اخر الروايات

رواية رحلة الآثام الفصل الاربعون 40 بقلم منال سالم

رواية رحلة الآثام الفصل الاربعون 40 بقلم منال سالم


الفصل الأربعون
(الطامة الكُبرى)
في لحظة تجلي عابرة، لا تذكر تحديدًا متى حدثت؛ لكن حامت خلالها المشاعر والرغبات الإنسانية، فأطفأت ظمأ الجسد لما يرويه، أتت النتيجة غير متوقعة بالمرة، بل صادمة على كافة الأصعدة! ضربت "فردوس" على رأسها عدة مرات، وهي تكاد لا تصدق ما سمعته من جارتها كتفسيرٍ منطقي لما تمر به، أعادت عليه سؤالها لتقطع الشك باليقين:
-إنتي متأكدة ياختي من كلامك ده؟
هزت "إجلال" رأسها بالإيجاب وهي توضح لها:
-أيوه، إنتي شكلك حبلى، ولو تفتكري ده كان نفس حالك أيام "تقى".
خفضت من يدها لتلطم على صدغها وهي شبه تنوح في تذمرٍ كبير:
-يادي المصيبة اللي مكانتش على البال ولا على الخاطر!!
نظرت إليها باستغرابٍ، و"فردوس" لا تزال على ندبها المستنفر:
-هو أنا هلاحق على إيه ولا إيه؟
ردت عليها قائلة بعتابٍ خفيف:
-ده رزق من ربنا، ماتقوليش كده.
زمت شفتيها في اعتراضٍ ساخط، فتساءلت جارتها في فضولٍ:
-المهم هتعرفي سي "عوض"؟
أخبرتها بنفس التجهم العابس:
-مش لما نشوف الدكتورة الأول، بعد كده أبقى أقوله.
ظلت على تبرمها وهي تنظر إلى رضيعتها بنظرات غير راضية، فاستمرت تهمهم في لهجة شاكية:
-أل كانت ناقصة حَبَل من تاني!
................................................
في طرفة عين، سلبته الحياة جوهرتيه، وتركته يعاني ويلات الفراق، وألم الخسارة الموجع. ظن "ممدوح" أن ما حدث مجرد كابوس لحظي، سينتهي فور أن يستفيق من غفوته الفجائية؛ لكن الحقيقة المريرة جعلته يدرك أن ما فُقد لن يعود مهما فعل. حاول "مهاب" مواساته في فجيعته، وقال وهو يربت على كتفه بتعاطفٍ واضح، أثناء جلوسهما في الردهة المجاورة لحجرة المشرحة:
-مش عارف أقولك إيه، بس ده قضاء ربنا.
نظر إليه كالمذهول، تتحجر في عينيه العبرات، لا يجرؤ على البكاء، وكأنه يخشى إن ذرف الدموع فإنه يقر بذلك بوفاة غاليتيه، سأله في تعابير ذاهلة، وصوت أجوف:
-إزاي ده حصل؟
وكأن في سؤاله اتهامًا خفيًا له، حاول رفيقه مواراة ذلك التوتر الذي اعتراه، ففرك طرف ذقنه بحركة سريعة، وأجابه متجنبًا التحديق في عينيه، لئلا يكتشف تورطه المتعمد في هذه الجريمة النكراء:
-محدش لسه عارف...
ثم حمحم مضيفًا في نبرة جادة:
-بس أكيد التحقيقات هتبين المسئول، وهيتحاسب.
كان عقل "ممدوح" متأرجحًا بين التصديق والإنكار، في لحظة معينة تدارك ما جرى وحل برضيعتيه، آنئذ عرف معنى أن تسحق الرجاوات على صخرة الواقع المؤلمة، تعلقت نظرته بلافتة الحجرة المقبضة للصدر، وصوت رفيقه يردد على مسامعه بأسلوب المواساة المليء بالرثاء:
-أنا عاوزك تجمد وتشد حيلك.
انحبست أنفاسه، واتسعت عيناه، وارتفع حاجباه للأعلى، مستشعرًا مدى الألم الذي يعتصر قلبه لاستيعابه رحيلهما القاسي، تأهب كل ما فيه في استنفارٍ غير مبشر ورفيقه لا يزال يكلمه في هدوءٍ متوهمًا أنه تقبل ما حدث:
-وأنا جمبك مش هسيبك.
استنكر تمامًا فقدانهما، وانتفض قائمًا من على المقعد ليصرخ في وجهه:
-إنت بتتكلم كده ليه؟
طالعه بغرابة وهو ينهض بدوره ليواجهه بصوت العقل، ومع ذلك رفض "ممدوح" الإنصات إليه، وواصل الصراخ المنفعل:
-بناتي لسه عايشين، ودلوقتي هاخش أخدهم في حضني.
دفعه ليتجاوزه، فمنعه من الدخول محاولًا احتضانه وهو يواسيه:
-قلبي عندك يا صاحبي.
نجح في إيقافه، فتخشب "ممدوح" في موضعه، ليحدق فيه بجمودٍ، ووجهه يبدو كالموتى في شحوبه، أمسك به "مهاب" من منبتي ذراعه، وهزه برفق وهو يخاطبه:
-أنا عارف الصدمة صعبة، وخسارتك ما تتعوضش.
رفض الإصغاء لما اعتبره لغوًا فارغًا، وهدر في غضبٍ شبه مستعر:
-ولا كلمة زيادة، بناتي مماتوش.
ثم راح يدفعه بخشونةٍ قاصدًا تجاوزه والمرور لداخل الحجرة المشبعة برائحة المــــوت، منعه "مهاب" من بلوغها، وصاح مناديًا في أحد الممرضين:
-شوفلي حد يجيبلي حقنة مهدئة بسرعة.
في التو استجاب لأمره:
-حاضر يا دكتور.
فرقع "مهاب" بإصبعيه ليستدعي آخرين ليساعدوه في إيقاف رفيقه، والسيطرة عليه قبل أن تتأجج نوبة هياجه المنفعلة، تعاونوا معًا ليسقطوه أرضًا، وحاولوا تثبيته رغم مقاومته الشديدة، ظل "مهاب" يكلمه في صوتٍ هادئ، ساعيًا لكبح هياجه المبرر؛ لكن الأخير واصل صراخه الثائر:
-أنا مش مجنون، هما لسه عايشين، وأنا هاخدهم من جوا!
انتفض بقوةٍ ليتخلص ممن يقيدون حركته، ومع ذلك عجز عن الخلاص منهم، بسبب كثرة عددهم، فارتفعت نبرته الغاضبة لتجلجل بين الجدران:
-سامع يا "مهاب"؟ بناتي لسه عايشين.
عاد الممرض حاملًا إحدى الإبر الطبية المملوءة بهذه المادة المهدئة، فأعطى "مهاب" أمره للبقية بإزاحة كم قميصه وتثبيت ذراعه بإحكامٍ، ليتمكن من غرز طرفها المدبب في جلده، وحقن دمائه بما فيها، ليستكين بعد عدة ثواني ويستسلم قسرًا لما ثبط كامل مقاومته.
........................................
مشاحنته معه –بعيدًا عن المتلصصين والأعين الفضولية- كانت لها أسبابها القوية، فبعد تأكيدات مزعومة بقدرته على إزاحة من يشكلون أكبر التهديد له، وجد "مهاب" نفسه موضوعًا في موضع الاتهام والشك، لهذا لم تأخذه رأفة بمن ورطه في هذا الحريق، وراح يتوعده بكل ما مُهلك له لإهماله الجسيم، كاد يقذفه بمنفضة السجائر الكريستالية وهو يعنفه بحنقٍ متزايد:
-إنت بغباوتك كنت هتضيع ابني كمان!
نكس الرجل رأسه في خزي، وحاول التبرير:
-يا باشا آ...
قاطعه قبل أن يسمع ترهاته غير المجدية صائحًا بحزمٍ وهو يترك المنفضة من يده:
-اخرس، ولا كلمة زيادة!
التزم الصمت، فتابع "مهاب" هديره مشيرًا له بإصبعه:
-إنت تختفي خالص، مش عايز ألمح أي أثر، ولا كأن ليك وجود.
بالطبع لم يكن أمامه أي سبيل سوى إطاعته، خاصة بعد فشل الخطة، وتعقد الأمور، لهذا قال في خنوعٍ:
-أوامر سعادتك.
أخرج "مهاب" من درج مكتبه العلوي رزمة من النقود، ألقاها على سطح المكتب معيدًا عليه أوامره المشددة:
-خد دول، وما تظهرش تاني إلا لما أقولك.
فور أن رأى الأوراق النقدية ذات الفئة العالية، سال لعابه، وبرقت عيناه في شره طامع، في التو مد يده، وانحنى ليلتقط المال قبل أن يدسها في جيبه هاتفًا بابتسامة خفيفة:
-حاضر يا دكتور.
اغتاظ من ذلك التعبير الذي أبداه على وجهه، فنعته بلفظٍ نابٍ، ثم أمره:
-يالا غور من وشي.
انصرف في الحال، ليجلس "مهاب" على مقعده وهو يحتقن غيظًا من تبعات رعونته، أطلق زفيرًا طويلًا، ثم دمدم في هسيس لا يزال محتدًا:
-غبي!
شبك كفيه المتشنجين معًا، وأسندهما على سطح المكتب مُحادثا نفسه بعزمٍ شديد:
-من هنا ورايح لازمًا أتصرف بنفسي، واتأكد إن كل حاجة هتمشي زي ما أنا عاوز، ساعتها بس هبقى نجحت أعمل اللي أنا عايزه!
..........................................
توالت عليها الصدمات المفاجئة كطوفان يجرف في طريقه كل ما يعترضه، ارتعش ذراعاها وهما يحملان هذه الرضيعة الصغيرة التي ألقيت في حجرها، أحست "ناريمان" بموجات من التوتر المشوب بالخوف يغمرها، حملقت بفمٍ مفتوح إلى زوجها وهو يسرد عليها بإيجاز، كيف تمكن من خداع رفيقه، ليوهمه بأنه فقد كلتا ابنتيه في حادث الحريق المأساوي الذي وقع بالمشفى جراء استنشاق جرعات مكثفة من الدخان الخانق؛ لكن في الحقيقة نجت إحداهما من الموت المحتوم، ليأتي بها خلسة إلى بيته، مع ورقة ميلاد زائفة استخرجها بطريقة غير شرعية، تثبت بشكلٍ قانوني أنها ابنتهما.
زادت رجفة زوجته وهي تعيد إليه الورقة معترفة له في صوت لا يخلو من الارتعاب كذلك:
-أنا خايفة لنتكشف يا "مهاب".
على عكسها تمامًا كان هادئًا، مسترخي الأعصاب، اختطف نظرة سريعة على الرضيعة المستكينة في حقيبة الأطفال، ثم عاود النظر ناحيتها ليقول مؤكدًا لها بثقة:
-مش هيحصل لو التزمتي باللي قولتلك عليه.
صمتت للحظاتٍ، وغاصت في أفكارها المضطربة، لتستفيق من شرودها المتخبط بسؤالٍ متعجب:
-بس اشمعنى عاوز تسميها "ليان"؟ ليه مش حاجة تانية؟
بشيءٍ من الجدية أجابها:
-باعتبار إني صاحبه القريب، فده زي تكريم لبنته، وطبعًا مش هيخليه يشك فينا نهائي!!
اندهشت من دهائه وفي نفس الآن ارتابت منه، شعر بما يعتريها من توتر وارتباك، فزاد في الإيضــاح:
-"ممدوح" دماغه سم، وسهل يكشف أي ملعوب.
اقتنعت برأيه حينما أمعنت التفكير فيما نطق به، نظرت إليه وهو يدس بعض الأوراق الرسمية في حقيبتها، أصغت إليه بانتباه حين شدد عليها بلهجةٍ حازمة:
-إنتي تطلعي من هنا بالبنت على المطار فورًا، أنا مرتب كل حاجة هناك.
هزت رأسها في طاعة، فاستمر يملي عليها توصياته الصارمة:
-هتفضلي في البلد دي، وأنا شوية وهحصلك.
على ما يبدو قرأ ذلك السؤال الحائر في عينيها عن سبب اختياره لإحدى البلدان الأوربية النائية، فتولى الإجابة دون أن تسأل:
-أنا قاصد يكون المكان بعيد، محدش يعرفك فيه، علشان نضمن إنه خططتنا تنجح، والكل يصدق إنك كنتي حامل وولدتي.
انزعجت من احتمالية كشف ذلك التزوير الجسيم، فأخبرته بما يقلقها:
-بس شهادة الميلاد بتقول غير كده.
كان متفهمًا لأبعد الحدود لكل ما يساورها، لم تلن ملامحه، وأكد لها وهو يضع يديه على ذراعيها:
-محدش هيدور ورانا، المهم تفضلي مختفية عن الأنظار الكام شهر دول، وبعدها هنرجع لحياتنا الطبيعية.
لأول مرة تتطلع إليه "ناريمان" بشكلٍ مختلف، هكذا كان ولم تدرك، شخص داهية وغامض، لا يعرف أحد ما يدور في رأسه، وإن عاشره لسنواتٍ طوال. تركت مخاوفها جانبًا، هزت رأسها مرددة:
-طيب.
مرر "مهاب" قبضتيه صعودًا وهبوطًا على طول ذراعيها مستأنفًا توصياته الجادة:
-"ناريمان"، أنا عملت كده علشانك، لو حد عرف بالسر ده إنتي أول واحدة هتتأذي.
أكدت له تلك المرة بعدم خوف:
-لأ مش هنطق بحرف.
ابتسم قليلًا وهو يكمل:
-إنتي هتكوني من النهاردة أمها، وأنا أبوها.
بدت لحظتها وكأن عقلها قد ومض بشيء ربما غفل عنه، فتساءلت في ارتباكٍ:
-وابنك؟
بنفس النبرة الثابتة في انفعالاتها أجاب:
-زيه زي الباقي، مش هيعرف حاجة.
ارتفع حاجبها للأعلى، وقالت:
-بس دي أخته، أكيد هيكتشف إنها لسه عايشة، وساعتها "ممدوح" هيعرف وآ...
قاطعها بعدما اشتدت قبضتيه إلى حدٍ ما على عضديها:
-أنا عامل حسابي ومرتب إني أدخله مدرسة داخلية برا، هسيبه فيها فترة، تكون البنت كبرت واتغيرت ملامحها.
استرخت نوعًا ما، وهمهمت:
-أوكي.
تحولت نظراته إلى الرضيعة النائمة بداخل حقيبة الأطفال، وأمرها:
-يالا أوام، مافيش وقت، الطيارة ميعادها قرب.
تحركت صوبها لتحملها بها وهي ترد:
-حاضر.
استوقفها قبل أن تغادر معيدًا عليها إحدى توصياته الهامة:
-خدي بالك من نفسك، وطمنيني أول ما توصلي.
كعادتها المطيعة ردت وهي تومئ برأسها:
-ماشي.
أوصلها "مهاب" للخارج، واطمئن لركوبها السيارة وانطلاقها نحو المطار، كذلك ترك بصحبتها المربية الأجنبية لتتولى رعاية الرضيعة في الفترة الأولى من سفرها البعيد ريثما تعتاد على العناية بها بنفسها.
......................................................
بين حمدٍ وامتنان، ردد "عوض" عبارات التضرع والشكر للمولى عز وجل، لأنه –جل وعلا- منحه عطية أخرى بغير حساب، كان مسرورًا بشكلٍ أغاظ زوجته، مما جعلها على غير وفاق معه، بل أقرب للجدال لقبوله بما وصفته كارثة جسيمة. قطب جبينه معاتبًا إياها بلطفٍ:
-وده يخليكي قالبة وشك بالشكل ده؟
تحولت الأجواء اللطيفة المبتهجة التي حاول إضفائها عليها إلى نوعٍ من الاستنكار والتعنيف عندما كلمته "فردوس" بعبوسٍ ملتصق دومًا بقسماتها:
-عايزني أفرح على إيه يا "عوض"؟
أطبق على شفتيه مصغيًا إليها وهي تقذف بوابل كلماتها السخيفة في وجهه:
-على الهم الجديد اللي بقى فوق كتافي؟
طوحت بيدها في الهواء متابعة وصلة ندبها المتحسر:
-مين هيرضى يشغلني وأنا بطني قدامي؟
لم يلق وزنًا لتذمرها المستمر، وقال في يقين لا يمكن التشكيك فيه مطلقًا:
-الرزق بتاع ربنا، هيجيلنا حتى لو كنا في كهف تحت الأرض.
نظرت إليه شزرًا، قبل أن تلوي ثغرها مدمدمة في اعتراضٍ:
-وإنت هيهمك إيه؟ ما أنا شقيانة ليل نهار علشان أجيب الكوتة.
تنهد قائلًا بعزمٍ:
-يا ستي أنا من بكرة هدور على شغل، وواثق إن ربنا هيكرمني.
وكأنه ألقى بنكتةٍ سخيفة على مسامعها، مصمصت شفتيها هاتفة بغير تصديقٍ:
-أما أشوف ..
ثم خفضت من نبرتها مخاطبة نفسها بسخطٍ:
-ولو إني مش مستبشرة بيك خير!
مجددًا نظرت إليه باستخفافٍ عندما عاد إلى تهليله المبتهج وهو يداعب طفلتهما في محبة أبوية عظيمة:
-والله والبيت هيتملى علينا بالعيال، ويبقالنا عزوة وسند في الدنيا.
خبا اهتمامها بما يفعل من سخافات غير مستلذة لها، وراحت تشرد بتفكيرها فيما ينتظرها بعد أشهر، حتمًا لن تكون الراحة الأبدية، ولا السعادة الأزلية!
................................................
في غرفة غريبة، جدرانها مطلية بالطلاء الرمادي الكئيب، استفاقت "تهاني" من إغماءها، وبدأت في استعادة وعيها بالتدريج، كان كل شيء باهتًا، غير واضح المعالم، استغرقها الأمر عدة لحظات حتى تتيقظ كامل حواسها. أحست بمرارةٍ قاسية في حلقها، فبحثت عما يروي جوفها، أدارت رأسها الثقيل إلى الجانب، فوجدت كوبًا من الماء إلى جوارها، مدت يده إليه لتلتقطه؛ لكن قبل أن يصل إلى شفتيها، اختطفه أحدهم منها، نظرت إلى من فعل ذلك، فرأت زوجها يقف بتجهمٍ مظلم على الجانب الآخر من سريرها الطبي. ابتسمت ابتسامة باهتة لرؤيته التي ظنت أنها ستبعث الطمأنينة على نفسها، استطردت تكلمه في صوت متحشرج:
-"ممدوح"، حبيبي..
بلعت ريقًا غير موجودٍ في جوفها، وسألته:
-هو إيه اللي حصل؟
رمقها بنظرةٍ لا يمكن أن تنساها مطلقًا مهما حييت، ليقول بعدها في كراهيةٍ متعاظمة ظاهرة في نبرته:
-أخيرًا فوقتي.
من طريقته المريبة معها أخذت ذاكرها تتنشط بما كان محجوبًا عنها، سرعان ما امتلأ عقلها بلمحاتٍ متداخلة للأحداث المأساوية التي جرت مؤخرًا، وراحت المشاهد تتدافع في قوة جعلت نبضها يتسارع وأنفاسها تتقطع. انهالت عليها اتهاماته القاســـية كالصفعات وهو يلومها مباشرة ودونًا عن غيرها:
-إنتي أم إنتي؟!!
وَشَت تعبيرات وجهها بعمق الألم الذي أخذ يمزق في ثنايا قلبها بلا هوادة أو رحمة، صرخت بحرقةٍ وهي تمسك بذراعه:
-عيالي فين؟
انتشل ذراعه من بين أصابعها في قسوة متجافية ليصيح بها في نفس اللهجة المليئة بالاتهام المجحف:
-بناتي ماتوا، وإنتي زي ما إنتي .. لسه عايشة!
انحبست أنفاسها في صدرها، فعجزت عن التنفس، شعرت لحظتها وكأن أحدهم قد سحق كيانها بقوةٍ مفرطة، انفلتت منها بعدها صرخة محملة بكل ما طواه فؤادها:
-آه يا وجع قلبي.
ظل يسدد لها هذه النظرات النارية المميتة، وواصل اتهامها بما ترفض تصديقه:
-هما خسروا حياتهم بسببك، وأنا مش هخليكي تتهني في يوم بحياتك.
هزت رأسها في استنكارٍ، وقد فاضت الدموع من طرفيها بغزارةٍ، ارتفعت نهنهات بكائها بشدة، وامتزجت بشهقاتها المتقطعة، حاولت الاعتدال من رقدتها لتمسك بزوجها مجددًا من ذراعه، شحذت كامل قواها لتقربه منها وهي تتوسله من بين بكائها الحـــارق:
-"ممدوح"، ماتقولش كده، بناتي عايشين...
في غمرة صدمتها توهمت أنها مجرد خدعة بلهاء منه لتكديرها، فسألته بصوتها المرتعش وغير الواضح:
-إنت بتعمل معايا كده ليه؟
مجددًا انتزع يدها من عليه ليلقي بها كما لو كان يقذف قطعة من القاذورات، امتد كفه الآخر ليقبض على فكها، اعتصرها منه قائلًا بفحيح من بين أسنانه المضمومة:
-كانت أكبر غلطة في حياتي إني وافقت أكمل في الجوازة دي!
تصرفاته معها كانت متطرفة، غير مراعية تمامًا، تفور غضبًا وحقدًا، وتحوي على كل المشاعر الناقمة تجاهها، وكأنها اجتمعت في نفسه لإثبات مدى عدائيته لها. انقطع الهواء عن مجرى تنفسها، وعجزت عن مقاومة عنفه معها، فكانت تناضل للبقاء على قيد الحياة، لحسن حظها جاءت الممرضة المشرفة على حالتها في الوقت المناسب، رأت ما يفعله، فتدخلت على الفور وقامت بإبعاده عنها وهي تنهره:
-يا فندم ما ينفعش اللي حضرتك بتعمله ده!
تراجع "ممدوح" للخلف مشيرًا بإصبعه لزوجته ومهددًا إياها علنًا:
-روح بناتي قصاد روحك وروح أغلى ما في حياتك، سمعاني؟!
بالكاد التقطت أنفاسها، وسعلت بألمٍ وهي تحاول استعادة انضباط تنفسها، نظرت إليه من وسط سحابة دموعها الكثيفة تتسول عواطفه؛ لكن مات قلبه، وماتت معه ما امتلك من مشاعرٍ إنسانية. حدجها بنظرة شديدة القاتمة ليتبع ذلك تهديده الأخير:
-هخليكي تتمني الموت وما تقدريش تطوليه!
لم يكن بممازح! طريقته، ومن قبلها نظرته مع نبرته الجوفاء أكدوا لها أن خسارتها ثمينة للغاية، بل إنها تفوق أي شيء في حياتها، صرخت رغم البحة التي نالت من أحبال صوتها، لعل وعسى يكون في قلبه قدرًا من الرأفة فيكذب ما يلقيه على مسامعها:
-"ممدوح"، ما تقولش كده عن بناتي.
حاولت النهوض وتركت فراشها؛ لكن الممرضة حالت دون قيامها بذلك ومنعتها من التحرك، فأكملت صراخها المستجدي:
-استنى يا "ممدوح"!
غادر غرفتها تاركًا إياها وسط أهوال فجيعتها، فتطلعت إلى الممرضة تبحث في نظرتها المشفقة عليها عما يثبت عكس ادعاءاته، ارتجف كامل بدنها، وارتعشت نبرتها الباكية وهي تكلمها:
-هو بيضحك عليا، بناتي عايشين، مش كده؟
رفضت الممرضة التعليق بشيء، كل ما سعت لفعله هو إبقائها على الفراش، بينما صوتها المصدوم يردد ببكاءٍ:
-ده ملعوب عاملة عليا علشان أصدق إن بناتي راحوا.
رجتها الأخيرة في شيءٍ من التوسل:
-من فضلك إهدي، الدكتور هيجي يشوفك دلوقتي.
رفضت محاولات إسكاتها، وصرخت بأعلى نبرة تملكها، بعدما هاجت انفعالاتها:
-"ممـــــــــــــدوح"! رجعلي بناتي!
أتى الطبيب ومعه حقنته المهدئة، غرزها في وريدها لتستكين بالإجبار، بقيت عيناها معلقتان بالباب، إلى أن غشت العتمة بصرها، وسقطت في بئر الظلمات.
....................................................
حاصر الضيق ملامحه وهو لا يزال يجلس بثياب المشفى الطبية، معزولًا بمفرده، في هذه الغرفة البيضاء الواسعة، تلك التي خصصت له، منذ إنقاذه من الحريق المشؤوم، لم يفعل الصغير "أوس" أي شيء سوى مشاهدة المزيد من أفلام الرسوم المتحركة السخيفة، وكأنها وسيلته المتاحة لإلهاء عقله عن التفكير في تبعات حدث. كل برهة تأتي إليه إحدى الممرضات لتتفقده، أو لتقدم له الطعام، وحتى لتساعده في الذهاب إلى المرحاض.
لم يعرف تحديدًا المدة التي مكثها هنا؛ لكنها من منظور حساباته قد تخطت الأسبوع تقريبًا، رغم أن حالته الصحية لم تستدعِ مكوثه كل هذه الفترة. فقد شهيته، ولم يكن راغبًا في تناول الطعام، فترك الصينية كما هي على الطاولة الصغيرة الملاصقة لسريره. رعشة قوية انتشرت في كل أطرافه مصحوبة بانقباضة قوية في صدره عندما فُتح الباب فجــأة، وأطل منه آخر من ينتظر قدومه. تصلب "أوس" في مكانه، وتجمدت عيناه على "ممدوح" الذي راح يرمقه بنظرات تحمل بغضًا دفينًا وعداءً صريحًا.
من طريقة تحديقه المخيفة به، أدرك أنه قاب قوسين أو أدنى من خطر محدق، لا نجاة له منه! شعر ببرودة قارصة تضرب أطرافه، فقاوم هذا الإحساس المفزع، وتزحف بمرفقيه على الفراش ليرفع جسده المرتجف ويلصقه بعارضته المعدنية. نفضة أخرى مرعبة عصفت بكامل كيانه عندما رآه يقترب منه بعدما أوصد الباب بالمفتاح خلفه، وصوته البغيض إلى قلبه يخاطبه:
-يا ريتك مُت مع اللي ماتوا!
بدت نبرته أقرب إلى الفحيح الحـــــــارق المنبعث من قعر الجحيم وهو لا يزال يكلمه:
-بس إنت فضلت عايش، هما راحوا، وإنت لسه موجود!
حاول "أوس" التماسك وإظهار شجاعة زائفة لمواجهته؛ لكن كيف له أن يمتلك ما يجابهه به وهو ينتفض رعبًا من أعمق أعماقه؟ قيده الخوف، وأجبره على البقاء في موضعه، يحتمي بقطعة ملاءة خفيفة. استمر "ممدوح" في التقدم ناحيته، وعيناه الحمراوين لا ترمشان، فقط تبرقان بشكلٍ مفزع، فلم يعد يعنيه أي شيء في هذه الدنيا سوى إلحاق الأذى به. كم تمنى في هذه اللحظات العصبية لو يأتي إليه من ينجده!
كشر "ممدوح" عن أنيابه، وأخذ يتهمه بصوته الذي ما زال يفح نارًا مستعرة:
-كان نفسك تخلص منهم، عشان تفضل إنت اللي في الحجر، ابن "مهاب" باشا، صاحب السُلطة والقوة!
الهروب عن طريق القفز من النافذة، كان الخيار الوحيد المتاح لديه للنجاة من براثن هذا الوحش الغادر! قبل أن يفكر "أوس" في ترك سريره، والاتجاه إليها، سبقه عدوه اللدود، وأمسك به من معصمه ليحتجزه في مكانه، اعتصر يده بقوةٍ جعلت الألم يتفشى في كامل ذراعه، فصرخ متأوهًا من ضغطه العنيف، وانكماش وجهه عكس شعوره ذلك:
-سيب إيدي!
نظرة أخرى مميتة حدجه بها قبل أن يكز على أسنانه مخاطبًا إياه بهسيسٍ مخيف:
-مش هتعرف تهرب مني المرادي! هحاسبك على موتهم!
رغم ما يعتريه من خوفٍ، إلا أنه رد مدافعًا عن نفسه بشجاعةٍ لا يعرف من أين واتته:
-أنا مجتش جمبهم، النار ولعت في الأوضة لواحدها، معرفتش أتصرف إزاي.
رفض "ممدوح" تصديقه تمامًا، واتهمه في صراخٍ:
-إنت كداب.
تمسك بكلامه مؤكدًا له براءته وهو يحاول جاهدًا تخليص معصمه من قبضته المحكمة عليه:
-لأ، أنا مش كداب!
سدَّ أذنيه عن سماع أي شيء يفوه به، وقال في إصرارٍ:
-مش هرحمك يا ابن "مهاب"!
أبى "ممدوح" التخلي عن فكرة تدميره بشكلٍ لا آدمي، فأضاف وهو يُطالعه بهذه النظرة الشريرة:
-هخليك تعيش اللي جاي من حياتك ذليل.
بدا لحظتها وكأن أشد كوابيسه فزعًا يتجسد أمام عينيه، حاول "أوس" التحرر منه، فلكزه بقبضته الأخرى في صدره، وحاول خمش وجهه، كما قام بركله بساقه في فخذه وهو يهدر بصوته المرتجف:
-ابعد عني.
غضبه الأعمى مد قواه الجسمانية بطاقة مضاعفة، فصار عتيدًا، عتيًا، لا يمكن صده أو رده، أو حتى قهره. أمسك "ممدوح" بيد الصغير الأخرى الطليقة، وهمهم بما بث كل صنوف الرعب في نفسه:
-المرادي لأ!
جمع يديه معًا، وقيدهما بكفه، ثم انتزع من فوقه الملاءة البيضاء التي تغطي جسده، ليصبح في أكثر المواقف تهديدًا. أراد "ممدوح" اغتــــــيـــال براءته، سرقة طفولته، وتركه يعاني من ويلات الذل بإجباره على معايشة أشد التجارب انحطاطًا ودناسة.
حاول "أوس" الصراخ ليغيثه أحدهم، فأخرسه بحشو جوفه بقطعة القماش المتروكة بجانب صينية الطعام، تلك التي تُستخدم في تنظيف الفم واليدين، انتفاضة وراء الأخرى حلت بجسد الصغير محاولًا إبعاده عنه، لكنه افتقر إلى القوة اللازمة للنجــاة من شره، انحبست صرخاته المرعوبة والباكية في حلقه وهو يجرده من زيه الطبي، ذلك الذي يحجب سوءته عنه، ليصبح تحت وطأة بطشه الشيطاني. نظراته الخبيثة إليه، وملامحه الأكثر شيطانية أكدت له أنه هالكٌ لا محالة!
لم يحتج "ممدوح" للكثير من المجهود ليفرض سيطرته الكاملة عليه، في التو أدار جسده ليجبره على الاستلقاء على بطنه، ثم استخدم ثقل جسده ليثبته في موضعه بالسرير، وأخذ يستبيح لنفسه انتهـــاك وتدنيس براءته بأفعاله المحرمة قبل أن يرخي حزام بنطاله، ليتمكن من فتح السحاب.
أطبق "أوس" على جفنيه بقوةٍ وهو عاجز عن كتم أنات ألمه، والأخير يبذل ما في وسعه لإذلاله، ودَّ لو ينتهي ما يمر به بطلوع روحه؛ لكن ما رجاه لم يحدث، وظل يختبر ما لبشرٍ سوي يمكن تحمله.
استخدم "ممدوح" أحط الوسائل المنحرفة وغير السوية في سلب طفولته، وتلويثها كليًا بذكرى دنسة ليس من السهل نسيان تفاصيلها البشعة أو محو آثارها السيئة من نفسه. تركه بقايا طفل سلبت منه حياته، بل واغتيل عدة مرات ممن حوله بسلوكياتهم المتجاوزة، قبل أن يأتي هو ويُجهز عليه بهذه الطريقة الشنيعة.
تركه روحًا مهشمة بعدما فرغ منه، فاستقام واقفًا، وتلذذ برؤيته يبكي من ألم العجز والذل والانكسار والهوان، أعاد ضبط سرواله عليه، ولم يكترث بتغطية جسد الصغير، اكتفى بمخاطبته في صوتٍ يعبر عن زهوه بانتصاره النجس:
-بكده عمرك ما هتنساني يا ابن "مهاب"!
لم يجرؤ "أوس" على التحرك من موضعه، او حتى فتح عينيه، كان فاقدًا لكل شيء، حتى رغبته في الحياة، استغل الفرصة ليهدده "ممدوح" بعدما ضمن نجاحه في تهشيمه وتهميشه، وهو يهم بمغادرة الغرفة بعد أن انقضت مهمته:
-إياك تفكر تحكي لحد عن اللي حصل، صدقني محدش هينفعك!
وكأنه يظهر شماتته له بمواصلته سرد المزيد من الوقائع الملموسة:
-الكل رموك، ونسوك، أبوك مش هنا وسافر، وأنا بس اللي موجود علشان أذلك بطريقتي!
رغم تشفيه الصريح والمؤلم لروحه الضائعة إلا أنه كان محقًا، فقد تم إقصائه، وربما نسيانه، فأصبح وحيدًا كسير النفس، بلا حماية مجدية، قبل أن تتحول حياته إلى جحيم بعد هذه التجربة الفظيعة. ألقى "ممدوح" كلماته الأخيرة على مسامعه وهو يدير المفتاح في قفل الباب:
-أنا كابوسك الحي، النفس مش هتعرف تاخده إلا وإنت شايفني موجود جمبك، إنت بقيت تحت رحمتي!
ثم أطلق ضحكة هازئة به قبل أن يودعه بطريقة مهينة في طياتها، وإن لم ينطق بذلك علنًا:
-سلام يا ابن الـ ... "جندي" ..............................

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close