رواية رحلة الآثام الفصل الثامن 8 بقلم منال سالم
الفصل الثامن – الجزء الأول
(اللعبة الحــقيرة)
صحراء من الصمت المرير عاشت فيها بغيابه المفاجئ عنها، حاولت التغلب على ما يعتريها من مشاعر اللهفة والضيق بإلهاء نفسها بالانشغال بهذه الفسحة المفاجئة، على أمل أن يستريح عقلها ولو لبرهةٍ من التفكير في شأنه. ظنت "تهاني" أن رفيق جولتها سيصحبها إلى أحد المطاعم الجديدة، لكونه خبير في هذا الشأن؛ لكنه وعلى غير توقع إلى البلدة المجاورة، ليصل كلاهما إليها بعد ساعتين من القيادة المتواصلة والمصحوبة بحديث أحادي الجانب عن مواضيعٍ شتى، كانت في غالبيتها تنصت فقط إليه. صف السيارة خارج الميناء التابع لهذه البلدة، وسألته بحاجبين معقودين:
-هو احنا بنعمل إيه هنا؟
أخبرها بغموضٍ، ووجهه تداعبه ابتسامة شقية:
-هتعرفي دلوقتي.. اتفضلي.
ثم أشار لها بيده لتتحرك، فتبعته صامتة، إلى أن وجدته يقوم بالحديث مع أحدهم من أجل استئجار أحد تلك اليخوت الصغيرة لتستقلها في جولة بحرية، أسعدتها المفاجأة السارة، وصعدت إليه بمساعدته. رغم اندهاشها من حسن اختياره إلا أنها استحسنته للغاية. ابتسمت تشكره في نعومة وهي تجلس مجاورة لحافة اليخت، ثم استطردت معترفة له:
-أنا عمري ما ركبت مركب في حياتي، دي أول مرة، وفي يخت، بجد كتير عليا.
صحح لها "ممدوح" ما فاهت به بطريقة ماكرة ومراوغة لاستدراجها إلى طرفه في هذه المنافسة القائمة:
-ليه متقوليش إنه حظي الحلو خلاني أشاركك التجربة الجميلة دي.
أحست بشيءٍ من الحرج، وردت وهي تشيح بوجهها لتحدق في صفحة المياه المتموجة بهدوءٍ:
-شكرًا يا دكتور "ممدوح"، كلك ذوق.
شعرت به يتحرك مبتعدًا، ليغيب عن أنظارها، فسحبت شهيقًا عميقًا ملأت بهوائه النقي رئتيها المعبأتين بالهم، ظلت مستغرقة في تحديقها الهائم إلى أن عاد مجددًا وفي يده كأسًا مملوءة بمشروبٍ ما، ناولها إياه وقد تبسم قائلًا:
-اتفضلي.
تحفزت في جلستها، وسألته بترددٍ دون أن تمد يدها لتأخذه:
-إيه ده؟
تطلع إليها بغرابةٍ، فتابعت رافضة قبل أن ينطق موضحًا أي شيء لها، وعيناها تنظران إلى الألوان الممتزجة معًا:
-معلش، أنا مش بشرب.
ضحك في لطافةٍ، وتكلم من بين ضحكاته الصغيرة مدهوشًا:
-ده عصير فواكه، كوكتيل، إنتي فكرتيه حاجة تانية؟
زاد شعورها بالخجل، وردت معللة وهي ترمش بعينيها بعدما أخذت الكأس منه:
-أسفة، أصل افتكرت دكتور "مهاب" لما عزم عليا بشمبانيا.
تعمد وضع هذا الطابع الجدي على ملامحه وهو يسألها بنوعٍ من الترقب:
-وعملتي إيه؟
في التو أخبرته بلا تفكيرٍ:
-رفضت طبعًا.
جلس مجاورًا لها، وأردف في إيجازٍ:
-كويس...
أحست من طريقته المقتضبة أنه ما زال يريد إضافة المزيد، وصدق حدسها عندما استأنف مسترسلًا بغموضٍ محير:
-أصله متعود يعمل دايمًا كده مع اللي يعرفهم...
من موضعه نظر إليها عن قربٍ، فرأى كيف تغيرت ملامحها، وغلفتها سحابة من الغمام، وإن ظلت هادئة، لا تعلق بكلمة. ابتسم وأكمل بنبرة موحية:
-وخصوصًا الجنس الناعم، ما هو معجباته كتير بقى.
شعرت بدمائها تحنقنٍ، بقدرٍ من الغليل يسري في عروقها، ويحتل كل ذرة في كيانها، ليجعلها على أهبة الاستعداد للانتفاض والثورة ضد ما تسمعه، تضاعف ذلك الشعور الحانق بقوله المستفيض:
-وهو الصراحة مايتسابش، ألف مين تتمنى ترتبط بواحد زيه، مركز، وسلطة، ومال، وعيلة.
امتلأ جوفها بذاك المذاق المرير، فقربت الكأس من فمها لترتشف منه القليل؛ لكنه كان كالعلقم السقيم، و"ممدوح" لا يزال يخبرها بما زعزع أمنياتها:
-بس هو مش بتاع جواز، أخره يقضي يومين حلوين مع بنت جميلة، شوية ويزهق، ويرجع يدور على غيرها، ومش فارق معاه إن كانت مشاعرها هتتأذى ولا لأ.
خفضت الكأس ويدها ترتعش، حاولت النظر إلى الأفق الأزرق الممتد على مرمى بصرها، وصوته يتخلل إلى أذنها ليخبرها بما أجج بداخلها مشاعر الضيق، والحنق، والغيظ:
-هو معذور، اتعود ياخد اللي عاوزه، طالما حط ده في دماغه، وبيقدم كل المغريات عشان يضمن إنها متفلتش من إيده.
أحست بتورية خفية في ختام جملته، ربما كانت هي المقصودة بهذا، فالتفتت تنظر إليه وهي تحتج على مقصده بانفعالٍ ملحوظ:
-وأنا مالي، هو حر في تصرفاته، أنا مش هحاسبه...
ازدادت أصابعها إطباقًا على الكأس وهي تواصل الحديث بعصبية بائنة رغم خفوت صوتها:
-وعلاقتي بيه في إطار إننا زملاء وبس.
ثبتت "تهاني" نظراتها عليه، وأنهت كلامها قائلة بحسمٍ غاضب:
-مش أكتر من كده.
ثم تركت الكأس من يدها المتشنجة دون أن تنتبه جيدًا لموضع إسناده، فتركته في الفراغ، فسقط في التو، وانسكب محتواه على السطح الخشبي، هبت واقفة، وأبدت انزعاجًا كبيرًا من تصرفها الأخرق، وكادت تنطق بشيء لتعتذر عن حمقها؛ لكن "ممدوح" تدخل قائلًا وقد قام واقفًا:
-حصل خير، ما تشغليش بالك.
عاودت الجلوس وهي تطلق أنفاسًا بطيئة مختنقة بضيقها من بين شفتيها المشدودتين، لتتابعه بعدئذ وهو يتحرك من حولها ليحضر أحدهم لينظف الفوضى التي أحدثتها. أصبح كل شيء كما كان عليه قبل قليل، فاستطرد "ممدوح" مخاطبًا إياها بتحذيرٍ مباشر وهو مسلط نظره عليها:
-أنا عاوزك بس تاخدي بالك، ماتتخدعيش بالكلام الحلو.
صاحت به بحدةٍ:
-أنا مش عبيطة يا دكتور.
امتص غضبها بحنكةٍ، وعلق مرددًا بهدوئه الواضح، كما لو كان يمدحها بغزلٍ مستتر:
-مش قصدي أي إهانة في كلامي، بالعكس إنتي إنسانة ذكية، وأنا واثق من قدرتك على الاختيار الصح.
استقبلت مغزى عباراتها بتحفزٍ، وكتفت ساعديها أمام صدرها، لترد بوجه منقلب:
-ممكن نرجع، أنا حاسة إني تعبانة.
قابل هجومها الظاهر بنفس الأسلوب المسالم، وقال متفهمًا:
-حاضر.
تركها بمفردها، وذهب بعيدًا لتشعر بكتفيها يسقطان من يأسها المحبط، زحفت الدموع إلى عينيها رغم مقاومتها لهذا الشعور المخزي، فخاطبت نفسها وهي تخنق غصة مؤلمة تحك حلقها:
-يعني أنا زيي زي غيري، مجرد لعبة في إيده؟
اختفى ما ظنت أنه كان جميلًا بوجوده، لتحل هذه التخيلات القبيحة رأسها، وتشحن تفكيرها ضده. من مكان وقفه بالخلفية، راقبها "ممدوح" مستمتعًا بما أحرزه من تقدم ماكر في إفساد خطة رفيقه، فما أمتع المنافسة على شيء يجيد كلاهما الاقتتال عليه!
..............................................
بنوعٍ من الحسد وقفت تتأمل لبضعة دقائق عبر زجاج الشرفة شريكتها في السكن وهي تحادث أحدهم بعدما ترجلت من هذه السيارة الغريبة، أمعنت النظر في طرازها الحديث واللافت للنظر، كانت مختلفة تمامًا عن تلك التي اعتادت إيصالها بشكلٍ يومي إلى هنا، وكذلك عن الأخرى التي يستقلها هذا الجراح المشهور. الاحتياج والعوز ونقص الشعور بالرغبة لدى الآخرين عزز لديها مشاعر النقم الساخط ناحيتها، ظل هذه المشاعر الخبيثة تتغلل فيها رويدًا رويدًا إلى أن باتت تحقد عليها بشدة، مصمصت "ابتهال" شفتيها في تذمرٍ، وأرخت أصابعها عن الستارة لتنسدل على الزجاج مرددة لنفسها:
-الواحد المفروض يتعلم منك السهوكة اللي على حق.
شردت نظراتها في الفراغ، ودمدمت بنبرة مغتاظة:
-شكلك ناوية تطلعي من البعثة الفقر دي بعريس ووظيفة.
تنهدت مليًا لتضيف بعدها بقنوطٍ:
-يا سلام لو عندي نص حظها.
ثم سارت تجاه الباب استعدادًا لاستقبالها، ما إن أطلت عليها حتى اندفعت تجاهها تسألها بغيرة ظاهرة في صوتها:
-إيه يا سيدي الدلع ده كله؟ مافيش يوم وتاني يعدي عليكي إلا لما ألاقي حد يوصلك، لأ وعندهم عربيات عجب العجاب!
هذا ما كان ينقصها حقًا، واحدة مثلها كالكائن الطفيلي تعد عليها أنفاسها، وتراقبها في كل شاردة وواردة، ألا يكفيها شعور الاختناق المستبد بها لتأتي وتجهز عليها بكلامها المسموم؟ لذا هدرت "تهاني" صارخة فيها دون مقدماتٍ لعلها تكف عن ترصدها بهذه الطريقة الفجة:
-"ابتهال"، ملكيش دعوة باللي بعمله، وأحسنلك متركزيش معايا.
في التو تراجعت عن طريقتها السخيفة معها مبدية دهشة مستنكرة لحدتها، ومع ذلك كلمتها بحذرٍ:
-إنتي متعصبة عليا كده ليه بس؟
ما لبث أن تابعت بتلميحٍ مبطن لم تستسغه:
-ده أنا حتى نفسي أتعلم منك أبقى ناصحة زيك كده.
أطبقت "تهاني" على شفتيها محاولة ضبط أعصابها؛ لكنها تأهبت مجددًا عندما نطقت الأخيرة بغير احترازٍ لتستفزها:
-بس أرجع وأقول اللف الكتير مش حلو، ارسيلك على واحد.
انفلتت منها صيحة أخرى مغلفة بالهجوم، وهي تلوح بيدها لها:
-ملكيش فيه، ومش من حقك تتدخلي في حياتي، ولا تملي عليا اختياراتي، أنا حرة، اللي أشوفه مناسب هعمله غصب عنك وعن أي حد، سامعة؟
كعاصفةٍ رعدية هادرة تحركت من أمامها لتتجه إلى غرفتها صافقة الباب بعنف خلفها، فانتفض جسد "ابتهال" في ذعرٍ مشوبٍ بالاندهاش، حكت بعدئذ فروة رأسها متسائلة بتحيرٍ غريب:
-هي مالها دي؟
ثم هزت كتفيها في عدم اكتراثٍ، وسارت تجاه المطبخ وهي تحادث نفسها:
-أما أروح أشوف في إيه في التلاجة أكله، بدل ما عصافير بطني عمالة تزقزق!
.................................................
اضطرب نومها، ووجدت صعوبة في استدعائه، فظلت غالبية ساعات الليل يقظة العقل والمشاعر. طغى عليها إحساسها بأنها ضحية الاستغلال والخداع، خاصة مع تكرار كلمات "ممدوح" الأخيرة لها في عقلها، ليشعرها ذلك بمدى الحقارة والوضاعة التي كانت عليها حينما تساهلت في التعامل مع رفيقه "مهاب" خلال رحلتهما المزعومة إلى المؤتمر الطبي، معتقدة في نفسها –بسذاجة- أنها ذات تأثير قوي عليه؛ لكنه كان يستغلها لصالح أهوائه، وللظفر بلحظة ماجنة معها كانت فيها بطلتها الحمقاء، ومع زاد الطين بلة أيضًا سخافات "ابتهال"، فجعل شعورها بالاختناق يتضاعف، حتى كاد يطبق على أنفاسها. مسحت الدموع المتأثرة من عينيها، ورددت تلوم نفسها بصوتٍ محمومٍ خافت:
-يعني أنا مجرد رقم في القايمة بتاعته؟
اختنق صدرها أكثر، وغصت بالمزيد من البكاء، فتركت عبراتها تنساب على وجنتيها، لم تطق هذه الفكرة مُطلقًا، كيف لها أن تنخدع بحماقةٍ لما حاول إغوائها به وهي من المفترض أن تكون الفتاة الذكية ذات التفكير المتعقل؟ تبللت وسادتها عندما تقلبت على جانبها، لتتساءل بحرقةٍ:
-دي بقت قيمتي عنده؟ واحدة رخيصة من الشارع!!!
كفكفت دمعها المسال، وقالت في نبرة عازمة محاولة بها لملمة ما تبعثر من كرامتها المهدورة عبثًا:
-أنا مش هسمح ليه أو لغيره إنهم يضحكوا عليا من تاني.
سحبت الغطاء ووضعته أعلى رأسها وهي تؤكد مرة أخرى لنفسها رغم إحساس المهانة الذي عشش في قلبها:
-أهوو درس اتعلمت منه!!
...................................................
بجسدٍ مشدود، وكتفان منتصبان، وقف "سامي" خلف مقعد أبيه بمسافة خطوةٍ، ينتظر في صمتٍ تام انتهائه من مراجعة الملفات الموضوعة على مكتبه، قبل أن يزيل كل واحدة منها على حدا بتوقيعه. للحظة ناوش عقله أمنية واحدة مُلحة، لا يكف عن التفكير فيها أبدًا، أن يصبح وريث ذاك العرش، الوحيد المتحكم في إمبراطورية "الجندي"، ما لبث أن تبخرت أحلامه، حينما أعلنت السكرتيرة عن وصول شقيقه الأصغر وتواجده بالخارج، تصلب في وقفته، وراحت حواسه تتأهب في تحيزٍ مناهض له. أصبحت ملامحه تميل للامتعاض الشديد، ونظراته للحدة حينما ولج إلى الداخل وفي يده حقيبة جلدية سوداء اللون، تحدث الأخير مهللًا بحماسٍ رغم أسلوبه المهذب:
-"فؤاد" باشا! والدي العزيز.
ألقى والده قلمه الحبري من بين أصابعه، ونظر إليه هذه النظرة المعنفة قبل أن يلومه:
-لسه فاكر إن ليك عيلة؟
لاذ "مهاب" بالصمت، وسار على مهلٍ قاصدًا مكتب أبيه الضخم، بينما استغل "سامي" الفرصة ليوبخه هو الآخر، كما لو كان يوغر بذلك صدر والده ويحفزه ضده، فيتخذ موقفًا مناوئًا ومعاديًا له، فهتف به في تجهمٍ ساخط:
-ده مصدق طبعًا إنه يسافر برا عشان يبقى على راحته، مافيش رقيب عليه، ولا حسيب!!
تحولت أنظار "مهاب" إليه، رمقه بنظرة نارية، قبل أن يرد بهدوءٍ تشوبه سمة العنجهية:
-أنا مش مستني رقيب يقولي أعمل إيه ومعملش إيه يا "سامي".
تابع تقدمه تجاه المكتب إلى أن أصبح في مواجهة شقيقه، لم يبعد ناظريه عنه، وتابع بغرورٍ يليق به:
-أنا "مهاب الجندي"، وعارف يعني إيه إني أكون ابن "فؤاد" باشا "الجندي"!!
انحنى قليلًا واضعًا الحقيبة على الطاولة القصيرة التي تنتصف ما بين المقعدين، وأكمل في رنة هادئة:
-وعشان أخيب ظنك، أنا مش مقضيها فسح، وتضييع وقت زي ما إنت فاكر.
فتح قفلها ليتمكن من إخراج عدة ملفاتٍ بها، استقام واقفًا، ثم خاطب والده بتوقيرٍ:
-اتفضل يا باشا.
زرَّ "فؤاد" عينيه متعجبًا وهو يأخذ منه الملفات:
-إيه دول؟
أجابه باسمًا في ثقة كاملة:
-ده ورق توكيل حصري بتوريد الخامات اللي محتاجينها من برا بأقل من السعر الحالي بحوالي التلت.
بفمٍ مفتوح، وملامح مبهوتة، حملق "سامي" في شقيقه مصدومًا، حيث برزت عيناه في محجريهما وهو يكاد لا يصدق ما يتفوه به. زاد تأثير الصدمة على قسماته عندما تابع توضيحه المتباهي:
-وده عقد شراكة مع مؤسسة (...) لتصدير إنتاجنا ليهم بضعف سعر السنة اللي فاتت.
تطلع "فؤاد" إلى كل ملفٍ باهتمامٍ ممزوجٍ بالإعجاب، وانعكس ذلك على تعبير وجهه الساكن، بينما استمر "مهاب" في تعزيز ذلك الشعور لديه بإخباره:
-أما ده بقى...
لم يتركه والده يكمل جملته لنهايته، حيث قاطعه ملتفًا برأسه نحو ابنه يخاطبه بنوعٍ من المقارنة:
-شايف أخوك، يا ريت تتعمل منه.
ازدرد ريقه بصعوبة، وقال واضعًا بسمة مهزوزة حاول عبرها إخفاء حنقه المغتاظ منه:
-أكيد يا بابا.
استمرت النقاشات حول الإنجازات التي جاء بها "مهاب" من خارج البلاد لعدة دقائق قبل أن يغير "سامي" الحوار لموضوعٍ آخرٍ بقوله النزق:
-كويس إنه موجود عشان نفاتحه في موضوع الجواز.
رفع بصره إليه متسائلًا في دهشة مستهجنة:
-جواز!!
حينئذ تكلم "فؤاد" موضحًا:
-أيوه، أخوك شايف عروسة مناسبة ليك، فيها كل المواصفات المطلوبة.
سكت لهنيهة، لينطق بتريثٍ جعل من حوله يصاب بالصدمة، وعيناه مرتكزتان على وجه شقيقه:
-معلش يا "سامي"، أنا مضطر أرفض العرض بتاعك.
استشاط الأخير غضبًا مما اعتبره تمرده غير المقبول، وهاجمه في الحال:
-إنت عارف دي تبقى بنت مين؟!!
ثم حدجه بنظرة احتقارية مملوءة بحقده العميق تجاهه قبل أن يتم جملته:
-هي لولا إنها عاوزاك مكونتش تحلم تتجوزها.
رد عليه ببرودٍ تام، قاصدًا إهانته كذلك:
-ده لأن طموحك على أده.. زي مخك.
لم يتحمل ازدرائه بهذه الوقاحة، فصاح به بنبرة مرتفعة وهو يرفع إصبعه في وجهه مهددًا:
-اتكلم عدل معايا!!
تجاهله عن عمدٍ، واستدار مخاطبًا أبيه:
-اسمحلي يا بابا أفهمك وجهة نظري.
كان لا يزال "فؤاد" على هدوئه الحذر، فأردف وهو يسترخي في مقعده الوثير:
-أنا سامعك.
عدَّل "مهاب" من وضعية جلوسه، وأصبح أكثر انتصابًا بظهره وهو يستفيض شارحًا:
-أنا معروف عني برا إني دكتور ناجح، من عيلة كبيرة، ليها سمعة زي البرلنت، مش أي حد يقدر يناسبهم، فطبيعي أكون محط أنظار بنات كتير، وخصوصًا لو كانوا بنات الأمراء وأصحاب السلطة.
حانت منه نظرة جانبية نحو شقيقه الحانق قبل أن يعود للتحديق في وجه والده متابعًا بنبرة مؤكدة:
-وأظن دول مش أي حد، أنا بس بدور على واحدة فيهم تقدر تدي لعيلتنا، مش تاخد مننا.
ظهرت أمارات التفكير على وجه والده، فأضاف "مهاب" أيضًا، وقد لاحت على ثغره ابتسامة متغطرسة:
-فاعذرني يا "فؤاد" باشا لو كنت مأخر الجواز ده.
منحه والده نظرة غامضة، ومع ذلك استمر يقول بنفس اللهجة الثابتة والواثقة:
-أنا راجل عملي، وببص لقدام.
ظن "سامي" أن والده سيثور عليه، سيؤنبه، وربما يهدده بحرمانه من مزايا الانتساب لعائلة "الجندي" جراء معارضته للأمر؛ لكنه صعق كليًا عندما عنفه محولًا الدفة ضده، ليصبح في موضع تقصير:
-شايف دماغ أخوك، يا ريت تتعلم منه.
عندئذ نهض "مهاب" واقفًا، ألقى ببسمة متشفية ناحية شقيقة، ليعاود التطلع إلى أبيه متسائلًا:
-تؤمر بحاجة تانية يا باشا؟
أجابه بالنفي المشروط:
-لأ، بس مستنيك على العشا.
هز رأسه في طاعة وهو يخبره:
-طبعًا، ليا لي الشرف.
مرة ثانية سلط نظره على شقيقه، ليرمقه بهذه النظرة الشامتة، ثم ودعه:
-سلام يا "سامي"!
بالكاد كبح الأخير نيران غضبه المستعرة بداخله، وتوعده في قرارة نفسه وهو يكز على أسنانه، ويكور قبضة يده المتشنجة:
-ليك يوم يا "مهاب" ............
(اللعبة الحــقيرة)
صحراء من الصمت المرير عاشت فيها بغيابه المفاجئ عنها، حاولت التغلب على ما يعتريها من مشاعر اللهفة والضيق بإلهاء نفسها بالانشغال بهذه الفسحة المفاجئة، على أمل أن يستريح عقلها ولو لبرهةٍ من التفكير في شأنه. ظنت "تهاني" أن رفيق جولتها سيصحبها إلى أحد المطاعم الجديدة، لكونه خبير في هذا الشأن؛ لكنه وعلى غير توقع إلى البلدة المجاورة، ليصل كلاهما إليها بعد ساعتين من القيادة المتواصلة والمصحوبة بحديث أحادي الجانب عن مواضيعٍ شتى، كانت في غالبيتها تنصت فقط إليه. صف السيارة خارج الميناء التابع لهذه البلدة، وسألته بحاجبين معقودين:
-هو احنا بنعمل إيه هنا؟
أخبرها بغموضٍ، ووجهه تداعبه ابتسامة شقية:
-هتعرفي دلوقتي.. اتفضلي.
ثم أشار لها بيده لتتحرك، فتبعته صامتة، إلى أن وجدته يقوم بالحديث مع أحدهم من أجل استئجار أحد تلك اليخوت الصغيرة لتستقلها في جولة بحرية، أسعدتها المفاجأة السارة، وصعدت إليه بمساعدته. رغم اندهاشها من حسن اختياره إلا أنها استحسنته للغاية. ابتسمت تشكره في نعومة وهي تجلس مجاورة لحافة اليخت، ثم استطردت معترفة له:
-أنا عمري ما ركبت مركب في حياتي، دي أول مرة، وفي يخت، بجد كتير عليا.
صحح لها "ممدوح" ما فاهت به بطريقة ماكرة ومراوغة لاستدراجها إلى طرفه في هذه المنافسة القائمة:
-ليه متقوليش إنه حظي الحلو خلاني أشاركك التجربة الجميلة دي.
أحست بشيءٍ من الحرج، وردت وهي تشيح بوجهها لتحدق في صفحة المياه المتموجة بهدوءٍ:
-شكرًا يا دكتور "ممدوح"، كلك ذوق.
شعرت به يتحرك مبتعدًا، ليغيب عن أنظارها، فسحبت شهيقًا عميقًا ملأت بهوائه النقي رئتيها المعبأتين بالهم، ظلت مستغرقة في تحديقها الهائم إلى أن عاد مجددًا وفي يده كأسًا مملوءة بمشروبٍ ما، ناولها إياه وقد تبسم قائلًا:
-اتفضلي.
تحفزت في جلستها، وسألته بترددٍ دون أن تمد يدها لتأخذه:
-إيه ده؟
تطلع إليها بغرابةٍ، فتابعت رافضة قبل أن ينطق موضحًا أي شيء لها، وعيناها تنظران إلى الألوان الممتزجة معًا:
-معلش، أنا مش بشرب.
ضحك في لطافةٍ، وتكلم من بين ضحكاته الصغيرة مدهوشًا:
-ده عصير فواكه، كوكتيل، إنتي فكرتيه حاجة تانية؟
زاد شعورها بالخجل، وردت معللة وهي ترمش بعينيها بعدما أخذت الكأس منه:
-أسفة، أصل افتكرت دكتور "مهاب" لما عزم عليا بشمبانيا.
تعمد وضع هذا الطابع الجدي على ملامحه وهو يسألها بنوعٍ من الترقب:
-وعملتي إيه؟
في التو أخبرته بلا تفكيرٍ:
-رفضت طبعًا.
جلس مجاورًا لها، وأردف في إيجازٍ:
-كويس...
أحست من طريقته المقتضبة أنه ما زال يريد إضافة المزيد، وصدق حدسها عندما استأنف مسترسلًا بغموضٍ محير:
-أصله متعود يعمل دايمًا كده مع اللي يعرفهم...
من موضعه نظر إليها عن قربٍ، فرأى كيف تغيرت ملامحها، وغلفتها سحابة من الغمام، وإن ظلت هادئة، لا تعلق بكلمة. ابتسم وأكمل بنبرة موحية:
-وخصوصًا الجنس الناعم، ما هو معجباته كتير بقى.
شعرت بدمائها تحنقنٍ، بقدرٍ من الغليل يسري في عروقها، ويحتل كل ذرة في كيانها، ليجعلها على أهبة الاستعداد للانتفاض والثورة ضد ما تسمعه، تضاعف ذلك الشعور الحانق بقوله المستفيض:
-وهو الصراحة مايتسابش، ألف مين تتمنى ترتبط بواحد زيه، مركز، وسلطة، ومال، وعيلة.
امتلأ جوفها بذاك المذاق المرير، فقربت الكأس من فمها لترتشف منه القليل؛ لكنه كان كالعلقم السقيم، و"ممدوح" لا يزال يخبرها بما زعزع أمنياتها:
-بس هو مش بتاع جواز، أخره يقضي يومين حلوين مع بنت جميلة، شوية ويزهق، ويرجع يدور على غيرها، ومش فارق معاه إن كانت مشاعرها هتتأذى ولا لأ.
خفضت الكأس ويدها ترتعش، حاولت النظر إلى الأفق الأزرق الممتد على مرمى بصرها، وصوته يتخلل إلى أذنها ليخبرها بما أجج بداخلها مشاعر الضيق، والحنق، والغيظ:
-هو معذور، اتعود ياخد اللي عاوزه، طالما حط ده في دماغه، وبيقدم كل المغريات عشان يضمن إنها متفلتش من إيده.
أحست بتورية خفية في ختام جملته، ربما كانت هي المقصودة بهذا، فالتفتت تنظر إليه وهي تحتج على مقصده بانفعالٍ ملحوظ:
-وأنا مالي، هو حر في تصرفاته، أنا مش هحاسبه...
ازدادت أصابعها إطباقًا على الكأس وهي تواصل الحديث بعصبية بائنة رغم خفوت صوتها:
-وعلاقتي بيه في إطار إننا زملاء وبس.
ثبتت "تهاني" نظراتها عليه، وأنهت كلامها قائلة بحسمٍ غاضب:
-مش أكتر من كده.
ثم تركت الكأس من يدها المتشنجة دون أن تنتبه جيدًا لموضع إسناده، فتركته في الفراغ، فسقط في التو، وانسكب محتواه على السطح الخشبي، هبت واقفة، وأبدت انزعاجًا كبيرًا من تصرفها الأخرق، وكادت تنطق بشيء لتعتذر عن حمقها؛ لكن "ممدوح" تدخل قائلًا وقد قام واقفًا:
-حصل خير، ما تشغليش بالك.
عاودت الجلوس وهي تطلق أنفاسًا بطيئة مختنقة بضيقها من بين شفتيها المشدودتين، لتتابعه بعدئذ وهو يتحرك من حولها ليحضر أحدهم لينظف الفوضى التي أحدثتها. أصبح كل شيء كما كان عليه قبل قليل، فاستطرد "ممدوح" مخاطبًا إياها بتحذيرٍ مباشر وهو مسلط نظره عليها:
-أنا عاوزك بس تاخدي بالك، ماتتخدعيش بالكلام الحلو.
صاحت به بحدةٍ:
-أنا مش عبيطة يا دكتور.
امتص غضبها بحنكةٍ، وعلق مرددًا بهدوئه الواضح، كما لو كان يمدحها بغزلٍ مستتر:
-مش قصدي أي إهانة في كلامي، بالعكس إنتي إنسانة ذكية، وأنا واثق من قدرتك على الاختيار الصح.
استقبلت مغزى عباراتها بتحفزٍ، وكتفت ساعديها أمام صدرها، لترد بوجه منقلب:
-ممكن نرجع، أنا حاسة إني تعبانة.
قابل هجومها الظاهر بنفس الأسلوب المسالم، وقال متفهمًا:
-حاضر.
تركها بمفردها، وذهب بعيدًا لتشعر بكتفيها يسقطان من يأسها المحبط، زحفت الدموع إلى عينيها رغم مقاومتها لهذا الشعور المخزي، فخاطبت نفسها وهي تخنق غصة مؤلمة تحك حلقها:
-يعني أنا زيي زي غيري، مجرد لعبة في إيده؟
اختفى ما ظنت أنه كان جميلًا بوجوده، لتحل هذه التخيلات القبيحة رأسها، وتشحن تفكيرها ضده. من مكان وقفه بالخلفية، راقبها "ممدوح" مستمتعًا بما أحرزه من تقدم ماكر في إفساد خطة رفيقه، فما أمتع المنافسة على شيء يجيد كلاهما الاقتتال عليه!
..............................................
بنوعٍ من الحسد وقفت تتأمل لبضعة دقائق عبر زجاج الشرفة شريكتها في السكن وهي تحادث أحدهم بعدما ترجلت من هذه السيارة الغريبة، أمعنت النظر في طرازها الحديث واللافت للنظر، كانت مختلفة تمامًا عن تلك التي اعتادت إيصالها بشكلٍ يومي إلى هنا، وكذلك عن الأخرى التي يستقلها هذا الجراح المشهور. الاحتياج والعوز ونقص الشعور بالرغبة لدى الآخرين عزز لديها مشاعر النقم الساخط ناحيتها، ظل هذه المشاعر الخبيثة تتغلل فيها رويدًا رويدًا إلى أن باتت تحقد عليها بشدة، مصمصت "ابتهال" شفتيها في تذمرٍ، وأرخت أصابعها عن الستارة لتنسدل على الزجاج مرددة لنفسها:
-الواحد المفروض يتعلم منك السهوكة اللي على حق.
شردت نظراتها في الفراغ، ودمدمت بنبرة مغتاظة:
-شكلك ناوية تطلعي من البعثة الفقر دي بعريس ووظيفة.
تنهدت مليًا لتضيف بعدها بقنوطٍ:
-يا سلام لو عندي نص حظها.
ثم سارت تجاه الباب استعدادًا لاستقبالها، ما إن أطلت عليها حتى اندفعت تجاهها تسألها بغيرة ظاهرة في صوتها:
-إيه يا سيدي الدلع ده كله؟ مافيش يوم وتاني يعدي عليكي إلا لما ألاقي حد يوصلك، لأ وعندهم عربيات عجب العجاب!
هذا ما كان ينقصها حقًا، واحدة مثلها كالكائن الطفيلي تعد عليها أنفاسها، وتراقبها في كل شاردة وواردة، ألا يكفيها شعور الاختناق المستبد بها لتأتي وتجهز عليها بكلامها المسموم؟ لذا هدرت "تهاني" صارخة فيها دون مقدماتٍ لعلها تكف عن ترصدها بهذه الطريقة الفجة:
-"ابتهال"، ملكيش دعوة باللي بعمله، وأحسنلك متركزيش معايا.
في التو تراجعت عن طريقتها السخيفة معها مبدية دهشة مستنكرة لحدتها، ومع ذلك كلمتها بحذرٍ:
-إنتي متعصبة عليا كده ليه بس؟
ما لبث أن تابعت بتلميحٍ مبطن لم تستسغه:
-ده أنا حتى نفسي أتعلم منك أبقى ناصحة زيك كده.
أطبقت "تهاني" على شفتيها محاولة ضبط أعصابها؛ لكنها تأهبت مجددًا عندما نطقت الأخيرة بغير احترازٍ لتستفزها:
-بس أرجع وأقول اللف الكتير مش حلو، ارسيلك على واحد.
انفلتت منها صيحة أخرى مغلفة بالهجوم، وهي تلوح بيدها لها:
-ملكيش فيه، ومش من حقك تتدخلي في حياتي، ولا تملي عليا اختياراتي، أنا حرة، اللي أشوفه مناسب هعمله غصب عنك وعن أي حد، سامعة؟
كعاصفةٍ رعدية هادرة تحركت من أمامها لتتجه إلى غرفتها صافقة الباب بعنف خلفها، فانتفض جسد "ابتهال" في ذعرٍ مشوبٍ بالاندهاش، حكت بعدئذ فروة رأسها متسائلة بتحيرٍ غريب:
-هي مالها دي؟
ثم هزت كتفيها في عدم اكتراثٍ، وسارت تجاه المطبخ وهي تحادث نفسها:
-أما أروح أشوف في إيه في التلاجة أكله، بدل ما عصافير بطني عمالة تزقزق!
.................................................
اضطرب نومها، ووجدت صعوبة في استدعائه، فظلت غالبية ساعات الليل يقظة العقل والمشاعر. طغى عليها إحساسها بأنها ضحية الاستغلال والخداع، خاصة مع تكرار كلمات "ممدوح" الأخيرة لها في عقلها، ليشعرها ذلك بمدى الحقارة والوضاعة التي كانت عليها حينما تساهلت في التعامل مع رفيقه "مهاب" خلال رحلتهما المزعومة إلى المؤتمر الطبي، معتقدة في نفسها –بسذاجة- أنها ذات تأثير قوي عليه؛ لكنه كان يستغلها لصالح أهوائه، وللظفر بلحظة ماجنة معها كانت فيها بطلتها الحمقاء، ومع زاد الطين بلة أيضًا سخافات "ابتهال"، فجعل شعورها بالاختناق يتضاعف، حتى كاد يطبق على أنفاسها. مسحت الدموع المتأثرة من عينيها، ورددت تلوم نفسها بصوتٍ محمومٍ خافت:
-يعني أنا مجرد رقم في القايمة بتاعته؟
اختنق صدرها أكثر، وغصت بالمزيد من البكاء، فتركت عبراتها تنساب على وجنتيها، لم تطق هذه الفكرة مُطلقًا، كيف لها أن تنخدع بحماقةٍ لما حاول إغوائها به وهي من المفترض أن تكون الفتاة الذكية ذات التفكير المتعقل؟ تبللت وسادتها عندما تقلبت على جانبها، لتتساءل بحرقةٍ:
-دي بقت قيمتي عنده؟ واحدة رخيصة من الشارع!!!
كفكفت دمعها المسال، وقالت في نبرة عازمة محاولة بها لملمة ما تبعثر من كرامتها المهدورة عبثًا:
-أنا مش هسمح ليه أو لغيره إنهم يضحكوا عليا من تاني.
سحبت الغطاء ووضعته أعلى رأسها وهي تؤكد مرة أخرى لنفسها رغم إحساس المهانة الذي عشش في قلبها:
-أهوو درس اتعلمت منه!!
...................................................
بجسدٍ مشدود، وكتفان منتصبان، وقف "سامي" خلف مقعد أبيه بمسافة خطوةٍ، ينتظر في صمتٍ تام انتهائه من مراجعة الملفات الموضوعة على مكتبه، قبل أن يزيل كل واحدة منها على حدا بتوقيعه. للحظة ناوش عقله أمنية واحدة مُلحة، لا يكف عن التفكير فيها أبدًا، أن يصبح وريث ذاك العرش، الوحيد المتحكم في إمبراطورية "الجندي"، ما لبث أن تبخرت أحلامه، حينما أعلنت السكرتيرة عن وصول شقيقه الأصغر وتواجده بالخارج، تصلب في وقفته، وراحت حواسه تتأهب في تحيزٍ مناهض له. أصبحت ملامحه تميل للامتعاض الشديد، ونظراته للحدة حينما ولج إلى الداخل وفي يده حقيبة جلدية سوداء اللون، تحدث الأخير مهللًا بحماسٍ رغم أسلوبه المهذب:
-"فؤاد" باشا! والدي العزيز.
ألقى والده قلمه الحبري من بين أصابعه، ونظر إليه هذه النظرة المعنفة قبل أن يلومه:
-لسه فاكر إن ليك عيلة؟
لاذ "مهاب" بالصمت، وسار على مهلٍ قاصدًا مكتب أبيه الضخم، بينما استغل "سامي" الفرصة ليوبخه هو الآخر، كما لو كان يوغر بذلك صدر والده ويحفزه ضده، فيتخذ موقفًا مناوئًا ومعاديًا له، فهتف به في تجهمٍ ساخط:
-ده مصدق طبعًا إنه يسافر برا عشان يبقى على راحته، مافيش رقيب عليه، ولا حسيب!!
تحولت أنظار "مهاب" إليه، رمقه بنظرة نارية، قبل أن يرد بهدوءٍ تشوبه سمة العنجهية:
-أنا مش مستني رقيب يقولي أعمل إيه ومعملش إيه يا "سامي".
تابع تقدمه تجاه المكتب إلى أن أصبح في مواجهة شقيقه، لم يبعد ناظريه عنه، وتابع بغرورٍ يليق به:
-أنا "مهاب الجندي"، وعارف يعني إيه إني أكون ابن "فؤاد" باشا "الجندي"!!
انحنى قليلًا واضعًا الحقيبة على الطاولة القصيرة التي تنتصف ما بين المقعدين، وأكمل في رنة هادئة:
-وعشان أخيب ظنك، أنا مش مقضيها فسح، وتضييع وقت زي ما إنت فاكر.
فتح قفلها ليتمكن من إخراج عدة ملفاتٍ بها، استقام واقفًا، ثم خاطب والده بتوقيرٍ:
-اتفضل يا باشا.
زرَّ "فؤاد" عينيه متعجبًا وهو يأخذ منه الملفات:
-إيه دول؟
أجابه باسمًا في ثقة كاملة:
-ده ورق توكيل حصري بتوريد الخامات اللي محتاجينها من برا بأقل من السعر الحالي بحوالي التلت.
بفمٍ مفتوح، وملامح مبهوتة، حملق "سامي" في شقيقه مصدومًا، حيث برزت عيناه في محجريهما وهو يكاد لا يصدق ما يتفوه به. زاد تأثير الصدمة على قسماته عندما تابع توضيحه المتباهي:
-وده عقد شراكة مع مؤسسة (...) لتصدير إنتاجنا ليهم بضعف سعر السنة اللي فاتت.
تطلع "فؤاد" إلى كل ملفٍ باهتمامٍ ممزوجٍ بالإعجاب، وانعكس ذلك على تعبير وجهه الساكن، بينما استمر "مهاب" في تعزيز ذلك الشعور لديه بإخباره:
-أما ده بقى...
لم يتركه والده يكمل جملته لنهايته، حيث قاطعه ملتفًا برأسه نحو ابنه يخاطبه بنوعٍ من المقارنة:
-شايف أخوك، يا ريت تتعمل منه.
ازدرد ريقه بصعوبة، وقال واضعًا بسمة مهزوزة حاول عبرها إخفاء حنقه المغتاظ منه:
-أكيد يا بابا.
استمرت النقاشات حول الإنجازات التي جاء بها "مهاب" من خارج البلاد لعدة دقائق قبل أن يغير "سامي" الحوار لموضوعٍ آخرٍ بقوله النزق:
-كويس إنه موجود عشان نفاتحه في موضوع الجواز.
رفع بصره إليه متسائلًا في دهشة مستهجنة:
-جواز!!
حينئذ تكلم "فؤاد" موضحًا:
-أيوه، أخوك شايف عروسة مناسبة ليك، فيها كل المواصفات المطلوبة.
سكت لهنيهة، لينطق بتريثٍ جعل من حوله يصاب بالصدمة، وعيناه مرتكزتان على وجه شقيقه:
-معلش يا "سامي"، أنا مضطر أرفض العرض بتاعك.
استشاط الأخير غضبًا مما اعتبره تمرده غير المقبول، وهاجمه في الحال:
-إنت عارف دي تبقى بنت مين؟!!
ثم حدجه بنظرة احتقارية مملوءة بحقده العميق تجاهه قبل أن يتم جملته:
-هي لولا إنها عاوزاك مكونتش تحلم تتجوزها.
رد عليه ببرودٍ تام، قاصدًا إهانته كذلك:
-ده لأن طموحك على أده.. زي مخك.
لم يتحمل ازدرائه بهذه الوقاحة، فصاح به بنبرة مرتفعة وهو يرفع إصبعه في وجهه مهددًا:
-اتكلم عدل معايا!!
تجاهله عن عمدٍ، واستدار مخاطبًا أبيه:
-اسمحلي يا بابا أفهمك وجهة نظري.
كان لا يزال "فؤاد" على هدوئه الحذر، فأردف وهو يسترخي في مقعده الوثير:
-أنا سامعك.
عدَّل "مهاب" من وضعية جلوسه، وأصبح أكثر انتصابًا بظهره وهو يستفيض شارحًا:
-أنا معروف عني برا إني دكتور ناجح، من عيلة كبيرة، ليها سمعة زي البرلنت، مش أي حد يقدر يناسبهم، فطبيعي أكون محط أنظار بنات كتير، وخصوصًا لو كانوا بنات الأمراء وأصحاب السلطة.
حانت منه نظرة جانبية نحو شقيقه الحانق قبل أن يعود للتحديق في وجه والده متابعًا بنبرة مؤكدة:
-وأظن دول مش أي حد، أنا بس بدور على واحدة فيهم تقدر تدي لعيلتنا، مش تاخد مننا.
ظهرت أمارات التفكير على وجه والده، فأضاف "مهاب" أيضًا، وقد لاحت على ثغره ابتسامة متغطرسة:
-فاعذرني يا "فؤاد" باشا لو كنت مأخر الجواز ده.
منحه والده نظرة غامضة، ومع ذلك استمر يقول بنفس اللهجة الثابتة والواثقة:
-أنا راجل عملي، وببص لقدام.
ظن "سامي" أن والده سيثور عليه، سيؤنبه، وربما يهدده بحرمانه من مزايا الانتساب لعائلة "الجندي" جراء معارضته للأمر؛ لكنه صعق كليًا عندما عنفه محولًا الدفة ضده، ليصبح في موضع تقصير:
-شايف دماغ أخوك، يا ريت تتعلم منه.
عندئذ نهض "مهاب" واقفًا، ألقى ببسمة متشفية ناحية شقيقة، ليعاود التطلع إلى أبيه متسائلًا:
-تؤمر بحاجة تانية يا باشا؟
أجابه بالنفي المشروط:
-لأ، بس مستنيك على العشا.
هز رأسه في طاعة وهو يخبره:
-طبعًا، ليا لي الشرف.
مرة ثانية سلط نظره على شقيقه، ليرمقه بهذه النظرة الشامتة، ثم ودعه:
-سلام يا "سامي"!
بالكاد كبح الأخير نيران غضبه المستعرة بداخله، وتوعده في قرارة نفسه وهو يكز على أسنانه، ويكور قبضة يده المتشنجة:
-ليك يوم يا "مهاب" ............
(اللعبة الوضيعة)
هدأت خواطرها المزعوجة إلى حدٍ كبير بمرور عدة أيام، فكان إنهاك نفسها ما بين الدراسة والتدريب كفيلًا بإعطاء عقلها هدنة مؤقتة لعدم التفكير فيما يؤرقها، أو حتى في تقريع نفسها، فعادت إلى ممارسة نمط حياتها الروتيني بالتدريج. كانت "تهاني" على وشك المغادرة عندما خاطبها أحدهم من خلفها:
-كويس إني لاقيتك.
استدارت ناظرة إلى صاحب الصوت المألوف، فقالت بتعابيرٍ جادة، وبنبرة رسمية للغاية:
-خير يا دكتور "ممدوح"؟
تقدم ناحيتها وهو يحمل في يده عددًا من الكتب الضخمة:
-أنا عديت عليكي كذا مرة، بس مكونتيش موجودة.
بررت له بنفس الطريقة المتحفظة:
-أيوه، كان عندي آ...
لم يمهلها الفرصة للشرح، حيث قاطعها قائلًا، وعلى وجهه هذه الابتسامة الصافية:
-مش مشكلة، اتفضلي.
نظرت إلى ما يحمله باندهاشٍ متحير، ثم سألته:
-إيه دول؟
تحرك متجاوزًا إياها ليتجه نحو مكتبها، وضعهم بحذرٍ على سطحه، ونظر إليها موضحًا بهذا الوجه المبتسم:
-بصي يا ستي دي مراجع، وكتب متخصصة، هتساعدك في دراستك.
تبعته عائدة إلى مكتبها، ثم راحت تتفقد كل كتابٍ على حدا، وقالت في تعبيرٍ ذاهل وهي تجول بعينيها المتشوقتين بين أغلفتهم:
-دول إصدار حديث!!
أكد لها أيضًا بنظرة مهتمة:
-أيوه، ومحدود، مش مع أي حد.
تناقص التجهم من على محياها لتبرز ابتسامة صغيرة على شفتيها حين كلمته:
-أنا مش عارفة أقول لحضرتك إيه، أنا هحافظ عليهم زي عينيا.
رد بما يشبه النصيحة وهو يشير لها بسبابته:
-المهم تستفيدي منهم.
بلا تفكيرٍ أخبرته:
-أكيد، دول كنوز.
عرض عليها في لباقةٍ وقد تأهب للخروج:
-تعالي أوصلك في طريقي.
ترددت للحظةٍ، متذكرة كيف استغلت "ابتهال" الفرصة لتفسير الموقف على هواها، وبما يسيء إليها، لذا درئًا للمفاسد هتفت حاسمة الأمر بتعابيرٍ اكتسبت طابعًا جديًا مناقضًا لما كانت عليه قبل هنيهة:
-مافيش داعي تتعب نفسك، في عربية بتوصلني.
رأى كيف تغيرت ملامحها للرسمية، فاعتقد أن فسحتهما الأخيرة قد أصابت الهدف من ورائها، وأفسدت ما نما بينها وبين "مهاب" من ود وتقارب، لذا تعمد اللعب على نفس الوتيرة المحاذرة معها، وقال بعد نحنحة سريعة:
-مش حابب أكون بضغط عليكي، بس لو ده يريحك، فأنا معنديش مانع.
استحسنت تفهمه لموقفها، فاستطردت ممتنة:
-شكرًا على الكتب والمراجع.
لم تخبت ابتسامته المهذبة المرسومة على ثغره، وأردف وهو يهم بالخروج:
-دي حاجة بسيطة، عن إذنك يا دكتورة.
شيعته بنظراتها المتشككة إلى أن اختفى عنها، لتعاود المكوث بمفردها في غرفتها وهي شبه حائرة في شأنه. تساءلت بصوتٍ خفيض كأنما تفكر فيما يراود عقلها من أفكار متصارعة:
-يا ترى ده عاوز مني إيه؟!
................................................
كان الوقت أوان العشاء تقريبًا حينما شعرت بالإرهاق، وبالنوم يزحف إلى جفنيها، لتشعر بثقل رأسها، وتبدأ في التثاؤب. فها هي عطلة أسبوع أخرى تمضيها بين الكتب والمراجع والملخصات، موهمة نفسها بأنها بذلك تقوم بتعويض ما فاتها، لتحقق نتائج طيبة في دراستها. ظنت "تهاني" أن ليلتها ستمضي على خير حينما استعدت لتأوي إلى الفراش؛ لكن كعادتها اقتحمت عليها "ابتهال" الغرفة لتفسد عليها سلامها النفسي بسؤالها المتعجب وهي تقضم قطعة من الخيار:
-إنتي هتنامي دلوقتي؟
ردت باقتضابٍ وهي تستلقي على الفراش بعدما أزاحت الغطاء:
-أيوه.
اقتربت من جانب سريرها، وسألتها وهي تلوك ما قضمته في فمها:
-مش هنسهر شوية مع بعض؟
جاوبتها بصوتٍ متكاسل:
-لأ.
جلست "ابتهال" على حافة الفراش، مجاورة لها، تتأملها مليًا بنظراتٍ طويلة غريبة، فقد جال بخاطرها بعد تفكير عميق أن تستفيد مثلها من صحبة الأثرياء، وتنال ما يخدمها وينقلها لمستوى آخر من الرفاهية والعلم، خاصة مع افتقارها لهذا النوع من علية القوم في قسمها التخصصي. لذا تعمدت أن تواصل الثرثرة بلا توقفٍ وهي تتناول ما تبقى من الخيار:
-ده إنتي حتى ما بترضيش تخرجي معايا!
نفخت في صوتٍ مسموع، ودمدمت بتأفف:
-مش فاضية.
لكزتها "ابتهال" في ساقها متسائلة في سخافةٍ، وشعورها بالغيرة الممزوجة بالفضول يتفشى فيها:
-بقولك إيه؟ أومال الدكتور إياه الحليوة مافيش أخبار عنه؟
لم تحبذ "تهاني" التطرق إلى سيرة "مهاب" نهائيًا، خاصة مع هذه المتطفلة المزعجة، يكفيها أنها استطاعت تجاوز ما عانته بصعوبة، لذا أولتها ظهرها مهمهمة في وجومٍ مقتضب:
-معرفش.
ألحت عليها في استنكارٍ سمج، رافضة تمرير الأمر دون التحري أكثر عن تفاصيله:
-معقولة؟ ده إنتي المفروض تمسكي فيه بإيدك وسنانك...
بجهدٍ عظيم حاولت "تهاني" سد أذنيها عما تتفوه به؛ لكن "ابتهال" تابعت مضايقتها باستفاضتها النزقة:
-تعرفي، أنا سألت عنه زمايلي، وقالولي إنه حاجة أبهة، في العليوي خالص، وأبوه باشا من بشوات زمان.
مرة ثانية وكزتها بخفةٍ في ساقها لتثير انتباهها وهي لا تزال تثرثر:
-ده إنتي تبقى أمك دعيالك لو ده حصل.
ضجرت، وفاض بها الكيل من سخافاتها الزائدة، فانتفضت من رقدتها، لتعتدل ناظرة إليها، حدجتها بنظرة نارية وهي تنهرها:
-مش عاوزة أسمع حاجة عنه خالص، فيا ريت تسكتي!!
لم يشبع ذلك فضولها الجائع لمعرفة أصل الموضوع وتفاصيله، فتساءلت بوقاحةٍ:
-ليه بس؟
هدرت بها بانفعالٍ مبرر وهي تدفعها بيدها لتجبرها على النهوض من جوارها:
-مايخصكيش!
بنفس الطريقة السخيفة المنفرة تابعت أسئلتها لها وهي ترمقها بنظرة ماكرة:
-إنتو اتخانقتوا ولا إيه؟
فقدت آخر ذرات تحملها، انتفضت ناهضة بتعصبٍ من على الفراش، وهي تصرخ بها:
-هو إنتي عاوزة تعملي حوار من غير حاجة؟
ثم أمسكت برسغها لتشدها بقسوةٍ فتجبرها على النهوض وصوتها لا يزال صارخًا:
-كفاية بقى، حلي عن دماغي، وقومي من هنا.
تحركت "ابتهال" مبتعدة عنها وهي تزم شفتيها مرددة بغير رضا:
-براحتك .. إنتي الخسرانة!
لكنها توقفت عند عتبة الغرفة مستطردة بسماجةٍ:
-صحيح، التلاجة معدتش فيها أكل كفاية، عاوزة فلوس أشتري بيها اللي ناقص.
اشتد بها غيظها منها، فعجزت عن تحمل المزيد منها، لذا انفجرت مفرغة فيها كامل عصبيتها المكبوتة:
-يعني أنا طول اليوم برا، ولما برجع بنام على طول، تقريبًا مابفتحش التلاجة دي خالص، وإنتي كل يوم والتاني هاتي فلوس؟ هو في إيه؟!!!
ردت ببرودٍ استفزها أكثر:
-مش احنا شركا؟
أخبرتها صراحةٍ وهي تضرب كفها بالآخر:
-لأ، خلاص، كل واحد في سكة.
قطبت جبينها متسائلة بتوجسٍ حائر:
-يعني إيه؟
رغم أنها لم تضع ذلك القرار في الحسبان قبل وقت سابق، إلا أنها شعرت بحتمية تنفيذ الأمر إراحةً لنفسها من ملاحقتها الخانقة لها، فأكدت لها ما سمعته بعزمٍ شديد:
-أنا من بكرة هدور على مكان أكون فيه لواحدي وبراحتي.
انصدمت من قرارها المباغت، واحتجت متسائلة في استهجانٍ:
-ليه كده يا "تهاني"؟ أنا زعلتك في إيه بس؟
لم تراوغ أو تجمل كلامها عندما أجابتها:
-ببساطة كده مش مرتاحة معاكي.
المزاح كان مستبعدًا في هذا الشأن، رأت "ابتهال" في عينيها تصميمًا عجيبًا على فعل ما انتوته بشكلٍ قطعي، مما هدد مخططاتها التي ترسمها لمشاركتها جزءًا من الترف الذي تحياه بمفردها، فاستعطفتها بدموعٍ زائفة:
-هو عشاني بس عِشرية حبتين؟ ده احنا المفروض نكون سند لبعض.
أجهشت بالبكاء المصحوب بنحيبٍ مرتفع وهي تلومها:
-حرام عليكي، كده تكسري بخاطري، ولا عشان بقيتي مسنودة من رجالة غريبة عننا!!
جملتها الأخيرة احتوت على تلميحٍ فجٍ غير مقبول أبدًا، انطلقت "تهاني" صوبها مدفوعة بحنقها، وراحت تدفعها دفعًا للخارج وهي تصيح بها:
-امشي من هنا، اطلعي برا.
ثأرًا لكرامتها ردت عليها "ابتهال" تتوعدها وقد توقفت عن ذرف الدموع فجأة، لتبدي لها نوايا غير طيبة تجاهها:
-ماشي، وأنا هقول الناس على اللي بتعمليه يا محترمة!
هدرت في ذهولٍ كبير:
-أنا بعمل إيه؟
ألقت عليها تهمتها بفجاجةٍ حتى تعاود التفكير مجددًا:
-كل يوم مع راجل شكل، والله أعلم بتعملوا إيه سوا.
انقطعت أنفاس "تهاني" في صدمةٍ جلية، بينما "ابتهال" تزيد في إرعابها بكلامها المهدد:
-تخيلي بقى لو أنا حطيت شوية بهارات على اللي بشوفه.
لتؤكد على تحذيرها الخطير استرسلت تنذرها بجديةٍ:
-والكل هيصدقني، لأني معنديش اللي أداريه ولا حتى أخاف إنه يضيع مني.
حينئذ قصف قلبها بقوةٍ من تهديدها الفارغ الذي لن يأتي عليها إلا بكل ما هو غير محمودٍ، فبرقت نظراتها، وأحست بدمائها تهرب من عروقها، ومع ذلك تحدتها قائلة بتشنجٍ:
-طب جربي تعملي كده وهايبقى آخر يوم ليكي هنا يا "ابتهال"!
وضعت يدها أعلى منتصف خصرها، ثم ساومتها بخبثٍ، وهذا الهدوء مستبد بها:
-وليه نعادي بعض من الأساس؟ خلينا زي ما احنا، وأنا يدوب هاخد حتة من التورتة اللي إنتي غرقانة فيها، ويا دار ما دخلك شر.
وقبل أن تفكر في رفض عرضتها رفعت يدها أمام وجهها، وأخبرتها بابتسامتها الظافرة:
-خدي راحتك، وماتستعجليش في الرد.
تركتها "ابتهال" على حالتها المصدومة، وغادرت، لتقوم "تهاني" بغلق الباب وهي ترتعش كليًا، ظلت تعبيراتها مصعوقة، وعيناها مذهولة. بالكاد تمكنت من التماسك وهي تسير شبه زاحفة بخطواتها نحو الفراش. أخذت تردد مع نفسها في توجسٍ شديد:
-دي لو عملت كده أبقى أنا ضعت على الفاضي!!!
..............................................
التنازل يبدأ بمرة تتنحى فيها المبادئ جانبًا، ثم يستمر ذلك في الحدوث تباعًا، كحبات العقد حينما تنفرط من رباطها، وتتناثر في كل اتجاه، ليتحول في الأخير لأمرٍ إلزامي على صاحبه! جاء "بدري" لزيارة زوجته في بيتها بعد تحديد ميعادٍ مسبق، جلسا معًا بالصالة، وبمفردهما، فتوهمت الأخيرة أنه أتى بالبشارة، ليسعدها بأخبارٍ سارة تخص إعلان موعد زفافهما؛ لكنه صدمها بمسألة سفره للخارج، فوجمت، وجفل قلبها. ابتلعت "فردوس" ريقها بصعوبةٍ، وسألته بتعابيرٍ شاردة، ونبرة مهتزة:
-طب وجوازنا؟
أجابها ببرودٍ تام:
-مافيهاش حاجة لما يتأجل شوية.
زحفت الدموع إلى مقلتيها، حتى بدا وجهه مشوشًا في عينيها، تجاهل ما تشعر به، وزفر معللًا لها رغبته:
-مش أحسن ما يبقى حالنا على أده، ده أنا هشتغل عشان أجيبلنا بيت يبقى بتاعنا لواحدنا.
حين رفرفت بجفنيها انسكبت عبراتها على صدغيها، لتبكي في صمتٍ مقهور، ورغم هذا لم يبدُ "بدري" متأثرًا بحزنها الجلي؛ لكنه حاول أن يظهر تعاطفًا غير موجود فيه، فربت على ذراعها في رفقٍ، وتابع:
-الحكاية مش هتطول، ده كام شهر بالكتير، ولو ما اتوفقتش هرجع تاني.
تفرس فيها بناظريه، وأدرك حينها أنه منذ اللحظة الأولى لم يشعر بالانجذاب إليها، حاول إرغام نفسه على تقبلها، وأكمل ما ظن أنه مناسب لشخص مثله لا يملك إلا القليل، فارتضى بها شريكة في حياته لن تشتكي فقره، ولن تطمع في تحقيق ما يفوق قدراته، ومع ذلك ظل هذا النفور سائدًا، لكن ما لبث أن ازداد تعمقًا به حينما لاحت هذه الفرصة الذهبية في الأفق، فكيف له أن يضيع ما أوشك على الظفر به مقابل التمسك بها؟ حضر من تأملاته الشاردة، لينعكس ضيقه على تقاسيم وجهه عندما خاطبته "فردوس" بحزنٍ:
-طب ما تاخدني معاك، واهوو ناخد بحس بعض.
هتف منتقدًا ما رددته بحدةٍ:
-شيفاني يعني غاوي غربة وبهدلة؟
انتفض بدنها من صراخه رغم خفوت نبرته، فتنفس من بين أسنانه ببطءٍ ليضبط حاله، لم يرغب في إثارة المتاعب دون داعٍ، حك طرف ذقنه، وهمهم بنبرة لانت قليلًا:
-لما أرتب أموري، غير كده مش هاقبل على نفسي أبهدلك في بلاد غريبة يا بنت الناس.
داهمها الحزن أكثر، فخشي أن تنوح ويتضاعف بكائها، فتأتي والدتها لمحاسبته، لذا أضاف ملطفًا، ولو كان كذبًا:
-أنا مستغناش عنك.
استسلمت مصدقة عذب كلامه، وقالت بصوتٍ مهموم:
-هاقول إيه غير أمري لله.
انتفخ صدره في ارتياحٍ بعدما أتم مهمته بنجاحٍ، ليعلق باسمًا في حبورٍ:
-تعيشي يا بنت الأصول.
ثم مال ناحيتها هامسًا لها قبل أن يهم بالنهوض:
-فهمي أمك بقى على الحكاية، وأنا هعدي عليكي تاني.
قام واقفًا، وودعها في الحال:
-سلام.
اصطحبته إلى الباب وهي تمسح بقايا دموعها براحة يدها، لتستدير دفعة واحدة فور أن أغلقت الباب لتنظر إلى والدتها التي بادرت بسؤالها:
-في إيه يا "فردوس"؟ قالبة سحنتك ليه؟!!
..................................................
مع انحدار الشمس نحو المغيب، كان كلاهما يقفان عند الجراج الملحق بالمشفى، أمام سيارته، في انتظار وصول العربة التي تقل "تهاني" إلى مسكنها، فالأخيرة قد أصرت على إعادة ما استعارته من كتب ومراجع إليه، لتنهي بذلك السبب الذي يدفعها لمقابلته. لاحظ "ممدوح" سرحانها غالبية الوقت، بالإضافة إلى قلة كلامها خلال محاولته استطالة الحديث، فاستطرد مستفهمًا منها:
-إنتي مش معايا النهاردة، في حاجة مضايقاكي؟
تنبهت من شرودها المحفوف بما يزعجها ويقلقها من نوايا "ابتهال" غير المعلومة لها، لكنها حتمًا لن تشارك مخاوفها معه. تصنعت الابتسام، وردت:
-لأ، عادي، شكرًا مرة تانية على الكتب، أنا ممنونة ليك.
وضع يده في جيب بنطاله، وعقب باسمًا:
-العفو، ولو احتاجتي أي حاجة أوعي تترددي تطلبيها مني.
قالت كنوعٍ من المجاملة:
-حاضر.
أملت أن تصل العربة في أي لحظة لتعفي نفسها من هذا الحرج، ومن إيجاد أي مبررات لتفسير موقفها الحذر معه، اندفعت ناظرة إليه بنظرة ضيقة عندما تكلم مرة أخرى في صوتٍ هادئ لكنه جاد:
-المهم، أنا كنت عاوز أبلغك بسفري.
سرت خفقة غريبة في قلبها، لأن ذكره لمسألة السفر أنعش ذاكرتها بما بذلت كل الجهد لنسيانه، سألته بوجه مصدوم:
-إنت هتسافر؟
أطلق زفرة بطيئة من جوفه، وعقب بلهجةٍ شبه منزعجة:
-إن كان عليا مش حابب، بس مضطر أرجع.
أبقت عينيها عليه، فأكمل بلؤمٍ مدروس:
-أنا لازم أطمن على الباشا "فؤاد".
ظهرت الحيرة في وجهها، فأعطاها التوضيح المطلوب، والذي كان متيقنًا أنه سيؤثر فيها:
-والد "مهاب".
أحست بغصة قاسية تحز في قلبها، قاومت انعكاس تأثيرها عليها، وحافظت على جمود ملامحها، إلا أن نظراتها نطقت بما لم يبح به لسانها. ابتسم في مكرٍ، وأردف:
-وهبعتله سلامك طبعًا.
تحرجت من نظرته الفاحصة لها، وقالت وهي تهرب من تحديقه المحاصر لها:
-شكرًا، المهم يبقى كويس.
زفر "ممدوح" الهواء عاليًا، ليضيف بعدها:
-أنا مش عارف هيعدي عليا الكام يوم دول إزاي؟
التفتت تنظر إليه في شيء من الاستنكار؛ لكنه أبدى أسفه النادم في التو:
-أعذري جراءتي شوية، بس أنا خدت على إني أشوفك كل يوم ولو لدقايق.
لعقت شفتيها، وهتفت مشيرة بيدها للأمام نحو حافلة صغيرة قادمة من على بعدٍ:
-عربيتي جت.
ودعها ويده ممدودة لمصافحتها:
-خدي بالك من نفسك.
مدت ذراعها إليه بقليلٍ من التردد، فأمسك بكفها بأطراف أصابعه، ثم رفعه إلى فمه ليقبله، ارتجفت من تصرفه المبالغ فيه، فلم يكترث، وسألها وهو مسبل عينيه تجاهها:
-في حاجة حابة أجيبهالك معايا وأنا جاي؟
سحبت كفها هاتفة بارتباكٍ:
-لا شكرًا.
همت بالابتعاد عنه؛ لكنه مجددًا اعترض طريقها ليعترف بنزقٍ زاد من ربكتها:
-هتوحشيني.
حذرته بنظرة مدهوشة:
-دكتور "ممدوح".
تراجع خطوة للخلف، وقال مطرقًا لرأسه:
-أنا أسف...
ما لبث أن ثبت نظره عليها ليتابع بتخطيطٍ مدروس:
-بس اتعودت أعبر عن اللي بحسه بصراحة للناس الغاليين عندي.
حافظ على تبسُّمه العذب وهو ينصرف تجاه سيارته:
-أشوفك على خير يا دكتورة.
لم تنطق بشيء، وأخذت تراقبه وهو يغادر المكان ليهاجمها هذا الشعور الغريب بالحيرة والتخبط، تساءلت مع نفسها في اضطرابٍ:
-هو بيعمل كده ليه معايا؟!!
.............................................
كان أول ما فعله عندما عاد إلى أرض الوطن، هو الالتقاء برفيق الدرب، وصديق السوء، فكانا على موعدٍ مع فتاتين من محترفات الإغواء، في منزله الخاص بمغامراته الجامحة، ليمضوا جميعًا سهرة مميزة، بها من المغريات ما يلهب الحواس، ويشعل الرغبات. قصَّ "مهاب" ما حاكه ببراعة ليجعل كفة الميزان ترجح لصالحه أثناء مواجهته مع أبيه في مقر عمله، فنال بلا عناءِ رضائه، وأوقع شقيقه الأرعن في مكره، فأصبح الأخير هو المقصر والملام بدلًا من تمجيده. كركر "ممدوح" ضاحكًا، وارتشف من كأس شرابه المسكر، ليردد بعدها في إعجابٍ كبير:
-يا ابن الإيه، ده إنت شيطان!
تركزت عينا "مهاب" على الفتاة اللعوب التي راحت تتمايل بدلالٍ كبير وغنج مثير في ثوبها القصير، لتقوم بإغرائه أثناء رقصها على مقربة منه، استرخى أكثر في جلسته، وخاطبه وهو يلتهم صاحبة القوام الفاتن، بنظراتٍ تزداد طمعًا لنهشها:
-عشان ما يلعبش على النغمة دي كتير، جملتين حلوين، دخلت بيهم على الباشا الكبير، على طول صدق واقتنع.
حين تمايلت بليونةٍ في محيطه، مد ذراعه بغتة تجاهها، ثم جذبها بقوةٍ من رسغها لتسقط في حجره، شهقت الفتاة متأثرة بخشونته القاسية، فكتم صوتها بقبلة عنيفة مطالبة بالمزيد، ليحيط بعدئذ جسدها بذراعيه، أصبحت كليًا أسيرته، ولم تظهر أدنى مقاومة له، تركته ينهل عدد لا بأس به من القبلات النهمة على أي موضع تطاله شفتاه. راقب "ممدوح" ما يفعله بنظراتٍ حادة، وعلق متهكمًا، وقد أخذت كؤوس الخمر تلعب برأسه:
-وإنت سيد مين يلعب بالكلام! أستـــــاذ!!
توقف "مهاب" عن تقبيل الفتاة حينما رأى الأخرى تنتظره عند الردهة، وهي شبه مستعدة لممارسة طقوس العشق الآثم معه، كانت وقفتها مائعة، واستثارتها حاضرة، فرمقته بنظرة تواقة متعطشة لفيض قوته، طرح الأولى عنه بجفاءٍ وكأنها نكرة، لتسقط عند قدميه متأوهة من الألم المباغت الذي ضرب جسدها، ليتحول صوت أنينها لضحكة مجلجلة، وقدم "مهاب" تداعب بطنها المكشوف، نظر لها بغير مبالاة، وقال وهو يتخطاها:
-خدها، أنا زهقت منها.
نهض "ممدوح" بتكاسلٍ من موضعه، لم يتمكن من الوقوف باستقامة، فقرر التمدد بجوار الفتاة على البساط، صاح هاتفًا بترحابٍ غريب وهو يزحف تجاهها:
-هدية ماترجعش يا صاحبي!
شدها إليه، فأصبحت لصيقة به، ثم رفع جسده ليعتليها، وأتونٍ متقد من الحرارة ينضح من كل خلية فيه، لم تقاومه هو الآخر، بل فتحت ذراعيها مستقبلة دفقات القوة بتلهفٍ وكأنها لأول مرة تختبر مشاعر اللهفة. أقبل عليها ظافرًا بمتعةٍ عابثة معها، إلى أن انطفأت جذوة الرغبة، وارتوى من نهرها الجامح. نبذها بعدما فرغ منها، وكأنها قطعة خردة لا قيمة لها، لينهض عائدًا إلى الأريكة، ملقيًا بثقل جسده المنهك عليها، مد يده تجاه الطاولة ساحبًا من علبة سجائره واحدة ليشعلها، وراح يطرد دخانها ببطءٍ.
بعد برهةٍ انضم إليه "مهاب"، وجلس في مواجهته وفي يده زجاجة الخمر، سكب البعض في كأسه، وسأله إن كان يرغب في مشاركته الشرب، فقبل في التو، ليشعل هو الآخر بعد ذلك سيجارة جديدة. نفث دخانها دفعة واحدة مستمتعًا بمذاق التبغ المخلوط بالخمر في حلقه، ركز بصره على "ممدوح" عندما سأله بلا تمهيد:
-ناوي على إيه مع الصيدة الجديدة؟!
لم يفهم مراده، فرد عليه متسائلًا:
-قصدك مين؟
بادله نظرة غامضة، محملة بالكثير قبل أن يجيبه بكلمة واحدة:
-"تهاني"!
قهقه ضاحكًا في استهزاءٍ، ليردد من بين ضحكاته ساخرًا:
-أنا فكرتك بتكلم عن حد مهم..
هدأت نوبة ضحكه، فتابع موضحًا بفتور:
-عمومًا هي مش في دماغي.
جاء تعقيب "ممدوح" معاتبًا:
-وده ينفع؟ تسيب الساحة ليا كده ألعب فيها لواحدي؟
نفض "مهاب" رماد سيجارته المحترق بهزة صغيرة من إصبعيه، وعلق بلا اهتمامٍ:
-خد راحتك، صحيح هي وردة حلوة، وعاوزة تتقطف، بس شعبي، على قديمه، بتاعة جواز وعيال، وده ماليش فيه.
اعتدل "ممدوح" في جلسته هاتفًا بتحفزٍ طفيف:
-ومين جاب سيرة الجواز؟ تلاقيك خايف لأقطفها قبلك!!
أخبره بغطرسة واثقة:
-إنت عارفني مافيش واحدة تستعصى عليا مهما كانت فين!!
ثم مط فمه قليلًا، وأضاف بغرور معروف به:
-و"تهاني" مش هتاخد في إيدي غلوة!
لم يبدُ "ممدوح" مقتنعًا بهالة السيطرة التي يحاول إبهاره بها، فاستخف به، مما جعله يزداد تحمسًا لخوض هذه المغامرة، فهتف يُعلمه بما قرره في التو:
-تراهني، هخليها تسلملي نفسها برضاها ومزاجها؟!!
تطلع إليه بهذه النظرة المستهترة، وعلق عليه بلهجةٍ شبه مقللة من شأنه:
-أيوه، بكلامك الحلو، وكاسك اللي يدوخ، أسلوبك معروف، وأنا حافظه كويس.
تحداه "مهاب" قائلًا بصوتٍ غامض ومثير:
-لأ، هغير التكنيك خالص، وهتشوف.
عندئذ تقوست زاوية فم رفيقه، والتصقت بها ابتسامة لئيمة، مطعمة بالتحدي، ليستطرد معلنًا قبوله الدخول في ذلك النوع من المراهنة الخطيرة:
-مستنيك تبهرني ..
هدأت خواطرها المزعوجة إلى حدٍ كبير بمرور عدة أيام، فكان إنهاك نفسها ما بين الدراسة والتدريب كفيلًا بإعطاء عقلها هدنة مؤقتة لعدم التفكير فيما يؤرقها، أو حتى في تقريع نفسها، فعادت إلى ممارسة نمط حياتها الروتيني بالتدريج. كانت "تهاني" على وشك المغادرة عندما خاطبها أحدهم من خلفها:
-كويس إني لاقيتك.
استدارت ناظرة إلى صاحب الصوت المألوف، فقالت بتعابيرٍ جادة، وبنبرة رسمية للغاية:
-خير يا دكتور "ممدوح"؟
تقدم ناحيتها وهو يحمل في يده عددًا من الكتب الضخمة:
-أنا عديت عليكي كذا مرة، بس مكونتيش موجودة.
بررت له بنفس الطريقة المتحفظة:
-أيوه، كان عندي آ...
لم يمهلها الفرصة للشرح، حيث قاطعها قائلًا، وعلى وجهه هذه الابتسامة الصافية:
-مش مشكلة، اتفضلي.
نظرت إلى ما يحمله باندهاشٍ متحير، ثم سألته:
-إيه دول؟
تحرك متجاوزًا إياها ليتجه نحو مكتبها، وضعهم بحذرٍ على سطحه، ونظر إليها موضحًا بهذا الوجه المبتسم:
-بصي يا ستي دي مراجع، وكتب متخصصة، هتساعدك في دراستك.
تبعته عائدة إلى مكتبها، ثم راحت تتفقد كل كتابٍ على حدا، وقالت في تعبيرٍ ذاهل وهي تجول بعينيها المتشوقتين بين أغلفتهم:
-دول إصدار حديث!!
أكد لها أيضًا بنظرة مهتمة:
-أيوه، ومحدود، مش مع أي حد.
تناقص التجهم من على محياها لتبرز ابتسامة صغيرة على شفتيها حين كلمته:
-أنا مش عارفة أقول لحضرتك إيه، أنا هحافظ عليهم زي عينيا.
رد بما يشبه النصيحة وهو يشير لها بسبابته:
-المهم تستفيدي منهم.
بلا تفكيرٍ أخبرته:
-أكيد، دول كنوز.
عرض عليها في لباقةٍ وقد تأهب للخروج:
-تعالي أوصلك في طريقي.
ترددت للحظةٍ، متذكرة كيف استغلت "ابتهال" الفرصة لتفسير الموقف على هواها، وبما يسيء إليها، لذا درئًا للمفاسد هتفت حاسمة الأمر بتعابيرٍ اكتسبت طابعًا جديًا مناقضًا لما كانت عليه قبل هنيهة:
-مافيش داعي تتعب نفسك، في عربية بتوصلني.
رأى كيف تغيرت ملامحها للرسمية، فاعتقد أن فسحتهما الأخيرة قد أصابت الهدف من ورائها، وأفسدت ما نما بينها وبين "مهاب" من ود وتقارب، لذا تعمد اللعب على نفس الوتيرة المحاذرة معها، وقال بعد نحنحة سريعة:
-مش حابب أكون بضغط عليكي، بس لو ده يريحك، فأنا معنديش مانع.
استحسنت تفهمه لموقفها، فاستطردت ممتنة:
-شكرًا على الكتب والمراجع.
لم تخبت ابتسامته المهذبة المرسومة على ثغره، وأردف وهو يهم بالخروج:
-دي حاجة بسيطة، عن إذنك يا دكتورة.
شيعته بنظراتها المتشككة إلى أن اختفى عنها، لتعاود المكوث بمفردها في غرفتها وهي شبه حائرة في شأنه. تساءلت بصوتٍ خفيض كأنما تفكر فيما يراود عقلها من أفكار متصارعة:
-يا ترى ده عاوز مني إيه؟!
................................................
كان الوقت أوان العشاء تقريبًا حينما شعرت بالإرهاق، وبالنوم يزحف إلى جفنيها، لتشعر بثقل رأسها، وتبدأ في التثاؤب. فها هي عطلة أسبوع أخرى تمضيها بين الكتب والمراجع والملخصات، موهمة نفسها بأنها بذلك تقوم بتعويض ما فاتها، لتحقق نتائج طيبة في دراستها. ظنت "تهاني" أن ليلتها ستمضي على خير حينما استعدت لتأوي إلى الفراش؛ لكن كعادتها اقتحمت عليها "ابتهال" الغرفة لتفسد عليها سلامها النفسي بسؤالها المتعجب وهي تقضم قطعة من الخيار:
-إنتي هتنامي دلوقتي؟
ردت باقتضابٍ وهي تستلقي على الفراش بعدما أزاحت الغطاء:
-أيوه.
اقتربت من جانب سريرها، وسألتها وهي تلوك ما قضمته في فمها:
-مش هنسهر شوية مع بعض؟
جاوبتها بصوتٍ متكاسل:
-لأ.
جلست "ابتهال" على حافة الفراش، مجاورة لها، تتأملها مليًا بنظراتٍ طويلة غريبة، فقد جال بخاطرها بعد تفكير عميق أن تستفيد مثلها من صحبة الأثرياء، وتنال ما يخدمها وينقلها لمستوى آخر من الرفاهية والعلم، خاصة مع افتقارها لهذا النوع من علية القوم في قسمها التخصصي. لذا تعمدت أن تواصل الثرثرة بلا توقفٍ وهي تتناول ما تبقى من الخيار:
-ده إنتي حتى ما بترضيش تخرجي معايا!
نفخت في صوتٍ مسموع، ودمدمت بتأفف:
-مش فاضية.
لكزتها "ابتهال" في ساقها متسائلة في سخافةٍ، وشعورها بالغيرة الممزوجة بالفضول يتفشى فيها:
-بقولك إيه؟ أومال الدكتور إياه الحليوة مافيش أخبار عنه؟
لم تحبذ "تهاني" التطرق إلى سيرة "مهاب" نهائيًا، خاصة مع هذه المتطفلة المزعجة، يكفيها أنها استطاعت تجاوز ما عانته بصعوبة، لذا أولتها ظهرها مهمهمة في وجومٍ مقتضب:
-معرفش.
ألحت عليها في استنكارٍ سمج، رافضة تمرير الأمر دون التحري أكثر عن تفاصيله:
-معقولة؟ ده إنتي المفروض تمسكي فيه بإيدك وسنانك...
بجهدٍ عظيم حاولت "تهاني" سد أذنيها عما تتفوه به؛ لكن "ابتهال" تابعت مضايقتها باستفاضتها النزقة:
-تعرفي، أنا سألت عنه زمايلي، وقالولي إنه حاجة أبهة، في العليوي خالص، وأبوه باشا من بشوات زمان.
مرة ثانية وكزتها بخفةٍ في ساقها لتثير انتباهها وهي لا تزال تثرثر:
-ده إنتي تبقى أمك دعيالك لو ده حصل.
ضجرت، وفاض بها الكيل من سخافاتها الزائدة، فانتفضت من رقدتها، لتعتدل ناظرة إليها، حدجتها بنظرة نارية وهي تنهرها:
-مش عاوزة أسمع حاجة عنه خالص، فيا ريت تسكتي!!
لم يشبع ذلك فضولها الجائع لمعرفة أصل الموضوع وتفاصيله، فتساءلت بوقاحةٍ:
-ليه بس؟
هدرت بها بانفعالٍ مبرر وهي تدفعها بيدها لتجبرها على النهوض من جوارها:
-مايخصكيش!
بنفس الطريقة السخيفة المنفرة تابعت أسئلتها لها وهي ترمقها بنظرة ماكرة:
-إنتو اتخانقتوا ولا إيه؟
فقدت آخر ذرات تحملها، انتفضت ناهضة بتعصبٍ من على الفراش، وهي تصرخ بها:
-هو إنتي عاوزة تعملي حوار من غير حاجة؟
ثم أمسكت برسغها لتشدها بقسوةٍ فتجبرها على النهوض وصوتها لا يزال صارخًا:
-كفاية بقى، حلي عن دماغي، وقومي من هنا.
تحركت "ابتهال" مبتعدة عنها وهي تزم شفتيها مرددة بغير رضا:
-براحتك .. إنتي الخسرانة!
لكنها توقفت عند عتبة الغرفة مستطردة بسماجةٍ:
-صحيح، التلاجة معدتش فيها أكل كفاية، عاوزة فلوس أشتري بيها اللي ناقص.
اشتد بها غيظها منها، فعجزت عن تحمل المزيد منها، لذا انفجرت مفرغة فيها كامل عصبيتها المكبوتة:
-يعني أنا طول اليوم برا، ولما برجع بنام على طول، تقريبًا مابفتحش التلاجة دي خالص، وإنتي كل يوم والتاني هاتي فلوس؟ هو في إيه؟!!!
ردت ببرودٍ استفزها أكثر:
-مش احنا شركا؟
أخبرتها صراحةٍ وهي تضرب كفها بالآخر:
-لأ، خلاص، كل واحد في سكة.
قطبت جبينها متسائلة بتوجسٍ حائر:
-يعني إيه؟
رغم أنها لم تضع ذلك القرار في الحسبان قبل وقت سابق، إلا أنها شعرت بحتمية تنفيذ الأمر إراحةً لنفسها من ملاحقتها الخانقة لها، فأكدت لها ما سمعته بعزمٍ شديد:
-أنا من بكرة هدور على مكان أكون فيه لواحدي وبراحتي.
انصدمت من قرارها المباغت، واحتجت متسائلة في استهجانٍ:
-ليه كده يا "تهاني"؟ أنا زعلتك في إيه بس؟
لم تراوغ أو تجمل كلامها عندما أجابتها:
-ببساطة كده مش مرتاحة معاكي.
المزاح كان مستبعدًا في هذا الشأن، رأت "ابتهال" في عينيها تصميمًا عجيبًا على فعل ما انتوته بشكلٍ قطعي، مما هدد مخططاتها التي ترسمها لمشاركتها جزءًا من الترف الذي تحياه بمفردها، فاستعطفتها بدموعٍ زائفة:
-هو عشاني بس عِشرية حبتين؟ ده احنا المفروض نكون سند لبعض.
أجهشت بالبكاء المصحوب بنحيبٍ مرتفع وهي تلومها:
-حرام عليكي، كده تكسري بخاطري، ولا عشان بقيتي مسنودة من رجالة غريبة عننا!!
جملتها الأخيرة احتوت على تلميحٍ فجٍ غير مقبول أبدًا، انطلقت "تهاني" صوبها مدفوعة بحنقها، وراحت تدفعها دفعًا للخارج وهي تصيح بها:
-امشي من هنا، اطلعي برا.
ثأرًا لكرامتها ردت عليها "ابتهال" تتوعدها وقد توقفت عن ذرف الدموع فجأة، لتبدي لها نوايا غير طيبة تجاهها:
-ماشي، وأنا هقول الناس على اللي بتعمليه يا محترمة!
هدرت في ذهولٍ كبير:
-أنا بعمل إيه؟
ألقت عليها تهمتها بفجاجةٍ حتى تعاود التفكير مجددًا:
-كل يوم مع راجل شكل، والله أعلم بتعملوا إيه سوا.
انقطعت أنفاس "تهاني" في صدمةٍ جلية، بينما "ابتهال" تزيد في إرعابها بكلامها المهدد:
-تخيلي بقى لو أنا حطيت شوية بهارات على اللي بشوفه.
لتؤكد على تحذيرها الخطير استرسلت تنذرها بجديةٍ:
-والكل هيصدقني، لأني معنديش اللي أداريه ولا حتى أخاف إنه يضيع مني.
حينئذ قصف قلبها بقوةٍ من تهديدها الفارغ الذي لن يأتي عليها إلا بكل ما هو غير محمودٍ، فبرقت نظراتها، وأحست بدمائها تهرب من عروقها، ومع ذلك تحدتها قائلة بتشنجٍ:
-طب جربي تعملي كده وهايبقى آخر يوم ليكي هنا يا "ابتهال"!
وضعت يدها أعلى منتصف خصرها، ثم ساومتها بخبثٍ، وهذا الهدوء مستبد بها:
-وليه نعادي بعض من الأساس؟ خلينا زي ما احنا، وأنا يدوب هاخد حتة من التورتة اللي إنتي غرقانة فيها، ويا دار ما دخلك شر.
وقبل أن تفكر في رفض عرضتها رفعت يدها أمام وجهها، وأخبرتها بابتسامتها الظافرة:
-خدي راحتك، وماتستعجليش في الرد.
تركتها "ابتهال" على حالتها المصدومة، وغادرت، لتقوم "تهاني" بغلق الباب وهي ترتعش كليًا، ظلت تعبيراتها مصعوقة، وعيناها مذهولة. بالكاد تمكنت من التماسك وهي تسير شبه زاحفة بخطواتها نحو الفراش. أخذت تردد مع نفسها في توجسٍ شديد:
-دي لو عملت كده أبقى أنا ضعت على الفاضي!!!
..............................................
التنازل يبدأ بمرة تتنحى فيها المبادئ جانبًا، ثم يستمر ذلك في الحدوث تباعًا، كحبات العقد حينما تنفرط من رباطها، وتتناثر في كل اتجاه، ليتحول في الأخير لأمرٍ إلزامي على صاحبه! جاء "بدري" لزيارة زوجته في بيتها بعد تحديد ميعادٍ مسبق، جلسا معًا بالصالة، وبمفردهما، فتوهمت الأخيرة أنه أتى بالبشارة، ليسعدها بأخبارٍ سارة تخص إعلان موعد زفافهما؛ لكنه صدمها بمسألة سفره للخارج، فوجمت، وجفل قلبها. ابتلعت "فردوس" ريقها بصعوبةٍ، وسألته بتعابيرٍ شاردة، ونبرة مهتزة:
-طب وجوازنا؟
أجابها ببرودٍ تام:
-مافيهاش حاجة لما يتأجل شوية.
زحفت الدموع إلى مقلتيها، حتى بدا وجهه مشوشًا في عينيها، تجاهل ما تشعر به، وزفر معللًا لها رغبته:
-مش أحسن ما يبقى حالنا على أده، ده أنا هشتغل عشان أجيبلنا بيت يبقى بتاعنا لواحدنا.
حين رفرفت بجفنيها انسكبت عبراتها على صدغيها، لتبكي في صمتٍ مقهور، ورغم هذا لم يبدُ "بدري" متأثرًا بحزنها الجلي؛ لكنه حاول أن يظهر تعاطفًا غير موجود فيه، فربت على ذراعها في رفقٍ، وتابع:
-الحكاية مش هتطول، ده كام شهر بالكتير، ولو ما اتوفقتش هرجع تاني.
تفرس فيها بناظريه، وأدرك حينها أنه منذ اللحظة الأولى لم يشعر بالانجذاب إليها، حاول إرغام نفسه على تقبلها، وأكمل ما ظن أنه مناسب لشخص مثله لا يملك إلا القليل، فارتضى بها شريكة في حياته لن تشتكي فقره، ولن تطمع في تحقيق ما يفوق قدراته، ومع ذلك ظل هذا النفور سائدًا، لكن ما لبث أن ازداد تعمقًا به حينما لاحت هذه الفرصة الذهبية في الأفق، فكيف له أن يضيع ما أوشك على الظفر به مقابل التمسك بها؟ حضر من تأملاته الشاردة، لينعكس ضيقه على تقاسيم وجهه عندما خاطبته "فردوس" بحزنٍ:
-طب ما تاخدني معاك، واهوو ناخد بحس بعض.
هتف منتقدًا ما رددته بحدةٍ:
-شيفاني يعني غاوي غربة وبهدلة؟
انتفض بدنها من صراخه رغم خفوت نبرته، فتنفس من بين أسنانه ببطءٍ ليضبط حاله، لم يرغب في إثارة المتاعب دون داعٍ، حك طرف ذقنه، وهمهم بنبرة لانت قليلًا:
-لما أرتب أموري، غير كده مش هاقبل على نفسي أبهدلك في بلاد غريبة يا بنت الناس.
داهمها الحزن أكثر، فخشي أن تنوح ويتضاعف بكائها، فتأتي والدتها لمحاسبته، لذا أضاف ملطفًا، ولو كان كذبًا:
-أنا مستغناش عنك.
استسلمت مصدقة عذب كلامه، وقالت بصوتٍ مهموم:
-هاقول إيه غير أمري لله.
انتفخ صدره في ارتياحٍ بعدما أتم مهمته بنجاحٍ، ليعلق باسمًا في حبورٍ:
-تعيشي يا بنت الأصول.
ثم مال ناحيتها هامسًا لها قبل أن يهم بالنهوض:
-فهمي أمك بقى على الحكاية، وأنا هعدي عليكي تاني.
قام واقفًا، وودعها في الحال:
-سلام.
اصطحبته إلى الباب وهي تمسح بقايا دموعها براحة يدها، لتستدير دفعة واحدة فور أن أغلقت الباب لتنظر إلى والدتها التي بادرت بسؤالها:
-في إيه يا "فردوس"؟ قالبة سحنتك ليه؟!!
..................................................
مع انحدار الشمس نحو المغيب، كان كلاهما يقفان عند الجراج الملحق بالمشفى، أمام سيارته، في انتظار وصول العربة التي تقل "تهاني" إلى مسكنها، فالأخيرة قد أصرت على إعادة ما استعارته من كتب ومراجع إليه، لتنهي بذلك السبب الذي يدفعها لمقابلته. لاحظ "ممدوح" سرحانها غالبية الوقت، بالإضافة إلى قلة كلامها خلال محاولته استطالة الحديث، فاستطرد مستفهمًا منها:
-إنتي مش معايا النهاردة، في حاجة مضايقاكي؟
تنبهت من شرودها المحفوف بما يزعجها ويقلقها من نوايا "ابتهال" غير المعلومة لها، لكنها حتمًا لن تشارك مخاوفها معه. تصنعت الابتسام، وردت:
-لأ، عادي، شكرًا مرة تانية على الكتب، أنا ممنونة ليك.
وضع يده في جيب بنطاله، وعقب باسمًا:
-العفو، ولو احتاجتي أي حاجة أوعي تترددي تطلبيها مني.
قالت كنوعٍ من المجاملة:
-حاضر.
أملت أن تصل العربة في أي لحظة لتعفي نفسها من هذا الحرج، ومن إيجاد أي مبررات لتفسير موقفها الحذر معه، اندفعت ناظرة إليه بنظرة ضيقة عندما تكلم مرة أخرى في صوتٍ هادئ لكنه جاد:
-المهم، أنا كنت عاوز أبلغك بسفري.
سرت خفقة غريبة في قلبها، لأن ذكره لمسألة السفر أنعش ذاكرتها بما بذلت كل الجهد لنسيانه، سألته بوجه مصدوم:
-إنت هتسافر؟
أطلق زفرة بطيئة من جوفه، وعقب بلهجةٍ شبه منزعجة:
-إن كان عليا مش حابب، بس مضطر أرجع.
أبقت عينيها عليه، فأكمل بلؤمٍ مدروس:
-أنا لازم أطمن على الباشا "فؤاد".
ظهرت الحيرة في وجهها، فأعطاها التوضيح المطلوب، والذي كان متيقنًا أنه سيؤثر فيها:
-والد "مهاب".
أحست بغصة قاسية تحز في قلبها، قاومت انعكاس تأثيرها عليها، وحافظت على جمود ملامحها، إلا أن نظراتها نطقت بما لم يبح به لسانها. ابتسم في مكرٍ، وأردف:
-وهبعتله سلامك طبعًا.
تحرجت من نظرته الفاحصة لها، وقالت وهي تهرب من تحديقه المحاصر لها:
-شكرًا، المهم يبقى كويس.
زفر "ممدوح" الهواء عاليًا، ليضيف بعدها:
-أنا مش عارف هيعدي عليا الكام يوم دول إزاي؟
التفتت تنظر إليه في شيء من الاستنكار؛ لكنه أبدى أسفه النادم في التو:
-أعذري جراءتي شوية، بس أنا خدت على إني أشوفك كل يوم ولو لدقايق.
لعقت شفتيها، وهتفت مشيرة بيدها للأمام نحو حافلة صغيرة قادمة من على بعدٍ:
-عربيتي جت.
ودعها ويده ممدودة لمصافحتها:
-خدي بالك من نفسك.
مدت ذراعها إليه بقليلٍ من التردد، فأمسك بكفها بأطراف أصابعه، ثم رفعه إلى فمه ليقبله، ارتجفت من تصرفه المبالغ فيه، فلم يكترث، وسألها وهو مسبل عينيه تجاهها:
-في حاجة حابة أجيبهالك معايا وأنا جاي؟
سحبت كفها هاتفة بارتباكٍ:
-لا شكرًا.
همت بالابتعاد عنه؛ لكنه مجددًا اعترض طريقها ليعترف بنزقٍ زاد من ربكتها:
-هتوحشيني.
حذرته بنظرة مدهوشة:
-دكتور "ممدوح".
تراجع خطوة للخلف، وقال مطرقًا لرأسه:
-أنا أسف...
ما لبث أن ثبت نظره عليها ليتابع بتخطيطٍ مدروس:
-بس اتعودت أعبر عن اللي بحسه بصراحة للناس الغاليين عندي.
حافظ على تبسُّمه العذب وهو ينصرف تجاه سيارته:
-أشوفك على خير يا دكتورة.
لم تنطق بشيء، وأخذت تراقبه وهو يغادر المكان ليهاجمها هذا الشعور الغريب بالحيرة والتخبط، تساءلت مع نفسها في اضطرابٍ:
-هو بيعمل كده ليه معايا؟!!
.............................................
كان أول ما فعله عندما عاد إلى أرض الوطن، هو الالتقاء برفيق الدرب، وصديق السوء، فكانا على موعدٍ مع فتاتين من محترفات الإغواء، في منزله الخاص بمغامراته الجامحة، ليمضوا جميعًا سهرة مميزة، بها من المغريات ما يلهب الحواس، ويشعل الرغبات. قصَّ "مهاب" ما حاكه ببراعة ليجعل كفة الميزان ترجح لصالحه أثناء مواجهته مع أبيه في مقر عمله، فنال بلا عناءِ رضائه، وأوقع شقيقه الأرعن في مكره، فأصبح الأخير هو المقصر والملام بدلًا من تمجيده. كركر "ممدوح" ضاحكًا، وارتشف من كأس شرابه المسكر، ليردد بعدها في إعجابٍ كبير:
-يا ابن الإيه، ده إنت شيطان!
تركزت عينا "مهاب" على الفتاة اللعوب التي راحت تتمايل بدلالٍ كبير وغنج مثير في ثوبها القصير، لتقوم بإغرائه أثناء رقصها على مقربة منه، استرخى أكثر في جلسته، وخاطبه وهو يلتهم صاحبة القوام الفاتن، بنظراتٍ تزداد طمعًا لنهشها:
-عشان ما يلعبش على النغمة دي كتير، جملتين حلوين، دخلت بيهم على الباشا الكبير، على طول صدق واقتنع.
حين تمايلت بليونةٍ في محيطه، مد ذراعه بغتة تجاهها، ثم جذبها بقوةٍ من رسغها لتسقط في حجره، شهقت الفتاة متأثرة بخشونته القاسية، فكتم صوتها بقبلة عنيفة مطالبة بالمزيد، ليحيط بعدئذ جسدها بذراعيه، أصبحت كليًا أسيرته، ولم تظهر أدنى مقاومة له، تركته ينهل عدد لا بأس به من القبلات النهمة على أي موضع تطاله شفتاه. راقب "ممدوح" ما يفعله بنظراتٍ حادة، وعلق متهكمًا، وقد أخذت كؤوس الخمر تلعب برأسه:
-وإنت سيد مين يلعب بالكلام! أستـــــاذ!!
توقف "مهاب" عن تقبيل الفتاة حينما رأى الأخرى تنتظره عند الردهة، وهي شبه مستعدة لممارسة طقوس العشق الآثم معه، كانت وقفتها مائعة، واستثارتها حاضرة، فرمقته بنظرة تواقة متعطشة لفيض قوته، طرح الأولى عنه بجفاءٍ وكأنها نكرة، لتسقط عند قدميه متأوهة من الألم المباغت الذي ضرب جسدها، ليتحول صوت أنينها لضحكة مجلجلة، وقدم "مهاب" تداعب بطنها المكشوف، نظر لها بغير مبالاة، وقال وهو يتخطاها:
-خدها، أنا زهقت منها.
نهض "ممدوح" بتكاسلٍ من موضعه، لم يتمكن من الوقوف باستقامة، فقرر التمدد بجوار الفتاة على البساط، صاح هاتفًا بترحابٍ غريب وهو يزحف تجاهها:
-هدية ماترجعش يا صاحبي!
شدها إليه، فأصبحت لصيقة به، ثم رفع جسده ليعتليها، وأتونٍ متقد من الحرارة ينضح من كل خلية فيه، لم تقاومه هو الآخر، بل فتحت ذراعيها مستقبلة دفقات القوة بتلهفٍ وكأنها لأول مرة تختبر مشاعر اللهفة. أقبل عليها ظافرًا بمتعةٍ عابثة معها، إلى أن انطفأت جذوة الرغبة، وارتوى من نهرها الجامح. نبذها بعدما فرغ منها، وكأنها قطعة خردة لا قيمة لها، لينهض عائدًا إلى الأريكة، ملقيًا بثقل جسده المنهك عليها، مد يده تجاه الطاولة ساحبًا من علبة سجائره واحدة ليشعلها، وراح يطرد دخانها ببطءٍ.
بعد برهةٍ انضم إليه "مهاب"، وجلس في مواجهته وفي يده زجاجة الخمر، سكب البعض في كأسه، وسأله إن كان يرغب في مشاركته الشرب، فقبل في التو، ليشعل هو الآخر بعد ذلك سيجارة جديدة. نفث دخانها دفعة واحدة مستمتعًا بمذاق التبغ المخلوط بالخمر في حلقه، ركز بصره على "ممدوح" عندما سأله بلا تمهيد:
-ناوي على إيه مع الصيدة الجديدة؟!
لم يفهم مراده، فرد عليه متسائلًا:
-قصدك مين؟
بادله نظرة غامضة، محملة بالكثير قبل أن يجيبه بكلمة واحدة:
-"تهاني"!
قهقه ضاحكًا في استهزاءٍ، ليردد من بين ضحكاته ساخرًا:
-أنا فكرتك بتكلم عن حد مهم..
هدأت نوبة ضحكه، فتابع موضحًا بفتور:
-عمومًا هي مش في دماغي.
جاء تعقيب "ممدوح" معاتبًا:
-وده ينفع؟ تسيب الساحة ليا كده ألعب فيها لواحدي؟
نفض "مهاب" رماد سيجارته المحترق بهزة صغيرة من إصبعيه، وعلق بلا اهتمامٍ:
-خد راحتك، صحيح هي وردة حلوة، وعاوزة تتقطف، بس شعبي، على قديمه، بتاعة جواز وعيال، وده ماليش فيه.
اعتدل "ممدوح" في جلسته هاتفًا بتحفزٍ طفيف:
-ومين جاب سيرة الجواز؟ تلاقيك خايف لأقطفها قبلك!!
أخبره بغطرسة واثقة:
-إنت عارفني مافيش واحدة تستعصى عليا مهما كانت فين!!
ثم مط فمه قليلًا، وأضاف بغرور معروف به:
-و"تهاني" مش هتاخد في إيدي غلوة!
لم يبدُ "ممدوح" مقتنعًا بهالة السيطرة التي يحاول إبهاره بها، فاستخف به، مما جعله يزداد تحمسًا لخوض هذه المغامرة، فهتف يُعلمه بما قرره في التو:
-تراهني، هخليها تسلملي نفسها برضاها ومزاجها؟!!
تطلع إليه بهذه النظرة المستهترة، وعلق عليه بلهجةٍ شبه مقللة من شأنه:
-أيوه، بكلامك الحلو، وكاسك اللي يدوخ، أسلوبك معروف، وأنا حافظه كويس.
تحداه "مهاب" قائلًا بصوتٍ غامض ومثير:
-لأ، هغير التكنيك خالص، وهتشوف.
عندئذ تقوست زاوية فم رفيقه، والتصقت بها ابتسامة لئيمة، مطعمة بالتحدي، ليستطرد معلنًا قبوله الدخول في ذلك النوع من المراهنة الخطيرة:
-مستنيك تبهرني ..