختلف منذ زمن.
اجتمع الجميع حول مائدة الطعام بعد أن شرعت هاجر ودينا في إعداد الفطور، ترأس الطاولة ماهر وبجانبه رنا وهاني وعلي، بينما جلس ريان مقابل والده وبجواره دينا وهاجر ويحيى بالجهة المقابلة لهم.
تبادلا الجميع أطراف الحديث أثناء تناولهم للطعام وما إن انتهوا حتى نادي ماهر بصوت جهوري على ريان.
ولج ماهر غرفته لكي يتحدث معه بخصوصية، جلس على الفراش وأشار لريان بالجلوس أمامه، ثم بدأ في الحديث مباشرة:
_ ريان يابني عايزك أكلمك بخصوص الشقة، أخوك محتاجها و...
قاطعه ريان بنبرة حادة وانعكست تعابير وجهه إلى الغضب وتحدث بنبرة صارمة:
_ لو سمحت يا حج مش قصدي أقاطع حضرتك، بس الموضوع مفروغ منه، الشقة دي أنا وعدت يحيى بيها مينفعش أخلف بوعدي معاه، عمري ما خلفت وعدي مع حد عشان أخلفه مع أخويا، وبعدين أنا مش مقصر مع هاني شغل ومشغله معايا وبيقبض أضعاف مضاعفة مقارنة بالعمال اللي زيه ويمكن هما بيشتغلوا عنه كمان، غلطاته كتيرة أوي في الشغل وبيسببلي خسارة كبيرة وبعدي، بينزل ويطلع على كيفه ومش مهتم أصلاً لشغله ولا خايف على مصلحتي، وبعدي كل ده وعمري ما ظهرتله إني مضايق أصلاً، رغم إن واحد غيره بيقبض المرتب اللي بياخده ده كان عاش ملك بجزء منه وجزء حوشه لحد ما يجمع تمن شقة تلمه هو ومراته، بلاش كل ده هاني لو كان حسسني لمرة أنه خايف على مصلحتي وعايز يجتهد عشان يكبر ومقدرش وجه طلب مساعدتي مكنتش اترددت لحظة إني أشتريله عمارة كاملة مش حتة شقة لا راحت ولا جت بس أنا مبشوفش منه غير استغلال وبس، أنا آسف في اللي هقوله بس أنا بحسه طمعان فيا وعايز ياخد من غير مقابل، والشقة دي بالذات مينفعش ياخدها أنا وعدت وعمري ما هخلف بوعدي، ياخد تمنها ويروح يدورله على شقة برة أو يبني فوق المهم دي بالذات لأ، أنا لا يمكن أزعل يحيى على حساب واحد أناني ومش بيفكر غير في نفسه!!
ضحك ريان بتهكم وتابع مضيفًا:
_حتى دي أشك فيها، هو بيعمل اللي يريح الهانم!
نهض ريان بعصبية وأبى أن يصغي أكثر من ذلك لتلك الهراءات وأنهى الحوار بخروجه من الغرفة مهرولًا.
أنتبه له الجميع وقد لاحظوا تعابير وجهه التي لاتبشر الخير، نهضت دينا خلفه ونادت عليه لكنه لم يتوقف وطرق الباب خلفه بعنف، أسرع يحيى خلفه وأشار لدينا بعيناه:
_ متقلقيش أنا معاه
أجبرت دينا شفاها على الإبتسام ممتنة له، ثم عادت لمكانها مرة أخرى، تفاجئت بعينين تلك البغيضة تراقبها وهي تبتسم بتشفي لعدم اكتراث ريان لندائاتها.
نهضت رنا وتمايلت بدلال واقتربت من زوجها التي كاد يغادر المنزل، وضعت يديها على صدره وأردفت بميوعة:
_ مع السلامة يا روحي
عقد هاني ما بين حاجبيه بغرابة لما تفعله تلك الفتاة به، لم يعد يستطيع فهمها بشتى الطرق، منذ قليل كانت تطالبه بتجنبها والآن هي من تأتي وتتدلل عليه والآحر من ذلك ميوعتها في الحديث معه، وكأن جسده يلبي ندائاتها له، وتمنى لو يحملها ويولج بها إلى غرفتهم حيث يستمتع بتلك الفتاة التي أذابت قلبه وسلبت منه عقله وبات يهوى فارغاً إلا منها.
ابتعدت سريعًا عنه قبل أن تؤثر عليه أكثر فهي تعلم جيدًا ماذا تفعل به كلماتها ولمساتها، اقترب هاني منها وانحنى ليقبلها في وجنتيها بسعادة، التفتت برأسها ناظرة إلى دينا مُشكلة بسمة خبيثة وكأنها تريها الفارق الكبير بين العلاقتين التي ودت دائمًا لو تحصل بمثل معاملة ريان الجافة لكن في النهاية معه هو وليس مع ذلك الرجل البغيض.
عادت رنا بأدراجها إلى حيث مجلسها بعد أن غادر هاني، ومن ثم يليه علي وهم بالمغادرة بعد أن رفض تقبيل هاجر كما اعتاد لكي لا يسبب لـ دينا الحرج أكثر.
تعمدت رنا الضحك عاليًا وأردفت متصنعة الحب:
_ هاني بيموت فيا، ولازم ياخد بوسة قبل ما ينزل وإلا يزعل زي الأطفال
تعالت ضحكاتها بينما خجلت كلًا من دينا وهاجر من جرأتها أو ربما وقاحتها، نهضت كلتاهن وولجن المطبخ، ثم بدأوا في إعداد وجبة الغداء عدا رنا التي لم تبرح مكانها.
_________________________________________________
دخل مكتبه وأغلق الباب بعنف، جاب الغرفة ذهابًا وجيئا، فلقد بلغ ذروة تحمله، لكنه بالأخير أخيه ماذا سيفعل معه؟!
زفر أنفاسه بضجر بائن وجلس على الأريكة الجلدية، أستلقى بجسده عليها ومدد قدميه على الطاولة، أسند رأسه على حافة الأريكة في تعب إنهال منه.
اعتدل في جلسته عندما سمع طرقات على الباب، سمح للطارق بالدخول، لم يتفاجئ بوجود يحيى فهو من يأتي خلفه دائمًا ويسانده في حالاته العصيبة، جلس بجانبه وربت على فخذه وأردف بحنو:
_ مالك يا كبير شايل طاجن ستك ليه؟
شهيق وزفير فعل ريان بإرهاق و أجابه وهو يحاول كبح غضبه:
_ يارتني شايل طاجن ستك كان أهون من اللي أنا شايله ده
تنهد يحيى في آسى حيال أخيه ثم سأله بإهتمام أخوي:
_ طيب قولي مالك يمكن يكون عندي حل وأساعدك بيه
رمقه ريان بنظرات ثاقبة مطولة وهو يحاول قدر الإمكان أن ينتقي بعناية كلماته حتى لا يسبب عدواة بين أشقائه.
أخذ زفيرًا عميقًا ومال بجسده بالقرب من يحيى وقال بنبرة متريثة:
_ أنا هحكيلك بس مش عشان عايز منك حلول ولا مساعدة لأن الموضوع ده مفروغ منه أصلًا، هحكيلك عشان تكون عارف اللي فيها مش أكتر
صمت لبرهة ثم نهض وواصل حديثه المسترسل وهو يجوب الغرفة ذهابًا وإيابًا:
_ هاني طلب مني الشقة اللي وعدتك بيها
صمت ريان لعله يستشف تعابير أخيه لكن لا يوجد أي تعابير تدل على ضجره أو ربما القبول فقط يرى لامبالاته مُشكلة على ملامحه، نهض يحيى هو الآخر ووقف أمام ريان وأردف بنبرة تريد الخلاص:
_ وأنا موافق يا ريان
رد عليه مسرعًا وهو يؤمأ برأسه وعلامات الرفض تتجلى على ملامحه:
_ قولتلك مش بحكيلك عشان تقولي حلول ولا تديني موافقة أنا رفضت والموضوع اتقفل خلاص، انتهي
توجه ريان إلى مقعد مكتبه وجلس عليه بينما اقترب يحيى منه وأردف بنبرة لحوحة:
_ أنت عارف إني كنت هجيلك من قبل ما أعرف الكلام ده وأقولك إدي هاني الشقة!
رمقه ريان بنظرات متعجبة وسأله مندهشًا:
_ ليه؟
جلس يحيى على المقعد المقابل لريان وحاول جاهدًا أن يتريث في كلماته:
_ ريان أنا مش عارف أوضح لك إزاي ومش عارف إذا كان صح ولا غلط أتكلم عن أخويا ومراته كده بس أنا مضطر أعرفك عشان تقتنع بوجهة نظري، أنا بشوفهم كتير في مواقف بين أي واحد ومراته وصراحة بكون مضايق منهم لأنهم المفروض يراعوا الناس اللي عايشين معاهم وبرجع أقول طيب ما دا من حقهم وبضايق لأنهم مش عندهم الخصوصية الكاملة لحياتهم وبحاول على قد ما أقدر مرجعش البيت غير في وقت متأخر عشان ياخدوا مساحتهم وميكنش في إحراج وحاجات كتير متنفعش تحصل، تخليني أوافق اديهم الشقة وأنا مغمض
كان يصغي إليه بإهتمام شديد وكل حواسه تسأل بفضول عما يتحدث عنه الجميع، ماذا يحدث بين رجل وامرأته يستحق كل هذا التوتر والجدل في الذي اعتاد عليه؟
شعر ريان بالحيرة من أمره، فوضع مقارنة بين علاقته بـ دينا التي لا تتعدي حدود العلاقة الروتينية، ما هذه الأمور التي لا يعلم عنها شيء، شعر بالإهانة في حقه كرجل لأنه لا يعلم أقل الأمور حتى.
زفر أنفاسه بضجر بائن ثم نظر إلى يحيى وقال بنبرة متجهمة:
_ كله إلا الشقة دي، هشوف لهم شقة تانية إنما دي لأ
كاد يحيى أن يعارضه إلا أنه صمت بإشارة تحذيرية موحية من سودتاه، تابع ريان مضيفًا بنبرة صارمة:
_ مش عايز كلام كتير في الموضوع ده، ده اللي عندي مش عاجبهم يفضلوا مكانهم
وجه كليهما النظرات نحو الباب مباشرةً عندما سمعا طرقات عليه، سمح ريان للطارق بالدخول فإذا به هاني يدلف مُشكل ابتسامة زائفة على شفتيه:
_ إيه يا ريان خدت في وشك وجريت برا البيت ومردتش على حد فينا، حصل إيه لكل ده؟
حاول ريان قدر الإمكان بألا تفلت أعصابه كما يحاول جاهدًا على كبح غضبه الذي ود لو يثور فيه ربما يهدأ قليلًا، حمحم يحيى ونهض من مكانه، سار بالقرب من هاني وأمسك بذراعه:
_ تعالي يا هاني عايزك في موضوع مهم ..
حرر هاني ذارعه من بين قبضتي أخيه الصغير واقترب من ريان ورمقه بنظرات تحمل اللوم:
_ كل ده عشان حتة شقة؟! دي نقطة في بحر مملكتك يا معلم ريان، على العموم الشقة دي حقي أصلًا يعني بموافقتك أو غيرها أنا هخدها، أنا هنا أخوك الكبير يعني كلامي اللي يمشي، ومش حتة العيل ده اللي ياخد شقة وأنا لأ أعدل بين إخواتك يا معلم ريان!
تركه وتوجه خارج المكتب بتذمر بينما حلت صدمة جلية على وجه ريان وخصيصًا يحيى فهو لم يتوقع تلك الوقاحة من شقيقه الأكبر التي من المفترض أن يكون قدوة وعونًا لهم وليس العكس.
نظر إلى ريان وكاد أن يتحدث لكنه أجبره على الصمت بإشارة من يده وأردف بعصبية:
_ ولا كلمة روح شوف أنت رايح فين ..
سار يحيى إلى الخارج بعد تردد طال لبرهة، كيف سيترك ريان في تلك الحالة المذرية، استنشق شهيقًا عميق ثم عاد بأدراجه إلى عمله في الفرع الآخر لهذا المعرض.
_________________________________________________
وقفت على باب الطائرة تستنشق الهواء العليل لتلك البلدة الجديدة، وكأنه مختلف كليًا عن غيره، شكلت إبتسامة على ثغرها وهي ما زالت محتضنة صورتهما.
هبطت الأدراج وسارت بداخل صالة الإنتظار، ختمت أوراقها وتوجهت خارج المطار وهي متحفزة لرؤية عائلتها، انتبهت لذلك الصوت الذي يُناديها بعفوية:
_ My name is Aziz, I am at the service of tourists, where are you going ?
( اسمي عزيز، في خدمة السائحين إلي أين أنتِ ذاهبة ؟ )
تقوس ثغرها بإبتسامة لأسلوبه الطريف وأجابته بحماس وهي تريد معرفة ردة فعله عندما تحادثه بلهجتها العربية:
ـ عايزة أروح العنوان اللي في الورقة ده!
صدمة جلية حلت على تعابير وجهه، سحب من يديها الحقائب وتمتم بـضجر:
_ مصرية ، come يووه قصدي تعالي
لم تستطيع تفسير ملامحه التي انعكست تمامًا عن ذِي قبل، فهي أرادت أن تجيبه بلهجته لكي لا تصعب عليه وسيلة التفاهم بينهم، لكن لماذا بدى وكأنه منزعج؟
جلست في المقعد الخلفي و رفعت الصورة الفوتوغرافية تتأملها بإفتقاد، ترقرت بعض الدموع عليها وانهمرت في بكائها في صمت.
_________________________________________________
توجه ريان إلى الخارج ودفع تكلفة سيارة النقل التي حملت أثاثه من المصنع الخاص به إلى المعرض الكائن به، رمق الأثاث بنظرة سريعة متفحصة ثم آمر عُماله بصرامة:
_ يلا يابني أنت وهو دخلوا الحاجة دي جوة
لمح تلك الهيئة تقترب منه فزفر أنفاسه في ضيق وتمتم بداخله:
_ هي ناقصاك على الصبح
أجبر شفاه على الإبتسام ورحب به قائلًا:
_ ياسر أخبارك إيه؟
مد الآخر يداه ليصافحه مُشكلًا إبتسامة عريضة على ثغره قائلًا بحفاوة:
_ بخير يا معلم ريان
قهقه ريان عاليًا وأردف:
_ معلم، أومال لو مكنش أبوك إبن عم أبويا
ضحك ياسر هو الآخر ليجيبه بنبرة فخورة:
_ ده أنت سيد المعلمين يا ريان والله، كفاية أنك مشغل الحتة كلها ومش سايب حد عاطل، ربنا يبارك لك
إلتوى ثغر ريان بتهكم ثم أولاه ظهره وهو يآمره:
_ تعالي نقعد جوا في المكتب
أجابه ياسر مسرعًا قبل أن يولج ريان مكتبه:
_ لأ لأ أنا مش فاضي، في طلبية موبليا بيت كامل ولازم تتسلم قبل آخر الشهر، أنا كنت جاي أسأل عليك وامشي على طول
تنهد ريان وقد شعر ببعض السعادة التي تغلغلت بداخله، وأخيرًا أحدهم يحبه دون مقابل، سار نحوه بخطوات ثابتة وربت على كتفه بإمتنان:
_ تسلم يا ياسر، ثواني هطلب لك عصير
أماء ياسر رأسه برفض تام وأردف ممتنًا:
_ لأ لأ أنا ماشي، خيرك سابق يا ابن عمي
أمسك ريان ذراعه حتى يقيد حركته وتحدث بإصرار:
_ والله أبدًا لازم تشرب حاجة، عايز تزعلني ولا إيه خمس دقايق مش هيفرقوا معاك وهكلم لك ياعم المعلم بتاعك استأذنه
انفجر كليهما ضاحكين فريان المعلم نفسه، رد عليه ياسر من بين ضحكاته:
_ ماشي يا معلم سماح خمس دقايق
أمر ريان أحد عُماله بأن يحضر مياه غازية مع بعض الحلوى، ثم أنتبه ياسر لاهتزازة هاتفه معلنًا عن اتصال، جذب هاتفه من جيب بنطاله وضغط على زر الرد وأجاب بشموخٍ:
_ السلام عليكم يا أمي، خير في حاجة؟
انتفض ياسر من مكانه بذُعر، نهض ريان هو الآخر وسأله بتوجس:
_خير يا ياسر في إيه؟
أنهى ياسر الإتصال وأجاب ريان بنبرة متلعثمة:
_ أبويا، تعبان أنا لازم أروح له، بعد أذنك
رد عليه ريان سريعًا قبل أن يختفي ياسر من أمامه:
_ طيب استني هاجي معاك
وما إن أنهى جُملته حتى ولج مكتبه وجذب مفاتيحه وهاتفه ثم هرول إلى الخارج مسرعًا، أشعل محرك سيارته وانطلق بها على أعلى سرعة لديه إلى منزل إبن عم أبيه.
صف سيارته أمام المنزل، وما أن توقف حتى ترجل ياسر من السيارة بخُطى مهرولة وصعد الأدراج في درجة واحدة.
طرق الباب حتى فتحت له والدته وعلامات القلق تعتلي ملامحها:
_ أبوك تعبان أوي يا ياسر أنا خايفة يجراله حاجة
ولج ياسر غرفة والده وذعر من حالته المذرية، جسده كان يرتجف بشدة، تبعه ريان هو الآخر واتسعت عيناه بذعر عندما رأه بتلك الحالة.
أسرع نحوه ووضع راحتي يده على جبينه وشهق بصدمة:
_ ده سخن مولع لازم دكتور حالًا مش هيقدر ينزل في حالته دي
انهمرت ( سعاد ) زوجة ( منصور ) والد ياسر في البكاء، توجست خيفة خشية أن يحدث لزوجها مكروه فهي لن تتحمل أن يصيبه مكروه، نظرت إلى ريان وهتفت بتوسل:
_ متسيبناش يا بني خليك معانا مش هنعرف نعمل حاجة لوحدنا
أماء ريان رأسه وتوجه للخارج يهاتف طبيب العائلة، وبعد حوالي أربعون دقيقة، خرج الطبيب من الغرفة ونظر إلى ريان:
_ أنا اديت الحاج حقنة نزلت الحرارة لأنها كانت مرتفعة فوق المعدل الطبيعي، الأدوية دي ياخدها بإنتظام ويقعد في مكان رطب بلاش مكان مقفول، حمد لله على سلامته
تنهد الجميع براحة، وأجابه ريان ممتنًا وأعطاه بضعة ورقات نقدية:
_ متشكرين يا دكتور، اتفضل
أخذ الطبيب مستحقاته وهم بالمغادرة سريعًا، نظرت سعاد إلى ريان وعلامات الخجل جلية على وجهها:
_ متشكرين يابني دايمًا تعبينك معانا مش عارفة أردلك جميلك ده إزاي
ابتسم ريان بحرج وأردف:
_ جِمِيل إيه ياست الكل ده عم منصور في مقام الحج، المهم بس يقوم لنا بالسلامة
شكرته سعاد مراراًا ثم ولجت لزوجها تطمئن عليه بينما اقترب ياسر من ريان في حرج بائن:
_ مش عارف أشكرك إزاي يا ريان، بس أنا أول ما اقبض هردلك فلوسك على طول
عقد ريان ما بين حاجبيه بتعجب:
_ بعيدًا عن الكلام العبيط ده هو أنت إزاي ماشي من غير فلوس ده إحنا لسه في نص الشهر؟
نظر ياسر في الفراغ أمامه هاربًا من تلك العينين المُثبتة عليه، تنهد وأجابه بحرج:
_ أنت عارف إن أبويا يوم شغال ويوم لأ فأنا اللي بصرف على البيت وعلى نفسي وعلي تعليم أختي
دنا ريان منه في عدم استيعاب:
_ أبوك بيشتغل يوم أه ويوم لأ إزاي وإحنا يوميًا بيخرج من عندنا بالـ ١٠٠ أوضة؟
حمحم ياسر وهو يحاول أن ينتقي كلماته بعناية لكي لا يتسبب في أذى شخص ما:
_ مهو الأوسطى رِفعت بيبعت لأبويا أوضة من ضمن الـ ١٠٠ دول
( منصور والد ياسر يعمل في تجهيز وتهيئة الأثاث إستعداداً للرش ( استروجي )
تشنجت ملامح ريان وبرزت عروق عنقه بغضب عارم، كاد أن يغادر لكن لحق به ياسر وأمسك ذراعه مجبرًا إياه على الوقوف وأردف بتوسل:
_ ريان أنا مش عايز أكون سبب في قطع رزق حد وخصوصًا لو الحد ده رب عملي بعد منك طبعًا
سحب ريان ذراعه ونظر إليه لبرهة كيف له أن يكون لين القلب هكذا؟ كيف يخاف أن يكون سببًا في قطع رزق الشخص نفسه الذي يمنع رزق والده؟
شهيق وزفير فعل ريان بعد أن فشل في استيعاب تلك الشخصية الواقفة أمامه، لم يدري من أين يأتي بتلك الطيبة التي لم يعد لها أثر في هذا الزمن، رد عليه محاولًا استيعاب قصده:
_ أنت عايزني أعمل معاه إيه، أتغاضي عن اللي عمله؟
حرك ياسر رأسه في رفض وأجابه بنبرة متريثة:
_ لأ عاتبه، حذره، أقرص ودنه على الهادي بس بلاش تقطع رزقه وياريت متعرفوش إنك عرفت مني لأنك كده هتربي عدواة بينا وأنا مش عايز كده
كاد أن يجيبه لكن قرع الباب أجبر ريان على الصمت، بينما توجه ياسر لفتح الباب، تفاجئ بفتاة غريبة يجهل هويتها تقف أمامه.
_ أنتِ مين؟
سألها بإستفسار بعد أن رمقها بنظراتٍ متفحصة لعله يعرفها لكن لم يرى هذا الوجه الملائكي من قبل وإلا كان عرفها من الوهلة الأولى.
استنشقت نفسًا عميق ثم تحدثت بنبرة رقيقة:
_ ده بيت منصور العراقي؟
أماء رأسه مؤكدًا سؤالها لتتابع هي مضيفة:
_ أنا عنود سيف الدين العراقي وأونكل منصور يبقي عمي ممكن أقابله؟!
اتسعت حدقتي ياسر بدهشة انتهت بإبتسامة على ثغره لم تستطيع عنود تفسيرها، تنحى ياسر جانبًا سامحاً لها بالدخول مرحبًا بحفاوة:
_ اتفضلي، أنا إبنه ياسر أهلًا بيكي
مد ياسر يده ليصافحها لكنها أبت وابتعدت عنه بتوجس:
_ معلش أنا مبسلمش
انتبه ريان لذاك الحديث الجانبي والذي لفت انتباهه عدم مصافحة الفتاة التي لا يعلم هويتها وتمتم بداخله متعجبًا:
_ هو في حد لسه كده؟
هز رأسه طاردًا أفكاره التي ليست في آوانها، واقترب من ياسر:
_ بعد إذنك يا ياسر أنا مضطر أمشي لو احتجت لحاجة كلمني متترددش
إلتوى ثغر ياسر بإبتسامة عريضة وأردف بإمتنان:
_ خيرك سابق يا ريان متشكرين على وقفتك معانا
غادر ريان المنزل سريعًا، بينما عاد ياسر يقف أمام تلك الفتاة التي خطفت قلبه، أو ربما عينه، ثيابها الفضفاضة التي لا تُظِهر أي انش من جسدها قد راق إليه كثيرً.
شعر بإنجذاب قوي لتلك البندقتين التي تنظر بهم بـتلقائية، لا يدري ماذا فعلت به تحديدًا لكنه متأكد من شيء واحد وهو أنه يشعر بالسعادة التي دقت طبول قلبه.
أخذ نفسًا قويًا أخرجه على مهل وهو ينظر إليها بحماس لم يتذوق طعمه من قبل ثم ولج غرفة والده وابتسم له عندما رآه بحال أفضل وتحدث بنبرة متلهفة:
_ في واحدة برة بتقول إنها بنت عمي سيف الدين!
_________________________________________________
عاد ريان إلى منزل والده عنوة، لا يود رؤية شقيقه إلا أنه عاد فقط من أجل شقيقته وزوجها، فهو من أصر على حضورهم ولابد من وجوده بينهم.
وقفت هاجر ودينا يحضروا الطعام، ولجت رنا إليهم وأخذت الصحون الخاصة بريان ما إن رأته يجلس على الطاولة بمفرده، فهي أقسمت ألا تدع الأمر يطول أكثر من ذلك.
رمقتها دينا بغرابة شديدة عندما رأتها تأخذ الصحون وما إن اختفت من أمامهم حتى لكزت هاجر في ذراعها متسائلة بغرابة:
_ هي رنا مالها؟
قهقهت هاجر على منظر دينا واجابتها بمزاح:
_ تلاقيها بتمشي رجليها
انفجرت كلتاهن ضاحكتين بينما وضعت رنا الصحون أمام ريان مُشكلة ابتسامة عريضة على شفاها الورديتان التي تعمدت وضع أحمر شفاه عليهم لكي تجذب انتباهه.
"اتفضل يا ريان"
_ قالتها بدلال مبالغ، لكنها تفاجئت بعد اكتراثه لوجودها وكأنها نكرة أمامه، سحقت ما بين أسنانها بغضب مما يفعله هذا الريان بها.
ركضت مهرولة من أمامه وهي في قمة انفعالها، ولجت المطبخ لكن ليس لمساعدتهن بل للإنتقام من تلك اللعينة التي تستحوذ على عقل حبيبها.
ناولتها دينا بحذر صحن الحساء الساخن بعدما أفرغت به قدر كبير، أمسكته رنا وابتسمت بخبث عندما رادوتها خطة داهية، سكبت الحساء على جسد دينا متعمدة وهي تصرخ بـ:
_ اااه ده سخن أوي
صرخات دينا المتتالية جمعت جميع من في المنزل إثرها، شهقت هاجر بهلع واقتربت من دينا بتوجس:
_ ينهار أسود إيه الي أنتِ عملتيه ده يا رنا مش تاخدي بالك
ولج ريان إليهن ودفع برنا بعيدًا وأردف بحدة:
_ ابعدي كده
اقترب من دينا في هلع وتسائل بإهتمام:
_ في إيه حصلك حاجة ؟
حاولت دينا السيطرة على أعصابها التي ارتخت تمامًا وتحدثت بنبرة موجوعة:
_ الطبق وقع من أيدي، مش قادرة أنا لازم أطلع فوق أغير هدومي
لا يدري لماذا لم يقتنع بما قالته دينا، بالتأكيد ثمة تلاعب في الأمر، رمق رنا بنظرات احتقارية مشتعلة ليجد الخبث يشع من خضرواها، لعن تلك الفتاة التي بالتأكيد لها يد في إصابة زوجته.
_ مش خير يا ريان يابني ولا حصل حاجة؟
تساءل ماهر بقلق عارم، بينما أجابه ريان بهدوءٍ ممزوج بالغضب:
_ خير يا حج إن شاء الله
خرج ريان خلف دينا التي تحاول جاهدة أن تتماسك لكي لا تُفسد رونق اليوم علي الجميع.
_أنت متأكد إنها مش محتاجة تروح المستشفي يا ريان؟"
تسأل علي بنية المساعدة بينما أجابته دينا مسرعة:
_ لا لا بسيطة، مش مستاهلة
هرولت دينا للخارج ثم تبعها ريان، صعد إلى طابقهم وما أن وصدت الباب حتى أجهشت في البكاء لتلك الحرارة الساخنة التي انتشرت في ثائر جسدها، رباه ما هذا الألم؟ لابد وأن هناك حلًا له مفعول سريع فهي لن تتحمل ذلك الألم لوقت أطول.
اقترب منها ريان وهو يسحق أسنانه بغضب:
_ مش تاخدي بالك يا دينا؟
تعالت شهقاتها الموجوعة بينما دنا منها أكثر:
_ طيب أهدي بس
انخفض ريان بجسده وجلس القرفصاء وأمسك بطرف ثوبها وكاد أن يرفعه إلا أنها أبت بشدة وابتعدت عنه متسائلة بحرج:
_ أنت هتعمل إيه؟
_ هطمن عليكي عشان لو الحرق محتاج مستشفي نروح"
قالها ريان بنبرة مهمومة بينما وضعت دينا يديها على عباءتها مُتملكة منها وأردفت:
_أنا هشوفه، خليك هنا
ولجت دينا غرفتها لتطمئن على جسدها، بينما نظرات ريان لم تفارقها إلى أن اختفى طيفها خلف الباب، هل تخجل منه بعد زيجة طالت لـ خمسة أعوام؟
هل لذلك ترتدي تلك العباءة اللعينة التي لا تفارقها مطلقًا أو ربما تبدلها بغيرها لكنه لا يلاحظ فهي بالنهاية نفس الهيئة!
زفر أنفاسه بضيق واعتدل في وقفته، سار إلى أقرب أريكة وجلس عليها قيد انتظار خروجها من الغرفة.
جائت إليه دينا بعباءة أخرى لا تظهر أي من انحناءات جسدها الأنثوي، اقتربت منه وشكلت إبتسامة على ثغرها قائلة:
_ أنا خلصت، الحرق بسيط حطيت مرهم للحروق وحسيت براحة شوية، يلا بينا ننزل عشان الناس اللي مستنيانا دي أكيد جاعوا
نهض ريان واقترب منها:
_ لو تعبانة خليكي هنا وبلاش تنزلي مش مهم النهاردة
"يا خبر لأ طبعًا، مينفعش أسيب عيلتك وأقعد هنا وبعدين أنا مش تعبانة أنا أهو قدامك كويسة"
_ أردفتهم دينا وهو تحاول جاهدة بألا تُظهِر آلامها التي لم تخف بعد، ابتسم ريان لها بإمتنان وتوجه إلى الخارج، تبعته هي إلى أن ترجلا إلى منزل العم ماهر.
_حمد لله على سلامتك يا دينا
قالتها هاجر وهي ترمق رنا بنظرات مشتعلة، أجابتها دينا بإبتسامة زائفة لكي لا تظهر شعورها الداخلي:
_ الحمد لله بسيطة، يلا يجماعة معلش أخرتكم على الأكل
_ لا لا أخرتينا إيه المهم إنك تكوني كويسة
هتف بهم ماهر فتابع يحيى مضيفًا:
_ المهم أنتِ مش مهم الأكل
إلتوى ثغر دينا بإبتسامة ممتنة لإهتمامهم، جلس الجميع حول المائدة وشرعا في تناول الطعام في صمت طال لمدة.
قاطعه ريان وهو ينظر بإتجاه والده قائلًا بصوت أجش:
_ أنا كنت عند عم منصور يا حج لأنه تعبان ابقى أسأل عليه في التليفون
_ ماله منصور يابني تعبان ماله؟
تساءل ماهر بقلق بينما أجابه ريان بهدوء:
_ دور سخنية بس جامد شوية، عارف يا حج شوفت مين وأنا هناك، مش هتصدق!
انتبهت حواس الجميع ونظروا إلى ريان قيد إنتظار متابعته للحديث، استنشق نفسًا ثم واصل حديثه بتريث:
_ بنت عم سيف الدين!
لم تتغير ملامح الجميع كثيرًا فالبعض لا يعرف من يكون سيف الدين والبعض الآخر لا يعبأ له، وأخرين يريدون معرفة هويته.
_ يااااه وده إيه اللي فكره بإخواته بعد كل السنين دي؟
قالها ماهر متعجبًا بينما تساءل يحيى بفضول:
_ مين سيف الدين ده وحكايته إيه؟
ابتسم ماهر وبدأ يعرفهم هوية سيف الدين كما روى أيضاً قصته:
_ ده إبن عمي، أخو عمكم منصور وعمكم مؤنس، بس ده بقاله زمن مسافر أمريكا يجي ٢٠ سنة كده أو أكتر، كان سافر يشتغل هناك مع خاله وشاف واحدة امريكانية وحبها، ولما قال كده لعمي الله يرحمه عمي قلب الدنيا يومها إزاي يتجوز واحدة مش من بلده وكمان مسيحية!
شهق الجميع بصدمة جلية فتابع ماهر حديثه مضيفًا:
_ ولما عارضوه ورفضوا اتجوزها واتقطعت أخباره ومحدش يعرف عنه حاجة، بس إن جيتوا للحق عمكم سيف الدين ده كان أطيب واحد في أخواته..