رواية اغلال الروح كاملة وحصرية بقلم شيماء الجندي
الفصل الأول " أمل ! "
جالس بهدوء داخل غرفة مكتبه الأنيق يحاول إنهاء أعماله المتراكمة و هو يرتشف قهوته الساخنة بتأنٍّ و سكينة لكنه عقد حاجبيه فجأة و ترك القهوة محلها ينظر إلى الباب الذي فُتح و أطل منه الرجل الخمسيني الذي تمكن الشيب من رأسه و لحيته "عاصم الجندي" صارخًا ببهجة :
- سيلاااا !! سيلااا ياآسر ظهرت أخيرًا !!!!
رفع "آسر" أنامله عن لوحة مفاتيح الحاسوب المحمول و أردف متسائلًا :
- سيلا بنتك ياعمي؟
جلس "عاصم" في المقعد المقابل له و قد تهللت أساريره يقول مبتهجًا :
- مش مصدق صح !!!! أنا نفسي اتصدمت مكنتش مصدق لحد ما اتأكدت بنفسي و اتواصلت مع المحامي أكدلي إنها سيلا بنتي !
نظر "آسر" إليه لحظات ثم اعتدل بجلسته قائلًا بحذر :
- أنا مقدر فرحتك طبعًا ببنتك ورجوعها بس مش غريبة شوية تظهر فجأة بعد كل السنين دي ؟
تنهد العم ببعض الضيق و أردف و قد بدأ الحماس يتلاشى من نبرته :
- أنا بقولك اتأكدت بنفسي و المحامي بتاعنا كمان اتأكد يعني مفيش مجال للشك دا ! أنا كلها ساعات وهشوف بنتي و احضنها و أنت هتشككني فيها ؟ دا أنا عايش على الأمنية دي من سنين ياآسر !
لمعت عيني "عاصم " بدموع اشتياق و استقام عن مقعده مًكملًا :
- كنت متوقع منك تفرحلي !
زفر الآخر أنفاسه و وقف يواجه عمه رابتًا فوق كتفه بهدوء قائلًا :
- أنت عارف كويس إني مش عايزك تتعلق بسراب لكن طالما اتأكدت إنها هي خلاص مبروك عليك رجوعها ليك !
ابتسم "عاصم " و ربت فوق يد ابن أخيه و قال بهدوء :
- طيب حيث كدا أنا كنت عايز منك حاجة صغيرة !
رفع " آسر حاجبه الأيمن و أردف بعبث :
- آه يعني مش جاي هنا عشان تقولي وأفرح بالخبر ، ده فيه مصلحة بقاا !
ضحك العم و أجابه بصدق :
- هي مش مصلحة أوي أنا عايزك تروح تستقبل سيلا أنت عشان أنا هجهزلها الأوضة بنفسي و أحضرلها احتفال رجوعها !
ثم أكمل حين وجد الدهشة تتراقص بمُقلتي ابن اخيه :
- أنا نفسي أكون أول واحد بستقبلها بس اللي هعمله ضروري ومحدش هيعرف يعمله زيي !
رفع "آسر" كتفيه باستسلام ثم قال :
- تمام زي ماتحب هستقبلها أنا هي جاية امتى ؟
اجابه و هو يجمع متعلقاته استعدادًا للرحيل :
- بكره الصبح الساعة 10 ، مش بقولك مفيش وقت هي فاجئتني أنا نفسي ، سلاام !!
ظل "آسر" واقفًا بمحله يراقب هروله عمه إلى الخارج و كأن أحدهم يطارده ، ثم قال بخفوت :
- ربنا يعديها على خير ، أتمنى تسامحني في الآخر ياعمي !
___________________ *** _________________
يوم العودة ..
جلست "سديم" في السيارة بجانب "آسر" الذي تولى قيادة السيارة بملامح جامدة و قد بدا بعض القلق على محياه مما دفعها إلى الابتسام له تلك البسمة الجافة أثناء همسها قائلة :
- شكل عمك واثق فيك أوي يعيني ميعرفش أنك بتنصب عليه !
عقد حاجبيه يقبض على رسغها فجأة يُقربها منه و هو يقول بغضب واضح احتل ملامحه فجأة :
- بت أنتِ اتلمي ! النصب دا شغلة أشكالك لكن أنا بحافظ على عيلة كاملة في رقبتي !
اغضبها بفظاظته و إهانته البينة لها حيث ملأ الإزدراء نبرته ، واشتدت قبضته فوق رسغها حين حاولت افلاتها قائلة بابتسامة عريضة استفزته :
- مممم ، بت أنتِ ؟ و نصابة ؟ و أشكاالي ؟! طيب ياسيدي خليك فاكر و أنت بتطول لسانك عليا إنك أنت اللي دورت على أشكالي ، و جبت واحدة نصابة زيي من آخر الدنيا تمثل إنها من عيلتك عشان قال اي تحافظ على عيلتك ! يابتاع العيلة !
ابعد نظراته عن الطريق و نظر إلى ملامحها المتحدية له وكأنها بانتظار أن يُكمل تطاوله أو يحاول نفي حديثها لكنها على حق ، لقد كلفه الأمر عدة أسابيع حتى يتثني له الحصول عليها و إقناعها بذاك الأمر ، هو الذي طلب من صديقه البحث عنها بعد أن حدثه صديقه أنها عاونت والده ذات مرة و أنها على علاقة جيدة مع والده وأن عليه تحمل خالها لأنها تعمل معه لذلك لن ترفض مساعدته بل سوف تتفانى في إتقان دورها و الوفاء بعهدها معه !
أفاق من شروده حين صاحت به فجأة :
- اصحا للطريق يابااا هتلبسناا في اللي قصادنا !!
اتسعت عينيه و ردد بذهول :
- ياباا ؟ وهتلسبناا ؟
أشارت بعينيها إلى سيارة أمامهم ثم أكملت و هي تعتدل بجلستها بعد أن تأكدت من تعكر صفو مزاجه و ردها على إهانته :
- اه يابااا و هتلبسنا وخد بالك بقاا من كلامك معاياا أنا مش خدامة عندك أنت جايبني و دافع تمن طريقتي و كلامي عاوزني اراعيهم و أخد بالي منهم و أنا بتكلم مع عيلتك المبجلة يبقا تلم لسانك دا معايا ، هتستهبل وتفكر تترسم تاني عليا هنسى كل اتفاقنا و هيخرج مني واحدة متمناش إنك تجربها !
استطاعت أن تستمع إلى صوت تنفسه الغاضب و ضغط على رسغها الذي لازال داخل قبضته مُتمنيًا أن يرى الألم فوق ملامحها لكنها ألقت رأسها إلى الخلف و ابعدت نظراتها عنه قائلة بجمود :
- و لو إيدي مش لازماك في حاجة ياريت تسيبها و لا أنت ماصدقت ؟
ترك يدها على الفور و أردف ساخرًا :
- ماصدقت ، معاكِ أنتِ ؟!!
ابتسمت له بهدوء ثم أمسكت نظارتها الشمسية ووضعتها فوق عينيها تاركة إياه يُكمل حين لم يحصل على إجابه منها فور سخريته :
- أتمنى تكوني فاكرة اللي هتعمليه و متتصرفيش من دماغك نهائي أنا عيني هتكون دايمًا عليكِ ، أتمنى تتصرفي زي ولاد الناس ، عمي عاصم ذكي جدًا و لو حس إنك مش بنته الحقيقية مش بعيد يسلمك للشرطة و ساعتها أنا مش هقدر أساعدك و اخسر عيلتي !
ضحكت بخفة و أجابته ساخرة :
- إيه داا يامامي خوفت جدًاا ، كنت فاكراك هتحميني منهم و معتمدة عليك أوي في كل خطواتي ، هعيش إزاي منغيرك وقتها !!!
أوقف السيارة فجأة و هدر غاضبًا حين أخرجته تلك الفتاة المستفزة عن طوره :
- كفاااية هو كل كلمة عليها رد ، متعرفيش تسمعيييي و تقوليييي حاضر !!
تنهدت واجابته و هي ترفع كتفيها بلامبالاة واضحة :
- لا معرفش اعمل كدا مع واحد زيك ! و متزعقش كتير عشان مبحبش الازعاج و الصوت العالي ! مبتعرفش تبقا ابن ناس ولا إيه ؟
احتلت الدهشة ملامحه من اسلوبها الغريب معه و كأنها تصارعه بالكلمات ! منذ أن قابلها و هي هادئة إلى درجة استفزازه بالحديث الهادئ و كأنها تحدثه عن حالة الطقس لكن و كأن تصرفاتها اليوم متعمدة لاستفزازه أو من الممكن أن تكون تلك الحالة المصاحبة له منذ أن رأي لهفة حقيقية وواضحة داخل عيني عمه و هو يحادثه عن عودة مؤكدة لصغيرته الغائبة ، هو غاضب و الآن سوف يفسد الأمر كله مع تلك الفتاة الباردة بمنظوره الخاص ؟!
تنهد و أغمض عينيه يقول بهدوء مصطنع فور أن زفر أنفاسه :
- تمام يااسديم ! خلينا متفقين إننا مجبرين على التعامل مع بعض الفترة الجاية لحد ما كل واحد يخلص من التاني أنتِ تاخدي فلوسك اللي اتفقنا عليها و أنا انقذ عمي و عيلتي !
راقبت "سديم" ملامحه المرهقة لحظات معدودة قبل أن تعتدل بجلستها مرة أخرى و تنظر أمامها قائلة :
- أوكاي ولحد ما ده يحصل خد بالك من طريقتك معايا بقا !
لم تحصل على اجابه منه بل أدار السيارة مرة أخرى و أكمل الطريق شاردًا بعواقب فعلته ، إنه يخدع عائلته بأكملها لكنه يحب عمه "عاصم " بشكل لا يوصف إذًا لا بأس و لا مفر من بضعة قرارات هوجاء لأجل استقرار الجميع !
وأننا نعشق الاختيارات التي تضعنا على حافة الهاوية !
#أغلال_الروح
#شيماء_الجندي
___________________ *** _________________
بينما داخل البناية الخاصة بــ "آل الجندي" بدأت التَّحضِيرَات على قدم وساق منذ الصباح الباكر ، حيث أصرت الجدة القَعِيدَة أن تشرف على جميع مايخص استقبال حفيدتها الغائبة عن الوطن منذ أعوام ، وقد كان !
عَمَّ الابْتِهَاج المنزل بانتظار رؤية مُدَلَّلــة أبيها و الآن فور أن أصبح كل شيئ على مايرام يمكننا أن نقول مرحب بعودة الصغيرة الغائبة !
فور أن هبطت "سديم" من السيارة انطلقت الألعاب النارية و وجدت اسم "سيلا الجندي " يُزين السماء أعلى المبنى التى اصطفت أمامه سيارة "آسر" ، اتسعت عينيها حين انطلق "عاصم" تجاهها مثل السهم يحتضنها بقوة هادرًا بحماس غلف نبرته :
- حمدلله على السلامة ياروح قلب بابااا !
ببادئ الأمر أصابتها صدمة و ذهول من فرط حماس ذاك الرجل الخمسيني الذي يحتويها الآن داخل حضنه الأبوي باشتياق واضح و محبة خالصة ، و تدريجيًا غادرها التوتر و انتهت الرجفة الخفيفة التي كانت تُسيطر على جسدها و رفعت يدها تربت فوق ظهره بلطف هامسة بحزن :
- الله يسلمك يا بابا !
اخرجها من أحضانه و البهجة تتراقص داخل عينيه مُتأملًا ملامحها و ارتفعت يديه يكور وجهها قائلًا بتوتر :
- إيه الجمال دا ياسيلا بقيتي زي القمر ، أناا آآ مش مصدق إني شايفك دلوقت !
حاولت رسم بسمة مزيفة فوق شفتيها بدأ تعاطفها تجاهه يتراقص بين جنبات قلبها ،وسؤال واحد يدور بعقلها ألا وهو كيف لها أن تحاول خداع مشاعره الصادقة تجاه فتاته المفقودة منذ أعوام ، أفاقت من مشاعرها المتضاربة على نظرات "آسر" المندهش من صمتها حيث وقف خلف ظهر عمه و سلط نظراته فوق ملامحها المتوترة ، في حين سقطت دموع الفرح من عيني "عاصم " مما دفعها إلى احتضانه بصمت و قد عجزت عن الحديث و المراوغة معه ، اندهشت من حالها و لم تتخيل أن مشاعر هذا الأب سوف تتسبب لها بالعجز والتوقف عن الاسترسال بتلك المسرحية الهزلية !
أغمضت عينيها تشعر به يضمها بقوة إلى أحضانه و يبكي بصوت واضح و مرتفع ، اخجلها من حالها و تأثر الجميع و سيطرت العاطفة على الموقف ، خرجت "سديم" من إطار إتقان دورها و ربتت فوق ظهره بتعاطف و حزن صامت إلى أن قاطع الموقف صوت "يوسف" صائحًا :
- إيه يااعمو مش كدا جايبين البنت من كندا ننكد عليهاا ولا إيه ؟!! بعد إذنك بس نسلم كداا !
تركها "عاصم " ضاحكًا من بين دموعه و قال بتوتر :
- ننكد إيه أنا بس مش مصدق إني شايفها ولامسها في حضني كدا !
ربت "يوسف" فوق كتف عمه ثم قال مُوجهًا حديثه إلى "سديم" :
- بس إيه الجمال دا كله ياسيلا ، شغل مستورد اوي يعني ! مش فاكراني اكيد !
قاطعه "سليم" _ابن عم آسر_ ضاحكًا و هو يغازلها غامزًا لها :
- مش فكرانا إيه دي كانت مسافرة مش فاقدة الذاكرة ، مش القمر فكراني برضه ؟
صرفت "سديم" نظراتها عن "عاصم" و ابتسمت لهما قائلة بلطف :
- احم بمناسبة سيلا دا أنا مش بحبه قولولي سديم ! أما فكراكم دا أكيد طبعًا ! وكمان أنا شوفت صوركم وأنا بدور على بابا ! أنت سليم أكيد !
ثم صافحت "يوسف" قائلة :
- و أنت طبعًا يوسف !
ابتسم لها و أجاب وهو يتفحصها بعينيه بانبهار واضح :
- الله ينور عليكِ أنا يوسف و أهم واحد في العيلة دي خدي بالك !
ضحكت بخفة لدعابته و اقتربت منها "نريمان" تقول بترحيب :
- حمدلله على السلامة ياروحي ! نورتي بيتك !
ابتسمت لها "سديم " و قالت بلطف :
- ميرسي ليكِ جدًا !
ابتسمت لها "نريمان" و جابت عينيها جسد "سديم" الممشوق و ملامحها المشابههة لوالدتها الكندية بنسبة صغيرة حيث ورثت عن أبيها أغلب الملامح ، تلك بالتأكيد ابنه "عاصم" الجميلة هي تذكر جيدًا ملامح الصغيرة حين رحلت مع أمها الكندية كما يغمرها الآن شعور بالارتياح تجاه تلك الفتاة ، لاحظ "آسر" شرود زوجة عمه بـها و راوده الارتياب أن تكون قد لاحظت أمر ما أو أصابها شك تجاه "سديم" مما دفعه إلى التساؤل :
- إحنا مش هندخل ولا إيه ؟
هزت رأسها بالايجاب سريعًا واتجهت إلى الداخل معهما تردف بخجل طفيف من شرودها بالفتاة :
- سوري حبيبتي أنا بس مش مصدقة الشبه بينك وبين عاصم أصل كل البنات اللي كان بيفكرهم أنتِ يعني مكنتش برتاح ليهم ولا لملامحهم لكن أنتِ غير خالص !
اتجه "عاصم" إلى ابنته و أحاط كتفيها قائلًا بلطف :
- أعمامك جوا مع تيته ياسيلاا ! اقصد ياسديم آآ
قاطعه "سليم" قائلًا بدهشة :
- هو أنتِ غيرتي اسمك لوحدك ؟
هزت رأسها بالإيجاب و قالت بهدوء :
- آه أنا محبتش اسم سيلا و بحب سديم أكتر !
قال "عاصم" بلطف :
- أحسن برضه سديم أجمل بكتير ، أنا مكنتش موافق على الاسم دا زمان أصلًا !
ابتسمت له "سديم" و هدر "يوسف " من الخلف مداعبًا عمه :
- ما شاء الله عليك ياعمو رفضت سيلا زمان وموافق على سديم دلوقت ؟
رفعت "سديم" حاجبها و أدارت جسدها تنظر إليه بدهشة قائلة بنبرة تحذيرية :
- ليه هو سديم وحش ؟
رفع "يوسف" يديه باستسلام و أردف ضاحكًا :
- ده مفيش أجمل من الاسم وصاحبة الاسم !
ضحكت "سديم" و واصلت سيرها ثم تقدم "يوسف" يسير بجانبها مُتحدثًا معها لكنها انشغلت بالنظر إلى الحديقة من حولها حيث اعجبها الطراز الخارجي الخاص بالبناية والحديقة و لاحظت بيوت خشبية أنيقة و صغيرة منقوش فوقها اسماء من الواضح أنها تخص الحيوانات الأليفة داخل المنزل ، اندهشت من فكرة تأسيس المنزل بطريقة تختلف عن المألوف حيث من الواضح أن المساحة شاسعة و استغلها أهل المنزل بطريقة مُثيرة لدهشتها وجدت سيارة "آسر" التي اصطحبها بها من المطار تدلف إلى الداخل بقيادة "سليم" الذي انفصل عنهم وخمنت وجود مكان في الخلف خاص بالسيارات ، وصلت اخيرًا إلى البوابة الصغيرة الخاصة بالبناية و اخرجها "عاصم" من جلسة انبهارها قائلًا بتوضيح :
- طبعًا مندهشة من كل دا ، أصل آسر اقترح إننا نستغل المساحة بطريقة جديدة و عملنا لكل عيلة دور منفصل و آآ
قاطعه "يوسف" مُشيرًا إلى المنزل الفريد و المنفصل عن البناية و قال بتوضيح :
- وده بيت آسر لوحده منفصل و ورا فيه صالة الچيم و كدا !
هزت رأسها وقالت مداعبة إياه بخفة :
- اممم مهتم أنت أوي بالتفاصيل !
ضحك "يوسف" وبرزت غمازتيه و قال هامسًا لها :
- أنا أهم حاجة في حيااتي التفاصيل ، فكريني افرجك البيت بتاعه تحفة من جوا بس وهو مش موجود عشان بيخاف أوي على حاجته !
راقب "عاصم" ضحكات ابنته و حديثها مع ابن اخيه ببسمة هادئة و شغف واضح ثم قال مُقاطعًا تواصلهما :
- يلا ياحبيبتي جدتك مستنياكِ !
ثم اكمل شرحه للمنزل قائلًا :
- أول دور دا أنا عايش فيه مع جدتك و طبعًا أنتِ تختاري تحبي نقعد هنا و تاخدي الدور اللي فوق بتاعنا !
اتجهت "سديم" معه إلى الداخل و ابتسمت بهدوء ثم أجابت بحيرة :
- as you like "زي ماتحب " !
راقبت "سديم" عبارات الترحيب بها فوق البالونات الهوائية و تلك القطع التي ارتصت فوق الأرضية الرخامية بشكل أنيق ومنظم مبهج للرائي و تسائلت داخلها هل أحضرت العائلة منظم احتفالات لأجل عودتها أو بمعنى أدق عودة "سيلا " سليلة تلك العائلة !
و أردف "يوسف" حين لاحظ شرودها :
- عمو عاصم تقريبًا منامش من امبارح ، و متابع بنفسه مع شركة تنظيم الحفلات ، واختار كل تفاصيل اوضتك بنفسه !
كادت تتحدث لكن قال "عاصم " بتوتر :
- بس لو الديكور معجبكيش وحابه تغيريه براحتك ياروحي ، أنتِ اكيد ليكِ ذوق خاص دلوقت !
نظرت له "سديم" بحزن و أشفقت على هذا الرجل للمرة التي لا تعلم عددها اليوم ، يراودها شعور بالذنب والألم كلما رأت لهفته الواضحة بمعاملته وحديثه و قلقه من فراقها الذي تصرخ به عينيه منذ أن قابلته !
ربتت "سديم" بلطف فوق كتفه و أردفت مبتسمة :
- أكيد هيعجبني !
وصل الجميع إلى الجدة و اقتربت "سديم" منها تهبط إلى مستواها تضع قبلة فوق شيبتها جذبتها الجدة بحنو تجاهها و احتضنتها تربت فوق ظهرها قائلة بلطف :
- حمدلله على السلامة ، هي بنتك احلوت أكتر ولا أنا بيتهيألي ياعاصم !
لتتسع ابتسامة "عاصم" الذي جلس فوق الأريكة و جذب بلطف لتجاوره و احتفظ بها داخل أحضانه قائلًا بحماس طفيف و هو يقبل خصلاتها :
- هي جميلة من يوم ما اتولدت ياماما !
ضحكت الجدة بوقار و أردفت :
- طبعًا ياحبيبي ، وبعدين سيبها تتعرف علينا و نحتفل بيها الأول و افرج عنها هتخنقها كدا !
عقد حاجبيه و كاد يتحدث لكن قاطعه صيحة "رأفت" _والد آسر _ و إقباله تجاه "سديم" قائلًا :
- يا أهلًا ياحبيبة عمو ، حمدلله على سلامتك !
استقامت "سديم " و رحبت به ببسمة صغيرة تاركة إياه يحتضنها و يربت فوق خصلاتها بلطف و هي تستمع إلى "عاصم" يقول :
- ده عمك رأفت ياسديم !
عقد "رأفت" حاجبيه و علق بدهشة :
- سديم ؟!
أجابه "يوسف" مبتسمًا :
- آه سديم هي سيلا بس مش بتحب اسمها فغيرته !
ابتسم لها "رأفت" و أردف بهدوء :
- اه وماله حبيبتي سديم جميل برضه !
هزت رأسها بالايجاب و استمعت إلى الجدة تقول بنبرة ذات مغزى :
- فين أمجد يا رأفت ؟
توترت نظراته بالحال و ألقى نظرة خاطفة تجاه "عاصم" الذي جذب "سديم" مرة أخرى إلى أحضانه و عقد حاجبيه ، وتحدث أخيرًا العضو الصامت _آسر _ يقول بهدوء :
- عمي أمجد كان متابع الشغل طول اليوم و معاه مكالمة دلوقت هيخلصها و يجي !
لم تغفل "سديم" عن توتر الأجواء من حولها لكنها فضلت المراقبة الصامتة بالوقت الراهن ثم بدأت تدريجيًا تتفاعل بالأحاديث مع جميع أفراد الأسرة خاصة "يوسف" و "سليم" ، اعجبها سلاسة الحديث و بساطته فيما بينهم و شعرت بالأُلْفَة معهم و قضت اليوم العائلي بين سعادة داخلية بتلك العائلة و حزن تجاه الرجل الخمسيني الذي تراوغه طوال اليوم و توتر طفيف من القادم !
في نهاية اليوم وقفت شاردة داخل حديقة المنزل حيث استطاعت أخيرًا الإفلات من داخل التوتر و نظرات العم "أمجد" المتوجسة طوال الوقت !
عقدت حاجبيها حين استمعت إليه يتحدث بهدوء فور أن وقف بجانبها :
- برضوا عملتي اللي في دماغك ؟
رفعت "سديم" حاجبها الأيسر باستفهام ليوضح "آسر" كلماته قائلًا بامتعاض :
- قولتي إن اسمك سديم !
ابتسمت بهدوء و أجابت ببرود واضح :
- وأنا كنت وعدتك إني هغير اسمي ؟
عقد حاجبيه و أجاب بغضب :
- أنت هتستهبلي ؟
هزت كتفيها بلامبالاة و أجابت :
- وأنا هستهبل عليك ليه يعني ؟ أنا اسمي سديم و بحبه و الناس معندهاش مشكلة إنهم ينادوا عليا بيه ، أنت بقا بتتحشر ليه ؟
رفع حاجبه الأيمن و أجاب ساخرًا :
- لا والله !! طيب إيه رأيك بقاا إني مش هقول غير سيلا ؟
ضحكت بقوة قاصدة استفزازه و قالت بهدوء :
- وماله ! و أنا مش هرد عليك وقتها ، نبقا نشوف سيلا ترد عليك !
عقد حاجبيه و جذبها من ذراعها إليه قائلًا بغضب :
- إياكِ تعملي حركات الشوارع دي علياا !!! و متتصرفيش من دماغك نهائي تاني !
نظرت إلي يده التي تقبض بقوة و غلظة على ذراعها ثم قالت ببرود :
- أنا هتصرف من دماغي في كل مرة تطول فيها لسانك دا عليا ! مش عجباك حركات الشوارع مكنتش اتعاملت معايا ، و مش هغير اسمي عشانك ولا عشان أي حد أنا بحب اسمي و هيفضل زي ماهو كدا و مش هرد على أي حد يناديني بالاسم السخيف بتاع قريبتك دي ! أنا سديم و بسسس !!!
ثم رفعت يدها بهدوء تضعها فوق يده و نجحت بفك أسر ذراعها ببساطة حيث تركها فور أن لمست يده و أردف كاظمًا غيظه :
- اسم سيلا سخيف ؟ و اسمك اللي ملهوش معنى هو اللي حلو ؟
زفرت بضجر وقالت بملل :
- أنا معنديش طاقة ادخل معاك في نقاش بليل كدا ، خلينا في المهم أنت مقولتليش إن جدتك قعيدة بسبب سيلا ليه ؟
عقد حاجبيه و أردف بخشونة :
- و أنتِ مالك بحاجة زي دي ؟ و مين قالك اصلا أنه بسبب سيلا ؟
عقدت حاجبيها هي الأخرى و أجابت بدهشة :
- هو إيه دا اللي أنا مالي ، حادثة حصلت بسبب واحدة أنا بتعامل بشخصيتها و جدتك بقيت قعيدة بسببها مش المفروض اعرف بيها ، لولا يوسف وقع بالكلام و اللي استوعبته إن كنت أنا السبب ؟
أغمض عينيه بقوة و قال بغضب مبالغ به :
- أنا عرفتك كل اللي تحتاجيه غير كدا ملكيش أي دعوة أنتِ مش هتصاحبينا ، أنتِ هنا لدور محدد ، تقومي بيه وتاخدي حسابك و تختفي ، و أي حاجه زيادة أنا المسؤول عنها مش أنتِ !!!
رفعت كتفيها ببرود و قالت بهدوء :
- خلاص أنت حر ، عنك ماقولت ، أنا أصلًا مبحبش التفاصيل والصداع !
تركته و اتجهت للداخل ثم توقفت فجأة وقالت :
- اه على فكرة اسمي معناه الضباب الناعم !
جالس بهدوء داخل غرفة مكتبه الأنيق يحاول إنهاء أعماله المتراكمة و هو يرتشف قهوته الساخنة بتأنٍّ و سكينة لكنه عقد حاجبيه فجأة و ترك القهوة محلها ينظر إلى الباب الذي فُتح و أطل منه الرجل الخمسيني الذي تمكن الشيب من رأسه و لحيته "عاصم الجندي" صارخًا ببهجة :
- سيلاااا !! سيلااا ياآسر ظهرت أخيرًا !!!!
رفع "آسر" أنامله عن لوحة مفاتيح الحاسوب المحمول و أردف متسائلًا :
- سيلا بنتك ياعمي؟
جلس "عاصم" في المقعد المقابل له و قد تهللت أساريره يقول مبتهجًا :
- مش مصدق صح !!!! أنا نفسي اتصدمت مكنتش مصدق لحد ما اتأكدت بنفسي و اتواصلت مع المحامي أكدلي إنها سيلا بنتي !
نظر "آسر" إليه لحظات ثم اعتدل بجلسته قائلًا بحذر :
- أنا مقدر فرحتك طبعًا ببنتك ورجوعها بس مش غريبة شوية تظهر فجأة بعد كل السنين دي ؟
تنهد العم ببعض الضيق و أردف و قد بدأ الحماس يتلاشى من نبرته :
- أنا بقولك اتأكدت بنفسي و المحامي بتاعنا كمان اتأكد يعني مفيش مجال للشك دا ! أنا كلها ساعات وهشوف بنتي و احضنها و أنت هتشككني فيها ؟ دا أنا عايش على الأمنية دي من سنين ياآسر !
لمعت عيني "عاصم " بدموع اشتياق و استقام عن مقعده مًكملًا :
- كنت متوقع منك تفرحلي !
زفر الآخر أنفاسه و وقف يواجه عمه رابتًا فوق كتفه بهدوء قائلًا :
- أنت عارف كويس إني مش عايزك تتعلق بسراب لكن طالما اتأكدت إنها هي خلاص مبروك عليك رجوعها ليك !
ابتسم "عاصم " و ربت فوق يد ابن أخيه و قال بهدوء :
- طيب حيث كدا أنا كنت عايز منك حاجة صغيرة !
رفع " آسر حاجبه الأيمن و أردف بعبث :
- آه يعني مش جاي هنا عشان تقولي وأفرح بالخبر ، ده فيه مصلحة بقاا !
ضحك العم و أجابه بصدق :
- هي مش مصلحة أوي أنا عايزك تروح تستقبل سيلا أنت عشان أنا هجهزلها الأوضة بنفسي و أحضرلها احتفال رجوعها !
ثم أكمل حين وجد الدهشة تتراقص بمُقلتي ابن اخيه :
- أنا نفسي أكون أول واحد بستقبلها بس اللي هعمله ضروري ومحدش هيعرف يعمله زيي !
رفع "آسر" كتفيه باستسلام ثم قال :
- تمام زي ماتحب هستقبلها أنا هي جاية امتى ؟
اجابه و هو يجمع متعلقاته استعدادًا للرحيل :
- بكره الصبح الساعة 10 ، مش بقولك مفيش وقت هي فاجئتني أنا نفسي ، سلاام !!
ظل "آسر" واقفًا بمحله يراقب هروله عمه إلى الخارج و كأن أحدهم يطارده ، ثم قال بخفوت :
- ربنا يعديها على خير ، أتمنى تسامحني في الآخر ياعمي !
___________________ *** _________________
يوم العودة ..
جلست "سديم" في السيارة بجانب "آسر" الذي تولى قيادة السيارة بملامح جامدة و قد بدا بعض القلق على محياه مما دفعها إلى الابتسام له تلك البسمة الجافة أثناء همسها قائلة :
- شكل عمك واثق فيك أوي يعيني ميعرفش أنك بتنصب عليه !
عقد حاجبيه يقبض على رسغها فجأة يُقربها منه و هو يقول بغضب واضح احتل ملامحه فجأة :
- بت أنتِ اتلمي ! النصب دا شغلة أشكالك لكن أنا بحافظ على عيلة كاملة في رقبتي !
اغضبها بفظاظته و إهانته البينة لها حيث ملأ الإزدراء نبرته ، واشتدت قبضته فوق رسغها حين حاولت افلاتها قائلة بابتسامة عريضة استفزته :
- مممم ، بت أنتِ ؟ و نصابة ؟ و أشكاالي ؟! طيب ياسيدي خليك فاكر و أنت بتطول لسانك عليا إنك أنت اللي دورت على أشكالي ، و جبت واحدة نصابة زيي من آخر الدنيا تمثل إنها من عيلتك عشان قال اي تحافظ على عيلتك ! يابتاع العيلة !
ابعد نظراته عن الطريق و نظر إلى ملامحها المتحدية له وكأنها بانتظار أن يُكمل تطاوله أو يحاول نفي حديثها لكنها على حق ، لقد كلفه الأمر عدة أسابيع حتى يتثني له الحصول عليها و إقناعها بذاك الأمر ، هو الذي طلب من صديقه البحث عنها بعد أن حدثه صديقه أنها عاونت والده ذات مرة و أنها على علاقة جيدة مع والده وأن عليه تحمل خالها لأنها تعمل معه لذلك لن ترفض مساعدته بل سوف تتفانى في إتقان دورها و الوفاء بعهدها معه !
أفاق من شروده حين صاحت به فجأة :
- اصحا للطريق يابااا هتلبسناا في اللي قصادنا !!
اتسعت عينيه و ردد بذهول :
- ياباا ؟ وهتلسبناا ؟
أشارت بعينيها إلى سيارة أمامهم ثم أكملت و هي تعتدل بجلستها بعد أن تأكدت من تعكر صفو مزاجه و ردها على إهانته :
- اه يابااا و هتلبسنا وخد بالك بقاا من كلامك معاياا أنا مش خدامة عندك أنت جايبني و دافع تمن طريقتي و كلامي عاوزني اراعيهم و أخد بالي منهم و أنا بتكلم مع عيلتك المبجلة يبقا تلم لسانك دا معايا ، هتستهبل وتفكر تترسم تاني عليا هنسى كل اتفاقنا و هيخرج مني واحدة متمناش إنك تجربها !
استطاعت أن تستمع إلى صوت تنفسه الغاضب و ضغط على رسغها الذي لازال داخل قبضته مُتمنيًا أن يرى الألم فوق ملامحها لكنها ألقت رأسها إلى الخلف و ابعدت نظراتها عنه قائلة بجمود :
- و لو إيدي مش لازماك في حاجة ياريت تسيبها و لا أنت ماصدقت ؟
ترك يدها على الفور و أردف ساخرًا :
- ماصدقت ، معاكِ أنتِ ؟!!
ابتسمت له بهدوء ثم أمسكت نظارتها الشمسية ووضعتها فوق عينيها تاركة إياه يُكمل حين لم يحصل على إجابه منها فور سخريته :
- أتمنى تكوني فاكرة اللي هتعمليه و متتصرفيش من دماغك نهائي أنا عيني هتكون دايمًا عليكِ ، أتمنى تتصرفي زي ولاد الناس ، عمي عاصم ذكي جدًا و لو حس إنك مش بنته الحقيقية مش بعيد يسلمك للشرطة و ساعتها أنا مش هقدر أساعدك و اخسر عيلتي !
ضحكت بخفة و أجابته ساخرة :
- إيه داا يامامي خوفت جدًاا ، كنت فاكراك هتحميني منهم و معتمدة عليك أوي في كل خطواتي ، هعيش إزاي منغيرك وقتها !!!
أوقف السيارة فجأة و هدر غاضبًا حين أخرجته تلك الفتاة المستفزة عن طوره :
- كفاااية هو كل كلمة عليها رد ، متعرفيش تسمعيييي و تقوليييي حاضر !!
تنهدت واجابته و هي ترفع كتفيها بلامبالاة واضحة :
- لا معرفش اعمل كدا مع واحد زيك ! و متزعقش كتير عشان مبحبش الازعاج و الصوت العالي ! مبتعرفش تبقا ابن ناس ولا إيه ؟
احتلت الدهشة ملامحه من اسلوبها الغريب معه و كأنها تصارعه بالكلمات ! منذ أن قابلها و هي هادئة إلى درجة استفزازه بالحديث الهادئ و كأنها تحدثه عن حالة الطقس لكن و كأن تصرفاتها اليوم متعمدة لاستفزازه أو من الممكن أن تكون تلك الحالة المصاحبة له منذ أن رأي لهفة حقيقية وواضحة داخل عيني عمه و هو يحادثه عن عودة مؤكدة لصغيرته الغائبة ، هو غاضب و الآن سوف يفسد الأمر كله مع تلك الفتاة الباردة بمنظوره الخاص ؟!
تنهد و أغمض عينيه يقول بهدوء مصطنع فور أن زفر أنفاسه :
- تمام يااسديم ! خلينا متفقين إننا مجبرين على التعامل مع بعض الفترة الجاية لحد ما كل واحد يخلص من التاني أنتِ تاخدي فلوسك اللي اتفقنا عليها و أنا انقذ عمي و عيلتي !
راقبت "سديم" ملامحه المرهقة لحظات معدودة قبل أن تعتدل بجلستها مرة أخرى و تنظر أمامها قائلة :
- أوكاي ولحد ما ده يحصل خد بالك من طريقتك معايا بقا !
لم تحصل على اجابه منه بل أدار السيارة مرة أخرى و أكمل الطريق شاردًا بعواقب فعلته ، إنه يخدع عائلته بأكملها لكنه يحب عمه "عاصم " بشكل لا يوصف إذًا لا بأس و لا مفر من بضعة قرارات هوجاء لأجل استقرار الجميع !
وأننا نعشق الاختيارات التي تضعنا على حافة الهاوية !
#أغلال_الروح
#شيماء_الجندي
___________________ *** _________________
بينما داخل البناية الخاصة بــ "آل الجندي" بدأت التَّحضِيرَات على قدم وساق منذ الصباح الباكر ، حيث أصرت الجدة القَعِيدَة أن تشرف على جميع مايخص استقبال حفيدتها الغائبة عن الوطن منذ أعوام ، وقد كان !
عَمَّ الابْتِهَاج المنزل بانتظار رؤية مُدَلَّلــة أبيها و الآن فور أن أصبح كل شيئ على مايرام يمكننا أن نقول مرحب بعودة الصغيرة الغائبة !
فور أن هبطت "سديم" من السيارة انطلقت الألعاب النارية و وجدت اسم "سيلا الجندي " يُزين السماء أعلى المبنى التى اصطفت أمامه سيارة "آسر" ، اتسعت عينيها حين انطلق "عاصم" تجاهها مثل السهم يحتضنها بقوة هادرًا بحماس غلف نبرته :
- حمدلله على السلامة ياروح قلب بابااا !
ببادئ الأمر أصابتها صدمة و ذهول من فرط حماس ذاك الرجل الخمسيني الذي يحتويها الآن داخل حضنه الأبوي باشتياق واضح و محبة خالصة ، و تدريجيًا غادرها التوتر و انتهت الرجفة الخفيفة التي كانت تُسيطر على جسدها و رفعت يدها تربت فوق ظهره بلطف هامسة بحزن :
- الله يسلمك يا بابا !
اخرجها من أحضانه و البهجة تتراقص داخل عينيه مُتأملًا ملامحها و ارتفعت يديه يكور وجهها قائلًا بتوتر :
- إيه الجمال دا ياسيلا بقيتي زي القمر ، أناا آآ مش مصدق إني شايفك دلوقت !
حاولت رسم بسمة مزيفة فوق شفتيها بدأ تعاطفها تجاهه يتراقص بين جنبات قلبها ،وسؤال واحد يدور بعقلها ألا وهو كيف لها أن تحاول خداع مشاعره الصادقة تجاه فتاته المفقودة منذ أعوام ، أفاقت من مشاعرها المتضاربة على نظرات "آسر" المندهش من صمتها حيث وقف خلف ظهر عمه و سلط نظراته فوق ملامحها المتوترة ، في حين سقطت دموع الفرح من عيني "عاصم " مما دفعها إلى احتضانه بصمت و قد عجزت عن الحديث و المراوغة معه ، اندهشت من حالها و لم تتخيل أن مشاعر هذا الأب سوف تتسبب لها بالعجز والتوقف عن الاسترسال بتلك المسرحية الهزلية !
أغمضت عينيها تشعر به يضمها بقوة إلى أحضانه و يبكي بصوت واضح و مرتفع ، اخجلها من حالها و تأثر الجميع و سيطرت العاطفة على الموقف ، خرجت "سديم" من إطار إتقان دورها و ربتت فوق ظهره بتعاطف و حزن صامت إلى أن قاطع الموقف صوت "يوسف" صائحًا :
- إيه يااعمو مش كدا جايبين البنت من كندا ننكد عليهاا ولا إيه ؟!! بعد إذنك بس نسلم كداا !
تركها "عاصم " ضاحكًا من بين دموعه و قال بتوتر :
- ننكد إيه أنا بس مش مصدق إني شايفها ولامسها في حضني كدا !
ربت "يوسف" فوق كتف عمه ثم قال مُوجهًا حديثه إلى "سديم" :
- بس إيه الجمال دا كله ياسيلا ، شغل مستورد اوي يعني ! مش فاكراني اكيد !
قاطعه "سليم" _ابن عم آسر_ ضاحكًا و هو يغازلها غامزًا لها :
- مش فكرانا إيه دي كانت مسافرة مش فاقدة الذاكرة ، مش القمر فكراني برضه ؟
صرفت "سديم" نظراتها عن "عاصم" و ابتسمت لهما قائلة بلطف :
- احم بمناسبة سيلا دا أنا مش بحبه قولولي سديم ! أما فكراكم دا أكيد طبعًا ! وكمان أنا شوفت صوركم وأنا بدور على بابا ! أنت سليم أكيد !
ثم صافحت "يوسف" قائلة :
- و أنت طبعًا يوسف !
ابتسم لها و أجاب وهو يتفحصها بعينيه بانبهار واضح :
- الله ينور عليكِ أنا يوسف و أهم واحد في العيلة دي خدي بالك !
ضحكت بخفة لدعابته و اقتربت منها "نريمان" تقول بترحيب :
- حمدلله على السلامة ياروحي ! نورتي بيتك !
ابتسمت لها "سديم " و قالت بلطف :
- ميرسي ليكِ جدًا !
ابتسمت لها "نريمان" و جابت عينيها جسد "سديم" الممشوق و ملامحها المشابههة لوالدتها الكندية بنسبة صغيرة حيث ورثت عن أبيها أغلب الملامح ، تلك بالتأكيد ابنه "عاصم" الجميلة هي تذكر جيدًا ملامح الصغيرة حين رحلت مع أمها الكندية كما يغمرها الآن شعور بالارتياح تجاه تلك الفتاة ، لاحظ "آسر" شرود زوجة عمه بـها و راوده الارتياب أن تكون قد لاحظت أمر ما أو أصابها شك تجاه "سديم" مما دفعه إلى التساؤل :
- إحنا مش هندخل ولا إيه ؟
هزت رأسها بالايجاب سريعًا واتجهت إلى الداخل معهما تردف بخجل طفيف من شرودها بالفتاة :
- سوري حبيبتي أنا بس مش مصدقة الشبه بينك وبين عاصم أصل كل البنات اللي كان بيفكرهم أنتِ يعني مكنتش برتاح ليهم ولا لملامحهم لكن أنتِ غير خالص !
اتجه "عاصم" إلى ابنته و أحاط كتفيها قائلًا بلطف :
- أعمامك جوا مع تيته ياسيلاا ! اقصد ياسديم آآ
قاطعه "سليم" قائلًا بدهشة :
- هو أنتِ غيرتي اسمك لوحدك ؟
هزت رأسها بالإيجاب و قالت بهدوء :
- آه أنا محبتش اسم سيلا و بحب سديم أكتر !
قال "عاصم" بلطف :
- أحسن برضه سديم أجمل بكتير ، أنا مكنتش موافق على الاسم دا زمان أصلًا !
ابتسمت له "سديم" و هدر "يوسف " من الخلف مداعبًا عمه :
- ما شاء الله عليك ياعمو رفضت سيلا زمان وموافق على سديم دلوقت ؟
رفعت "سديم" حاجبها و أدارت جسدها تنظر إليه بدهشة قائلة بنبرة تحذيرية :
- ليه هو سديم وحش ؟
رفع "يوسف" يديه باستسلام و أردف ضاحكًا :
- ده مفيش أجمل من الاسم وصاحبة الاسم !
ضحكت "سديم" و واصلت سيرها ثم تقدم "يوسف" يسير بجانبها مُتحدثًا معها لكنها انشغلت بالنظر إلى الحديقة من حولها حيث اعجبها الطراز الخارجي الخاص بالبناية والحديقة و لاحظت بيوت خشبية أنيقة و صغيرة منقوش فوقها اسماء من الواضح أنها تخص الحيوانات الأليفة داخل المنزل ، اندهشت من فكرة تأسيس المنزل بطريقة تختلف عن المألوف حيث من الواضح أن المساحة شاسعة و استغلها أهل المنزل بطريقة مُثيرة لدهشتها وجدت سيارة "آسر" التي اصطحبها بها من المطار تدلف إلى الداخل بقيادة "سليم" الذي انفصل عنهم وخمنت وجود مكان في الخلف خاص بالسيارات ، وصلت اخيرًا إلى البوابة الصغيرة الخاصة بالبناية و اخرجها "عاصم" من جلسة انبهارها قائلًا بتوضيح :
- طبعًا مندهشة من كل دا ، أصل آسر اقترح إننا نستغل المساحة بطريقة جديدة و عملنا لكل عيلة دور منفصل و آآ
قاطعه "يوسف" مُشيرًا إلى المنزل الفريد و المنفصل عن البناية و قال بتوضيح :
- وده بيت آسر لوحده منفصل و ورا فيه صالة الچيم و كدا !
هزت رأسها وقالت مداعبة إياه بخفة :
- اممم مهتم أنت أوي بالتفاصيل !
ضحك "يوسف" وبرزت غمازتيه و قال هامسًا لها :
- أنا أهم حاجة في حيااتي التفاصيل ، فكريني افرجك البيت بتاعه تحفة من جوا بس وهو مش موجود عشان بيخاف أوي على حاجته !
راقب "عاصم" ضحكات ابنته و حديثها مع ابن اخيه ببسمة هادئة و شغف واضح ثم قال مُقاطعًا تواصلهما :
- يلا ياحبيبتي جدتك مستنياكِ !
ثم اكمل شرحه للمنزل قائلًا :
- أول دور دا أنا عايش فيه مع جدتك و طبعًا أنتِ تختاري تحبي نقعد هنا و تاخدي الدور اللي فوق بتاعنا !
اتجهت "سديم" معه إلى الداخل و ابتسمت بهدوء ثم أجابت بحيرة :
- as you like "زي ماتحب " !
راقبت "سديم" عبارات الترحيب بها فوق البالونات الهوائية و تلك القطع التي ارتصت فوق الأرضية الرخامية بشكل أنيق ومنظم مبهج للرائي و تسائلت داخلها هل أحضرت العائلة منظم احتفالات لأجل عودتها أو بمعنى أدق عودة "سيلا " سليلة تلك العائلة !
و أردف "يوسف" حين لاحظ شرودها :
- عمو عاصم تقريبًا منامش من امبارح ، و متابع بنفسه مع شركة تنظيم الحفلات ، واختار كل تفاصيل اوضتك بنفسه !
كادت تتحدث لكن قال "عاصم " بتوتر :
- بس لو الديكور معجبكيش وحابه تغيريه براحتك ياروحي ، أنتِ اكيد ليكِ ذوق خاص دلوقت !
نظرت له "سديم" بحزن و أشفقت على هذا الرجل للمرة التي لا تعلم عددها اليوم ، يراودها شعور بالذنب والألم كلما رأت لهفته الواضحة بمعاملته وحديثه و قلقه من فراقها الذي تصرخ به عينيه منذ أن قابلته !
ربتت "سديم" بلطف فوق كتفه و أردفت مبتسمة :
- أكيد هيعجبني !
وصل الجميع إلى الجدة و اقتربت "سديم" منها تهبط إلى مستواها تضع قبلة فوق شيبتها جذبتها الجدة بحنو تجاهها و احتضنتها تربت فوق ظهرها قائلة بلطف :
- حمدلله على السلامة ، هي بنتك احلوت أكتر ولا أنا بيتهيألي ياعاصم !
لتتسع ابتسامة "عاصم" الذي جلس فوق الأريكة و جذب بلطف لتجاوره و احتفظ بها داخل أحضانه قائلًا بحماس طفيف و هو يقبل خصلاتها :
- هي جميلة من يوم ما اتولدت ياماما !
ضحكت الجدة بوقار و أردفت :
- طبعًا ياحبيبي ، وبعدين سيبها تتعرف علينا و نحتفل بيها الأول و افرج عنها هتخنقها كدا !
عقد حاجبيه و كاد يتحدث لكن قاطعه صيحة "رأفت" _والد آسر _ و إقباله تجاه "سديم" قائلًا :
- يا أهلًا ياحبيبة عمو ، حمدلله على سلامتك !
استقامت "سديم " و رحبت به ببسمة صغيرة تاركة إياه يحتضنها و يربت فوق خصلاتها بلطف و هي تستمع إلى "عاصم" يقول :
- ده عمك رأفت ياسديم !
عقد "رأفت" حاجبيه و علق بدهشة :
- سديم ؟!
أجابه "يوسف" مبتسمًا :
- آه سديم هي سيلا بس مش بتحب اسمها فغيرته !
ابتسم لها "رأفت" و أردف بهدوء :
- اه وماله حبيبتي سديم جميل برضه !
هزت رأسها بالايجاب و استمعت إلى الجدة تقول بنبرة ذات مغزى :
- فين أمجد يا رأفت ؟
توترت نظراته بالحال و ألقى نظرة خاطفة تجاه "عاصم" الذي جذب "سديم" مرة أخرى إلى أحضانه و عقد حاجبيه ، وتحدث أخيرًا العضو الصامت _آسر _ يقول بهدوء :
- عمي أمجد كان متابع الشغل طول اليوم و معاه مكالمة دلوقت هيخلصها و يجي !
لم تغفل "سديم" عن توتر الأجواء من حولها لكنها فضلت المراقبة الصامتة بالوقت الراهن ثم بدأت تدريجيًا تتفاعل بالأحاديث مع جميع أفراد الأسرة خاصة "يوسف" و "سليم" ، اعجبها سلاسة الحديث و بساطته فيما بينهم و شعرت بالأُلْفَة معهم و قضت اليوم العائلي بين سعادة داخلية بتلك العائلة و حزن تجاه الرجل الخمسيني الذي تراوغه طوال اليوم و توتر طفيف من القادم !
في نهاية اليوم وقفت شاردة داخل حديقة المنزل حيث استطاعت أخيرًا الإفلات من داخل التوتر و نظرات العم "أمجد" المتوجسة طوال الوقت !
عقدت حاجبيها حين استمعت إليه يتحدث بهدوء فور أن وقف بجانبها :
- برضوا عملتي اللي في دماغك ؟
رفعت "سديم" حاجبها الأيسر باستفهام ليوضح "آسر" كلماته قائلًا بامتعاض :
- قولتي إن اسمك سديم !
ابتسمت بهدوء و أجابت ببرود واضح :
- وأنا كنت وعدتك إني هغير اسمي ؟
عقد حاجبيه و أجاب بغضب :
- أنت هتستهبلي ؟
هزت كتفيها بلامبالاة و أجابت :
- وأنا هستهبل عليك ليه يعني ؟ أنا اسمي سديم و بحبه و الناس معندهاش مشكلة إنهم ينادوا عليا بيه ، أنت بقا بتتحشر ليه ؟
رفع حاجبه الأيمن و أجاب ساخرًا :
- لا والله !! طيب إيه رأيك بقاا إني مش هقول غير سيلا ؟
ضحكت بقوة قاصدة استفزازه و قالت بهدوء :
- وماله ! و أنا مش هرد عليك وقتها ، نبقا نشوف سيلا ترد عليك !
عقد حاجبيه و جذبها من ذراعها إليه قائلًا بغضب :
- إياكِ تعملي حركات الشوارع دي علياا !!! و متتصرفيش من دماغك نهائي تاني !
نظرت إلي يده التي تقبض بقوة و غلظة على ذراعها ثم قالت ببرود :
- أنا هتصرف من دماغي في كل مرة تطول فيها لسانك دا عليا ! مش عجباك حركات الشوارع مكنتش اتعاملت معايا ، و مش هغير اسمي عشانك ولا عشان أي حد أنا بحب اسمي و هيفضل زي ماهو كدا و مش هرد على أي حد يناديني بالاسم السخيف بتاع قريبتك دي ! أنا سديم و بسسس !!!
ثم رفعت يدها بهدوء تضعها فوق يده و نجحت بفك أسر ذراعها ببساطة حيث تركها فور أن لمست يده و أردف كاظمًا غيظه :
- اسم سيلا سخيف ؟ و اسمك اللي ملهوش معنى هو اللي حلو ؟
زفرت بضجر وقالت بملل :
- أنا معنديش طاقة ادخل معاك في نقاش بليل كدا ، خلينا في المهم أنت مقولتليش إن جدتك قعيدة بسبب سيلا ليه ؟
عقد حاجبيه و أردف بخشونة :
- و أنتِ مالك بحاجة زي دي ؟ و مين قالك اصلا أنه بسبب سيلا ؟
عقدت حاجبيها هي الأخرى و أجابت بدهشة :
- هو إيه دا اللي أنا مالي ، حادثة حصلت بسبب واحدة أنا بتعامل بشخصيتها و جدتك بقيت قعيدة بسببها مش المفروض اعرف بيها ، لولا يوسف وقع بالكلام و اللي استوعبته إن كنت أنا السبب ؟
أغمض عينيه بقوة و قال بغضب مبالغ به :
- أنا عرفتك كل اللي تحتاجيه غير كدا ملكيش أي دعوة أنتِ مش هتصاحبينا ، أنتِ هنا لدور محدد ، تقومي بيه وتاخدي حسابك و تختفي ، و أي حاجه زيادة أنا المسؤول عنها مش أنتِ !!!
رفعت كتفيها ببرود و قالت بهدوء :
- خلاص أنت حر ، عنك ماقولت ، أنا أصلًا مبحبش التفاصيل والصداع !
تركته و اتجهت للداخل ثم توقفت فجأة وقالت :
- اه على فكرة اسمي معناه الضباب الناعم !