رواية طائف في رحلة أبدية الفصل الخامس عشر 15 بقلم تميمة نبيل
الفصل الخامس عشر
كانت مسك لا تزال على حالها، و هي تنظر اليه بذهول، قبل أن تقول
(لقد أغلق الخط!، لقد أغلق الخط!)
أمسكت هاتفها و رمته جانبا بقوة و هي تهتف بحدة بينما عيناها تشتعلان
(تبا، لقد أغلق الخط و أنا أتكلم، من يظن نفسه؟)
تكلمت تيماء من خلفها بتوتر
(هل أنت بخير؟، من هو هذا الذي أغلق الخط بوجهك؟).
انتفضت مسك و هي تستدير الى تيماء التي كانت قد ارتدت منامتها التي اخرجتها من حقيبتها و استلقت على سريرها، فقالت مسك بفظاظة و عنف
(الازلت هنا؟)
رفعت تيماء حاجبيها و هي تقول بخفوت
(اين اذهب؟)
قالت مسك و هي تزفر بقوة
(حسنا نامي الآن، تبدين متعبة)
قالت تيماء بصوت اكثر خفوتا
(و انت كذلك)
ابعدت مسك وجهها عنها و هي تقول بصلابة
(أنا بخير، لقد تعودت الصدمات، اما انت فتبدين كمن على وشك الإنهيار عصبيا).
نظرت تيماء الى سقف غرفتها دون ان ترد، نعم كانت متعبة و تعرف أنها حين تصل الى هذه الدرجة من التعب الجسدي و الذهني تصبح على حافة الإنهيار، و الإنهيار الآن لن يساعدها أبدا...
ضيقت عينيها تنظر الى سقف الغرفة، لتجد أنها ترى عينيه، فمه، فكه القوي...
ملامح وجهه تأبى أن تغادرها أبدا، بينما كل كيانها يصرخ متسائلا عن حاله الآن...
هل هو بخير؟، قاصي ليس بخير، و قلبها يخبرها ذلك
ألم يكن قلبها دليلها دائما؟
سمعت صوت رنين هاتف مسك مجددا، قبل أن تسمع صوتها يرد بخفوت و لطف
(نعم يا قاصي)
اندفع رأس تيماء و هي تنظر بعنف الى مسك التي استلقت على جانبها، توليها ظهرها و الهاتف على أذنها لتقول بصوت حنون لم تسمعه منها قبلا...
(أنا بخير، لا تخف، كنت شديدة الحدة معك، اعذرني، لكن الصدمة كانت قوية)
فغرت تيماء شفتيها و الألم ينحر صدرها بوحشية...
كانت تسأل عن حاله للتو، قلقة عليه، و قلبها يخبرها بأنه ليس بخير و أنه يحتاجها...
بينما هو يتصل بمسك ليطمئن عليها!
لو كان نصل خنجر بارد قد غرس في قلبها، لما آلمها أكثر...
تابعت مسك كلامها همسا
(امممم نعم بخير، على الأقل لا حركات هيستيرية، فأنا لا أتحملها، كم أنت غريب يا قاصي، الا تهتم بنفسك، كيف يمكنك أن تفكر بغيرك في تلك اللحظة؟، لا بأس من البكاء يا قاصي).
كانت تيماء لا تزال ناظرة الى السقف و هي تستمع الى صوت مسك الذي يذوب حنانا، مخاطبة قاصي...
قاصي، قاصيها هي...
هي من عليها أن تكون بجواره، هي من كانت تمتص غضبه و عنفه دائما...
هي كانت حضنه الدافىء كلما احتدت مشاعره و قسوة ما يحسه...
قالت مسك تقاطع أفكارها بخفوت حنون
(لا حبيبي، أنت لست بخير).
شهقت تيماء بقوة الا أن يدها ارتفعت الى فمها تمنع شهقتها من الخروج لتشق هذا الظلام الصامت، بينما اتسعت عيناها حد الذهول و الصدمة...
رفعت كفها الأخرى أيضا كي تكتم شهقتها تماما، بينما اندفعت الدموع الغزيرة من عينيها بعنف و هي تستمع الى مسك تقول بلهجة عفوية بسيطة...
(ابق وحدك، و لا تخشى من اظهار مشاعرك يا قاصي، ليس هناك ما يعيبك، و تذكر أنك اليوم قد انتصرت)
همست مسك بصوت اكثر خفوتا.
(اذهب الآن، سأكون مستيقظة طوال الليل لو احتجت ان تهاتفني)
ساد صمت قليل قبل ان تهمس برقة
(سنحلها، سنحلها، اهتم فقط بنفسك الآن، حسنا هي تحت انظاري لا تخف)
سمعت تيماء مسك و هي تضع الهاتف جانبا فوق منضدة جانبية...
فاستدارت بسرعة على جانبها الاخر، تدفن وجهها في وسادتها و تغمض عينيها لتبكي، تبكي بعنف...
اكثر انواع البكاء عذابا، هو ذلك الذي تكتم صوت شهقاته...
كان جسدها يرتج بقوة، و الام يعتصر جسدها الصغير، حتى ان الضغط على جانبي عينيها زاد حتى شعرت بالدوار من شدة ما بكت و كتمت شهقاتها...
سمعت صوت طرق خافت على الباب، فنهضت مسك من مكانها كي تفتح الباب...
و سمعت تيماء بعض الجلبة، قبل ان تغلق مسك الباب ثانية...
اقتربت من سرير تيماء بخفة، حتى انحنت اليها و ربتت على كتفها و هي تهمس
(تيماء، لقد وصل الطعام، ألن تأكلي؟، تيماء).
كم كانت معجزة ان تتقن دورها، و تتفنن في كبت اهتزازات جسدها المنتفض، الى أن استقامت مسك و ابتعدت عنها...
حينها تمكنت من التنفس، قبل الإغماء و الرحيل بعيدا عن هذا العالم الموجع...
وصل الى بيته بعد جري طويل، طويل، على ظهر حصانه...
كان يجري به منطلقا، وهو يود لو يمنحه الطيران بفرسه بعضا من النسيان...
كان البيت ساكنا، على غير عادته، و كان هذا اعظم ما تمناه في تلك اللحظة...
اقترب مثقل الكتفين، متعب الجسد من السلم، واضعا يده على حاجزه و كأنه مسن يحتاج الى المساعدة
علي الرغم من أنه قطع الأراضي كلها نهبا بفرسه دون أن يكل أو يتعب...
وضع قدمه على الدرجة الأولى، الا أنه توقف مكانه حين سمع صوتها من خلفه يقول بنعومة
(مساء الخير يا ليث)
لم يكن يريد أن يراها الآن، و لا يشعر بتأنيب الضمير وهو يفكر بهذا...
كانت آخر من يتمنى رؤيته في هذه اللحظة بالذات...
لذا قال بصوت قاتم موجز
(مساء الخير ميسرة، اعذريني سأذهب للنوم مباشرة، فأنا أشعر بتوعك و عدم الرغبة في الكلام).
أمل أن تغضب، و تتراجع، و تجرحها كرامتها، الا أنها خيبت ظنه و قالت بصوت رائق متسلي
(اتشعر بعدم الرغبة في النظر إلى كذلك؟)
اغمض عينيه للحظة قبل ان يقول بجمود و تأكيد
(نعم، أحسنت، لا أشعر بالرغبة في النظر اليك)
سمع صوت خطواتها تقترب منه ببطىء، الى أن وقفت خلفه تماما، لتقول بنبرة مطاطة ناعمة
(لكن أنا أرغب في النظر اليك، فما رأيك؟)
قال ليث بصرامة و قوة
(اذهبي الى غرفتك يا ميسرة، الآن).
لكنها لم تتحرك، بل قالت ببرود
(هل كنت عندها؟)
الان اضطر الى ان يراها مرغما وهو يستدير بعنف قائلا بصيغة تهديد حذرة، بينما ملامحه الرجولية تنطق بالشر
(من تقصدين؟)
هزت كتفيها و هي تقول ببساطة مقصودة
(ابنة عمتك المصون)
اندفع الدم في رأسه يغلي قبل ان يصرخ بقوة
(ميسرة، كلامك تطير له الرقاب)
لم ترتجف، ليس عن شجاعة، فهو يعرفها جيدا، بل عن نقص احساس و اخلاق...
فقدت التسلية المزيفة على وجهها، قبل ان تصرخ قائلة...
(لماذا؟، لأنني أقول الحقيقة؟، الم تكن في ارض الرافعية؟، لمن كنت ذاهبا؟، لا تخبرني انك كنت تزور جدها الذي رفض طلبك قديما)
اندفع ليث نازلا الدرجة التي صعدها ليطبق بكفه على ذراعها وهو يهزها بعنف هادرا
(ماذا أفعل لأربيك؟، ماذا؟، أخبريني بالله عليك، ضرب و ضربتك، هجر في الفراش و هجرتك بعد سنوات من المحاولة بالمعروف، ماذا، اخبريني ماذا على أن أفعل كي تتقي الله في غيرك؟)
ضربت الأرض بقدميها و هي تصرخ بشراسة.
(هل تدينني لأنني أغار على زوجي؟)
هزها مجددا بعنف وهو يصرخ قائلا
(لا تصفي مشاعرك بالغيرة، من يغار يمتلك القدرة على الحب و انت لن تعرفي الحب ابدا، ما ترتكبينه كفر، كفر)
هتفت ميسرة بحقد
(لا تدخل الامور ببعضها يا ليث، انا احدثك عن سوااا)
شدد قبضته على ذراعها حتى كاد الدم ان ينقطع عنها فاتسعت عيناها و شهقت الما، قبل ان يقول ليث بصوت خافت مهددا
(لا تذكري اسمها، مطلقا).
كانت تتطلع الى عينيه بتحد رغم الألم الذي تشعر به، لكنها قالت بصوت بدا في اذنه اكثر شرا من اي شيء آخر
(انها تسحر لك، و انت ترفض التصديق)
ابتسم، ابتسم فعلا ابتسامة كارهة، لا تحمل أي أثر للمرح وهو يقول بقسوة جليدية
(لماذا؟، أتظنين أنها مثلك؟، تسير حياتها كلها بالسحر الأسود؟)
ظلت تنظر اليه قليلا بنظرات حارقة، قبل أن تقول بجمود
(لقد توقفت عن ذلك، لقد قطعت لك وعدا)
ظل ينظر اليها بتقزز، قبل أن يقول بلا تردد.
(لا أصدقك، الغضب الأسود مرتسم على ملامحك، يقتل بك أي جمال، بالله عليك كنت تسحرين لأختى الوحيدة، و أشقائي، حتى والدتي كنت تسحرين لها، كيف يمكن وصفك بالإنسانة المثقفة؟، كيف يمكن تبرير جهلك؟)
صمتت، أخيرا صمتت، و كان هذا هو ما يريده، أن تصمت و تبتعد عن عينيه في تلك اللحظة...
ابعد يده عن ذراعها مشمئزا، قبل أن يقول متنفسا بتعب.
(اذهبي الى غرفتك يا ميسرة، تطهري و حاولي الإمساك بمصحفك المهجور، لعله يبعد عنك شرور نفسك)
برقت عينا ميسرة و هي تراه يستدير ليوليها ظهره صاعدا السلم الى غرفته...
و ما أن اختفى حتى همست بشر
(أعرف ما تفعلينه يا بنت وهدة، فلا يفهم السحر الا ساحر، حسنا، تدخلين معي بتحدي فأنت الخاسرة)
ابتعدت بعنف و هي تجر عبائتها الفخمة من حولها، مسرعة الى غرفتها...
حيث سيكون لها حوارا آخر هناك، و لتنتظر منها بنت وهدة أياما أشد ظلاما من ليل بلا قمر...
تمطت بدلال في فراشها الوثير، و رمشت بعينيها عدة مرات قبل أن تفتحهما تماما على مرآى شعاع الشروق الرمادي ينبعث من نافذة غرفتها، ظلت ساكنة عدة لحظات قبل أن تبتسم أخيرا و هي تنظر الى وسادته الخالية بجوار وجهها...
لقد ذهب ليصلي الفجر في الجامع، لقد أيقظها ساعة الأذان و تركها، لكنها نامت مجددا بعد أن صلت صلاة الفجر...
انقلبت على معدتها و هي تتلمس وسادته بشرود، حيث كان رأسه قابعا طوال الليل...
ثم ابتسمت أكثر، انها تشعر بالراحة...
تشعر بالإستقرار، تشعر أنها أصبحت تنتمي اليه أخيرا كما ينبغي أن يكون مكانها...
سليم، ذلك الوجه الصبوح، و القلب الذي لم تعرف بنقائه قلبا من قبل...
أصبحت زوجته فعلا، و تمنت من كل قلبها أن تكون قد منحته السعادة التي يستحقها...
و مع الوقت لن يكون صعبا أبدا أن تقع في غرامه، هي فقط تحتاج الى الوقت...
ابتسمت سوار برقة و هي تنهض من السرير، لتنفض خصلات شعرها الطويلة الندية خلف ظهرها...
و اقتربت من المرآه كي تهذب من شكلها، تمشيط شعرها أصبح مزعجا جدا، الا أنها لن تقصه...
هكذا كانت تحبه أمها، و هكذا ستظل...
كانت شاردة، ناظرة الى المرآة مبتسمة بحزن، و هي تلتقط ذكريات عديدة لها مع أمها...
الى أن سمعت صوت الباب يفتح، و دخل سليم مبتسما...
كم بدا راضيا، طيبا، جميلا...
اقترب منها ببطىء ناظرا الى عينيها، الى أن وصل اليها، فأمسك بجانبي وجهها برفق، و سبحته لا تزال بين أصابعه، انحنى ليقبل جبهتها برفق، قبلة طويلة...
جعلتها ترغب في البكاء، قبل أن يرفع رأسه قائلا ببشاشة
(صباحية مباركة يا عروس)
ابتسمت له سوار بملامح محمرة خجلا، قبل أن تقول بصوتها القوي الناعم
(صباحية مباركة يا أغلى الناس)
ظل سليم ينظر اليها طويلا، يتأمل جمالها، و بهاء حسنها، قبل أن يقول بهدوء راض.
(ماذا فعلت كي تمنحيني هدية الأمس؟)
ظلت تنظر اليه مبتسمة قبل ان ترفع يدها تتلمس وجنته برفق لتقول بصدق
(فعلت انك كنت انت، سليم، النعمه التي اهداني بها القدر لتربت على احزاني، و تحميني)
ربت سليم على وجنتها برقة، قبل ان يقول سعيدا منشرحا
(أمام هذا الكلام الجميل، لك أن تطلبي ما تشائين اليوم، و سأنفذه لك)
ابتسمت سوار بطفولية، رغم سنوات عمرها الثمانية و العشرين، لتقول بسعادة حقيقية...
(اي شيء؟).
رد سليم بثقة و تأكيد
(أي شيء)
قالت سوار بلهفة
(أريد زيارة المدينة، اشتقت للخروج و ارتداء الملابس العصرية، أريد التنزه و الشراء، اشتقت الى كل تلك الأشياء)
كان سليم ينظر الى سعادتها البادية على ملامحها منتشيا، قبل أن يقول موافقا
(لك هذا، ستكون رحلة طويلة، ستخرجين فيها لكل مكان تتمنينه، و ترتدين كل ما تحبين من ملابسك الجميلة التي سجنتها في خزانتك منذ سنوات)
عاد ليربت على وجنتها المتوردة، قبل ان يقول بحنان.
(لكن الى ان يتم ترتيب تلك الزيارة، اطلبي ما تشائين اليوم)
ابتسمت سوار بملامح متألقة وهي تفكر مجددا قبل أن تقول متلهفة
(الخيل، منذ أن علمتني ركوب الخيل في الخفاء، لم أخرج معك في نزهة على ظهرها، أريد الخروج اليوم)
اتسعت عينا سليم بمرح وهو يقول
(هل أنت متأكدة من طلبك؟)
هتفت سوار بثقة و سعادة...
(متأكدة جدا).
اتسعت ابتسامة سليم، قبل ان يتركها متجها الى دولابه، و اخرج منه احد عبائاته الرجالية، و عمة و شال خاصين به...
وضعهما على السرير، ليقول بمكر
(اذن ارتدي هذه الملابس، و اسرعي قبل ان تكتظ الأرض بمزارعيها).
وقف بحصانه أمام تلك الأرض الواسعة...
في ساعات الشروق الأولى، متغزلا بسحرها، مستنشقا مسك طميها...
كانت هذه الساعة من كل يوم كفيلة بأن تجعله يرغب الحياة من جديد...
مزارع النخيل الممتدة على مرمى البصر، و الجبال الأبية من خلفها...
تلك اللوحة كانت جزءا من عشقه القديم، و مجيئه الى هناك يجعل قلبه لا يزال ينبض بالحياة...
صهل حصانه و التوى عنقه قليلا، فلجمه ليث، قبل أن يلفت انتباهه، فرسين مقبلين على الطريق المنحدر...
كان سليم. و معه شاب آخر، فوق الخيل، يتضاحكان بمرح و سعادة...
شعر ليث في تلك اللحظة بالراحة لرؤية سليم مجددا، بعد ليلة أمس و كلامه المقبض...
كان يتمنى لو ان يراه مجددا في أسرع وقت، خوفا من أن تكون شفافية سليم في محلها...
اخفض ليث وجهه وهو يتعيذ بالله، ثم حرك حصانه كي ينزل اليهما...
الا ان نظرة واحدة لعيني الشاب المتلفح بالوشاح المخفي لوجهه...
جعلته يتسمر مكانه...
عينان لن تخفيها ملابس رجال العالم، عينان بلون العسل الذائب...
لم تعلم تماما متى نامت. و متى أغلقت عينيها...
لم تعلم متى تحولت الذكريات الى أحلام، وهو يطاردها في كلاهما دون رحمة...
ساعتان مضنيتان، قضتهما و هي منكبة على جانبها، ملتفة حول نفسها كوضع الجنين...
ساعتان و هي على جانب واحد. ترفض الالتفات كي لا ترى مسك انهيار الدموع السخي على وجنتيها...
آلمتها عضلات جسدها كلها و هي تحاول جاهدة التسمر كي لا يظهر ارتعاش بكائها الحاد...
بينما اذنها تلتقط تحركات مسك في الغرفة هنا و هناك بعصبية الى ان ارتمت في سريرها أخيرا و هي لا تزال تهمس بجنون غاضب
الوغد أغلق الخط بوجههي، الوغد، الوغد، كيف سأنام الآن، كانت مسك تبدو اكثر عصبية لأن شخص اغلق الهاتف بوجهها، منها و هي مصدومة بخبر خطبتها ل...
قاصي...
اهتزت حدقتي تيماء و هي تحدق في الجدار المظلم أمامها دون صوت، بينما قلبها ينبض ببطىء، بطىء شنيع يجعلها أقرب للموت، يجعلها غير قادرة على التنفس دون ألم...
انها لم تعرف الغيرة في حياتها كلها...
علي الرغم من انها كانت مجرد فتاة عادية شكلا، لكنها كانت تعوض الجمال المبهر بقوة شخصيتها...
علي الرغم من انها كانت منبوذة من رعاية والدها، الا انها كانت تعوض ذلك بالتسلح بالقوة و التظاهر بمظهر السخرية...
كانت تسخر من تفاهة بعض الفتيات في اهتمامهن المرضي بجمالهن...
و كانت تسخر كاذبة من رغبتها التافهة القديمة في الهروب الى والدها، حيث الرجولة و قوة الشخصية...
الى أن اكتشفت أن الرجولة تطلب مواصفات، لا يمتلكها والدها كما كانت تعتقد...
الخلاصة أنها ترفض الشعور بالغيرة من مخلوق...
الا مسك...
حين رأتها أول مرة، رأتها مثال الجمال و العنفوان، كفرس جامحة...
لا وصف ينطبق عليها أفضل من فرس سوداء حريرية أبية...
و على الفور وقعت في حبها، خاصة مع نظرات الحب المتألقة في عينيها العنبريتين دون تمييز...
و كأنها تمنح الحب لكل من تقابله...
لكن خلال ثلاث سنوات، بدأت تيماء تتوتر...
كلما سمعت قاصي يهاتف مسك برقة...
كلما سمعته يمزح معها غاضبا، ثم يتنازل و يخبرها أنه سيكون عندها في الموعد المحدد لينهي لها ما تريد...
كانت عيناها تبرقان الما غير مبرر و هي تقف خلف جدار لتسمعه يهتف غضبا في هاتفه...
بأنه على وشك ضرب خطيب مسك لو تجرأ و أبكاها مجددا...
لم تعرف لماذا بدأت مشاعرها تتحول تدريجيا خلال هذه الثلاث سنوات من بداية أنوثتها. تجاه مسك...
لم تستطع الحدس الا في النهاية...
حين اعترفت لنفسها بأنها، تغار من مسك، تغار من علاقتها القوية بقاصي...
لأنها هي تيماء، تحب قاصي قبل حتى أن تعرف معنى الحب...
تحبه قبل حتى أن تعرف بأنها تحبه...
تتذكر أنها كانت تلح على قاصي أن يسمح لها بمقابلة مسك، ولو لخمس دقائق فقط...
وهو يرفض رفضا قاطعا، الى أن وافق في النهاية دون أن تلح عليه أكثر، و كأنها ضعف أمام رجائها...
فسافر بها خصيصا، كي تقابل مسك في مقهى، على أن يكون هذا اللقاء سريا فيما بينهم و الا فقد أقسم الا يحقق لها مطلبا مجددا لو نبذت عن هذا اللقاء بكلمة لمخلوق...
و كانت مسك تنتظرهما في المقهى بالفعل بعد أن أبلغها قاصي برغبة تيماء العنيفة في رؤيتها مجددا...
لن تنسى ابدا كم بدت مسك يومها كلوحة من الجمال و الجاذبية...
حيث كانت تجلس وحيدة عند احدى الطاولات، تراقب الطرق من النافذة بشرود مبتسم...
لا تحمل للدنيا أي هم...
و في يديها قدح من القهوة يتصاعد البخار منه...
و شعرها الأسود الطويل منهمر على احد كتفيها...
كانت جميلة و مبتسمة دائما، و كأنها قد ولدت بابتسامة فطرية...
حين رأتهما ازدادت ابتسامتها فزاد جمالها، و نهضت من مكانها لتصافح تيماء المرتبكة بيد ثابتة ناعمة و هي تقول بود
مرحبا تيماء، سرتني رغبتك في رؤيتي مجددا، حينها ابتسمت تيماء و هي تقول بعفوية منبهرة.
انت حتى اجمل من المرة السابقة!، اتسعت عينا مسك بدهشة، قبل ان ترفعهما الى قاصي الواقف بالقرب من تيماء يراقبها بصمت و يداه في جيبي بنطاله باهمال، ثم قالت مسك ضاحكة
حسنا، انها تجيد الكلام و لديها نظرة ثاقبة، استدارت مسك و هي تلتقط هدية مغلفة ثم التفتت الى تيماء تقول برفق
احضرت لك هدية يا تيماء، لم تكن سعادتها في هذا الوقت تماثلها اي سعادة اخرى...
كانت سعادة خالصة، قبل ان تلوثها نيران الغيرة فيما بعد...
لا أقبل بأقل من الملكية الحصرية، تلك كانت عبارته الفجة حين تنازل و منحها شرف حبه...
تلك العبارة أثارت بها رجفة من السعادة و الخوف في آن واحد...
لكن الا يحق لها أن تنسخ نفس العبارة لنفسها...
و تصرخ به أنها لن تقبل بأقل من الملكية الحصرية له كذلك؟، و إن كانت تشك في ان يخضع قاصي لأي امتلاك...
فهل تمتلك العواصف؟
تعرفين أن كل شيء سيتغير من اليوم، أليس كذلك؟، كانت تلك هي عبارته أيضا، و قد منحته التأكيد و صك الملكية...
و بالفعل تغير كل شيء...
لم تتخيل كيف يتحول رجل كانت تتمنى منه نظرة اهتمام بينما هو يتجنبها باصرار الى كل هذا الشغف في مشاعره العنيفة...
كان حبيبا متملكا بصورة لا تقبل الجدال حتى...
عيناه العاصفتان باتت تحاصرانها دون رحمة، دون الشفقة على سنوات عمرها السبعة عشر...
تخاف قليلا من بريق الإمتلاك بهما، الا أن الجذل القوي بداخل قلبها كان يجعلها ترمي نفسها في دوامة حبه مرحبة بالغرق، طالما سينتهي بها الغرق ملقاة على شواطيء صدره الرحب...
في الاشهر الأخيرة من عام الثانوية العامة، كانت تخرج من مدرستها دائما و تسرع الخطى بوجل الى شارع جانبي من شارع آخر، لتجده ينتظرها مستندا الى دراجة بخارية، تلك الدراجة التي صرف عليها كل مدخراته و اشتراها مستعملة و لا يزال يتحمل ديون المتبقي من ثمنها، ليسافر بها لمدة ثلاث ساعات...
فقط ليراها!
لم يقبل أن يقابلها بسيارة والدها، وهي تفهمت احساسه بالذنب.
كانت مسك لا تزال على حالها، و هي تنظر اليه بذهول، قبل أن تقول
(لقد أغلق الخط!، لقد أغلق الخط!)
أمسكت هاتفها و رمته جانبا بقوة و هي تهتف بحدة بينما عيناها تشتعلان
(تبا، لقد أغلق الخط و أنا أتكلم، من يظن نفسه؟)
تكلمت تيماء من خلفها بتوتر
(هل أنت بخير؟، من هو هذا الذي أغلق الخط بوجهك؟).
انتفضت مسك و هي تستدير الى تيماء التي كانت قد ارتدت منامتها التي اخرجتها من حقيبتها و استلقت على سريرها، فقالت مسك بفظاظة و عنف
(الازلت هنا؟)
رفعت تيماء حاجبيها و هي تقول بخفوت
(اين اذهب؟)
قالت مسك و هي تزفر بقوة
(حسنا نامي الآن، تبدين متعبة)
قالت تيماء بصوت اكثر خفوتا
(و انت كذلك)
ابعدت مسك وجهها عنها و هي تقول بصلابة
(أنا بخير، لقد تعودت الصدمات، اما انت فتبدين كمن على وشك الإنهيار عصبيا).
نظرت تيماء الى سقف غرفتها دون ان ترد، نعم كانت متعبة و تعرف أنها حين تصل الى هذه الدرجة من التعب الجسدي و الذهني تصبح على حافة الإنهيار، و الإنهيار الآن لن يساعدها أبدا...
ضيقت عينيها تنظر الى سقف الغرفة، لتجد أنها ترى عينيه، فمه، فكه القوي...
ملامح وجهه تأبى أن تغادرها أبدا، بينما كل كيانها يصرخ متسائلا عن حاله الآن...
هل هو بخير؟، قاصي ليس بخير، و قلبها يخبرها ذلك
ألم يكن قلبها دليلها دائما؟
سمعت صوت رنين هاتف مسك مجددا، قبل أن تسمع صوتها يرد بخفوت و لطف
(نعم يا قاصي)
اندفع رأس تيماء و هي تنظر بعنف الى مسك التي استلقت على جانبها، توليها ظهرها و الهاتف على أذنها لتقول بصوت حنون لم تسمعه منها قبلا...
(أنا بخير، لا تخف، كنت شديدة الحدة معك، اعذرني، لكن الصدمة كانت قوية)
فغرت تيماء شفتيها و الألم ينحر صدرها بوحشية...
كانت تسأل عن حاله للتو، قلقة عليه، و قلبها يخبرها بأنه ليس بخير و أنه يحتاجها...
بينما هو يتصل بمسك ليطمئن عليها!
لو كان نصل خنجر بارد قد غرس في قلبها، لما آلمها أكثر...
تابعت مسك كلامها همسا
(امممم نعم بخير، على الأقل لا حركات هيستيرية، فأنا لا أتحملها، كم أنت غريب يا قاصي، الا تهتم بنفسك، كيف يمكنك أن تفكر بغيرك في تلك اللحظة؟، لا بأس من البكاء يا قاصي).
كانت تيماء لا تزال ناظرة الى السقف و هي تستمع الى صوت مسك الذي يذوب حنانا، مخاطبة قاصي...
قاصي، قاصيها هي...
هي من عليها أن تكون بجواره، هي من كانت تمتص غضبه و عنفه دائما...
هي كانت حضنه الدافىء كلما احتدت مشاعره و قسوة ما يحسه...
قالت مسك تقاطع أفكارها بخفوت حنون
(لا حبيبي، أنت لست بخير).
شهقت تيماء بقوة الا أن يدها ارتفعت الى فمها تمنع شهقتها من الخروج لتشق هذا الظلام الصامت، بينما اتسعت عيناها حد الذهول و الصدمة...
رفعت كفها الأخرى أيضا كي تكتم شهقتها تماما، بينما اندفعت الدموع الغزيرة من عينيها بعنف و هي تستمع الى مسك تقول بلهجة عفوية بسيطة...
(ابق وحدك، و لا تخشى من اظهار مشاعرك يا قاصي، ليس هناك ما يعيبك، و تذكر أنك اليوم قد انتصرت)
همست مسك بصوت اكثر خفوتا.
(اذهب الآن، سأكون مستيقظة طوال الليل لو احتجت ان تهاتفني)
ساد صمت قليل قبل ان تهمس برقة
(سنحلها، سنحلها، اهتم فقط بنفسك الآن، حسنا هي تحت انظاري لا تخف)
سمعت تيماء مسك و هي تضع الهاتف جانبا فوق منضدة جانبية...
فاستدارت بسرعة على جانبها الاخر، تدفن وجهها في وسادتها و تغمض عينيها لتبكي، تبكي بعنف...
اكثر انواع البكاء عذابا، هو ذلك الذي تكتم صوت شهقاته...
كان جسدها يرتج بقوة، و الام يعتصر جسدها الصغير، حتى ان الضغط على جانبي عينيها زاد حتى شعرت بالدوار من شدة ما بكت و كتمت شهقاتها...
سمعت صوت طرق خافت على الباب، فنهضت مسك من مكانها كي تفتح الباب...
و سمعت تيماء بعض الجلبة، قبل ان تغلق مسك الباب ثانية...
اقتربت من سرير تيماء بخفة، حتى انحنت اليها و ربتت على كتفها و هي تهمس
(تيماء، لقد وصل الطعام، ألن تأكلي؟، تيماء).
كم كانت معجزة ان تتقن دورها، و تتفنن في كبت اهتزازات جسدها المنتفض، الى أن استقامت مسك و ابتعدت عنها...
حينها تمكنت من التنفس، قبل الإغماء و الرحيل بعيدا عن هذا العالم الموجع...
وصل الى بيته بعد جري طويل، طويل، على ظهر حصانه...
كان يجري به منطلقا، وهو يود لو يمنحه الطيران بفرسه بعضا من النسيان...
كان البيت ساكنا، على غير عادته، و كان هذا اعظم ما تمناه في تلك اللحظة...
اقترب مثقل الكتفين، متعب الجسد من السلم، واضعا يده على حاجزه و كأنه مسن يحتاج الى المساعدة
علي الرغم من أنه قطع الأراضي كلها نهبا بفرسه دون أن يكل أو يتعب...
وضع قدمه على الدرجة الأولى، الا أنه توقف مكانه حين سمع صوتها من خلفه يقول بنعومة
(مساء الخير يا ليث)
لم يكن يريد أن يراها الآن، و لا يشعر بتأنيب الضمير وهو يفكر بهذا...
كانت آخر من يتمنى رؤيته في هذه اللحظة بالذات...
لذا قال بصوت قاتم موجز
(مساء الخير ميسرة، اعذريني سأذهب للنوم مباشرة، فأنا أشعر بتوعك و عدم الرغبة في الكلام).
أمل أن تغضب، و تتراجع، و تجرحها كرامتها، الا أنها خيبت ظنه و قالت بصوت رائق متسلي
(اتشعر بعدم الرغبة في النظر إلى كذلك؟)
اغمض عينيه للحظة قبل ان يقول بجمود و تأكيد
(نعم، أحسنت، لا أشعر بالرغبة في النظر اليك)
سمع صوت خطواتها تقترب منه ببطىء، الى أن وقفت خلفه تماما، لتقول بنبرة مطاطة ناعمة
(لكن أنا أرغب في النظر اليك، فما رأيك؟)
قال ليث بصرامة و قوة
(اذهبي الى غرفتك يا ميسرة، الآن).
لكنها لم تتحرك، بل قالت ببرود
(هل كنت عندها؟)
الان اضطر الى ان يراها مرغما وهو يستدير بعنف قائلا بصيغة تهديد حذرة، بينما ملامحه الرجولية تنطق بالشر
(من تقصدين؟)
هزت كتفيها و هي تقول ببساطة مقصودة
(ابنة عمتك المصون)
اندفع الدم في رأسه يغلي قبل ان يصرخ بقوة
(ميسرة، كلامك تطير له الرقاب)
لم ترتجف، ليس عن شجاعة، فهو يعرفها جيدا، بل عن نقص احساس و اخلاق...
فقدت التسلية المزيفة على وجهها، قبل ان تصرخ قائلة...
(لماذا؟، لأنني أقول الحقيقة؟، الم تكن في ارض الرافعية؟، لمن كنت ذاهبا؟، لا تخبرني انك كنت تزور جدها الذي رفض طلبك قديما)
اندفع ليث نازلا الدرجة التي صعدها ليطبق بكفه على ذراعها وهو يهزها بعنف هادرا
(ماذا أفعل لأربيك؟، ماذا؟، أخبريني بالله عليك، ضرب و ضربتك، هجر في الفراش و هجرتك بعد سنوات من المحاولة بالمعروف، ماذا، اخبريني ماذا على أن أفعل كي تتقي الله في غيرك؟)
ضربت الأرض بقدميها و هي تصرخ بشراسة.
(هل تدينني لأنني أغار على زوجي؟)
هزها مجددا بعنف وهو يصرخ قائلا
(لا تصفي مشاعرك بالغيرة، من يغار يمتلك القدرة على الحب و انت لن تعرفي الحب ابدا، ما ترتكبينه كفر، كفر)
هتفت ميسرة بحقد
(لا تدخل الامور ببعضها يا ليث، انا احدثك عن سوااا)
شدد قبضته على ذراعها حتى كاد الدم ان ينقطع عنها فاتسعت عيناها و شهقت الما، قبل ان يقول ليث بصوت خافت مهددا
(لا تذكري اسمها، مطلقا).
كانت تتطلع الى عينيه بتحد رغم الألم الذي تشعر به، لكنها قالت بصوت بدا في اذنه اكثر شرا من اي شيء آخر
(انها تسحر لك، و انت ترفض التصديق)
ابتسم، ابتسم فعلا ابتسامة كارهة، لا تحمل أي أثر للمرح وهو يقول بقسوة جليدية
(لماذا؟، أتظنين أنها مثلك؟، تسير حياتها كلها بالسحر الأسود؟)
ظلت تنظر اليه قليلا بنظرات حارقة، قبل أن تقول بجمود
(لقد توقفت عن ذلك، لقد قطعت لك وعدا)
ظل ينظر اليها بتقزز، قبل أن يقول بلا تردد.
(لا أصدقك، الغضب الأسود مرتسم على ملامحك، يقتل بك أي جمال، بالله عليك كنت تسحرين لأختى الوحيدة، و أشقائي، حتى والدتي كنت تسحرين لها، كيف يمكن وصفك بالإنسانة المثقفة؟، كيف يمكن تبرير جهلك؟)
صمتت، أخيرا صمتت، و كان هذا هو ما يريده، أن تصمت و تبتعد عن عينيه في تلك اللحظة...
ابعد يده عن ذراعها مشمئزا، قبل أن يقول متنفسا بتعب.
(اذهبي الى غرفتك يا ميسرة، تطهري و حاولي الإمساك بمصحفك المهجور، لعله يبعد عنك شرور نفسك)
برقت عينا ميسرة و هي تراه يستدير ليوليها ظهره صاعدا السلم الى غرفته...
و ما أن اختفى حتى همست بشر
(أعرف ما تفعلينه يا بنت وهدة، فلا يفهم السحر الا ساحر، حسنا، تدخلين معي بتحدي فأنت الخاسرة)
ابتعدت بعنف و هي تجر عبائتها الفخمة من حولها، مسرعة الى غرفتها...
حيث سيكون لها حوارا آخر هناك، و لتنتظر منها بنت وهدة أياما أشد ظلاما من ليل بلا قمر...
تمطت بدلال في فراشها الوثير، و رمشت بعينيها عدة مرات قبل أن تفتحهما تماما على مرآى شعاع الشروق الرمادي ينبعث من نافذة غرفتها، ظلت ساكنة عدة لحظات قبل أن تبتسم أخيرا و هي تنظر الى وسادته الخالية بجوار وجهها...
لقد ذهب ليصلي الفجر في الجامع، لقد أيقظها ساعة الأذان و تركها، لكنها نامت مجددا بعد أن صلت صلاة الفجر...
انقلبت على معدتها و هي تتلمس وسادته بشرود، حيث كان رأسه قابعا طوال الليل...
ثم ابتسمت أكثر، انها تشعر بالراحة...
تشعر بالإستقرار، تشعر أنها أصبحت تنتمي اليه أخيرا كما ينبغي أن يكون مكانها...
سليم، ذلك الوجه الصبوح، و القلب الذي لم تعرف بنقائه قلبا من قبل...
أصبحت زوجته فعلا، و تمنت من كل قلبها أن تكون قد منحته السعادة التي يستحقها...
و مع الوقت لن يكون صعبا أبدا أن تقع في غرامه، هي فقط تحتاج الى الوقت...
ابتسمت سوار برقة و هي تنهض من السرير، لتنفض خصلات شعرها الطويلة الندية خلف ظهرها...
و اقتربت من المرآه كي تهذب من شكلها، تمشيط شعرها أصبح مزعجا جدا، الا أنها لن تقصه...
هكذا كانت تحبه أمها، و هكذا ستظل...
كانت شاردة، ناظرة الى المرآة مبتسمة بحزن، و هي تلتقط ذكريات عديدة لها مع أمها...
الى أن سمعت صوت الباب يفتح، و دخل سليم مبتسما...
كم بدا راضيا، طيبا، جميلا...
اقترب منها ببطىء ناظرا الى عينيها، الى أن وصل اليها، فأمسك بجانبي وجهها برفق، و سبحته لا تزال بين أصابعه، انحنى ليقبل جبهتها برفق، قبلة طويلة...
جعلتها ترغب في البكاء، قبل أن يرفع رأسه قائلا ببشاشة
(صباحية مباركة يا عروس)
ابتسمت له سوار بملامح محمرة خجلا، قبل أن تقول بصوتها القوي الناعم
(صباحية مباركة يا أغلى الناس)
ظل سليم ينظر اليها طويلا، يتأمل جمالها، و بهاء حسنها، قبل أن يقول بهدوء راض.
(ماذا فعلت كي تمنحيني هدية الأمس؟)
ظلت تنظر اليه مبتسمة قبل ان ترفع يدها تتلمس وجنته برفق لتقول بصدق
(فعلت انك كنت انت، سليم، النعمه التي اهداني بها القدر لتربت على احزاني، و تحميني)
ربت سليم على وجنتها برقة، قبل ان يقول سعيدا منشرحا
(أمام هذا الكلام الجميل، لك أن تطلبي ما تشائين اليوم، و سأنفذه لك)
ابتسمت سوار بطفولية، رغم سنوات عمرها الثمانية و العشرين، لتقول بسعادة حقيقية...
(اي شيء؟).
رد سليم بثقة و تأكيد
(أي شيء)
قالت سوار بلهفة
(أريد زيارة المدينة، اشتقت للخروج و ارتداء الملابس العصرية، أريد التنزه و الشراء، اشتقت الى كل تلك الأشياء)
كان سليم ينظر الى سعادتها البادية على ملامحها منتشيا، قبل أن يقول موافقا
(لك هذا، ستكون رحلة طويلة، ستخرجين فيها لكل مكان تتمنينه، و ترتدين كل ما تحبين من ملابسك الجميلة التي سجنتها في خزانتك منذ سنوات)
عاد ليربت على وجنتها المتوردة، قبل ان يقول بحنان.
(لكن الى ان يتم ترتيب تلك الزيارة، اطلبي ما تشائين اليوم)
ابتسمت سوار بملامح متألقة وهي تفكر مجددا قبل أن تقول متلهفة
(الخيل، منذ أن علمتني ركوب الخيل في الخفاء، لم أخرج معك في نزهة على ظهرها، أريد الخروج اليوم)
اتسعت عينا سليم بمرح وهو يقول
(هل أنت متأكدة من طلبك؟)
هتفت سوار بثقة و سعادة...
(متأكدة جدا).
اتسعت ابتسامة سليم، قبل ان يتركها متجها الى دولابه، و اخرج منه احد عبائاته الرجالية، و عمة و شال خاصين به...
وضعهما على السرير، ليقول بمكر
(اذن ارتدي هذه الملابس، و اسرعي قبل ان تكتظ الأرض بمزارعيها).
وقف بحصانه أمام تلك الأرض الواسعة...
في ساعات الشروق الأولى، متغزلا بسحرها، مستنشقا مسك طميها...
كانت هذه الساعة من كل يوم كفيلة بأن تجعله يرغب الحياة من جديد...
مزارع النخيل الممتدة على مرمى البصر، و الجبال الأبية من خلفها...
تلك اللوحة كانت جزءا من عشقه القديم، و مجيئه الى هناك يجعل قلبه لا يزال ينبض بالحياة...
صهل حصانه و التوى عنقه قليلا، فلجمه ليث، قبل أن يلفت انتباهه، فرسين مقبلين على الطريق المنحدر...
كان سليم. و معه شاب آخر، فوق الخيل، يتضاحكان بمرح و سعادة...
شعر ليث في تلك اللحظة بالراحة لرؤية سليم مجددا، بعد ليلة أمس و كلامه المقبض...
كان يتمنى لو ان يراه مجددا في أسرع وقت، خوفا من أن تكون شفافية سليم في محلها...
اخفض ليث وجهه وهو يتعيذ بالله، ثم حرك حصانه كي ينزل اليهما...
الا ان نظرة واحدة لعيني الشاب المتلفح بالوشاح المخفي لوجهه...
جعلته يتسمر مكانه...
عينان لن تخفيها ملابس رجال العالم، عينان بلون العسل الذائب...
لم تعلم تماما متى نامت. و متى أغلقت عينيها...
لم تعلم متى تحولت الذكريات الى أحلام، وهو يطاردها في كلاهما دون رحمة...
ساعتان مضنيتان، قضتهما و هي منكبة على جانبها، ملتفة حول نفسها كوضع الجنين...
ساعتان و هي على جانب واحد. ترفض الالتفات كي لا ترى مسك انهيار الدموع السخي على وجنتيها...
آلمتها عضلات جسدها كلها و هي تحاول جاهدة التسمر كي لا يظهر ارتعاش بكائها الحاد...
بينما اذنها تلتقط تحركات مسك في الغرفة هنا و هناك بعصبية الى ان ارتمت في سريرها أخيرا و هي لا تزال تهمس بجنون غاضب
الوغد أغلق الخط بوجههي، الوغد، الوغد، كيف سأنام الآن، كانت مسك تبدو اكثر عصبية لأن شخص اغلق الهاتف بوجهها، منها و هي مصدومة بخبر خطبتها ل...
قاصي...
اهتزت حدقتي تيماء و هي تحدق في الجدار المظلم أمامها دون صوت، بينما قلبها ينبض ببطىء، بطىء شنيع يجعلها أقرب للموت، يجعلها غير قادرة على التنفس دون ألم...
انها لم تعرف الغيرة في حياتها كلها...
علي الرغم من انها كانت مجرد فتاة عادية شكلا، لكنها كانت تعوض الجمال المبهر بقوة شخصيتها...
علي الرغم من انها كانت منبوذة من رعاية والدها، الا انها كانت تعوض ذلك بالتسلح بالقوة و التظاهر بمظهر السخرية...
كانت تسخر من تفاهة بعض الفتيات في اهتمامهن المرضي بجمالهن...
و كانت تسخر كاذبة من رغبتها التافهة القديمة في الهروب الى والدها، حيث الرجولة و قوة الشخصية...
الى أن اكتشفت أن الرجولة تطلب مواصفات، لا يمتلكها والدها كما كانت تعتقد...
الخلاصة أنها ترفض الشعور بالغيرة من مخلوق...
الا مسك...
حين رأتها أول مرة، رأتها مثال الجمال و العنفوان، كفرس جامحة...
لا وصف ينطبق عليها أفضل من فرس سوداء حريرية أبية...
و على الفور وقعت في حبها، خاصة مع نظرات الحب المتألقة في عينيها العنبريتين دون تمييز...
و كأنها تمنح الحب لكل من تقابله...
لكن خلال ثلاث سنوات، بدأت تيماء تتوتر...
كلما سمعت قاصي يهاتف مسك برقة...
كلما سمعته يمزح معها غاضبا، ثم يتنازل و يخبرها أنه سيكون عندها في الموعد المحدد لينهي لها ما تريد...
كانت عيناها تبرقان الما غير مبرر و هي تقف خلف جدار لتسمعه يهتف غضبا في هاتفه...
بأنه على وشك ضرب خطيب مسك لو تجرأ و أبكاها مجددا...
لم تعرف لماذا بدأت مشاعرها تتحول تدريجيا خلال هذه الثلاث سنوات من بداية أنوثتها. تجاه مسك...
لم تستطع الحدس الا في النهاية...
حين اعترفت لنفسها بأنها، تغار من مسك، تغار من علاقتها القوية بقاصي...
لأنها هي تيماء، تحب قاصي قبل حتى أن تعرف معنى الحب...
تحبه قبل حتى أن تعرف بأنها تحبه...
تتذكر أنها كانت تلح على قاصي أن يسمح لها بمقابلة مسك، ولو لخمس دقائق فقط...
وهو يرفض رفضا قاطعا، الى أن وافق في النهاية دون أن تلح عليه أكثر، و كأنها ضعف أمام رجائها...
فسافر بها خصيصا، كي تقابل مسك في مقهى، على أن يكون هذا اللقاء سريا فيما بينهم و الا فقد أقسم الا يحقق لها مطلبا مجددا لو نبذت عن هذا اللقاء بكلمة لمخلوق...
و كانت مسك تنتظرهما في المقهى بالفعل بعد أن أبلغها قاصي برغبة تيماء العنيفة في رؤيتها مجددا...
لن تنسى ابدا كم بدت مسك يومها كلوحة من الجمال و الجاذبية...
حيث كانت تجلس وحيدة عند احدى الطاولات، تراقب الطرق من النافذة بشرود مبتسم...
لا تحمل للدنيا أي هم...
و في يديها قدح من القهوة يتصاعد البخار منه...
و شعرها الأسود الطويل منهمر على احد كتفيها...
كانت جميلة و مبتسمة دائما، و كأنها قد ولدت بابتسامة فطرية...
حين رأتهما ازدادت ابتسامتها فزاد جمالها، و نهضت من مكانها لتصافح تيماء المرتبكة بيد ثابتة ناعمة و هي تقول بود
مرحبا تيماء، سرتني رغبتك في رؤيتي مجددا، حينها ابتسمت تيماء و هي تقول بعفوية منبهرة.
انت حتى اجمل من المرة السابقة!، اتسعت عينا مسك بدهشة، قبل ان ترفعهما الى قاصي الواقف بالقرب من تيماء يراقبها بصمت و يداه في جيبي بنطاله باهمال، ثم قالت مسك ضاحكة
حسنا، انها تجيد الكلام و لديها نظرة ثاقبة، استدارت مسك و هي تلتقط هدية مغلفة ثم التفتت الى تيماء تقول برفق
احضرت لك هدية يا تيماء، لم تكن سعادتها في هذا الوقت تماثلها اي سعادة اخرى...
كانت سعادة خالصة، قبل ان تلوثها نيران الغيرة فيما بعد...
لا أقبل بأقل من الملكية الحصرية، تلك كانت عبارته الفجة حين تنازل و منحها شرف حبه...
تلك العبارة أثارت بها رجفة من السعادة و الخوف في آن واحد...
لكن الا يحق لها أن تنسخ نفس العبارة لنفسها...
و تصرخ به أنها لن تقبل بأقل من الملكية الحصرية له كذلك؟، و إن كانت تشك في ان يخضع قاصي لأي امتلاك...
فهل تمتلك العواصف؟
تعرفين أن كل شيء سيتغير من اليوم، أليس كذلك؟، كانت تلك هي عبارته أيضا، و قد منحته التأكيد و صك الملكية...
و بالفعل تغير كل شيء...
لم تتخيل كيف يتحول رجل كانت تتمنى منه نظرة اهتمام بينما هو يتجنبها باصرار الى كل هذا الشغف في مشاعره العنيفة...
كان حبيبا متملكا بصورة لا تقبل الجدال حتى...
عيناه العاصفتان باتت تحاصرانها دون رحمة، دون الشفقة على سنوات عمرها السبعة عشر...
تخاف قليلا من بريق الإمتلاك بهما، الا أن الجذل القوي بداخل قلبها كان يجعلها ترمي نفسها في دوامة حبه مرحبة بالغرق، طالما سينتهي بها الغرق ملقاة على شواطيء صدره الرحب...
في الاشهر الأخيرة من عام الثانوية العامة، كانت تخرج من مدرستها دائما و تسرع الخطى بوجل الى شارع جانبي من شارع آخر، لتجده ينتظرها مستندا الى دراجة بخارية، تلك الدراجة التي صرف عليها كل مدخراته و اشتراها مستعملة و لا يزال يتحمل ديون المتبقي من ثمنها، ليسافر بها لمدة ثلاث ساعات...
فقط ليراها!
لم يقبل أن يقابلها بسيارة والدها، وهي تفهمت احساسه بالذنب.
السادس عشر من هنا