رواية رحلة الآثام الفصل السابع 7 بقلم منال سالم
الفصل السابع
(القناع)
الصباح كان مختلفًا بالنسبة لها رغم ما امتلأ به ليلها من تفكير مجهد، أفرطت على غير عادتها في تأنقها، وارتدت زيًا رسميًا من قطعتين، بدا أشبه بما ترتديه مضيفات الطيران، من سترة وتّنورة، باللون البترولي، كانت ياقة السترة تلامس منبت رقبتها، فأخفت عنقها البارز بالإيشارب المزركش الذي تلقته كهديةٍ بالأمس القريب، تأكدت من جعل العقدة عند جانب عنقها الأيمن، ثم مسدت بيدها على جانبي التنورة لتفرد قماشها فيصل إلى ركبتيها، اعتدلت بعدئذ واقفة، ومشطت شعرها قبل أن تعقصه في كعكة مشدودة. مرة أخرى ألقت نظرة متأملة لهيئتها النهائية في تسريحة المرآة، لتمسك بأحمر الشفاه وتضيف مسحة رقيقة على ثغرها، لم تنسَ كذلك إفراطها في نثر العطر الأنثوي على كامل ثيابها، لتتحرك بعدها تجاه الفراش، جلست على طرفه، وانحنت واضعة الحذاء الجديد في قدميها، أغمضت عينيها للحظة لتتنعم بإحساس الراحة وهو يغلف كيانها.
ابتسمت في رضا عن حالها، ثم نهضت ساحبة معها المعطف الأسود، لم تقم بارتدائه على الفور، بل طرحته على ذراعها لتتأكد أولًا من رؤية "مهاب" لها في هذا المظهر الأنيق قبل أن تتوارى خلف الداكن من الثياب، بلغت المصعد، وهبطت به للاستقبال. عندئذ تعمدت التبختر في مشيتها؛ لكنها في نفس الآن رفعت رأسها للأعلى في إباءٍ وزهو. أبقت على ملامحها هادئة حينما أبصرته ينهض من على الأريكة للترحيب بها رغم الاضطراب الذي عصف بوجدانه دفعة واحدة، بالكاد ضبطت حالها، وتشبثت بجمودها الزائف لتبدي انزعاجًا مصطنعًا ومنتقدًا لسلوكه المتجاوز معها بالأمس. وقفت قبالته، وابتسمت ابتسامة صغيرة متكلفة وهو يستطرد:
-صباح الخير دكتورة "تهاني".
كما عهدته وجدته يرتدي حِلته الرسمية، ذات اللون الرمادي، ومن فوقها هذا المعطف الأسود الثقيل. هزت رأسها بإيماءة صغيرة وردت في إيجازٍ:
-صباح النور.
باقتضابها المتعمد في الحديث أرادت إشعاره بالذنب، وبإثبات اختلافها عن الأخريات اللاتي قد يبدين ردة فعل مناقضة لها، أو حتى متساهلة، لعلها تنجح في التأثير عليه بشكلٍ غير مباشر، حين يجدها تعامله بجفاءٍ ورسمية، فلا يظن أن ما حدث يمكن تكراره ببساطةٍ، ودون ردة فعل رافضة. كان يضع يده في جيب بنطاله وهو يخاطبها برنة هدوءٍ مسيطرة على صوته:
-في البداية أنا عاوز أعتذرلك عن سخافة إمبارح.
تأهبت حواسها لما أبداه من اعتذارٍ مفاجئ، لم تضع في الحسبان أن يظهر ندمه بهذا الشكل السريع، فقد ظنت أنه سيتغاضى عما حدث ويواريه بالحديث عن أشياءٍ أخرى جانبية. نظرت له بعينين مدهوشتين وهو يسترسل بتعابيرٍ منزعجة، وبنبرة نادمة ومؤكدة:
-للأسف، أنا عديت حدود الأدب معاكي، وده شيء مضايقني جدًا، ومخليني مش راضي عن نفسي نهائي.
ظلت على دهشتها الغريبة لعدة ثوانٍ، لا تصدق ما حدث للتو، بينما أطرق "مهاب" رأسه قليلًا ليبدو مقنعًا قبل أن يضيف بصوتٍ تحول للنعومة:
-إنتي إنسانة غالية، عاملة زي الياقوت النادر، صعب الواحد مايتأثرش بيكي.
سقط القناع الواهي الذي اختبأت خلفه، وطفا على وجهها التخبط والارتباك، امتدت يده لتمسك بكفها، رفعه إلى فمه ليطبع قبلة صغيرة عليه، ثم نظر إليها وهو محني قليلًا، ليردد مرة ثانية وهو يرسم هذه الابتسامة الصغيرة الماكرة:
-بكرر اعتذاري ليكي يا دكتورة، وأتمنى من قلبي إنك تقبليه.
أرخى أصابعه عن كفها فاستعادته، وقالت بتلبكٍ حرج:
-ولا يهمك.
تنحى للجانب وأشار بيده نحو المخرج قائلًا بتهذيبٍ أشعرها بالأهمية:
-اتفضلي يا دكتورة، العربية منتظرانا.
تنحنحت في صوتٍ خفيض قبل أن ترد وهي تسير بتمهلٍ:
-شكرًا.
طلب منها في صوتٍ هادئ لا يخلو من الجدية الآمة عندما اقترب من الواجهة الزجاجية لاستقبال الفندق:
-الجو برد، فيا ريت تلبسي البالطو بتاعك.
تذكرت أنها وضعته على ذراعها، فأومأت برأسها قائلة وهي تهم بارتدائه:
-حاضر.
تغلغل فيها هذا الشعور المنعش بالسعادة والارتياح، فإن كانت محاولة واحدة عادية لصده استحثته على إبداء الندم الفوري، فماذا إن تمنعت قليلًا عليه؟!
............................................
استقرت في المقعد الخلفي إلى جواره في نفس السيارة التي نقلتهما بالأمس إلى مكان المؤتمر؛ لكن هذه المرة كان منهمكًا في مطالعة الكثير من الأوراق والملفات، للدرجة التي جعلته يلتزم الصمت طوال الطريق، مما أشعرها بشيءٍ من الضيق لتجاهله لها، فقد ظنت أنه سيحاول التودد إليها بأسلوب وديع ومهذب لكسب رضائها، ومع ذلك صدمها بردة الفعل المتحفظة تلك، وكأنه غريب كليًا عنها، كان مستغرقًا في عمله للحد الذي أصابها بالتحير، مما دفعها لإعادة التفكير فيما قررته قبل وقتٍ سابق، فقد لا يصلح ذلك التكتيك معه. نفخت بصوتٍ شبه مسموعٍ له دون أن تدري، فرفع رأسه عن الأوراق، وقال باسمًا:
-أنا أسف إني مشغول عنك...
تحرجت من كشف أمرها، ووضعت ابتسامة مهزوزة على شفتيها وهي يستمر في توضيحه:
-بس دي تقارير لأحدث الجراحات الحرجة اللي تمت الشهر اللي فات، وأنا لازم أشوفها.
ردت مجاملة:
-عادي، مش مشكلة.
اقترح عليها وهو يمد يده بواحدة من الملفات:
-تحبي تبصي عليهم معايا؟
ترددت للحظةٍ؛ لكنها لم ترفض عرضه، وقالت بابتسامة اتسعت قليلًا:
-لو مش هيضايقك!
أصر عليها بحبورٍ:
-بالعكس.. اتفضلي.
تناولت الملف منه، وراحت تطالعه بعينين فضوليتين، شتت نظراتها عن قراءة الأسطر الأولى عندما خاطبها:
-لو في حاجة مش واضحة قوليلي، وأنا أشرحهالك.
عادت دفقة من النشاط تنتشر في أوصالها وهي ترد بحماسٍ:
-ماشي.
استغلت المسافة المتبقية في ادعاء محاولتها الاستفهام عن بعض النقاط غير المفهومة ليظل الحديث ممتدًا وموصولًا بينهما لآخر وقت، إلى أن تباطأت سرعة السيارة، واحتل الفندق الفضاء المجاور لنافذتها، فأشار بإصبعه تجاهه متكلمًا:
-احنا تقريبًا وصلنا.
استدارت برأسها لتنظر إلى حيث أشار، وقالت وهي تلملم الأوراق المتبعثرة معًا:
-تمام.
لن تنكر أن ما أمضته من لحظاتٍ معدودة وهي تشاركه الرأي وتتناقش معه باستخدام العقل والحجة والمنطق جعلها تزداد رغبة ورجاءً في تعميق صلتها به، فتتجاوز حدود المهنية، لتصل إلى ما هو أكثر من ذلك، تأرجحت مشاعرها ما بين اللهفة والتمني، فتنهدت مليًا وهي تستعد للنزول، وجدته في انتظارها يبتسم بعنايةٍ وجدية، لم يمد ذراعه لتتأبط فيه كما تخيلت لهنيهة، بل أشار لها لتسير إلى جواره، وكأنه عاد لوضع هذا الحاجز الوهمي الفاصل بينهما.
..........................................
لم يجلسا على نفس المائدة السابقة المخصصة لهما في المنتصف، بل انتقل كلاهما للجلوس في المقدمة، على مسافة قريبة من المنصة الرئيسية، وهذا ما استغربته "تهاني"، فقد توقعت ألا يكونا محط الأنظار؛ لكن ربما يكون هناك ما لا تعلمه، دفعت المقعد للأمام بعدما سحبه لها "مهاب" لتجلس عليه في تصرف مهذب معتاد منه. ابتسمت تشكره، وأخذت تطوف ببصرها على الحاضرين، كان التواجد كثيفًا عن يوم الأمس، توقفت عن تأمل ما حولها عندما انتبهت للصوت الأنثوي المألوف وهو يتساءل:
-عزيزي "مهاب"، كيف حالك اليوم؟
زرت عينيها في ضيقٍ محسوس وقد رأت "ديبرا" تقف أمام "مهاب" بقوامها الممشوق، وثوبها الأخضر الفاتن الذي يبرز أكثر مما يواري، لا إراديًا تحسست معطفها الأسود الذي يغطي على ما بذلته من جهدٍ لتلفت أنظاره، أصابتها موجة قوية من اليأس والإحباط وهي تراه يقف لتحيتها قائلًا بشيء من الجدية:
-أنا بخير سيدة "ديبرا"!
اندهشت "ديبرا"، مثلما استغربت "تهاني"، لهذه المعاملة الرسمية، وقررت بصوتٍ شبه هازئ:
-سيدة؟!
أكد على مقصد كلامه المفهوم بإيماءةٍ واضحة من رأسه، وللغرابة أكثر لم يمد يده لمصافحته، أو حتى تقبيلها في وجنتها كما فعل في المرة الأولى، بدا جافًا للغاية، صلفًا، وغير متهاون، الحميمية التي كان عليها بالأمس تلاشت كليًا، وكأنها لم تكن من الأساس. ارتسمت علامات الاستياء على وجه "ديبرا"، وراحت تعاتبه بصوتٍ مزعوج:
-لما هذه الرسمية في التعامل معي؟ ألم نكن بالأمس آ...
قاطعها رافعًا يده أمام وجهها:
-اعتذر منك...
ثم حول ناظريه تجاه "تهاني"، وتابع متعمدًا:
-صديقتي المقربة منزعجة من وجودك.
في التو تلاحقت دقات قلب الأخيرة في صدمة جلية مما فاه به، ظلت تحملق فيه بعينين متسعتين، لا تصدق ما سمعته، أفاقت من دهشتها العظيمة على نبرة "ديبرا" المستنكرة وهي تتساءل في استهجانٍ بائن:
-أهذه صديقتك؟
ألصق بثغره هذه الابتسامة الساحرة والمنمقة وهو يؤكد لها، دون أن يبعد نظراته الدافئة عن "تهاني":
-نعم.
تحرجت "ديبرا" من وجودها غير المرغوب فيه، واستأذن بالذهاب، وأمارات الخيبة تظهر على تقاسيمها:
-اسمح لي، فرصة طيبة عزيزتي.
لم تخبت الدهشة من على وجه "تهاني" رغم انصراف هذه المرأة، وظل نظرها معلقًا بـ "مهاب" وهو يخاطبها مبديًا اعتذاره، وقد عاد إلى الجلوس:
-أنا أسف إني اضطريت أقول الكلام ده، بس مكونتش هخلص بصراحة منها.
شعرت وكأنها لا تجد المناسب من الكلام لتعبر به عن رأيها فيما قال، فالمفاجأة ما زالت مسيطرة عليها؛ لكنه تابع موضحًا لها:
-يعني أنا مش بحب النوع ده من فرض العلاقات، هي مش قادرة تفهم إننا مجرد زملاء، عاوزة الموضوع يتخطى ده بكتير.
تطلعت إليه بمزيدٍ من التحير والاندهاش، فواصل تعقيبه:
-جايز الحياة هنا مفتوحة، وكل حاجة متاحة، بس أنا برضوه راجل شرقي، وعندي ثوابت.
استندت برأسها على راحة يدها، ولم ترف بطرفيها، فرأى هذه النظرة الحائرة التي تملأ عينيها، لذا سألها مبتسمًا في لطافةٍ:
-بتبصيلي كده ليه؟
تداركت ما كانت عليه من تحديقٍ غريب، وقالت بتلبكٍ خفيف وهي تعتدل في جلستها:
-بصراحة اللي يشوفك إمبارح مايشوفكش النهاردة.
قال بشيءٍ من الضيق:
-اللي حصل كان لحظة طيش، وأنا ندمان عليها جدًا.
كانت على وشك التعليق؛ لكنه انتفض واقفًا ليخبرها وهو يشير برأسه تجاه المنصة:
-أنا عندي مناقشة فوق، هستأذنك.
مرة أخرى تفاجأت به يعتلي المنصة كأحد محاضري اليوم، فافتر ثغرها عن ذهولٍ، تركها على حالتها تلك، وهو متأكدٌ أن نظراتها ستظل باقية عليه ولن تفارقه لمدة طويلة. شعرت "تهاني" بدفقة جديدة من الحماس المتقد تنعش وجدانها، فرددت مع نفسها في غير تصديق، وقد أشرقت ملامحها، وبرقت نظراتها سرورًا:
-للدرجادي أنا أثرت فيه؟
تساءلت في صدرٍ شبه ناهج وهي تضع يدها على الإيشارب المطوق لعنقها لتلمسه في ترفقٍ:
-بقى عاوز يتغير عشاني؟!
نفذ إلى قلبها ذلك الشعور اللذيذ الذي ينقلها في طرفة عين إلى عالم الأحلام والأمنيات، تنهدت على مهلٍ، ضمت شفتيها معًا مانعة نفسها بصعوبة من التعبير عن فرحتها، وقالت بعدما أطبقت على جفنيها للحظةٍ:
-التقل صنعة برضوه!
.........................................
سرعان ما أسرتها طريقته المرتبة والمحكمة في فرض سيطرته على الآخرين، خاصة حينما احتدم الجدال بشأن نقطة معينة، كان ثابتًا، راسخًا كالجبل، لم يتوتر، ولم يبدُ قلقًا، بل على العكس استطاع أن يظهر قدرته على إقناع الحاضرين بصحة رأيه، فاستحوذ ببراعةٍ على إعجابهم قبل اهتمامهم. انتشت "تهاني" وهي تصغي إلى "مهاب" وهو يدلي بدلوه في كل شيء، وكأنه القائد المتزعم، سرحت في تأمله، وشردت مع نبرته في بُعدٍ موازٍ، حتى بدت غير مهتمة سوى بما يفعله فقط، كم دارت في رأسها الخيالات الوردية بشأن مستقبل باهر يجمعها به، فقط إن تطورت علاقتهما إلى ما هو أعمق! تنبهت من دوامة تحليقها الخيالي عندما ألقى كلمته الختامية، فطرحت عن رأسها هذه الأفكار الواهمة، ونهضت من مقعدها لتتجه إلى المنصة، حيث يقف وسط مجموعة من الأطباء يتشاور معهم في بعض الجزئيات. سمعت أحدهم يثني عليه من بين ضحكاته:
-نحن محظوظون بك دكتور "مهاب"، لقد كان النقاش غنيًا وممتعًا للغاية.
قال، وقد اتسعت بسمته:
-أشكرك سيدي.
مد آخر يده لمصافحته وهو يوصيه:
-نرجو ألا تحرمنا من هذه المحاضرات مجددًا.
أخبره مؤكدًا بثقة يشوبها لمحة من الغرور:
-لا تقلق، ستجدني في كل محفلٍ طبي.
ارتبكت، وتشعب في بشرتها حمرة خفيفة عندما تحولت كافة الأنظار إليها فجأة عندما خاطبها أحد الواقفين بنبرة مهتمة:
-وأنتِ كذلك دكتورة، نتمنى رؤيتك مرة أخرى.
عندئذ تحرك "مهاب" ليقف مجاورًا لها، وليضعها كذلك في المقدمة لتتمكن من الحديث إليهم، فابتسمت في خجلٍ، وردت وهي تنتقل بناظريها إليه، لتحدق فيه وحده:
-بالتأكيد.
تكلم مجددًا ذلك الطبيب وهو يوزع نظراته بين الاثنين، ومشيرًا بسبابته:
-لنتقابل في تجمع الغد، سأنتظركما.
وقتئذ رد عليه "مهاب" بهدوءٍ:
-حسنًا.
مرت عدة دقائق إلى أن خفَّ الحشد، وانشغل المعظم عنهما، حينئذ انفردت "تهاني" به، وسألته بفضولٍ ممزوجٍ بالحيرة:
-هو في إيه بكرة؟
أجابها وهو يشير لها بيده لتتحرك بعيدًا عن الصخب:
-عاملين زي جولة في البلد، بحيث الضيوف يشوفوا أهم معالمها!
نبرته أوحت لها بعدم اكتراثه، فتفرست في وجهه مليًا، وهي تستطرد متسائلة لتتأكد مما تشك فيه:
-شكلك بيقول إنك مش حابب تخرج؟
جاء رده مائعًا وموجزًا في نفس الآن:
-يعني.
تعجبت من ذلك، وسألته:
-في سبب معين؟
هز رأسه بالإيجاب دون أن يفوه بشيء، وكأنه يقصد بهذا استثارة نزعة الحيرة بداخلها، وحدث ما رتب له، فازداد الفضول بداخلها، ولم تمانع من الإفصاح عما تريد الوصول إليه، لذا تساءلت برقةٍ وتهذيب، وقد أصبحا كلاهما خارج قاعة المؤتمر:
-ممكن أعرف إيه هو؟
اتخذت ملامحه طابعًا جديًا غريبًا، وتوقف عن السير ليوضح لها بمكرٍ مدروس:
-بعيد إني مش عاوز أشوف "ديبرا"، بس ممكن تلاقي بعض الحاجات اللي ماتعجبكيش، وأنا مش حابب ده.
لحظتها أحست بالنشوة والابتهاج لتجنبه فعل ما يزعجها بأي طريقة، وكأن لها تأثير ساحر يعجز إلى حدٍ ما عن مقاومته، تمسكت بهذا الاعتقاد. لاحت ابتسامة ناعمة على محياها وهي تخبره:
-طالما إنت مش هتروح فأنا زيك.
أومأ برأسه ليكملا سيرهما، فتحركت معه، وهزت كتفيه متابعة كلامها:
-أنا أصلًا ماليش في الجو ده.
مشى إلى جوارها قائلًا بصوته الهادئ:
-أنا عارف...
حين التفتت تنظر إليه، أكمل بنبرة موحية، في التو تسربت إلى النابض بين ضلوعها، فراح يخفق بقوةٍ:
-وحابب تفضلي كده.
تسترت وراء قناع الابتسام الخجل لتخفي هذه اللهفة الفرحة المتفشية فيها، لو لم تكن قد سمعت ما قاله، لظنت أنها في حلمٍ جميل ستفيق منه بعد حين؛ لكنها يقظة، وما يردده واقع ملموس، يكاد يتحقق إن استمر على هذا المنوال.
.......................................
لم يكن من هواة الجلوس على المقاهي الشعبية؛ لكن شقيقه أرسل إليه ليأتي إليه في ذاك المكان الرابض بالقرب من محل عمله. انتظره "عوض" في تبرمٍ متذمر، فلم يرغب في إضاعة الوقت سدى، دون أن ينهي ما هو مكلف به من أعمالٍ. هبَّ واقفًا من موضع جلوسه عندما لمح "بدري" قادمًا من مسافة قريبة، اتجه ناحيته وهو منزعجٍ بدرجة كبيرة لتأخره، ناداه ملوحًا بيده، ومع ذلك لم يرد، ظل منشغلًا بالتحديق في مغلفٍ أصفر اللون ممسك به بيده. لم يره، واستمر ملهيًا مع نفسه، بلغه فسمعه يردد بما يشبه التهليل رغم خفوت صوته، وكأن برأسه حوارًا لا ينقطع:
-يا فرج الله، أنا مش مصدق.
استوقفه بالإمساك به من ذراعه، وصاح به وهو يهزه قليلًا:
-في إيه يا "بدري"؟ جايبني ومعطلني من الصبح ليه؟
نقل شقيقه الأصغر نظره إليه، وردد في تلهفٍ آخذٍ في التضاعف، وابتسامة عريضة تكاد تصل لأذنيه تبرز على ملامحه:
-افرح ياخويا، أنا الحمدلله استلمت تأشيرة السفر للعراق، فحلفت لتكون أول واحد تعرف.
فاجأه بذاك الأمر الذي انتواه سابقًا ومضى عليه وقت ليس بقليل حتى ظنوا جميعًا أنه لن يحدث، حدق فيه مدهوشًا للحظاتٍ، ثم قطب جبينه، وسأله مستنكرًا، وبعض الضيق يكسو وجهه:
-إنت بتكلم جد؟ برضوه عملتها؟!!
أكد عليه وهو يرفع كذلك المغلف نصب عينيه:
-ده ربنا اللي أراد.
تطلع "عوض" إلى ما في يده بحاجبين معقودين، بينما استمر شقيقه في الاسترسال ليُعلمه وهو عاقد العزم على تنفيذ ما طمح فيه بشدة بماضٍ ليس ببعيد عنهما:
-ده أنا حتى كنت نسيت الحكاية دي من ساعة ما وصيت الزبون إياه إنه يشوفلي سكة لبرا، وزي ما إنت عارف لا كان في حس ولا خبر منه، بس طلع أصيل، وحطني على أول الطريق.
بدا شقيقه الأكبر غير راضٍ عن حماسه الظاهر للإقدام على هذه الخطوة الفارقة، وسأله في عبوسٍ:
-وإنت يعني لازمًا تسافر؟ ما تفضك من الحكاية دي.
أصر على قراره هاتفًا بعنادٍ وأصابعه تزداد تشبثًا على المغلف:
-لأ مش هيحصل، دي فرصة أجرب حظي في حتة جديدة أجيب بيها قرش زيادة بدل العيشة الصعب اللي بقينا فيها.
سكت، وحك جبينه للحظةٍ، ثم تشجع ليسأله باهتمامٍ تخالطه الحيرة:
-طب ومراتك؟ ناوي تعمل معاها إيه؟
امتقعت تعابيره، وصار متجهمًا للغاية، ففهم نواياه دون الحاجة للبوح بها، ومع ذلك بادر بالقول عنه، كأنما يسمعه ما يدور في رأسه:
-شكلك مش عامل حسابك عليها تبقى معاك، صح كلامي؟
لوى ثغره ليتكلم في حدة طفيفة:
-هاخدها أبهدلها معايا؟ أنا محتاج أظبط وضعي الأول، وبعد كده أشوف هاخدها إزاي!
كان رده منطقيًا، مقنعًا، وليس محلًا للنقاش، بحث عن شيء آخر ليقوله، لعل وعسى يثنيه عن رأيه؛ لكنه لم يجد، لذا ثبت عينيه عليه قائلًا في استسلام:
-ربنا يصلح حالك.
شكره لدعمه الظاهري، وهتف بتحمسٍ أكبر:
-هروح أفرح أمي وأبشرها.
كان يعلم أنه لا يحق له التدخل في شأنه، ومع ذلك نصحه في نوعٍ من اللين:
-وماله، بس ماتنساش مراتك، هي ليها حق عليك.
تحولت نظراته بعيدًا عنه وقال بغير مبالاة وقد همَّ بالسير:
-ربنا يسهل!
شيعه "عوض" بنظرة آسفة، قبل أن يردد في يقينٍ كبير:
-شكلك هتظلمها معاك يا أخويا.
...........................................................
خُيل إليها أنها أصبحت تملك كنوز الأرض الثمينة، بعدما أطلعها ابنها على الأنباء السارة. ابتهجت أساريرها، وأضاءت عيناها بكل معاني الفرحة والسرور، ورغم أنها لا تعرف القراءة أو الكتابة إلا أنها ظلت تتحسس الأوراق بأطراف أصابعها، وكأنها تستشعر نشوة الظفر بهذه الأختام الرسمية. ضاقت حدقتاها فجأة، وراحت تشدد مجددًا على ابنها وهي تعيد وضع الأوراق في المغلف الأصفر:
-اسمع كلامي، متقولش لحد إلا على آخر وقت، إنت ممكن تتحسد فيها، والعين وحشة.
هز رأسه في طاعةٍ، وسألها:
-طب و"فردوس"؟
أبدت تعبيرًا ناقمًا ومشمئزًا من سيرتها، فحذرته بلهجةٍ صارمة:
-دي بالذات قبلها بيومين، ده كفاية خالتها وأرها!
لم يعارض ما تمليه عليه؛ لكنه تكلم في صيغة متسائلة، كما لو كان يستفهم منها:
-بس جوازي منها كده هأجله؟!!
ردت بامتعاضٍ، ونظرة ساخطة تطل من عينيها:
-مافيهاش حاجة لما تستنى كام شهر، هي متسربعة على إيه؟
فرك مؤخرة عنقه في تحيرٍ معكوسٍ على وجهه، فمالت عليه والدته تخبره بهذه الابتسامة المتسعة:
-ركز إنت في باب الرزق اللي ربنا فتحهولك ده، وسيبك من أي حاجة تانية.
قال صاغرًا دون تفكيرٍ:
-حاضر يامه.
استحسنت قدرتها على استمالة رأسه ودفعه لتنفيذ ما ترغب فيه بلا مجهودٍ، وراحت تستحثه على السعي وراء أحلامه بتلهفٍ يفوقه، غير مبالية إطلاقًا بمن دونه.
........................................
العودة إلى أرض الواقع بعد لحظاتٍ من تذوق نعيم الجنة كان محبطًا لها، تمنت "تهاني" لو استمرت فاعليات هذا المؤتمر لأيامٍ أكثر، ورغم الأسلوب الجاد الذي بات عليه "مهاب" في التعامل، إلا أنها لم تمانع البقاء بقربه؛ لكن لكل شيءٍ نهاية. أوصلها إلى مسكنها، وودعها بابتسامة صغيرة، فتركته وصعدت وهي منهكة من كم المجهود الذي بذلته طوال الساعات الماضية.
كالعلقة التي تلتصق بظهر فريستها لتمتص منها الدماء بشراهةٍ، لاحقتها "ابتهال" بإلحاحٍ مغيظ منذ اللحظة التي ولجت بها إلى الداخل، أخذت تفحصها من رأسها لأخمص قدميها بتدقيقٍ عجيب لتتأمل هذا التغيير الملحوظ الذي صارت عليه، سألتها بسماجةٍ وهي تمسح بيدها على ثوبها البنفسجي الجديد، والذي كانت ترتديه حين استقلت الطائرة مع "مهاب" عائدة إلى هنا:
-إيش إيش، إيه الحاجات الحلوة دي؟
تجاهلتها كالعادة، وتركتها تثرثر، فسمعتها تقول من خلفها وهي تضع حقيبتها أرضًا بجوار فراشها:
-ده احنا اتغيرنا ولبسنا اللي على الحبل وزيادة.
ضغطت على شفتيها في تأفف، ما لبث أن انقلب لاستهجانٍ وهي تندفع في الكلام لتسألها بتطفلٍ مستفز:
-والدكتور الحليوة قالك كلام من إياه؟
حينئذ صاحت بها بصبرٍ نافد على الأخير، وبنبرة محتدة:
-"ابتهال"، أنا راجعة من السفر تعبانة، ممكن تسبيني أرتاح؟
لم تعبأ بصراخها، ولا بضيقها الظاهر، بل أصرت على البقاء لصيقة بها، فأخبرتها بلزاجةٍ لا تُطاق:
-ده أنا هطق من الأعدة لوحدي ليل نهار، وربنا ده إنتي كنتي واخدة بحسي.
فما كان من "تهاني" إلا أن فقدت هدوئها، واندفعت تجاهها في عصبيةٍ، لتقوم بدفعها دفعًا إلى خارج الغرفة وهي تهتف بحمئةٍ:
-أنا مش ناقصة صداع.
ما إن أخرجتها حتى صفقت الباب في وجهها، ووصدته بالمفتاح لتضمن عدم اقتحامها للغرفة مجددًا، ومع ذلك سمعتها تصيح من الخارج ببرود مستثيرٍ للأعصاب:
-براحتك، أنا هعذرك بس عشانك تعبانة، ولسه راجعة، بس اعملي حسابك مش هسيبك إلا لما أعرف كل حاجة بتفاصيل التفاصيل.
نفخت "تهاني" في سأمٍ شديد، ورددت وهي تسير عائدة إلى فراشها:
-هو في كده؟ بني آدمة رهيبة!!!!
كان إرهاق السفر متمكنًا من بدنها، فلم تستغرق وقتًا في الانخراط في سباتٍ عميق، تسلل فيها شخصه إلى أحلامها الطامعة بحياة هانئة مليئة بالراحة والثراء، الثراء الفاحش!
...........................................
أطلقت تنهيدة ارتياحٍ كبيرة عندما نجحت في الإفلات من قبضة هذه السقيمة المتطفلة، قبل أن تعترض طريقها نهارًا، وتحاصرها بأسئلتها التحقيقية المزعجة. انطلقت إلى المشفى بسيارة أرسلها إليها "مهاب" لتقلها، رافضة حضور أي من محاضرات اليوم دون أن تلقاه أولًا، وكأن رؤيته قد باتت إدمانًا لها.
بلغت سعادتها عنان السماء عندما وجدته في انتظارها بمكتبها، ألقت عليه التحية، وأبدت سعادة غير عادية لمقابلته؛ لكنه تعامل معها بجمودٍ غريب، واستطرد متحدثًا بشيءٍ من الجدية الباعثة على القلق والريبة:
-أنا مش هطول كتير...
سألته بتوجسٍ، وقد اختفت النضارة من على بشرتها:
-خير في حاجة؟
أبقى عينيه عليها ثابتة وهو يجيبها بهدوءٍ:
-أنا كنت جاي أبلغك إني هرجع مصر كام يوم.
انقبض صدرها، وتوتر قلبها، فسألته باضطرابٍ متصاعد:
-ليه؟ في حاجة حصلت؟
صمت للحظةٍ، ونكس رأسه في حزنٍ قبل أن يجاوبها:
-والدي تعبان شوية، ولازم أسافر أطمن عليه بنفسي.
في التو قالت كنوعٍ من الدعم المعنوي له:
-ألف سلامة، إن شاءالله ماتكونش حاجة خطيرة.
عقب بغموضٍ مقتضب:
-هيبان.
حاولت استطالة الحديث معه بعدما رأت كيف استبد به الهم:
-متقلقش يا دكتور "مهاب"، ومن فضلك طمني أول بأول.
هز رأسه بإيماءةٍ صغيرة، وأردف مودعًا إياها دون قول المزيد
-أكيد، أشوفك على خير.
أحست بغصة مريرة تعلق في حلقها، فراحت تردد بصعوبةٍ، وهذا الشعور الخانق يزداد ضغطًا على صدرها:
-مع السلامة.
انقلبت سحنتها، وتعكر مزاجها لرحيله، وكأن قناع الثبات التي كانت تختفي خلفه قد سقط عن وجهها، شعرت مع ذهابه بفراغ كبير يحتلها، بوجود شيء موحش يجثم على روحها، حتى أنها استنكرت ما أصابها لمجرد التفكير في تأثير غيابه عليها. لم تقوَ ساقاها على حملها، فارتعشت وهي تسير عائدة إلى مكتبها لترتمي على المقعد وهي شاحبة الملامح متسائلة في صوتٍ يعبر عن تكدرها:
-أنا إيه اللي حسا بيه ده؟!!
..........................................
بذلت جهدًا كبيرًا لتركز في استذكار ما فاتها من محاضراتٍ، ومع هذا عجزت عن قراءة سطر واحد من الورقة المطروحة أمام عينيها لساعاتٍ، كان بالها مشغولًا، تفكيرها مشوشًا، فاكتفت بالنظر إلى ما لا تراه بين السطور لتختبئ خلف ستار الصمت والهدوء الزائفين، لعل وعسى عقلها يكف عن السؤال عنه، فقد مر ما يقرب من أسبوعٍ وهو غائب عنها، لا تعرف عنه أي شيء، حاولت التوصل إلى أي معلومة تُفيدها بشأن مرض والده؛ لكنها لم تصل لشيء، كل الطرق مسدودة. رفعت رأسها فجأة وحولتها تجاه الباب عندما تكلم أحدهم بلهجةٍ مرحة مثيرة للانتباه:
-أنا أكيد حظي حلو عشان ألاقي هنا.
استغربت "تهاني" لقدوم "ممدوح" إلى هنا، ونهضت قائمة لترحب به بوديةٍ متكلفة:
-اتفضل يا دكتور.
لم يكن بحاجة إلى أي دعوة ليجلس، فقد تقدم من تلقاء نفسه تجاه مكتبها، واستقر على المقعد الشاغر أمامها، نظر إليها ملء عينيه متسائلًا في اهتمامٍ وابتسام:
-إيه الأخبار معاكي؟ وراكي شغل ولا حاجة؟
أجابت نافية:
-لأ، كنت بذاكر شوية اللي فاتني.
هز رأسه في تفهمٍ ليتابع بنظراتٍ قوية مدققة مسلطة عليها:
-مالك يا دكتورة؟ حاسك زعلانة من حاجة...
وقبل أن تفكر في الإحجام عن الرد استأذنها بلباقةٍ ترفع عنه الحرج:
-تسمحيلي أعرف، ده لو مكانش يضايقك أو فيه تدخل مني!
كانت بحاجةٍ للتنفيس عما يجيش في صدرها من كبتٍ وضيق، فتكلمت على مهلٍ، كما لو كانت تستخلص الكلمات بصعوبة لتعبر عن حالها:
-لأ، بالعكس..
سكتت لهنيهة في ترددٍ قلق، سرعان ما تغلبت عليه لتستأنف حديثها إليه، وكأنها تحاول الاستئناس بالتحاور معه:
-أنا أصلي قلقانة شوية على والد دكتور "مهاب"، كان قالي إنه تعبان، وهو سافر يطمن عليه.
راقبها "ممدوح" بلا تعقيبٍ، لكن نظراته تبدلت لشيءٍ آخر غامض، بينما اندفعت زفرة طويلة من جوفها وهي تكمل:
-ولحد دلوقتي مش عارفة حاجة عنه.
مرة ثانية سألته وهي ترى ذلك التعبير المبهم الذي استحوذ على كامل ملامحه:
-هو كلمك؟
اختصر جوابه قائلًا:
-لسه...
انتابتها الهواجس، فاضطربت قسماتها، وتوترت نظراتها، لذا أخبرها مشيرًا بيده ليثبط من المشاعر السلبية التي استحوذت عليها:
-اطمني، لو كان في خبر وحش كنا عرفناه، الحاجات دي مابتستخباش.
أراحها رأيه قليلًا، فحركت رأسها بهزة خفيفة وهي تغمغم:
-ربنا يعديها على خير...
أغلقت دفتر الأوراق المفتوح أمامها، ونهضت قائلة في إحباطٍ يمتزج بالحزن:
-أنا مش قادرة أركز أكتر من كده.
قام بدوره، وخاطبها بتفهمٍ:
-مافيش داعي ترهقي نفسك.
دست ما لديها في حقيبتها المتسعة تأهبًا لانصرافها؛ لكنه اعترض طريقها مقترحًا بحماسٍ:
-تعرفي إنتي محتاجة تغيري جو، تشوفي حاجة جديدة تجدد نشاطك.
كانت فاقدة للشغف، فعلقت حقيبتها على كتفها، وتمتمت بغير اهتمامٍ:
-ماليش مزاج أعمل حاجة.
ألح عليها بتصميمٍ، جاعلًا الرفض مسألة غير قابلة للتفاوض:
-سبيلي نفسك وأنا هخليكي في حالة تانية خالص، ومش هاقبل بأعذار نهائي.
تحرجت من رفض دعوته، وقالت:
-مش هاينفع، أنا آ...
قاطعها بإصرارٍ أكبر:
-كده هزعل، أرجوكي يا دكتورة، أنا غرضي أسعدك.
للحظة فكرت في كلامه، فقد احتاجت للهروب من دوامة القلق التي تعتصرها، أبدت موافقتها قائلة وهي توسم شفتيها ببسمة رقيقة:
-طيب.
تظاهر بالسعادة العارمة لقبولها، لكن في دواخله غير المرئية لها كان يحترق كمدًا، فقد أصبح مدركًا أن المنافسة بينهما بدأت لتوها، وخصمه راح يشرع في تنفيذ مخطط استدراج ضحيته الجديدة لشباكه، باللجوء لنفس الحيل القديمة المستهلكة؛ الاختفاء المريب، والغياب الطويل، وتــعذيـــب الوجدان بإحساسي الفراق والهجر المرير، لتصير بعدئذ لقمة يسيرة سهلة المضغ، فترفع رايات الاستسلام دون أدنى مقاومة، بعدما استنزفتها مشاعرها المرهفة. قال بتحدٍ متحفز لنفسه، وفي عينيه تصدح هذه النظرة الماكرة:
-هنشوف هتسرى في الآخر على مين
(القناع)
الصباح كان مختلفًا بالنسبة لها رغم ما امتلأ به ليلها من تفكير مجهد، أفرطت على غير عادتها في تأنقها، وارتدت زيًا رسميًا من قطعتين، بدا أشبه بما ترتديه مضيفات الطيران، من سترة وتّنورة، باللون البترولي، كانت ياقة السترة تلامس منبت رقبتها، فأخفت عنقها البارز بالإيشارب المزركش الذي تلقته كهديةٍ بالأمس القريب، تأكدت من جعل العقدة عند جانب عنقها الأيمن، ثم مسدت بيدها على جانبي التنورة لتفرد قماشها فيصل إلى ركبتيها، اعتدلت بعدئذ واقفة، ومشطت شعرها قبل أن تعقصه في كعكة مشدودة. مرة أخرى ألقت نظرة متأملة لهيئتها النهائية في تسريحة المرآة، لتمسك بأحمر الشفاه وتضيف مسحة رقيقة على ثغرها، لم تنسَ كذلك إفراطها في نثر العطر الأنثوي على كامل ثيابها، لتتحرك بعدها تجاه الفراش، جلست على طرفه، وانحنت واضعة الحذاء الجديد في قدميها، أغمضت عينيها للحظة لتتنعم بإحساس الراحة وهو يغلف كيانها.
ابتسمت في رضا عن حالها، ثم نهضت ساحبة معها المعطف الأسود، لم تقم بارتدائه على الفور، بل طرحته على ذراعها لتتأكد أولًا من رؤية "مهاب" لها في هذا المظهر الأنيق قبل أن تتوارى خلف الداكن من الثياب، بلغت المصعد، وهبطت به للاستقبال. عندئذ تعمدت التبختر في مشيتها؛ لكنها في نفس الآن رفعت رأسها للأعلى في إباءٍ وزهو. أبقت على ملامحها هادئة حينما أبصرته ينهض من على الأريكة للترحيب بها رغم الاضطراب الذي عصف بوجدانه دفعة واحدة، بالكاد ضبطت حالها، وتشبثت بجمودها الزائف لتبدي انزعاجًا مصطنعًا ومنتقدًا لسلوكه المتجاوز معها بالأمس. وقفت قبالته، وابتسمت ابتسامة صغيرة متكلفة وهو يستطرد:
-صباح الخير دكتورة "تهاني".
كما عهدته وجدته يرتدي حِلته الرسمية، ذات اللون الرمادي، ومن فوقها هذا المعطف الأسود الثقيل. هزت رأسها بإيماءة صغيرة وردت في إيجازٍ:
-صباح النور.
باقتضابها المتعمد في الحديث أرادت إشعاره بالذنب، وبإثبات اختلافها عن الأخريات اللاتي قد يبدين ردة فعل مناقضة لها، أو حتى متساهلة، لعلها تنجح في التأثير عليه بشكلٍ غير مباشر، حين يجدها تعامله بجفاءٍ ورسمية، فلا يظن أن ما حدث يمكن تكراره ببساطةٍ، ودون ردة فعل رافضة. كان يضع يده في جيب بنطاله وهو يخاطبها برنة هدوءٍ مسيطرة على صوته:
-في البداية أنا عاوز أعتذرلك عن سخافة إمبارح.
تأهبت حواسها لما أبداه من اعتذارٍ مفاجئ، لم تضع في الحسبان أن يظهر ندمه بهذا الشكل السريع، فقد ظنت أنه سيتغاضى عما حدث ويواريه بالحديث عن أشياءٍ أخرى جانبية. نظرت له بعينين مدهوشتين وهو يسترسل بتعابيرٍ منزعجة، وبنبرة نادمة ومؤكدة:
-للأسف، أنا عديت حدود الأدب معاكي، وده شيء مضايقني جدًا، ومخليني مش راضي عن نفسي نهائي.
ظلت على دهشتها الغريبة لعدة ثوانٍ، لا تصدق ما حدث للتو، بينما أطرق "مهاب" رأسه قليلًا ليبدو مقنعًا قبل أن يضيف بصوتٍ تحول للنعومة:
-إنتي إنسانة غالية، عاملة زي الياقوت النادر، صعب الواحد مايتأثرش بيكي.
سقط القناع الواهي الذي اختبأت خلفه، وطفا على وجهها التخبط والارتباك، امتدت يده لتمسك بكفها، رفعه إلى فمه ليطبع قبلة صغيرة عليه، ثم نظر إليها وهو محني قليلًا، ليردد مرة ثانية وهو يرسم هذه الابتسامة الصغيرة الماكرة:
-بكرر اعتذاري ليكي يا دكتورة، وأتمنى من قلبي إنك تقبليه.
أرخى أصابعه عن كفها فاستعادته، وقالت بتلبكٍ حرج:
-ولا يهمك.
تنحى للجانب وأشار بيده نحو المخرج قائلًا بتهذيبٍ أشعرها بالأهمية:
-اتفضلي يا دكتورة، العربية منتظرانا.
تنحنحت في صوتٍ خفيض قبل أن ترد وهي تسير بتمهلٍ:
-شكرًا.
طلب منها في صوتٍ هادئ لا يخلو من الجدية الآمة عندما اقترب من الواجهة الزجاجية لاستقبال الفندق:
-الجو برد، فيا ريت تلبسي البالطو بتاعك.
تذكرت أنها وضعته على ذراعها، فأومأت برأسها قائلة وهي تهم بارتدائه:
-حاضر.
تغلغل فيها هذا الشعور المنعش بالسعادة والارتياح، فإن كانت محاولة واحدة عادية لصده استحثته على إبداء الندم الفوري، فماذا إن تمنعت قليلًا عليه؟!
............................................
استقرت في المقعد الخلفي إلى جواره في نفس السيارة التي نقلتهما بالأمس إلى مكان المؤتمر؛ لكن هذه المرة كان منهمكًا في مطالعة الكثير من الأوراق والملفات، للدرجة التي جعلته يلتزم الصمت طوال الطريق، مما أشعرها بشيءٍ من الضيق لتجاهله لها، فقد ظنت أنه سيحاول التودد إليها بأسلوب وديع ومهذب لكسب رضائها، ومع ذلك صدمها بردة الفعل المتحفظة تلك، وكأنه غريب كليًا عنها، كان مستغرقًا في عمله للحد الذي أصابها بالتحير، مما دفعها لإعادة التفكير فيما قررته قبل وقتٍ سابق، فقد لا يصلح ذلك التكتيك معه. نفخت بصوتٍ شبه مسموعٍ له دون أن تدري، فرفع رأسه عن الأوراق، وقال باسمًا:
-أنا أسف إني مشغول عنك...
تحرجت من كشف أمرها، ووضعت ابتسامة مهزوزة على شفتيها وهي يستمر في توضيحه:
-بس دي تقارير لأحدث الجراحات الحرجة اللي تمت الشهر اللي فات، وأنا لازم أشوفها.
ردت مجاملة:
-عادي، مش مشكلة.
اقترح عليها وهو يمد يده بواحدة من الملفات:
-تحبي تبصي عليهم معايا؟
ترددت للحظةٍ؛ لكنها لم ترفض عرضه، وقالت بابتسامة اتسعت قليلًا:
-لو مش هيضايقك!
أصر عليها بحبورٍ:
-بالعكس.. اتفضلي.
تناولت الملف منه، وراحت تطالعه بعينين فضوليتين، شتت نظراتها عن قراءة الأسطر الأولى عندما خاطبها:
-لو في حاجة مش واضحة قوليلي، وأنا أشرحهالك.
عادت دفقة من النشاط تنتشر في أوصالها وهي ترد بحماسٍ:
-ماشي.
استغلت المسافة المتبقية في ادعاء محاولتها الاستفهام عن بعض النقاط غير المفهومة ليظل الحديث ممتدًا وموصولًا بينهما لآخر وقت، إلى أن تباطأت سرعة السيارة، واحتل الفندق الفضاء المجاور لنافذتها، فأشار بإصبعه تجاهه متكلمًا:
-احنا تقريبًا وصلنا.
استدارت برأسها لتنظر إلى حيث أشار، وقالت وهي تلملم الأوراق المتبعثرة معًا:
-تمام.
لن تنكر أن ما أمضته من لحظاتٍ معدودة وهي تشاركه الرأي وتتناقش معه باستخدام العقل والحجة والمنطق جعلها تزداد رغبة ورجاءً في تعميق صلتها به، فتتجاوز حدود المهنية، لتصل إلى ما هو أكثر من ذلك، تأرجحت مشاعرها ما بين اللهفة والتمني، فتنهدت مليًا وهي تستعد للنزول، وجدته في انتظارها يبتسم بعنايةٍ وجدية، لم يمد ذراعه لتتأبط فيه كما تخيلت لهنيهة، بل أشار لها لتسير إلى جواره، وكأنه عاد لوضع هذا الحاجز الوهمي الفاصل بينهما.
..........................................
لم يجلسا على نفس المائدة السابقة المخصصة لهما في المنتصف، بل انتقل كلاهما للجلوس في المقدمة، على مسافة قريبة من المنصة الرئيسية، وهذا ما استغربته "تهاني"، فقد توقعت ألا يكونا محط الأنظار؛ لكن ربما يكون هناك ما لا تعلمه، دفعت المقعد للأمام بعدما سحبه لها "مهاب" لتجلس عليه في تصرف مهذب معتاد منه. ابتسمت تشكره، وأخذت تطوف ببصرها على الحاضرين، كان التواجد كثيفًا عن يوم الأمس، توقفت عن تأمل ما حولها عندما انتبهت للصوت الأنثوي المألوف وهو يتساءل:
-عزيزي "مهاب"، كيف حالك اليوم؟
زرت عينيها في ضيقٍ محسوس وقد رأت "ديبرا" تقف أمام "مهاب" بقوامها الممشوق، وثوبها الأخضر الفاتن الذي يبرز أكثر مما يواري، لا إراديًا تحسست معطفها الأسود الذي يغطي على ما بذلته من جهدٍ لتلفت أنظاره، أصابتها موجة قوية من اليأس والإحباط وهي تراه يقف لتحيتها قائلًا بشيء من الجدية:
-أنا بخير سيدة "ديبرا"!
اندهشت "ديبرا"، مثلما استغربت "تهاني"، لهذه المعاملة الرسمية، وقررت بصوتٍ شبه هازئ:
-سيدة؟!
أكد على مقصد كلامه المفهوم بإيماءةٍ واضحة من رأسه، وللغرابة أكثر لم يمد يده لمصافحته، أو حتى تقبيلها في وجنتها كما فعل في المرة الأولى، بدا جافًا للغاية، صلفًا، وغير متهاون، الحميمية التي كان عليها بالأمس تلاشت كليًا، وكأنها لم تكن من الأساس. ارتسمت علامات الاستياء على وجه "ديبرا"، وراحت تعاتبه بصوتٍ مزعوج:
-لما هذه الرسمية في التعامل معي؟ ألم نكن بالأمس آ...
قاطعها رافعًا يده أمام وجهها:
-اعتذر منك...
ثم حول ناظريه تجاه "تهاني"، وتابع متعمدًا:
-صديقتي المقربة منزعجة من وجودك.
في التو تلاحقت دقات قلب الأخيرة في صدمة جلية مما فاه به، ظلت تحملق فيه بعينين متسعتين، لا تصدق ما سمعته، أفاقت من دهشتها العظيمة على نبرة "ديبرا" المستنكرة وهي تتساءل في استهجانٍ بائن:
-أهذه صديقتك؟
ألصق بثغره هذه الابتسامة الساحرة والمنمقة وهو يؤكد لها، دون أن يبعد نظراته الدافئة عن "تهاني":
-نعم.
تحرجت "ديبرا" من وجودها غير المرغوب فيه، واستأذن بالذهاب، وأمارات الخيبة تظهر على تقاسيمها:
-اسمح لي، فرصة طيبة عزيزتي.
لم تخبت الدهشة من على وجه "تهاني" رغم انصراف هذه المرأة، وظل نظرها معلقًا بـ "مهاب" وهو يخاطبها مبديًا اعتذاره، وقد عاد إلى الجلوس:
-أنا أسف إني اضطريت أقول الكلام ده، بس مكونتش هخلص بصراحة منها.
شعرت وكأنها لا تجد المناسب من الكلام لتعبر به عن رأيها فيما قال، فالمفاجأة ما زالت مسيطرة عليها؛ لكنه تابع موضحًا لها:
-يعني أنا مش بحب النوع ده من فرض العلاقات، هي مش قادرة تفهم إننا مجرد زملاء، عاوزة الموضوع يتخطى ده بكتير.
تطلعت إليه بمزيدٍ من التحير والاندهاش، فواصل تعقيبه:
-جايز الحياة هنا مفتوحة، وكل حاجة متاحة، بس أنا برضوه راجل شرقي، وعندي ثوابت.
استندت برأسها على راحة يدها، ولم ترف بطرفيها، فرأى هذه النظرة الحائرة التي تملأ عينيها، لذا سألها مبتسمًا في لطافةٍ:
-بتبصيلي كده ليه؟
تداركت ما كانت عليه من تحديقٍ غريب، وقالت بتلبكٍ خفيف وهي تعتدل في جلستها:
-بصراحة اللي يشوفك إمبارح مايشوفكش النهاردة.
قال بشيءٍ من الضيق:
-اللي حصل كان لحظة طيش، وأنا ندمان عليها جدًا.
كانت على وشك التعليق؛ لكنه انتفض واقفًا ليخبرها وهو يشير برأسه تجاه المنصة:
-أنا عندي مناقشة فوق، هستأذنك.
مرة أخرى تفاجأت به يعتلي المنصة كأحد محاضري اليوم، فافتر ثغرها عن ذهولٍ، تركها على حالتها تلك، وهو متأكدٌ أن نظراتها ستظل باقية عليه ولن تفارقه لمدة طويلة. شعرت "تهاني" بدفقة جديدة من الحماس المتقد تنعش وجدانها، فرددت مع نفسها في غير تصديق، وقد أشرقت ملامحها، وبرقت نظراتها سرورًا:
-للدرجادي أنا أثرت فيه؟
تساءلت في صدرٍ شبه ناهج وهي تضع يدها على الإيشارب المطوق لعنقها لتلمسه في ترفقٍ:
-بقى عاوز يتغير عشاني؟!
نفذ إلى قلبها ذلك الشعور اللذيذ الذي ينقلها في طرفة عين إلى عالم الأحلام والأمنيات، تنهدت على مهلٍ، ضمت شفتيها معًا مانعة نفسها بصعوبة من التعبير عن فرحتها، وقالت بعدما أطبقت على جفنيها للحظةٍ:
-التقل صنعة برضوه!
.........................................
سرعان ما أسرتها طريقته المرتبة والمحكمة في فرض سيطرته على الآخرين، خاصة حينما احتدم الجدال بشأن نقطة معينة، كان ثابتًا، راسخًا كالجبل، لم يتوتر، ولم يبدُ قلقًا، بل على العكس استطاع أن يظهر قدرته على إقناع الحاضرين بصحة رأيه، فاستحوذ ببراعةٍ على إعجابهم قبل اهتمامهم. انتشت "تهاني" وهي تصغي إلى "مهاب" وهو يدلي بدلوه في كل شيء، وكأنه القائد المتزعم، سرحت في تأمله، وشردت مع نبرته في بُعدٍ موازٍ، حتى بدت غير مهتمة سوى بما يفعله فقط، كم دارت في رأسها الخيالات الوردية بشأن مستقبل باهر يجمعها به، فقط إن تطورت علاقتهما إلى ما هو أعمق! تنبهت من دوامة تحليقها الخيالي عندما ألقى كلمته الختامية، فطرحت عن رأسها هذه الأفكار الواهمة، ونهضت من مقعدها لتتجه إلى المنصة، حيث يقف وسط مجموعة من الأطباء يتشاور معهم في بعض الجزئيات. سمعت أحدهم يثني عليه من بين ضحكاته:
-نحن محظوظون بك دكتور "مهاب"، لقد كان النقاش غنيًا وممتعًا للغاية.
قال، وقد اتسعت بسمته:
-أشكرك سيدي.
مد آخر يده لمصافحته وهو يوصيه:
-نرجو ألا تحرمنا من هذه المحاضرات مجددًا.
أخبره مؤكدًا بثقة يشوبها لمحة من الغرور:
-لا تقلق، ستجدني في كل محفلٍ طبي.
ارتبكت، وتشعب في بشرتها حمرة خفيفة عندما تحولت كافة الأنظار إليها فجأة عندما خاطبها أحد الواقفين بنبرة مهتمة:
-وأنتِ كذلك دكتورة، نتمنى رؤيتك مرة أخرى.
عندئذ تحرك "مهاب" ليقف مجاورًا لها، وليضعها كذلك في المقدمة لتتمكن من الحديث إليهم، فابتسمت في خجلٍ، وردت وهي تنتقل بناظريها إليه، لتحدق فيه وحده:
-بالتأكيد.
تكلم مجددًا ذلك الطبيب وهو يوزع نظراته بين الاثنين، ومشيرًا بسبابته:
-لنتقابل في تجمع الغد، سأنتظركما.
وقتئذ رد عليه "مهاب" بهدوءٍ:
-حسنًا.
مرت عدة دقائق إلى أن خفَّ الحشد، وانشغل المعظم عنهما، حينئذ انفردت "تهاني" به، وسألته بفضولٍ ممزوجٍ بالحيرة:
-هو في إيه بكرة؟
أجابها وهو يشير لها بيده لتتحرك بعيدًا عن الصخب:
-عاملين زي جولة في البلد، بحيث الضيوف يشوفوا أهم معالمها!
نبرته أوحت لها بعدم اكتراثه، فتفرست في وجهه مليًا، وهي تستطرد متسائلة لتتأكد مما تشك فيه:
-شكلك بيقول إنك مش حابب تخرج؟
جاء رده مائعًا وموجزًا في نفس الآن:
-يعني.
تعجبت من ذلك، وسألته:
-في سبب معين؟
هز رأسه بالإيجاب دون أن يفوه بشيء، وكأنه يقصد بهذا استثارة نزعة الحيرة بداخلها، وحدث ما رتب له، فازداد الفضول بداخلها، ولم تمانع من الإفصاح عما تريد الوصول إليه، لذا تساءلت برقةٍ وتهذيب، وقد أصبحا كلاهما خارج قاعة المؤتمر:
-ممكن أعرف إيه هو؟
اتخذت ملامحه طابعًا جديًا غريبًا، وتوقف عن السير ليوضح لها بمكرٍ مدروس:
-بعيد إني مش عاوز أشوف "ديبرا"، بس ممكن تلاقي بعض الحاجات اللي ماتعجبكيش، وأنا مش حابب ده.
لحظتها أحست بالنشوة والابتهاج لتجنبه فعل ما يزعجها بأي طريقة، وكأن لها تأثير ساحر يعجز إلى حدٍ ما عن مقاومته، تمسكت بهذا الاعتقاد. لاحت ابتسامة ناعمة على محياها وهي تخبره:
-طالما إنت مش هتروح فأنا زيك.
أومأ برأسه ليكملا سيرهما، فتحركت معه، وهزت كتفيه متابعة كلامها:
-أنا أصلًا ماليش في الجو ده.
مشى إلى جوارها قائلًا بصوته الهادئ:
-أنا عارف...
حين التفتت تنظر إليه، أكمل بنبرة موحية، في التو تسربت إلى النابض بين ضلوعها، فراح يخفق بقوةٍ:
-وحابب تفضلي كده.
تسترت وراء قناع الابتسام الخجل لتخفي هذه اللهفة الفرحة المتفشية فيها، لو لم تكن قد سمعت ما قاله، لظنت أنها في حلمٍ جميل ستفيق منه بعد حين؛ لكنها يقظة، وما يردده واقع ملموس، يكاد يتحقق إن استمر على هذا المنوال.
.......................................
لم يكن من هواة الجلوس على المقاهي الشعبية؛ لكن شقيقه أرسل إليه ليأتي إليه في ذاك المكان الرابض بالقرب من محل عمله. انتظره "عوض" في تبرمٍ متذمر، فلم يرغب في إضاعة الوقت سدى، دون أن ينهي ما هو مكلف به من أعمالٍ. هبَّ واقفًا من موضع جلوسه عندما لمح "بدري" قادمًا من مسافة قريبة، اتجه ناحيته وهو منزعجٍ بدرجة كبيرة لتأخره، ناداه ملوحًا بيده، ومع ذلك لم يرد، ظل منشغلًا بالتحديق في مغلفٍ أصفر اللون ممسك به بيده. لم يره، واستمر ملهيًا مع نفسه، بلغه فسمعه يردد بما يشبه التهليل رغم خفوت صوته، وكأن برأسه حوارًا لا ينقطع:
-يا فرج الله، أنا مش مصدق.
استوقفه بالإمساك به من ذراعه، وصاح به وهو يهزه قليلًا:
-في إيه يا "بدري"؟ جايبني ومعطلني من الصبح ليه؟
نقل شقيقه الأصغر نظره إليه، وردد في تلهفٍ آخذٍ في التضاعف، وابتسامة عريضة تكاد تصل لأذنيه تبرز على ملامحه:
-افرح ياخويا، أنا الحمدلله استلمت تأشيرة السفر للعراق، فحلفت لتكون أول واحد تعرف.
فاجأه بذاك الأمر الذي انتواه سابقًا ومضى عليه وقت ليس بقليل حتى ظنوا جميعًا أنه لن يحدث، حدق فيه مدهوشًا للحظاتٍ، ثم قطب جبينه، وسأله مستنكرًا، وبعض الضيق يكسو وجهه:
-إنت بتكلم جد؟ برضوه عملتها؟!!
أكد عليه وهو يرفع كذلك المغلف نصب عينيه:
-ده ربنا اللي أراد.
تطلع "عوض" إلى ما في يده بحاجبين معقودين، بينما استمر شقيقه في الاسترسال ليُعلمه وهو عاقد العزم على تنفيذ ما طمح فيه بشدة بماضٍ ليس ببعيد عنهما:
-ده أنا حتى كنت نسيت الحكاية دي من ساعة ما وصيت الزبون إياه إنه يشوفلي سكة لبرا، وزي ما إنت عارف لا كان في حس ولا خبر منه، بس طلع أصيل، وحطني على أول الطريق.
بدا شقيقه الأكبر غير راضٍ عن حماسه الظاهر للإقدام على هذه الخطوة الفارقة، وسأله في عبوسٍ:
-وإنت يعني لازمًا تسافر؟ ما تفضك من الحكاية دي.
أصر على قراره هاتفًا بعنادٍ وأصابعه تزداد تشبثًا على المغلف:
-لأ مش هيحصل، دي فرصة أجرب حظي في حتة جديدة أجيب بيها قرش زيادة بدل العيشة الصعب اللي بقينا فيها.
سكت، وحك جبينه للحظةٍ، ثم تشجع ليسأله باهتمامٍ تخالطه الحيرة:
-طب ومراتك؟ ناوي تعمل معاها إيه؟
امتقعت تعابيره، وصار متجهمًا للغاية، ففهم نواياه دون الحاجة للبوح بها، ومع ذلك بادر بالقول عنه، كأنما يسمعه ما يدور في رأسه:
-شكلك مش عامل حسابك عليها تبقى معاك، صح كلامي؟
لوى ثغره ليتكلم في حدة طفيفة:
-هاخدها أبهدلها معايا؟ أنا محتاج أظبط وضعي الأول، وبعد كده أشوف هاخدها إزاي!
كان رده منطقيًا، مقنعًا، وليس محلًا للنقاش، بحث عن شيء آخر ليقوله، لعل وعسى يثنيه عن رأيه؛ لكنه لم يجد، لذا ثبت عينيه عليه قائلًا في استسلام:
-ربنا يصلح حالك.
شكره لدعمه الظاهري، وهتف بتحمسٍ أكبر:
-هروح أفرح أمي وأبشرها.
كان يعلم أنه لا يحق له التدخل في شأنه، ومع ذلك نصحه في نوعٍ من اللين:
-وماله، بس ماتنساش مراتك، هي ليها حق عليك.
تحولت نظراته بعيدًا عنه وقال بغير مبالاة وقد همَّ بالسير:
-ربنا يسهل!
شيعه "عوض" بنظرة آسفة، قبل أن يردد في يقينٍ كبير:
-شكلك هتظلمها معاك يا أخويا.
...........................................................
خُيل إليها أنها أصبحت تملك كنوز الأرض الثمينة، بعدما أطلعها ابنها على الأنباء السارة. ابتهجت أساريرها، وأضاءت عيناها بكل معاني الفرحة والسرور، ورغم أنها لا تعرف القراءة أو الكتابة إلا أنها ظلت تتحسس الأوراق بأطراف أصابعها، وكأنها تستشعر نشوة الظفر بهذه الأختام الرسمية. ضاقت حدقتاها فجأة، وراحت تشدد مجددًا على ابنها وهي تعيد وضع الأوراق في المغلف الأصفر:
-اسمع كلامي، متقولش لحد إلا على آخر وقت، إنت ممكن تتحسد فيها، والعين وحشة.
هز رأسه في طاعةٍ، وسألها:
-طب و"فردوس"؟
أبدت تعبيرًا ناقمًا ومشمئزًا من سيرتها، فحذرته بلهجةٍ صارمة:
-دي بالذات قبلها بيومين، ده كفاية خالتها وأرها!
لم يعارض ما تمليه عليه؛ لكنه تكلم في صيغة متسائلة، كما لو كان يستفهم منها:
-بس جوازي منها كده هأجله؟!!
ردت بامتعاضٍ، ونظرة ساخطة تطل من عينيها:
-مافيهاش حاجة لما تستنى كام شهر، هي متسربعة على إيه؟
فرك مؤخرة عنقه في تحيرٍ معكوسٍ على وجهه، فمالت عليه والدته تخبره بهذه الابتسامة المتسعة:
-ركز إنت في باب الرزق اللي ربنا فتحهولك ده، وسيبك من أي حاجة تانية.
قال صاغرًا دون تفكيرٍ:
-حاضر يامه.
استحسنت قدرتها على استمالة رأسه ودفعه لتنفيذ ما ترغب فيه بلا مجهودٍ، وراحت تستحثه على السعي وراء أحلامه بتلهفٍ يفوقه، غير مبالية إطلاقًا بمن دونه.
........................................
العودة إلى أرض الواقع بعد لحظاتٍ من تذوق نعيم الجنة كان محبطًا لها، تمنت "تهاني" لو استمرت فاعليات هذا المؤتمر لأيامٍ أكثر، ورغم الأسلوب الجاد الذي بات عليه "مهاب" في التعامل، إلا أنها لم تمانع البقاء بقربه؛ لكن لكل شيءٍ نهاية. أوصلها إلى مسكنها، وودعها بابتسامة صغيرة، فتركته وصعدت وهي منهكة من كم المجهود الذي بذلته طوال الساعات الماضية.
كالعلقة التي تلتصق بظهر فريستها لتمتص منها الدماء بشراهةٍ، لاحقتها "ابتهال" بإلحاحٍ مغيظ منذ اللحظة التي ولجت بها إلى الداخل، أخذت تفحصها من رأسها لأخمص قدميها بتدقيقٍ عجيب لتتأمل هذا التغيير الملحوظ الذي صارت عليه، سألتها بسماجةٍ وهي تمسح بيدها على ثوبها البنفسجي الجديد، والذي كانت ترتديه حين استقلت الطائرة مع "مهاب" عائدة إلى هنا:
-إيش إيش، إيه الحاجات الحلوة دي؟
تجاهلتها كالعادة، وتركتها تثرثر، فسمعتها تقول من خلفها وهي تضع حقيبتها أرضًا بجوار فراشها:
-ده احنا اتغيرنا ولبسنا اللي على الحبل وزيادة.
ضغطت على شفتيها في تأفف، ما لبث أن انقلب لاستهجانٍ وهي تندفع في الكلام لتسألها بتطفلٍ مستفز:
-والدكتور الحليوة قالك كلام من إياه؟
حينئذ صاحت بها بصبرٍ نافد على الأخير، وبنبرة محتدة:
-"ابتهال"، أنا راجعة من السفر تعبانة، ممكن تسبيني أرتاح؟
لم تعبأ بصراخها، ولا بضيقها الظاهر، بل أصرت على البقاء لصيقة بها، فأخبرتها بلزاجةٍ لا تُطاق:
-ده أنا هطق من الأعدة لوحدي ليل نهار، وربنا ده إنتي كنتي واخدة بحسي.
فما كان من "تهاني" إلا أن فقدت هدوئها، واندفعت تجاهها في عصبيةٍ، لتقوم بدفعها دفعًا إلى خارج الغرفة وهي تهتف بحمئةٍ:
-أنا مش ناقصة صداع.
ما إن أخرجتها حتى صفقت الباب في وجهها، ووصدته بالمفتاح لتضمن عدم اقتحامها للغرفة مجددًا، ومع ذلك سمعتها تصيح من الخارج ببرود مستثيرٍ للأعصاب:
-براحتك، أنا هعذرك بس عشانك تعبانة، ولسه راجعة، بس اعملي حسابك مش هسيبك إلا لما أعرف كل حاجة بتفاصيل التفاصيل.
نفخت "تهاني" في سأمٍ شديد، ورددت وهي تسير عائدة إلى فراشها:
-هو في كده؟ بني آدمة رهيبة!!!!
كان إرهاق السفر متمكنًا من بدنها، فلم تستغرق وقتًا في الانخراط في سباتٍ عميق، تسلل فيها شخصه إلى أحلامها الطامعة بحياة هانئة مليئة بالراحة والثراء، الثراء الفاحش!
...........................................
أطلقت تنهيدة ارتياحٍ كبيرة عندما نجحت في الإفلات من قبضة هذه السقيمة المتطفلة، قبل أن تعترض طريقها نهارًا، وتحاصرها بأسئلتها التحقيقية المزعجة. انطلقت إلى المشفى بسيارة أرسلها إليها "مهاب" لتقلها، رافضة حضور أي من محاضرات اليوم دون أن تلقاه أولًا، وكأن رؤيته قد باتت إدمانًا لها.
بلغت سعادتها عنان السماء عندما وجدته في انتظارها بمكتبها، ألقت عليه التحية، وأبدت سعادة غير عادية لمقابلته؛ لكنه تعامل معها بجمودٍ غريب، واستطرد متحدثًا بشيءٍ من الجدية الباعثة على القلق والريبة:
-أنا مش هطول كتير...
سألته بتوجسٍ، وقد اختفت النضارة من على بشرتها:
-خير في حاجة؟
أبقى عينيه عليها ثابتة وهو يجيبها بهدوءٍ:
-أنا كنت جاي أبلغك إني هرجع مصر كام يوم.
انقبض صدرها، وتوتر قلبها، فسألته باضطرابٍ متصاعد:
-ليه؟ في حاجة حصلت؟
صمت للحظةٍ، ونكس رأسه في حزنٍ قبل أن يجاوبها:
-والدي تعبان شوية، ولازم أسافر أطمن عليه بنفسي.
في التو قالت كنوعٍ من الدعم المعنوي له:
-ألف سلامة، إن شاءالله ماتكونش حاجة خطيرة.
عقب بغموضٍ مقتضب:
-هيبان.
حاولت استطالة الحديث معه بعدما رأت كيف استبد به الهم:
-متقلقش يا دكتور "مهاب"، ومن فضلك طمني أول بأول.
هز رأسه بإيماءةٍ صغيرة، وأردف مودعًا إياها دون قول المزيد
-أكيد، أشوفك على خير.
أحست بغصة مريرة تعلق في حلقها، فراحت تردد بصعوبةٍ، وهذا الشعور الخانق يزداد ضغطًا على صدرها:
-مع السلامة.
انقلبت سحنتها، وتعكر مزاجها لرحيله، وكأن قناع الثبات التي كانت تختفي خلفه قد سقط عن وجهها، شعرت مع ذهابه بفراغ كبير يحتلها، بوجود شيء موحش يجثم على روحها، حتى أنها استنكرت ما أصابها لمجرد التفكير في تأثير غيابه عليها. لم تقوَ ساقاها على حملها، فارتعشت وهي تسير عائدة إلى مكتبها لترتمي على المقعد وهي شاحبة الملامح متسائلة في صوتٍ يعبر عن تكدرها:
-أنا إيه اللي حسا بيه ده؟!!
..........................................
بذلت جهدًا كبيرًا لتركز في استذكار ما فاتها من محاضراتٍ، ومع هذا عجزت عن قراءة سطر واحد من الورقة المطروحة أمام عينيها لساعاتٍ، كان بالها مشغولًا، تفكيرها مشوشًا، فاكتفت بالنظر إلى ما لا تراه بين السطور لتختبئ خلف ستار الصمت والهدوء الزائفين، لعل وعسى عقلها يكف عن السؤال عنه، فقد مر ما يقرب من أسبوعٍ وهو غائب عنها، لا تعرف عنه أي شيء، حاولت التوصل إلى أي معلومة تُفيدها بشأن مرض والده؛ لكنها لم تصل لشيء، كل الطرق مسدودة. رفعت رأسها فجأة وحولتها تجاه الباب عندما تكلم أحدهم بلهجةٍ مرحة مثيرة للانتباه:
-أنا أكيد حظي حلو عشان ألاقي هنا.
استغربت "تهاني" لقدوم "ممدوح" إلى هنا، ونهضت قائمة لترحب به بوديةٍ متكلفة:
-اتفضل يا دكتور.
لم يكن بحاجة إلى أي دعوة ليجلس، فقد تقدم من تلقاء نفسه تجاه مكتبها، واستقر على المقعد الشاغر أمامها، نظر إليها ملء عينيه متسائلًا في اهتمامٍ وابتسام:
-إيه الأخبار معاكي؟ وراكي شغل ولا حاجة؟
أجابت نافية:
-لأ، كنت بذاكر شوية اللي فاتني.
هز رأسه في تفهمٍ ليتابع بنظراتٍ قوية مدققة مسلطة عليها:
-مالك يا دكتورة؟ حاسك زعلانة من حاجة...
وقبل أن تفكر في الإحجام عن الرد استأذنها بلباقةٍ ترفع عنه الحرج:
-تسمحيلي أعرف، ده لو مكانش يضايقك أو فيه تدخل مني!
كانت بحاجةٍ للتنفيس عما يجيش في صدرها من كبتٍ وضيق، فتكلمت على مهلٍ، كما لو كانت تستخلص الكلمات بصعوبة لتعبر عن حالها:
-لأ، بالعكس..
سكتت لهنيهة في ترددٍ قلق، سرعان ما تغلبت عليه لتستأنف حديثها إليه، وكأنها تحاول الاستئناس بالتحاور معه:
-أنا أصلي قلقانة شوية على والد دكتور "مهاب"، كان قالي إنه تعبان، وهو سافر يطمن عليه.
راقبها "ممدوح" بلا تعقيبٍ، لكن نظراته تبدلت لشيءٍ آخر غامض، بينما اندفعت زفرة طويلة من جوفها وهي تكمل:
-ولحد دلوقتي مش عارفة حاجة عنه.
مرة ثانية سألته وهي ترى ذلك التعبير المبهم الذي استحوذ على كامل ملامحه:
-هو كلمك؟
اختصر جوابه قائلًا:
-لسه...
انتابتها الهواجس، فاضطربت قسماتها، وتوترت نظراتها، لذا أخبرها مشيرًا بيده ليثبط من المشاعر السلبية التي استحوذت عليها:
-اطمني، لو كان في خبر وحش كنا عرفناه، الحاجات دي مابتستخباش.
أراحها رأيه قليلًا، فحركت رأسها بهزة خفيفة وهي تغمغم:
-ربنا يعديها على خير...
أغلقت دفتر الأوراق المفتوح أمامها، ونهضت قائلة في إحباطٍ يمتزج بالحزن:
-أنا مش قادرة أركز أكتر من كده.
قام بدوره، وخاطبها بتفهمٍ:
-مافيش داعي ترهقي نفسك.
دست ما لديها في حقيبتها المتسعة تأهبًا لانصرافها؛ لكنه اعترض طريقها مقترحًا بحماسٍ:
-تعرفي إنتي محتاجة تغيري جو، تشوفي حاجة جديدة تجدد نشاطك.
كانت فاقدة للشغف، فعلقت حقيبتها على كتفها، وتمتمت بغير اهتمامٍ:
-ماليش مزاج أعمل حاجة.
ألح عليها بتصميمٍ، جاعلًا الرفض مسألة غير قابلة للتفاوض:
-سبيلي نفسك وأنا هخليكي في حالة تانية خالص، ومش هاقبل بأعذار نهائي.
تحرجت من رفض دعوته، وقالت:
-مش هاينفع، أنا آ...
قاطعها بإصرارٍ أكبر:
-كده هزعل، أرجوكي يا دكتورة، أنا غرضي أسعدك.
للحظة فكرت في كلامه، فقد احتاجت للهروب من دوامة القلق التي تعتصرها، أبدت موافقتها قائلة وهي توسم شفتيها ببسمة رقيقة:
-طيب.
تظاهر بالسعادة العارمة لقبولها، لكن في دواخله غير المرئية لها كان يحترق كمدًا، فقد أصبح مدركًا أن المنافسة بينهما بدأت لتوها، وخصمه راح يشرع في تنفيذ مخطط استدراج ضحيته الجديدة لشباكه، باللجوء لنفس الحيل القديمة المستهلكة؛ الاختفاء المريب، والغياب الطويل، وتــعذيـــب الوجدان بإحساسي الفراق والهجر المرير، لتصير بعدئذ لقمة يسيرة سهلة المضغ، فترفع رايات الاستسلام دون أدنى مقاومة، بعدما استنزفتها مشاعرها المرهفة. قال بتحدٍ متحفز لنفسه، وفي عينيه تصدح هذه النظرة الماكرة:
-هنشوف هتسرى في الآخر على مين