رواية طائف في رحلة أبدية الفصل الحادي عشر 11 بقلم تميمة نبيل
الفصل الحادي عشر
كانت تلك هي الكلمة الملائمة تماما لما عاشته خلال الساعات الضئيلة السابقة...
لم تصدق هذا العالم الذي دخلت به فجأة. و كأنها خرجت من العالم الواقعي الى آخر خيالي أكثر جنونا...
ساقتها قدماها فوق السلالم صعودا دون هدف بينما صدرها يغلي بالإنفعال...
ما عرفته الليلة كان أكبر من قدرتها على الإحتمال...
وجدت تيماء نفسها أمام باب في نهاية السلم، فدفعته بقوة لا تعلم الى أين تتجه...
و كم أراحها أن يصفع الهواء البارد وجهها، و هي ترى الليل الأسود أمامها ممتدا بلا نهاية...
و أنها قد وصلت الى سطح القصر، أو الدار كما يقولون هنا...
علي أن هذا كان أضخم و أفخم من ان يكون مجرد دارا...
تقدمت على السطح الرخامي الواسع و هي تضم سترتها، و تدس كفيها في بدفىء جيبيها الى أن وصلت لسور السطح...
ارتفعت عيناها الى السماء المظلمة، لا تنيرها سوى بعضا من النجوم الماسية، و التي تبدو هنا أشد وضوحا من المدينة...
شفتيها المرتجفتين تخرجان نفسا كالبخار في هذا الجو الجليدي...
لكنها لم تكن تشعر بالبرد حقا...
بل كانت كل أعماقها تفور من هول هذا اليوم...
صدمات متوالية و صفعات تضربها واحدة تلو الأخرى دون هوادة...
قاصي الذي رأته هنا بعد فراق سنوات.
و أن يكون ابن عمها أيضا؟، فهذا هو ما لم تتخيله في أسوأ كوابيسها...
قصة خيالية، و جنونا لم تصدقه حتى الآن...
ليس هذا فحسب، بل في لمح البصر أصبح قاصي فجأة خطيب أختها!
تأوهت تيماء بصوت عال و هي تخرج كفاها من جيبي سترتها لتستند بهما الى سطح السور الرخامي...
مخفضة رأسها أمام تلك الضربة...
تتنفس بصوت مسموع و هي تستوعب ما حدث...
تستوعب منظر قاصي وهو يمسك بكفي مسك بحنان أمام عينيها المصعوقتين...
رفعت وجهها مجددا و هي تتأمل الليل القاتم الممتد أمامها، و صدرها يعلو و يهبط بسرعة عنيفة...
هذا المكان، تلك البلد الساحرة الجمال. لم تجلب لها سوى الشقاء في المرتين الوحيدتين اللتين زارتها بهما.
كانت المرة الأولى مجبرة عليها، أما هذه المرة فقد أتت بقدميها بمنتهى الغباء...
دون أن تتعظ مما حدث لها سابقا، لكن الرغبة في التشفي بوالدها و هي تعود رافعة رأسها أمام الجميع أعمت بصيرتها عن مخاطر تلك الزيارة...
و الآن عليها دفع الثمن...
أن يخبرها بأنه قد انتظرها كل تلك السنوات، و أن عليها العودة، و الأ...
و الا فسوف يتزوج من أختها!
ضربت تيماء السور الرخامي فجأة بقبضتها و هي تهتف بقوة شقت سكون الليل
(تبا لك يا تيماء، تبا، تبا لغبائك)
عادت لتطرق برأسها مجددا، و هي تلهث بعنف، أفكارها مضطربة و قلبها ينتفض...
الماضي كان و كأنه شريط يدور بخيالها، و كأنه كان الأمس، عاد بعودة قاصي الى حياتها فجأة
كيف ظنت أنها قد قصته عن حياتها، و هل يقصى قاصي؟
لقد كان الجزء الأكبر و الأكثر ثباتا من حياتها...
قاصي كان دوما مرساها...
منذ عشر سنوات...
ارتمى على مقعده بعد يوم عمل طويل شاق...
أرجع رأسه للخلف وهو يغمض عينيه بتعب...
يتسائل الى متى، الى متى سيظل يدور في حلقات مفرغة من حياته بلا هدف...
انقبضت كفاه رغما عنه على ذراعي المقعد...
يستمع الى لحن غربي عنيف، هادر، من مسجل الاغاني الحديث الخاص به...
علو صوته المجسم يناسب ارتفاع و انخفاض عضلات صدره المتقافزة بتشنج...
لكنه لم يفتح عينيه...
كان في تلك الفترة من يومه التي يغمض بها عينيه عن العالم من حوله، و يبقى وحيدا مع لحن عاصف يشكل حاجزا أقوى بينه و بين الخارج...
يبقى مع أمه...
يسمع صوتها، يشتم رائحة ثوبها الأسود القديم...
هسيس أنفاسها المتسارعة و هي تسرع به، ممسكة بكفه الصغير...
من قطار الى آخر...
لا يرى منها سوى عينيها الظاهرتين من غطاء وجهها، بهما الخوف، و التصميم في آن واحد...
التصميم على الهرب...
لا يزال يتذكر تلك الرائحة الجميلة، رائحة الأرض العالقة بثوبها، ممتزجة بالقمح و المسك...
كانت سيدة بسيطة جدا، بسيطة العقل و التفكير...
لا يذكر أنها نطقت يوما بشيء ذو أهمية...
لكنها كانت من القوة بحيث حمته و هربت به طويلا...
هرب لم ينتهى منذ حملها به، و حتى مولده، و بعدها بسنوات ليست بكثيرة...
سنوات طفولته إن كان من العدل ان تسمى طفولة...
سنوات ما كانت سوى رحلة للهرب. من مدينة لأخرى، من قطار لآخر...
وهو يجري خلفها منذ تعلمت قدماه الصغيرتان المشي، فأجبرته على الركض ممسكة بكفه...
تحمل فوق رأسها كل ما تملكه من أمتعة، ملتفة بشرشف أبيض متهالك معقود...
لا يقع من فوق رأسها بمهارة مهما أسرعت الخطى...
أجفل فجأة و انتفض على اهتزاز هاتفه في جيب بنطاله!
كان رنينه عاليا الا أنه لم يسمعه في خلوته الصاخبة ذات الألحان العنيفة المجنونة...
فقط الإهتزاز هو ما نبهه الى أن هناك متطفل سمج يقتحم خلوته...
أعتدل قليلا بملل وهو يخرج هاتفه من جيب البنطال الجينز الضيق، ثم نظر اليه ليدرك الرقم بسرعة...
حينها عقد حاجبيه بعدم راحة، زادته مؤخرا و كأنه كان ينقصها...
وضع الهاتف على أذنه ليقول بجمود.
(مساء الخير سيدة ثريا)
وصله صوتها المرتجف بعد فترة صمت قصيرة، خافت متردد
(قاصي!)
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يقول بصلابة
(نعم أنا، إنها ليست المرة الأولى التي تتصلين فيها بي)
بدت متوترة من أنفاسها المتسارعة مما جعل صبره ينفذ بقلق، فقال بصوت قوي
(سيدة ثريا، هل حدث شيء؟، هل تحتاجين لأي شيء؟)
استمر صمتها لعدة لحظات قبل أن تقول بتوتر
(تيماء).
عادت لتصمت مجددا، الا أن الاسم الغريب كان كفيلا بأن يجعل عضلات جسده تتوتر أكثر، و هو يدرك أن هناك مشاكل قادمة و متوالية...
ذكرى ذلك الوجه الطفولي لا تزال تتلاعب بعقله دون أن يدرك لذلك سببا...
إنها بالفعل أكثر من أكثر الوجوه ازعاجا و تأثيرا في النفس...
قال قاصي بصلابة
(ماذا بها تيماء؟)
قالت ثريا بتردد
(لقد، خرجت منذ الصباح، و لم تعد حتى الآن).
ازداد انعقاد حاجبي قاصي أكثر و أكثر وهو ينظر إلى ساعة معصمه، ليجد أنها تقارب الثامنة مساءا، فنهض واقفا وهو يقول بصوت مشتد
(الا تمتلك هاتفا؟)
قالت ثريا بمزيد من التوتر
(لقد تركته هنا)
شتم قاصي بصوت لم يأبه بأن يخفضه عن اذنها، ثم قال بغضب
(و لماذا تأخرت في التصرف حتى هذه الساعة بالله عليك؟)
ردت ثريا بصوت أكثر حدة
(تيماء غير قابلة للسيطرة عليها، إنها تخرج حين تحتاج و تستطيع حماية نفسها).
رفع قاصي يده بذهول محدقا للسقف بغضب، قبل أن يسقطها ضاربا ساقه وهو يقول بقوة
(اي حماية تلك؟، سبق و اخبرتك أنها مجرد طفلة سيدة ثريا)
قالت ثريا بهدوء مفاجىء
(أتظنني قد هاتفتك الآن لأنني خائفة مما قد يحدث لها؟)
تسمر قاصي مكانه مذهولا من مدى هدوئها المفاجىء، و قال بصوت غريب
(على ما يبدو أنك لست خائفة اطلاقا!)
قالت ثريا مصدقة على كلامه.
(نعم انا لست خائفة، أنا أمها و أعرفها جيدا، تيماء تستطيع حماية نفسها جيدا و هي لا تقدم على اي تصرف متهور قد يؤذيها، إنها تستخدم وسيلة ضغط على كي أرضخ لطلباتها، إنها أكثر نضجا مما تظن أو تتخيل، انها اكثر نضجا مني أنا شخصيا، و البيت هنا قائم و معتمد عليها)
أوشك قاصي على أن يشد خصلات شعره الطويل ذهولا و غيظا...
الا أن اهتماما جعله يقول بصوت واقعي مدرك...
(فهمت الآن، سبب اتصالك هو أنك تريدين مني التصرف قبل أن يعرف السيد سالم بالأمر و يغضب مجددا)
توتر صوتها و هي تقول
(أليست تلك هي وظيفتك التي وكلك بها سالم؟، اسمع أنا لن أسمح لك بأن تذلني، لو لن تتحرك فأخرج أنا للبحث عنها، لكن من فضلك انسى هذا الإتصال و لا تخبر سالم به)
ساد صمت متوتر بينهما قبل أن يقول قاصي بصوت جامد غريب
(قلبك غريب أيتها السيدة)
ردت عليه ثريا بهدوء.
(لو تعرفت الى تيماء أكثر لأدركت أنني لست فاسدة القلب الى هذا الحد، اذن هل ستتحرك أنت أم أتحرك أنا؟).
أدرك أنه محظوظ بالفعل...
ربما كان ذكاءه جديرا بالإعجاب، لكنه لن ينكر دور الحظ الجيد...
لم يحتاج الى اللف الطويل، لم يحتاج الى ساعات و ساعات من البحث...
كل ما فعله هو انه اقتحم تفكير تلك الفتاة، ووضع نفسه مكانها و تسائل
لو كنت هي، فألى أين يمكنني الذهاب كي أثير جنون جميع من حولي؟، ووفقا للجواب الذي طبع سريعا على حافة ذهنه دون الحاجة للتفكير، انطلق مسرعا الى المكان المستنتج...
لحظات وقف مكانه، متنفسا الصعداء
مستندا بكتفه الى أحد الأعمدة الرخامية الخاصة بمحطة الحافلات، يداه في جيبي بنطاله الجينز...
و معطف اسود طويل يتطاير قليلا من خلفه، يماثل تطاير شعره الطويل الذي يكاد أن يلامس كتفيه...
يراقب جلوسها مطرقة الرأس على أحد المقاعد في الظلام، و البشر يتجولون من حولها، ما بين مسافر و عائد، لا أحد منهم يلحظ وجودها الوحيد الغريب في الزحام...
بجوارها حقيبة صغيرة، ليست حقيبة ملابس بل أصغر قليلا، و كأنها تضم ما تحتاجه فقط من بعض الطعام و قنينة ماء، بينما ساقيها تتأرجحان بلا اهتمام أو حماس، كطفلة انتابها الملل في آخر ساعات نزهتها...
لا يعلم لماذا لم يتقدم ناحيتها على الفور!
لماذا يقف مكانه يراقب شرودها الساكن، و ساقيها المتأرجحتان بيأس...
شعور غريب بالغضب انتابه وهو يدرك أنها هذه المرة لم تلجأ اليه على الرغم من معرفتها بعنوانه...
بل سافرت لمسافة تقتضي ثلاث ساعات، و جلست هنا بغير هدف...
ربما ظنت أنه سيطردها هذه المرة بغير رحمة و يلقي بها في الطريق، ففضلت اختصار الأمر...
هذا الإستنتاج جعله غاضبا بشدة، غاضبا أكثر مما توقع...
أوشك على التحرك تجاهها، الا أنه توقف وهو يلمح رجل يبدو أربعيني العمر، يقترب منها الى أن جلس بجوارها على المقعد...
انعقد حاجبي قاصي و ضيق عينيه، وهو يلمح نظرات الرجل التي لا تفارق تيماء بشكل يثير القلق...
تكلم الرجل مبتسما فالتفتت اليه تيماء بلا حماس...
أخذت تستمع اليه قليلا، ثم نظرت الى ساعة معصمها الوردية و بدأت تشرح له شيئا ما بأصابعها مشيرة الى اللوحة الضخمة الخاصة بتوقيت الحافلات و لحظات وصولها...
فهي خبيرة على مايبدو...
من الواضح أنها تستطيع السفر بمهارة بين المحافظات و المدن القريبة...
لكن قاصي لم يراقبها هي، بل تركز نظره اكثر على الرجل الذي كان يقترب منها في المقعد ببطىء غير ملحوظ، و عيناه تتحركان عليها كلها...
الى أن بات لا يفصلهما شيئا، فرفع ذراعه ليضعه على ظهر المقعد من خلفها...
و فجأة أمسك بمعصمها وهو يتظاهر بالنظر الى ساعتها الوردية...
حينها اندفع قاصي من مكانه تجاههما...
عيناه لا تحيدان عن كف الرجل وهو يسرع الخطى، ليرى كفه الأخرى التي استقرت على فخذها برفق...
حينها لم يشعر قاصي بنفسه الا وهو يجري بعنف و معطفه يتطاير خلفه...
و لحظتين كان قد وصل اليهما فقبض على جانبي سترة الرجل ليرفعه واقفا أمام ذهول تيماء التي انتفضت واقفة بذعر من منظر قاصي المفاجىء المرعب، فقد بدا شديد الوحشية في تلك اللحظة وهو يهز الرجل بقسوة هادرا بصوت رج أنحاء محطة الحافلات
(ماذا تريد منها؟، لماذا كنت تضع يدك عليها؟).
بهت وجه الرجل حتى حاكى شحوب الاموات وهو يتطلع حوله بهلع، قائلا بتلعثم مرتبك
(على مهلك يا رجل، كنت أسألها فقط عن موعد الحافلة المتجهة الى)
لكن قاصي لم يمهله الوقت ليتابع كلامه وهو يهزه بعنف صارخا
(تسأل طفلة صغيرة عوضا عن تسأل العاملين هنا؟)
هتف الرجل بذعر و قد بدا الناس يلتفون من حولهم
(انها في عمر ابنتي و لم يحدث شيء، ابتعد من هنا أنت تثير الفضائح).
كان قاصي يصغر الرجل بما لا يقل عن خمسة عشر عاما أو أكثر، و مع ذلك كان يفوقه طولا و قوة وهو يرجه كقطعة من القماش البالية، و عيناه تقدحان شررا كافيا بشكل كافيا بالقاء الرعب في أي كان...
وهو يصرخ بوحشية
(كنت تضع يدك عليها)
بينما الرجل بدا مدانا من مجرد نظرات عينيه الخائفتين من الفضائح، وهو يقول بصوت خافت
(اهدأ، أنا، أنت فهمت الأمر خطأ إنها مجرد طفلة صغيرة و أنا كنت أظنها تائهة)
هدر قاصي مجددا بشراسة.
(كنت تظنها تائهة أم كنت تسألها عن موعد الحافلة؟، استقر على كذبة أيها الحقير)
و دون ان يسمح له بالكلام كان قد لكمه بقوة جعلته يتراجع للخلف حتى سقط مرتميا على المقعد الذي انتزعه منه قاصي منذ دقائق...
و مع ذهول المتواجدين، و ذهول تيماء نفسها، تحرك قاصي مندفعا لينتزع حقيبتها من على المقعد. ثم قبض على معصمها بكف كالحديد و جرها خلفه...
ظلت تلهث و هي تركض خلفه كي تجاري خطاه الواسعة...
لكن ذعرها في تلك اللحظة كان أكبر من أن تتحداه...
فهذا الذي يجرها خلفه، لم يكن نفسه الذي أخذ يعزف على الجيتار و يرقص معها بحماقة...
ليس نفسه الذي كان يجمع شعره في ربطة مرتبة...
بل كان مخيف العينين، عينيه كانتا و كأنهما تشتعلان، و كأن بهما حمما غريبة...
شعره يتطاير من حول وجهه بحرية و همجية...
و ملامحه بدت و كأنها قد نحتت في صخر لا يلين...
و صلا الى السيارة التي استقلتها معه المرة السابقة، ففتح لها الباب الامامي و دفعها بفظاظة...
فسقطت جالسة على المقعد، قبل أن يصفق الباب بعنف أمام ذهولها الذي لم يخبو بعد...
بينما فتح الباب الخلفي ليلقي بحقيبتها على المقعد الخلفي و يصفقه هو الآخر...
لحظات و كان قد دار حول السيارة ليرتمي مكانه بعنف جعل السيارة تهتز...
و تيماء كل هذا الوقت تراقبه بصمت و هي فاغرة الشفتين، و انفاسها تخرج من بينهما لاهثة مرتجفة...
ارتجفت حين سكن مكانه عدة لحظات و يداه على المقود. مخفض الرأس قليلا و شعره متهدل حول وجهه يخفي عنها ملامحه الفتية الهادرة...
لكنها استطاعت أن تلمح صدره، كان لا يزال يعلو و يهبط بسرعة و عنف...
و كان هذا يزيد ارتجافها، إنها المرة الأولى التي تشعر فيها بالخوف من شخص ما...
إنها حتى لم تشعر بالخوف من ذلك الرجل الذي كان يجلس بجوارها على المقعد في المحطة...
بل لم تدرك سر عنف قاصي ووحشيته الى هذا الحد...
علي ما يبدو ان الرجل كان سيء النوايا، لكنها لم تشعر بذلك!، لم تتعرض الى موقف ذو نوايا سيئة من قبل الجنس الآخر كي تعرف...
رفع قاصي وجهه اليها أخيرا، أخذت عيناه تراقبانها في الصمت المظلم للسيارة...
شعرها القصير القريب الطول من شعره، كانت قد تركته حرا هذه المرة، مثله تماما...
لكنه شعرها كان مجعدا نحاسيا، خصلاته شديدة الالتفات...
بينما عيناها الواسعتين تنظران اليه بحذر و ترقب، تنتظر منه أن ينفجر بها في أي لحظة...
لكن دهشتها تضاعفت و هي تراه هادىء الملامح، و كأنه قد تحول فجأة و عاد إلى ذلك الشاب الذي رأته في المرة الأولى...
و دون كلام فوجئت به يمد يده تجاهها، فتراجعت مذعورة تلتصق بالباب من خلفها و هي ترى يده تمتد تجاه جسدها...
كانت لا تزال متأثرة بما تعرضت له للتو، و باتت تخشى أي يد تمتد اليها...
الا أنها رأت يده تجذب حزام الأمان من فوق كتفها بعنف دون أن يلمسها، ليثبته على الجانب الآخر من خصرها بعد أن حفر الحزام على جسدها قويا من شدة جذبه...
ثم قام بتشغيل السيارة و انطلق بها دون أن ينظر اليها...
ساد الصمت بينهما طويلا، و كانت هي تنظر الى جانب وجهه غير قادرة على ازاحة عينيه عن ملامحه المظلمة و التي تضيء فقط كلما مر عليها ضوء من أعمدة الإضاءة المتوالية...
كان يقود بتمهل و مهارة في طرقات المدينة، الى أن همست أخيرا مبددة حاجز الصمت بخفوت
(هلا أعدتني الى المحطة من فضلك الآن؟)
نظر اليها بصمت. نظرة أخافتها قليلا، لكنها قالت بخفوت محاولة الثبات.
(من المؤكد أنه قد رحل الآن، هلا أعدتني كي ألحق بموعد الحافلة؟)
لم يجبها قاصي، بل نظر الى الطريق و استمر في قيادته، ثم قال أخيرا بصوت جامد
(لن تسافري وحدك، و قد سبق و أنذرتك)
ساد صمت متوتر بينهما قبل أن تقطعه قائلة بخفوت
(ما حدث هذه المرة كان أمرا خاصا بيني و بين أمي، أنا لم آتي اليك، هلا أعدتني الى المحطة الآن و لا تخبر أبي عما حدث من فضلك)
أجفلت حين ضحك قاصي ضحكة مستنكرة خشنة، قبل أن يقول ببرود.
(الا تفعلين كل ذلك لجذب انتباهه؟، لما لا أخبره اذن؟، لربما اشفق عليك ووافق أن تنتقلي للسكن تحت رعايته)
قالت تيماء بتردد و هي تحك معصمها
(أنا لا أريد اهتمامه أو شفقته، لم اعد أهتم)
نظر اليها قاصي أخيرا بعينين قاسيتين عنيفتين وهو يقول بحدة
(بل تريدين جذب اهتمامه، تتهورين علك تثيرين حنق كل من حولك كي يرضخون لطلباتك)
هتفت تيماء فجأة بقوة.
(ليست لي أي طلبات، ثم أن هذا أمرا لا يعنيك، أعدني الآن الى المحطة، كيف عرفت مكاني أصلا؟)
ابتسم ياستياء دون أن ينظر اليها. ثم قال بخفوت قاسي
(استنتجت فقط اين يمكن لفتاة مدللة متهورة الذهاب كي تضايق الجميع و تثير استيائهم، و لم احتاج للكثير من التفكير)
لمعت عينا تيماء بغضب للمرة الأولى، فكتفت ذراعيها و قالت بلهجة آمرة
(حسنا، ربحت التحدي مع نفسك، هلا أعدتني الى المحطة الآن من فضلك؟، أريد العودة).
لم يهتم بها و لم ينظر اليها، بل هز رأسه رفضا ببساطة وهو يقول ببرود
(كان عليك التفكير بذلك قبل أن تعرضي نفسك للخطر)
هتفت بحنق و قد اشتعل غضبها
(و من أنت كي تملي على تصرفاتي؟، أنت تعمل لدى والدي، لست سوى أحد العاملين تحت إمرته، و حين آمرك أن تعيدني فسوف تعيدني، حالا)
التفت اليها قاصي بطرف عينيه دون أن يرد، لكن نظرته لها جعلتها تبتلع المتبقي من كلامها الوقح، و تتراجع للخلف قليلا، قبل ان يقول بجمود.
(سأعيدك حين أجد ذلك مناسبا، و حتى هذا الحين، لما لا أمنحك بعض التهور الذي تطلبينه؟)
اتسعت عيناها قليلا بقلق و عدم راحة تقافزا أضعافا، فنظرت حولها فجأة لتجد أنهما قد بدأ يخرجان من الإزدحام الى أطراف المدينة المظلمة، حيث الطريق السريع الأكثر ظلاما...
حينها انتفض قلبها الصغير برعب و هي تتراجع قليلا ناظرة الى جانب وجه قاصي.
جانت ملامحه في تلك اللحظة جامدة لا تحمل أي تعبير انساني، و أدركت أنها لا تعلم شيئا عن هذا الشاب...
فماذا إن كان يعمل لدى والدها، يظل غريبا...
ربما يكون سفاحا أو مجنونا، ربما أنقذها كي ينال منها هو، على أنها لم تقابل مثل هذه المواقف من قبل...
لكن مرتين في اليوم كانتا أكثر من احتمالها...
لم تدري أنها كانت تتراجع شيئا فشيئا، حتى لم يترك لها ظهر المقعد أي مجال آخر للتراجع...
و أن أنفاسها قد بدأت تتسارع مجددا بعدم استقرار، لكنها حاولت الظهور بظهر الشجاعة مجددا و هي تقول آمرة بلهجة تفوق سنوات عمرها
(الى أين تأخذني؟)
نظر اليها نصف نظرة و ظهرت على شفتيه طيب ابتسامة خبيثة أرعبتها، قبل أن يقول بصوت هادىء
(الا تظنين أنك قد تاخرت قليلا في طرح هذا السؤال؟)
اتسعت عيناها أكثر، ووجدت أن قبضتيها كانتا متشبثتين بحافتي المقعد عند ساقيها بقوة...
بينما تسارعت نبضاتها حد الرعب، لكنها قالت بصرامة تثير الإعجاب
(أنصحك أن تستدير الآن و تعود بي الى المحطة، و لا تفعل ما قد تندم عليه)
عاد ليرمقها بنظرته الجانبية التي توترها، بينما اتسعت ابتسامته الخبيثة أكثر وهو يقول بخفوت بدا كالهمس
(كلامك يثير اعجابي حقا، لكن ينقصك حسن التصرف)
ابتلعت غصة مخيفة في حلقها الا أنها لم تظهر على وجهها أي أثر للرعب في داخلها و هي تقول بجمود بدا ذو نبرة ناضجة.
(أتظن أنني لن أستطيع حماية نفسي؟)
نظر اليها طويلا هذه المرة حتى خالته قد نسي الطريق، ثم قال بهدوء
(لم أراك تدافعين عن نفسك أمام هذا الحقير الذي كان يضع يده على فخذك!)
شعرت بالغثيان قليلا و توترت عضلات جسدها و هي ترى الأمر من منظوره. و بوصفه الوقح...
لم تشعر بالخوف من ذلك الرجل!، بدا طبيعيا جدا و يكبرها بالعديد من السنوات كفيلة بأن تجعله في عمر والدها...
صوته هادىء و ناعم لدرجة اللزوجة، و عيناه ناعستين جدا وهما تنظران اليها ببطىء
لكنها الآن تشعر بالخوف من قاصي...
فألفاظه جارحة وقحة، و عيناه مشتعلتان، ووصفه للأمر أرعبها أكثر مما شعرت به هناك!
قالت تيماء أخيرا بصوت فاتر حاولت جاهدة الا يظهر ارتجافها الداخلي.
(ربما كنت أنت المجنون و ليس هو، و أنا إن كنت أجيد شيئا، فأنا أجيد التعامل مع المجانين حد الهوس، لذا استدر و اعدني من حيث ألتقطتني بهدوء، قبل أن تكون كارثة لك أنت و آبائك و جدودك و جدودهم و من أنجبوهم)
نظر اليها طويلا مجددا، نظرات أربكتها قبل أن يضحك ضحكة قوية، جعلتها ترتجف قليلا لكن بشكل مخالف...
كانت تنظر اليه بدهشة و هي تراه يضحك، حيث بدا أصغر سنا...
بدا شابا لطيفا و ليس مجرما كما كان منذ لحظات...
لكنه نظر اليها بعد أن انتهى من الضحك ليقول ببساطة
(أنت شديدة الوقاحة و لسانك سليط، أتدرين ذلك؟، أظن أن على تأديبك!)
فغرت شفتيها بعدم تصديق، تأديبها!
صرخت فجأة بقوة و غضب
(أوقف هذه السيارة حالا قبل أن أفتح الباب و ألقي بنفسي منها)
رفع قاصي حاجبيه وهو يقول بدهشة مفتعلة.
(تلقين بنفسك و نحن على الطريق السريع؟، كي تتدحرجين عدة مرات فوق الأسفلت. فيسلخ جلدك عن لحمك، و تدهسك الناقلات المسرعة من خلفنا، فتسحق جمجمتك و تفرق أوصالك؟)
ارتجف بدنها بتقزز و رعب و هي تنظر الى الطريق المظلم حولهما، قبل أن يقول قاصي بلهجة مضايفة مشيرا الى بابها
(تفضلي، الهلاك رهن اشارتك، الباب غير موصد).
مدت تيماء يدها تتلمس المقبض بارتجاف و هي تنظر الى الطريق السريع، قبل أن تعود بملامحها الطفولية اليه لتقول بلهجة بدت مترجية قليلا رغما عنها
(توقف عما تفعله و أعدني، لا أعلم لماذا تفعل ذلك!)
ابتسم قاصي بقسوة دون أن ينظر اليها، بينما قال بهدوء غريب
(الا تعرفين؟، أمنحك بعض التهور الذي ترغبين به، تهور على حق و ليس لعب الأطفال الذي تقومين به)
فغرت شفتيها المرتعشتين و همست بصوت مرتجف و هي توشك على البكاء.
(ماذا تقصد؟)
وجدته يحرك عصا السرعة ليقول ببساطة غريبة...
(دعينا نقترب من الموت، علك تدركين أن هناك مصيرا قد يكون أسوأ منه)
و دون كلمة منه زاد من سرعة السيارة فجأة حتى طارت بهما بجنون...
اتسعت عينا تيماء بذعر. و ازداد تشبثها بحافتي المقعد على جانبي ساقيها و هي ترى الطريق أمامهما يتحول الى بساط الريح، و قد تصاعدت روحها الى حلقها...
بينما السرعة تزيد أكثر و أكثر، ليس هذا فحسب، بل كان قاصي يحاور الحافلات المسرعة على الطريق بسرعة جنونية كي يتجاوزها بحركات ثعبانية...
لم تحتاج الى الكثير من الوقت و الرعب قبل أن تصرخ مذعورة
(هدىء السرعة، هدىء السرعة، سنموت)
الا أن ابتسامة قاصي كانت ظافرة متشفية وعيناه لا تبارحان الطريق بتركيز، بينما فتح زجاج نافذته الجانبيه ليندفع الهواء البارد الجليدي منها كي يصفع وجههما بعنف...
و صاح عاليا مبتسما بنشوى
(استمتعي بالتهور يا تيماء)
أغمضت عينيها و أطبقتهما بقوة و هي تصرخ بذعر باكية
(اكره اسم تيمااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااء)
الا أنه صرخ هو الآخر بصرامة دون أن يخفف من سرعته أو حركاته الثعبانية...
(من اليوم ستتقبلين اسمك كما هو و لن تغيريه، و بعد هذا الدرس قد تتحلين ببعض التعقل الذي يحتاجه منك الجميع، مفهوووووووووووووووم؟).
صرخت تيماء باكية صرخة عالية مترافقة مع صيحة سؤاله الأخير و هي تطبق جفنيها اكثر...
(مفهوووووووم، مفهوووووووووم، هدىء السرعة، هدىء السرعة، أرجوووووووك لا أريد أن أموت)
ضحك قاصي عاليا دون أن يبطىء، ثم صرخ
(لماذا تخافين الموت؟، إنه أكثر رحمة من أشياء أخرى)
لكن تيماء كانت تشهق باكية و تصرخ في آن واحد...
(لا أريد أن أموت، لا أريد أن أموت، لدي اختبار رياضيات بعد غد، سأرسب ان لم أحضره، و مسابقة اللغة العربية يوم الأحد المقبل)
ضحك قاصي مجددا و صاح عاليا
(آها، لديك الكثير من الالتزامات و الإنجازات في حياتك الصغيرة، أمر مؤسف تيماء المتهورة، كان عليك التفكير بذلك قبلا)
اخذت تبكي بعنف و هي تتوسله دون ان تفتح عينيها.
(أرجووك توقف عن ذلك، هدىء السرعة سنموووووووووت، أمي لا تستطيع الإعتماد على نفسها، إنها تعتمد علي)
لم يفقد قاصي نشوى القيادة السريعة، لكن ضحكاته خفتت وهو يلتفت اليها في لحظة خاطفة كانت كفيلة لأن يتأملها، مطبقة جفنيها و تبكي شاهقة كالأطفال، بينما ارتفعت ساقيها فوق المقعد الى صدرها...
و هي لا تزال متشبثة بحافته...
كانت مذعورة و كان ذلك يشعره بلذة غريبة...
اثارة الرعب في قلب تلك الطفلة المتهورة العنيدة التي تظهر نضجا يفوق عمرها، يجعله يشعر بسعادة و انتعاش...
لكن عبارتها الأخيرة جعلته يتأملها للحظة اطول مما يسمح بها الطريق السريع...
تلك الفتاة هي عماد اسرتها فعلا، اسرتها المكونة من ام و بيت من اربع جدران فقط...
و على الرغم من نضجها المبكر الا ان بقايا طفولة بها تختلط بعناد الأنثى يجعلان منها شوكة حادة، صلبة و لا تقهر...
منذ المرة السابقة و قد أدرك أن تلك الفتاة قد تركت بنفسه تأثيرا اكثر مما يجب...
أفاق من أفكاره على صوت تيماء و هي تصرخ بوهن
(أرجوك أوقف السيااااااااارة، أشعر بالغثيان، أرجوووووووك، سأقبل يدك لو أردت)
للحظات لم يستجب لها، لكنه بعد فترة هدىء من سرعة السيارة بالفعل الى أن انحرف الى جانب الطريق و أوقفها...
التفت الى تيماء التي كانت لا تزال تبكي بصوت عال مغمضة عينيها، قبل أن تنخفض كما هي لتنام متكورة على المقعد كالجنين متشبثة بساقيها...
التوى فك قاصي قليلا وهو ينظر اليها طويلا، شعرها المجعد يخفي ملامحها المتورمة تماما...
بينما بكائها يتزايد حتى بات كالعويل...
تركها تفرغ شحناتها طويلا، و كانت تلك هي المرة الثانية التي يراها تبكي بها، و هي المرة الثانية التي يراها بها من الأساس، و تسائل إن كان هو السبب في بكائها فعلا أم أنه يستحث فيها طاقة البكاء كي تفرغ شحنات مراهقتها المتمردة المبكرة...
هدأ بكائها قليلا بعد فترة طويلة، لكن شهقاتها لم تتوقف...
حينها قال قاصي بصرامة خافتة
(هل ستتوقفين عن تهورك؟، لا مزيد من الهرب؟).
ظلت تبكي بخفوت قليلا دون أن تنظر اليه قبل أن تومىء برأسها دون أن تجيب، لكنه لم يلين، بل قال مشددا بصرامة أكبر قليلا
(لا أسمعك)
بكائها الآن كان ناعما مرتجفا، لكنها قالت بخفوت مختنفا
(نعم)
تنفس قاصي مطمئنا قليلا قبل أن يقول بنفس الشدة
(أو ربما على أن أسلم أمورك الى والدك، فهذا ما كنت تريدينه على أية حال!).
حينها رفعت اليه وجهها الشديد الإحمرار. بأنفها المنتفخ و شفتيها المتورمتين، حتى حاجبيها الخفيفين كانت بشرتهما حمراء متورمة كالأطفال، لكن عيناها كانتا بارزتي اللون و هي تقول بخفوت
(لا أرجوك، لا تفعل)
تراجع قاصي يستند الى باب الجانبي وهو يتأملها بصمت دون أن تنم ملامحه عن شيء، ثم قال أخيرا بهدوء.
(اذن ماذا تريدين؟، لماذا تفتعلين المشاكل؟، تعرفين أن والدك لن يرضخ لطلباتك و أقصى ما سيفعله هو أن يعاقبكما بمنع دعمه المالي عنكما)
استقامت تيماء لتجلس مكانها بإعياء و هي تنظر الى الطريق المظلم أمامها بصمت، دون أن تجد ردا، فقال قاصي بهدوء
(تريدين لفت انتباهه اليك؟)
ساد صمت قصير قبل أن تقول تيماء بخفوت.
(حتى هذا لن أستطيعه، أتخيل أنه يراقبني الآن مغتاظا منفعلا و يقسم أن يضمني اليه كي يرعاني، لكن الواقع أنني أخشى أن يعرف فيعاقب أمي)
ملامحها الجانبية في تلك اللحظة بدت كلوحة من لوحات عصور القرون الوسطى، لفتاة مراهقة شاحبة الوجه، حزينة الملامح، ذات عينين معبرتين، ووجنتين مرتفعتين...
قال قاصي بهدوء خافت
(لماذا لا تريدين البقاء مع أمك على الرغم من اعتمادها عليك؟).
ارتجفت شفتيها الحمراوين المكتنزتين قليلا، قبل أن تتنهد بخفوت و هي تمسح وجنتيها بظاهر يدها لتقول بخفوت
(أنا احب أمي، مضطرة لأن أحبها. فهي أمي)
صمتت مترددة، فقال قاصي بخفوت
(اذن؟).
كانت تلك هي الكلمة الملائمة تماما لما عاشته خلال الساعات الضئيلة السابقة...
لم تصدق هذا العالم الذي دخلت به فجأة. و كأنها خرجت من العالم الواقعي الى آخر خيالي أكثر جنونا...
ساقتها قدماها فوق السلالم صعودا دون هدف بينما صدرها يغلي بالإنفعال...
ما عرفته الليلة كان أكبر من قدرتها على الإحتمال...
وجدت تيماء نفسها أمام باب في نهاية السلم، فدفعته بقوة لا تعلم الى أين تتجه...
و كم أراحها أن يصفع الهواء البارد وجهها، و هي ترى الليل الأسود أمامها ممتدا بلا نهاية...
و أنها قد وصلت الى سطح القصر، أو الدار كما يقولون هنا...
علي أن هذا كان أضخم و أفخم من ان يكون مجرد دارا...
تقدمت على السطح الرخامي الواسع و هي تضم سترتها، و تدس كفيها في بدفىء جيبيها الى أن وصلت لسور السطح...
ارتفعت عيناها الى السماء المظلمة، لا تنيرها سوى بعضا من النجوم الماسية، و التي تبدو هنا أشد وضوحا من المدينة...
شفتيها المرتجفتين تخرجان نفسا كالبخار في هذا الجو الجليدي...
لكنها لم تكن تشعر بالبرد حقا...
بل كانت كل أعماقها تفور من هول هذا اليوم...
صدمات متوالية و صفعات تضربها واحدة تلو الأخرى دون هوادة...
قاصي الذي رأته هنا بعد فراق سنوات.
و أن يكون ابن عمها أيضا؟، فهذا هو ما لم تتخيله في أسوأ كوابيسها...
قصة خيالية، و جنونا لم تصدقه حتى الآن...
ليس هذا فحسب، بل في لمح البصر أصبح قاصي فجأة خطيب أختها!
تأوهت تيماء بصوت عال و هي تخرج كفاها من جيبي سترتها لتستند بهما الى سطح السور الرخامي...
مخفضة رأسها أمام تلك الضربة...
تتنفس بصوت مسموع و هي تستوعب ما حدث...
تستوعب منظر قاصي وهو يمسك بكفي مسك بحنان أمام عينيها المصعوقتين...
رفعت وجهها مجددا و هي تتأمل الليل القاتم الممتد أمامها، و صدرها يعلو و يهبط بسرعة عنيفة...
هذا المكان، تلك البلد الساحرة الجمال. لم تجلب لها سوى الشقاء في المرتين الوحيدتين اللتين زارتها بهما.
كانت المرة الأولى مجبرة عليها، أما هذه المرة فقد أتت بقدميها بمنتهى الغباء...
دون أن تتعظ مما حدث لها سابقا، لكن الرغبة في التشفي بوالدها و هي تعود رافعة رأسها أمام الجميع أعمت بصيرتها عن مخاطر تلك الزيارة...
و الآن عليها دفع الثمن...
أن يخبرها بأنه قد انتظرها كل تلك السنوات، و أن عليها العودة، و الأ...
و الا فسوف يتزوج من أختها!
ضربت تيماء السور الرخامي فجأة بقبضتها و هي تهتف بقوة شقت سكون الليل
(تبا لك يا تيماء، تبا، تبا لغبائك)
عادت لتطرق برأسها مجددا، و هي تلهث بعنف، أفكارها مضطربة و قلبها ينتفض...
الماضي كان و كأنه شريط يدور بخيالها، و كأنه كان الأمس، عاد بعودة قاصي الى حياتها فجأة
كيف ظنت أنها قد قصته عن حياتها، و هل يقصى قاصي؟
لقد كان الجزء الأكبر و الأكثر ثباتا من حياتها...
قاصي كان دوما مرساها...
منذ عشر سنوات...
ارتمى على مقعده بعد يوم عمل طويل شاق...
أرجع رأسه للخلف وهو يغمض عينيه بتعب...
يتسائل الى متى، الى متى سيظل يدور في حلقات مفرغة من حياته بلا هدف...
انقبضت كفاه رغما عنه على ذراعي المقعد...
يستمع الى لحن غربي عنيف، هادر، من مسجل الاغاني الحديث الخاص به...
علو صوته المجسم يناسب ارتفاع و انخفاض عضلات صدره المتقافزة بتشنج...
لكنه لم يفتح عينيه...
كان في تلك الفترة من يومه التي يغمض بها عينيه عن العالم من حوله، و يبقى وحيدا مع لحن عاصف يشكل حاجزا أقوى بينه و بين الخارج...
يبقى مع أمه...
يسمع صوتها، يشتم رائحة ثوبها الأسود القديم...
هسيس أنفاسها المتسارعة و هي تسرع به، ممسكة بكفه الصغير...
من قطار الى آخر...
لا يرى منها سوى عينيها الظاهرتين من غطاء وجهها، بهما الخوف، و التصميم في آن واحد...
التصميم على الهرب...
لا يزال يتذكر تلك الرائحة الجميلة، رائحة الأرض العالقة بثوبها، ممتزجة بالقمح و المسك...
كانت سيدة بسيطة جدا، بسيطة العقل و التفكير...
لا يذكر أنها نطقت يوما بشيء ذو أهمية...
لكنها كانت من القوة بحيث حمته و هربت به طويلا...
هرب لم ينتهى منذ حملها به، و حتى مولده، و بعدها بسنوات ليست بكثيرة...
سنوات طفولته إن كان من العدل ان تسمى طفولة...
سنوات ما كانت سوى رحلة للهرب. من مدينة لأخرى، من قطار لآخر...
وهو يجري خلفها منذ تعلمت قدماه الصغيرتان المشي، فأجبرته على الركض ممسكة بكفه...
تحمل فوق رأسها كل ما تملكه من أمتعة، ملتفة بشرشف أبيض متهالك معقود...
لا يقع من فوق رأسها بمهارة مهما أسرعت الخطى...
أجفل فجأة و انتفض على اهتزاز هاتفه في جيب بنطاله!
كان رنينه عاليا الا أنه لم يسمعه في خلوته الصاخبة ذات الألحان العنيفة المجنونة...
فقط الإهتزاز هو ما نبهه الى أن هناك متطفل سمج يقتحم خلوته...
أعتدل قليلا بملل وهو يخرج هاتفه من جيب البنطال الجينز الضيق، ثم نظر اليه ليدرك الرقم بسرعة...
حينها عقد حاجبيه بعدم راحة، زادته مؤخرا و كأنه كان ينقصها...
وضع الهاتف على أذنه ليقول بجمود.
(مساء الخير سيدة ثريا)
وصله صوتها المرتجف بعد فترة صمت قصيرة، خافت متردد
(قاصي!)
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يقول بصلابة
(نعم أنا، إنها ليست المرة الأولى التي تتصلين فيها بي)
بدت متوترة من أنفاسها المتسارعة مما جعل صبره ينفذ بقلق، فقال بصوت قوي
(سيدة ثريا، هل حدث شيء؟، هل تحتاجين لأي شيء؟)
استمر صمتها لعدة لحظات قبل أن تقول بتوتر
(تيماء).
عادت لتصمت مجددا، الا أن الاسم الغريب كان كفيلا بأن يجعل عضلات جسده تتوتر أكثر، و هو يدرك أن هناك مشاكل قادمة و متوالية...
ذكرى ذلك الوجه الطفولي لا تزال تتلاعب بعقله دون أن يدرك لذلك سببا...
إنها بالفعل أكثر من أكثر الوجوه ازعاجا و تأثيرا في النفس...
قال قاصي بصلابة
(ماذا بها تيماء؟)
قالت ثريا بتردد
(لقد، خرجت منذ الصباح، و لم تعد حتى الآن).
ازداد انعقاد حاجبي قاصي أكثر و أكثر وهو ينظر إلى ساعة معصمه، ليجد أنها تقارب الثامنة مساءا، فنهض واقفا وهو يقول بصوت مشتد
(الا تمتلك هاتفا؟)
قالت ثريا بمزيد من التوتر
(لقد تركته هنا)
شتم قاصي بصوت لم يأبه بأن يخفضه عن اذنها، ثم قال بغضب
(و لماذا تأخرت في التصرف حتى هذه الساعة بالله عليك؟)
ردت ثريا بصوت أكثر حدة
(تيماء غير قابلة للسيطرة عليها، إنها تخرج حين تحتاج و تستطيع حماية نفسها).
رفع قاصي يده بذهول محدقا للسقف بغضب، قبل أن يسقطها ضاربا ساقه وهو يقول بقوة
(اي حماية تلك؟، سبق و اخبرتك أنها مجرد طفلة سيدة ثريا)
قالت ثريا بهدوء مفاجىء
(أتظنني قد هاتفتك الآن لأنني خائفة مما قد يحدث لها؟)
تسمر قاصي مكانه مذهولا من مدى هدوئها المفاجىء، و قال بصوت غريب
(على ما يبدو أنك لست خائفة اطلاقا!)
قالت ثريا مصدقة على كلامه.
(نعم انا لست خائفة، أنا أمها و أعرفها جيدا، تيماء تستطيع حماية نفسها جيدا و هي لا تقدم على اي تصرف متهور قد يؤذيها، إنها تستخدم وسيلة ضغط على كي أرضخ لطلباتها، إنها أكثر نضجا مما تظن أو تتخيل، انها اكثر نضجا مني أنا شخصيا، و البيت هنا قائم و معتمد عليها)
أوشك قاصي على أن يشد خصلات شعره الطويل ذهولا و غيظا...
الا أن اهتماما جعله يقول بصوت واقعي مدرك...
(فهمت الآن، سبب اتصالك هو أنك تريدين مني التصرف قبل أن يعرف السيد سالم بالأمر و يغضب مجددا)
توتر صوتها و هي تقول
(أليست تلك هي وظيفتك التي وكلك بها سالم؟، اسمع أنا لن أسمح لك بأن تذلني، لو لن تتحرك فأخرج أنا للبحث عنها، لكن من فضلك انسى هذا الإتصال و لا تخبر سالم به)
ساد صمت متوتر بينهما قبل أن يقول قاصي بصوت جامد غريب
(قلبك غريب أيتها السيدة)
ردت عليه ثريا بهدوء.
(لو تعرفت الى تيماء أكثر لأدركت أنني لست فاسدة القلب الى هذا الحد، اذن هل ستتحرك أنت أم أتحرك أنا؟).
أدرك أنه محظوظ بالفعل...
ربما كان ذكاءه جديرا بالإعجاب، لكنه لن ينكر دور الحظ الجيد...
لم يحتاج الى اللف الطويل، لم يحتاج الى ساعات و ساعات من البحث...
كل ما فعله هو انه اقتحم تفكير تلك الفتاة، ووضع نفسه مكانها و تسائل
لو كنت هي، فألى أين يمكنني الذهاب كي أثير جنون جميع من حولي؟، ووفقا للجواب الذي طبع سريعا على حافة ذهنه دون الحاجة للتفكير، انطلق مسرعا الى المكان المستنتج...
لحظات وقف مكانه، متنفسا الصعداء
مستندا بكتفه الى أحد الأعمدة الرخامية الخاصة بمحطة الحافلات، يداه في جيبي بنطاله الجينز...
و معطف اسود طويل يتطاير قليلا من خلفه، يماثل تطاير شعره الطويل الذي يكاد أن يلامس كتفيه...
يراقب جلوسها مطرقة الرأس على أحد المقاعد في الظلام، و البشر يتجولون من حولها، ما بين مسافر و عائد، لا أحد منهم يلحظ وجودها الوحيد الغريب في الزحام...
بجوارها حقيبة صغيرة، ليست حقيبة ملابس بل أصغر قليلا، و كأنها تضم ما تحتاجه فقط من بعض الطعام و قنينة ماء، بينما ساقيها تتأرجحان بلا اهتمام أو حماس، كطفلة انتابها الملل في آخر ساعات نزهتها...
لا يعلم لماذا لم يتقدم ناحيتها على الفور!
لماذا يقف مكانه يراقب شرودها الساكن، و ساقيها المتأرجحتان بيأس...
شعور غريب بالغضب انتابه وهو يدرك أنها هذه المرة لم تلجأ اليه على الرغم من معرفتها بعنوانه...
بل سافرت لمسافة تقتضي ثلاث ساعات، و جلست هنا بغير هدف...
ربما ظنت أنه سيطردها هذه المرة بغير رحمة و يلقي بها في الطريق، ففضلت اختصار الأمر...
هذا الإستنتاج جعله غاضبا بشدة، غاضبا أكثر مما توقع...
أوشك على التحرك تجاهها، الا أنه توقف وهو يلمح رجل يبدو أربعيني العمر، يقترب منها الى أن جلس بجوارها على المقعد...
انعقد حاجبي قاصي و ضيق عينيه، وهو يلمح نظرات الرجل التي لا تفارق تيماء بشكل يثير القلق...
تكلم الرجل مبتسما فالتفتت اليه تيماء بلا حماس...
أخذت تستمع اليه قليلا، ثم نظرت الى ساعة معصمها الوردية و بدأت تشرح له شيئا ما بأصابعها مشيرة الى اللوحة الضخمة الخاصة بتوقيت الحافلات و لحظات وصولها...
فهي خبيرة على مايبدو...
من الواضح أنها تستطيع السفر بمهارة بين المحافظات و المدن القريبة...
لكن قاصي لم يراقبها هي، بل تركز نظره اكثر على الرجل الذي كان يقترب منها في المقعد ببطىء غير ملحوظ، و عيناه تتحركان عليها كلها...
الى أن بات لا يفصلهما شيئا، فرفع ذراعه ليضعه على ظهر المقعد من خلفها...
و فجأة أمسك بمعصمها وهو يتظاهر بالنظر الى ساعتها الوردية...
حينها اندفع قاصي من مكانه تجاههما...
عيناه لا تحيدان عن كف الرجل وهو يسرع الخطى، ليرى كفه الأخرى التي استقرت على فخذها برفق...
حينها لم يشعر قاصي بنفسه الا وهو يجري بعنف و معطفه يتطاير خلفه...
و لحظتين كان قد وصل اليهما فقبض على جانبي سترة الرجل ليرفعه واقفا أمام ذهول تيماء التي انتفضت واقفة بذعر من منظر قاصي المفاجىء المرعب، فقد بدا شديد الوحشية في تلك اللحظة وهو يهز الرجل بقسوة هادرا بصوت رج أنحاء محطة الحافلات
(ماذا تريد منها؟، لماذا كنت تضع يدك عليها؟).
بهت وجه الرجل حتى حاكى شحوب الاموات وهو يتطلع حوله بهلع، قائلا بتلعثم مرتبك
(على مهلك يا رجل، كنت أسألها فقط عن موعد الحافلة المتجهة الى)
لكن قاصي لم يمهله الوقت ليتابع كلامه وهو يهزه بعنف صارخا
(تسأل طفلة صغيرة عوضا عن تسأل العاملين هنا؟)
هتف الرجل بذعر و قد بدا الناس يلتفون من حولهم
(انها في عمر ابنتي و لم يحدث شيء، ابتعد من هنا أنت تثير الفضائح).
كان قاصي يصغر الرجل بما لا يقل عن خمسة عشر عاما أو أكثر، و مع ذلك كان يفوقه طولا و قوة وهو يرجه كقطعة من القماش البالية، و عيناه تقدحان شررا كافيا بشكل كافيا بالقاء الرعب في أي كان...
وهو يصرخ بوحشية
(كنت تضع يدك عليها)
بينما الرجل بدا مدانا من مجرد نظرات عينيه الخائفتين من الفضائح، وهو يقول بصوت خافت
(اهدأ، أنا، أنت فهمت الأمر خطأ إنها مجرد طفلة صغيرة و أنا كنت أظنها تائهة)
هدر قاصي مجددا بشراسة.
(كنت تظنها تائهة أم كنت تسألها عن موعد الحافلة؟، استقر على كذبة أيها الحقير)
و دون ان يسمح له بالكلام كان قد لكمه بقوة جعلته يتراجع للخلف حتى سقط مرتميا على المقعد الذي انتزعه منه قاصي منذ دقائق...
و مع ذهول المتواجدين، و ذهول تيماء نفسها، تحرك قاصي مندفعا لينتزع حقيبتها من على المقعد. ثم قبض على معصمها بكف كالحديد و جرها خلفه...
ظلت تلهث و هي تركض خلفه كي تجاري خطاه الواسعة...
لكن ذعرها في تلك اللحظة كان أكبر من أن تتحداه...
فهذا الذي يجرها خلفه، لم يكن نفسه الذي أخذ يعزف على الجيتار و يرقص معها بحماقة...
ليس نفسه الذي كان يجمع شعره في ربطة مرتبة...
بل كان مخيف العينين، عينيه كانتا و كأنهما تشتعلان، و كأن بهما حمما غريبة...
شعره يتطاير من حول وجهه بحرية و همجية...
و ملامحه بدت و كأنها قد نحتت في صخر لا يلين...
و صلا الى السيارة التي استقلتها معه المرة السابقة، ففتح لها الباب الامامي و دفعها بفظاظة...
فسقطت جالسة على المقعد، قبل أن يصفق الباب بعنف أمام ذهولها الذي لم يخبو بعد...
بينما فتح الباب الخلفي ليلقي بحقيبتها على المقعد الخلفي و يصفقه هو الآخر...
لحظات و كان قد دار حول السيارة ليرتمي مكانه بعنف جعل السيارة تهتز...
و تيماء كل هذا الوقت تراقبه بصمت و هي فاغرة الشفتين، و انفاسها تخرج من بينهما لاهثة مرتجفة...
ارتجفت حين سكن مكانه عدة لحظات و يداه على المقود. مخفض الرأس قليلا و شعره متهدل حول وجهه يخفي عنها ملامحه الفتية الهادرة...
لكنها استطاعت أن تلمح صدره، كان لا يزال يعلو و يهبط بسرعة و عنف...
و كان هذا يزيد ارتجافها، إنها المرة الأولى التي تشعر فيها بالخوف من شخص ما...
إنها حتى لم تشعر بالخوف من ذلك الرجل الذي كان يجلس بجوارها على المقعد في المحطة...
بل لم تدرك سر عنف قاصي ووحشيته الى هذا الحد...
علي ما يبدو ان الرجل كان سيء النوايا، لكنها لم تشعر بذلك!، لم تتعرض الى موقف ذو نوايا سيئة من قبل الجنس الآخر كي تعرف...
رفع قاصي وجهه اليها أخيرا، أخذت عيناه تراقبانها في الصمت المظلم للسيارة...
شعرها القصير القريب الطول من شعره، كانت قد تركته حرا هذه المرة، مثله تماما...
لكنه شعرها كان مجعدا نحاسيا، خصلاته شديدة الالتفات...
بينما عيناها الواسعتين تنظران اليه بحذر و ترقب، تنتظر منه أن ينفجر بها في أي لحظة...
لكن دهشتها تضاعفت و هي تراه هادىء الملامح، و كأنه قد تحول فجأة و عاد إلى ذلك الشاب الذي رأته في المرة الأولى...
و دون كلام فوجئت به يمد يده تجاهها، فتراجعت مذعورة تلتصق بالباب من خلفها و هي ترى يده تمتد تجاه جسدها...
كانت لا تزال متأثرة بما تعرضت له للتو، و باتت تخشى أي يد تمتد اليها...
الا أنها رأت يده تجذب حزام الأمان من فوق كتفها بعنف دون أن يلمسها، ليثبته على الجانب الآخر من خصرها بعد أن حفر الحزام على جسدها قويا من شدة جذبه...
ثم قام بتشغيل السيارة و انطلق بها دون أن ينظر اليها...
ساد الصمت بينهما طويلا، و كانت هي تنظر الى جانب وجهه غير قادرة على ازاحة عينيه عن ملامحه المظلمة و التي تضيء فقط كلما مر عليها ضوء من أعمدة الإضاءة المتوالية...
كان يقود بتمهل و مهارة في طرقات المدينة، الى أن همست أخيرا مبددة حاجز الصمت بخفوت
(هلا أعدتني الى المحطة من فضلك الآن؟)
نظر اليها بصمت. نظرة أخافتها قليلا، لكنها قالت بخفوت محاولة الثبات.
(من المؤكد أنه قد رحل الآن، هلا أعدتني كي ألحق بموعد الحافلة؟)
لم يجبها قاصي، بل نظر الى الطريق و استمر في قيادته، ثم قال أخيرا بصوت جامد
(لن تسافري وحدك، و قد سبق و أنذرتك)
ساد صمت متوتر بينهما قبل أن تقطعه قائلة بخفوت
(ما حدث هذه المرة كان أمرا خاصا بيني و بين أمي، أنا لم آتي اليك، هلا أعدتني الى المحطة الآن و لا تخبر أبي عما حدث من فضلك)
أجفلت حين ضحك قاصي ضحكة مستنكرة خشنة، قبل أن يقول ببرود.
(الا تفعلين كل ذلك لجذب انتباهه؟، لما لا أخبره اذن؟، لربما اشفق عليك ووافق أن تنتقلي للسكن تحت رعايته)
قالت تيماء بتردد و هي تحك معصمها
(أنا لا أريد اهتمامه أو شفقته، لم اعد أهتم)
نظر اليها قاصي أخيرا بعينين قاسيتين عنيفتين وهو يقول بحدة
(بل تريدين جذب اهتمامه، تتهورين علك تثيرين حنق كل من حولك كي يرضخون لطلباتك)
هتفت تيماء فجأة بقوة.
(ليست لي أي طلبات، ثم أن هذا أمرا لا يعنيك، أعدني الآن الى المحطة، كيف عرفت مكاني أصلا؟)
ابتسم ياستياء دون أن ينظر اليها. ثم قال بخفوت قاسي
(استنتجت فقط اين يمكن لفتاة مدللة متهورة الذهاب كي تضايق الجميع و تثير استيائهم، و لم احتاج للكثير من التفكير)
لمعت عينا تيماء بغضب للمرة الأولى، فكتفت ذراعيها و قالت بلهجة آمرة
(حسنا، ربحت التحدي مع نفسك، هلا أعدتني الى المحطة الآن من فضلك؟، أريد العودة).
لم يهتم بها و لم ينظر اليها، بل هز رأسه رفضا ببساطة وهو يقول ببرود
(كان عليك التفكير بذلك قبل أن تعرضي نفسك للخطر)
هتفت بحنق و قد اشتعل غضبها
(و من أنت كي تملي على تصرفاتي؟، أنت تعمل لدى والدي، لست سوى أحد العاملين تحت إمرته، و حين آمرك أن تعيدني فسوف تعيدني، حالا)
التفت اليها قاصي بطرف عينيه دون أن يرد، لكن نظرته لها جعلتها تبتلع المتبقي من كلامها الوقح، و تتراجع للخلف قليلا، قبل ان يقول بجمود.
(سأعيدك حين أجد ذلك مناسبا، و حتى هذا الحين، لما لا أمنحك بعض التهور الذي تطلبينه؟)
اتسعت عيناها قليلا بقلق و عدم راحة تقافزا أضعافا، فنظرت حولها فجأة لتجد أنهما قد بدأ يخرجان من الإزدحام الى أطراف المدينة المظلمة، حيث الطريق السريع الأكثر ظلاما...
حينها انتفض قلبها الصغير برعب و هي تتراجع قليلا ناظرة الى جانب وجه قاصي.
جانت ملامحه في تلك اللحظة جامدة لا تحمل أي تعبير انساني، و أدركت أنها لا تعلم شيئا عن هذا الشاب...
فماذا إن كان يعمل لدى والدها، يظل غريبا...
ربما يكون سفاحا أو مجنونا، ربما أنقذها كي ينال منها هو، على أنها لم تقابل مثل هذه المواقف من قبل...
لكن مرتين في اليوم كانتا أكثر من احتمالها...
لم تدري أنها كانت تتراجع شيئا فشيئا، حتى لم يترك لها ظهر المقعد أي مجال آخر للتراجع...
و أن أنفاسها قد بدأت تتسارع مجددا بعدم استقرار، لكنها حاولت الظهور بظهر الشجاعة مجددا و هي تقول آمرة بلهجة تفوق سنوات عمرها
(الى أين تأخذني؟)
نظر اليها نصف نظرة و ظهرت على شفتيه طيب ابتسامة خبيثة أرعبتها، قبل أن يقول بصوت هادىء
(الا تظنين أنك قد تاخرت قليلا في طرح هذا السؤال؟)
اتسعت عيناها أكثر، ووجدت أن قبضتيها كانتا متشبثتين بحافتي المقعد عند ساقيها بقوة...
بينما تسارعت نبضاتها حد الرعب، لكنها قالت بصرامة تثير الإعجاب
(أنصحك أن تستدير الآن و تعود بي الى المحطة، و لا تفعل ما قد تندم عليه)
عاد ليرمقها بنظرته الجانبية التي توترها، بينما اتسعت ابتسامته الخبيثة أكثر وهو يقول بخفوت بدا كالهمس
(كلامك يثير اعجابي حقا، لكن ينقصك حسن التصرف)
ابتلعت غصة مخيفة في حلقها الا أنها لم تظهر على وجهها أي أثر للرعب في داخلها و هي تقول بجمود بدا ذو نبرة ناضجة.
(أتظن أنني لن أستطيع حماية نفسي؟)
نظر اليها طويلا هذه المرة حتى خالته قد نسي الطريق، ثم قال بهدوء
(لم أراك تدافعين عن نفسك أمام هذا الحقير الذي كان يضع يده على فخذك!)
شعرت بالغثيان قليلا و توترت عضلات جسدها و هي ترى الأمر من منظوره. و بوصفه الوقح...
لم تشعر بالخوف من ذلك الرجل!، بدا طبيعيا جدا و يكبرها بالعديد من السنوات كفيلة بأن تجعله في عمر والدها...
صوته هادىء و ناعم لدرجة اللزوجة، و عيناه ناعستين جدا وهما تنظران اليها ببطىء
لكنها الآن تشعر بالخوف من قاصي...
فألفاظه جارحة وقحة، و عيناه مشتعلتان، ووصفه للأمر أرعبها أكثر مما شعرت به هناك!
قالت تيماء أخيرا بصوت فاتر حاولت جاهدة الا يظهر ارتجافها الداخلي.
(ربما كنت أنت المجنون و ليس هو، و أنا إن كنت أجيد شيئا، فأنا أجيد التعامل مع المجانين حد الهوس، لذا استدر و اعدني من حيث ألتقطتني بهدوء، قبل أن تكون كارثة لك أنت و آبائك و جدودك و جدودهم و من أنجبوهم)
نظر اليها طويلا مجددا، نظرات أربكتها قبل أن يضحك ضحكة قوية، جعلتها ترتجف قليلا لكن بشكل مخالف...
كانت تنظر اليه بدهشة و هي تراه يضحك، حيث بدا أصغر سنا...
بدا شابا لطيفا و ليس مجرما كما كان منذ لحظات...
لكنه نظر اليها بعد أن انتهى من الضحك ليقول ببساطة
(أنت شديدة الوقاحة و لسانك سليط، أتدرين ذلك؟، أظن أن على تأديبك!)
فغرت شفتيها بعدم تصديق، تأديبها!
صرخت فجأة بقوة و غضب
(أوقف هذه السيارة حالا قبل أن أفتح الباب و ألقي بنفسي منها)
رفع قاصي حاجبيه وهو يقول بدهشة مفتعلة.
(تلقين بنفسك و نحن على الطريق السريع؟، كي تتدحرجين عدة مرات فوق الأسفلت. فيسلخ جلدك عن لحمك، و تدهسك الناقلات المسرعة من خلفنا، فتسحق جمجمتك و تفرق أوصالك؟)
ارتجف بدنها بتقزز و رعب و هي تنظر الى الطريق المظلم حولهما، قبل أن يقول قاصي بلهجة مضايفة مشيرا الى بابها
(تفضلي، الهلاك رهن اشارتك، الباب غير موصد).
مدت تيماء يدها تتلمس المقبض بارتجاف و هي تنظر الى الطريق السريع، قبل أن تعود بملامحها الطفولية اليه لتقول بلهجة بدت مترجية قليلا رغما عنها
(توقف عما تفعله و أعدني، لا أعلم لماذا تفعل ذلك!)
ابتسم قاصي بقسوة دون أن ينظر اليها، بينما قال بهدوء غريب
(الا تعرفين؟، أمنحك بعض التهور الذي ترغبين به، تهور على حق و ليس لعب الأطفال الذي تقومين به)
فغرت شفتيها المرتعشتين و همست بصوت مرتجف و هي توشك على البكاء.
(ماذا تقصد؟)
وجدته يحرك عصا السرعة ليقول ببساطة غريبة...
(دعينا نقترب من الموت، علك تدركين أن هناك مصيرا قد يكون أسوأ منه)
و دون كلمة منه زاد من سرعة السيارة فجأة حتى طارت بهما بجنون...
اتسعت عينا تيماء بذعر. و ازداد تشبثها بحافتي المقعد على جانبي ساقيها و هي ترى الطريق أمامهما يتحول الى بساط الريح، و قد تصاعدت روحها الى حلقها...
بينما السرعة تزيد أكثر و أكثر، ليس هذا فحسب، بل كان قاصي يحاور الحافلات المسرعة على الطريق بسرعة جنونية كي يتجاوزها بحركات ثعبانية...
لم تحتاج الى الكثير من الوقت و الرعب قبل أن تصرخ مذعورة
(هدىء السرعة، هدىء السرعة، سنموت)
الا أن ابتسامة قاصي كانت ظافرة متشفية وعيناه لا تبارحان الطريق بتركيز، بينما فتح زجاج نافذته الجانبيه ليندفع الهواء البارد الجليدي منها كي يصفع وجههما بعنف...
و صاح عاليا مبتسما بنشوى
(استمتعي بالتهور يا تيماء)
أغمضت عينيها و أطبقتهما بقوة و هي تصرخ بذعر باكية
(اكره اسم تيمااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااء)
الا أنه صرخ هو الآخر بصرامة دون أن يخفف من سرعته أو حركاته الثعبانية...
(من اليوم ستتقبلين اسمك كما هو و لن تغيريه، و بعد هذا الدرس قد تتحلين ببعض التعقل الذي يحتاجه منك الجميع، مفهوووووووووووووووم؟).
صرخت تيماء باكية صرخة عالية مترافقة مع صيحة سؤاله الأخير و هي تطبق جفنيها اكثر...
(مفهوووووووم، مفهوووووووووم، هدىء السرعة، هدىء السرعة، أرجوووووووك لا أريد أن أموت)
ضحك قاصي عاليا دون أن يبطىء، ثم صرخ
(لماذا تخافين الموت؟، إنه أكثر رحمة من أشياء أخرى)
لكن تيماء كانت تشهق باكية و تصرخ في آن واحد...
(لا أريد أن أموت، لا أريد أن أموت، لدي اختبار رياضيات بعد غد، سأرسب ان لم أحضره، و مسابقة اللغة العربية يوم الأحد المقبل)
ضحك قاصي مجددا و صاح عاليا
(آها، لديك الكثير من الالتزامات و الإنجازات في حياتك الصغيرة، أمر مؤسف تيماء المتهورة، كان عليك التفكير بذلك قبلا)
اخذت تبكي بعنف و هي تتوسله دون ان تفتح عينيها.
(أرجووك توقف عن ذلك، هدىء السرعة سنموووووووووت، أمي لا تستطيع الإعتماد على نفسها، إنها تعتمد علي)
لم يفقد قاصي نشوى القيادة السريعة، لكن ضحكاته خفتت وهو يلتفت اليها في لحظة خاطفة كانت كفيلة لأن يتأملها، مطبقة جفنيها و تبكي شاهقة كالأطفال، بينما ارتفعت ساقيها فوق المقعد الى صدرها...
و هي لا تزال متشبثة بحافته...
كانت مذعورة و كان ذلك يشعره بلذة غريبة...
اثارة الرعب في قلب تلك الطفلة المتهورة العنيدة التي تظهر نضجا يفوق عمرها، يجعله يشعر بسعادة و انتعاش...
لكن عبارتها الأخيرة جعلته يتأملها للحظة اطول مما يسمح بها الطريق السريع...
تلك الفتاة هي عماد اسرتها فعلا، اسرتها المكونة من ام و بيت من اربع جدران فقط...
و على الرغم من نضجها المبكر الا ان بقايا طفولة بها تختلط بعناد الأنثى يجعلان منها شوكة حادة، صلبة و لا تقهر...
منذ المرة السابقة و قد أدرك أن تلك الفتاة قد تركت بنفسه تأثيرا اكثر مما يجب...
أفاق من أفكاره على صوت تيماء و هي تصرخ بوهن
(أرجوك أوقف السيااااااااارة، أشعر بالغثيان، أرجوووووووك، سأقبل يدك لو أردت)
للحظات لم يستجب لها، لكنه بعد فترة هدىء من سرعة السيارة بالفعل الى أن انحرف الى جانب الطريق و أوقفها...
التفت الى تيماء التي كانت لا تزال تبكي بصوت عال مغمضة عينيها، قبل أن تنخفض كما هي لتنام متكورة على المقعد كالجنين متشبثة بساقيها...
التوى فك قاصي قليلا وهو ينظر اليها طويلا، شعرها المجعد يخفي ملامحها المتورمة تماما...
بينما بكائها يتزايد حتى بات كالعويل...
تركها تفرغ شحناتها طويلا، و كانت تلك هي المرة الثانية التي يراها تبكي بها، و هي المرة الثانية التي يراها بها من الأساس، و تسائل إن كان هو السبب في بكائها فعلا أم أنه يستحث فيها طاقة البكاء كي تفرغ شحنات مراهقتها المتمردة المبكرة...
هدأ بكائها قليلا بعد فترة طويلة، لكن شهقاتها لم تتوقف...
حينها قال قاصي بصرامة خافتة
(هل ستتوقفين عن تهورك؟، لا مزيد من الهرب؟).
ظلت تبكي بخفوت قليلا دون أن تنظر اليه قبل أن تومىء برأسها دون أن تجيب، لكنه لم يلين، بل قال مشددا بصرامة أكبر قليلا
(لا أسمعك)
بكائها الآن كان ناعما مرتجفا، لكنها قالت بخفوت مختنفا
(نعم)
تنفس قاصي مطمئنا قليلا قبل أن يقول بنفس الشدة
(أو ربما على أن أسلم أمورك الى والدك، فهذا ما كنت تريدينه على أية حال!).
حينها رفعت اليه وجهها الشديد الإحمرار. بأنفها المنتفخ و شفتيها المتورمتين، حتى حاجبيها الخفيفين كانت بشرتهما حمراء متورمة كالأطفال، لكن عيناها كانتا بارزتي اللون و هي تقول بخفوت
(لا أرجوك، لا تفعل)
تراجع قاصي يستند الى باب الجانبي وهو يتأملها بصمت دون أن تنم ملامحه عن شيء، ثم قال أخيرا بهدوء.
(اذن ماذا تريدين؟، لماذا تفتعلين المشاكل؟، تعرفين أن والدك لن يرضخ لطلباتك و أقصى ما سيفعله هو أن يعاقبكما بمنع دعمه المالي عنكما)
استقامت تيماء لتجلس مكانها بإعياء و هي تنظر الى الطريق المظلم أمامها بصمت، دون أن تجد ردا، فقال قاصي بهدوء
(تريدين لفت انتباهه اليك؟)
ساد صمت قصير قبل أن تقول تيماء بخفوت.
(حتى هذا لن أستطيعه، أتخيل أنه يراقبني الآن مغتاظا منفعلا و يقسم أن يضمني اليه كي يرعاني، لكن الواقع أنني أخشى أن يعرف فيعاقب أمي)
ملامحها الجانبية في تلك اللحظة بدت كلوحة من لوحات عصور القرون الوسطى، لفتاة مراهقة شاحبة الوجه، حزينة الملامح، ذات عينين معبرتين، ووجنتين مرتفعتين...
قال قاصي بهدوء خافت
(لماذا لا تريدين البقاء مع أمك على الرغم من اعتمادها عليك؟).
ارتجفت شفتيها الحمراوين المكتنزتين قليلا، قبل أن تتنهد بخفوت و هي تمسح وجنتيها بظاهر يدها لتقول بخفوت
(أنا احب أمي، مضطرة لأن أحبها. فهي أمي)
صمتت مترددة، فقال قاصي بخفوت
(اذن؟).