رواية المعلم الفصل الثاني 2 بقلم تسنيم المرشدي
رواية المعلِم
الفصل الثاني ..
_________________________________________________
جمع شجاعته ونظر إلى ريان الذي كان يطالعه قيد إنتظار طلبه وأردف بحرج:
ألقى بكلماته دون خجل وكأنه يُطالب بحقه وليس بشيء ملك لأخيه، خجل من نظرات ريان عليه وحمحم في خجل:
_ طبعًا بعد اذنك يعني، أصل رنا مش مرتاحة
تقوس ثغر ريان بإبتسامة ساخرة عندما تأكد من حدسه وردد قائلًا بتهكمٍ:
_ رنا!
استنشق هاني أكبر قدر من الأكسجين لكي يواصل ما بدأه لتوه، يريد ملكية الشقة وحينها سيركض مهرولًا إلى زوجته:
_ أكيد يعني أنت عارف إن أي ست بتبقي محتاجة تكون على راحتها في بيتها تلبس براحتها، ويحيى موجود وكمان الحج!
رمقه ريان شزرًا فتابع هاني حديثه موضحًا:
_ عارف إنك مستغرب، هو آه الحج مش شايفها بس أنا بكون مضايق لو شوفتها واقفة قدامه بلبس ااا...
نظر هاني إلى الأرض بحرج بائن ثم رفع رأسه لريان وأردف بتوسل:
_ أكيد أنت فاهم قصدي، ها قولت إيه؟
تعجب ريان كثيرًا مما سمعه من أخيه، ما نوعية تلك الثياب التي يتحدث عنها، لما يشعر بغرابة في حديثه، أيعقل أن هناك ثياب غير المعتادة؟ ثياب مختلفة عن العباءة الفضفاضة التي ترتديها دينا زوجته دومًا حتى في علاقتهم الحميمية ترفض أن تخلعها، أثار فضول ريان حول نوع تلك الثياب، يا تُري كيف تكون؟
ابتلع ريقه بتوتر بائن وهو يرى أخيه لا يعبأ لحديثه، فكرة الرفض تتردد في عقله، يتمنى بداخله أن يوافق على طلبه، لأن رفضه سيكون بمثابة عداء زوجته معه.
رفع ريان بصره نحو أخيه عندما فشل في تخيل تلك الثياب، كاد لوهلة يسأله كيف تكون لكنه تراجع في آخر لحظة، لعن نفسه بأنه كاد أن يقع بلسانه أمام أخيه بشيء من المفترض يكون على علم به.
سحب نفسًا عميقًا وهو يفكر جيدًا في إجابة صريحة ثم أردف بنبرة صارمة:
_ بس الشقة دي بتاعت يحيى يا هاني
تفاجئ هاني من رد أخيه وأردف بإقتضاب:
_ يحيى إيه بس يا ريان، يحيى لسه قدامه كتير جدًا ده لسه مكملش العشرين، أنا أولى بيها منه
اتسعت مقلتي ريان بدهشة وهو لا يدري من أين يأتي بتلك الوقاحة، أحقًا يطالبه بشيء ملكًا له ولا يعبأ لحال لأخيه الصغير.
تأفف ريان بداخله وأردف لينهي ذلك الحوار سريعًا:
_ أنا وعدت يحيى إني هديله الشقة لو نجح في امتحانات الثانويه العامه، ولما نجح كانت هديتي ليه ومقدرش أرجع فيها تاني، حاول تتفهم الوضع
شعر هاني بالإهانة الشديدة من أخيه ونهض بعصبية:
_ يعني أنت بتبقي حتة العيل ده عليا يا ريان؟
نهض ريان هو الأخر ورد عليه بنبرة حادة:
_ يحيى أخويا زي ما أنت أخويا وأنا وعدته ومينفعش أخلف بوعدي معاه، لو مكنتش قولتله كنت إديتك مفتاحها وقولتلك اتفضل
لم يقتنع هاني بحديث أخيه وأقنع عقله أن كلماته تحت مسمى هرائات وغادر مكتبه وهو يتمتم بكلمات لم يفهمها ريان.
أخذ ريان أحد الدُمى الخشبية التي تعتلي مكتبه ودفع بها بكل ما أوتي من قوة، لتقع أسفل قدمي صديقه وهو يدلف المكتب، نظر إلى ريان بغرابة وسأله:
_ في إيه يابني متعصب كده ليه؟
نهض ريان وتعابير وجهه لا تبشر بالخير:
_ معلش يا خالد جت فيك، تعالى
( خالد سرور، هو الصديق الوحيد والأقرب لريان ويعمل معه في إدارة المعرض، يبلغ من العمر أربعة وثلاثون عامًا، كانا يدرسان معًا لكنه أكمل دراسته واجتاز كلية التجارة، متزوج ولديه ولدين زياد وإياد )
أغلق خالد الباب وانخفض بمستوىجسده ليلتقط حُطَام تلك الدمية الخشبية واقترب من ريان وقد إرتاب من زمجرة ملامحه الغاضبة، أعاد الدمية مكانها ووقف بجانبه ينظر إلى حيث ينظر ريان من النافذة وسأله بتوجس:
_ هاني برده؟
أماء رأسه بالإيجاب مؤكدًا سؤاله، ثم نظر إليه بأعين غاضبة تكاد تفتك رأس من يحاول إفساد صفو مزاجه أكثر:
_ مش حابب إني اتكلم عنه بالطريقة دي بس أنا تعبت، أنت متخيل إنه عايز شقتي ومضايق إني بقوله دي بتاعت يحيى!
هز ريان كتفيه بعدم تصديق ثم أعاد بصره على صديقه مرة أخرى وكأنه تذكر شيء ما:
_ هو الست ممكن تعمل إيه للراجل يخليه بمنظر هاني أخويا كده؟
تعالت ضحكات خالد الذي حاول جاهدًا أن يسيطر بشتى الطرق عل قهقهته التي حتمًا ستزيد الطين بلة، زفر أنفاسه وهو يضبط من نبرته التي خرجت مضطربة:
_ آسف في اللي هقوله، بس أخوك مش راجل، هو السبب أنها تمشي كلمتها عليه، مش معنى كده إني قصدي أن الست ميكنش ليها رأي ولا احترام بس بالعقل، تقول رأيها ويتنفذ طلاما صح ومش هيصغرني قدام حد أو حتى قدام نفسي، الحريم بحالات يا صاحبي ولو مشينا بدماغهم دي هنروح في داهية
نجح خالد في إضحاك ريان الذي تأفف بضجر ثم عاد لمكتبه ونظر لصديقه مستفسرًا:
_ كنت جاي ليه؟
جلس خالد أمامه ووضع بعض الأوراق:
_ الأوراق دي عايزة تتمضى عشان توريد الخشب للورش يتنقل كمان ساعة
سحب ريان الأوراق ووضع عليها إمضته سريعًا وأردف بحنق:
_ يابني مش عارف أنت رافض موضوع التوكيل ده ليه، شيل معايا يا خالد الشيلة تقيلة أوي عليا وبالتوكيل ده هتخلص كل حاجة بنفسك ومش هتضطر ترجعي لي في كل حاجة
أومأ رأسه برفض تام، ثم سحب الأوراق من أمام ريان ونهض:
_ لا ياعم أنا مليش دعوه كده أحسن، مملكتك وأنت حر فيها
عقد ريان ما بين حاجبيه في تعجب شديد وتساءل:
_ وأنا وأنت إيه مش واحد برده؟ ولا واحد في حاجات آه وحاجات لأ؟ ثم إني بثق فيك أكتر من نفسي يعني أأمن علي مملكتي اللي بتقول عليها دي معاك أنت
تنهد خالد بسعادة لكنه أبى أن يخضع لطلب صديقه أسفل تأثيره الساحر في الحديث، توجه نحو الباب ثم استدار إلى ريان قبل أن يسير للخارج:
_ أنا وأنت واحد في تمن عشواية، في خروجة، لكن مجهودك ده تعب سنين أنت شقيتها مينفعش أخد أنا كده علي الجاهز، وبعدين ياعم أنا مبسوط كده
غمز خالد بإحدى عينيه له وقال بتريث:
_ سلام يا معلم
أغلق الباب خلفه فتنهد ريان وهو يبتسم، عاد لمكتبه وسحب هاتفه ليهاتف أحدهم، بعد ثواني قليلة من الإنتظار، أجابته بصوتها الناعم كما اعتاد عليه:
_ صباح الخير يا رينو
ابتسم ورد عليها بحدة زائفة:
_ المعلم ريان عيب يتقاله رينو..
تعالت قهقهاتها عاليًا وأجابته بدلال:
_ لأ معلم ده للعمال اللي عندك إنما أنا أقول رينو براحتي
أجابها وهو مازال يضحك على ردودها التي تتغلب بها عليه دائمًا:
_ طيب متتأخريش بكرة يا هاجر لحسن أجي أجيبك من بيتك دلوقتي
( هاجر شقيقته الأصغر، تبلغ من العمر خمسة وعشرون عامًا، تبلغ من الجمال مقدار كبير، رقيقة وذو قلب طيب، ودودة والإبتسامة لا تفارق وجهها، تعشق المزاح وتعطي للحياة طعم مختلف، متزوجة ولديها طفل رضيع يبلغ تسعة أشهر، قصيرة القامة وممتلئة قليلًا، وقد اجتازت معهد الحاسب الآلي )
ابتسمت ثم تنهدت بحرارة وأردفت بحرج بائن:
_ يابني كفاية عليك اللي بتعمله أنت مش ملزوم بالعزومة الأسبوعية دي يا ريان كفاية عليك بابا ويحيى و..
صمتت لبرهة ثم لوت شفتيها بتزمجر وتابعت مضيفة:
_ وهاني ومراته
قاطعها ريان بنبرة جادة:
_ ملكيش أنتِ فيه، المهم عايزة حاجة معينة على الغدا؟
حركت رأسها نافية ثم قطبت جبينها على ما فعلته كأنه أمامها وأجابته بحرج:
_ لا يا حبيبي كله حلو منك ومن دينا، أنا مش عارفة أشكرك إزاي يا ريان على كل اللي بتعمله معايا ومع علي
أجابها مسرعًا وكأنه لا يعي ما تقول:
_ بعمل إيه يا عبيطة أنتِ، أنتِ بنتي قبل ما تكوني أختي وعلي غالي عندي ربنا يبارك فيكم، ويلا بقى عشان ورايا شغل كتير
تعالت ضحكاتها ثم أجابته مختصرة حديثها:
_ ماشي يا حبيبي في رعاية الله
توقفت عن الإغلاق عندما سمعت نداءه وقالت بإهتمام:
_ نعم؟
أردف مؤكدًا بإهتمام:
_ متتأخريش
أبتسمت وأجابته بحب:
_ حاضر
_ أغلق الخط وعاد لعمله الذي حاول قدر المستطاع أن يشغل وقته به حتى ينسي تمامًا حواره الأخير مع أخيه.
_________________________________________________
فتحت عيناها ببطءٍ شديد وهي تشعر بألم يعتلي عينيها البندقيتين، فركتهم لتزداد تلك الحرارة المنبعثة منهم بشدة، نهضت وآنت بألم في جسدها، وضعت إحدى يديها خلف ظهرها والأخرى على عينيها، ما هذا الألم التي لم تشعر بمقدار ذرة منه من قبل، عاندت جسدها ونهضت بصعوبة بالغة وجرت قدميها بثقل حتى اقتربت من المرآة.
شهقت بصدمة وهي ترى تورم شديد أسفل عينيها، وضعت يديها عليهما بـ ألم، تود أن تفتك بيهم من شدة الألم الذي تشعر به، آنت بصدمة أكبر عندما رأت تلك العلامات الزرقاء تنتشر في ذراعها، رفعت ثيابها شاهقة بصدمة جلية عندما رأت جسدها بهذا المنظر المقزز، ما سبب تلك العلامات، لم تراهم من قبل، لما الأن؟ لما في هذا الوقت العصيب، لكي تزيد من آلامها أضعافًا مضاعفة؟!
ابتعدت عن المرآة سريعًا حتى لا تتقابل مع تلك العلامات مرة أخرى، لابد من حل سريع لهم، نعم ستذهب إلى والدتها حتمًا هي من ستُدوايها.
أسرعت خارج الغرفة سريعًا منادية على والدتها:
_ ماما، ماما
توقفت من تلقاء نفسها عندما تذكرت فراقهما، بدأ صدرها يعلو ويهبط بصورة مضطربة، انسدلت دموعها على مقلتيها حزنًا على فراقهما، توجهت إلى مكتب والدها وجلست على مقعده، وظلت تتحسس الأشياء التي ترك لمساته عليها، فتحت الأدراج ووقعت عينيها على مطوية ورقية باللون الأبيض، لم تكترث له لكن لفت أنتباهها ذلك الإسم التي تعهده جيدًا ( عنود )
أمسكت به ونهضت من مكانها وتوجهت إلى الأريكة التي تتوسط غرفة المكتب وجلست عليها، ازدردت وهي لا تدري ما الذي يؤخرها عن فتحه، أخذت نفسًا عميق ثم شرعت في فتحه وما إن قرأت كلماته التي لامست فيها حنانه حتى انهمرت في البكاء.
( عنود، لو قرأتي كلامي ده هكون وقتها مفارق الحياة، أنا عارف إنك قوية ومؤمنة بربنا وقدره، أنا كتبت الجواب ده لأني حلمت حلم غريب جدًا، وصحيت منه على أذان الفجر واتاكدت إنها رؤية مش مجرد حلم عادي، والأهم من كده إني لما حكيت لوالدتك اتفاجئت بيها بتحكي نفس الحلم اللي حلمته، أيًا كان الوقت اللي بتقرأي فيه الجواب ده حاولي تتماسكي وتكوني سند لنفسك، وثقي في ربنا إنه ديما كاتب لك الأحسن، اصبري ومتمليش من نص الطريق، كملي وعافري واوصلي لحلمك، وخليكي ديمًا صعبة المنال زي أسمك، مش هقولك أكتر من كده لأنك ناضجة كفاية وذكية ومش محتاجة نصايح، أنا كل اللي عايزه منك إنك تنزلي مصر بلدي تعيشي وسط أهلي اللي أنا سيبتهم زمان وعشت مع والدتك، أكيد مش هيفرطوا فيكي مهما كان بينا خلاف، في الآخر أنتِ من دمهم ولو هما لسه زي ما أنا عارفهم هيحموكي وهيخافوا عليكي، عنود متقعديش لحظة في البلد دي لوحدك، أنتِ مش شبههم ارجعي لأصلك وأصلي يابنتي، وآخر حاجة عايز أقولها لك إني بيعت البيت وأخدت مهلة شهر كامل من المشتري يسيبك براحتك فيه علي لما تمشي، بحبك أوي، دُمتِ سالمة )
كفكفت عبراتها التي انسدلت كالشلال من عينيها، ثم احتضنت المغلف الورقي، انتبهت لطرف ورقة أخرى خلف الورقة الأولى، سحبتها برفق لتقرأ المدون بها، كانت بعض العناوين لعائلة والدها، وأسمائهم مع بعض الصور لهم.
ابتسمت عندما رأت لأول مرة صور لعائلتها لطالما تمنت رؤيتهم سابقًا لكن رفض والدها المتكرر أجبرها على الصمت وعدم المطالبة بمعرفتهم.
ابتسمت بسعادة وقد تغلغل الحماس إلى جوفها ونهضت مسرعة لتحضر ثيابها وجميع أشيائها التي ستحتاجها عند عودتها لبلدة والدها العزيز.
أخذت تحضر ثيابها وكل ما يخصها وبعض الأشياء الخاصة بوالدايها، حتى ذلك المال الذي أخبرها والدها عنه، لملمت جميع مستلزمات سفرها وانتهت سريعاً.
سحبت الهاتف لتحجز لها تذكرة طيران في أسرع فرصة لكي تغادر تلك البلدة اللي بدت غريبة عنها منذ فراق والديها، لم تعد تحتمل المكوث فيها أكثر من ذلك، فلقد شعرت لتوها بالحنين لعائلة والدها وازداد شوقها وشغفها لرؤيتهم، ربما تنعم بدفئهم ويكونا لها العوض بعد فراق والديها.
_________________________________________________
عاد لمنزله مطأطأ الرأس، حتمًا ستهد المعبد على رأسه ما أن يخبرها برفض أخيه لتملكه شقته، أغلق الباب خلفه بهدوء وتوقف عندما سمع صوت والده الجهوري:
_ أنت جيت يا هاني؟
ابتلع ريقه واقترب منه وسأله بإقتضاب:
_ أيوة يا حج عايز حاجة؟
أماء ماهر رأسه وأشار إليه بالجلوس وما إن جلس هاني حتى شرع ماهر في التحدث عما يريد إخباره به:
_ أنت عايز الشقة اللي فوق؟
_ اتسعت مقلتي هاني ليسرع في الإجابه عليه بذهول :
_ أنت عرفت منين، رنا قال...
قاطعه ماهر ثم تابع هو حديثه:
_ رنا مقالتش حاجة، صوتكم كان عالي الصبح..
شعر هاني بالحرج الشديد حيال والده، ولعن ذاك الحوار الصباحي الذي بدى فيه كالأبله أمام والده، وزفر أنفاسه في ضيق، استشف والده ضيقه ثم وضع ماهر راحتي يده على فخذي هاني وابتسم:
_ أنا هكلم لك أخوك يديك الشقة
اتسعت عيناه بدهشة وبدى كالطفل الضائع الذي وجد مآواه وردد بعدم تصديق:
_ بجد يا حج هتكلمه؟
صمت قليلًا وتذكر أخيه الصغير وراوده شعور الضيق مرة أخرى، ازدرد ريقه وتابع حديثه بنبرة تعكس حماسه منذ قليل:
_ بس هو قالي إنها ليحيي
رد عليه ماهر بحنانٍ وهو يربط على فخذه بحنو أبوي:
_ سيب الموضوع عليا، أخوك مش بيرفض لي طلب
شكره هاني بإمتنان ثم نهض وولج غرفته في حماس وسعادة، رمقته رنا بغرابة لتلك الحالة البادية عليه، رفعت أحد حاجبيها بتعجب وسألته بنبرتها التي تشع منها الأنوثة البالغة:
_ مالك بتضحك كده ليه؟
اقترب منها ولا زال يبتسم، جلس بجانبها يتحسس قدميها ذات القوام الرشيق، رفع عيناه عليها ونظر لتلك الخضراوين كغصن الزيتون وهو يقترب منها أكثر ليلهث أمام شفتيها برغبة:
_ الحج هيكلم ريان على الشقة وأنتِ عارفة إن ريان مش بيرفض للحج طلب، يعني اعتبريها شقتنا خلاص
إلتمعت خضرواتاها بسعادة بالغة، فها قد حان الوقت لتمتلك أقل حقوقها كزوجة لرجل يكبرها بـ عشرة أعوام، لم تشعر ولو بذرة من السعادة معه، فلقد دق قلبها لرجل واحد ولا تريد غيره، فعلت الكثير بدهائها المفرط حتى تجذبه إليها لكنه لم يظهر عليه ولو لمرة واحدة أنه تأثر بكل التصرفات المثيرة التي يخضع لها أي رجل، لما لا يراها ويرى تلك الدينا البغيضة ذات الجسد السمين والشعر المجعد فلا أصل للمقارنة بينهن، فهي تمتلك جسد ممشوق ذو انحناءات أنثوية صارخة للغاية يجعل الحجر يلين، وكذلك خُصلات شعرها الذهبية التي تفقد عقل أي رجل، ناهيك عن شفتيها المنتفخة الوردية التي تجبر كل من يراها أن ينظر إليهم ببلاهة ويتمنى أن يتذوق شهدهم، من تلك المرأة التي يعطيها ولائه الكامل ولا ينظر لغيرها، ولكن لا لن تستسلم بتلك السرعة، لابد وأن تجد طريقة ما للوصول إليه فلا يمكن أن يكون هناك رجل بتلك المثالية، حتمًا له ثغرات ستعرفها وتلعب على أوتارها.
تقوس ثغرها بإبتسامة لدهائها التي تميزت به، ولكن سرعان ما تحولت تلك الإبتسامة إلى تقزز من ذلك الرجل الذي يتودد إليها.
حاولت الصمود قدر الإمكان لكي لا تتقيأ بسبب قربه لجسدها بهذا الشكل، أجبرت جسدها على التأقلم معه كما تفعل دائمًا، فتلك الطريقة التي تجيدها لتحصل على أي شيء تريده منه.
بعد مدة من الوقت، نظرت إليه بتقزز شديد وهي تنظر لشعيرات صدره الفحمية التي تمتزج بها بعض الخصلات البيضاء، نهضت من جانبه مسرعة وولجت المرحاض، وقفت في منتصف المغطس الرخامي أسفل قطرات المياه الباردة.
أخذت تفرك جسدها بعصبية ربما تمحي أثار لمساته عليها، أغلقت صنبور المياه وتوجهت إلى الخارج بعد أن حاوطت جسدها بالمنشفة القطنية.
جلست أمام المرآة وهي تجفف شعرها بالمجفف الكهربائي، وما أن انتهت من تجفيف شعرها حتى استمعت لصوت أبواق سيارة ريان.
تهللت أساريرها في سعادة ونهضت مسرعة، ارتدت روبها الحريري طويل القامة وسحبت حجاب رأسها وأسرعت إلى الخارج مهرولة بخطاها، أدارت مقبض الباب وتصنعت أنها تنادي على زوجها:
_ هاااني أنت جيت
تصنعت الحرج عندما رأته وقلبها يطرب فرحًا لرؤيته، ابتلعت ريقها وتصنعت البراءة:
_ ريان! كنت فكراك هاني، أخبارك إيه؟
تعمدت ترك حجاب رأسها ينسدل من عليها حتى وقع أرضًا، نظرت إليه بخضرواتاها وهي تتمنى أن ينخفض بجسده معها لتتقابلا أعينهم سويًا، لكن لم تهتز له خصلة وبات جامدًا أمامها.
انحنت هي بجسدها لتلقف حجابها، ثم أراحت من عقدة روبها قليلًا لتسمح لجسدها في الظهور، وما أن عادت لوقفتها تفاجئت به قد غادرها وتابع صعوده للأعلى.
كزت على أسنانها بغضب وعادت للداخل وهي تتأفف، دفعت الباب بعصبية وعادت لغرفتها مرة أخرى متوعدة له:
_ ماشي يا ريان إن ما جبتك راكع تحت رجلي مكنش رنا الدمنهوري!
_________________________________________________
أغلق باب غرفته وهو مندهشًا مما رآه، هل ما رآه صحيحًا أم أنه يبالغ، جلس على طرف الفراش وهو يعيد ما رآه قبل قليل وتمتم بذهول شديد:
_ رنا بتسأل ريان عن هاني اللي هو في الأوضة أصلًا، ووقعت طرحتها قدامه، ريان سابها ومشي وهي اتعصبت وقفلت الروب بتاعها اللي معرفش اتفتح امتي!!
هز راسه باستنكار تام مما رآه وقال بعدم تصديق:
_ لا لا أكيد أنت فاهم غلط يا يحيى، أحسن حاجة أنام وأبطل تفكير، اللهم اخزيك يا شيطان
استلقى بجسده على فراشه وهو يحاول أن يقنع عقله أن ما رآه ليس إلا صدفة وما شعر به ليس إلا من محض خياله الباطني.
_________________________________________________
فتح الباب بأحد مفاتيحه ثم ولج للردهة حاملًا العديد من الحقائب البلاستيكية، وضعهم على الطاولة الرخامية في منتصف المطبخ وخرج يبحث عن زوجته التي لم يلمح طيفها منذ دخوله، لم تكن بغرفتهما،إذا أين ذهبت ؟!
سمع بعض الهمهمات تأتي من غرفة صغيرته، توجه نحوها ونظر بسودتاه داخل الغرفة، رآها جالسة على الفراش تُتمتم ببعض الآيات لصغيرتها المستكينة بين أحضنها حتى غفت بين ذراعيها.
ابتسمت دينا حينما رأته يراقبها في صمت، ثم وضعت صغيرتها برفق أعلى الفراش ودسرت عليها الغطاء ومن ثم توجهت إلي الخارج بخطوات هادئة لكي لا تقلق تلك الصغيرة التي غفت بصعوبة.
استقبلته بإبتسامتها المشرقة ورحبت به بود:
_ حمد لله على سلامتك يا حبيبي، جعان هتاكل؟
أماء لها ريان بالإيجاب وأردف وهو يولج لغرفته:
_ هاخد دوش سريع على لما تكوني حضرتي الأكل ..
أخذ ثيابه وولج مرحاض غرفته واستحم سريعًا كما أخبرها ثم خرج وارتدى ثياب منزلية مريحة، وتوجه إلى الخارج على تلك الرائحة الشهية التي طالبت بها معدته.
جلس على مقعده الخاص ومن ثم جلست دينا بجانبه وشرعا كليهما في الأكل، تنهدت دينا ثم نظرت إلى ريان وتحدثت بنبرة متريثة:
_ ريان عايزة أقولك حاجة
التفت إليها لتتابع هي حديثها بعد أن تركت ملعقتها:
_ عم جلال اتوسط لي عندك، أنت بهدلت الأسانسير خالص وأكيد عارف إن تصليحه مش هياخد أقل من أربع خمس أيام، وهو خايف منك لأنك هددته أنك هتطرده لو متصلحش في خلال ساعتين
تنهد بضيق وأجابها بإقتضاب:
_ أنا كنت مضايق وقولت أي كلمتين وقتها، بكرة هتكلم معاه
ابتسمت دينا وربتت على يديه بحب، ثم وصلا تناولهم للطعام في صمت.
_________________________________________________
وصلت إلي المطار قيد إنتظار الإقلاع عن طيارتها التي ستحلق بعد ساعتين من الآن.
جلست في صالة الإنتظار بعد أن أنهت جميع إجراءات سفرها، نظرت لتلك الصورة الفوتوغرافية التي تجمع بين ثلاثتهما، تحسستها بأناملها وضمتها لأحضانها وانسدلت دموعها بفلبٍ ينفطر حزنًا على ما حدث لهما.
فأي عوض سيعوضها عنهما، أين لها أن تتقابل مع أمان قلبها وطمأنته بعد فراقهم، تنهدت بحرارة زادت من لهيب شوقها بعودتها لتلك البلدة لطالما تمنت زيارتها ولو لمرة واحدة فقط.
اختفت بندقيتاها خلف جفنيها التي أغلقتهم لترسم بعض المواقف الحارة في عقلها عند لقاء عائلة والدها للمرة الأولى، لقد ازدادت التساؤلات في رأسها، هل لديهم علم بوجودها؟ هل سيتقبلونها أم أن لهم رأي آخر، هل ستُعٓاقب بذنب أبيها الذي اقترفه في الماضي، كثير وكثير من التساؤلات التي راودتها في تلك اللحظة.
بعد مدة انتبهت لذاك الصوت الذي يحث المسافرين إلي مِصر بالإستعداد فالطائرة سوف تقلع بعد ثلاثون دقيقة، نهضت وسحبت حقائبها خلفها، وسارت إلى ساحة المطار حيث توجد الطائرة.
صعدت أدراجها ووقفت أعلى السُلم تنظر النظرة الأخيرة لتلك البلدة التي ولدت وترعرعت في كنفها، شعرت بغصة في حلقها كيف لها وأن تفارقها بكل ذكرياتها الجميلة مع عائلتها، لوهلة كانت ستتراجع، لا تستطيع الإبتعاد عنها كما فعلا والداها، لا لن تغادر، حتى انتبهت لصوتٍ ذكوري من خلفها، نظرت إليه وإذا به مضيف الطائرة
_ We want to close the door, please ( نريد إغلاق الباب من فضلك )
أردفها بإبتسامة عملية بينما توجهت هي إلى الداخل وبداخلها صراع بين التراجع والعودة لبلدة أبيها، تذكرت وصية والدها لها بأن تغادر البلدة ما إن تقرأ جوابه، تنفست الصعداء وهي تجلس على مقعدها وغاصت بين أفكارها حتى باتت في ثُبات عميق.
_________________________________________________
أشرق نهارًا جديدًا يحمل المزيد من الأقدار والمفاجأت للجميع، استيقظ من نومه وكعادتها لم تكن بجانبه، زفر أنفاسه بضيق وهو يتخيل جسدها الذي يمكن لأخيه الصغير أن يراه بسبب قلة وعييها.
نهض مسرعًا وتوجه للخارج وهو يبحث بعينيه عنها، تفاجئ بها واقفة أمام الباب، فسألها بغرابة من أمر وقوفها:
_ رنا أنتِ واقفة بتعملي إيه عندك؟
ذعرت من صوته وأغلقت الباب مسرعة، ونظرت إليه في رعب، كاد آمرها أن يُكشف، سحبت شهيقًا عميقًا ثم سارت نحوه بدلال، تعلقت بعنقه وأجبرت شفتيها الورديتان علي الإبتسام حتى تنجح فيما تفعله بينما حاوط هو خصِرها بيديه الغليظة قائلًا
_حد يشوفنا يا رينو، تعالي في الأوضة
وما أن أنهى جملته حتى حملها وولج بها مسرعًا لغرفتهم، انخفض بها على الفراش فلعنت رنا نفسها فهي قد جنت على نفسها، حتى تتخلص من سؤاله تورطت في ورطة أكبر، حاولت مسايرته كما تفعل في العادة لكن جسدها أبى هذه المرة أن يتحمل، دفعته عنها بكل قوتها، رمقها هاني بدهشة وأردف متسائلًا:
_ في إيه يا رنا، أنا عملت إيه؟
بدأ صدرها في الهبوط والصعود وهي تحاول جاهدة ألا تجهش في بكائها، لكن لم تتحمل أكثر من ذلك فليحدث ما يحدث.
نهضت ووقفت أمامه وحاولت أن ترتدي وجه القوة:
_ أنا عندي اللي يمنعك تقربلي وصدقني مش قادرة ولا طايقة نفسي فحاول تتجنبني اليومين تلاتة دول
عقد هاني حاجبيه وسألها بفضول:
_ نعم؟! أنتِ كل شوية بنفس الحجة؟ أدا إزاي دا؟
ابتلعت ريقها بتوجس وأجابته بتلعثم:
_ أنا، أنت، آه أنت تعرف منين يعني، قصدي يعني أنا ست وعارفة أكتر منك، بعد إذنك
تركته واقف حائرًا من تصرفاتها وأسرعت إلى خارج مهرولة، توجهت إلى الباب وأدارت مقبضه في إنتظار هبوط من سكن قلبها وشغل فؤادها ولم تتقبل رجل غيره إلى الآن.
_________________________________________________
خرج ريان من غرفته بعد أن ارتدى كامل ثيابه، ونادى بصوته الرخيم علت فتياته:
_ دينا، جنى، خلصتوا عشان ننزل هاجر على وصول
خرجت دينا من غرفة جنى فتبعتها صغيرتها وهي تهلل عاليًا بتذمر، تأففت دينا بضيق من تلك الصغيرة التي لم تصمت منذ استيقاظها ثم نظرت لريان وقالت:
_ جهزنا يا حبيبي
اقتربت دينا من الباب بينما اقترب ريان من صغيرته وانخفض بجسده ليكون بمستوى قامتها القصيرة، أعاد خصلات شعرها الشاردة خلف أذنها وعقد حاجبيه في تعجب:
_ حبيبة قلب بابا مالها؟
اقتربت منهم دينا وردت عليه بعفوية:
_ عايزة سل..
وقفت دينا عن الحديث عندما أشار لها ريان بسودتان محذرًا، كرر سؤاله لصغيرته مرة أخرى، فأجابته هي بنبرة طفولية:
_ عايزة أروح عند سليم يا بابا
نهض ريان ومد لها يده في براءة:
_ بس كده يلا بينا يا أميرتي
توجه نحو الباب ونظر إلى حيث تقف دينا:
_ واقفة عندك ليه ؟
عقدت ذراعيها في بعضهما ورفعت إحدى حاجبيها فضحك هو بتهكم على تصرفها الطفولي ونظر لجنى:
_ في ناس غيرانة بشكل
توجه نحوها وأمسك بيدها:
_ ممم نقدر ننزل دلوقتي ولا لسه في حاجة عايزين تعملوها؟
أجاباه في نفس واحد:
_ ننزل ..
هبطا إلى الطابق الكائن به والده، تقابلا مع شقيقته وزوجها، رحب كلاً من الطرفين ببعضهما بود وحفاوة شديدة، ثم اقتربت جنى من هاجر و أخذت تشد في طرف ثوبها بطفولة:
_ عمتو عايزة أشوف سليم
ضحكت هاجر وانخفضت بجسدها لمستوى تلك الصغيرة وقربت منها رضيعها:
_ سليم أهو يا جنجون عايزة نونو يا حبيبتي قولي لماما تجيبلك واحد زيه
رفعت دينا حاجبيها في استنكار:
_ بدخليني في الموضوع ليه بس يا هاجر أنا كده كويسة أوي ولا إيه رأيك يا ريان؟
لم يعيرها ريان إهتمام ونظر إلى علي زوج شقيقته وهتف:
_ تعالي يا علي نفطر عشان نروح على أشغالنا مش ناقصين تفاهة حريم على الصبح