رواية لعنة الخطيئة الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم فاطمة احمد
الفصل الثامن والعشرون : مواساة من نوع آخر.
_________________
اضطربت أنامله على عجلة القيادة وبالكاد استطاع التركيز على الطريق أمامه، مراكز إحساسه كانت تلتقط إشارات مريبة وهو يرمقها بطرف عينه ويراها كيف تسند مرفقها على إطار نافذة السيارة وتميل رأسها على كف يدها بشرود، أدرك أنها تفكر في أحداث اليوم من خلال ملامح وجهها وعينيها المنطفئتين ولم يكن حالها يختلف عن حاله كثيرا لأنه مازال مشوشا من كمية الأحداث التي حصلت دون تدبير منه وخاصة ما قامت به نيجار وكيف أنها تسللت وقابلت العمدة بمفردها غافلين عنها جميعا.
بلل شفته وتنحنح مجليا صوته قائلا :
- ممكن افهم ايه اللي حصل النهارده بالضبط انتي قدرتي تطلعي من غير ما حد يحس عليكي ازاي أنا مشدد الحراسة من آخر مرة وعينت حرس زيادة كمان.
- يبقى اللي شغلتهم دول مكنوش قد المهمة لأني عرفت اهرب بسهولة.
ردت عليه نيجار بنبرة باهتة من غير أن تحرك حدقتيها فانكمش وجهه بلا رضا إثر برودها وأردف :
- طيب انتي جيتي من غيري ليه مش قولتلك اول ما تقرري هنروح مع بعض وقولتلك كمان مينفعش تتكلمي ع اللي حصل بجد واني مستعد اتحمل اللوم اومال مسمعتيش كلامي ليه.
- شوفت ان مفيش داعي نكدب على العمدة عشان هو هيشكفنا فكل الأحوال فقررت اوفر الوقت.
كانت تكذب بوضوح فهي لم تكن لتسمح بأن تجعله المخطئ في حادثة لا شأن له بها، ومع هذا لم يحصل آدم على رضاه من جوابها لأنه مازال متضايقا من تغفيلها للجميع وذهابها لبيت العمدة ووضعه تحت الأمر الواقع لذلك برطم بتزمت :
- مع ذلك مكنش لازم ترمي كلام يمين شمال من غير ماتفكري لانه كان ممكن الموضوع كله يتقلب عليكي وتعمليلي مشاكل ده غير انك رجعتي تواقحتي وعصيتي أوامري وهربتي من غير ماتفكري فشكلي قدام العيلة ... أنا مش عارف لازم اعمل ايه معاكي بالضبط.
تنهدت نيجار ونظرت له مجيبة بتلبد جعله يشعر وكأنه يحادث الفراغ :
- مش مهم طالما حصلت على اللي انت عايزه وخدت حقك من صفوان قدام كل الناس وخليته يبوس ايديك بعتقد أنه مفيش حاجة بتفرحك اكتر من ديه.
- حاسس بتريقة في صوتك خير انتي زعلتي على ابن عمك المسكين وبقيتي شايفاني أنا المفتري ولا ايه ... حاسة بالذنب لأنك شهدتي ضده.
- مقولتش حاجة على فكرة ممكن تبطل تكهنات وترجعني للسرايا بسرعة لأن دماغي هتتفركت من الصداع.
عادت لوضعيتها السابقة وألقت نظرها للخارج متأملة الشوارع بعشوائية فشد أصابعه على عجلة القيادة بضيق وتابع طريقه وبعد مدة وصلا للسرايا واستقبلتهما حليمة بتلهف مرددة :
- اللي سمعناه صحيح العمدة كشف أنه صفوان متورط في الاغتيال وفضحتوه.
قفزت ليلى من مكانها وتساءلت ببهجة :
- بجد حضرتك خليته يوطي ويبوس ايدك قدام رجالة المجلس كلهم.
نظر آدم لنيجار التي تلكأت في وقفتها بملل ثم تركتهم وصعدت إلى الغرفة فهز رأسه بإيجاب مغمغما :
- ايوة حصل بفضل نيجار لأنها هي اللي شهدت معايا.
نظرتا لبعضهما بحيرة وكادت العمة تسأله عن علاقة نيجار بالموضوع تماما لكن قاطعتها حكمت التي كانت جالسة في منتصف البهو ونهضت تقرع الأرض بدقات عكازها وهي تقترب منه مبرطمة بتصلب :
- طالما عيلتها السبب في اللي حصلك يبقى كان لازم عليها تشهد وتكشف ابن عمها هي معملتلناش خير نشكرها عليها.
كفاية انها رجعت خرجت زي الحرامية وخلت الحراس يقولو انها ممكن تكون هربت من بيت جوزها.
زفر آدم بإرهاق وحكَّ طرف جبينه قائلا :
- وأنا مقولتش انها عملت فينا خير ولازم نشكرها عشانه يا ستي، بس القصة هي انها وقفت ضد عيلتها وممكن ... خلاص انسي أنا رايح اقابل ابن الحج جمال عشان مشروع محل القماش وهوقع على العقد.
أماءت حكمت برضا مخفية انزعاجها من اهتمامه المستتر بتلك الأفعى اللعوب وأردفت :
- تروح وترجع بالسلامة ياحفيدي.
رحل آدم بهدوء فاِلتفتت ليلى إلى عمتها وهمست بحيرة :
- مش صفوان ده هو نفسه اللي نيجار ضحكت ع ابيه وطعنته وولعت النار في البيت اللي هما فيه عشانه ازاي فجأة كده شهدت ضده وأثبتت التهمة عليه ... البنت ديه مش سهلة أنا بعتقد أنها بتخطط لحاجة كبيرة تؤذي آدم بيها.
تململت حليمة بحيرة وهي تفكر في نفس الشيء تماما لأن انقلاب نيجار على أخيها في الرضاعة هو أمر يدعو للريبة والشك فهزت كتفاها بجهل متمتمة بأنها لا تملك توقعا تفيدها به ثم توجهت لغرفتها تتبعها الأخرى، أما حكمت فظلت واقفة مكانها ومركزة عيناها المشتعلتان على نقطة فارغة في الأرضية حتى همست بنبرة بليدة تبعث الرجفة في جسد من يسمعها :
- بت الشرقاوي تعلقت بآدم و حبته بجد المرة ديه وأنا بقى مش هكون الست هانم لو مستغليتش الموضوع ده لصالحي ... استني عليا انا عرفت ازاي احرقلك قلبك كويس.
***
دخل إلى غرفته وأغلق خلفه الباب متجاهلا نداءات أمه المضطربة وسار بخطوات بطيئة حتى وصل للمرآة وتوقف مطالعا إياها ولكنه لم يكن يرى انعكاسه وهو يقف الآن ...
بل رأى شخصا ينحني أمام الجميع ويعتذر من غريمه مقبلا يده بخنوع، شخصا لمح نظرات السخرية والازدراء مِن جميع مَن اغتر عليهم بنسبه يوما، نفس الشخص الذي احترقت روحه ودُعست كرامته بين الأحذية حين ابتسم له عدوه بشيطانية حملت الشماتة والانتصار معا ... نصراً كان هو فيه الحشرة الوحيدة !!
تطايرت الشياطين من حوله ودفقت عروقه حمما بدل الدماء ولم يطق تلك الصور التي يناظرها فأطلق صرخة هستيرية وقلب مرآة التسريحة على الأرض بعنف فتحطمت لأشلاء صغيرة صائحا فوقها بجنون مرعب :
- ازاي تعمل معايا كده ازاااي أنا صفوان الشرقاوي ازاي تخليني اوطي ع ايدك وأبوسها يا *** أنا هـقـتلـك هـقـتـلـك !
ثم طفق يحطم محتويات الغرفة بلا هوادة ويصرخ شاتما ولاعنا ومتوعدا لتقتحم جميلة المكان بهلع وتركض ناحيته محاولة إيقافه :
- بسم الله الرحمان الرحيم يابني اهدا مش كده ... صفوان بالله عليك متعملش في نفسك كده.
وبعد عدة محاولات نال التعب من صفوان فأسند يداه على الجدار لاهثا بعنف وقطرات العرق تتدفق من جبينه مرددا بأنفاس متقطعة :
- ازاي نيجار تعمل فيا كده ... ازاي تخونني وتعملني مسخرة قدامهم ازاي تحطني في الموقف ده من غير خوف ولا كسوف ازاي.
- اهدا شويا مفيش فايدة من العصبية ديه كلها دلوقتي احمد ربك أنها جت ع قد كده و ابن سلطان مشترطش حاجة تانية علشان يسامحك.
هتفت بمواساة مربتة على كتفه ولا تستوعب هي الأخرى خيانة نيجار لهم ووقوفها للشهادة مع من كانت تعتبره عدوها اللدود، فطحن صفوان ضروسه بعصبية وحقد معقبا عليها :
- ياريته عمل حاجة تانية ياريته قتلني كان هيبقى أهون عليا بس ابن سلطان كان عارف كويس ان مفيش حركة هتكسرني زي ديه كان بيعرف اني مكنتش هتعصب كده حتى لو سحب مني أملاكي كلها.
هو اتعمد يذلني قدامهم يا أمي وكله بسبب الخاينة اللي ربيناها وسطينا ... بس أنا مش هسامحها وهدفعها التمن غالي اوي.
________________
في نهاية هذا اليوم الطويل ولج للغرفة بخطوات متثاقلة من التعب ولف أنظاره فيها حتى وقعت عليها وهي متسطحة على الفراش مولية ظهرها له وتغطي جسدها كليا فتجاهلها في البداية وغير ملابسه وذهب ليغتسل ثم عاد وأثنى ركبته على الطرف الآخر من الفراش وطالعها مغمغما :
- عارف انك مش نايمة.
لم يتلقَّ ردة فعل منها وبقيت على سكونها فتابع مضيفا :
- أنا لسه مفهمتش انتي ليه روحتي لوحدك فجأة بعد ما اتفقنا نروح مع بعض وبعدين انتي لسه من يومين بس قايلالي انك محتاجة وقت تفكري في الشهادة وكمان عشان تدبري مكان تروحيله من بعد ... طلاقنا.
- لأني كنت عارفة اني هبقى أنانية واختار اني مشهدش علشان افضل معاك لفترة أطول عشان كده طلعت من البيت اول ما استجمعت شجاعتي وروحت للعمدة مباشرة.
كتمت نيجار هذا الجواب بداخلها ولم تلق اعتبارا لروحها التي تحترق لترد بجملة أخرى صدرت منها باِقتضاب :
- مكنتش عايزة دوشة من عيلتك ولا محتاجة اسمع لإهانات ستك لما تقولها اني رايحة اشهد معاك.
صمتت لثوان ثم استطردت :
- ولو على اللي قولته للعمدة فأنا سبق وقولتلك اني هساعدك لأنك لحقتني ولأن صفوان وقعني في مصيبة فـ ازاي عايزني ازيدها عليك واتسببلك فمشكلة تانية وكل ده علشان تثبت تورط صفوان ماهو فكل الأحوال أنا كنت هقف معاك ضد عيلتي فقلت اخليني اتقلب عليهم عشان حاجة تستاهل على الأقل.
استمع لها آدم بتركيز تحول إلى استنكار في آخر ردها وبرطم متهكما :
- كتر خيرك طيب مع اني مش مقتنع بس هنبقى نشوف الموضوع ده بعدين ... هو انتي هتفضلي لافة نفسك كده ؟
ظنت نيجار أنه متضايق من نومها على السرير فأزاحت الغطاء من على جسدها واعتدلت جالسة بسرعة :
- أنا حسيت نفسي سقعانة شويا وجيت اتغطى لأني كسلت احط الفرشة ع الأرض بس هقوم دلوقتي ...
قبض آدم على ذراعها قبل أن تنهض وسارع في الشرح :
- أنا بقصد يعني هتفضلي نايمة ومتنزليش تاكلي ؟
- لأ مش جعانة.
- بطلي هبل انتي مكلتيش من فطار الصبح ومينفعش تنامي من غير عشا ممكن يغمى عليكي وماخدش بالي.
- بص والله أنا فيا اللي مكفيني ومش قادررة انزل واسمع كلمة واحدة ولا استحمل نظرة من نظرات أهلك ليا فسيبني كده أحسن.
أطرق آدم قليلا وهو يهز قدمه ثم نهض وفتح الباب مناديا على الخادمة وعندما جاءت طلب منها بهدوء :
- أنا مش هقدر انزل لتحت دلوقتي فممكن تجيبيلي صينية العشا لعندي.
تسمرت مكانها وحدجته ببلاهة لأنه لأول مرة يطلب تناول الطعام في غرفة نومه فضيق حاجبه ولوَّح بيده أمامها هاتفا :
- انتي سامعاني ياست أم محمود ؟
استفاقت وأومأت بسرعة مبرطمة بتلعثم :
- حضرتك تؤمر طبعا عايز حاجة تانية.
- ايوة ... عايز صينية كبيرة بتكفي لشخصين.
- ها ... اه طبعا طبعا.
هرعت الخادمة تنفذ أوامره مفكرة في رد فعل سيدتها حين تعلم أن حفيدها تخلَّف عن مكان تناول الطعام المعتاد أما آدم عاد للداخل ليجد نيجار غطت نفسها من جديد وكأنها تستعد للدخول في سبات شتوي عميق، تنهد بضجر وبعد دقائق طُرق الباب فأخذ الصينية ووضعها على المنضدة ثم اتجه ناحيتها وجعلها تجلس بالإجبار وهو يردد :
- قومي يلا كفاية دلع وتعالي اقعدي هنا.
تململت بين يديه بحنق تحول لدهشة عندما رأت المنضدة مليئة بالطعام فحادث ببصرها نحوه وتمتمت ببلاهة :
- ايه ده.
- زي ماانتي شايفة أنا جبت العشا للأوضة بما أن ست الحسن ملهاش مزاج تنزل قال ايه اللي فيها مكفيها فياريت تبطلي مقاوحة وأسئلة ملهاش لازمة لأنك وجعتيلي دماغي.
أجابها آدم بفظاظة وغلظة لم تزعجها قط بل على العكس أشرق وجهها بفرحة وأحست بالفراشات تتطاير في معدتها فجلست على المقعد مقابل المنضدة كما طلب منها ليفعل هو المثل ويأخذ مكانه أيضا تأملت نيجار الأطباق الموضوعة باِنتظام ولمعت عيناها بحماس هاتفة :
- الله حمام محشي وورق عنب أنا بحبهم اوي.
تعجب آدم من انقلاب حالها في ثوان بعدما كانت مكتئبة ثم بدأ بتناول الطعام معها في صمت مدقع قطعته هذه الأخيرة وهي تشير بإصبعها على صحن موضوع بجواره :
- انت بتقدر تديلي السلطة اللي جمبك ديه لو مش عايزها.
كادت شفته تتقلص في ابتسامة كتمها سريعا وأعطاها ما تريده وهو يردد بإستنكار :
- طالما كنتي جعانة للدرجة ديه فـ ايه لازمة حوار مليش نفس ومش عاوزة آكل ده ماكان من الأول.
همهمت نيجار وهزت كتفها ببساطة بينما تعلق عليه :
- أنا مكنتش عاوزة فيه بس نفسي اتفتحت ع الاكل لأن ديه اول مرة يقعد حد معايا وانا باكل من لما اتجوزنا من خمس شهور ... صحيح انت جبت العشا لهنا كنوع من المكافأة لأني شهدت معاك او علشان اشفقت عليا شويا بس ده ميمنعش اني لازم استغل الفرصة واستمتع بقعدتنا سوا.
تجمدت يد آدم لوهلة ورفع بصره لينظر لها وهي تدندن بمزاج رائق ثم تنحنح و ادعى شرب الماء حتى لا تكشف مايفكر به ...
بعد مدة كان يجلس على الفراش مطالعا نيجار التي نظفت الغرفة واستعدت للنوم فناداها من أجل الانتباه لحديثه وحينما فعلت ذلك قطب حاجباه وغمغم بجدية :
- بخصوص الموضوع اللي اتفقنا عليه من قبل.
انكمشت ملامحه باِنزعاج مجفلا من صوت ارتطام أخرق لإحدى الأغراض في الخزانة بالأرضية التي انتشلت يدها منها يديها لتلتفت إليه بلجلجة أخفتها وراء قناع البسالة وهي تعقب مباشرة :
- أيوة ... موضوع الطلاق.
اعتدل آدم بتحفز شاملا إياها بنظرة حارة أربكت مشاعرها قبل أن يقول بغموض :
- احنا قولنا أننا هنطلق اول ما صفوان يتكشف وننهي علاقتنا.
قفز قلبها بنبضتين دخيلتين واضطرب حلقها بتوتر لحظي لاح على ملامحها فسارعت تشغل يدها المرتجفة بتعديل خصلة من شعرها وهي تردد بدفاعية :
- انت اللي قولت مش أنا ... عموما انت عاوز ايه دلوقتي ناوي نتفق ع ميعاد الطلاق ؟
هذه المرة كان التوتر من نصيبه هو، التقطت ذلك على تقاسيم وجهه المتخشبة للحظات أحست بها أنه يفكر مليا قبل الإقدام على ما يقوله حتى استجمع كلماته وواجهها بسؤاله :
- انتي عندك مكان تروحيله بعد الطلاق ؟ بعتقد انه صعب ترجعي لبيت عيلتك دلوقتي.
- انت شاغل بالك ليه مكاني هيهمك في ايه ؟
برطمت نيجار تقاطعه باِندفاع لتتصلب الكلمات في حلق آدم قبل أن تتلاحق من فمه برعونة :
- أنا بس عاوز اعرف اذا عندك فكرة لسكنك الجديد ع الاقل يعني لو هترجعي لبيت الشرقاوي ولا تعملي حاجة تانية.
توسعت عيناها بخيبة دارتها سريعا خلف ملامح وجهها المتزمتة محتفظة بما تبقى لها من كبرياء :
- شكرا بس مفيش داعي تقلق نفسك انت لو عايز تطلقني في اللحظة ديه كمان اتفضل وأنا هعرف ادبر نفسي.
تقلصت تعبيراته باِستهجان واضح فنهض قاطعا المسافة بينهما حتى أصبحت أنفاسه تلفح بشرتها وهنا شتَّت تخبطها من اقترابه بنبرته السمجة وهو يعلق :
- تعرفي تدبري نفسك اه زي انك تستغفليني وتنطي من البلكونة بليل زي الحراميه.
كزت نيجار على أسنانها بغيظ من سخريته وأشاحت بوجهها عنه فاِنحنى عليها وهدر فوق وجنتها بخشونة سلبت عقلها من مكانه :
- لما تفكري بمنطقية زي الناس الواعية وتحددي هتروحي فين ابقي تعالي وقوليلي ساعتها انا هعرف لازم اعمل ايه ... ودلوقتي تصبحي على خير.
_________________
مرّ أسبوعان على آخر حادثة ومن وقتها لم يتكلم أحدهما عن الطلاق حيث أن آدم انشغل في مشروع المحل وكذلك مسألة مراد وأصبح يبيت في الخارج في أغلب الأيام أما نيجار فكانت تتلضى على الجمر كلما تفكر في أنه سيطلقها لقد أرادت كثيرا أن تعبر له عن مشاعرها ورغبتها في إكمال حياتها معه ولكن في كل مرة توشك على النطق تشعر بأن هناك سلاسل تقيد لسانها وتمنعها عن المتابعة ...
واليوم وبينما هي منشغلة في تنظيف مقاعد البهو جاءتها حكمت بوجه لا يبشر بالخير وأشرفت عليها من فوق لتنتبه لها هذه الأخيرة فتنهدت ووقفت هاتفة :
- نعم خير يا حكمت هانم.
حدجتها بنظرات ازدراء ساخطة وقالت :
- ومنين هيجي الخير طالما انتي موجودة في حياتنا ... لأ طالما عيلتك كلها لسه موجودة.
رسمت نيجار ابتسامة باردة على وجهها وعقبت على كلامها بضحكة مستفزة :
- بلاء بقى نعمل ايه هتعترضي على حكم ربنا وبعدين حضرتك لو شاغلة بالك بوجودي للدرجة ديه فـبحب أبشرك انك هتخلصي مني قريب اوي متشغليش بالك.
تحركت لتذهب فقبضت عليها الجدة وأعادتها إلى مكانها قاطبة حاجبيها باِنتباه :
- انتي قصدك ايه لتكوني ناوية تهربي تاني بس خدي بالك انك لو عملتي كده ملكيش رجعة للبيت ده.
ثم رفعت رأسها بزهو مضيفة :
- وبعدين انتي هتروحي ع فين ليه فضل عندك مكان يداريكي من غير البيت ده نسيتي انك وقفتي ضد عيلتك وخسرتيها ده لو اعتبروكي واحدة منهم أصلا بما انهم هما اللي خلوكي كبش الفدا ورموكِ عندنا، فـمتبقيش واثقة من نفسك اوي كده.
- أنا بقول ياريت حضرتك تلتهي في حبك لمصلحة عيلتك وقد ايه انتي بتفكري في أحفادك وسعادتهم ومتقلقيش عليا أنا.
أخرستها بجملتها الساخرة وذهبت إلى المطبخ بعصبية محدثة نفسها :
- الست ديه مش هتهدا إلا لما تجنني وتخليني اعمل فيها جريمة مش كفاية أن حفيدها البيه بيفكر بنفس الطريقة واللي هي انه معنديش مكان تاني اروحله جت حكمت كمان وقالت نفس الكلام.
ده أنا فضلت اسبوعين بحاول اتكلم معاه وهو بيتجاهلني وبيعاملني ببرود كأنه مستني مني امتى اقوله بتقدر تطلقني بس أنا فعلا مش مقطوعة من شجرة هسافر للمدينة واخلص منهم كلهم ... بس قبل كده لازم اكلم صفوان ومرات عمي.
تململت نيجار في مكانها باِضطراب حتى حسمت أمرها وتوجهت لحليمة طالبة منها هاتفها كي تحادث زوجها استغربت العمة في البداية وكادت ترفض لكنها تراجعت وطلبت رقمه ليجيب الآخر بعد لحظات :
- نعم يا عمتي.
حمحمت نيجار وانزوت بعيدا قليلا هاتفة بنبرة هادئة :
- ديه انا يا آدم.
اندهش من سماع صوتها واتصالها فقال :
- في ايه متصلة عليا ليه دلوقتي في حاجة حصلت ؟
- لا بس أنا كنت عاوزة استأذن منك علشان اروح لبيت عيلتي.
أجابته بتردد لتسمع زفرته العصبية فقاطعته فورا قبل أن يرفض :
- لو سمحت مهما حصل هيفضلو عيلتي محتاجة اقابلهم واحط النقط ع الحروف وأفهم الدنيا ماشية معايا ازاي ولو انت شاكك فيا فبتقدر تبعت حد يرافقني.
- ولو قولت لأ بردو هتعملي ايه ؟
- هسمع كلامك ومش هروح.
ردت عليه بصدق كاسرة ظنونه في كونها تخطط للتسلل من دون علمه فوقف آدم مفكرا للحظات قبل أن يأخذ نفسا عميقا ويزفره على مهل هاتفا :
- ماشي روحي مع السواق ومتتأخريش.
أشرق وجهها باِمتنان وأكدت تنفيذ كلامه وأغلقت الخط لتخرج تحت نظرات حكمت التي كادت تصاب بنوبة قلبية وهي تراها تغادر بسهولة ...
أما آدم فوقف في منتصف الاسطبل بجوار فاروق الذي تساءل :
- خير يا بيه في حاجة حصلت ؟
همهم متشدقا باِقتضاب وهو يداعب حصانه "سلطان" :
- كانت بتطلب مني اسمحلها تروح لبيت الشرقاوي.
- وانت وافقت ؟
- ايوة لأنها كانت مصرة.
أجابه ببرود من دون ان يقتنع هو نفسه بتبريره واستطرد :
- مالك مستغرب كده ليه ولا حتى انت بتقول ازاي بقى ينفذ طلباتها بسهولة.
لوّح الآخر بيده نافيا ظنه وشرح بجدية :
- ده مش حدي علشان اتدخل فيك ولا افكر فطبيعة علاقتك مع مراتك بس يعني حضرتك بتعرف ان مراتك وقفت في وش صفوان وبسبب شهادتها اتكشف وانذل قدام العمدة والمجلس والبلد كلها سمعت باللي حصل فأكيد هو دلوقتي حاقد على بنت عمه لدرجة كبيرة وممكن يؤذيها اول ما يشوفها خاصة انها روّحت لوحدها واحنا كلنا بنعرف ندالة صفوان وحقارته و انه مبيترددش قبل ما يفرغ غضبه في اي حد قدامه.
تيبست يد آدم عن مزاولة مايفعله ودق ناقوس الخطر بداخله مفكرا في مدى صحة حديث فاروق ومع الأسف كان يدرك جيدا طبيعة ذلك الوغد ويعلم بأنه حاقد على ابنة عمه بقدر حقده على عائلة الصاوي فحاول تشتيت انتباهه واقناع عقله أنه لن يتجرأ على المساس بها ... غير أن قلبه لم يقتنع وحين وصوله لهذه الفكرة ألقى المشط على الأرض وترك المزرعة متوجها لبيت عدوه ... حيث ذهبت هي !!
_________________
اضطربت أنامله على عجلة القيادة وبالكاد استطاع التركيز على الطريق أمامه، مراكز إحساسه كانت تلتقط إشارات مريبة وهو يرمقها بطرف عينه ويراها كيف تسند مرفقها على إطار نافذة السيارة وتميل رأسها على كف يدها بشرود، أدرك أنها تفكر في أحداث اليوم من خلال ملامح وجهها وعينيها المنطفئتين ولم يكن حالها يختلف عن حاله كثيرا لأنه مازال مشوشا من كمية الأحداث التي حصلت دون تدبير منه وخاصة ما قامت به نيجار وكيف أنها تسللت وقابلت العمدة بمفردها غافلين عنها جميعا.
بلل شفته وتنحنح مجليا صوته قائلا :
- ممكن افهم ايه اللي حصل النهارده بالضبط انتي قدرتي تطلعي من غير ما حد يحس عليكي ازاي أنا مشدد الحراسة من آخر مرة وعينت حرس زيادة كمان.
- يبقى اللي شغلتهم دول مكنوش قد المهمة لأني عرفت اهرب بسهولة.
ردت عليه نيجار بنبرة باهتة من غير أن تحرك حدقتيها فانكمش وجهه بلا رضا إثر برودها وأردف :
- طيب انتي جيتي من غيري ليه مش قولتلك اول ما تقرري هنروح مع بعض وقولتلك كمان مينفعش تتكلمي ع اللي حصل بجد واني مستعد اتحمل اللوم اومال مسمعتيش كلامي ليه.
- شوفت ان مفيش داعي نكدب على العمدة عشان هو هيشكفنا فكل الأحوال فقررت اوفر الوقت.
كانت تكذب بوضوح فهي لم تكن لتسمح بأن تجعله المخطئ في حادثة لا شأن له بها، ومع هذا لم يحصل آدم على رضاه من جوابها لأنه مازال متضايقا من تغفيلها للجميع وذهابها لبيت العمدة ووضعه تحت الأمر الواقع لذلك برطم بتزمت :
- مع ذلك مكنش لازم ترمي كلام يمين شمال من غير ماتفكري لانه كان ممكن الموضوع كله يتقلب عليكي وتعمليلي مشاكل ده غير انك رجعتي تواقحتي وعصيتي أوامري وهربتي من غير ماتفكري فشكلي قدام العيلة ... أنا مش عارف لازم اعمل ايه معاكي بالضبط.
تنهدت نيجار ونظرت له مجيبة بتلبد جعله يشعر وكأنه يحادث الفراغ :
- مش مهم طالما حصلت على اللي انت عايزه وخدت حقك من صفوان قدام كل الناس وخليته يبوس ايديك بعتقد أنه مفيش حاجة بتفرحك اكتر من ديه.
- حاسس بتريقة في صوتك خير انتي زعلتي على ابن عمك المسكين وبقيتي شايفاني أنا المفتري ولا ايه ... حاسة بالذنب لأنك شهدتي ضده.
- مقولتش حاجة على فكرة ممكن تبطل تكهنات وترجعني للسرايا بسرعة لأن دماغي هتتفركت من الصداع.
عادت لوضعيتها السابقة وألقت نظرها للخارج متأملة الشوارع بعشوائية فشد أصابعه على عجلة القيادة بضيق وتابع طريقه وبعد مدة وصلا للسرايا واستقبلتهما حليمة بتلهف مرددة :
- اللي سمعناه صحيح العمدة كشف أنه صفوان متورط في الاغتيال وفضحتوه.
قفزت ليلى من مكانها وتساءلت ببهجة :
- بجد حضرتك خليته يوطي ويبوس ايدك قدام رجالة المجلس كلهم.
نظر آدم لنيجار التي تلكأت في وقفتها بملل ثم تركتهم وصعدت إلى الغرفة فهز رأسه بإيجاب مغمغما :
- ايوة حصل بفضل نيجار لأنها هي اللي شهدت معايا.
نظرتا لبعضهما بحيرة وكادت العمة تسأله عن علاقة نيجار بالموضوع تماما لكن قاطعتها حكمت التي كانت جالسة في منتصف البهو ونهضت تقرع الأرض بدقات عكازها وهي تقترب منه مبرطمة بتصلب :
- طالما عيلتها السبب في اللي حصلك يبقى كان لازم عليها تشهد وتكشف ابن عمها هي معملتلناش خير نشكرها عليها.
كفاية انها رجعت خرجت زي الحرامية وخلت الحراس يقولو انها ممكن تكون هربت من بيت جوزها.
زفر آدم بإرهاق وحكَّ طرف جبينه قائلا :
- وأنا مقولتش انها عملت فينا خير ولازم نشكرها عشانه يا ستي، بس القصة هي انها وقفت ضد عيلتها وممكن ... خلاص انسي أنا رايح اقابل ابن الحج جمال عشان مشروع محل القماش وهوقع على العقد.
أماءت حكمت برضا مخفية انزعاجها من اهتمامه المستتر بتلك الأفعى اللعوب وأردفت :
- تروح وترجع بالسلامة ياحفيدي.
رحل آدم بهدوء فاِلتفتت ليلى إلى عمتها وهمست بحيرة :
- مش صفوان ده هو نفسه اللي نيجار ضحكت ع ابيه وطعنته وولعت النار في البيت اللي هما فيه عشانه ازاي فجأة كده شهدت ضده وأثبتت التهمة عليه ... البنت ديه مش سهلة أنا بعتقد أنها بتخطط لحاجة كبيرة تؤذي آدم بيها.
تململت حليمة بحيرة وهي تفكر في نفس الشيء تماما لأن انقلاب نيجار على أخيها في الرضاعة هو أمر يدعو للريبة والشك فهزت كتفاها بجهل متمتمة بأنها لا تملك توقعا تفيدها به ثم توجهت لغرفتها تتبعها الأخرى، أما حكمت فظلت واقفة مكانها ومركزة عيناها المشتعلتان على نقطة فارغة في الأرضية حتى همست بنبرة بليدة تبعث الرجفة في جسد من يسمعها :
- بت الشرقاوي تعلقت بآدم و حبته بجد المرة ديه وأنا بقى مش هكون الست هانم لو مستغليتش الموضوع ده لصالحي ... استني عليا انا عرفت ازاي احرقلك قلبك كويس.
***
دخل إلى غرفته وأغلق خلفه الباب متجاهلا نداءات أمه المضطربة وسار بخطوات بطيئة حتى وصل للمرآة وتوقف مطالعا إياها ولكنه لم يكن يرى انعكاسه وهو يقف الآن ...
بل رأى شخصا ينحني أمام الجميع ويعتذر من غريمه مقبلا يده بخنوع، شخصا لمح نظرات السخرية والازدراء مِن جميع مَن اغتر عليهم بنسبه يوما، نفس الشخص الذي احترقت روحه ودُعست كرامته بين الأحذية حين ابتسم له عدوه بشيطانية حملت الشماتة والانتصار معا ... نصراً كان هو فيه الحشرة الوحيدة !!
تطايرت الشياطين من حوله ودفقت عروقه حمما بدل الدماء ولم يطق تلك الصور التي يناظرها فأطلق صرخة هستيرية وقلب مرآة التسريحة على الأرض بعنف فتحطمت لأشلاء صغيرة صائحا فوقها بجنون مرعب :
- ازاي تعمل معايا كده ازاااي أنا صفوان الشرقاوي ازاي تخليني اوطي ع ايدك وأبوسها يا *** أنا هـقـتلـك هـقـتـلـك !
ثم طفق يحطم محتويات الغرفة بلا هوادة ويصرخ شاتما ولاعنا ومتوعدا لتقتحم جميلة المكان بهلع وتركض ناحيته محاولة إيقافه :
- بسم الله الرحمان الرحيم يابني اهدا مش كده ... صفوان بالله عليك متعملش في نفسك كده.
وبعد عدة محاولات نال التعب من صفوان فأسند يداه على الجدار لاهثا بعنف وقطرات العرق تتدفق من جبينه مرددا بأنفاس متقطعة :
- ازاي نيجار تعمل فيا كده ... ازاي تخونني وتعملني مسخرة قدامهم ازاي تحطني في الموقف ده من غير خوف ولا كسوف ازاي.
- اهدا شويا مفيش فايدة من العصبية ديه كلها دلوقتي احمد ربك أنها جت ع قد كده و ابن سلطان مشترطش حاجة تانية علشان يسامحك.
هتفت بمواساة مربتة على كتفه ولا تستوعب هي الأخرى خيانة نيجار لهم ووقوفها للشهادة مع من كانت تعتبره عدوها اللدود، فطحن صفوان ضروسه بعصبية وحقد معقبا عليها :
- ياريته عمل حاجة تانية ياريته قتلني كان هيبقى أهون عليا بس ابن سلطان كان عارف كويس ان مفيش حركة هتكسرني زي ديه كان بيعرف اني مكنتش هتعصب كده حتى لو سحب مني أملاكي كلها.
هو اتعمد يذلني قدامهم يا أمي وكله بسبب الخاينة اللي ربيناها وسطينا ... بس أنا مش هسامحها وهدفعها التمن غالي اوي.
________________
في نهاية هذا اليوم الطويل ولج للغرفة بخطوات متثاقلة من التعب ولف أنظاره فيها حتى وقعت عليها وهي متسطحة على الفراش مولية ظهرها له وتغطي جسدها كليا فتجاهلها في البداية وغير ملابسه وذهب ليغتسل ثم عاد وأثنى ركبته على الطرف الآخر من الفراش وطالعها مغمغما :
- عارف انك مش نايمة.
لم يتلقَّ ردة فعل منها وبقيت على سكونها فتابع مضيفا :
- أنا لسه مفهمتش انتي ليه روحتي لوحدك فجأة بعد ما اتفقنا نروح مع بعض وبعدين انتي لسه من يومين بس قايلالي انك محتاجة وقت تفكري في الشهادة وكمان عشان تدبري مكان تروحيله من بعد ... طلاقنا.
- لأني كنت عارفة اني هبقى أنانية واختار اني مشهدش علشان افضل معاك لفترة أطول عشان كده طلعت من البيت اول ما استجمعت شجاعتي وروحت للعمدة مباشرة.
كتمت نيجار هذا الجواب بداخلها ولم تلق اعتبارا لروحها التي تحترق لترد بجملة أخرى صدرت منها باِقتضاب :
- مكنتش عايزة دوشة من عيلتك ولا محتاجة اسمع لإهانات ستك لما تقولها اني رايحة اشهد معاك.
صمتت لثوان ثم استطردت :
- ولو على اللي قولته للعمدة فأنا سبق وقولتلك اني هساعدك لأنك لحقتني ولأن صفوان وقعني في مصيبة فـ ازاي عايزني ازيدها عليك واتسببلك فمشكلة تانية وكل ده علشان تثبت تورط صفوان ماهو فكل الأحوال أنا كنت هقف معاك ضد عيلتي فقلت اخليني اتقلب عليهم عشان حاجة تستاهل على الأقل.
استمع لها آدم بتركيز تحول إلى استنكار في آخر ردها وبرطم متهكما :
- كتر خيرك طيب مع اني مش مقتنع بس هنبقى نشوف الموضوع ده بعدين ... هو انتي هتفضلي لافة نفسك كده ؟
ظنت نيجار أنه متضايق من نومها على السرير فأزاحت الغطاء من على جسدها واعتدلت جالسة بسرعة :
- أنا حسيت نفسي سقعانة شويا وجيت اتغطى لأني كسلت احط الفرشة ع الأرض بس هقوم دلوقتي ...
قبض آدم على ذراعها قبل أن تنهض وسارع في الشرح :
- أنا بقصد يعني هتفضلي نايمة ومتنزليش تاكلي ؟
- لأ مش جعانة.
- بطلي هبل انتي مكلتيش من فطار الصبح ومينفعش تنامي من غير عشا ممكن يغمى عليكي وماخدش بالي.
- بص والله أنا فيا اللي مكفيني ومش قادررة انزل واسمع كلمة واحدة ولا استحمل نظرة من نظرات أهلك ليا فسيبني كده أحسن.
أطرق آدم قليلا وهو يهز قدمه ثم نهض وفتح الباب مناديا على الخادمة وعندما جاءت طلب منها بهدوء :
- أنا مش هقدر انزل لتحت دلوقتي فممكن تجيبيلي صينية العشا لعندي.
تسمرت مكانها وحدجته ببلاهة لأنه لأول مرة يطلب تناول الطعام في غرفة نومه فضيق حاجبه ولوَّح بيده أمامها هاتفا :
- انتي سامعاني ياست أم محمود ؟
استفاقت وأومأت بسرعة مبرطمة بتلعثم :
- حضرتك تؤمر طبعا عايز حاجة تانية.
- ايوة ... عايز صينية كبيرة بتكفي لشخصين.
- ها ... اه طبعا طبعا.
هرعت الخادمة تنفذ أوامره مفكرة في رد فعل سيدتها حين تعلم أن حفيدها تخلَّف عن مكان تناول الطعام المعتاد أما آدم عاد للداخل ليجد نيجار غطت نفسها من جديد وكأنها تستعد للدخول في سبات شتوي عميق، تنهد بضجر وبعد دقائق طُرق الباب فأخذ الصينية ووضعها على المنضدة ثم اتجه ناحيتها وجعلها تجلس بالإجبار وهو يردد :
- قومي يلا كفاية دلع وتعالي اقعدي هنا.
تململت بين يديه بحنق تحول لدهشة عندما رأت المنضدة مليئة بالطعام فحادث ببصرها نحوه وتمتمت ببلاهة :
- ايه ده.
- زي ماانتي شايفة أنا جبت العشا للأوضة بما أن ست الحسن ملهاش مزاج تنزل قال ايه اللي فيها مكفيها فياريت تبطلي مقاوحة وأسئلة ملهاش لازمة لأنك وجعتيلي دماغي.
أجابها آدم بفظاظة وغلظة لم تزعجها قط بل على العكس أشرق وجهها بفرحة وأحست بالفراشات تتطاير في معدتها فجلست على المقعد مقابل المنضدة كما طلب منها ليفعل هو المثل ويأخذ مكانه أيضا تأملت نيجار الأطباق الموضوعة باِنتظام ولمعت عيناها بحماس هاتفة :
- الله حمام محشي وورق عنب أنا بحبهم اوي.
تعجب آدم من انقلاب حالها في ثوان بعدما كانت مكتئبة ثم بدأ بتناول الطعام معها في صمت مدقع قطعته هذه الأخيرة وهي تشير بإصبعها على صحن موضوع بجواره :
- انت بتقدر تديلي السلطة اللي جمبك ديه لو مش عايزها.
كادت شفته تتقلص في ابتسامة كتمها سريعا وأعطاها ما تريده وهو يردد بإستنكار :
- طالما كنتي جعانة للدرجة ديه فـ ايه لازمة حوار مليش نفس ومش عاوزة آكل ده ماكان من الأول.
همهمت نيجار وهزت كتفها ببساطة بينما تعلق عليه :
- أنا مكنتش عاوزة فيه بس نفسي اتفتحت ع الاكل لأن ديه اول مرة يقعد حد معايا وانا باكل من لما اتجوزنا من خمس شهور ... صحيح انت جبت العشا لهنا كنوع من المكافأة لأني شهدت معاك او علشان اشفقت عليا شويا بس ده ميمنعش اني لازم استغل الفرصة واستمتع بقعدتنا سوا.
تجمدت يد آدم لوهلة ورفع بصره لينظر لها وهي تدندن بمزاج رائق ثم تنحنح و ادعى شرب الماء حتى لا تكشف مايفكر به ...
بعد مدة كان يجلس على الفراش مطالعا نيجار التي نظفت الغرفة واستعدت للنوم فناداها من أجل الانتباه لحديثه وحينما فعلت ذلك قطب حاجباه وغمغم بجدية :
- بخصوص الموضوع اللي اتفقنا عليه من قبل.
انكمشت ملامحه باِنزعاج مجفلا من صوت ارتطام أخرق لإحدى الأغراض في الخزانة بالأرضية التي انتشلت يدها منها يديها لتلتفت إليه بلجلجة أخفتها وراء قناع البسالة وهي تعقب مباشرة :
- أيوة ... موضوع الطلاق.
اعتدل آدم بتحفز شاملا إياها بنظرة حارة أربكت مشاعرها قبل أن يقول بغموض :
- احنا قولنا أننا هنطلق اول ما صفوان يتكشف وننهي علاقتنا.
قفز قلبها بنبضتين دخيلتين واضطرب حلقها بتوتر لحظي لاح على ملامحها فسارعت تشغل يدها المرتجفة بتعديل خصلة من شعرها وهي تردد بدفاعية :
- انت اللي قولت مش أنا ... عموما انت عاوز ايه دلوقتي ناوي نتفق ع ميعاد الطلاق ؟
هذه المرة كان التوتر من نصيبه هو، التقطت ذلك على تقاسيم وجهه المتخشبة للحظات أحست بها أنه يفكر مليا قبل الإقدام على ما يقوله حتى استجمع كلماته وواجهها بسؤاله :
- انتي عندك مكان تروحيله بعد الطلاق ؟ بعتقد انه صعب ترجعي لبيت عيلتك دلوقتي.
- انت شاغل بالك ليه مكاني هيهمك في ايه ؟
برطمت نيجار تقاطعه باِندفاع لتتصلب الكلمات في حلق آدم قبل أن تتلاحق من فمه برعونة :
- أنا بس عاوز اعرف اذا عندك فكرة لسكنك الجديد ع الاقل يعني لو هترجعي لبيت الشرقاوي ولا تعملي حاجة تانية.
توسعت عيناها بخيبة دارتها سريعا خلف ملامح وجهها المتزمتة محتفظة بما تبقى لها من كبرياء :
- شكرا بس مفيش داعي تقلق نفسك انت لو عايز تطلقني في اللحظة ديه كمان اتفضل وأنا هعرف ادبر نفسي.
تقلصت تعبيراته باِستهجان واضح فنهض قاطعا المسافة بينهما حتى أصبحت أنفاسه تلفح بشرتها وهنا شتَّت تخبطها من اقترابه بنبرته السمجة وهو يعلق :
- تعرفي تدبري نفسك اه زي انك تستغفليني وتنطي من البلكونة بليل زي الحراميه.
كزت نيجار على أسنانها بغيظ من سخريته وأشاحت بوجهها عنه فاِنحنى عليها وهدر فوق وجنتها بخشونة سلبت عقلها من مكانه :
- لما تفكري بمنطقية زي الناس الواعية وتحددي هتروحي فين ابقي تعالي وقوليلي ساعتها انا هعرف لازم اعمل ايه ... ودلوقتي تصبحي على خير.
_________________
مرّ أسبوعان على آخر حادثة ومن وقتها لم يتكلم أحدهما عن الطلاق حيث أن آدم انشغل في مشروع المحل وكذلك مسألة مراد وأصبح يبيت في الخارج في أغلب الأيام أما نيجار فكانت تتلضى على الجمر كلما تفكر في أنه سيطلقها لقد أرادت كثيرا أن تعبر له عن مشاعرها ورغبتها في إكمال حياتها معه ولكن في كل مرة توشك على النطق تشعر بأن هناك سلاسل تقيد لسانها وتمنعها عن المتابعة ...
واليوم وبينما هي منشغلة في تنظيف مقاعد البهو جاءتها حكمت بوجه لا يبشر بالخير وأشرفت عليها من فوق لتنتبه لها هذه الأخيرة فتنهدت ووقفت هاتفة :
- نعم خير يا حكمت هانم.
حدجتها بنظرات ازدراء ساخطة وقالت :
- ومنين هيجي الخير طالما انتي موجودة في حياتنا ... لأ طالما عيلتك كلها لسه موجودة.
رسمت نيجار ابتسامة باردة على وجهها وعقبت على كلامها بضحكة مستفزة :
- بلاء بقى نعمل ايه هتعترضي على حكم ربنا وبعدين حضرتك لو شاغلة بالك بوجودي للدرجة ديه فـبحب أبشرك انك هتخلصي مني قريب اوي متشغليش بالك.
تحركت لتذهب فقبضت عليها الجدة وأعادتها إلى مكانها قاطبة حاجبيها باِنتباه :
- انتي قصدك ايه لتكوني ناوية تهربي تاني بس خدي بالك انك لو عملتي كده ملكيش رجعة للبيت ده.
ثم رفعت رأسها بزهو مضيفة :
- وبعدين انتي هتروحي ع فين ليه فضل عندك مكان يداريكي من غير البيت ده نسيتي انك وقفتي ضد عيلتك وخسرتيها ده لو اعتبروكي واحدة منهم أصلا بما انهم هما اللي خلوكي كبش الفدا ورموكِ عندنا، فـمتبقيش واثقة من نفسك اوي كده.
- أنا بقول ياريت حضرتك تلتهي في حبك لمصلحة عيلتك وقد ايه انتي بتفكري في أحفادك وسعادتهم ومتقلقيش عليا أنا.
أخرستها بجملتها الساخرة وذهبت إلى المطبخ بعصبية محدثة نفسها :
- الست ديه مش هتهدا إلا لما تجنني وتخليني اعمل فيها جريمة مش كفاية أن حفيدها البيه بيفكر بنفس الطريقة واللي هي انه معنديش مكان تاني اروحله جت حكمت كمان وقالت نفس الكلام.
ده أنا فضلت اسبوعين بحاول اتكلم معاه وهو بيتجاهلني وبيعاملني ببرود كأنه مستني مني امتى اقوله بتقدر تطلقني بس أنا فعلا مش مقطوعة من شجرة هسافر للمدينة واخلص منهم كلهم ... بس قبل كده لازم اكلم صفوان ومرات عمي.
تململت نيجار في مكانها باِضطراب حتى حسمت أمرها وتوجهت لحليمة طالبة منها هاتفها كي تحادث زوجها استغربت العمة في البداية وكادت ترفض لكنها تراجعت وطلبت رقمه ليجيب الآخر بعد لحظات :
- نعم يا عمتي.
حمحمت نيجار وانزوت بعيدا قليلا هاتفة بنبرة هادئة :
- ديه انا يا آدم.
اندهش من سماع صوتها واتصالها فقال :
- في ايه متصلة عليا ليه دلوقتي في حاجة حصلت ؟
- لا بس أنا كنت عاوزة استأذن منك علشان اروح لبيت عيلتي.
أجابته بتردد لتسمع زفرته العصبية فقاطعته فورا قبل أن يرفض :
- لو سمحت مهما حصل هيفضلو عيلتي محتاجة اقابلهم واحط النقط ع الحروف وأفهم الدنيا ماشية معايا ازاي ولو انت شاكك فيا فبتقدر تبعت حد يرافقني.
- ولو قولت لأ بردو هتعملي ايه ؟
- هسمع كلامك ومش هروح.
ردت عليه بصدق كاسرة ظنونه في كونها تخطط للتسلل من دون علمه فوقف آدم مفكرا للحظات قبل أن يأخذ نفسا عميقا ويزفره على مهل هاتفا :
- ماشي روحي مع السواق ومتتأخريش.
أشرق وجهها باِمتنان وأكدت تنفيذ كلامه وأغلقت الخط لتخرج تحت نظرات حكمت التي كادت تصاب بنوبة قلبية وهي تراها تغادر بسهولة ...
أما آدم فوقف في منتصف الاسطبل بجوار فاروق الذي تساءل :
- خير يا بيه في حاجة حصلت ؟
همهم متشدقا باِقتضاب وهو يداعب حصانه "سلطان" :
- كانت بتطلب مني اسمحلها تروح لبيت الشرقاوي.
- وانت وافقت ؟
- ايوة لأنها كانت مصرة.
أجابه ببرود من دون ان يقتنع هو نفسه بتبريره واستطرد :
- مالك مستغرب كده ليه ولا حتى انت بتقول ازاي بقى ينفذ طلباتها بسهولة.
لوّح الآخر بيده نافيا ظنه وشرح بجدية :
- ده مش حدي علشان اتدخل فيك ولا افكر فطبيعة علاقتك مع مراتك بس يعني حضرتك بتعرف ان مراتك وقفت في وش صفوان وبسبب شهادتها اتكشف وانذل قدام العمدة والمجلس والبلد كلها سمعت باللي حصل فأكيد هو دلوقتي حاقد على بنت عمه لدرجة كبيرة وممكن يؤذيها اول ما يشوفها خاصة انها روّحت لوحدها واحنا كلنا بنعرف ندالة صفوان وحقارته و انه مبيترددش قبل ما يفرغ غضبه في اي حد قدامه.
تيبست يد آدم عن مزاولة مايفعله ودق ناقوس الخطر بداخله مفكرا في مدى صحة حديث فاروق ومع الأسف كان يدرك جيدا طبيعة ذلك الوغد ويعلم بأنه حاقد على ابنة عمه بقدر حقده على عائلة الصاوي فحاول تشتيت انتباهه واقناع عقله أنه لن يتجرأ على المساس بها ... غير أن قلبه لم يقتنع وحين وصوله لهذه الفكرة ألقى المشط على الأرض وترك المزرعة متوجها لبيت عدوه ... حيث ذهبت هي !!