اخر الروايات

رواية رحلة الآثام الفصل السادس 6 بقلم منال سالم

رواية رحلة الآثام الفصل السادس 6 بقلم منال سالم


الفصل السادس
(الاشتياق المُر)
فرغ المصلون من أداء صلاة العصر، ليجتمعوا بعدئذ في الخلفية، على شكل حلقاتٍ دائرية ليحيطوا بأحدهم، وعلى وجوههم ابتسامات سعيدة ومبتهجة، فاليوم هو موعد عقد قران "بدري" على من اختارها لتكون شريكته في الحياة. تأنق الأخير في ثيابٍ جديدة، تمثلت في سروال من القماش ذي اللون الرمادي، ومن فوقه وضع قميصًا أبيض اللون. جلس القرفصاء بجوار المأذون، ومن خلفه جثا "عوض" على ركبتيه، واستند بيده على كتفه ليدعمه، قبل أن يستطرد متحدثًا:
-ربنا يجعلها جوازة الهنا عليك.
رد باسمًا:
-يا رب.
بدأت المراسم بعد قراءة الفاتحة والابتهال للمولى عز وجل، بينما انتظرت النساء في المصلى الخاص بالسيدات يترقبن بحماسٍ وتلهف إتمام العقد على خير. كانت "فردوس" قد ارتدت عباءتها الزرقاء الجديدة، وجلست متربعة وسط المهنئات، وعلى ثغرها ابتسامة مسرورة وعريضة. تغاضت عن النظرات غير المريحة من والدة عريسها، وحادت ببصرها عنها، لتركز في الأرابسك الخشبي الفاصل بين جزء الرجال ومصلى السيدات، محاولة رؤية ما يحدث عبر الفتحات الصغيرة الضيقة. التفتت ناظرة إلى أمها عندما مالت عليها لتخاطبها في أذنها بشيءٍ من الحزن:
-مش كنا عرفنا أختك؟
تأملتها بنظراتٍ شبه مغتاظة، وردت بلا أدنى ذرة تعاطف:
-هي يعني كانت اتصلت ولا سألت من ساعة آخر مرة؟!!
أصرت "عقيلة" على إيجاد المبررات لجفاء ابنتها المتواصل، فقالت:
-أهوو كنا بعتنا ليها جواب على الأقل، بدل ما تبقى آخر من يعلم بجوازك.
راحت تذم شفتيها في غير رضا، ثم تكلمت في فتورٍ، ولمحة من العبوس قد أخذت تزحف على وجهها:
-صدقيني يامه، احنا مش فارقين معاها، ولا حتى جايين في دماغها أصلًا.
تنهيدة عميقة تحررت من صدر والدتها قبل أن ترفع بصرها للسماء وهي تناجي المولى بخفوتٍ:
-ربنا يردك يا بنتي بالسلامة.
حادت "فردوس" ببصرها عن أمها، وتطلعت إلى خشب الأرابسك لتردد بسخطٍ في غير صوتٍ:
-اللي زي "تهاني" مصدق إنه نفذ بجلده من هنا، تقوليلي تفتكرنا!!
نفضت عن عقلها التفكير في شأنها، وتابعت وهي تشرأب بعنقها محاولة رؤية ما يدور:
-خليني أنا في حالي ومالي.
..................................................
ما إن ولجت لداخل استقبال الفندق الفخم، حتى انبهرت نظراتها بما أبصرته في البهو الفسيح، وراحت تستكشف بعينين فضوليتين ما يحيط بها من لوحات إبداعية، وتصاميم مميزة، وديكورات زاخرة، كل ما حولها أشار إلى الرقي والثراء الفاحش. سارت "تهاني" على بلاط أملس ويلمع كالزجاج، فخشيت أن يخدشه كعب حذائها، لذا كانت تتحرس كثيرًل في مشيها، وتحاول أن تبدو خفيفة الخطى، رأت كيف يتعامل كل من يقابل "مهاب" بوقارٍ وتقدير، وكأنه أحد أهم النزلاء هنا، وضعت على وجهها ابتسامة صغيرة ناعمة، ونظرت إليه بنظرة حالمة، كم تمنت حقًا أن تظل هكذا ملتصقة به، فتعامل كالملكات دومًا!
اصطحبهما أحد العاملين بالفندق عبر الردهة إلى القاعة المُقام بها المؤتمر، وهناك رأت ما فاق مخيلتها من تجهيزات عالية، منصة كبيرة في المقدمة، مزدانة بمفرش أبيض اللون، بالإضافة لطاولات مستديرة وضع فوقها باقات ورد بيضاء اللون بداخل مزهريات زجاجية رفيعة، كما رص على الأسطح الأطباق الفارغة عند رأس كل مقعد، والكؤوس وأطباق المقبلات. لحظتها جال ببالها ما اعتادت على حضوره من مؤتمرات عادية، في قاعات خانقة، تعج بأشخاصٍ غرباء غير مهتمين بمظهرهم الخارجي، وهم إما ما بين مدخنٍ وبين متعرق، فكانت لا تطيق البقاء أو الانتظار لأكثر من نصف ساعة، كانت المقارنة غير عادلة بالمرة، فشتان الفارق بين المكانين.
أحست بيد "مهاب" تتلمس ظهرها من جديد، فنظرت إليه وهي ترفرف بجفنيها لتجده يشير لها بعينيه ليتجها إلى حيث الطاولة المخصصة لهما، كانت في المقدمة تقريبًا، وقبل أن تجلس سحب المقعد في لطافةٍ، لتشكره بتهذيبٍ وتستقر عليه. أجلت أحبال صوتها، واستطردت في تحمسٍ وهي تتجول بعينيها على الحضور المتناثر هنا وهناك:
-أنا أول مرة أحضر حاجة بالشكل ده!
رمقها بنظرة طويلة تحوي شيئًا غامضًا وهو يخبرها مؤكدًا من جديد عليها:
-ومش هتكون الأخيرة.
حاولت ألا تبدو متلهفة لمشاركته حياة الترف، وتساءلت عن طبيعة الأجواء، فاستفاض موضحًا:
-الفاعليات هنا مفيدة، وفي مجلات علمية ونشرات بتصدر عن أحدث حاجة موجودة دلوقتي في تخصصات الطب المختلفة.
في استحسانٍ مهتم هزت رأسها معلقة:
-كويس جدًا.
اقترب أحد الندلاء من الطاولة، حاملًا في يده زجاجة من الشمبانيا الفاخرة، قام بنزع غطائها وأفرغ القليل في كأس "مهاب"، بينما أشارت له "تهاني" بالتوقف قبل أن يقترب من كأسها، ليضعها بعدئذ في دلوٍ معدني صغير، تساءل في وقارٍ:
-سيدي، هل أحضر لكما شيئًا آخرًا؟
حرك "مهاب" رأسه بالنفي، فانصرف منتقلًا لطاولة أخرى ليقوم بخدمتها، في حين تهيأت "تهاني" لاستئناف الحديث معه؛ لكن جاءت إحدى السيدات إليهما وهي تتساءل في صوتٍ مرتفع مفعم بالحرارة:
-د. "مهاب"؟ أهذا أنت؟
افترت شفتاها عن دهشة مستنكرة، فالمرأة كانت ترتدي ثوبًا قصيرًا للغاية من اللون الأسود، ذي حملات رفيعة على الكتفين، أما ظهره فكان مكشوفًا حتى خصرها، بالكاد يصلح للارتداء في غرفة النوم حينما ترغب الزوجة في جعل زوجها يمضي ليلة لا تُنسى! انعكس الحنق على تعبيراتها، وتجهمت نظراتها وهي ترى "مهاب" ينهض لاستقبالها قائلًا بحفاوةٍ:
-لا أصدق عيناي! الجميلة "ديبرا"!
احتضنته "ديبرا" في ضمة حميمية للغاية، قبل أن تتراجع عنه، دون أن تزيح كفيها من على كتفيه، مالت مجددًا ناحيته، لتطبع على جانبي وجهه قبلات صنفتها "تهاني" بالساخنة، راقبتها في غيظٍ شبه مكبوت وهي تخاطبه في حبورٍ:
-يا لحظي السعيد الذي جعلني ألقاك اليوم.
جاء رده على نفس الدرجة من التقارب الودي الشديد:
-وأنا مثلك.
اضطرت "تهاني" أن تتحاشى النظر إليهما لئلا تزداد ضيقًا جراء ما يحدث، فنظرت إلى ما سواهما، بينما تطلعت إليه "ديبرا" بنظرة تعبر عن الرغبة قبل أن تفصح عن ذلك علنًا:
-كم اشتقت لك!
حمحم مرددًا بعد نحنحة سريعة مصحوبة بنظرة خاطفة تجاه "تهاني":
-أشكرك.
سألته في نبرة مهتمة وهي تضع يدها على رابطة عنقه لتضبطها:
-هل ستبقى جميع أيام المؤتمر أم أنك ستحضر الافتتاح فقط؟
قال بعد صمتٍ لحظي:
-لا أعلم بالضبط.
مالت عليه لتقبله في وجنته وهي تقول بصوتٍ كان أقرب للهمس:
-حسنًا رؤيتك كافية لي، وأرجو أن أراك مرة أخرى.
أحس بلهيب الشوق يندفع مع نبرتها، فعقب بهدوءٍ، وعيناه تمنحاها وعدًا صامتًا بإمكانية حدوث ما ترجوه:
-بالطبع عزيزتي "ديبرا".

استأذنت بالذهاب بعدما تذكرت أن تلقي التحية على "تهاني" كنوعٍ من اللباقة المصطنعة، كانت الأخيرة في أوج ضيقها، كزت على شفتيها محاولة كبت ما ينتابها من مشاعر ربما يمكن تصنيفها بالغيرة النسائية؛ لكنها لم تعترف بهذا لنفسها، وضعتها في خانقة الانزعاج من التجاهل والمعاملة ببرودٍ، بالكاد ألصقت بثغرها بسمة متكلفة، واستطردت تتحدث عندما عاود الجلوس مجاورًا لها:
-لطيفة أوي.
راح يخبرها بأريحية، رغم ملاحظته لأمارات التجهم المنتشرة في وجهها:
-"ديبرا" زميلة قديمة ليا، أعرفها بقالي كتير جدًا، بجد كانت مفاجأة حلوة إني أشوفها من تاني
قالت كنوعٍ من المجاملة الزائفة:
-ده واضح...
ثم سألته في نبرة شبه تحقيقية:
-بس شكل طريقتكم سوا بتقول إنكم قريبين من بعض! صح ولا أنا غلطانة في تخميني؟
أفهمها ببساطةٍ ممزوجة بالاستفزاز:
-الناس هنا أساليبهم مختلفة في التعبير عن مشاعرهم، ممكن احنا بطباعنا الشرقية نبقى متحفظين على شكل الطريقة المتجاوزة شوية، بس هما بيعتبروا أسلوبنا لو مش زيهم نوع من الرجعية والتخلف، فمتستغربيش لما تلاقيهم بيتعاملوا بودية زيادة.
حدجته بنظرة نارية وهي تهمهم بدون صوتٍ في جنبات نفسها المغتاظة:
-هي دي ودية؟ دي ناقص تنام معاك!!
استرخى أكثر في جلوسه، وقال:
-المهم أنا في النهاية تبقى علاقتي كويسة بالكل.
تظاهرت بالابتسام وهي ترد:
-تمام، مافيش مشكلة.
ثم أولته ظهرها، وادعت انتباهها الكامل لمن صعد على المنصة، فقالت بملامحٍ جادة للغاية:
-شكل المؤتمر هيبدأ، خلينا نركز فيه أحسن.
أمسك بكأس مشروبه ليرتشف منه القليل معلقًا:
-اللي يريحك.
.....................................................
وقف كلاهما أمام باب المسجد الأمامي يستقبلان المباركات بابتهاجٍ وابتسام، كان النصيب الأكبر في التهنئة لـ "فردوس"، فالنساء أحطن بها من كل جانب لمشاركتها فرحتها، وراحت الزغاريد تصدح في الأرجاء قبل أن يقوم أحدهم بتوزيع الشربات على المتواجدين. تقدم "عوض" لتهنئة العروس قائلًا برأسٍ خفيض:
-ألف مبروك، وعقبال الليلة الكبيرة.
ردت بتعابيرٍ تعبر عن فرحة حقيقية:
-كتر خيرك، وربنا يرزقك إنت كمان بواحدة كويسة.
هز رأسه بإيماءةٍ خفيفة، وتحرك مبتعدًا لتجيء "أفكار" وتقف أمامها وهي تزغرد عاليًا، أخذتها في حضنها قبل أن تنهال عليها بوابلٍ من القبلات المتكررة على كل وجنةٍ وهي تخبرها:
-وربنا يومك كان خفيف وحلو.
هتفت مبتسمة بسعادة لا يمكن إنكارها:
-تسلميلي يا خالتي.
ربتت على جانب ذراعها واستحثتها:
-شدي حيلك بقى وشوفي اللي ناقص، عاوزين جوازتك تتم على طول.
أطرقت رأسها في حياءٍ خجل، وردت:
-وقت ما سي "بدري" يقول.
ما إن سمع الأخير اسمه يردد حتى دنا منهما متسائلًا في مزاحٍ:
-خير بتجيبوا في سيرتي ولا إيه؟
بلا ترددٍ أخبرته "أفكار" في رنة حماسة تغلف نبرتها:
-عاوزين نشوفكم ياخويا على فرشة واحدة قريب.
تبسم معقبًا:
-إن شاءالله يا خالة.
أطلقت ضحكة مرحة قبل أن تميل بوجهها ناحيته لتهمس له في عبثيةٍ، وكأنها تحفز فيه مشاعره كرجلٍ للظفر بليالٍ مِلاح مع عروسه:
-اتجدعن ولِم مراتك في حضنك، عشان تدوق طعم السعادة اللي بجد.
تحرج من تجرؤها، وقال وهو يخفض رأسه:
-ربنا ييسر.
رفعت إصبعها أمام وجهه هاتفة بما يشبه التحذير اللطيف:
-كبيركم شهر يا ابني، معنداش حد يطول عن كده في كتب الكتاب.
تدخلت والدة العريس قائلة بجديةٍ وهي تقوس فمها في شيءٍ من التبرم:
-هو هيروح منها فين يعني؟ ما هي اتكتبت على اسمه خلاص!
ردت عليها "أفكار" بتعبيرات بشوشة، غير مكترثة بتجهمها:
-ربنا يصلح حالهم سوا ويبعد عنهم أي شر.
نظرت لها بتأففٍ قبل أن توجه كلامها لابنها صائحة بتذمرٍ:
-مش كفاية واقفة يا ابني في الطل؟ أنا رجلي مابقتش شيلاني.
هز رأسه هاتفًا:
-حاضر يامه.
ثم أشار لزوجته لتتحرك معه مُردفًا:
-بينا يا "فردوس".
قبل أن تعلق الأخيرة ذراعها في ساعد زوجها، لكزتها والدته دافعة إياها للخلف، وهدرت في احتجاجٍ ناقم:
-ياختي متسربعة على إيه؟ اسندني أنا يا "بدري"، بقولك مش قادرة أقف على حيلي.
نظرت لها "فردوس" مذهولة، وبشفتين منفرجتين، فلم تعبأ بها حماتها، ووكزتها مرة أخرى لتبعدها عن محيطها قائلة بنوعٍ من الإهانة، وبصوتٍ مرتفع ولافت للأنظار أيضًا:
-حاسبي شوية مايتبقيش لازقة زي البق كده!!!
تجمدت في مكانها مصدومة مما حدث بشكلٍ فج تسبب في إحراجها أمام الحاضرين، خاصة وقد بدأت الهمهمات تصدر من حولها، حينها أقبلت عليها خالتها لتحاوطها من كتفيها، ضمتها إلى صدرها، واستحثتها على السير معها قائلة في أذنها:
-تعالي يا "دوسة"، متزعليش نفسك...
سرعان ما ترقرقت الدموع في عينيها تأثرًا بهذه الحدية الغريبة، فحاولت خالتها تهوين الأمر بإخبارها في صوتٍ خفيض، وقد تأبطت ذراعها:
-هي بس عاوزة تعمل عليكي شغل الحماوات عشان تضايقك، بس ولا يهمك، إنتي ليكي في الآخر إنه ينام في حضنك.
تعلقت أنظار "فردوس" بظهر زوجها، ورأت كيف يشارك والدته الضحك والهِزَار، وكأنه تناسى أمر إحزانها تمامًا، مما جعل صدرها يوغر بالضيق والهم. شدت "أفكار" من قبضتها على ذراعها المتعلقة به، وواصلت كلامها المحفز إليها:
-اضحكي، وافرسيها يا بت، ماتخليهاش تغلبك بعمايلها المفقوسة دي.
سحبت "فردوس" نفسًا عميقًا لتثبط به نوبة البكاء الوشيكة التي تهدد بمهاجمتها، وردت بصوتٍ مختنق:
-طيب.
تصنعت الضحك رغم الحزن الذي يعبئ صدرها، وراحت ترفع من صوتها بالتدريج لتغطي على ألمها المعنوي، قاصدة أن تلفت انتباه والدة زوجها بالتحديد، لتشعرها بأنها لم تحقق غرضها بمضايقتها، معتقدة بذلك أنها نالت انتقامها من فظاظتها غير المقبولة!
.....................................................
فاقت كامل توقعاته حين اعتقد أنها مجرد امرأة عادية، لا تفرق عن غيرها في شيء، بل على العكس أُغريت سريعًا ببريق امتلاك المال ووهج تأثيره الخطير على النفس؛ لكن اليوم تفاجأ بها كواحدةٍ أخرى لأول مرة يعرفها، فخلال فاعليات المؤتمر، راحت تناقش برزانة وثقة ما يتم تداوله بإسهابٍ، لتصبح محط الأنظار من الجميع، حتى أنها دفعت المحاضر الرئيسي لتقديم شكرٍ خاص لها كتعبيرٍ عن تقديره الشخصي لحماسها المتقد. استدارت "تهاني" ناظرة إلى "مهاب" بقدرٍ من الغرور، فبادلها نظرة إعجاب صريحة قبل أن يخبرها مبتسمًا:
-إنتي الصراحة أبهرتيني بذكائك.
اكتفت بالابتسام في زهوٍ، فأشار لها بيده لتسير معه خارج القاعة وهو يستأنف حديثه إليها:
-خسارة إن واحدة زيك مش متقدرة في بلدنا.
زفرت الهواء سريعًا لترد بعدها على مضضٍ، متذكرة كيف كان يُحط من شأنها في أغلب الأوقات إرضاءً لأشخاصٍ بعينهم:
-عشان كده كان نفسي أسافر وأثبت نفسي في مكان يستحقني.
كتمت شهقة خافتة قبل أن تنفلت من بين شفتيها عندما امتدت ذراعه لتحاوطها من خصرها، أحست بنبضها يتسارع، وبخفقات متلاحقة في صدرها، نظرت إليه عن قربٍ وهو يشملها بعينيه العميقتين مؤكدًا لها بهذا الإيحاء الموتر لها:
-متقلقيش، كل أحلامك معايا هتتحقق.
لطمت بشرتها سخونة أنفاسه وهو يكمل بهمسٍ خطير:
-أنا موجود عشانك.
تجاوزه معها بعد تناوله هذا القدر من الخمر يزيد من تلبكها وخوفها في آن واحد، لن تنكر أنها تنجذب إليه، وتستأنس بأحاديثه وخبراته العريضة في المجال الطبي؛ لكنها في نفس الوقت تخشى تهوره في لحظة طيش غابرة، وهذا ما لا تحبذه، فقد يدفعه غياب وعيه تحت تأثير المواد المُسكرة لحصر تفكيره في شيءٍ بعينه، قد يودي بها للهلاك الحتمي، لذا لا إراديًا انطلقت شارات الإنذار في عقلها لتحثها على الانتباه وتوخي كامل الحذر معه، حاولت أن تنسل من ضمته غير الكاملة، تاركة بينهما مسافة معينة، فسألها وهو يقترب مجددًا منها:
-مش جعانة؟
ردت بترددٍ وهي تضم أصابع يدها معًا مكونة قبضة صغيرة؛ كأنما تحاول بها إخفاء توترها:
-يعني .. شوية.
استخدم ذراعه ليشير نحو المخرج الجانبي وهو يخاطبها:
-طب تعالي.
تعقد جبينها للحظة حين تساءلت مستغربة:
-هو احنا مش رايحين مطعم الفندق ده؟
قال نافيًا، وابتسامة عذبة تشكلت على فاهه:
-لأ، في مكان تاني هوديكي عنده.
سارت معه إلى الخارج، فلفحها الهواء البارد بقسوةٍ، أسرعت بضم ياقتي معطفها معًا لتدفئ عنقها، وتحركت على الرصيف المرصوف بالحجارة نحو جراج السيارات لاستقلال تلك التي جاءا فيها؛ لكنها تعثرت في مشيتها، وكادت تنكفئ على وجهها عندما علق كعب حذائها فجأة في إحدى الفجوات الصغيرة، فصرخت بغتةً وقد حافظت على اتزان جسدها وحالت دون سقوطه:
-آه!
استدار "مهاب" كليًا تجاهها، وسألها في توجسٍ وهو يمد يده لإسنادها:
-إنتي كويسة؟
اعتدلت في وقفتها، وخفضت ذراعها، ثم ردت وهي تحاول تحرير كعب حذائها العالق دون أن تنحني:
-أيوه.
انقلبت تعبيراتها للضيق الحرج حينما رأت ما حل بحذائها، انحنت لتلتقط الجزء المفصول والعالق بالفجوة الصغيرة، لتقول في خجلٍ:
-ده الكعب اتكسر، أنا أسفة جدًا.
اندهش من اعتذارها الغريب معقبًا:
-الموضوع مش مستاهل، عادي بتحصل.
طأطأت رأسها في حرجٍ متزايد، وقالت وهي تنزع الحذاء عن قدمها:
-أنا مكسوفة من حضرتك جدًا.
اضطرت "تهاني" أن تثني ساقها بعدما لسعت البرودة القارصة باطن قدمها، وأضافت وهي تشير ناحية مدخل الفندق:
-أنا هرجع الفندق تاني، وأحاول أشوف حل للمشكلة دي، حضرتك تقدر تروح المطعم اللي إنت عاوزه، متعطلش نفسك عشاني.
اعترض عليها بصوتٍ وملامح هادئة:
-إنتي هتفضلي معايا، دي مشكلة بسيطة، وحلها موجود.
طالعته باستغرابٍ حائر، فسألها بغموضٍ وهو يفرد ذراعيه لها:
-تسمحيلي؟
ظلت على نظرتها المتحيرة، فوجدته يدنو منها، قبل أن ينحني ليحملها بين ذراعيه في خفةٍ، لتشهق مصدومة من تصرفه المفاجئ لها، سرعان ما تدفقت الدماء الحارة في شرايينها لتغزو وجهها، مؤكدة على شعورها بالحرج والذهول. في التو استنكرت ما فعلته، وحاولت حثه على إفلاتها:
-مايصحش يا د. "مهاب"، الناس تقول علينا إيه؟!!
أخبرها بجرأةٍ صادمة لها، وبما جعل قلبها يقصف كذلك:
-أنا لو بوستك حتى محدش ليه الحق يعترض!
هتفت محتجة بارتباكٍ عظيم، وقد استندت بكفيها على صدره:
-لأ أرجوك.
منحها هذه الابتسامة الماكرة وهو يخاطبها:
-متقلقيش، مش هعمل حاجة غصب عنك، إنتي غير أي واحدة.
لاذت بالصمت، وتجنبت النظر إلى عينيه نهائيًا وهو يسير حاملًا إياها تجاه السيارة؛ لكنها لن تنكر أنها استمتعت رغم توترها بهذا الشعور الجارف لكل ما هو عقلاني!
.........................................
بابتسامةٍ صغيرة وملامحٍ وديعة وقفت على عتبة الحمام تنتظر انتهائه من غسل يديه لتعطيه المنشفة القطنية النظيفة ليجففهما بها بعدما تناول الطعام في بيتها تلبية لدعوة أمها حينما انقضى عقد القران. سحبها "بدري" من يدها بخشونةٍ، ونشف كفيه ليعيدها إليها دون أن ينبس بكلمة شكرٍ حتى، ثم تجاوزها في عبوسٍ باعث على الاسترابة ليعود إلى الصالة، لحقت به "فردوس" والحيرة تسبقها، ازدردت ريقها، وجلست إلى جواره واضعة أمامه كوب الشاي الساخن، اعتدلت في جلستها متسائلة بتوجسٍ قلق وهي تناظره من موضعها:
-مالك يا سي "بدري"؟ من ساعة ما أعدنا على السفرة وإنت وشك مقلوب؟
أجابها بصيغة تساؤلية مليئة بالاتهام:
-عجبك المرقعة اللي إنتي كنتي فيها دي؟
بهتت تعابيرها خوفًا من غضبته الظاهرة، وراحت تعتصر ذهنها لتتذكر كيف ومتى أحرجته وتسببت في مضايقته، حينما عجزت سألته بصوتٍ شبه مرتعش:
-مرقعة إيه لا سمح الله؟
أجابها بنفس الصوت اللائم وشبه المنفعل رغم خفوته:
-الضحك والكركرة اللي كانوا في الشارع قصاد الناس، خلاص فِشتك عايمة على الآخر!
تذكرت ما اقترحته عليها خالتها لرد الصاع صاعين لحماتها اللئيمة حين أفسدت عليها فرحتها، وكيف انتهى بها المطاف الآن في وضع الاتهام لا التودد والتدليل. حاولت التبرير له، فأفهمته بتلعثمٍ:
-دي خالتي.. كانت قالتلي إن آ...
لم يمهلها الفرصة للتوضيح، وقاطعها بصوتٍ حاسم، وملامح صارمة:
-بصي يا بنت الناس لا خالتي قالت ولا خالتك عادت، أنا مش جاي أتجوز عشان أجيب لنفسي وجع الدماغ...
انقبض قلبها توجسًا، وأحست بطعم المرارة يملأ حلقها، فتابع على نفس النهج القاسي:
-أنا عاوز اللي تريحني، مش ناقص هم وقرف.
في التو أبدت ندمها قائلة دون تفكيرٍ:
-حقك عليا.
سكت ولم يقل شيئًا، فاستأنفت بحذرٍ وهي تقاوم زحف الدموع إلى مقلتيها:
-بس إنت برضوه زعلتني لما سبتني وروحت مع أمك، وكأني مش مراتك!!
هتف في صوتٍ محموم:
-هو احنا لحقنا؟!!
برقت عيناها ارتياعًا، وراح الفزع يتولاها من كل جانب، كأن هناك هجومًا ضاريًا على أعصابها دفعة واحدة، عندما صاح في عتابٍ حانق:
-ما إنتي شوفتي بنفسك إنها مش قادرة تقف، عاوزاني أعمل إيه وهي ست كبيرة؟ أقف اتفرج عليها لحد ما تقع من طولها؟
انحشر صوتها وهي ترد بنبرة مهتزة:
-لأ، بس آ...
مرة ثانية قاطعها رافعًا يده أمام وجهها ليهددها:
-من غير بسبسة، اللي حصل حصل خلاص، من هنا ورايح تاخدي بالك من تصرفاتك، سامعة؟ وإلا هتلاقي الرد مايعجبكيش!!
أذعنت أمام تحذيره القوي، وردت في طاعة تامة:
-ماشي كلامك يا سي "بدري".
تحول نظرها عنه، وراحت تلوم نفسها بشدة لأنها انساقت وراء خالتها، ولم تضع في الحسبان أنها بذلك تُحزن زوجها. ودت لو عاد بها الزمن للوراء واكتفت بالسير صامتة، لربما آنئذ نالت رضائه، وكلمة حنونة منه!
...........................................
كانت تشعر بنوعٍ من الغنج والدلال وهي تنتقي بين ماركات الأحذية ما يناسب مقاس قدميها، بدت وكأنها في عالم من سحر الموضة المشوق، لحظات لا تعوض عاشت كل ثانية فيها بنشوة عارمة، دارت حول نفسها وهي لا تصدق حقًا أنها ترتاد أحد أهم متاجر بيع الأحذية. بعد حينٍ من التجارب، وجدت واحدة ملائمة لها رغم تحيرها في حسم اختياراتها، فكل ما وقعت عليه عينيها كان رائعًا للغاية. تجولت في تبخترٍ أمام ناظري "مهاب" وهو جالسٌ على الأريكة، ثم رفعت قدمها قليلًا عن الأرضية لتبرز شكل الحذاء في قدمها وهي تهتف بابتسامةٍ لهفى:
-تحفة أوي، ومريحة جدًا.
قال وهو يبادلها الابتسام الهادئ:
-المهم إنها عجبتك.
بعدئذ أشار للعاملة في المتجر لتأتي له بالفاتورة، فاستجابت له في التو. انتظرت "تهاني" ذهابها، وتقدمت ناحيته، ثم جلست على حافة الأريكة الوثيرة، وراحت تتحسس ملمس الجلد الثمين بيدها، لترفع نظرها إليه مضيفة بقليلٍ من الحرج:
-بصراحة دي أول مرة ألبس حاجة زي كده في حياتي...
للحظةٍ تحسرت على حياتها البائسة التي جعلتها محرومة تقريبًا من رفاهية الدنيا ومتعها المغرية، قامت واقفة، وتابعت وهي تتطلع إليه بتعبيرٍ واجم، لتقنعه بأنها غير راضية عن هذا الموقف المخجل بتاتًا:
-بس أكيد غالية، وصعب إني آ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها قائلًا وقد فهم ما ترمي إليه:
-ماتغلاش عليكي.
حفظًا لماء الوجه، حاولت أن تقول بعزة نفس:
-أنا هرد لحضرتك تمنها.
نهض قائمًا، ودنا منها مرددًا في عتابٍ رقيق:
-عيب الكلام ده يا دكتورة، دي هدية بسيطة مني ليكي، وهي مش من مقامك أصلًا.
أصرت على رأيها هاتفة:
-بس كده كتير، وآ..
مجددًا قام بمقاطعة كلامها مؤكدًا لها بنبرة موحية:
-وإيه يعني؟ دي مش هتكون آخر مرة أهاديكي بحاجة.
نظرت له بامتنانٍ رغم القلق الذي ما زال يراود عقلها، جمَّلت وجهها بابتسامة خجلة؛ لكنها لاحظت تحول نظراته عنها، وأتبعها ذلك قوله المريب:
-لحظة واحدة!
تحرك مبتعدًا عنها نحو موضعٍ ما خلفها، فالتفتت تتابعه بتحيرٍ، وجدته يسحب واحدًا من الإيشاربات المزركشة من على حاملٍ معدني بعد تدقيقٍ سريع، استدار عائدًا إليها ثم فرده في الهواء بين يديه، ليديره حول عنقها، ثم طوقها به، فاقشعر بدنها من الملمس الناعم للقماش على جلدها، أحست كذلك بأصابعه وهي تداعبها خلسة، شدها منه ليجذبها ناحيته ويقربها إليه، انساقت كالمغيبة تجاهه، حتى اضطرت أن تريح مرفقيها على صدره، مستشعرة نبض قلبه أسفل يديها، رمشت بعينيها وهي تنظر إليه مباشرة، فعقد طرفي الإيشارب معًا وهو يخبرها بصوتٍ أقرب للهمس:
-ده كمان هيبقى شكله تحفة عليكي.
لم يرخِ يديه بعدما ربطه، بل استمر في جذبه الرقيق لعنقها جاعلًا وجهها أسيرًا له، رأت كيف ترتعش شفتيه بالرغبة وهو يتغزل بها في هسهسة حارة:
-إنتي جميلة أوي.
كاد ينجح في إغوائها لتقبله؛ لكنها صدت محاولاته في اللحظة الأخيرة بإبعاد وجهها، ودفعه برفقٍ من صدره وهي تخاطبه في لهجة اتخذت شكلًا رسميًا رغم خفوتها:
-د. "مهاب"! من فضلك!
ظل متسمرًا في مكانه وهي تبتعد مسافة عدة خطوات، كأنها تنأى بنفسها من تأثيره الطاغي، لتتساءل وهي تلتقط حقيبتها لتعلقها على كتفها:
-هو المطعم قريب من هنا؟
دس يده في جيب بنطاله، وأجاب:
-أيوه.
أبقت على ابتسامتها الرقيقة وهي تسأله:
-طب مش هنروح ولا إيه؟
أشار لها بيده الأخرى الطليقة لتخرج قائلًا:
-اتفضلي.
هزت رأسها مرددة بإيجازٍ دون أن تخبت بسمتها:
-شكرًا.
......................................
ما زالت لمعة الانبهار تحتل نظراتها كلما زارت مكانًا جديدًا، أو استمتعت بشيءٍ لم تجربه سابقًا. تذوقت "تهاني" أشهى أنواع الطعام، واستطابت ما تناولته من وجبة مميزة بهذا المطعم الراقي، لم تشعر بالوقت يمضي وهي بصحبة مُضيفها، بل إنها استأنست كثيرًا بوجوده، وشعرت بتناغم غير طبيعي معه، ورغم تحفظها الواضح على معاقرته للشراب، إلا أنها لم تظهر اعتراضًا متحيزًا ضده، على الأقل ريثما تتوطد علاقتهما بشكلٍ أقوى، أو أن تتخذ طابعًا رسميًا، وإلا لضاعت جهودها سدى.
أمام ردهة باب غرفتها بالفندق وقفت تصافحه وهي تبدي عُرفانها بما قدمه لها طوال اليوم:
-ميرسي على اليوم الظريف ده، أنا مكونتش متخيلة إني هستمتع كده.
بلطافةٍ موحية ما زال باقيًا عليها قال وهو يحتضن كفها براحتيه:
-ده بس لأنك موجودة معايا...
حاولت استعادة يدها وسحبها من بين قبضتيه؛ لكنه رفض تركها، وتابع بتنهيدة ثقيلة مغلفة برغبة متأججة:
-ونفسي تفضلي كده.
تقدم منها، فتراجعت بشكلٍ تلقائي للخلف، إلى أن حاصرها بين جسده والباب الخشبي، فاضطربت، وتلبكت، وتوترت للغاية من محاولته المكشوفة للتودد إليها بشكلٍ حميمي، قاومته قدر استطاعتها، وهتفت تناديه بشيءٍ من الذعر:
-دكتور "مهاب"!
لامس بشفتيه جلد عنقها، فلفحتها حرارة أنفاسه، انتصبت شعيرات جسدها، وراحت الوخزات الموترة تضرب كل كيانها، تضاعفت رجفتها حين همس لها بشوقٍ آخذٍ في التعاظم:
-مش قادر أمنع نفسي!
توسلته بارتعاشٍ:
-أرجوك...
تجاوزت عن ندائها المستجدي لعقلانيته شبه المغيبة، اضطرت أن تلجأ للجفاء معه، لئلا تندم لاحقًا على تراخيها، لذا جاء في باقي جملتها قدرًا من التهديد عندما تابعت:
-إنت كده هتخليني أندم إني وافقت أجي معاك.
أبعد رأسه عنها ونظر إليها بغموضٍ مريب دون أن ينطق بكلمة، ومع ذلك تمسكت بصمودها، وإن كان مهددًا للخروج من جنة دُنياه الثرية بكل ما تشتهيه النفس، دفعت للخلف قائلة بصوتٍ جامد:
-تصبح على خير.
تراجع مسافة متر ملوحًا لها بيده قبل أن يرد بهدوءٍ غريب:
-وإنتي من أهله!
لم تنظر تجاهه، وأسرعت بفتح الباب لتدلف إلى الداخل، وهي بالكاد تحاول السيطرة على رعشة أطرافها، أوصدته مستندة بظهرها عليه محاولة استعادة انضباط حالها المتخبط، حذرت نفسها بصوت العقل:
-اجمدي كده يا "تهاني"، لو خدك للسكة دي هتبقي خسرتي كل حاجة قبل ما تملكيها من الأساس!
سحبت نفسًا عميقًا لتعيد الهدوء إلى أوصالها، ثم تابعت مع نفسها، وكأنها تعطيها تحذيرًا شديد اللهجة:
-هو بيلعب بالنار، بس إنتي اللي هتتحرقي بيها لو ضعفتي، خليه يتعلق بيكي الأول، ده المهم، وده اللي هيوصلك لدنيا العز اللي بتحلمي بيها.
لم يطرأ على بالها العشق أو حتى اشتهاء متعته الشقية، إلا حينما أصبحت تحت وطأة ضغوطات حميميته المخيفة، راحت تكرر على مسامعها نفس العبارات المحذرة لتردع ما يناوش مشاعرها كأنثى من تقارب وتجاذب، قبل أن يتفاقم الأمر وتعجز عن كبح جموحه، ففي الحب تُعمى الأبصار عن رؤية العيوب، كما يُحجب المنطق ويُسلب من أذكى العقول.
......................................
-لم أتوقع أن تأتي الليلة!
قالت "ديبرا" بهذه العبارة المندهشة وهي تستقبل في غرفتها بالفندق ضيفها المشتعل برغباته، والمدفوع بجوعه العاطفي بعدما لعبت الخمر برأسه، وجعلته يصل إلى ذروة اتقاد حواسه. اندفع إلى الداخل وهو يقبض عليها من منبت ذراعها بيده، بعدما صفق الباب بقدمه، قادها للأمام في لهفةٍ متزايدة لتحاول مجاراته وهو ينهال عليها بقبلاتٍ نهمة ومتعطشة للمزيد. طرحها على الفراش بعدما استل ثوبها القصير، لتصبح كقطعة حلوى شهية جاهزة لأكلها، تمدد فوقها مدمدمًا بلهاثٍ متلاحق:
-أرغب بكِ بشدة.
تعجبت من ثورة مشاعره الحسية وفورانها بهذه الطريقة الغريبة، وخاطبته بميوعةٍ وهي تحتضن وجهه بيديها:
-تريث قليلًا، عزيزي، ما زال أمامنا الليل بأسره.
-لا أستطيع.
ردد "مهاب" هذه الجملة المقتضبة، وهو ينتزع رابطة عنقه، ليمسك بعدها بمعصميها، قيدها منهما، قبل أن ينحني مجددًا على شفتيها ناهلًا منهما قدر ما يستطيع من حلوها، شعر بها تقاومه وهو يعيث فيما تملك من مقوماتها المغرية، فرفع نظره إليه ليجدها تحتج في تذمرٍ متدلل:
-أنت تؤلمني!
اعتلى وجهه هذه الابتسامة الخطيرة الواثقة، لتتوهج بعدها عينيه بوميضٍ مستثار وهو يسألها ليتأكد:
-ألا تفتقدين تقاربنا؟
أطلقت ضحكة ماجنة، وتقلبت على جانبها لتبدو أكثر إغواءً وهي تخبره بعد لحظةٍ من الصمت:
-ممم، حسنًا، أنا أعطيك الأفضلية عن "ممدوح" في إيقاظ مشاعر الحب بي.
على حين غرة تحول لقطعة من الجليد بعد إفسادها للحظة التجلي هذه بعقد تلك المقارنة السقيمة بينهما، لتذكره بأن رفيقه كان ولا يزال يناطحه فيما يجيد فعله مع النساء بتفردٍ ومجون، وكأنه مفسد متعته الاستثنائية التي ينتشي بها، فَقَدَ فجأة روح الشغف والاشتياق لتمضية لحظات عاصفة، جنونية، وغير منضبطة بشروط معها. نظرت له "ديبرا" باندهاشٍ وهي تتساءل بوجهٍ يضم علامات الحيرة:
-لماذا توقفت؟
حل وثاق يديها قائلًا بجفاءٍ مريب قبل أن يستقيم واقفًا:
-لم أعد أريد.
استنكرت للغاية عزوفه الغريب عنها، وسحبت الغطاء لتلف به ما برز من مفاتن جسدها، ثم نهضت من رقدتها تسأله وهو يسير متباعدًا عنها:
-ما الذي حدث؟ فيما أخطأت عزيزي "مهاب"؟
وقف أمام المرآة يهندم ثيابه التي تبعثرت، ثم وضع رابطة عنقه حول ياقة قميصه، شعر بها تضمه من الخلف، كمحاولة غير مؤثرة منها لإعادته لوتيرة اللهفة مجددًا. مرغت وجهها في ظهره متسائلة في صوت ناعم:
-ألست أنا من تهوى الجموح معها؟
أطبق على شفتيه رافضًا قول أي شيء، نبذها بنظراتٍ قاسية جعلتها تستهجن هذه المعاملة الجافة منه، لوح لها بيده كنوعٍ من التوديع لها، فصاحت من ورائه تناديه بضيقٍ:
-"مهاب"، انتظر.
خرج من غرفتها سائرًا بتعصبٍ متجاهلًا ندائها المتكرر من ورائه، ليستحوذ على تفكيره فكرة واحدة فقط، ولا غيرها لتنفيذها مهما تكلف الأمر، الفوز بلا منازعٍ في اصطياد الضحية الجديدة .


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close