رواية طائف في رحلة أبدية الفصل الرابع عشر 14 بقلم تميمة نبيل
الفصل الرابع عشر
عادت تيماء الى وقفتها الحالية...
علي سطح قصر الرفاعية، حيث تقف في ظلام الليل الحالك، الهواء الجليدي يلفح وجهها، بينما كفيها قد تجمدا على السطح الرخامي و قد تاهت في ذكرياتها...
لم تدرك أن الدموع تغرق وجهها، و تتجمد على بشرتها التي تماثل الرخام برودة...
منذ ليلة يوم مولدها السابع عشر و كل شيء قد تغير بلمح البصر...
كاد اعترافها البسيط بالحب أن يذهب عقله وهو ينظر اليها بذهول...
هل كان هو من نطق باسمها، أم هي من همست باسمه...
لا تتذكر، من بين كل تلك التفاصيل المتداخلة لم تتذكر سوى ذراعاه و هي تجذبانها الى صدره...
وقفها على قدميها، و يقودها الى مكان مخصص للرقص...
لم تعترض، و على ما يبدو أنه كان أضعف من أن يمتلك المزيد من السيطرة...
وجدت نفسها تميل على صدره، يدها على قلبه، و ذراعه تلفها...
أنفاسه تلامس جبهتها، بسخونة مهلكة...
وجهه منحني اليها و عيناه شبه مغمضتين...
كفه تحرق ظهرها، و هي لا تمانع، و الأغنية المنبعثة لا تساعدها على استجماع استيعابها
غرباء في الليل، الكلمات و اللحن كانا يذهبان بعقلها، بينما قلبها يصرخ غير مصدقا لما يحدث...
هل هي هنا بالفعل و قاصي يراقصها؟
هل استسلم و اعترف؟
لكنه لم يعترف بعد!، أم أنه فعل؟
لا تزال تتذكر أول عبارة نطق بها، بصوت عميق جدا كبحر قاتم، هادىء هدوء الليل
(تعرفين أن كل شيء سيتغير من اليوم، أليس كذلك؟).
هل كان يريد اخافتها؟، لكن كيف تخاف منه؟
أغمضت عينيها و تنهدت و هي تهمس رقة
(أعرف، أصمت الآن)
يضمها الى صدره، و يقول بخفوت في أذنها
(لا أقبل بأقل من الملكية الحصرية)
ابتسمت دون أن تفتح عينيها، و همست برقة تريد سماع اللحن...
(أعرف، اصمت الآن)
و ضمها اليه أكثر وهو يدور بها، قبل أن يقول بخفوت مثير للرجفة
(من أين ظهرت لي؟، ليس وقتك و لست أنا أهلا لك)
ابتسمت أكثر باستياء حنون هذه المرة قبل أن تهمس بخفوت.
(بل أنا أرضك و أهلك، هشششششش لا مزيد من الكلمات الآن، فقط راقصني)
كان ضربا من الجنون، لم تدركه يومها، و لم يدركه هو أيضا...
كانت ليلة مجنونة، لم تظن أن تسلم له قلبها لفظيا بكل هذه السهولة، و لم تظن أن يتقبله بسهولة أكبر منها و كأنه كان متلهفا لها...
بعد سنة كاملة مضنية من النظرات المختلسة، الاهتمام المقيد، اللهفة المتداعية شوقا...
كانا و كأنهما انتظرا هذا اليوم منذ سنوات طويلة دون حتى أن يدركا...
شهقت تيماء شهقة بكاء أعلى و هي تضع يدها على فمها...
كانت قد أوهمت نفسها أنها نسيت...
أجبرت نفسها قسرا على افتعال النسيان، لكن من تملك ذرة من روح و تنساه...
فغرت شفتيها فجأة و هي تسمع صوت صهيل فرس...
فمدت نفسها من فوق السور، لتراه...
لترى قاصي يخرج منطلقا كالريح على ظهر فرس جامحة الى خارج أبواب القصر...
هتفت فجأة بقوة و قلبها ينتفض
(قاااااااااااااااااااااصي).
لكن لم يكن هناك من يسمعها، بل ضاع صوتها مع صوت صفير الرياح...
لا تريده أن يرحل، لا تريده أن يبتعد عن ناظريها
حتى لو كانت تبغضه في تلك اللحظة، لكنها تدري بأي حال هو...
تدري انه قد فتح منذ ساعة جرحا مليئا بالقيح و الصديد...
جرحا متورما عاش على ألمه سنوات شبابه كلها...
و هي زادت من جرحه اليوم، حين قالت أنه يقرفها...
لم تقصد ما تفوهت به تماما، لكن ماذا كان عليها القول بعد أن رأته يمسك بكفي مسك؟..
تحركت تيماء عن السور مبتعدة، عليها أن تواجه جدها...
عليها أن تفعل أي شيء...
اندفعت تنزل السلالم الداخلية الى أن وصلت للبهو السفلي، تدير وجهها بكل مكان بحثا عن جدها
الى أن وجدت ام سعيد، تتحرك حاملة صينية ضخمة الحجم، تتراص عليها أقداح القهوة، برائحتها القوية النفاذة...
أمسكت تيماء بذراعها و هي تقول بلهفة
(أين جدي يا أم سعيد؟، أين الحاج سليمان الرافعي؟).
رفعت أم سعيد اليها وجهها قلقا في أول بادرة انسانية منها، ثم قالت بصوت غير مرتاح
(الحاج سليمان قرر الإختلاء في جناحه، لن يرى أحدا الليلة، حتى أنه صرف المأدبة الضخمة التي نعدها و أمر بصعود الطعام الى الغرف، هذه المرة الأولى التي يتصرف فيها الحاج بهذه الطريقة في المأدبة، أخشى أن يكون، مريضا حفظه الله من كل سوء).
شحب وجه تيماء و هي تستمع اليها بتوتر، نعم، جدها قد تقدم سنه ووهنت قواه على الرغم من الهيبة التي لا تزال تحيط به، و من المؤكد أن صحته لا تتحمل مثل هذا الضغط العصبي الذي تعرض له...
فقالت بقوة و هي تشد على ذراع أم سعيد
(أريد أن أقابله، هل يمكنني الصعود الى جناحه؟)
رفعت أم سعيد حاجبيها بهلع و هي ترفع ذقنها قائلة برهبة.
(من رابع المستحيلات، حين يقرر الحاج سليمان أنه يريد الخلوة في جناحه فلا أحد يتجرأ على اقتحام هذه الخلوة)
هتفت تيماء برجاء
(ماذا لو كان متعبا؟، ماذا لو كان يحتاج الى مساعدة دون أن ندري)
قالت أم سعيد بإصرار عنيد دون أن تهتز بها شعرة
(من المستحيل، أوامر الحاج لا تناقش، اقتصري الشر و اصعدي الى جناحك مع أختك، لقد تم اعداد الغرفة التي ستتشاركانها)
أخفضت تيماء كفها بتعب.
هل ستتشارك الغرفة مع مسك؟، هذا ما كان ينقصها!، إنها أضعف من ان تواجهها الآن...
و لمدة ليلة كاملة!، أما آن لها أن تصحو من هذا الكابوس المضني؟
تحركت تيماء تجر ساقيها بتعب تجاه السلم، متخاذلة القوى، منحنية الكتفين...
نادت أم سعيد من خلفها
(هل ستصعدين الى غرفتك من الآن؟، أنتظري حتى أضع الصينية و أرشدك اليها)
استدارت اليها تيماء بتعب و همست بلا حياة
(فقط أخبريني أين هي)
قالت أم سعيد.
(انها في الطابق الثالث، رابع غرفة يمينية)
أومأت تيماء برأسها دون أن ترد، ثم جرت قدميها صعودا...
وصلت الى الغرفة و هي تتمنى لو قررت مسك الهرب و العودة من حيث أتت...
أو على الأقل الا تصعد الى الغرفة قبل أن تنام هي...
أمسكت تيماء بمقبض باب الغرفة و هي تضحك بمرارة مقهورة، ثم همست.
تنامين؟، إنها أكبر خدعة متدنية يا تيماء، توقعت منك الأفضل، فتحت الباب و دخلت، الا أنها تسمرت حين وجدت مسك مستلقية على سرير خشبي ضخم، مزغرف بالأرابيسك...
كانت مغمضة عينيها و على ما يبدو أنها قد راحت في سبات عميق بملابسها...
وقفت تيماء مكانها تتنفس بسرعة، راغبة في الهرب من هنا قبل أن تنتبه لها، فهي لا تريد رؤيتها أو سماع صوتها حاليا...
وقفت مكانها مرتبكة قليلا تنوى الإستدارة و الرحيل، الا أن مسك تكلمت أخيرا بهدوء دون أن تفتح عينيها
(هل تنوين البقاء عندك طويلا؟، أدخلي و أغلقي الباب، لا تخشين شيئا فأنا لن أقتلك و انت نائمة)
تشنجت تيماء مكانها و أرادت صفق الباب و الذهاب، الا انها آثرت تمرير تلك الليلة العجيبة دون المزيد من الكوارث، فقد فقدت قواها حقا...
دخلت و أغلقت الباب خلفها بهدوء، قبل أن تقف في منتصف الغرفة لا تدري كيف تتصرف...
نظرت حولها تتأمل كمال تلك الغرفة الشرقية الفخمة، و القديمة الطراز جدا، و كأنها تحمل نفس عراقة المكان ككل جزء به...
حينها فتحت مسك عينيها تنظر اليها أخيرا لتقول بهدوء دون أن تتحرك
(ماذا بك؟، تبدين أكثر صدمة مني، و على وشك السقوط، على الرغم من أنني أنا من خطبت دون اذنها)
اشتعلت عينا تيماء ببريق قوي منفعل قبل أن تندفع لتجلس على حافة سريرها الآخر المفترض، ثم مالت للأمام قائلة بقوة و حدة.
(اذن كيف ستتصرفين يا مسك؟)
مالت مسك على جانبها ببطىء و نعومة كقطة بيضاء لتواجهها. ثم قالت بخفوت
(ماذا تقصدين؟)
ازداد غضب تيماء و أوشك على أن يكون جنونا منفجرا، الا أنها اخذت نفسا عميقا و هي تعد للعشر بداخلها قبل أن تقول بصبر واه...
قالت تيماء بقوة
(كيف ستفرين من تلك الخطبة؟)
رفعت مسك حاجبيها و هي تقول بصوت خافت أنثوي
(من قال أنني أفر من أي شيء؟).
تراجعت تيماء في جلستها للخلف و هي تنظر اليها بذهولا، طويلا جدا، قبل أن تقول أخيرا بصوت ميت، غير مدرك
(ما بالكما أنتما الإثنان؟، أنتما تكرران نفس الكلام، ما اللعبة التي تلعبانها معي؟)
ارتفع حاجب مسك و هي ترمق تيماء بتمعن قبل أن تقول بصوت هادىء، ساخر قليلا
(نلعب معك لعبة؟، أنت فعلا لا تزالين صغيرة السن)
صمتت و هي تتمدد مجددا على ظهرها ناظرة الى السقف، ثم تابعت ببرود.
(ما حدث لا يمكن وصفه باللعب يا تيماء، لا شيء هنا يخضع للعب، بل يخضع لقانون العائلة)
كانت تيماء تتنفس بسرعة و توتر مختنق
(لكنك كنت شديدة الغضب منذ ساعة، الآن تبدين، تبدين هادئة تماما، هل أنت موافقة على)
رمشت بعينيها غير قادرة على المتابعة، كان الإعتراف أشد ألما من أن تنطقه...
فنظرت اليها مسك بعينين بريئتين و هي تساعدها في الكلام قائلة.
(موافقة على الزواج من قاصي؟، هل هذا هو ما تقصدينه؟، حسنا موافقتي أو عدمها ليست هي المعضلة الآن)
شعرت تيماء بغصة مسننة حادة في حلقها، تكاد أن تشتطر أنفاسها قبل أن تغادر شفتيها...
بينما تابعت مسك قائلة بهدوء
(المعضلة هي أن يغير جدك رأيه)
شعرت تيماء بأنها على وشك الإغماء، لكنها تمكنت من القول بإعياء
(و ماذا لو لم يغير رأيه؟، هل سترضخين؟)
نظرت مسك اليها طويلا قبل أن تقول بخفوت.
(هذا أمر سابق لأوانه، من المفترض أنني أهدىء من غضبي حاليا و أنت لا تقدمين العون هنا)
شعرت تيماء بغثيان قوي و أن أنفاسها متحشرجة في حلقها...
فقامت من مكانها قبل أن تنهار، تريد الحصول على بعض الهواء...
تقدمت الى المرآة المذهبة الضخمة وسارعت الى فك حجابها بأصابع مرتجفة خرقاء، حتى وقع شالها أرضا، و تبعته بدبابيس شعرها الكثيرة التي كادت أن تمزق رأسها بعد هذا اليوم الطويل المضني...
أخذ شعرها في التساقط تدريجيا و ليس دفعة واحدة...
كانت خصلاته المجعدة تتشابك و تلتوي و هي تتحرر ببطىء متساقطة بكل ثقلها فوق ظهرها...
انتهت أخيرا، فرفعت أصابع كفيها لتدلك بهما جانبي جبهتها متأوهة بألم، موجع، موجع...
أشد وجعا من اي شيء آخر...
أخفضت تيماء وجهها و هي تستند بكفيها الى طاولة الزينة، بينما لم ترى مسك من خلفها و هي تنظر منبهرة بشعرها النحاسي شديد التجعد و التمرد و الذي وصل طوله الى، خصرها؟
لم يكن شعرها ناعما، لكن منظره كان يخطف الأنظار من شدة تجعيداته و انكسارته...
و اطالته لهذه الدرجة جعلت منها لوحة غريبة الشكل...
شردت عينا مسك في شعر تيماء طويلا، بينما كانت أصابعها تتلاعب بخصلة ناعمة كالحرير من خصلات شعرها الواصل الى حدود كتفها...
و تذكرت يوما كان شعرها يفوق شعر تيماء طولا...
رمشت مسك بعينيها ترفض أي مظهر من مظاهر الرثاء على الذات، بل على العكس عليها أن تكون ممتنة جدا، و هي بالفعل شديدة الإمتنان، و الحمد...
اليست محاربة؟
تنحنحت مسك لتقول بهدوء بطيء
(علمت أنك ستدرسين في جامعتك، مبارك لك)
رفعت تيماء وجهها الشاحب لتنظر الى وجه مسك في المرآة، بعينين جامدتين تشعران بالنفور...
و كان هذا رغما عنها، ربما لم تكن مسك مدانة في شيء...
لكن تيماء في هذه اللحظة كانت تشعر بنفور هو أقرب للغثيان، و هدوء مسك حيال الأمر يزيد من هذا الغثيان بقوة...
ردت تيماء أخيرا بصوت جامد، يكاد أن يكون قاسيا قليلا
(ليس بعد، أنتظر نيل درجة الدكتوراة من الخارج)
رفعت مسك حاجبيها و هي تقول بصدق
(رائع، هذا ممتاز تماما، لكن ماذا عن؟)
صمتت قليلا و هي تتراجع عما كانت تنوي قوله، الا أن تيماء استدارت اليها و استندت الى طاولة الزينة من خلفها.
فساقيها لا تقويان على حملها ابدا، ثم قالت بفتور باهت
(ماذا عن؟، تابعي ما كنت تنوين قوله)
فتحت مسك شفتيها للحظة قبل أن تقول بهدوء
(خطبتك، من المقرر أن تخطبين لأحد ابناء اعمامك)
استقامت تيماء واقفة و هي تقول مندفعة بشراسة
(هذا ما لن يكون أبدا)
ارتفع حاجبي مسك و هي تقول بشك
(حقا؟، اذن سأسألك نفس سؤالك، الذي ظننته سهلا، كيف ستتصرفين؟، أو الأصح كيف ستفرين؟)
نظرت تيماء اليها بصمت طويلا، قبل أن تقول ببرود.
(لا أحتاج للفرار يا مسك، أنا وضعي يختلف عنكم، أنا لا أخضع لقوانين تلك العائلة، فأنا لا أدين لها بشيء، و لا أحمل لها أي امتنان)
قالت مسك و هي تؤرجح ساقا فوق الأخرى
(حتى جدك؟، ظننتك ممتنة له، هكذا ظهرت و انت متشبثة بكفه الليلة، يستند عليك مثل عصاه)
اهتزت حدقتي تيماء و هي تستمع الى كلام مسك البسيط الهادىء...
نعم، هي مدينة لسليمان الرافعي بالكثير، أو ربما بشيء واحد فقط، هو بالنسبة لها الحياة كلها...
مدينة له بحياتها...
استدارت تيماء تنظر الى نفسها في المرآة مطولا...
هيئتها توحي بالتمرد، بدئا من قامتها المتحفزة دائما، و شعرها الذي لا يخضع للسيطرة مثلها...
لكن عيناها كانتا قصة أخرى...
كانتا ضعيفتين بفعل كلام مسك...
وحادتي الغيرة، و عاشقتين!
سارعت بأخفاض وجهها و هي تهمس بذهول و صدمة.
تبا، تبا يا تيماء، أنت تسقطين في رمال متحركة، اهربي بنفسك قبل فوات الأوان، تنهدت مسك بنفاذ صبر و هي ترجع رأسها للخلف محدقة بالسقف...
و تتسائل لماذا لا تشعر بالهيستيرية مثل تيماء؟
هل فقدت اهتمامها بكل شيء؟، حتى بات قاصي كغيره؟
أم أن كل الأمور تضائلت أهميتها أمام فرصتها الثانية في الحياة؟
أفاقت من أفكارها على صوت رنين في هاتفها يعلن عن وصول بريد الكتروني...
فعقدت حاجبيها و هي تفتح الرسالة، لتفاجأ بأنها رسالة من الشركة حيث كانت اليوم...
يطلبها رئيسها المباشر للمجيء غدا لإجتماع هام!
استقامت جالسة بعنف و هي تقول بحدة
(ماذا؟، أي اجتماع هذا؟)
زمت شفتيها و هي تشعر بالغضب من تلك الفوضى التي لا تطيقها هنا في البلاد، و التي يستحيل أن تجد مثلها حيث كانت تعمل في الخارج...
أخذت تضرب الحروف بعملية سريعة، حيث ردت برسالة رسمية، تعتذر بها عن حضور اجتماع لم تبلغ به قبلا، فهي الآن ليست في المدينة...
رمت الهاتف جانبا، و هي تتأفف بغيظ، لكن بعد عدة دقائق وصلتها رسالة أخرى
كانت رسالة عملية من سكرتيرة الشركة، تخبرها عن اصرار السيد أمجد الحسيني على استلامها العمل غدا...
فلا أحد يعتذر عن اجتماع استلام العمل، حيث أن هناك ما يجب مناقشته قبل أن تستلم...
اتسعت عينا مسك و هي تقرأ الرسالة التي رأتها وقحة، بل شديدة الوقاحة...
فهدرت نفسا ساخنا مشتعلا، قبل أن تقول من بين أسنانها
(أمجد الحسيني، ها!، حسنا ما دمت أجبن من أن تهاتفني، معي رقمك يا هذا)
بحثت في ذاكرة هاتفها عن الرقم الذي سجلته اليوم صباحا، لأنه من ستتعامل معه مباشرة...
ثم طلبت الرقم بلا تردد...
انحنى أمجد ليرفع قدمي والدته برفق فوق الأريكة، بينما بدأ يدلكهما لها ببطىء مبتسما...
يستمد الراحة من ابتسامتها الحانية له، و كأنها تراه...
بينما عينيها جامدتين، و رغم ثبوت حدقتيها، الا أنهما كانا بالنسبة له نبع الحنان كله...
قالت أمه برفق و الإبتسامة تزين وجهها الأبيض الشديد الطيبة...
(كبرت يا أمجد على فعل ذلك يا حبيبي، أنت أكبر عمرا و مقاما يا ولدي)
عقد أمجد حاجبيه وهو يقول بلهجة عتاب...
(أم أمجد!، تصرين على اغضابي منك يا حبيبة!)
مدت يدها أمامها ببطىء غير مبصرة، و دون أن تفقد ابتسامتها و هي تهمس برفق
(ليتني أموت قبل أن أغضبك يا حبيب أمك)
زفر أمجد بعنف وهو يسرع لتناول كفها من الهواء، و يقبل راحتها قبل أن يضعها على وجنته حيث لحيته الشقراء و هي ما كانت تبحث عنه، لتربت عليها كما تحب دائما...
لكن أمجد كان غاضبا بحق وهو يقول
(ها أنت تفعلينها مجددا ياأم أمجد، بدأت أظن أنك لا تحفلين بألمي).
شهقت أمه و هي تقول منكرة
(أنا يا حبيبي!، ليتني كنت)
رفع أمجد كف يده ليضعها على فم والدته كي لا تكمل قائلا بحزم
(أمي توقفي عن الدعاء على نفسك مع كل كلمة، هذا ليس اظهارا للحب، أتعرفين أنني افقد سعادتي الوحيدة بكلامك هذا، أيرضيك؟)
ابتسمت أمه تلك الإبتسامة التي يعشقها قبل ان تقول بخفوت و طيبة...
(لا يرضيني سوى رؤيتك معافى، و متزوج، و أسمع أصوات أطفالك من حولي)
ابتسم امجد وهو يربت على ظاهر كفها قائلا بحنان.
(الا تكفيك قبيلة الجياع و جيوش التتار أطفال مهجة؟، ظننتك اكتفيت!)
عقدت امه حاجبيها و هي تهتف
(هل جننت؟، اطفال من؟، و هل هناك مقارنة بين اطفالك و اطفال مهجة؟، انت عماد البيت يا روح امك، و اطفالك سيكونون قرة عيني)
ضحك امجد وقال بمرح
(لا تدعين مهجة تسمعك، فهي لا تزال تغار كالأطفال، و دائما تشكو بأنك تفضلينني عنها)
قالت امه بثقة و عفوية
(و هذا حقيقي يا قلب امك، الحب لكم واحد، لكن انت المفضل بلا منافسة).
ابتسم امجد وهو يقول بحنان...
(و أنت المفضلة عندي كذلك، من بين نساء الأرض جميعا)
تنهدت أمه و قد ظهر الحزن على ملامحها الشفافة، فقال أمجد بتعب
(ماذا الآن يا أمي؟، أين ذهبت أفكارك؟، و لما الحزن في عينيك؟)
قالت أمه تتنهد مجددا...
(لو كان أخاك فقط)
قاطعها أمجد ليقول بخشونة
(توقفي الآن يا أمي رجاءا، لا أريد الكلام عنه)
همست أمه مترجية...
(حاول معه مرة أخرى يا أمجد، بل اثنتين، و ثلاث، و ابد الدهر، لا تيأس من أخيك أبدا، إنه ابنك أكثر من شقيقك، و من سيكون له في هذه الحياة بعد موتي سواك؟)
تأوه أمجد وهو يقول مجددا بصوت خشن. محذرا
(أمي)
الا أن دموع امه قد غالبتها، فرفعت اصابعها المرتجفة تمسح دمعة علقت على شفتيها بحافة شالها...
أوشك على ضمها الى صدره مطمئنا، الا أن رنين هاتفه تعالى فجأة...
فعقد حاجبيه وهو ينظر الى الشاشة حيث وجد رقما غريبا، فقرر تجاهله...
الا أن أمه قالت بخفوت
(رد يا ابني، ربما كان أمرا هاما)
قال أمجد مبتسما بهدوء
(لو كان أمرا هاما لكنت تعرفت الى الرقم، لا تشغلي بالك)
قالت أمه مصرة
(رد يا أمجد، ربما كان خيرا لك)
ابتسم أمجد وهو يقول ممازحا
(أتظنين ذلك؟، ماذا لو كان مبلغا ضخما أو ثروة وقعت فوق رأسي)
ابتسمت أمه و قالت بمحبة
(رزقك الله بكل الخير من أوسع باب).
ابتسم أمجد و رفع الهاتف الى أذنه وهو يقول بهدوء
(السلام عليكم)
وصله صوتا موسيقيا أنيقا، يقول بهدوء مماثل
(و عليكم السلام و رحمة الله، السيد أمجد الحسيني؟)
للحظات لم يرد، ارتفع حاجبه و مالت زاوية شفتيه و قد راقه نبرة هذا الصوت الأنيق الراقي...
لكنه قال بهدوء
(نعم أنا، من معي؟)
ردت عليه صاحبة الصوت بفخامة تقول
(أنا مسك سالم الرافعي)
للحظات تسمر مكانه، و ضاقت عيناه...
مسك!، اسم لا ينسى...
لكن أن تكون مسك سالم الرافعي؟، هل هذا معقول؟
هل ابنة سالم الرافعي هي نفسها؟، مسك!
اتسعت عيناه بصدمة...
كان قد صمت طويلا، قبل أن يصله الصوت مجددا
(سيد أمجد، هل لا تزال معي؟)
رمش بعينيه قبل أن يقول بصوت رجولي مهذب
(نعم، عذرا، كنت أتحقق من الاسم فقط)
جاءه الصوت الموسيقي بنفس رقيه الا أنه حمل نبرة من الإستياء الخفيف...
(الا تعلم اسمي؟، لقد وصلتني رسالة من سكرتيرة الشركة باسمي، و طلبت مني الحضور لاجتماع عام غدا. )
ابتسم أمجد بتسلية وهو يقول
(أعرف بالطبع، اعذريني، لم يتم ابلاغي باستلامك العمل الا اليوم، فوصلني ان ابنة السيد سالم الرافعي هي من ستتولى المنصب، و لم يكن لدي علم باسمك بعد)
ساد الصمت لفترة، و كان صمتا مشحونا، و كأن اهانته المستترة قد وصلتها بوضوح...
أنها ليست سوى ابنة سالم الرافعي، فقالت بترفع بدا ظاهرا، مشوها لجمال نبرة صوتها
(معك مسك، سالم الرافعي مديرة قسم التوريد الجديدة، من تريد عقد الإجتماع معها غدا)
اتسعت ابتسامته اكثر قليلا بتسلية، بينما ينظر الى امه التي كانت تستمع الى المكالمة بفضول و اهتمام...
فقال بلهجة مهذبة
(تشرفت بمعرفتك، مسك)
ساد الصمت مجددا، قبل ان تقول بترفع اعلى بدا اغرب للتعالي
(أستاذة مسك، أو سيدة، أو أي لقب تفضله).
ارتفع حاجبيه وهو يتراجع بظهره للخلف بأريحية، معدلا احدى وسادات الأريكة خلفه وهو يقول بهدوء
(اذن يا أستاذة، مسك، بما أنك تفضلين الألقاب الرسمية، هل تعرفين كم الساعة الآن؟)
قالت مسك ببرود
(إنها العاشرة، هل هذا وقت متأخر بالنسبة لسيادتك؟، على أن الرسالة وصلتني في نفس الوقت تقريبا)
رد أمجد بهدوء قائلا بنبرة أكثر ترفعا من نبرتها...
(من متطلبات عملنا، ارسال البريد الالكتروني باي وقت في اليوم، اما اتصالك فهو في خارج اوقات العمل الرسمية، لذا اعذريني لن اتقيد بالألقاب، كيف يمكنني أن أخدمك يا، مسك؟)
سمعها تسحب نفسا حادا، فاتسعت ابتسامته، و مال فمه متسليا، قبل أن تقول بصوت بدا أنها تسيطر عليه بأعجوبة
(اجتماع الغد، لم أبلغ به قبلا، و أنا الآن لست في المدينة، فما العمل؟)
قال أمجد براحة
(هل أنت في منطقة قريبة؟).
سمع صوت نفسها مجددا، الا أنها قالت ببرود هادىء
(ابعد عنك مسافة تقدر بمئات الكيلومترات)
ضيق عينيه محاولا استنتاج مكانها، الا أنه قال بتهذيب
(هذا من سوء حظي بالتأكيد، حسنا يمكنني تأجيل الإجتماع بعد الغد، و هذا أقصى موعد أستطيع تحديده نظرا لظروفك الخاصة)
سمعها تهمس من بين اسنانها
ظروفي الخاصة؟، فابتسم أكثر، الا أنها قالت بحدة
(كان من المقرر ان أعود بعد ثلاث أيام، لست جاهزة بعد).
قال أمجد بنبرة جدية هذه المرة و متصلبة
(بعد غد يا مسك، هذا أقصى موعد يمكنني تحديده لك، أنت على وشك استلام منصب خالي حتى الآن، و العمل لا ينتظر، الآن لو سمحت لي فأنت أخذت الكثير من وقتي العائلي الخاص)
أغلق الهاتف دون انتظار سماع ردها، ثم نظر الى والدته ليقول بمحبة
(موعد دوائك، تأخرنا به نصف ساعة كاملة)
قالت أمه بحزن
(كنت شديد القسوة مع الفتاة المسكينة، لقد أحرجتها جدا).
أخرج أمجد الدواء وهو يقول شاردا و قد بدا نوعا ما، نادما، لم يعتد التصرف تجاه أحد بناءا على انطباع الآخرين، لكنها كانت مستفزة غاية الإستفزاز...
(نعم كنت، اليس كذلك؟)
أعطى الدواء لوالدته بصمت، قبل أن يسمع صوت رسالة تصله على هاتفه، ففتحها مقطبا، ليقرأ بها.
أمجد، أحتاج أن أشرح لك، أحتاج الى الكلام معك جدا، لا تكن قاسيا في حكمك على، ليس هذا من طبعك، أغلق أمجد الهاتف ووضعه بجواره بإهمال بينما اشتدت ملامحه بصلابة و بأس، فسألته أمه تقول
(من كان هذا الآن؟)
رد أمجد بعد فترة صمت
(لا أحد، رسالة فارغة. من رقم مجهول).
عادت تيماء الى وقفتها الحالية...
علي سطح قصر الرفاعية، حيث تقف في ظلام الليل الحالك، الهواء الجليدي يلفح وجهها، بينما كفيها قد تجمدا على السطح الرخامي و قد تاهت في ذكرياتها...
لم تدرك أن الدموع تغرق وجهها، و تتجمد على بشرتها التي تماثل الرخام برودة...
منذ ليلة يوم مولدها السابع عشر و كل شيء قد تغير بلمح البصر...
كاد اعترافها البسيط بالحب أن يذهب عقله وهو ينظر اليها بذهول...
هل كان هو من نطق باسمها، أم هي من همست باسمه...
لا تتذكر، من بين كل تلك التفاصيل المتداخلة لم تتذكر سوى ذراعاه و هي تجذبانها الى صدره...
وقفها على قدميها، و يقودها الى مكان مخصص للرقص...
لم تعترض، و على ما يبدو أنه كان أضعف من أن يمتلك المزيد من السيطرة...
وجدت نفسها تميل على صدره، يدها على قلبه، و ذراعه تلفها...
أنفاسه تلامس جبهتها، بسخونة مهلكة...
وجهه منحني اليها و عيناه شبه مغمضتين...
كفه تحرق ظهرها، و هي لا تمانع، و الأغنية المنبعثة لا تساعدها على استجماع استيعابها
غرباء في الليل، الكلمات و اللحن كانا يذهبان بعقلها، بينما قلبها يصرخ غير مصدقا لما يحدث...
هل هي هنا بالفعل و قاصي يراقصها؟
هل استسلم و اعترف؟
لكنه لم يعترف بعد!، أم أنه فعل؟
لا تزال تتذكر أول عبارة نطق بها، بصوت عميق جدا كبحر قاتم، هادىء هدوء الليل
(تعرفين أن كل شيء سيتغير من اليوم، أليس كذلك؟).
هل كان يريد اخافتها؟، لكن كيف تخاف منه؟
أغمضت عينيها و تنهدت و هي تهمس رقة
(أعرف، أصمت الآن)
يضمها الى صدره، و يقول بخفوت في أذنها
(لا أقبل بأقل من الملكية الحصرية)
ابتسمت دون أن تفتح عينيها، و همست برقة تريد سماع اللحن...
(أعرف، اصمت الآن)
و ضمها اليه أكثر وهو يدور بها، قبل أن يقول بخفوت مثير للرجفة
(من أين ظهرت لي؟، ليس وقتك و لست أنا أهلا لك)
ابتسمت أكثر باستياء حنون هذه المرة قبل أن تهمس بخفوت.
(بل أنا أرضك و أهلك، هشششششش لا مزيد من الكلمات الآن، فقط راقصني)
كان ضربا من الجنون، لم تدركه يومها، و لم يدركه هو أيضا...
كانت ليلة مجنونة، لم تظن أن تسلم له قلبها لفظيا بكل هذه السهولة، و لم تظن أن يتقبله بسهولة أكبر منها و كأنه كان متلهفا لها...
بعد سنة كاملة مضنية من النظرات المختلسة، الاهتمام المقيد، اللهفة المتداعية شوقا...
كانا و كأنهما انتظرا هذا اليوم منذ سنوات طويلة دون حتى أن يدركا...
شهقت تيماء شهقة بكاء أعلى و هي تضع يدها على فمها...
كانت قد أوهمت نفسها أنها نسيت...
أجبرت نفسها قسرا على افتعال النسيان، لكن من تملك ذرة من روح و تنساه...
فغرت شفتيها فجأة و هي تسمع صوت صهيل فرس...
فمدت نفسها من فوق السور، لتراه...
لترى قاصي يخرج منطلقا كالريح على ظهر فرس جامحة الى خارج أبواب القصر...
هتفت فجأة بقوة و قلبها ينتفض
(قاااااااااااااااااااااصي).
لكن لم يكن هناك من يسمعها، بل ضاع صوتها مع صوت صفير الرياح...
لا تريده أن يرحل، لا تريده أن يبتعد عن ناظريها
حتى لو كانت تبغضه في تلك اللحظة، لكنها تدري بأي حال هو...
تدري انه قد فتح منذ ساعة جرحا مليئا بالقيح و الصديد...
جرحا متورما عاش على ألمه سنوات شبابه كلها...
و هي زادت من جرحه اليوم، حين قالت أنه يقرفها...
لم تقصد ما تفوهت به تماما، لكن ماذا كان عليها القول بعد أن رأته يمسك بكفي مسك؟..
تحركت تيماء عن السور مبتعدة، عليها أن تواجه جدها...
عليها أن تفعل أي شيء...
اندفعت تنزل السلالم الداخلية الى أن وصلت للبهو السفلي، تدير وجهها بكل مكان بحثا عن جدها
الى أن وجدت ام سعيد، تتحرك حاملة صينية ضخمة الحجم، تتراص عليها أقداح القهوة، برائحتها القوية النفاذة...
أمسكت تيماء بذراعها و هي تقول بلهفة
(أين جدي يا أم سعيد؟، أين الحاج سليمان الرافعي؟).
رفعت أم سعيد اليها وجهها قلقا في أول بادرة انسانية منها، ثم قالت بصوت غير مرتاح
(الحاج سليمان قرر الإختلاء في جناحه، لن يرى أحدا الليلة، حتى أنه صرف المأدبة الضخمة التي نعدها و أمر بصعود الطعام الى الغرف، هذه المرة الأولى التي يتصرف فيها الحاج بهذه الطريقة في المأدبة، أخشى أن يكون، مريضا حفظه الله من كل سوء).
شحب وجه تيماء و هي تستمع اليها بتوتر، نعم، جدها قد تقدم سنه ووهنت قواه على الرغم من الهيبة التي لا تزال تحيط به، و من المؤكد أن صحته لا تتحمل مثل هذا الضغط العصبي الذي تعرض له...
فقالت بقوة و هي تشد على ذراع أم سعيد
(أريد أن أقابله، هل يمكنني الصعود الى جناحه؟)
رفعت أم سعيد حاجبيها بهلع و هي ترفع ذقنها قائلة برهبة.
(من رابع المستحيلات، حين يقرر الحاج سليمان أنه يريد الخلوة في جناحه فلا أحد يتجرأ على اقتحام هذه الخلوة)
هتفت تيماء برجاء
(ماذا لو كان متعبا؟، ماذا لو كان يحتاج الى مساعدة دون أن ندري)
قالت أم سعيد بإصرار عنيد دون أن تهتز بها شعرة
(من المستحيل، أوامر الحاج لا تناقش، اقتصري الشر و اصعدي الى جناحك مع أختك، لقد تم اعداد الغرفة التي ستتشاركانها)
أخفضت تيماء كفها بتعب.
هل ستتشارك الغرفة مع مسك؟، هذا ما كان ينقصها!، إنها أضعف من ان تواجهها الآن...
و لمدة ليلة كاملة!، أما آن لها أن تصحو من هذا الكابوس المضني؟
تحركت تيماء تجر ساقيها بتعب تجاه السلم، متخاذلة القوى، منحنية الكتفين...
نادت أم سعيد من خلفها
(هل ستصعدين الى غرفتك من الآن؟، أنتظري حتى أضع الصينية و أرشدك اليها)
استدارت اليها تيماء بتعب و همست بلا حياة
(فقط أخبريني أين هي)
قالت أم سعيد.
(انها في الطابق الثالث، رابع غرفة يمينية)
أومأت تيماء برأسها دون أن ترد، ثم جرت قدميها صعودا...
وصلت الى الغرفة و هي تتمنى لو قررت مسك الهرب و العودة من حيث أتت...
أو على الأقل الا تصعد الى الغرفة قبل أن تنام هي...
أمسكت تيماء بمقبض باب الغرفة و هي تضحك بمرارة مقهورة، ثم همست.
تنامين؟، إنها أكبر خدعة متدنية يا تيماء، توقعت منك الأفضل، فتحت الباب و دخلت، الا أنها تسمرت حين وجدت مسك مستلقية على سرير خشبي ضخم، مزغرف بالأرابيسك...
كانت مغمضة عينيها و على ما يبدو أنها قد راحت في سبات عميق بملابسها...
وقفت تيماء مكانها تتنفس بسرعة، راغبة في الهرب من هنا قبل أن تنتبه لها، فهي لا تريد رؤيتها أو سماع صوتها حاليا...
وقفت مكانها مرتبكة قليلا تنوى الإستدارة و الرحيل، الا أن مسك تكلمت أخيرا بهدوء دون أن تفتح عينيها
(هل تنوين البقاء عندك طويلا؟، أدخلي و أغلقي الباب، لا تخشين شيئا فأنا لن أقتلك و انت نائمة)
تشنجت تيماء مكانها و أرادت صفق الباب و الذهاب، الا انها آثرت تمرير تلك الليلة العجيبة دون المزيد من الكوارث، فقد فقدت قواها حقا...
دخلت و أغلقت الباب خلفها بهدوء، قبل أن تقف في منتصف الغرفة لا تدري كيف تتصرف...
نظرت حولها تتأمل كمال تلك الغرفة الشرقية الفخمة، و القديمة الطراز جدا، و كأنها تحمل نفس عراقة المكان ككل جزء به...
حينها فتحت مسك عينيها تنظر اليها أخيرا لتقول بهدوء دون أن تتحرك
(ماذا بك؟، تبدين أكثر صدمة مني، و على وشك السقوط، على الرغم من أنني أنا من خطبت دون اذنها)
اشتعلت عينا تيماء ببريق قوي منفعل قبل أن تندفع لتجلس على حافة سريرها الآخر المفترض، ثم مالت للأمام قائلة بقوة و حدة.
(اذن كيف ستتصرفين يا مسك؟)
مالت مسك على جانبها ببطىء و نعومة كقطة بيضاء لتواجهها. ثم قالت بخفوت
(ماذا تقصدين؟)
ازداد غضب تيماء و أوشك على أن يكون جنونا منفجرا، الا أنها اخذت نفسا عميقا و هي تعد للعشر بداخلها قبل أن تقول بصبر واه...
قالت تيماء بقوة
(كيف ستفرين من تلك الخطبة؟)
رفعت مسك حاجبيها و هي تقول بصوت خافت أنثوي
(من قال أنني أفر من أي شيء؟).
تراجعت تيماء في جلستها للخلف و هي تنظر اليها بذهولا، طويلا جدا، قبل أن تقول أخيرا بصوت ميت، غير مدرك
(ما بالكما أنتما الإثنان؟، أنتما تكرران نفس الكلام، ما اللعبة التي تلعبانها معي؟)
ارتفع حاجب مسك و هي ترمق تيماء بتمعن قبل أن تقول بصوت هادىء، ساخر قليلا
(نلعب معك لعبة؟، أنت فعلا لا تزالين صغيرة السن)
صمتت و هي تتمدد مجددا على ظهرها ناظرة الى السقف، ثم تابعت ببرود.
(ما حدث لا يمكن وصفه باللعب يا تيماء، لا شيء هنا يخضع للعب، بل يخضع لقانون العائلة)
كانت تيماء تتنفس بسرعة و توتر مختنق
(لكنك كنت شديدة الغضب منذ ساعة، الآن تبدين، تبدين هادئة تماما، هل أنت موافقة على)
رمشت بعينيها غير قادرة على المتابعة، كان الإعتراف أشد ألما من أن تنطقه...
فنظرت اليها مسك بعينين بريئتين و هي تساعدها في الكلام قائلة.
(موافقة على الزواج من قاصي؟، هل هذا هو ما تقصدينه؟، حسنا موافقتي أو عدمها ليست هي المعضلة الآن)
شعرت تيماء بغصة مسننة حادة في حلقها، تكاد أن تشتطر أنفاسها قبل أن تغادر شفتيها...
بينما تابعت مسك قائلة بهدوء
(المعضلة هي أن يغير جدك رأيه)
شعرت تيماء بأنها على وشك الإغماء، لكنها تمكنت من القول بإعياء
(و ماذا لو لم يغير رأيه؟، هل سترضخين؟)
نظرت مسك اليها طويلا قبل أن تقول بخفوت.
(هذا أمر سابق لأوانه، من المفترض أنني أهدىء من غضبي حاليا و أنت لا تقدمين العون هنا)
شعرت تيماء بغثيان قوي و أن أنفاسها متحشرجة في حلقها...
فقامت من مكانها قبل أن تنهار، تريد الحصول على بعض الهواء...
تقدمت الى المرآة المذهبة الضخمة وسارعت الى فك حجابها بأصابع مرتجفة خرقاء، حتى وقع شالها أرضا، و تبعته بدبابيس شعرها الكثيرة التي كادت أن تمزق رأسها بعد هذا اليوم الطويل المضني...
أخذ شعرها في التساقط تدريجيا و ليس دفعة واحدة...
كانت خصلاته المجعدة تتشابك و تلتوي و هي تتحرر ببطىء متساقطة بكل ثقلها فوق ظهرها...
انتهت أخيرا، فرفعت أصابع كفيها لتدلك بهما جانبي جبهتها متأوهة بألم، موجع، موجع...
أشد وجعا من اي شيء آخر...
أخفضت تيماء وجهها و هي تستند بكفيها الى طاولة الزينة، بينما لم ترى مسك من خلفها و هي تنظر منبهرة بشعرها النحاسي شديد التجعد و التمرد و الذي وصل طوله الى، خصرها؟
لم يكن شعرها ناعما، لكن منظره كان يخطف الأنظار من شدة تجعيداته و انكسارته...
و اطالته لهذه الدرجة جعلت منها لوحة غريبة الشكل...
شردت عينا مسك في شعر تيماء طويلا، بينما كانت أصابعها تتلاعب بخصلة ناعمة كالحرير من خصلات شعرها الواصل الى حدود كتفها...
و تذكرت يوما كان شعرها يفوق شعر تيماء طولا...
رمشت مسك بعينيها ترفض أي مظهر من مظاهر الرثاء على الذات، بل على العكس عليها أن تكون ممتنة جدا، و هي بالفعل شديدة الإمتنان، و الحمد...
اليست محاربة؟
تنحنحت مسك لتقول بهدوء بطيء
(علمت أنك ستدرسين في جامعتك، مبارك لك)
رفعت تيماء وجهها الشاحب لتنظر الى وجه مسك في المرآة، بعينين جامدتين تشعران بالنفور...
و كان هذا رغما عنها، ربما لم تكن مسك مدانة في شيء...
لكن تيماء في هذه اللحظة كانت تشعر بنفور هو أقرب للغثيان، و هدوء مسك حيال الأمر يزيد من هذا الغثيان بقوة...
ردت تيماء أخيرا بصوت جامد، يكاد أن يكون قاسيا قليلا
(ليس بعد، أنتظر نيل درجة الدكتوراة من الخارج)
رفعت مسك حاجبيها و هي تقول بصدق
(رائع، هذا ممتاز تماما، لكن ماذا عن؟)
صمتت قليلا و هي تتراجع عما كانت تنوي قوله، الا أن تيماء استدارت اليها و استندت الى طاولة الزينة من خلفها.
فساقيها لا تقويان على حملها ابدا، ثم قالت بفتور باهت
(ماذا عن؟، تابعي ما كنت تنوين قوله)
فتحت مسك شفتيها للحظة قبل أن تقول بهدوء
(خطبتك، من المقرر أن تخطبين لأحد ابناء اعمامك)
استقامت تيماء واقفة و هي تقول مندفعة بشراسة
(هذا ما لن يكون أبدا)
ارتفع حاجبي مسك و هي تقول بشك
(حقا؟، اذن سأسألك نفس سؤالك، الذي ظننته سهلا، كيف ستتصرفين؟، أو الأصح كيف ستفرين؟)
نظرت تيماء اليها بصمت طويلا، قبل أن تقول ببرود.
(لا أحتاج للفرار يا مسك، أنا وضعي يختلف عنكم، أنا لا أخضع لقوانين تلك العائلة، فأنا لا أدين لها بشيء، و لا أحمل لها أي امتنان)
قالت مسك و هي تؤرجح ساقا فوق الأخرى
(حتى جدك؟، ظننتك ممتنة له، هكذا ظهرت و انت متشبثة بكفه الليلة، يستند عليك مثل عصاه)
اهتزت حدقتي تيماء و هي تستمع الى كلام مسك البسيط الهادىء...
نعم، هي مدينة لسليمان الرافعي بالكثير، أو ربما بشيء واحد فقط، هو بالنسبة لها الحياة كلها...
مدينة له بحياتها...
استدارت تيماء تنظر الى نفسها في المرآة مطولا...
هيئتها توحي بالتمرد، بدئا من قامتها المتحفزة دائما، و شعرها الذي لا يخضع للسيطرة مثلها...
لكن عيناها كانتا قصة أخرى...
كانتا ضعيفتين بفعل كلام مسك...
وحادتي الغيرة، و عاشقتين!
سارعت بأخفاض وجهها و هي تهمس بذهول و صدمة.
تبا، تبا يا تيماء، أنت تسقطين في رمال متحركة، اهربي بنفسك قبل فوات الأوان، تنهدت مسك بنفاذ صبر و هي ترجع رأسها للخلف محدقة بالسقف...
و تتسائل لماذا لا تشعر بالهيستيرية مثل تيماء؟
هل فقدت اهتمامها بكل شيء؟، حتى بات قاصي كغيره؟
أم أن كل الأمور تضائلت أهميتها أمام فرصتها الثانية في الحياة؟
أفاقت من أفكارها على صوت رنين في هاتفها يعلن عن وصول بريد الكتروني...
فعقدت حاجبيها و هي تفتح الرسالة، لتفاجأ بأنها رسالة من الشركة حيث كانت اليوم...
يطلبها رئيسها المباشر للمجيء غدا لإجتماع هام!
استقامت جالسة بعنف و هي تقول بحدة
(ماذا؟، أي اجتماع هذا؟)
زمت شفتيها و هي تشعر بالغضب من تلك الفوضى التي لا تطيقها هنا في البلاد، و التي يستحيل أن تجد مثلها حيث كانت تعمل في الخارج...
أخذت تضرب الحروف بعملية سريعة، حيث ردت برسالة رسمية، تعتذر بها عن حضور اجتماع لم تبلغ به قبلا، فهي الآن ليست في المدينة...
رمت الهاتف جانبا، و هي تتأفف بغيظ، لكن بعد عدة دقائق وصلتها رسالة أخرى
كانت رسالة عملية من سكرتيرة الشركة، تخبرها عن اصرار السيد أمجد الحسيني على استلامها العمل غدا...
فلا أحد يعتذر عن اجتماع استلام العمل، حيث أن هناك ما يجب مناقشته قبل أن تستلم...
اتسعت عينا مسك و هي تقرأ الرسالة التي رأتها وقحة، بل شديدة الوقاحة...
فهدرت نفسا ساخنا مشتعلا، قبل أن تقول من بين أسنانها
(أمجد الحسيني، ها!، حسنا ما دمت أجبن من أن تهاتفني، معي رقمك يا هذا)
بحثت في ذاكرة هاتفها عن الرقم الذي سجلته اليوم صباحا، لأنه من ستتعامل معه مباشرة...
ثم طلبت الرقم بلا تردد...
انحنى أمجد ليرفع قدمي والدته برفق فوق الأريكة، بينما بدأ يدلكهما لها ببطىء مبتسما...
يستمد الراحة من ابتسامتها الحانية له، و كأنها تراه...
بينما عينيها جامدتين، و رغم ثبوت حدقتيها، الا أنهما كانا بالنسبة له نبع الحنان كله...
قالت أمه برفق و الإبتسامة تزين وجهها الأبيض الشديد الطيبة...
(كبرت يا أمجد على فعل ذلك يا حبيبي، أنت أكبر عمرا و مقاما يا ولدي)
عقد أمجد حاجبيه وهو يقول بلهجة عتاب...
(أم أمجد!، تصرين على اغضابي منك يا حبيبة!)
مدت يدها أمامها ببطىء غير مبصرة، و دون أن تفقد ابتسامتها و هي تهمس برفق
(ليتني أموت قبل أن أغضبك يا حبيب أمك)
زفر أمجد بعنف وهو يسرع لتناول كفها من الهواء، و يقبل راحتها قبل أن يضعها على وجنته حيث لحيته الشقراء و هي ما كانت تبحث عنه، لتربت عليها كما تحب دائما...
لكن أمجد كان غاضبا بحق وهو يقول
(ها أنت تفعلينها مجددا ياأم أمجد، بدأت أظن أنك لا تحفلين بألمي).
شهقت أمه و هي تقول منكرة
(أنا يا حبيبي!، ليتني كنت)
رفع أمجد كف يده ليضعها على فم والدته كي لا تكمل قائلا بحزم
(أمي توقفي عن الدعاء على نفسك مع كل كلمة، هذا ليس اظهارا للحب، أتعرفين أنني افقد سعادتي الوحيدة بكلامك هذا، أيرضيك؟)
ابتسمت أمه تلك الإبتسامة التي يعشقها قبل ان تقول بخفوت و طيبة...
(لا يرضيني سوى رؤيتك معافى، و متزوج، و أسمع أصوات أطفالك من حولي)
ابتسم امجد وهو يربت على ظاهر كفها قائلا بحنان.
(الا تكفيك قبيلة الجياع و جيوش التتار أطفال مهجة؟، ظننتك اكتفيت!)
عقدت امه حاجبيها و هي تهتف
(هل جننت؟، اطفال من؟، و هل هناك مقارنة بين اطفالك و اطفال مهجة؟، انت عماد البيت يا روح امك، و اطفالك سيكونون قرة عيني)
ضحك امجد وقال بمرح
(لا تدعين مهجة تسمعك، فهي لا تزال تغار كالأطفال، و دائما تشكو بأنك تفضلينني عنها)
قالت امه بثقة و عفوية
(و هذا حقيقي يا قلب امك، الحب لكم واحد، لكن انت المفضل بلا منافسة).
ابتسم امجد وهو يقول بحنان...
(و أنت المفضلة عندي كذلك، من بين نساء الأرض جميعا)
تنهدت أمه و قد ظهر الحزن على ملامحها الشفافة، فقال أمجد بتعب
(ماذا الآن يا أمي؟، أين ذهبت أفكارك؟، و لما الحزن في عينيك؟)
قالت أمه تتنهد مجددا...
(لو كان أخاك فقط)
قاطعها أمجد ليقول بخشونة
(توقفي الآن يا أمي رجاءا، لا أريد الكلام عنه)
همست أمه مترجية...
(حاول معه مرة أخرى يا أمجد، بل اثنتين، و ثلاث، و ابد الدهر، لا تيأس من أخيك أبدا، إنه ابنك أكثر من شقيقك، و من سيكون له في هذه الحياة بعد موتي سواك؟)
تأوه أمجد وهو يقول مجددا بصوت خشن. محذرا
(أمي)
الا أن دموع امه قد غالبتها، فرفعت اصابعها المرتجفة تمسح دمعة علقت على شفتيها بحافة شالها...
أوشك على ضمها الى صدره مطمئنا، الا أن رنين هاتفه تعالى فجأة...
فعقد حاجبيه وهو ينظر الى الشاشة حيث وجد رقما غريبا، فقرر تجاهله...
الا أن أمه قالت بخفوت
(رد يا ابني، ربما كان أمرا هاما)
قال أمجد مبتسما بهدوء
(لو كان أمرا هاما لكنت تعرفت الى الرقم، لا تشغلي بالك)
قالت أمه مصرة
(رد يا أمجد، ربما كان خيرا لك)
ابتسم أمجد وهو يقول ممازحا
(أتظنين ذلك؟، ماذا لو كان مبلغا ضخما أو ثروة وقعت فوق رأسي)
ابتسمت أمه و قالت بمحبة
(رزقك الله بكل الخير من أوسع باب).
ابتسم أمجد و رفع الهاتف الى أذنه وهو يقول بهدوء
(السلام عليكم)
وصله صوتا موسيقيا أنيقا، يقول بهدوء مماثل
(و عليكم السلام و رحمة الله، السيد أمجد الحسيني؟)
للحظات لم يرد، ارتفع حاجبه و مالت زاوية شفتيه و قد راقه نبرة هذا الصوت الأنيق الراقي...
لكنه قال بهدوء
(نعم أنا، من معي؟)
ردت عليه صاحبة الصوت بفخامة تقول
(أنا مسك سالم الرافعي)
للحظات تسمر مكانه، و ضاقت عيناه...
مسك!، اسم لا ينسى...
لكن أن تكون مسك سالم الرافعي؟، هل هذا معقول؟
هل ابنة سالم الرافعي هي نفسها؟، مسك!
اتسعت عيناه بصدمة...
كان قد صمت طويلا، قبل أن يصله الصوت مجددا
(سيد أمجد، هل لا تزال معي؟)
رمش بعينيه قبل أن يقول بصوت رجولي مهذب
(نعم، عذرا، كنت أتحقق من الاسم فقط)
جاءه الصوت الموسيقي بنفس رقيه الا أنه حمل نبرة من الإستياء الخفيف...
(الا تعلم اسمي؟، لقد وصلتني رسالة من سكرتيرة الشركة باسمي، و طلبت مني الحضور لاجتماع عام غدا. )
ابتسم أمجد بتسلية وهو يقول
(أعرف بالطبع، اعذريني، لم يتم ابلاغي باستلامك العمل الا اليوم، فوصلني ان ابنة السيد سالم الرافعي هي من ستتولى المنصب، و لم يكن لدي علم باسمك بعد)
ساد الصمت لفترة، و كان صمتا مشحونا، و كأن اهانته المستترة قد وصلتها بوضوح...
أنها ليست سوى ابنة سالم الرافعي، فقالت بترفع بدا ظاهرا، مشوها لجمال نبرة صوتها
(معك مسك، سالم الرافعي مديرة قسم التوريد الجديدة، من تريد عقد الإجتماع معها غدا)
اتسعت ابتسامته اكثر قليلا بتسلية، بينما ينظر الى امه التي كانت تستمع الى المكالمة بفضول و اهتمام...
فقال بلهجة مهذبة
(تشرفت بمعرفتك، مسك)
ساد الصمت مجددا، قبل ان تقول بترفع اعلى بدا اغرب للتعالي
(أستاذة مسك، أو سيدة، أو أي لقب تفضله).
ارتفع حاجبيه وهو يتراجع بظهره للخلف بأريحية، معدلا احدى وسادات الأريكة خلفه وهو يقول بهدوء
(اذن يا أستاذة، مسك، بما أنك تفضلين الألقاب الرسمية، هل تعرفين كم الساعة الآن؟)
قالت مسك ببرود
(إنها العاشرة، هل هذا وقت متأخر بالنسبة لسيادتك؟، على أن الرسالة وصلتني في نفس الوقت تقريبا)
رد أمجد بهدوء قائلا بنبرة أكثر ترفعا من نبرتها...
(من متطلبات عملنا، ارسال البريد الالكتروني باي وقت في اليوم، اما اتصالك فهو في خارج اوقات العمل الرسمية، لذا اعذريني لن اتقيد بالألقاب، كيف يمكنني أن أخدمك يا، مسك؟)
سمعها تسحب نفسا حادا، فاتسعت ابتسامته، و مال فمه متسليا، قبل أن تقول بصوت بدا أنها تسيطر عليه بأعجوبة
(اجتماع الغد، لم أبلغ به قبلا، و أنا الآن لست في المدينة، فما العمل؟)
قال أمجد براحة
(هل أنت في منطقة قريبة؟).
سمع صوت نفسها مجددا، الا أنها قالت ببرود هادىء
(ابعد عنك مسافة تقدر بمئات الكيلومترات)
ضيق عينيه محاولا استنتاج مكانها، الا أنه قال بتهذيب
(هذا من سوء حظي بالتأكيد، حسنا يمكنني تأجيل الإجتماع بعد الغد، و هذا أقصى موعد أستطيع تحديده نظرا لظروفك الخاصة)
سمعها تهمس من بين اسنانها
ظروفي الخاصة؟، فابتسم أكثر، الا أنها قالت بحدة
(كان من المقرر ان أعود بعد ثلاث أيام، لست جاهزة بعد).
قال أمجد بنبرة جدية هذه المرة و متصلبة
(بعد غد يا مسك، هذا أقصى موعد يمكنني تحديده لك، أنت على وشك استلام منصب خالي حتى الآن، و العمل لا ينتظر، الآن لو سمحت لي فأنت أخذت الكثير من وقتي العائلي الخاص)
أغلق الهاتف دون انتظار سماع ردها، ثم نظر الى والدته ليقول بمحبة
(موعد دوائك، تأخرنا به نصف ساعة كاملة)
قالت أمه بحزن
(كنت شديد القسوة مع الفتاة المسكينة، لقد أحرجتها جدا).
أخرج أمجد الدواء وهو يقول شاردا و قد بدا نوعا ما، نادما، لم يعتد التصرف تجاه أحد بناءا على انطباع الآخرين، لكنها كانت مستفزة غاية الإستفزاز...
(نعم كنت، اليس كذلك؟)
أعطى الدواء لوالدته بصمت، قبل أن يسمع صوت رسالة تصله على هاتفه، ففتحها مقطبا، ليقرأ بها.
أمجد، أحتاج أن أشرح لك، أحتاج الى الكلام معك جدا، لا تكن قاسيا في حكمك على، ليس هذا من طبعك، أغلق أمجد الهاتف ووضعه بجواره بإهمال بينما اشتدت ملامحه بصلابة و بأس، فسألته أمه تقول
(من كان هذا الآن؟)
رد أمجد بعد فترة صمت
(لا أحد، رسالة فارغة. من رقم مجهول).